دراسات استشرافية

المشهد الدولي وصراعات الاتجاهات الاعظم

وليد عبد الحي

من بين مشكلات الدراسات المستقبلية في جانبها المنهجي هو تحديد ما يسمى المحرك او السائق(Driver)، اي المتغير الذي يؤثر في بقية المتغيرات اكثر من غيره ، ويتم تحديد هذا المتغير من خلال ما يسمى مصفوفة التأثير المتبادل(Cross Impact Matrix)، ويبدو لي ان اغلب الباحثين في هذا الميدان يميلون في نتائج مصفوفاتهم(وقد اكون من اكثرهم ميلا) لاعتبار التكنولوجيا هي هذا المحرك، مع ضرورة تحديد مفهوم التكنولوجيا ، فهي تعني تطور ألات الانتاج وانماطه ومناهج التفكير وفلسفة المعرفة ومفاهيمها اللغوية”، فهل يمكن الفصل مثلا بين تطور مناهج البحث وبين تطور التكنولوجيا، وبالمقابل كيف يمكن الفصل بين التكنولوجيا وبين تناقص معدلات الانجاب بعد االاثبات الاحصائي بان هناك علاقة ارتباط وثيقة بين مستوى التعليم وبين تناقص عدد افراد الاسرة الواحدة؟ وهكذا كلما انتهجت التنبؤ العكسي(Back cast) او انتهجت طرائق الاسقاط(Projection) والانحدار(Regression) تجد ان التكنولوجيا بمفهومها الكلاني (Holistic) تُطل من ابواب الظاهرة او نوافذها او تتوارى خلف الجدران.

فاذا انغمسنا في عدد من الاتجاهات الاعظم(Mega-trends ) في الحياة الدولية بتفاعلاتها وقطاعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتقنية والفلسفية، سنجد الكلانية شاخصة في اثبات أن تفاعلات هذه القطاعات تنتج معطيات ليست في اي منها (كالماء فيه خواص ليست في مكوناته المنفردة) فالكل اكبر من مجموع الاجزاء، وهنا تبدو مشكلة المنهج التجزيئي (Reductionism ) في رسم صورة البنية الدولية استنادا لكل قطاع على حدة دون التنبه للتاثير المتبادل بين القطاعات وتباين تسارعها من قطاع لآخر ومن دولة لأخرى ومن اقليم لآخر.

ما هي الاتجاهات الاعظم الاكثر تداولا في الدراسات المستقبلية لرسم صورة المستقبل حتى عام 2030؟

اولا: تسارع التطور التكنولوجي تسارعا خطيا كما يرسمه المنحنى السوقي وتباين الفرق بين الدول والمجتمعات والافراد من حيث القدرة على التكيف مع هذا التسارع،مما يفتح المجال للاضطراب وتحديد مستوياته طبقا لمستوى القدرة على التكيف.

ثانيا: التحول في اسواق الانتاج والعمالة مما نتج عنه تزايد شرائح البطالة وتزايد سوء توزيع الدخل بين الامم وداخلها،وتكاد ان تكون هذه ظاهرة شبه عامة ، ولكنها مرتبطة بالتكنولوجيا التي تغير من انماط الانتاج وأدواته مما يحيل فئات عاملة من المركز الى الهامش الصناعي او حتى خارج الهامش، ورغم ارتفاع اجمالي الناتج المحلي العالمي من 50 تريليون دولار عام 2000 الى 75 تريليون عام 2016 الى 96 تريليون مع بدايات 2023، فان مؤشر غيني(Gini index) يشير الى فروق واسعة في نصيب الشرائح الكبرى من السكان من الثروة وهو ما يعزز الاضطراب.

ثالثا: تغيرات المناخ نتيجة تسارع التصنيع والتكدس الحضري(12% من سكان العالم حاليا(اي حوالي مليار نسمة) يعيشون في مدن يفوق سكان الواحدة منها 10 ملايين نسمة) ونتيجة التغير في انماط الحياة، مع ميل الى ارتفاع استهلاك الطاقة بمعدل 1.7% سنويا حتى عام 2030، ناهيك عن تاثيرات التجارب النووية ومختبرات التجارب البيولوجية العسكرية والمدنية ونهب باطن الارض بحثا عن النفط والمعادن المختلفة، مما يغير من تركيبة الصفائح الجيولوجية ويفتح المجال امام الزلازل والاعاصير وغيرها من الكوارث الطبيعية.

رابعا: تزايد الترابط التقني والاقتصادي وتنامي التفسخ الاجتماعي وخلخلة مركزيات النظام الدولي: ويكفي اعطاء مؤشرات على ذلك:

1- 75% من سكان العالم سيرتبطون بالانترنت في بيوتهم او سياراتهم او اجسادهم حتى عام 2030، وسيكون هناك 125 مليار جهاز مرتبطة جميعها بالانترنت مقارنة ب 27 مليار عام 2017، وسيرتفع عدد المسافرين بين الدول من حوالي 4 مليار عام 2017 الى اكثر من 11.5 مليار عام 2036 بكل ما لذلك من تداعيات ثقافية واجتماعية واقتصادية بل وبيئية.

