دراسات سياسية

تبلور الفكر السياسي اليوناني

من السفسطائيين إلى أفلاطون وأرسطو

أ – الارضية التاريخية، الاجتماعية والسياسية لديموقراطية آثينا.

يتعذر تقديم اسهام السفسطائيين، ومن بعدهم آراء أفلاطون وأرسطو السياسية، في تطور الفكر السياسي اليوناني، دون الحديث عن ديموقراطية أثينا ومستجدات آثارها، الايجابية والسلبية، في المجتمع الآثيني، واليوناني بشكل عام. ولكي نذرك طبيعة مستجدات نظام الحكم الديموقراطي في آثينا، ينبغي لنا، قبل ذلك، التذكير بنوعي انظمة الحكم، التي عرفها اليونانيون قبل نظام الحكم الديموقراطي الآثيني(1).

ولذلك يحسن بنا تخصيص درسين تمهيديين، نعرض على ضوئهما بعد ذلك، أفكار أهم ثلاث مدارس في الفكر السياسي اليوناني؛ نعني بذلك أفكار السفسطائيين السياسية ومبادئهم الفلسفة، وأفكار كل من أفلاطون و أرسطو السياسية وخلفياتها الفلسفية ايضا.

يشفع لنا في ذلك أمران:

أولاهما: تفادي تقديم أفكار ونظريات سياسية للطلبة مجردة عن تاريخيتها، مما يجعلها تدرك لديهم أفكارا صماء، من اختراع عقول منظريها، أي محض منافسة عقلية بين المفكرين منزوعة عن أغراضها العملية، وعن تأثيرها في حركة التاريخ الاجتماعي والسياسي وتأثرها هي نفسها بها.

ثانيهما: التأكيد على ان الديموقراطية الآثينية، التي شكلت الأرض الخصبة التي تبلور في ظلها الفكر الفلسفي والسياسي اليوناني، طيلة قرنين من الزمن (600/400 ق م)، لم تأت من فراغ سياسي، بل كانت نتيجة مسار تطور سياسي طويل، أفرزته حقب تاريخية متعاقبة، متواصلة التأثير في بعضها، استمرارا وقطيعة.

لذلك رأينا تخصيص درسين لهاذ الغرض؛ درسنا هذا، وقد افردناه للحياة السياسية في العصرين السابقين للعصر الكلاسيكي اليوناني، أي عصر ظهور “دولة المدينة”؛ والدرس الثاني القادم سوف نتطرق فيه إلى خصائص الديموقراطية الآثينية، وإسهامها في بلورة الفكر السياسي اليوناني، في العصر الكلاسيكي؛ أي، فكر السفسطائيين وأفلاطون وأرسطو.

يؤكد مؤرخو الفكر السياسي اليوناني، أن فهم التجربة السياسية اليونانية في هذه المرحلة، مرهون بتوضيح تطور المجتمعات اليونانية فيها، على نحو يختلف عن كثير من المجتمعات الأخرى؛ أي بتوضيح خصوصية تطور المجتمعات اليونانية في المرحلة الكلاسيكية من التاريخ اليوناني. وهي الخصوصية التي ارتبطت بما عرف بـ “دولة – المدينة”، التي سماها اليونانيون “Polis”. وهو نظام سياسي لم تظهر معالمه في الفترة ما قبل العصر الكلاسيكي، ولم يستمر أيضا في العصور اللاحقة بعده.

ففي المراحل المبكرة، وهي مراحل عصر “حضارة موكيناي – Mycenae أو موسيناي – “(1) الممتد فيما بين 1600 – 1200 ق م، لا يملك المؤرخون عنها من المعلومات، سوى معلومات قليلة نسبيا وجزئية؛ تتمثل في الآثار المادية ونحو ستمائة وثيقة مكتوبة، معاصرة لتلك المراحل؛ متبقية في قصر مدينة”بيلوس – pylos”(2). إضافة إلى الملحمتين الشهيرتين الإلياذة والأوديسه، المتضمنتان لأهم المعلومات المكتوبة؛ المتبقية عن أقدم مراحل التاريخ اليوناني، وعن فكرها السياسي.

فالصورة العامة التي أمكن جلاؤها من هذه المصادر، تشير إلى انه قد ساد اليونان في تلك المراحل عدد من الممالك المستقلة نسبيا، إذ كانت جميعها مرتبطة بنوع من التبعية لدولة “موكيناي Mycenae” والولاء لها، بحكم تفوقها على سائر تلك الممالك وزعامتها عليها. وكانت كل مملكة من هذه الممالك يتمركزها قصر محصن؛ هو مقر الاسرة المالكة وحاشيتها. ومن أهم هذه القصور الملكية، ما عثر عليه في إقليم موكيناي ذاتها، إضافة إلى قصور بيلوس Pylos وتيرنس Tiryns وإسبرطة Spart وآثينا Athenes وطيبه Thèbes وكنوسوس Knossos في جزيرة كريت.

ويبدو من خلال هذه المصادر، أن الطبقة الحاكمة في هذه الممالك، عاشت في رخاء بلغ حد البدخ؛ بفضل ما حققوه من ثروة فاضت بها تجارة عالمية، أقاموها مع كل من مصر وسورية وفلسطين وآسيا الصغرى وقبرص. ويذكر المؤرخون أيضا، ومن خلال وثائق الكتابة الخطية الثانية، أن الأسر المالكة تحكَّمت، في رعاياها في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ اليونان، من خلال تنظيم إداري محكم.

ولكن، نظام هذه الممالك، ورخاء أسرها الحاكمة وفاعلية نظام حكمها الإداري، بلغ نهايته، بعد حوالي اربعة قرون من السيادة. إذ لم يكد القرن الثاني عشر قبل الميلاد يبدأ، حتى تتابعت أحداث مهولة – يتعذر علينا تتبع مراحلها المختلفة والتأكد من تفاصيل أحداثها ومعالمها بدقة – وضعت حدا لجميع هذه الممالك، ولعصر موكيناي نفسه ولمعالمه الحضارية . أهم هذه الاحداث، كما تدَوِّن المصادر الأسطورية، هي:

أولا: حروب “طروادة الدَّروس (Guerre de Troie)، التي خاضتها شعوب موكيناي اليونانية ضد دولة طروادة وحلفائها في آسيا الصغرى؛ وهي الحرب التي خلدها الشاعر هوميروس، كما ذكرنا، في ملحمته الشهيرة “الإلياذة”. فرغم انتصار اليونانيين في هذه الحرب الطويلة (عشر سنوات كما تذكر الاسطورة)، إلا أنها أنهكتهم وشتتت وحدتهم، التي عرفوها تحت سيادة دولة موكيناي وزعامتها.

ثانيا: ككل حرب طويلة مدمرة، تكون عواقبها وخيمة دائما، أعقب حرب طروادة اضرابات وهجرات بشرية شملت جميع مراكز الحضارة في شرق البحر المتوسط، في اليونان وآسيا الصغرى وسورية وفلسطين ومصر. أما في اليونان، موضوع هذا الدرس، فقد اجتاحتها موجات ضخمة من الغزاة، شكلتها القبائل الدورية المتبربرة (Invasions Barbares)، التي جاءت على دفعات متتابعة، على مدى قرنين من الزمن تقريبا، وكانوا من القوة والقسوة بحيث قضوا تماما على أكثر السكان السابقين؛ من قُتل ومنهم من لاذ بالفرار والهحرة، أو تحول إلى الرق (عبيد) عند الأسياد الجدد.

ثالثا: في ظل هذه المرحلة الجديدة من تاريخ اليونان؛ مرحلة الغزاة الجدد والهجرات الداخلية، سادت الأمية، حتى صار من المألوف، بل من الطبيعي أن يسمي المؤرخون فترة القرون الاربعة، الممتدة فيما بين 1200/800 ق م ، بعصور الظلام في تاريخ اليونان. وبسبب اختفاء الكتابة في هذه المرحلة، صار يكاد يكون من المتعذر معرفة تاريخ دقيق بمعنى الكلمة لها؛ سوى ما يستمد من انطباعات عامة وغير دقيقة، من أشعار هوميروس(1).

ومع ذلك، فقد سمحت الأشعار الهومرية للمؤرخين، من استجلاء صورة عامة لإحدى مراحل التطور، منذ سقوط عصر موكيناي. حوالي 1200 ق م. وهي مرحلة نهاية عصر الظلام الممهدة لعصر اليونان الجديد؛ عصر الإصلاح، الذي سبق ذكره، بداية القرن الثامن (800 ق م)، انطلاقا من مدينة ديلفي. صورة عامة تصف مجتمعا ملكيا أقل وضوحا ونضجا، من ذلك التنظيم الاجتماعي والسياسي السابق، الذي كشفت عنه والوثائق المخطوطة الثانية (Linear B). ولكن يمكن القول: إنها ملكية ضعيفة غير محكمة الاركان بعد، ملكية مشرفة على تحوّل إلى سيادة أُسَرٍ ارستقراطية، سمي نظام حكمها الجديد بها. فالانقسام الطبقي، الذي حصل في ظل سيادتها، إلى حكام ورعية، أو أشراف وعامة، إنقسام واضح المعالم فيها كل الوضوح؛ وتشمل الإلياذة أكثر من شاهد يمثل ذلك الانقسام الطبقي(2).

ولكن، ليس ما يهمنا، في سياق درسنا هذا، هو هذا الانقسام الطبقي كتفاوت اجتماعي في حد ذاته، وإنما آثاره السياسية. فهو، إن كان يعبّر عن الوضع الاجتماعي، في فترة التحول من الملكية إلى حكم الأشراف أو الارستقراطيين (أي، نظام الحكم الارستقراطي)، ويصوره بموضوعية، فإن الانطباع الذي تكوّن لدى هوميروس، هو شدة الاحساس بالانتماء الطبقي الذي لاحظه عند الناس (أي، الوعي به). فالارستقراطي الشريف شاعر بغناه واع بمكانته الاجتماعية المتميزة، والفقير حاسٌ بفقره ايضا دارك لوضعه. وهذا الاحساس بالانقسام الطبقي سوف يستمر وجوده ويزداد تأثيره في الحياة السياسية ومسار حركتها في اليونان، بعد زوال عصر الظلام. كما جاء في الإلياذة ذكرٌ لنوع من التنظيم السياسي البسيط ساد العصر الملكي، تمثل في “مجلس شورى”، مكون من كبار الأشراف (Boulè)(1)، ومن اجتماع العامة. إلا أنه شكل، رغم بساطته ومحدوديته، نواة لتطور سياسي في النظم السياسية اللاحقة، التي ستعرف بها دولة المدينة بعد ذلك؛ أي في العصر الكلاسيكي، الذي ننتقل الآن إلى التذكير، باختصار شديد، بأهم معالمه ومحطاته. وذلك تمهيدا لتحديد شروط ظهور النظام الديموقراطي في آثينا وفهم أسبابه، وتأثير كل ذلك في بلورة الفكر السياسي عند السوفسطائيين وافلاطون.

خصائص العصر الكلاسيكي التاريخية والسياسية:

بظهور القرن الثامن قبل الميلاد، بدأت رؤية تاريخية جديدة تبرز في أفق اليونان الفلسفي والسياسي؛ حيث نجد أن خريطة بلاد اليونان السياسية قد تغيرت تغيرا كبيرا، عما كانت عليه في عصر الظلام الفكري، الذي ساد اليونان لمدة اربعة قرون كاملة (1200/800 ق م)، كما ذكرنا.

فقد زال النظام الملكي من معظم بلاد اليونان، وحلت مكانه مجتمعات سادت عليها مجموعة من الأسر الارستقراطية، ذات الشرف والنسب العريق، كانت هي نفسها غير مستقرة بعد. وفضلا عن ذلك زاد عدد الكيانات أو الوحدات السياسية المستقلة، أكثر من أي وقت مضى. وهذا التنظيم الجديد الذي برز في اليونان؛ القائم على كثرة الكيانات السياسية المستقلة، هو تنظيم “دولة المدينة” (Polis)، التي اشتهرت بها اليونان في عصرها الكلاسيكي. فيما بين القرن الثامن ونهاية القرن الرابع ق م.

ويرى المؤرخون أن انعدام الأمن الذي احدثته الغزوات الدورية على بلاد اليونان، ربما كان وراء إحداث هذا التشتت الكبير بين اليونانيين، وانقسامهم إلى كيانات سياسية مستقلة بعضها عن بعض. وذلك بعد ان أصبح أمن كل مجتمع؛ مهما صغر حجمه، أمنا منفردا عن أمن الآخرين، وشغل سكان هذا المجتمع أو ذاك وحدهم؛ في ظروف غياب سلطة مركزية ترعى أمن الجميع عند الضرورة، في كل مكان من اليونان. أما العامل الجغرافي(1) فكان له دوره أيضا في هذا التشتت، أو على الأقل في تعزيز ذلك والإسهام في تكريسه.

وبصرف النظر عن أي العاملين، كان له الدور الحاسم في ذلك، فإن هذا الانقسام سرعان ما تدعم و ترسخت قواعده في نظام “دولة المدينة”، في عصر اليونان الكلاسيكي؛ حيث طُبِعَ الفكر السياسي اليوناني بطابعه، واعتقدوا، مع مرور الزمن، بأنه نظامهم الطبيعي، وأنه يمثل أرقى نموذج للمجتمع الإنساني المتحضر (أي، نظام عالمي بمفهوم ذلك الوقت للعالم). وأكبر دليل على ذلك من أن اليونانيين لما هاجروا، وانتشروا على شواطئ البحرين الابيض والأسود، نقلوا معهم نظام “دولة المدينة” إلى بيئات جغرافية مختلفة لم تفرض طبيعتها الانقسام على أهلها ولم يعرفوه. وحين كتب كبار فلاسفة اليونان ومفكريهم؛ أمثال أفلاطون وأرسطو، خلال القرن الرابع قبل الميلاد، في الفكر السياسي وأفضل نظمه المأمولة، تناولوه من منظور الدويلة اليونانية وفي إطارها؛ أي في إطار نموذج “دولة المدينة – “، ولم يتجاوزوا ذلك النموذج من التفكير السياسي لنظام دولة المدينة، بأي حال من الأحوال.

سبق وذكرنا أن عصر الظلام اليوناني، عرف في فترة منه نوعا من الحكم الملكي، سرعان ما تحول؛ تحت تأثير تطورات اقتصادية وسياسية غير معروفة بالتفصيل، نظرا لقلة الوثائق الخاصة بتلك الفترة، تحول إلى حكم الارستقراطية. ولكن، مع ذلك فإن الانطباع السائد عند المؤرخين حتى الآن، هو أن هذا التحول لم يكن مقرونا بأي مظهر من مظاهر العنف الاجتماعي أو السياسي. ففي مدينة آثينا، موضوع درسنا هذا، يبدو ان صلاحيات الملك انتقلت تدريجيا وعلى مراحل، إلى أرباب المناصب السياسية الجدية من الارستقراطية. وليس أدل على هذا الانتقال السلمي المتدرج للحكم في آثينا؛ وفي غيرها من بعض المدن اليونانية الأخرى، من استمرار إطلاق لقب (ملك – Basileús) على أحد المناصب الرئيسية المنتخبة(1) في آثينا، وفي غيرها من المدن اليونانية، بعد سقوط الملكية نهائيا.

وقد أفسح هذا التحول السلمي لنظام الحكم في اليونان، لمزيد من الأسر المغامرة النشطة، التي حققت إلى جانب الأرستقراطيين ثروات كثيرة. وقد سئمت هذه الطبقة الجديدة من الأثرياء أن تظل محرومة من مناصب الحكم، بسبب عدم تمتعها بشرط الانتساب إلى الأسر الشريفة العريقة. ولذلك فإن هذا الوضع، غير المريح سياسيا لهذه الطبقة الجديدة من الأثرياء، ما كان له أن يستمر طويلا. بل سرعان ما بدأت المدن اليونانية تعاني مرة ثانية من سلسلة من الأزمات على مدى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد.

ففي القرن الثامن ق م، حدث تلاحم بين الارستقراطية القديمة وفئة هؤلاء الاثرياء الجدد وأسرها. وهكذا أصبحت معظم المدن اليونانية تحكمها طبقة جديدة، تتميز بالثراء بصرف النظر عن شرط النسب الشريف، أطلق على حكمها، اصطلاحا، “أوليغارشيا – Oligarchie”(1). وقد حرصت هذه الطبقة الجديدة على تعميم سيطرتها على المجتمع وتعميقها، بزيادة ملكيتها للأرض، التي كانت لا تزال مقياس الثروة الحقيقي. الأمر الذي أدى إلى خلق تزاحم شديد على ملكية الأرض، مما ألحق ضررا كبيرا بصغار ملاك الارض، الذين وجدوا انفسهم فاقدين لأرضهم.

وهكذا، توفَّرت أسباب الأزمة واجتمعت؛ فبالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في عدد السكان(2)، وخاصة الفقراء، ازدادت حِدّة الانقسام الطبقي بين الأغنياء والفقراء. ولم تجد الأقلية الحاكمة حلا محليا لهذه الأزمة، فلجأت إلى الاقدام على تهجير الأعداد الزائدة من السكان، و إنشاء مستوطنات خارجية انتشرت على سواحل البحرين المتوسط والأسود. وبعملية التهجير هذه، وتوطين المهجرين في المستعمرات الجديدة وجدت الأوليغارشيون حلاّ خارجيا، لمشكلة ملكية الارض للفقراء، سواء منهم الذين خسروا أرضهم، في عملية المضاربة، التي اشرنا اليها في درس سابق، مع كبار الملاك، أو الذين لم يملكوا أرضا أصلا. وذلك بتوفيرها لهم أرضا في مستوطناتها الجديدة.

كما عاد هذا الحل بالنفع أيضا على هذه الأوليغارشية الجديدة نفسها، وكذا الطبقة الوسطى. وذلك من خلال زيادة نشاطها الزراعي وتطويرها علاقات تجارية مربحة مع دول شرق المتوسط، عبر هذه المستوطنات الجديدة. وكان من أهم نتائج كل ذلك أن تفوق اليونانيون على منافسيهم الفنيقيين (Les Phéniciens)، في السيطرة على تجارة شرق البحر المتوسط. وقد صاحب هذا التفوق اليوناني في التجارة العالمية، آنذاك، اختراع وسيلة جديدة للمعاملات التجارية، وهي اختراعها للعملة(1)، في القرن السابع قبل الميلاد.

ونظرا لأن مساحة الارض الزراعية محدودة في اليونان، صارت عملية تكوين الثروة النقدية، مضمونة القيمة، حسب إمكانيات الأفراد، أسهل من الحصول على الأرض(2).

ولكن، هذه التطورات ماكان لها إلا أن تؤدي إلى منافسة أخرى على الثروة النقدية، أشد من المنافسة على ملكية الأرض، فاجتمعت بذلك آثار التنافس على الثروتين، ثروة الارض والنقد معا؛ انعكست آخر الأمر في إحداث سلسلة اضطرابات سياسية طال أمدها القرنين السابع والسادس قبل الميلاد كاملين. فقد حرص أثرياء الثروة النقدية الجدد على أمرين: تحويل أموالهم إلى ملكية أرض من جهة، والحرص على المشاركة في الحياة السياسية، وتولي مناصب الدولة المهمة من جهة أخرى. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الأرض، الذي أثر بدوره في ارتفاع أسعار السلع الاخرى الضرورية للحياة. بحيث أضرَّ هذا الوضع الاقتصادي الطارئ بصغار الملاك والمستأجرين من المزارعين ضررا كبيرا، فتورط اغلبهم في الديون بضمان الأرض، لمن كان يملك أرضا؛ أو بضمان أشخاصهم إذا كانوا مستأجرين للأرض، حسب التقاليد والأعراف السائدة. وبموازاة ذلك ظهر عنصر اضراب آخر في المدن اليونانية الكبرى، تمثل في تغير التركيبة البشرية للجيوش فيها، حيث أصبحت متكونة في معظم تخصصاتها من فئات اجتماعية متوسطة، بعد أن كانت حكرا على الأثرياء تقريبا. وبسبب زيادة أهمية ابناء هذه الفئات المتوسطة العسكرية، في جيوش هذه المدن، طالبوا بزيادة نصيبهم في الحياة السياسية؛ ووجدوا فرصتهم في الوقوف إلى جانب الفقراء، في صراعهم ضد النبلاء والأثرياء الجدد.

وهكذا، توفرت ظروف أزمة حادة، طالت مدن يونانية كثيرة، وبصفة خاصة المدن التجارية الكبرى؛ أزمة قادت، في شروط متفاوتة الشدة وفي أوقات غير متزامنة، إلى ثورات سياسية في كثير من المدن اليونانية المعروفة آنذاك. ولكنها ثورات رغم عدم تماثل أحداثها وتطابق أوقاتها، لم يقتصر هدفها في تغيير أشخاص الحكام، بل تعدى مطلبها جميعا إلى تغيير القوانين ونظام الحكم السائد. ولذلك انتهت هذه الثورات إلى القبول بنظام سياسي، لم يعمر طويلا، هو نظام حكم الفرد الواحد، الذي يتزعم الثورة، بديلا عن حكم الأوليغارشيا القائم. وهو النظام السياسي الذي اصطلح عليه باسم “ثيرانوس – Tyrannos أو Tyrant”؛ أي في العربية (طاغية).

ومع أن هذا النظام لم يدم طويلا، إلا أن الطاغية كان يحقق آمال الفئات الغاضبة، في المراحل الأولى لحكمه، وذلك بإصدار مجموعة من القرارات الإصلاحية، التي تنصف الفقراء؛ من أهمها مصادرة مساحات من أراضي الحكام السابقين وتوزيعها بين الفقراء. ولكن، هذه القرارات الإصلاحية لم تكن مجرد قرارات عرجاء مرتجلة من الطغاة، لمعالجة أزمة اقتصادية عصفت باستقرار المدن اليونانية، إنما هي تعبير مبكّر نسبيا، عن عمق جذور هذه الأزمة؛ أي انها أزمة اقتصادية – سياسية تتطلب إصلاحات جذرية.

وفعلا، فمع بداية القرن السادس قبل الميلاد، كانت الأزمة قد بلغت ذروتها، حسب تشخيص أرسطو لأسبابها في آثينا؛ حيث ثقال: “كانت الديون بضمان تقترض بضمان شخص المدين، والأرض في أيد قليلة، والأكثرية رقيق للأقلية؛ فثار عامة الشعب ضد الطبقة العليا، واقترن الصراع بالعنف، واستمرت المواجهة بين كلا الحزبين (يقصد حزبي الفقراء والأغنياء) وقتا طويلا، إلى أن توصلا إلى اتفاق بينهما إلى اختيار “سولون” حكما وحاكما وعهدوا إليه بأمر الدولة عام 594/593 ق م.”.

هذا هو الوضع الذي كلف سولون بمواجهته ومعالجة أسبابه، بتشريعات إصلاحية جديدة مناسبة. ويبدو أن سولون كان مؤهلا لهذه المسؤولية، حسب أرسطو أيضا. من حيث خبرته و من حيث وضعه في المجتمع كذلك. فقد وصفه أرسطو في عبارة شهيرة قائلا: “بأن سولون كان، من حيث النسب والمكانة، من أرقى رجال المجتمع، ولكن من حيث الثروة ومجال العمل من الطبقة الوسطى”.

ولعل انتساب سولون إلى الطبقة الوسطى، هو جعل يبني تشريعاته في آثينا على مبدأ الاعتدال، كما ذكرنا، والبحث عن الحل الوسط بين كبار ملاك الأرض والثروة وصغارهم. ولكن هذه المسألة تخرج عن نطاق درسنا هذا.

وختاما، يمكننا القول: إنه إذا كانت تشريعات سولون وإصلاحه قد طال تأثيره في الحياة السياسية اليونانية كثيرا، فإن نظام حكم الطغاة الذي طاله، لم يعمر طويلا، كما ذكرنا؛ فقد فشلوا في محاولة توريث الحكم والعودة إلى النظام الملكي. ففي القرن السادس قبل الميلاد؛ أي حوالي قرن من الزمن فقط من بداية موجة حكم الطغاة، انتهت فترة حكم هذا النظام في معظم المدن اليونانية.

لكن نهاية هذا النظام السياسي وضعت اليونانيين أما سبيلين ينبغي لهم سلكه: سبيل العودة إلى حكم الأقلية Oligarchie، الذي تزعمته إسبرطة – Sparte، وسبيل حكم الأكثرية؛ أي سبيل الديموقراطية – Démocratie، الذي تزعمته آثينا – Athènes، موضوع درسنا القادم.

(1) هذه الخصوصية جعلتني اعرض لكم، بشيء من التفصيل، اهم مراحل التاريخي اليوناني السياسي والحضاري. المتمثلة في المرحلة الكلاسيكية من تاريخ اليونان 1200/800 ق م. مسبوقة بالمرحلة القديمة (مرحلة دولة موكيناي وحضارتها – 1600/1200 ق م)، متبوعة بالمرحلة الديموقراطية الممتدة حوالي قرنين، بين 600/400 ق م تقريبا. والفترة الممهدة لها، المعروفة بفترة الاصلاح أو عصر الاصلاح (عصر سولون أو الحكماء السبع) الممتدة بين 800/ 600 قم.

