من كتاب دراســـــــات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي للكاتب موسى الزعبي
“إن الرهان الجيوسياسي الرئيس للولايات المتحدة، هو الأوراسيا، (أوربا- آسيا) حيث هيمنت قوى وشعوب القارة الكبيرة التي تنافست، من أجل الهيمنة الإقليمية، والتفوق الشامل على العلاقات الدولية، منذ خمسة قرون، واليوم- هذه قوة خارجية عن القارة – تتغلب على غيرها في الأوراسيا، وتعتمد هيمنتها الشاملة على قدرتها في المحافظة على هذا الموقع بشكل دقيق.
إنه من الواضح أنه لن يكون لهذا الوضع – سوى زمن واحد، لكن ستعتمد مدته ونتيجته، ليس فقط على الرفاه في الولايات المتحدة، بل أيضاً، وبشكل أكثر عمومية، على الهيمنة الكاملة لمصالح الولايات المتحدة على ما عداها وتفوقها. ولقد خلق الظهور السريع لقوة دولية وحيدة، الفرصة أمام الولايات المتحدة لبناء نظام دولي جديد، تتكفل فيه واشنطن بتحمل المسؤولية الكاملة، التي تؤمن لها القيام بذلك الدور، بواسطة قوتها الشاملة، وإلا فالفوضى ستعم العالم، وبالتالي عدم الاستقرار، يفتح أبوابه على كل الاحتمالات”.
هذا المقطع، هو من كتاب زبيغنيو برزنسكي، مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بعنوان: (اللاعب الكبير، أمريكا وباقي العالم” وهكذا ينطلق منظرو الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية، وذلك لتبرير دور الولايات المتحدة من أجل بناء إمبراطورية جديدة، تضمن لها مصالحها إلى أبعد مدى، وبالطبع من بين هؤلاء، البروفسور “ب. هانتنغتون” الذي أكد في مقالة داويه، بعنوان صراع الحضارات الذي تحول إلى كتاب فيما بعد، تحت ذلك العنوان، أكد فيها: “في عالم لا يكون فيه للولايات المتحدة الأولوية، سيعرف هذا العالم العنف والفوضى أكثر، وديمقراطية أقل، ونمواً اقتصادياً أدنى، إلا إذا استمرت الولايات المتحدة، كما هو الحال اليوم، أن يكون لها نفوذ أكثر على الشؤون الدولية الشاملة، وأكثر من أي بلدٍ آخر. كما أن المحافظة على الأولوية للولايات المتحدة، أمر جوهري، ليس فقط من أجل مستوى العيش والأمن للأمريكيين، بل أيضاً من أجل مستقبل الحرية والديمقراطية والاقتصاديات المفتوحة والنظام الدولي”(1).
ويريد هذا المنظر الإمبريالي، من هذا النص الدعائي المزيف بالقول أن الطريقة التي “تدير” فيها الولايات المتحدة، القارة الأوراسية، هي أمر حاسم، لنهب خيرات شعوبها لصالح الإمبريالية الأمريكية، لأنها القارة الأكبر، على سطح الكرة الأرضية، وكأن شعوبها لا يحتاجون لشيء، سوى حاجتهم لوصاية وهيمنة الإمبرياليين الأمريكيين. ولهذا فهم يعتبرون القارة الأوراسية- المحور الجيوسياسي الأساس، للهيمنة، وكل قوة تسيطر على شعوبها وتنهب خيراتها، تسيطر بواسطتها على منطقتين من ثلاث مناطق في العالم، الأكثر تطوراً والأكثر إنتاجية. وإن نظرة بسيطة على خارطة الكرة الأرضية تكفي من أجل فهم، كيف أن السيطرة على الأوراسيا، تقوم بصورة آلية تقريباً، حماية سهلة للقارة الأفريقية- كما تمنح موقعاً جيوسياسياً محيطياً للأمريكيين، وللمحيطين الكبيرين، الأطلسي والهادي وحيث يعد حوالي (75%) من السكان في العالم، في القارة الأوراسية، كذلك، فيها الجزء الأكبر من الثروة الطبيعية على شكل مشروعات أو مناجم معدنية من المواد الأولية. ويصل مجموع الإنتاج الوطني الخام لهذه القارة إلى (60%) من مجموع الإنتاج العالمي. وإن ثلاثة أرباع مصادر الطاقة المعروفة موجودة مجتمعة فيها أيضاً.
ولقد نشأت في تلك القارة، معظم الدول السياسية الدينامية القادرة على القيام بالمبادرات الخلاقة. وتوجد فيها، الاقتصاديات الست الأكثر ازدهاراً، والست الأضخم، من حيث الميزانية في مجال الدفاع بعد الولايات المتحدة بالطبع. كذلك، تمتلك جميع هذه البلدان الستة السلاح النووي “رسمياً” كمفترضة” مع استثناء من كل حالة. وتقع فيها الدولتان ذات السكان الأكثر عدداً، في القارة الأوراسية، كما يقع فيها جميع المنافسين السياسيين و/ أو الاقتصاديين، للولايات المتحدة. وتتجاوز قوتها المتراكمة، بعيداً، تلك التي لدى الولايات المتحدة، كما لحسن حظ منافسيها، فهذه القارة واسعة شاسعة جداً، مما يجعل من الصعب جداً تحقيق وحدتها السياسية.
وتبقى القارة الأوراسية، بالنتيجة الرقعة التي دارت عليها المعارك من أجل الوصول للتفوق المطلق والشامل، ويمكن مقارنة الجيواستراتيجية بعبارة أخرى، التنظيم الاستراتيجي للمصالح الجيوسياسية، كرهان في لعبة الشطرنج هذه، مع ذلك- فهذا المسرح الأوراسي، ذو الشكل البيضوي غير الكامل، يتضمن كل اللاعبين، كما يمتلك كل لاعب سلسلة من القطع- وإذن رأسمال من القوة- مختلفة ومتنوعة ويمثّل اللاعبون الأساسيون المركز والجنوب والشرق والغرب من ساحة تلك اللعبة. وتوجد على الجانبين الأخيرين الاثنين، مناطق ذات كثافة سكانية، مؤلفة من عدة دول قوية، وفي الغرب، تمارس الولايات المتحدة سلطتها مباشرة على الحواشي المحيطية الضيقة، وإلى الشرق الأقصى من الكتلة القارية، فتشتمل على لاعب مستقل، ذو نفوذ يبرز أكثر فأكثر، وذو عدد سكان ضخم- ونصف شبه جزيرة تقدم نقاط دعم للولايات المتحدة.
ويمتد بين هذين القطبين، مساحة مركزية واسعة، وسكان مبعثرون. وتنظيم متفجر، مجرد اليوم من التوجه السياسي الصلب والمتماسك، يشغلها منذ عهد قريب، خصم حازم، يريد أن يتفوق على الولايات المتحدة، وحيث هدفه، على المدى البعيد، أن ينتهي به الأمر، إلى إنهاء وجود الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، وفي جنوب هذه الهضبة الكبرى المركزية، تمتد منطقة تشتهر بالفوضى السياسية القوية، لكنها غنية بمصادر الطاقة، وتكتسي من هذا الموقع، أهمية كبيرة من حيث القوة بالنسبة لجميع دول أوراسيا، إلى الغرب كما إلى الشرق، ذات كثافة سكانية كبيرة. ويصبو الهدب الأكبر الجنوبي من هذه المنطقة إلى الهيمنة الإقليمية.
وتدور “اللعبة” على هذه الرقعة المشوهة الشكل والضخمة، الممتدة من لشبونه إلى فلاديفوستك. ومن الممكن أن يصبح الفضاء المركزي منجذباً نحو المجال الغربي “حيث تلعب الولايات المتحدة فيه دوراً راجحاً”.
لكن إذا لم يخضع الجنوب لهيمنة تقتصر على لاعب واحد، وإذا حقق الشرق وحدته، بحيث تجد الولايات المتحدة نفسها مستبعدة أو مطرودة من قواعدها الجزيرية، عندها ستحافظ هذه الأخيرة على مواقع متفوقة، أما إذا انقطع الفضاء المركزي عن الغرب، وشكل كياناً دينامياً، قادراً على المبادلات الخاصة به، وإذا ضمن عندئذ سيطرته على الجنوب، أو شكل اتحاداً مع الفاعل الرئيس الشرقي، عندئذٍ، فإن موقع الولايات المتحدة في أوراسيا، سيصبح معرضاً للضعف بشكل مرعب، وكذلك، إلى الشرق، سيكون للاتحاد بين لاعبين رئيسين- نتائج مشابهة. أخيراً، ستؤدي نهاية استحقاق الولايات المتحدة عن طريق شركائها، في الأطراف الغربية، إلى نهاية مساهمة الولايات المتحدة في لعبة الشطرنج الأوراسية، حتى إذا كان سيعني هذا التغيير المفاجيء، دون شك، خضوعاً للتخوم الغربية لفاعل يصبح قوياً من جديد، في المنطقة الوسطى.
وتبقى هيمنة الولايات المتحدة سطحية، وهي تمارسها بآليات متعددة من النفوذ، على الرغم من أبعادها الكونية، لأنها تمارسها، بعكس إمبراطوريات الماضي، ليس عن طريق السيطرة المباشرة، لما يلجم اتساع وتنوع قوة عدد من دول القارة الأوراسية، نفوذ الولايات المتحدة ويقلل من سيطرتها على مجرى الأحداث. فهذا العدد الكبير من صفات القارة الأوراسية- ناتج عن اتساعها جداً وعن العدد الكبير من السكان، وغناها الفخم بعدد ثقافاتها وعقائدها وتاريخها، وقوية بدولها، وبدينامياتها السياسية والتاريخية، وبطموحاتها من أجل البرهنة على عدم لين عريكتها حيال أي كان. وهل تتطلب هذه القوة المهيمنة الشاملة والاقتصاد الأكثر ازدهاراً، حذاقة جيواستراتيجية كبيرة في هذا السياق، إذن على الولايات المتحدة أن تستخدم مصادرها بدراية جيدة دائماً، وبطريقة اصطفائية وحذرة على الرقعة الأوراسية بالكامل، إذا أرادت فرض هيمنتها.
فضلاً عن ذلك، تدعي الولايات المتحدة أنها بلد ديمقراطي كثيراً، وتدعي أن هذه الصفة تتنافى مع إظهار نفسها استبدادية، وهذا يعني الحد من استخدام قوتها العاتية أثناء ما تقوم به لحماية مصالحها، لكن ذلك الإدعاء لا ينطبق على سلوكها، خاصة طاقتها في المجال العسكري والمخابراتي وبالتالي إرهاب أي شعب يقف في وجه تحقيق مصالحها باستخدام العنف الشديد بالوسائل المختلفة. علماً أن أية ديمقراطية ليبرالية يفترض فيها أن لا تتبع تلك الأساليب المزيفة، خاصة إذا كان باستطاعتها الهيمنة على المؤسسات الدولية لاتخاذ قرارات تعطيها لبوساً بعيداً عن حقيقتها. وهكذا، فالسباق إلى القوة لن يكون هدفاً قابلاً أن يعبِّئ الانفعالات الشعبية، إلا في الحالة التي تكون فيها الأوضاع مهددة بأخطار وشيكة الوقوع أو مداهمة كما تتعارض التضحيات الاقتصادية “بعبارة أخرى ارتفاع في الإنفاق العسكري” والإنسانية “بما في ذلك الضحايا بين الأفراد المجندين أو المحترفين”، مع الديمقراطية الحقيقية، كما تستبعد الديمقراطية، كل تصرف إمبريالي.
وبطريقة عامة، من المفروض أن لا يعتبر الأمريكيون أن وضعهم الجديد كقوة دولية عظمى، ودون منافس، أن ذلك يمنحهم ميزات خاصة، إذا كانوا يدعون أنهم ديموقراطيون. وأن لا يغتروا بما يسمونه هم “بروح الطفرة” السياسية المتولدة عن انهيار الكتلة الاشتراكية. مع أن ما حدث، استقبل ببرود في البداية، حتى أُثيرت تكهنات من قبل المعلقين والطبقات الرجعية المتعارضة في الولايات المتحدة، حول مستقبل دور واشنطن بعد انهيار ذلك المنافس. مع ذلك، لا يمكن إنكار النجاح التاريخي للولايات المتحدة الذي تحقق بالنتيجة، خاصة على المستوى الداخلي، ومهما كانت أسباب المجابهة مع الاتحاد السوفياتي السابق، مع أنه أثار العديد من الحوارات، لكنه أبرز وجهتا نظر متعاكستين: تقول الأولى، إن نهاية الحرب الباردة – إذا كانت قد انتهت، على المستوى الدولي- مع الاتحاد السوفياتي السابق، فإن ذلك يقتضي تخفيضاً هاماً في التزامات الولايات المتحدة الدولية، ومهما كانت النتائج بالنسبة لموقعها الشمولي. أما أصحاب الفرضية الثانية، فيقولون حان الوقت لتحقيق تعددية حقيقية، يجب على الولايات المتحدة فيها أن تشجعها، ويتم ذلك، عن طريق تخلي الولايات المتحدة عن جزء من هيمنتها. ويتلقى كل من هذين التيارين (الفكريين) الدعم من أطراف الرأي العام بشكل واسع.
وفي النتيجة، لقد عدّلت المعطيات الجديدة بمجملها، الوضع الدولي، وفرضت على الولايات المتحدة أن تندمج مع توقعات الأوضاع المستجدة. وبحيث يصبح استعمال القوة مباشرة أقل يُسْرةً عما كان عليه في الماضي. مع أن السلاح النووي قد قلل من مفهوم الفائدة من الحرب أو حتى التهديد بالحرب، باعتبارها امتداد للسياسة بنسب خيالية، مما جعل الترابط بين الشعوب، أكثر فعالية من الابتزاز الاقتصادي. كذلك أضحت المناورات الدبلوماسية وتشكيل التحالفات واختيار الحلفاء، واستخدام جميع المكاسب المتاحة، مفاتيح للنجاح، وذلك بالممارسات الجيواستراتيجية على الساحة الدولية.
الجيوسياسية، والجيواستراتيجية: وهنا يجب على الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، أن لا تهمل الجغرافيا السياسية للمحافظة على أولويتها الدولية، ويبقى هذا الأمر معطية أساسية في الشؤون الدولية، وكان نابليون يقول ويؤكد أن معرفة الجغرافيا لشعب ما تكفي لفهم سياسته الخارجية، مع ذلك يجب تبني هذا التحليل للحقائق الجديدة للقوة العاتية.
أصبحت السيطرة على المناطق الرهان الأساسي في النزاعات السياسية. وكان تمجيد الإباء الوطني، عن طريق إلحاق مناطق جديدة، أو كبتٍ ناتج عن خسارة أرض “مقدسة”، الأسباب والأمل لمعظم الحروب الدموية التي جرت منذ انطلاقة الروح الوطنية. ويمكن القول، دون مبالغة، إن الضرورات الإقليمية” كانت الدافع الرئيس الذي أوحى بالتصرفات العدوانية للدول /الأمم. ورسخت الإمبراطوريات أمنها بالطريقة نفسها، وذلك بالعمل على اغتصاب النقاط الحساسة، الجواهر الجغرافية الحقيقية، مثل جبل طارق، قنال السويس، سنغافورة، حيث أدت خدمات كبرى كمراصد أو مفاتيح قناطر، في نظام السيطرة الإمبريالية، في آن واحد، والحال اليوم أيضاً، فيما يجري من محاولات الهيمنة على منطقة الخليج العربي.
وتقدم لنا ألمانيا النازية واليابان الإمبريالي، مثلان، وإلى أبعد الحدود عن الرابط بين النزعة القومية والحيازة الإقليمية. وينطبق ذلك أيضاً على سلوك معظم الدول الاستعمارية. فقد استهدف المسعى الألماني “لاقامة رايخ جديد” في برنامجه إعادة وحدة الشعوب الناطقة باللغة الألمانية تحت السقف نفسه سياسياً، واستهدف أيضاً رغبة أخرى: امتلاك إهراءات أُكرانيا، والبلدان السلافية الأخرى، حيث نذر السكان أنفسهم لتقديم يد عاملة رخيصة، والقيام بأعمال السخرة في المجالات الإمبريالية، وبالطريقة نفسها، اعتبرت اليابان أن ضم منشوريا- وفيما بعد أندنوسيا، المستعمرة الهولندية آنذاك، والغنية بالنفط- كشرط جوهري لتحقيق نزعتها كقوة عظمى قادرة على اللعب على المسرح الدولي، وفي خط مشابه، ألا ينطبق ذلك على ما تقوم به الولايات المتحدة، من حشد لقواتها في منطقة الخليج العربي، وتهديد شعوب تلك المنطقة، من أعمال القرصنة الدولية بحجة المحافظة على مصالحها، أليس وجود قواتها على أرض معظم دول الخليج العربي يمثل صورة الاستعمار القديم. وفي نهب خيرات تلك المنطقة كما كان يجري في الماضي في عهد الاستعمار، أو أليس ما قامت به الولايات المتحدة من حشد أكبر مجمع عسكري لتدمير العراق- ينطبق عليه ما ينطبق عما قامت به النازية بحجة شعار المناطق الحيوية؟ وتبرير ما قامت به، أنه أمر مشروع حيث كونها قوة عظمى، ويسير عملها هذا جنباً إلى جنب مع هيمنتها.
وهكذا، تبقى الدول / الأمم. الوحدات الأساس في النظام الدولي. في حين خفف زوال النزعة القومية المتطرفة لدى القوى العظمى وخسوف الأيديولوجيات، من المضمون العاطفي للسياسة الشاملة – كما قلل السلاح النووي، وإلى حد بعيد، من اللجوء للقوة، في هذه الأثناء- وحدثت المجابهات والخصومات الإقليمية، التي تهيمن على العلاقات الدولية اليوم، على مناطق النفوذ. وتأخذ المجابهة مظهر العداوة عادة في أغلب الأحيان، تجاه جار رفض أن يمنح حق تقرير المصير لإخوة في الدم، أو اقتطاع جزء من الوطن الأم، أو التعبير عن الظلم في حال سوء معاملة الأقليات العرقية. ونشاهد في هذه المعادلات التقليدية، أن الرابط للوجاهة، هو نتيجة لهذه المشاكل المتنوعة.
وتميز النخبات الحاكمة، العوامل الجديدة في تحديد الوضع الدولي لدولة ما ودرجة نفوذها، ويتقدم النجاح الاقتصادي، ونتائجه الطبيعية والتجديد التكنولوجي، على المعايير الأخرى، وتمثل اليابان أفضل مثال. مع ذلك، يحدد الوضع الجغرافي لبلد ما، أفضلياته المباشرة وثقله العسكري والاقتصادي والسياسي، على الدوام، وكلها على علاقة مباشرة، مع قدرته على العمل عند ترويج مصالحه الجيوسياسية، وفي اللعب من أجل نفوذه، واتخذ المبادرات الحديثة أيضاً. وقدَّر المختصون في الجغرافيا السياسية، الفوائد النسبية للقوة البرية والقوة البحرية. كما جدّوا في تحديد المنطقة التي تسمح بالسيطرة على مجمل القاره الأوراسية – ولقد افتتح أحد كبار الخبراء، وهو هالفورد. ج. ماكندر HALFORD J. MACKINDER هذا الحوار، منذ بداية القرن العشرين، عندما حدد مفهومين جديدين: فقد طور، قبل كل شيء ذلك المفهوم المسمى “المجال المحوري” في القارة الأوراسية “مضمناً فيها كامل سيبريا والقسم الأعظم من آسيا الوسطى” من ثم، قلب القارة (HEARTLAND) أي أوربا الوسطى المعتبرة كمقفزين ضروريين للسيطرة على القارة الأوراسية. ولقد عمم مفهوم قلب القارة، الميادين الأساسية المشهورة التالية:
-من يحكم أوربا الشرقية يهيمن على قلب القارة.
-ومن يحكم “قلب القارة” يهيمن على الجزيرة – العالم
-ومن يحكم الجزيرة – العالم، يهيمن على العالم.
ولقد استند مختصون ألمان مشهورون في مجال الجيوسياسية على هذه المبادئ لتبرير الـ (DRANG NACH OSTEN) لبلادهم، بصورة خاصة منهم كارل هوشوفير (KARL HAUSHOFER) الذي تبنى مفهوم “هالفورد ج. ماكندر، للحاجات الاستراتيجية الألمانية. كما أوجد الصدى المعمم لمفهوم “المجال الحيوي” الضروري للشعب الألماني والذي وضع في مقدمة اهتمامات هتلر مع الإصرار على تنفيذه. وتوقع منظرون أوربيون، انتقال مركز الجاذبية، الجيوسياسية، إلى الشرق خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفهموا أن منطقة المحيط الهادي –الولايات المتحدة واليابان خاصة – تستعدان لوراثة التفوق، والقيام بالهيمنة الإمبريالية خاصة الولايات المتحدة، حالما يصيب الضعف أوربا وتصبح غير قادرة على ممارسة تفوقها، بعد ذلك.. ودافع بول دوما نجون PAUL DEMANGEON، والعديد من زملائه، جميعهم مختصون في مجال الجيوسياسية، دافعوا عن قيام وحدة كبرى بين الدول الأوربية، قبل البدء بالحرب العالمية الثانية.
واليوم، لم تعد الجيوسياسية تعلق كبير الأهمية، على الهوية. ويمكن لأية منطقة جغرافية في الأوراسيا، أن تؤدي خدمة كقاعدة من أجل الهيمنة على القارة، وليس من أجل المقارنة بين الفوائد النسبية للقوة البرية مع القوة البحرية، وتطرح الجيوسياسية، أن التفوق على القارة الأوراسية يؤدي خدمة كمنطقة رسو للهيمنة الشاملة، مروراً من المستوى الإقليمي إلى المستوى الكوني. وتتمتع الولايات المتحدة بالتفوق الدولي، مع أنها قوة خارجية بالنسبة للقارة الأوراسية، ويرجع ذلك إلى حضورها المباشر في ثلاث مناطق محيطية في القارة الأوراسية، مع موقع يمتد فيه شعاع عملها، حتى على دول المنطقة الخلفية (HINTERLAND) القارية، لكن، تبقى القارة الأوراسية، المسرح الوحيد، الذي يمكن أن تظهر فيه، قوة منافسة محتملة للولايات المتحدة، أما إذا أرادت واشنطن تحقيق طموحاتها، بإعداد قواعد عمل جيواستراتيجي، بعبارة أخرى تحديد الوسائل التي يجب أن تؤمن لها إدارة مصالحها الجيوسياسية في القارة الأوراسية، على المدى الطويل، عندها يتحتم الخضوع لتحليل العاملين الرئيسين، والاعتراف المناسب بقيمة الأرض.
وللقيام بذلك، يلزم مرحلتان ضروريتان:
-قيام تطابق بين الدول التي تمتلك دينامية حقيقية جيواستراتيجية، قادرة على إحداث انقلاب هام في التوزيع الدولي للسلطة في المقام الأول، ثم الكشف عن الأفضليات التي تظهر في مجال السياسة الخارجية، في الحركة نفسها، ولدى النخبة في البلاد ذات العلاقة بالموضوع، ومواجهة النتائج التي ستحدث نتيجة جهودها لبلوغ ذلك الهدف، والتعرف على الدول التي تستطيع أن يكون لها تأثير حافز على الفاعلين الجيواستراتيجيين الأكثر أهمية، أو على الشروط الإقليمية، والأكثر حساسية حيال وجهة النظر الجيوسياسية.
-في المقام الثاني، صياغة سياسات نوعية، محددة لموازنة الجهود المشؤومة لسياسات ناتجة عن مبادرة من قبل بعض الدول، ثم تحديد الوسائل للربط والمشاركة والسيطرة عليها، بطريقة المحافظة على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وتشجيعها، وإعداد تأملات جيواستراتيجية شاملة تكمل وتطابق السياسات المتنوعة الإقليمية للولايات المتحدة، على المستوى الكوني.
باختصار، يتطلب تحديد التوجه الجيواستراتيجي حيال الفكرة الأوراسية بالنسبة للولايات المتحدة، وضوحاً في الطريقة، قبل كل شيء، وإنه من الضروري إقامة سياسات موطدة العزم تجاه دول مزودة بموقع جيواستراتيجي ديناميكي، لمعالجة الدول الحافزة مع الحذر، وفي العمق، لن يكون لهذا التقارب من معنى، إلا بمقدار ما يؤدي خدمة لمصالح الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، المحافظة على وضعها، كقوة كونية عظمى، على المدى القصير، ثم التطور نحو تعاون دولي، قائم على المؤسسات على المدى الطويل، وتتلخص الصيغ الثلاث الجيواستراتيجية في المصطلح الفظ لإمبراطوريات الماضي في: تجنب التواطؤ لإلحاق الأضرار “بالتابعين” ثم المحافظة على حالة التبعية، التي تؤمن أمنها، ثم زرع الطاعة لدى المواطنين في الدول التابعة، ومنع البرابرة من تشكيل تحالفات هجومية.
فاعلون جيواستراتيجيون وأقطاب جيوسياسيون:
يعتبر الفاعلون الجيوسياسيون من الدرجة الأولى، تلك الدول المزودة بقدرة ورغبة وطنية كافية من أجل ممارسة قوتها ونفوذها خارج حدودها. ومن هذا الواقع، فهي على قدرة على تعديل العلاقات الدولية، التي من الممكن أن تتعرض للتسبب بإلحاق الخطر والتأثير على مصالح الولايات المتحدة. والكل يملك قدرة ما وبدرجة ما، و/ أو النزوع لتبني موقف متفجر في الشأن الجيوسياسي، ولأسباب متنوعة، مثل عظمة وطنية، وارتياح أيديولوجي، أو اعتقاد ديني، أو إدعاء اقتصادي، كما تبحث بعض الدول عن بلوغ موقع إقليمي مهيمن أو نفوذ دولي. وإذا كان هذا الأمر مربكاً، في مجال التعليل المعقد له، فما من شيء يلخصه على نحو أفضل من الجملة التي قالها روبرت برووننيغ ROBERT BROWNING: “على الرجل أن يتوخى أكثر مما يمكن أن ينجزه، لكن ما جدوى أن تحلم بالجنة؟” فهذه الدول تتفحص جميع مظاهر قوة الولايات المتحدة، وتقدر في أي وضع منسجمة مصالحها مع ذلك الشريك المستفيد، الذي يعد أهدافه الخاصة، وذلك بالاضطلاع بمسؤولية المجابهة مع الولايات المتحدة، إذا كان ذلك ضرورياً. فيجب على الولايات المتحدة أن تعير اهتماماً خاصاً تماماً لمثل هؤلاء الفاعلين.
ويدل مفهوم الأقطاب الجيوسياسية، على تلك الدول، التي تعتمد على قوتها الحقيقية على نحو أقل، من تعليلاتها لوضعها الجغرافي الحساس بشكل أكثر، وتكون قابليتها للتأثر قوية، وتؤثر على سلوك فاعلين جيواستراتيجيين، ويمنحها تمركزها في أغلب الأحيان، دوراً أساسياً من أجل الوصول إلى بعض المناطق، بحيث تستطيع فصل فاعل من الطراز الأول عن المصادر الضرورية له، وقد يحصل أيضاً أن يعمل قطب جيوسياسي، كترس دفاعي لدولة أو منطقة ذات أهمية أساسية، وأحياناً، فإن الوجود البسيط لقطب جيوسياسي، له آثار سياسية وثقافية هامة، من أجل دولة مجاورة، ولها فاعلية في المجال الجيواستراتيجي، وإن مطابقة وحماية الأقطاب الجيوسياسية الرئيسية لما بعد الحرب الباردة أمر أساسي بالنسبة للاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة.