2- تزايد التفسخ في البنيات الاجتماعية : فلو حسبنا مساهمة العمليات الارهابية التي تقف خلفها حركات سياسية انفصالية سنجد انها تشكل 67% من العمليات، مقابل 16% لما يسمى تنظيمات جهادية و 12% لحركات يسارية و 5 % لحركات يمينية فاشية، وكلها تشير الى تفسخ اجتماعي قسري.

3- حجم الترابط التجاري : فخلال الفترة بين 2000 و 2020 تضاعف التبادل التجاري بين دول العالم 3 مرات ، لكن عدد القيود التي تفرضها الدول على تدفق السلع والخدمات لنفس الفترة زاد بحوالي ستة اضعاف او ما سماه البعض ظاهرة التباطؤ slowbalization).) في مواجهة العولمة، ولكن هذا التباطؤ لا ينفي التزايد، بل يحدد سرعته.

4- النزوح التدريجي للاقتصاد العالمي من الغرب الى آسيا، فلو قارنا بين القوى الكبرى سنجد الأتي :

أ‌- تراجع نصيب الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي من 27.5%(عام 2000) الى 22.6%( عام 2015) الى 20.2( عام 2030 استنادا لاسقاط الاتجاه الأعظم على السنوات السبع الباقية)

ب‌- اما اوروبا الغربية فتراجعت لنفس السنوات من 20.9 %الى 14.9 % الى 12.2%

ت‌- بالمقابل ارتفع نصيب الصين (نفس الفترة) من 8% الى 19.6% الى 23.7 %

ث‌- اما اليابان من 4.4% الى 6.1% الى 8.8%،

ج‌- فاذا اضفنا الهند من 4.2% الى 6.9% الى 10%

ح‌- اما روسيا فانتقلت من 3.4% الى 3.8% الى 3.6%…

ذلك يعني انه في عام 2030 سيكون نصيب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية(المركز الصناعي التقليدي) 32.4% مقابل 46.1% للقوى الاسيوية المركزية الصاعدة، فاذا اضفنا الى ذلك حجم الدين العام(دون الخاص) نجد ان معدلة لاوروبا والولايات المتحدة واليابان يصل الى 119.5% بينما في الصين 71.5%، وفي الدول النامية 48.7%( حوالي 124 دولة نامية).

مؤشرات اولية على المستقبل:

من العسير في المستقبل أن تتمكن دولة بمفردها من مواجهة التحديات العالمية الكبرى. نتيجة لذلك ، ستعتمد أهمية الدولة على قدرتها على نشر مجموعة متنوعة من الآليات للتأثير على القرارات السياسية للدول الأخرى ، بدلاً من مجرد القدرات الأولية التي تمتلكها تحت تصرفها. المحددات الرئيسية لذلك ستكون هي عدد ونوعية العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. وسيتم تحديد النفوذ من خلال التجارة وتدفقات المعونة وليس القوة الاقتصادية في حد ذاتها ، ومن خلال نقل الأسلحة والتكنولوجيا بدلاً من حجم الإنفاق العسكري. وعلى نفس المنوال ، فإن عضوية المنظمات والتحالفات الدولية ستشكل رأسمالًا ، كما ستزداد القوة الناعمة والقدرة على إلهام الآخرين من خلال تطوير تكنولوجيا التلاعب بالبنيات السيكولوجية للافراد وتوجيهها باتجاهات يتوهم اصحابها انها من بنات افكارهم.

من جانب آخر، هناك موضوع العنف والحروب، فعلى الرغم من تراجع عدد الحروب “بين الدول” الا ان المعطيات تشير الى حرب واحدة على الاقل كل عشر سنوات بين القوى الكبرى برا او بحرا او جوا او حربا سيبرانية، اما الحروب الاهلية فاما ان تبقى بمعدلها الحالي او انها ترتفع لتصل الى 40 حربا اهلية في العام، اي ان نسبة الدول التي ستشهد حروبا اهلية ستكون عام 2030 حوالي 12% من دول العالم، فإذا اضفنا الى ذلك أن هناك الان 50 دولة هشة يقطنها 1.4 مليار نسمة، سيرتفع عدد سكانها عام 2030 الى 1.9 مليار و 2.6 مليار عام 2050، وسيكون اغلب هذه الدول في افريقيا جنوب الصحراء، فاننا نستطيع تحديد المناطق الملتهبة القادمة، واذا كانت العناية الامريكية ستتركز على حوض الهادئ بشكل رئيسي، فان تركيز اوروبا مستقبلا سيكون على نقطتين هما شرق اوروبا والشرق الاوسط، بينما سيبقى ما يسمى الجوار القريب هو الشغل الشاغل لروسيا.

فاذا كانت التكنولوجيا بمعناها الواسع هي المحرك او السائق نحو تحديد شكل المستقبل لكل اقليم جيو سياسي او جيواستراتيجي ، فيمكن لنا تخيل موقع المنطقة العربية مستقبلا لمجرد معرفة انها المنطقة التي تعد واحدة من اقل مناطق العالم انفاقا على البحث العلمي وبخاصة في المجال التكنولوجي… وبدون ربما

5/5 - (22 صوت)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى