د.سالم سرية- اكاديمي وكاتب ( فلسطين)
لاشك ان الحديث عن العلمانية حديثا شائكا وحساسا في نفس الوقت واخذ حيزا كبيرا من النقاش بين المفكرين العرب منذ نهاية العشرينات من القرن الماضي وحتى الان.فنشرت عشرات الكتب بين مؤيد ومعارض ودفع بعض المفكرين حياتهم ثمنا لوجهة نظرهم (مثل فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ….الخ )وولدت تيارات وجماعات مغالية في التطرف (لرفضها المطلق باعتبارها الحاد) وحركات مغالية في التأييد (باعتبارها نقطة البداية للحداثة (مثل جورج طرابيشي وعزيز العظمةوعبد الاله بلقزيز والمفكرين الماركسيين والليبراليين بشكل عام )وحركات معتدلة ومنفتحة حديثا (راشد الغنوشي مثلا )ومفكر بارز نادى بالغائها من القاموس السياسي مثل محمد عابد الجابري . واتجاه قومي دعى للتفاعل مع معطيات العصر والتفاعل معها ضمن منطق يعزز وحدة الامه (المفكريين القوميين ).ان هذا الصخب الفكري والصراع السياسي والايديولوجي قد احتدم واشتعل اواره بين التيارات السياسية والفلسفية العربية عندما تم زج الدين بالسياسة وطرح سيد قطب في مؤلفاته طريقا يعتمد على الآية الكريمة (بل آيات مما ورد في القرآن الكريم ) وما الحكم الا لله . ثم توالى رفع شعار :الاسلام هو الحل اضافة الى اشكالية العلاقه بين الدوله والدين.وهذه الإشكالية تطل برأسها في العديد من دول العالم حتى الوقت الراهن( منشورات الدين والسياسة في امريكا مثلا).
فهل حقا ان من يؤمن بالعلمانية (افراد وحركات ) انما يدعوا للالحاد ؟ وهل هو مفهوم فكري غربي الجذور والمنشأ يراد به نسف الاسلام من جذوره ؟ وهل هناك علمانية واحدة في العالم يمكن الاقتداء بها او رفضها ام ان هناك علمانيات مختلفه ومتمايزة عن بعضها في دول العالم (بريطانية ,فرنسا بلجيكا وامريكا وتركياا.. .الخ ). وهل العلمانية هي ببساطة فصل الدين عن الدوله او الحياد بين الدين والدولة ؟ لذا تصبح الاجابة على كل هذه التساؤلات المشروعه ضرورية جدا خاصة وان اردوغان يطرح بشكل علني وواضح انه علماني ومع هذا تسيرالتيارات الاسلامية السياسية العربية بركبه !! . ان كل ما سبق ذكره يستدعي ان نرجع الى جذور مصطلح العلمانية من الناحية اللغوية.وهل العَلمانية بفتح العين (العَالمانية –من عَالَم ) ام العِلمانية بكسر العين (العِلمانية –من عِلم ).ذلك ان بعض المفكرين والفلاسفة قد تحدث عن العَلمانية (بفتح العين) مثل (: د.محمد البهي ود.محمد عمارة ود.عبدالوهاب المسيري ود.السيد رزق الحجر ود.أحمد فرج، ود.عبدالصبور شاهين، ود.عدنان الخطيب ود.حسن حنفي ، وغير هؤلاء من الباحثين،)وقسم تحدث عن العِلمانية (بكسر العين ) مثل ( د.يوسف القرضاوي ، ود.عبدالعظيم المطعني ، ومحمد مهدي شمس الدين ، ود.عماد الدين خليل ود.زكي نجيب محمود ، ود.سفر الحوالي) وقسم أجاز الفتح والكسر مثل (د.عزيز العظمة، وإن كان يفضل الكسر ، ود.رفعت السعيد .))(1)
تعريف العلمانية :ان الحقيقة التي لا مفر منها ان العودة الى جذور المصطلح لغويا تبين ان العَلمانية هي (بفتح العين) وليس بكسر العين ولا صلة لها من قريب او بعيد بالعلم كما انه لا صلة لها ابدا بالكفر او بالإلحاد .كما ان جذورها التاريخية ليست اوروبية المنبت ولا الثمار بل لها جذور عربية تعود الى ما قبل القرن العاشر الميلادي . وهي كما وردت في معجم العلوم الاجتماعية: نسبة إلى(العَلَم.. بمعنى: العالم)، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي،وأساسها: وجود سلطة مدنية هي سلطة الولاة والأمراء…و سلطة روحية هي سلطة الكنيسة.. ووتقول دائرة المعارف البريطانية: «العَلمانية – سيكوليرزم – secularism): «هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها..» ويقول معجم أكسفورد: «العلمانية تعني»: دنيوي أو مادي ليس دينيًا ولا روحيًا: والعَلمانية – بفتح العين – هي الترجمة الصحيحة على غير قياس لكلمة secularism الإنجليزية أو secularit الفرنسية، وهاتان الكلمتان لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism والنسبة إلى العلم هي scientific أو scientifique في الفرنسية، والترجمة الدقيقة للكلمة هي العالمانية أو الدنيوية أو اللادينية، ولكن تحولت كلمة عالمانية إلى عَلمانية لأن العربية تكره تتابع الحركات وتلجأإ لى التخفف منه(3 انظر د.عبدالصبور شاهين «العلمانية – تاريخ الكلمة» ص124، مقال ملحق ضمن كتاب أحمد فرج (جذور العلمانية ).ولعل المعنى الصحيح لترجمة كلمة «العلمانية» هي «اللادينية» أو «الدنيوية» ، لأنها مشتقة من العالم أي «الدنيا» ومن هنا فإن العلماني هو الدنيوي لأنه يهتم بالدنيا، بخلاف الديني أو الكهنوتي، فهذا الأخير يهتم بالآخرة.ويتضح ذلك مما تورده دوائر المعارف الأجنبية للكلمة حيث:تقول دائرة المعارف الأميركية: الدنيوية هي: نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية، ومستقل عن الديانات السماوية، أو القوى الخارقة للطبيعة. (2)
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو: فصل الدين عن الدولة.وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة. وهذا التأصيل المعجمي لمصطلح العلمانية في اللغة، يكاد يكون حاسمًا في أن العلمانية من العالم، وليس من العلم، ولذلك فهي بفتح العين وليس بكسرها.إن العلمانية في الاصطلاح هي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعني في جانبها السياسي بالذات.. اللادينية في الحكم. ان أصول الكلمة تعني يستولد أو ينبت ، أو يبذر أو يستنبت من الاهتمامات الدنيوية الحياتية ، ومن هنا فإنها استخدمت كصفة أيضا لأصحاب هذه الاهتمامات الدنيوية ،وللكلمة أيضا دلالة زمنية( saeculum) )في اللاتينية بمعنى القرن حيث إنها تصف الأحداث التي تقع مرة واحدة في كل قرن ،فالدقة الكاملة لترجمتها كما يشير د. فؤاد زكريا هي الزمانية ، فالعلمانية ترتبط بالأمور الزمانية ،أي بما يحدث في هذا العالم وعلى هذي الأرض ، في مقابل الأمور الروحانية التي تتعلق بالعالم الآخر، وقد كان المترجمون قديما يستخدمون العلمانية كترجمة للكلمة الفرنسية LAIQUE أوالإنجليزية LAIQUE وهي المأخوذة عن اللاتينية LAICU أي الجماهير العادية او الناس أوالشعب الذي لا يحترف الكهانة تمييزا لهم عن رجال الدين ،و المفهوم الثاني وإن كان لا يستخدم الآن ، يؤكد المفهوم الثاني ولا ينفيه ، فاللفظ قد تطور ليعبر عن التحول من حكم الإكليروس )الكهنوتي ( إلى السيطرة المدنية ) حكم الرجال العاديين ( المعنيين بالشئون الدنيوية ) الزمانية ( هذا عن المعنى اللغوي والذي كما رأينا لا يعني الإلحاد لا من قريب ولا من بعيد. (3)
العلمانية في التراث العربي:
ان هناك تصورا شائعا في الادبيات المعاصرة ان هذا المصطلح جرى نحته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لكلمة Laicitie .وفي دراسة صدرت عن المركز العربي للأبحاث ، في إبريل/ نيسان 2020، يستكمل عزمي بشارة (4)جهده المتواصل، خلف مصطلح العلمانية، أصله وفصله، ويستدعي نصوصا تراثية تثبت بالقطع أن التراث العربي عرف مفردة العَلمانية، كما نعرفها اليوم، عرفها نسبة إلى العَالم، وتمييزا بين المشتغلين بالكهانة وغيرهم من المدنيين، كما أن العرب كانوا ينطقونها بالفتح كما ننطقها اليوم، هكذا عرفوها، وهكذا عبروا عنها، فالعَلمانية لها “أصل” عربي، لا هي دخيلة، ولا هي “مكسورة” العين.ويستدعي بشارة نصا من كتاب “تاريخ الأنطاكي”، استفاده من جهد الباحث رائد السمهوري في معجم الدوحة التاريخي، وهو نصٌّ من القرن الخامس الهجري، يصف فيه الأنطاكي تفاصيل معركةٍ دارت بين بطريرك الإسكندرية، سعيد بن البطريق، واثنين من الأساقفة، كرهوا رئاسته، وانشقّوا عنه، وانحاز لهما بعض المسيحيين، من غير رجال الدين. يقول في وصف الفريقين إنهم: “تحزّبوا حزبين، فصار حزب من الكهنة والعَلمانيين مع البطريرك، وحزب منهم عليه”، والإشارة واضحة، فالكهنة هم رجال الدين، والعَلمانيون هم المواطنون العاديون، من رعايا الكنيسة .كما يورد عزمي بشارة نصا ثانيا، لابن سباع، في كتابه الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة، يستخدم فيه المؤلف كلمة عَلماني وعَلمانيين عدة مرات ويقدّم دليلا أكثر وضوحا على استخدام الكلمة بفتح العين، عَلمانية نسبة إلى العالم، لا إلى العلم، إذ تأتي الكلمة بالفتحة، ويبدو التشكيل واضحا لا لبس فيه .كما قام جورج طرابيشي بالتنقيب عن اصل هذا المصطلح اتاح لنا ان نربطه باللاهوت المسيحي المكتوب بالعربية وهذا منذ القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي على الأقل.ففي كتاب بعنوان (مصباح العقل ) سايروس ابن المقفع:كتاب مصباح العقل تقديم وتحقيق الاب سمير خليل سلسلة التراث العربي المسيحي مطبعة دار العالم العربي القاهرة 1978 ص 92-95وضعه الاسقف القبطي سايروس ابن المقفع(الكاتب في الدولة الاخشيدية في العصر الفاطمي )مولود عام915م حيث قال في معرض الكلام عن خلاف الطوائف المسيحية حول زواج الكاهن قال : اما المصريون فرأوا ان يكون الاسقف بتولا ( لم يتزوج )في حال عَلمانيته .ان السياق الذي وردت فيه كلمة عَلمانية هو التمييز في الاسقف بين طوره الدنيوي وطوره الكنسي اذ يشترط فيه البتولية في حال (عَلمانيته ) .فلا مجال للشك في ان عين (العلمانية) ينبغي ان تعجم بالفتحة لا بالكسرة لانها لا تحيل الى العلم بل الى العالم اي الدنيا . (5)
العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية المؤمنه (6):
على عكس ما يبدو من بساطة سؤال: ما العلمانية؟ والذي تبدو الإجابة عنه أكثر بساطة، وحاضرة على الدوام باعتبار العلمانية هي “فصل الدين عن الدولة، أو أن يدع الناس ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فإن عبد الوهاب المسيري يختلف مع هذه الرؤية، حين طرح العلمانية باعتبارها أكثر تركيبا وتداخلا إذ كان موقفه منها مستندا على إعادة تعريفاتها وتقسيماتها، ومن ثم دوائر تداخلها بالموقف الجديد في حيز النقاش بين العلمانيين أو الإسلاميين على حد سواء. . ففي الوقت الذي ينظر فيه الإسلاميون إلى العلمنة بوصفها ردة عن الإسلام، يعتبرها العلمانيون سبيل الديمقراطية والتقدم والرفاه. لكن المسيري له نظرة أخرى، فهو يرى في العلمنة بنية كامنة خلف هذه التفاصيل الصغيرة والجزئية، وتبدو هذه البنية الكامنة في أدق شؤون الحياة حتى وإن ابتعدت عن السياسة والاقتصاد، فالإعلانات الإباحية وإن لم تدخل في صلب السياسة فهي نوع من العلمنة بما تنزعه من القداسة عن الإنسان وتحوله إلى إنسان اقتصادي أو جسماني أو إنسان ذي بُعد واحد على حد تعبير هربرت ماركوز. و فيما يتعلق بالعلمنة، فإن المسيري يحاول التمييز بينها على مستويين، الأول مستوى صغير وهو دائرة العلمانية الجزئية، والثاني دائرة أكبر تحيط بها وهي العلمانية الكلية أو الشاملة. ويرى أن مجالات فصل الديني عن السياسي والتمايز بين الاقتصاد والدين يدخل في دائرة العلمنة الأولى، أي العلمانية الجزئية. بيد أن الوقوف عند العلمنة عند هذا الحد إنما هو تسطيح للعلمنة ذاتها، إذ يتغاضى هذا المنظور عن المرجعية النهائية لمتتالية العلمنة. فالعلمنة هي مفهوم ذو فكرة كُليّة شاملة وليست مجرد أدوات جزئية أو إجرائية، والعلمانية الشاملة في طبيعتها ذات موقف مناقض للمقدس سواء كان دينيّا أو أخلاقيّا، فلا تعني العلمانية الشاملة فصل الدين عن الحياة الاجتماعية والسياسية وحسب، وإنما تعني حلول مُقدس وضعي محل الدين عن طريق الإجابة الشاملة والنهائية لمناحي الحياة عوضا عن الإجابات التي يُمليها الدين. “فإن هذا الأمر ليس مقصورا على النظم الدينية، فبعض النُظم تدور في إطار فلسفي مادي صرف، ومن ثم يمكن تسميتها إلحادية، مثل النظام النازي في ألمانيا، والفاشي في إيطاليا، والستاليني في روسيا، لكنها أفرزت مؤسسات الحزب والدولة والتي كانت تتصرف باعتبارها تجسيدا للمطلق وتعبيرا عنه، بل كانت تحتكر لنفسها حق نقل الكلمة المقدسة والتفسير الصحيح والوحيد” .ومن هذا المنطلق يُفرّق المسيري بين العلمانية الجزئية والكلية الشاملة، ويرى النظر إلى العلمنة باعتبارها معاملات إجرائية (علمانية جزئية) دون رؤيتها كبنية كُلية للعالم (علمانية شاملة) هو ما يغيب عن ذهن المفكرين العرب سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين. فعلى الرغم من الإشارة الدائمة والمتكررة في المعجم الغربي للعلمانية باعتبارها موقفا كُليا أو نهائيا من الحياة، فإن هذا المعنى هو ما يُغفل دوما في سجالات الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء. ويرى المسيري أن الإسلاميين والعلمانيين يشتركون في نظرتهم للعلمانية، إذ يُقصرونها على التعريفات الإجرائية والتي لا تُشير صراحة إلى المضمون الشامل، الذي يُجرد الإنسان من معاني الإنسانية.(7)
ان راشد الغنوشي بات مقتنعا بالعلمانية الجزئيه(وهي نهج اردوغان ) كما انه مع حياد الدولة حيث يقول : ( يمكن أن تجد العلمانية الجزئية لنفسها مكانا في تصور إسلامي اعترف بنوع من التمايز بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، مما تأهل فيه العقل للإدراك، وبين المجال الديني وبالخصوص التعبدي ولذلك ميز الفقهاء والأصوليون بين مجال العبادات، والأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة دون تعليل ولا تعطيل وبين مجال المعاملات، والأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد والمآل، ومن هذا القبيل الحديث الصحيح “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وكان ذلك يتعلق بمسالة فنية زراعية. فلم يرسل الأنبياء عليهم السلام ليعلموا الناس فنون الزراعة والمواصلات والحروب وتنظيم المحاكم وفنون إدارات الدول. وحتى إن حدث أن مارسوها فليس ذلك من جوهر رسالتهم ولذلك ميز الأصوليون في عمل الرسول عليه السلام بين مهمته الرسالية التبليغية، وبين ما يخرج عن ذلك من نشاطه السلطاني قاضيا ومحاربا ومفتيا وزوجا. ان الملزم للمسلمين يقتصر على الجانب الأول أما الجانب الثاني فيندرج ضمن الاجتهاد أو لنقل ضمن السياسة. وكان الأصحاب عندما يلتبس عليهم الأمر يسالون: أهذا الأمر وحي أم رأي؟ أي سياسة فإذا كان الأول قالوا سمعنا وأطعنا وإذا كان من الصنف الثاني أعملوا رأيهم. فماذا يعني هذا التمييز بين المجالين؟ وما هي أهميته؟ أولا: ليس كل ما ورد في سيرة النبي عليه السلام أعمالا وأقوالا وإقرارات هي سنة تشريعية أي ملزمة للمسلمين، الملزم منها ما جاء بوصفه التبليغي عليه السلام. والعلماء هم المؤهلون لهذا التمييز. وهذا التمييز سمح عبر تاريخ الإسلام بتبلور مؤسستين، واحدة سياسية هي الدولة وأخرى دينية يقوم عليها العلماء تهتم بأمر تفسير النصوص والإفتاء وما إلى ذلك.لذا أمكن قيام بعض أشكال حياد الدولة بمعنى دولة لا تتدخل في الشأن الديني تفسيرا عقديا تفرضه على الناس)(8)
اما بالنسبة للدكتور يوسف القرضاوي فانه يشن هجوما لا هوادة فيه على العلمانية (بكسر العين ) في كتابه(الاسلام والعلمانية وجها لوجه ) . واعتقد ان هذا الرفض المطلق للعلمانية انما هو رفض للعلمانية الشاملة وذلك ردا على فؤاد زكريا (محامي العلمانية كما يلقبه) ولا يشير مطلقا الى العلمانية الجزئيه .فيقول: ان العلمانية بضاعة غريبة لم تنبت في ارضنا ولا تستقيم مع عقائدنا ومسلماتنا الفكرية كما يتابع قائلا : بل ان العلماني الذي يرفض(مبدأ)تحكيم الشريعة من الاساس ليس له من الاسلام الا اسمه وهو مرتد عن الاسلام بيقين يجب ان يستتاب وتزاح عنه الشبهة وتقام عليه الحجة والا حكم القضاء عليه بالردة وجرد من انتمائه الى الاسلام او سحبت منه (الجنسية الاسلامية )وفرق بينه وبين زوجه وولده وجرت عليه احكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة. (9)
وعند حديثه عن معنى الاسلام يقول : (الاسلام يرى ان لا حرج على المسلم ان يحب وطنه ويعتز به وان يحب قومه ويعتز بهم ما دام ذلك لا يتعارض مع حبه لدينه واعتزازه به , وبهذا لا يضيق صدره بالوطنية او القومية, اذا لم يتضمنا محتوى يعادي الاسلام او ينافيه كالالحاد او العلمانية او النظرة المادية او العصبية الجاهلية ,ونحوها .ويتعاطف الاسلام تعاطفا خاصا مع العروبة المؤمنة,باعتبارها وعاء الاسلام,وباعتبار العربية لسان القرآن والسنة,ولغة العبادة والثقافة الاسلامية,وباعتبار العرب هم عصبة الاسلام وحملة رسالته ,وباعتبار ارض العرب معقل الاسلام وحرمه ,وفيها المساجد الثلاثة العظام ,التي لا تشد الرحال الا اليها,في مكة والمدينة والقدس والعروبة المقصودة هي عروبة اللسان والثقافة,لا عروبة العرق والعنصر ,فمن تكلم العربية فهو عربي .فالاسلام يدعو الى وحدة الوطن وتماسكه ,فوحدة العرب ,فوحدة الامة الاسلامية ,سعيا الى وحدة الانسانية,وتضامنها في ظل مبادئ اخلاقية مشتركة).(10)
واذا تمعنا في هذا النص جيدا نراه يتطابق كليا مع الفكر القومي الوحدوي الذي يؤمن بالعلمانية الجزئية المؤمنة.
واذا عدنا الى راشد الغنوشي الذي يؤمن بالعلمانية الجزئية نراه يبين بوضوح سببية رفضه للعلمانية الشاملة فيقول :ان العلمانية الشاملة تتجه قدما إلى نزع القداسة عن كل شيء وطرد المقدس من العالم ومن كل نشاط اجتماعي أو خلقي، وتحويل كل ما في هذا العالم إلى مجرد أدوات استعمالية ليس أكثرهنا نجد أنفسنا في عالم دارويني بحت، القوى والمصالح والملاذ هي وحدها صاحبة القيمة، ومنها تستمد كل قيمة. هنا لا يختفي فقط الدين والأخلاق والحق والعدل والله ذاته بل يختفي الإنسان أيضا، بما يجعل العلمانية هي بحق كما ذكر محسن الميلي “فلسفة موت الإنسان. وبلغ تيار العلمانية الأصولية أو الملحدة أقصاه مع ماركس، إذ أعلن الحرب على الدين بوصفه أفيونا للشعوب، فقامت إمبراطورية الشيوعية على الإلحاد، فكانت أقصر الإمبراطوريات عمراأما نيتشة فقد أعلن موت الإله، وأعلنت وجودية سارتر التصادم الكامل بين الحرية وبين الإيمان “إما أن أكون حرا، أو يكون الله موجودا.فالعلمانية هنا تجاوزت مستواها الإجرائي الذي بدأت به متمثلا في حرية العقل وفي الفصل بين الدين والدولة، إلى المستوى الفلسفي أو العلمانية الشاملة مقابل العلمانية الجزئية بلغة المرحوم المسيري. واذا نظرنا الى سياقات العلمانية في اوروبا فاننا نلاحظ انها جاءت حلا لإشكالات مستعصية في البيئات الغربية تتمثل أساسا فيما حصل من تنازع طويل مدمر على السلطة بين الملوك وبين الكهنة، وتنازع ايضا بين هؤلاء الأخيرين وبين تيارات الفكر الحر التي نشأت متأثرة بأصداء وترجمات ابن رشد الذي جعل، للعقل مكانة متميزة في شئون الحياة مقابل قيود ووصاية الكنيسة،التي لم تكن تعترف بحقيقة خارج الكتاب المقدس. وقد أدى ذلك إلى نزاع واسع واضطهاد للعلماء بلغ حد الحرق وتكميم الأفواه.لقد كان الفكر الحر يصطدم بسلطة رجال الدين إن على المستوى الفكري تأسيسا لحرية العقل المطلقة أو على المستوى السياسي الاجتماعي سعيا لتحقيق السلم المدني والوحدة الوطنية بما يضع حدا للتحارب الديني الذي كان فاشيا، ويعترف معه بحق الشعوب في اختيار حكامها فكانت العلمانية حلا إجرائيا يتمثل في تحرير العقول من كل وصاية وإطلاق عنانها بلا حواجز ولا قيود ولا تهديد، ويضع حدا لتدخل الكنائس في المجال العام باعتباره مجالا عقليا خاليا من المقدسات تتدافع فيه كل الآراء والتجمعات، وتتولى أدوات الديمقراطية تنظيمه، وذلك مقابل حصر سلطان الكنائس في خصوصيات المسائل الروحية. (11)
لقد اشار جورج طرابيشي (12)الى العلمانية في بريطانية وفرنسا وامريكا وبلجيكا بشكل موجز الا ان عزمي بشارة(13) فاض في شرحها .فرغم ان ملكة بريطانية هي رئيسة الكنيسة البروتستانية الا ان هناك علمانية من طراز خاص لا تتصادم مع الحداثة ومع التطور .كما ان هناك تمايزا بينها وبين العلمانية في امريكا فهناك مجتمع متدين ودولة علمانية تمتاز بالغلو في نشر قيم منافية للدين (مثل زواج المثليين والحرية الجنسية والاجهاض والتسامح مع الملحدين ……الخ ).وفي فرنسا طراز آخر للعلمانية بإطارها الكاثوليكي وتتدخل بالحريات الدينية (مثل ارتداء الحجاب او غيره .
خلاصة القول : ان العلمانية المؤمنة (العلمانية الجزئية على حد قول المسيري) تبقى طريق الخلاص والولوج الى عصر الحداثة .فالعروبة المؤمنة بالاسلام باعتباره روح العروبةتبقى صمام الامان للانفتاح على العصر والسعي لبناء مجتمع ديمقراطي يكفل للانسان حقوقه في شتى مناحي الحياة.
الهوامش:
- العلمانيه -رسالة ماجستير –جامعة ام القرى – سفربن بن عبد الرحمن الحوالي – رابط التحمبل
- د.سامي عطا- ما العلمانية ؟ https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/20/342428.html
3-وهم العلمانية وضلالة العلمانيين –سامية يوسف- https://www.kutub-pdf.net/book
4- عزمي بشاره-الدين والعلمانية في سياق تاريخي –جزئين-رابط التحميل https://www.books4arab.com
5-جورج طراببيشي – هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة – رابط التحميل
6- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة هو عنوان كتاب من تأليف د. عبد الوهاب المسيرى. الكتاب صدر في طبعتين عن دار الشروق القاهرة 2002 في جزئين، الجزء الأول يتناول الجانب النظري بينما يتناول الثاني الجانب التطبيقي0- (مراجعة محمد فتوح في شبكة الجزيرة)
7-المسيري- مصدر سابق
8-راشد الغنوشي –الجزيرة- https://www.aljazeera.net/opinions
9-يوسف القرضاوي –الاسلام والعلمانية وجها لوجه ص 46 https://www.noor-book.com
10-يوسف القرضاوي ص38
11-الغنوشي-مصدر سابق
12- طرابيشي مصدر سابق ص205-215 كما يتحدث عن علمانية تركيا الحالية ص 219-229