ولنشير أيضاً بتمهيد. إذا كان الفاعلون الجيواستراتيجيون هم من بلدان قوية من الدرجة الأولى بشكل عام، فإن جميع البلدان القوية لا تشكل فاعلين جيواستراتيجيين بصورة آلية، كذلك، فالمشكلة الوحيدة التي يمكن أن تثيرها لائحة الفاعلين، تتعلق بإهمال عدد معين من البلدان، ذات الأهمية، ويتطلب ذلك بعض التوضيح.
في الوضع الحالي، يمكن التمييز على الخارطة السياسية الجديدة للقارة الأوراسية خمسة فاعلين جيواستراتجيين، وكذلك خمسة أقطاب جيو سياسيين، على الأقل، “ويملأ اثنان من بين الأخيرين، مهمة الفاعلين جزئياً” فإن الهند والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا هي دول فاعلة من الدرجة الأولى، في حين أن بريطانيا العظمى واليابان وأندنوسيا، هي بلدان هامة جداً دون شك، لكنها لا ترقى إلى هذه الفئة، وتشكل أكرانيا وأذربيجان وكوريا وتركيا وإيران أقطاباً جيوسياسية حاسمة. وتلعب هاتان الأخيرتان، أيضاً في بعض الحالات دوراً جيواستراتيجياً، على الرغم من وسائلها الأقل..
في هذه المرحلة نكتفي بالقول، إنّ الفاعلين الجيواستراتيجين الأساسيين في الطرف الغربي للقارة الأوراسية، هما فرنسا وألمانيا. وكلا الاثنان مولعان بالعمل لرؤية أوربا موحدة، حتى إذا اختلفا في تقدير الروابط التي يتوجب أن يحافظ عليها مع الولايات المتحدة في هذا الكيان الجديد. مع ذلك، يثابر كل من الطرفين، على تحقيق ذلك المشروع الطموح، ببذل جهود، لتعديل الوضع الراهن، بعبارة أخرى. وتمتلك فرنسا تصوراً جيواستراتيجياً، خاصاً بأوربا، وهو تصور خاص بها، والذي يختلف عن التصور الخاص بالولايات المتحدة، في مظاهر متعددة، من جهة أخرى، لدى فرنسا بعض النزوع الطبيعي لتأخذ على عاتقها القيام بمناورات تكتيكية، أو لديها الإرادة لتلعب دور روسيا ضد الولايات المتحدة، بطيبة خاطر، أو حتى ضد بريطانيا العظمى، أو ضد ألمانيا، لكن تقوم بكل ذلك، بالاعتماد على التحالف الفرنسي الألماني للتعويض عن ضعفها الخاص بها.
ففرنسا وألمانيا، قويتان، على نحو كافٍ، وديناميتان من أجل أن يكون لهن نفوذ إقليمي أبعد من مجاوريهن المباشرين، كذلك، فإن لدى فرنسا، اعتقاد بتشكيل نواة لمجموع دول من دول البحر الأبيض المتوسط ومن شمالي أفريقيا، من أجل تقاسم المنافع المشتركة، بالإضافة إلى دورها السياسي المركزي في توحيد أوربا. وأخذت ألمانيا تعي الأوراق الرابحة التي تمتلكها، والخاصة بها، أكثر فأكثر، على أنها الدولة الأكثر أهمية في أوربا، فهي القاطرة الاقتصادية الإقليمية ورئيسة رتل القوة الاقتصادية في الاتحاد الأوربي، وتشعر بنفسها أن عليها أن تتولى مسؤولية خاصة حيال بلدان أوربا الوسطى الجديدة، وذلك ليس دون التذكير بالمفهوم العتيق (MITTEL EUROPA) الذي يتوضح تحت الحماية الألمانية. يضاف إلى ذلك، فإن فرنسا وألمانيا تعتبران نفسيهما، أنه مسموح لهما، التفاوض باسم أوربا مع روسيا. ومن هذا الواقع، تستطيع ألمانيا، أن لا تستبعد إمكانية إجراء اتفاقيات ثنائية الجانب مع روسيا، اعتماداً على وضعها الجغرافي ونظريّا على الأقل.
وينقل السير روي دونمان (SIR ROY DENMAN) الذي مثل بريطانيا العظمى لدى المجلس الأوربي، في أعلى مستوى، ينقل في مذكراته، كيف أنه صرح أمام مهندس أوربا الموحدة، أثناء المؤتمر التحضيري للسوق المشتركة عام (1955) قائلاً:
إنكم تُعِدُّون معاهدة للمستقبل، التي سوف لن تكون مصدقة مطلقاً ،وإذا صُدّقت، فإنها سوف لن تطبق مطلقاً، وإذا طُبّقت، فإنها سوف لن تكون مقبولة بالنسبة لبريطانيا العظمى […] إلى اللقاء وحظ سعيد(2).
ومرت أربعون عاماً، لكن حدد ذلك التصريح، الموقف البريطاني أيضاً فعلى العكس من ترددها حيال الاتحاد الاقتصادي والنقدي الذي أصبح نافذ المفعول منذ كانون الثاني (1999) فإن بريطانيا رفضت ربط مصيرها بمصير أوربا للآن. وما من شيء يمكن أن يلخص هذا الموقف على نحو أفضل من ذلك التحليل في بداية سنوات التسعينات (1990).
-بريطانيا العظمى ترفض احتمال قيام وحدة سياسية أوربية
-بريطانيا العظمى تفضل تنسيق سياساتها الخارجية في الأمن والدفاع خارج نطاق الجماعة الأوربية.
-بريطانيا العظمى تميز طرازاً للتكامل الاقتصادي قائم على التبادل
الحر(3)
-تبقى بريطانيا العظمى الشريك الهام بالنسبة للولايات المتحدة، بلا منازع، ويجب أن لا تمثل سياستها ومواقفها أية صفة تحدّي وتمارس المملكة المتحدة نوعاً من النفوذ الشامل عن طريق الكمونويلث، لكن سلطتها قد انخفضت. وإنها لم تعد تميل إلى رؤيا طموحة. وتقول إنه يجب عليها أن تكون روابط الصداقة مع الولايات المتحدة محافظ عليها، مع دعم حاسم وقوي، كحليف وفي، وبأن تبقى كقاعدة عسكرية حيوية، وأن تتعاون في مجال المعلومات، عن قرب، لكن ما من شيء يتطلب في سياستها اهتماماً مدعوماً، وإن المملكة المتحدة، فاعل جيواستراتيجي، لكن في حالة تقاعد، وهي تستند على انتصاراتها المشهورة، وعلى مسافة جديرة بالاحترام في مواقفها حيال المغامرات الأوربية الكبرى المعتادة من فرنسا وألمانيا.
وتلتزم الدول الأوربية الأخرى من ذوات القياس المتوسط، الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي و/أو الجماعة الأوربية، في معظمها، بتوجيهات الولايات المتحدة، لكنها كثيراً ما تتبنى المواقف الألمانية والفرنسية وتبقى العقبة في سياساتها الإقليمية، وليس لديها للآن من سبب لمراجعة تحالفاتها. وهي لا تدخل في فئة اللاعبين الجيواستراتيجيين، في هذه الشروط ولا في فئة المحاورين الجيوسياسيين، كما أن الاعتبارات نفسها، تنطبق على أوربا الوسطى. فبولونيا، هي الأكثر أهمية من بين المرشحين الأقوياء للانضمام إلى منظمة حلف شمالي الأطلسي، وكذلك للاتحاد الأوربي. لكن لا تزال بولونيا ضعيفة جداً لإبراز دورها في وضع اللاعب الجيواستراتيجي، وليس أمامها من خيار، سوى التكامل مع الغرب. ويقدم اختفاء النظام الاشتراكي سبباً لربطها مع التحالف الأطلسي، وأوربا الموحدة، بشدة، ويعطيها ذلك ضمانات أمن لا سابق لها، وكذلك تحديد خياراتها الاستراتيجية.
أما روسيا، فتبقى اللاعب من الدرجة الأولى، وهل هناك حاجة لتوضيح ذلك؟ فعلى الرغم من ضعف الدولة للآن، والقلق الدائم بسبب الأوضاع الداخلية، فإن وجودها، مع ذلك، يمارس نفوذاً رئيساً على معظم الدول المستقلة حديثاً، والتي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق لكن لروسيا طموحات، جيوسياسية عالمية، وتوضحها على نحو مكشوف أكثر فأكثر، ويجب على مجمل جيرانها، في الشرق والغرب، أخذ نفوذها بالحسبان، إذا ما استردت بعض قواها من جهة أخرى، فإنها لم ترسم للآن خيارها الاستراتيجي الأساسي: فهل يجب اعتبار الولايات المتحدة، كشريك أم كخصم؟ كما تعتمد خياراتها في القارة الأوراسية على ما يمكن أن تختاره من أجوبة معلّقة للآن، حتى تتوضح سياستها الداخلية، خاصة توجهها الذي ستقرره من بين اختياراتها، هل تكون تبعية للولايات المتحدة، تحت شعار الديمقراطية الغربية، أم تسعى لتعيد أمجاد الماضي، كامبراطورية أوراسية؟ وفي جميع الحالات، لن يعرف وضعها كلاعب، حتى بعد خسارتها العديد من أجزائها، وهجرها للسيطرة على بعض المناطق الأساسية في الساحة الأوراسية.
وما من أحد يعترض على الدور الرئيس للصين، فهي الآن قوة إقليمية هامة، وإن لها طموحات أكثر رفعة، مع الأخذ بالاعتبار ماضيها كقوة دولية، وكذلك المفهوم الملائم للصينيين، على الدوام، كـ “إمبراطورية وسط” وقد عدلت خياراتها الآن، من التوزيعه الجيوسياسية كقوة في آسيا بتناغم مدعوم من تطورها الاقتصادي، ويسير ذلك من التخفيف من وسائلها وطموحاتها للآن، وسيطرح موضوع تايوان، وبسرعة كانطلاقة لبداية “الصين العظمى” وقد يعرضها ذلك، أن يصبح لهذا الأمر انعكاسات ذات دلالة خطرة، على موقع الولايات المتحدة في الشرق الأقصى. وكان لتفكيك الاتحاد السوفياتي، آثار كبيرة على الجناح الغربي من الصين، بإنشاء سلسلة كاملة من الدول المستقلة، لم تحدد بكين بعد سياستها المتلاحمة حيالها. وسوف لن يكون الموقف الصيني موقف اللامبالي حيال هذه الأوضاع الجديدة. وكما أن روسيا، ستكون متأثرة بعمق، عند بروز الصين كقوة عظمى على المسرح الدولي.
ويعتمد التوازن، في الطرف الشرقي من القارة الأوراسية، على التناقض فاليابان ، قوة دولية، دون شك، من الدرجة الأولى، ولليابان الحق باعتبار أن التحالف الأمريكي – الياباني، كعلاقة ثنائية، الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، لكون اليابان، أحد كبار القوى الاقتصادية الدولية، وبأنها تمتلك وسائل الضغط للتأثير على السياسة الدولية. مع ذلك، يتخلى اليابان، عن التفكير بكل نفوذ إقليمي للآن، ويتخذ مبادرات وكأنه تحت وصاية الولايات المتحدة، ولا يتمنى للآن أن يتورط في السياسة القارية في آسيا، على غرار تصرف بريطانيا في أوربا، ومن بين الأسباب الأخرى، فإنه من الواضح، سيوقظ أي تردد لإرساء تفوقه، ريبة وعداوة جيرانه.
وتمنح السياسة المتواضعة لليابان، دوراً أساسياً، للولايات المتحدة، في مجال الأمن في الشرق الأقصى، ويجب أن لا يغيب عن البال، أنه، إذا لم يكن اليابان لاعباً جيواستراتيجياً، الآن، فإنه يمتلك القدرات الضرورية لكي يصبح كذلك وبسرعة، على سبيل المثال، إذا عدلت الولايات المتحدة أو الصين خطّها في تصرفاتها والمحافظة على علاقات جيدة مع اليابان أمر ضروري بالنسبة للولايات المتحدة، ليس بوضع عينيها مفتوحة على سياستها الخارجية، بل بزرع الاحتراس الدولي في هذا البلد مع العناية، وسيكون لضعف الروابط السياسية بين الولايات المتحدة واليابان، أثر حاسم ومباشر على الاستقرار الإقليمي.
ولن تعرف إندنوسيا أن تصبح معتبرة كلاعب جيواستراتيجي ديناميكي لجملة كاملة من الأسباب. حيث بقي نفوذ هذا البلد الأكثر أهمية في جنوب شرقي آسيا، محدوداً جداً في النطاق الإقليمي. فهو يعاني من مشاكل اقتصاد نام نسبياً، ومن عدم استقرار سياسي بنيوي، ومن تبعثر جغرافي لأرخبيلها، ومن قابلية للنزاعات الاثنية، هامة تثار من قبل الموقع الذي تحتله الأقلية الصينية في القطاع المالي. وباستطاعة أندنوسيا أن تشكل عقبة ذات أهمية أمام التطلعات الصينية، باتجاه الجنوب. ويمكن مع ذلك، التأكيد أن فترة ضعف الإرادة التوسعية الأندنوسية، قد انتهت. أما استراليا التي أصابها القلق منذ عهد قريب، فقد شدت من روابطها، فيما بعد، في مجال التعاون والأمن مع أندنوسيا، ويلزم فترة من الاستقرار والنجاح الاقتصادي حتى تصبح اندنوسيا فاعلاً إقليمياً مهيمناً.
وحصلت الهند على وضع القوة الإقليمية، وتتصرف بالمقابل كلاعب دولي من النسق الأول. فإنها قد جعلت من نفسها كمنافس للصين، وإن كان مثل ذلك التقدير مبالغاً فيه، مع ذلك، فلا جدال بأن الهند تشكل الدولة الأقوى في آسيا الجنوبية، وتشكل القطب الوحيد للسلطة الإقليمية، فزودت نفسها بالسلاح النووي، وبطريقة شبه رسمية ليس فقط من أجل تخويف الباكستان، بل أيضاً من أجل إقامة التوازن في مواجهة الترسانة النووية الصينية، وقد أعدت الهند رؤيا جيواستراتيجية لدورها الإقليمي، يمتد على مجمل المحيط الهندي، بناء عليه فإن طموحاتها لا تتناقض مع مصالح الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، ومن هذا الواقع، لا يشكل هذا اللاعب الجيواستراتيجي، مشاكل جيوسياسية على المستوى نفسه، كروسيا أو الصين.
وقد عدل استقلال أُكرانيا من طبيعة الدولة الروسية نفسها. ومن هذا الواقع، يصبح الوضع الجديد والهام على الساحة الأوراسية، كمحور جيوسياسي. ولقد توقفت روسيا عن كونها إمبراطورية في أوراسيا بدون أكرانيا، حتى لو أنها بذلت جهوداً لكي تخفي تماماً مثل هذا الوضع. وعندها سيصبح مركز الجاذبية محولاً عندئذٍ.. وستصبح هذه الإمبراطورية آسيوية بصورة رئيسة، ومكرسة للضعف لكن سيقود مثل ذلك الوضع لنزاعات دائمة مع تابعيها الثائرين في آسيا الوسطى، وسوف لن يقبل هؤلاء خسارة استقلالهم دون أن يقاوموا، ذلك الاستقلال الذي حصلوا عليه حديثاً. كما سيضمنون لأنفسهم الدعم من حلفائهم المسلمين في الجنوب، في حين تعارض الصين، التي تبدي اهتماماً متزايداً بالدول الجديدة ، في آسيا الوسطى، وبإصلاحات وضع اليد الروسية دون شك. كما ستضمن عودة السيطرة على أكرانيا من قبل موسكو – بلد من اثنين وخمسين مليون نسمة، مزود بمصادر عديدة، ومن ممرّ إلى البحر الأسود، الوسائل لتصبح روسيا دولة إمبريالية وقوية من جديد تتوسع باتجاه أوربا وآسيا، وسيكون لانتهاء استقلال أكرانيا من آثار فورية على أوربا الوسطى، وستصبح بولونيا، عندئذ المحور الجيوسياسي، على الطرف الشرقي لأوربا الموحدة.
أما أذربايجان، فإنها تغطي منطقة حساسة، لأنها تسيطر على المنافذ نحو الثروات الغنية في حوض الكاسبيان وآسيا الوسطى، على الرغم من ضعف أبعادها وعدد سكانها المحدود. وسيكون لأي تهديد لاستقلالها نتيجتان: من جهة، فإن موسكو ستبدل اتجاهها نحو مكاسبها من الثروات النفطية الضخمة في هذا البلد، ومن جهة أخرى، فإن أي دور لآسيا الوسطى، سيفقدها كل قدرة على المبادرة حتى إذا حافظت على استقلالها الشكلي. وسيسمح كون أذربايجان مستقلة، بأن ترتبط ثانية بالأسواق الغربية، عن طريق الأنابيب النفطية التي تجنبت المرور بالمناطق الخاضعة للنفوذ الروسي، ومما يسمح بالربط بين الاقتصاديات النامية، ذات الاستهلاك القوي للطاقة، وحقول النفط المطموع فيها من قبل جمهوريات آسيا الوسطى وإن مصير أذربايجان وآسيا الوسطى، مشابه للمصير الأكراني، وقد يؤثر ما سيكون عليه مصير روسيا في المستقبل.
وستحاول كل من تركيا وإيران، العمل على تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى خاصة في منطقة بحر الكاسبيان، نتيجة للضعف الروسي، ويكفي حضورها، لكي يؤدي إلى تضمينها في لائحة اللاعبين الجيواستراتيجيين غير أن الصعوبات الداخلية، لكل منهما، تحد من قدراتهما للتوزيع الإقليمي للسلطة، والجهود التي تتجاوز الحد، المخصصة لإبطالها بسبب المنافسة، وسيقلل نفوذهما المتبادل من هامش مبادراتهما. وقد حققت تركيا، نفوذاً ذا دلالة في أذربايجان، وقدم الموقف الإيراني الموجه لخدمة المصالح الروسية على حياء، نتيجة للتحرك في نطاق أقليتها الآذرية.
وتشكل كل من تركيا وإيران محورين جيوسياسيين، مع ذلك، ومن الطراز الأول. إذ تشكل تركيا عامل استقرار في منطقة البحر الأسود كما تشكل حاجزاً، على المحاور المؤدية للبحر الأبيض المتوسط، كما تؤدي خدمة كعامل موازنة مع روسيا في القوقاز، وترياقاً واقياً ضد الأصوليين الإسلاميين ونقطة رُسُوّ للحلف الأطلسي في الجنوب. وتشجع الاضطرابات في تركيا على العنف في جنوبي البلقان، وبالتالي عودة الحضور الروسي إلى الدول المستقلة حديثاً في القوقاز، وتؤدي إيران خدمة أيضاً كعنصر استقرار وإعادة توزيع السلطة في آسيا الوسطى، على الرغم من موقفها الغامض تجاه أذربايجان. وتؤكد إيران على هيمنتها على الجناح الشرقي للخليج العربي /الفارسي، مع رغبتها بالاستقلال، حتى لو ترافق ذلك بالعداء الظاهر للولايات المتحدة، وبالعمل على منع روسيا من تهديد المصالح الأمريكية في منطقة الخليج العربي.
أخيراً، كوريا الجنوبية، المحور الجيوسياسي في الشرق الأقصى، فهي تقدم خدمة كدرع ضد اليابان، من واقع روابطها الوثيقة مع الولايات المتحدة وذلك بردع اليابان عن تشكيل قوة عسكرية ذات استقلال ذاتي، وتسمح بالحد من الحضور العسكري للولايات المتحدة في الأرخبيل. وسيشوش أي تبديل هام في وضع كوريا الجنوبية، سواء عن طريق الوحدة مع كوريا الشمالية، أو الاندماج مع الفلك الصيني، سيشوش من دور الولايات المتحدة في الشرق الأقصى، وبالنتيجة دور اليابان، يضاف إلى ذلك تزيد “الخانة” التي تشغلها كوريا الجنوبية على الساحة الدولية من نموها الاقتصادي، أولاً بأول، وتصبح بالتالي السيطرة عليها أكثر أهمية وقيمة، فأكثر.
وهكذا، فاللائحة المقامة لدور اللاعبين الجيواستراتيجيين، وكذلك لدور المحاور الجيوسياسية، ليس لها صفة الدوام والاستمرار، ولا حتى لها صفة الحزم، ويمكن أن يصبح وضع العديد من الدول، موضع بحث في الظروف الراهنة. فيمكن أن تدخل تايوان وتايلاند وباكستان وربما حتى كزخستان وأوزباكستان في صف المحاور الجيوسياسية، في بعض الجوانب، بناء عليه، ليس هنالك من ذريعة واضحة مع ذلك، تبرر أن لا تشملها تلك اللوائح، لكن سيشكل أي تبدل للأوضاع لأي بلد من تلك البلدان، حدثاً ذو أهمية حاسمة، مما يؤدي إلى تغيير توزيع القوة لكن ليس من المؤكد، بأن ذلك سيؤدي إلى ردود فعل متسلسلة. فقط موضوع تايوان، هو الموضوع الصعب، وإذا اعتبرت هذه الجزيرة على أنها كيان مستقل عن الصين، عندها يمكن اعتبار ذلك استثناءً. فهل يجب أن تلتزم الصين القاريه بإخضاع تلك الجزيرة بالقوة ؟ مطلقة بذلك العمل تحدياً للولايات المتحدة وكذلك قابلية مصداقيتها في الشرق الأقصى، يبدو أن هذا الاحتمال لمثل ترتيب الظروف بهذا الشكل ضعيف للغاية، لكن يجب وضع هذا الاحتمال تحت النظر من أجل ترسيخ سياسة الولايات المتحدة
تجاه الصين.
خيارات كبرى، وتحديات في المستقبل:
سمح تطابق اللاعبين من الدرجة الأولى والأقطاب الأساسية وتوافقهم، بحَصْر المآزق الكبرى التي تجد الولايات المتحدة نفسها فيها في مجابهة معها. وتتركز التحديات الرئيسية المتوقعة التي يمكن أن تبرز في القارة الأوراسية حول خمسة أمور نعرضها فيما يلي:
1-نوع الوحدة الأوربية، وأثرها على الولايات المتحدة وكيفية تشجيعها
2-ما هو المظهر الذي يمكن لروسيا أن تتبناه، والذي يحفظ مصالح الولايات المتحدة، على نحو أفضل؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تضغط في هذا السياق، بشكل أفضل؟
3-إلى أية درجة يمكن للبلقان أن يبرز من جديد في أوراسيا، وكيف يمكن للولايات المتحدة التقليل من أخطار الانفجارات فيه؟
4-أي دور يجب أن يكون للصين مشجعاً لها لتتبناه في الشرق الأقصى، وماذا ستكون عليه النتائج بالنسبة للولايات المتحدة بل أيضاً بالنسبة لليابان؟
5-ما هي التحالفات الجديدة القابلة لأن تتشكل على القارة الأوراسية، والتي يمكن أن تهدد مصالح الولايات المتحدة وما هي الوسائل التي يمكن اللجوء إليها من أجل تجنبها؟
لقد أعلنت الولايات المتحدة، على الدوام، عن تعلقها بالوحدة الأوربية، وقد جرى تأكيد الأساس الدائم لهذا المطلب منذ إدارة الرئيس كندي. وكان ذلك المبدأ يعني “المشاركة” في الاتحاد “على قدم المساواة” ويسجل الموقف الرسمي لواشنطن على دعم ظهور كيان جديد، قوي على نحو كافٍ، في أوروبا من أجل تقاسم المسؤوليات مع الولايات المتحدة من جهة، وكذلك التكاليف من أجل التفرد على سطح الكرة الأرضية، وحماية المصالح المشتركة لكن، ينقص موقف الولايات المتحدة، الوضوح والمنطق، فهل تتمنى واشنطن حقا ًمعالجة الشؤون الدولية على قدم المساواة مع غيرها ، أم أنها تفضل تحالفاً مع أوربا أقل توازناً؟ وهل الولايات المتحدة جاهزة لتقاسم تفوقها في الشرق الأوسط، المنطقة التي ليست أكثر قرباً من أوربا جغرافيا فقط، بل فيها للعديد من الدول الأوربية مصالح حيوية، وتدافع عنها منذ زمن بعيد، وهي مصالح خاصة هامة جداً، ولنذكر على سبيل المثال، القضية الفلسطينية- وما تقوم به الولايات المتحدة حيالها فهي تقدم الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني في جميع المجالات والمستويات وترفض واشنطن، حتى مجرد ابداء الرأي لأي كان، يتعلق بتلك القضية. كما أن هناك خلافات عميقة حول الموقف من العراق- والموقف من الحظر الظالم الذي يتسبب في قتل مئات آلاف الأطفال العراقيين، وتمنع الولايات المتحدة عنه حتى الطعام والدواء، وتعالج الولايات المتحدة مثل تلك الأمور بروح الهيمنة وليس كخلاف بين أنداد.
ويعتبر الأوربيون، فقدان الحماسة تجاه الوحدة الأوربية من قبل الولايات المتحدة، عملية غدر، وغموض في المواقف، خاصة تجاه البلدان التي تتخذ قرارات قد لا ترضى عنها واشنطن في بعض الشؤون الدولية. فواشنطن لم تقم فقط بإضعاف عزيمة لندن للعب الدور المخرب في كثير من الأمور المتعلقة بالاتحاد الأوربي، بل تشجع ألمانيا وتتحيز لها بشكل بارز لتتولى برلين زعامة أوربا –بدلاً من فرنسا- في عملية التوحيد وهذا الايثار واضح، وعلى مشهد من التوجهات التقليدية في السياسة الفرنسية كما لها تأثير على التقاربات التكتيكية الفرنسية- البريطانية التي تتعارض مع المواقف الألمانية. كما أنها تشجب سراً وعلناً، المغازلات التي تقوم بها فرنسا حيال روسيا، والموجهة لموازنة التحالف الألماني – الأمريكي.
ويستوجب ظهور أوربا موحدة- خصوصاً إذا استفاد من دعم بنّاء من جانب الولايات المتحدة ، أن يترافق مع تعديلات هامة على الهياكل الخاصة بمنظمة حلف شمالي الأطلسي، الرابطة الأساسية لنفوذ الولايات المتحدة في أوربا، بل أيضاً الكادر الخاص لحضورها العسكري في هذه القارة، والرهان الحاسم فيها، ولقد انطوى التحالف كمركز هيمنة، إذا استخدمنا حقاً المصطلح الكلاسيكي للعبارة، وقد يصبح قائماً على اتفاق بين شريكين متساويين تقريباً، مع الوحدة الأوربية. ولم تفلح للآن محاولات التسوية الضرورية، في نطاق منظمة حلف شمالي الأطلسي، المستهدفة أن يصبح الدور الأوربي فاعلاً، كما لم تفلح المحاولات لإنشاء قوة أوربية خاصة بأوربا فعلاً وعملاً، وهو خيار لصالح أوربا ولا شك، وبالتالي إجبار الولايات المتحدة على إعادة النظر في تنظيم منظمة حلف شمالي الأطلسي، على أسس جديدة، يكون للكلمة الأوربية مكان في قرارات الحلف، ومن أجل الحد من استعلاء الولايات المتحدة في نطاق الحلف.
باختصار، إذا أرادت الولايات المتحدة إعداد فكرة جيواستراتيجية ملائمة حقاً لأوربا، فعليها مواجهة الوحدة الأوربية، دون تهرب، كما عليها أن تسمح بشراكة حقيقية مع أوربا، وعليها أن تدرك كل ما يعنيه هذا المفهوم، فإذا كانت الولايات المتحدة ترغب حقاً بهذه الوحدة –وبناء على ذلك بأوربا أكثر استقلالية – يجب أن تضع كل ثقلها في الميزان من أجل دعم البلدان ذات الالتزام الأكثر بنجاح التكامل الاقتصادي والسياسي في أوربا – وتقتضي مثل هذه الاستراتيجية، المراهنة ثانية، بشأن آثار التحالف البريطاني – الولايات المتحدة، ذو الأهمية كأمر مقدس منذ زمن بعيد:
كما يجب أن تأخذ السياسة المتلاحمة بالحسبان – وهذا يعني الإشارة إلى إثارة حوار مشترك مع الأوربيين- موضوع عملية توسيع الاتحاد الأوروبي المعقد: خاصة، فيما يتعلق بالمدى الذي يمكن لأوربا أن تتوسع فيه باتجاه الشرق؟ وهل يجب أن تتوافق الحدود للاتحاد الأوربي مع حدود منظمة حلف شمالي الأطلسي؟ فإذا كان الجواب، على السؤال يخص الأوربيين وحدهم، فله مع ذلك توريطات مباشرة مع قرارات منظمة حلف شمالي الأطلسي، وبطبيعة الولايات المتحدة، التي تلعب هذا الدور الراجح حتى هذا اليوم، ويبدو ان توافقاً قد توطد لصالح السماح لشعوب أوربا الوسطى، في الالتحاق بهذين الكيانين – الاتحاد الأوربي ومنظمة حلف شمالي الأطلسي- لكن، يبقى الحوار مفتوحاً، بهذا الشأن، أما ما يتعلق بمستقبل الجمهوريات البلطيقية وأكرانيا، فسيكون انضمامها ضمن أمد ليس بقريب.
ويلاحظ أن الموضوع المشكوك بأمره من الناحية الجيواستراتيجية، هو إعادة البحث فيما يتعلق بروسيا الاتحادية، ويطرح مستقبل هذا البلد، العديد من الأسئلة، ولا يمكن الاكتفاء بالإعلان عن أفضلياتها بالرد عليها في سبيل حل ديموقراطي وتعزيز الروابط الوثيقة مع أوربا. وإنه من المحتمل أن تلعب روسيا دوراً تلتزم فيه بالقيم التي يتقاسمها الأمريكيون والأوربيون. بالنتيجة أن تلعب روسيا دوراً لا يمكن إهماله في سبيل المشاركة في بناء أوراسيا أكثر استقراراً، بحيث تتعاون فيها الأمم المختلفة بشكل أكثر انسجاماً، لكن لا تضع إقامة نظام ديموقراطي في روسيا، حداً للطموحات الروسية الأخرى، بالضرورة، ويستمر المفهوم الراسخ بعمق بين أوساط النخبة الحاكمة “المشكلة بشكل واسع من الكوادر السوفياتية القديمة، في مجال السياسة الخارجية، كما في المجالات الأخرى” بأن لروسيا دوراً عالمياً يجب أن تلعبه، دوراً من الدرجة الأولى، وتقتضي هذه النزعة –تبعية دول جديدة لموسكو، خاصة تلك التي استقلت نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي، وتتجلى بادرة الصداقة من الغرب، في نظر عدد متنفّذ من الطبقة الحاكمة، بأنها طريقة لانكار حق روسيا في وضع دولي متميز، وأنه من المفيد ذكر ما علق به خبيران روسيان في الجيوسياسية:
“بالرغم من أن الولايات المتحدة، والبلدان الأعضاء في منظمة حلف شمالي الأطلسي، تتجنب لحد ما، عمل ما يمكن أن يتسبب في إهانة الشرف الوطني الروسي، إلا أنها تتمسك بتفتت روسيا، وتدمير الأسس الجيوسياسية التي يمكن لموسكو، أن تأمل، نظرياً على الأقل استعادة وضعها كقوة دولية، واحتلالها تلك المكانة التي كانت للاتحاد السوفياتي السابق”.
خصوصاً، فإن الولايات المتحدة مشكوك بنواياها عملياً، تجاه المنظمة الجديدة في الحيِّز الأوربي، وتعمل واشنطن على جعل مجموعة الدول الضعيفة من دول أوربا الشرقية، قابلة للحياة، في هذا الجزء من العالم، مقدمة لها عرضاً للاقتراب من منظمة حلف شمالي الأطلسي، ومن الاتحاد الأوربي أو مؤسسات غربية أخرى.
يعرض هذا التنويه المآزق التي تواجه الولايات المتحدة بشكل جيد. كما يعرض إلى أي مدى تنسجم فيه المساعدة الاقتصادية لروسيا، التي تعزز من قوتها السياسية والعسكرية في يوم ما – مع المساعدة المقدمة للدول المستقلة حديثاً. وهل تستطيع روسيا بالحركة نفسها، أن تصبح قوية وديموقراطية؟ وهل أنها سوف لن تبحث عن إصلاح مجالها الإمبريالي، عندئذ، إذا زادت من قوتها؟ وهل يمكنها أن تزدهر باعتبارها إمبراطورية وكونها ديمقراطية؟
فلا يمكن لسياسة الولايات المتحدة تجاه الأقطاب الجيوسياسية المحسوسة، مثل أكرانيا، أدربايجان، أن تتجنب طرح مثل تلك المواضيع، لكن تتلخص العقبة في الاختيار بين التوازن التكتيكي والنية الاستراتيجية، ويشترط التجديد الداخلي لروسيا، التقدم في عملية الدمقرطة، وأن تصبح أوربية
(EUROPESATION) “أي تتأرّب” وستكون الآثار الناتجة عن استعادة قدراتها الإمبريالية، مشؤومة على هذين الهدفين: الدمقرطة – والتأرّب، وهنا يمكن أن تتولد عنها مشاكل تؤدي إلى خلافات بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية، وستؤثر هذه النتائج – على الاتحاد الأوربي في المقام الأول، وكذلك، على منظمة حلف شمالي الأطلسي، فهل إن ترشيحاً محتملاً لروسيا لواحدة من هاتين المؤسستين، من الأمور التي يمكن مواجهتها؟ وفي هذه الحالة ماهو دور أكرانيا؟ وهل سيكون لاستبعاد روسيا نتائج خطيرة- فهذا سيؤكد التنبؤات الروسية الأشد كآبة – لكن سيكون لإضعاف الاتحاد الأوربي أو حلف الأطلسي آثاراً قوية تتسبب في عدم الاستقرار.
وتحوم شكوك أخرى، في المجال الواسع من آسيا الوسطى، المجرد من السمات الجيوسياسية الراسخة، وتتحرك تلك الشكوك بقابلية التأثر بالمحورين الإقليميين، تركيا وإيران. ويعيش في المنطقة الممتدة من الكريمة، وعلى طول الحدود الجنوبية الجديدة لروسيا، حتى الإقليم الصيني في غرينغجيانغ
(XINJIANG) وتنزل من جديد نحو المحيط الهندي، لتتابع باتجاه الغرب نحو البحر الأحمر، قبل الصعود من جديد نحو الشمال، نحو الهدب الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ثم تنغلق ثانية، على البحر الأسود، يعيش أكثر من أربعمائة مليون من السكان موزعين ما بين خمس وعشرين دولة، وعلى مزيج عرقي وديني غير متجانسين، ومحرومة من الاستقرار في معظمها، ويمتلك العديد من هذه الدول الأسلحة النووية، أو تسعى للحصول عليها.
تحتضن هذه المنطقة، نزاعات متفجرة، سريعة الالتهاب ومحاطة بقوة مجاورة هامة. ويدل كل ذلك على أنه يمكن أن تصبح ميدان مجابهات عنيفة بين الدول/ الأمم. ومن المحتمل أن تصبح مسرحاً لنزاعات عرقية ودينية على نحو أكثر، عسيرة على الحلول وسيحدد الموقف الهندي مدى العداوات، فالهند تمتلك الوسائل لتخويف خصومها الأكثر حباً للحروب، ويمكن أن تختار تأجيج النزاعات إذا وجدت في ذلك مناسبة للتأثير على الباكستان، كما سيؤثر تفاقم التوتر الداخلي في كل من تركيا وإيران، على دورهما في عملية الاستقرار، لحد ما، وسوف لن تُسهّل مثل هذه التطورات تكامل الدول الجديدة في آسيا الوسطى، مع المجموعة الدولية، كما ستؤثر على الأمن في منطقة الخليج العربي الفارسي، الذي سيبقى في دائرة اختصاص الولايات المتحدة، ويمكن للولايات المتحدة، مثلها مثل القوى الإمبريالية الأخرى، أن تُصبح مجابهة في المنطقة، وتدخل في نزاع على نطاق أقوى بكثير من تلك الحرب التي جرت في يوغوسلافيا السابقة.
وتستغل الأصولية الإسلامية والنزعة القومية المتزايدة، اللتان توجهان الاتهام للغطرسة والهيمنة الأمريكية في المنطقة لحماية مصالحها الجشعة، والتي تشكل عامل عدم، استقرار فيها، خاصة في دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكذلك دعمها لبعض الأنظمة في المنطقة، على حساب المصالح القومية، مما يؤدي إلى تفجرات من حين لآخر تزعزع استقرار تلك المنطقة الحساسة من العالم. غير أنه مع غياب سياسة متلاحمة في معظم دول المنطقة، لتصبح قادرة على فرض سيطرتها على التيارات المختلفة، وغياب الديمقراطية، كل ذلك يقود أيضاً إلى احتكاكات تؤثر أيضاً على الاستقرار في تلك المنطقة، فالتحدي الذي تمثله النزعة الأصولية، الدينية أو القومية، لا يشكل تحدياً استراتيجياً مطلقاً من وجهة النظر الجيوسياسية، بل يجب البحث جدياً عن أسباب العنف المنتشر ومعالجتها.
هذا، وتفرض القوة التي تتمتع بها الصين، مسائل جيواستراتيجية حاسمة، مع ذلك، لا يمكن استبعاد الاحتمالات الأكثر تفاؤلاً، مثل احتضان الصين للمبادئ الديمقراطية، وتطبيق قوانين السوق وعندها ستندمج الصين مع ميثاق تعاون إقليمي، لكن لا شيء يضمن أن يترافق نموها الاقتصادي، وتعزيز قدراتها العسكرية، بدَمَقْرَطةٍ واسعة، ومهما تكن الحسابات والمناورات المعروضة ما من أحد من جيرانها، لن يكون على قدرة لمعارضة (صين عظمى)، يضاف إلى ذلك، النزوع لدى بعض دول المنطقة إلى خلق النزاعات والتوترات. مع ذلك سيكون لمثل تلك الأوضاع نتائج خطيرة، خاصة على العلاقات الأمريكية – اليابانية، إذ من المحتمل، ولو قليلاً للآن، أن لا تقف طوكيو في الصف الأمريكي، إذا قررت معارضة الطموحات الصينية. ويمكن لمثل ذلك الموقف، أن يؤدي بطوكيو لمراجعة رؤياها ودورها بشكل جذري في المنطقة وبالتالي العمل على إنهاء الوجود الأمريكي في الشرق الأقصى.
فإذا أريد التعامل مع الصين يجب القبول عندئذ بدفع الثمن. وسوف لن تكون الموافقة على ذلك، وقبول فرض هيمنتها، مقتصرة على افتراض ما يُطلب إثباته، بل ما هي الحقائق التي تؤكد على تفوقها؟ بل السؤال الأكثر وضوحاً، ما هو فلك النفوذ المتضمن بلداناً، ويبقى مقبولاً للولايات المتحدة، وملائماً في الوقت نفسه لاندماج الصين في الاذعانات الدولية؟ وما هي التنازلات التي يمكن أن يُوافق عليها من قبل الإمبراطورية السماوية المتجددة؟
في هذا السياق، تكتسي المحافظة على الوجود الأمريكي في كوريا الجنوبية، أهمية حاسمة، وبدلاً من ذلك، يتوجب مواجهة مراجعة الاتفاقيات العسكرية الأمريكية – اليابانية، من أجل أن يعهد لطوكيو بالوسائل اللازمة لدفاعها. وكل حركة تستهدف صالح توحيد كوريا، قابلة لأن توجه الاتهام للوجود العسكري الأمريكي على شبه الجزيرة الكورية، ويمكن التفكير أيضاً باحتمال أن تختار كوريا الموحدة الاستغناء عن الحماية الأمريكية، ولم لا، أن لا يكون هو الشرط للثمن المُعْلَن من قبل الصين، بدلاً عن دعمها القاطع لإعادة الوحدة، وعندها يتوجب على الولايات المتحدة، أن لا تنسى، وبكل وضوح أنه سيكون للسلوك بشأن علاقاتها مع الصين – نتائج خطيرة على الاستقرار والأمن الأمريكي- الياباني- الكوري، بشكل محتوم.
لإنهاء هذا الأمر، لنتذكر أيضاً، احتمال تحالف أطراف من بلدان مختلفة فكان يهيمن على الشؤون الدولية في الماضي، القضايا بين دولة ودولة، إلى حد كبير، وتبحث كل دولة عن ضمان لها بالوصول إلى الهيمنة الإقليمية، لهذا، من المحتمل أن تواجه الولايات المتحدة تحالفات إقليمية، تستهدف دفع أمريكا خارج القارة الأوراسية، وهذا ما يؤدي إلى تهديد وضعها كقوة شاملة، وإننا نستطيع أن نشير منذ الآن، أن ظهور تحالفات من هذا الطراز، سيعتمد على الطريقة التي سوف تصمم طبعاً للبراهين التي أتينا على ذكرها، على نطاق واسع.
وسيمثل السيناريو الثاني خطراً قوياً جداً ولادة تحالف كبير، يضم الصين مع روسيا، وربما إيران – ليكون تحالفاً موحداً ضد “هيمنة الولايات المتحدة” وكان في الماضي هذا الاحتمال ضعيفاً عن طريق الصلات الأيديولوجية مع أنه مشابه الآن من حيث الاتساع والمدى لما كانت عليه الكتلة الصينية – السوفياتية. لكن سيكون موجهاً هذه المرة من قبل الصين. ولتجنب هذا الاحتمال اليوم يجب على الولايات المتحدة، بسط كل مهاراتها الجيواستراتيجية على جزء كبير من المحيط الأوراسي، خاصة إلى الغرب على الأقل، وإلى الشرق وإلى الجنوب.
كما سيكون لمحور صيني –ياباني، مع أنه أقل احتمالاً، ثقلاً أكثر من حيث آثاره. وإنه لن ينبثق إلا عند ظهور بداية انهيار التفوق الأمريكي في الشرق الأقصى، وبالتالي، إعادة في توجه السياسة الخارجية اليابانية. وسيسمح مثل هذا المحور، تبرير وحدتها، التي ستقوم على العقيدة “الآسيوية” ضد هيمنة الولايات المتحدة بمشاركة شعبين ديناميين جداً. مع ذلك، يجب النظر إلى المستقبل بشكل سيِّئ، خاصة إذا نجح هذان البلدان، في صرف النظر عن نزاعاتهما التاريخية لتشكيل تحالف بينهما. وسوف يتوجب على واشنطن أن تتمكن من حماية نفسها من مثل هذه التوقعات، إذا كانت تريد لعب دور الحرص والبصيرة في الشرق الأقصى.
كما لا يمكن استبعاد نشوء تحالفات في أوربا، على الرغم من كونه بعيد الاحتمال، كما يبدو اليوم، وقد يكون التحالف مثلاً على شكل ميثاق ألماني –روسي، أو اتفاق فرنسي- روسي، وتعرف سوابق مماثلة مشهورة، وستكون الفرضيتان معقولتان، إذا قضت التعقيدات على الوحدة الأوربية، إذا استعصت على أي حل، أيضاً إذا فسدت العلاقات بين أوربا والولايات المتحدة، بشكل خطير، فهل يمكن تخيل إمكانية التوافق بين أوربا الغربية وروسيا، يستهدف طرد الولايات المتحدة من القارة كلها، لكن لا تبدو إمكانية حصول تغييرات كبيرة في الظروف الراهنة، محتملة، ويجب على الولايات المتحدة، أن لا ترتكب سلسلة من الأخطاء الكبيرة، لكن يجب أن يعاد النظر في السياسة الأوربية من جديد، تكون فيها شريكاً للولايات المتحدة، على قدم المساواة.
ومهما يكن المستقبل وما يخبئه، يمكن أن نستخلص، على نحو معقول، أن أولوية الولايات المتحدة في القارة الأوراسية، ستكون خاضعة إلى اضطرابات قوية، حتى قد تصل إلى المجابهة مع حوادث عرضية من العنف ويمكن أن يتسبب طامعون جدد، أو تحالفات جديدة بجعل موقع الولايات المتحدة ومكانتها، قابلة للتأثر، فالنظام الدولي الذي تمارس فيه الولايات المتحدة دوراً مهيمناً، وتجعل من التهديد المسلح وسيلة سوف لن يؤدي إلى الاستقرار. وإذا دام زماناً، فسيكون دوامه في أجزاء من العالم، بسبب الأولويات الأمريكية الموجهة فقط للتوقعات الجيواستراتيجية، على المدى الطويل، وعلى الولايات المتحدة الاعتماد على أنظمة اجتماعية وسياسية مشروعة عندئذ من أجل أن تخفف من العداوة الرئيسة ضدها. كما سيكون مثل هذا الأمر مشروطاً، في أن تندمج الدول في مجموعات متعددة الجوانب وتعيد الارتباط فيما بينها.
¡ الهوامش:
(1) صامويل ب هانتغتون “لماذا الشؤون الدولية أولاً” الأمن الدولي، ربيع عام 1993-
ص(83).
(2) روي دنمان ROY DENMAN (الفرص الضائعة) لندن، كاسل 1996.
(3) روبرت سكيدلسكي ROBERT SKIDELSKI “بريطانيا العظمى، وأوربا الجديدة”، من الأطلسي إلى الأورال، دافيد ب كاليو DAVID P. CALLEO وفيليب هـ غوردون، PHILIP H. GORDON طبعة أرلينغتون، فرجينيا 1992 ص(145)
(4) آ بوغاتوروف A. BOUGATOUROV وف كرفيوك V.KREME NJOVK “بروفيسور في معهد الولايات المتحدة وكندا” “الوضع الحالي وتوقعات العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة” في مجلة “NELAVISMAYA GAZETA” 28 حزيران 1996.