(1) هي أقدم حضارة عرفها اليونانيون، ومركزها مدينة “موكيناي”، التي أُنشأت حوالي 1700 ق م، بإقليم “أرغوليس – Argolis” .

(2) مدينة يونانية قديمة تابعة لإقليم مدينة “موكيناي”ن وقد عرفت ايضا باسم “نافارين – Navarin”.

(1) يسجل المؤرخون ذلك بشيء من المفارقة الغريبة. حيث تركت لنا هذه المرحلة الأخيرة من عصر الظلام اليوناني تام الأمية شامل الاضطراب، واحدة من اروع الاعمال الادبية ابداعا في التراث الادبي الانساني (الإلياذة)، حيث ظهر هذا العمل الادبي الفريد في آخر مراحل ذلك العصر نهاية القرن التاسع 900 ق م .

(2) للوقوف على أحد هذه الشواهد، يراجع: مصطفى العبادي، ديموقراطية الآثينيين. مجلة عالم المعرفة. العدد الثاني، اكتبر 1973.

(1) مصطلح سياسي يوناني استخدم في معظم الحقب السياسية، في اليونان، ولكن بدلالات مختلفة نسبيا، حسب كل مرحلة سياسية. إلا أنه، في كل الأحوال، يشير إلى مجلس ضيق أو مصغر مكون من أشراف ومن مواطنين، مكلفين بقوانين المدينة. وأول هيئة (او مجلس – Boulè) تم تشكيلها كان مجلس آثينا، المُنشأ من طرف سولون، سنة 594 ق م، عقب اصلاحاته الزراعية المعروفة. والمكون من 400 رجل، كل طبقة يمثلها فيه 100 عضو؛ طبقة الأغنياء الكبار (pentacosiomédimnes)، وهم المنتجون لما يضاهي 500 ميديمن – Médimne على الاقل (les censitaires).و(الـ Médimneهي وحدة قياس ووزن للمنتوجات الزراعية، الجافة والسائلة)؛ ثم طبقة الفرسان (les Chevaliers)ن وهي الطبقة التي تضم من يملكون أرضا او عملا يتراوح منتوجه بين 500 و 300 ميديمن؛ فطبقة الزوجيت – (Zeugites Les) ويشكلون الطبقة الثالثة، التي ينتج أصحابها أقل من 300 ميديمن وأكثر من 200 منه؛ وخيرا طبقة الثاتسيين (Les Thètes) وهم من منتجه السنوي عن 200 ميديمن.

(1) المقصود بذلك الطبيعة الجغرافية الصعبة لليونان، والمتكونة أساسا من مناطق جبلية وجزر وسهول ساحلية ضيقة، مما جعل مدنها ومجموعاتها السكانية معزولة بعضها عن بعض بشكل كبير.

(1) هذا يعني أن لقب ملك صار يطلق على شخص ليس ملكا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل على شخص منتخب؛ أي غير وارث للملك كما كان معهودا. بمعنى ان الحكم لم يعد وراثيا في آثينا والمدن الأخرى، في وقت مبكر من بداية العصر الكلاسيكي الجديد في اليونان. ولذلك فقد اختص هذا المنصب الجديد المُلقب بالملك بمهام شرفية دينية أساسا، وليس بمهام سياسية، وتحديدا بالاشراف على طقوس التضحيات المقدسة وغيرها من الواجبات الكهنوتية، ذات التاريخ الموغل في القدم.

(1) كلمة يونانية الأصل، وتعني حكم الأقلية. (Oligarkhia) باليونانية. مشتقة تركيبيا من كلمتين يونانيتين، اوليغوس (olígos) وتعني صغير، أو قليل العدد؛ و أرخو (árkhô) وتعني قَادَ أو يَقودُ (Commander).

(2) يربط المؤرخون هذه الزيادة الكبيرة في السكان، بعامل الاستقرار النسبي، الذي عرفته اليونان في تلك المرحلة، بعد خروجها من حرب طروادة. إضافة طبعا إلى نسبة الزيادة الطبيعية في الانتاج الزراعي.

(1) كان لسرعة انتشار استخدام العملة وسيلة جديدة للمعاملات التجارية ردود فعل بالغة الاهمية والخطورة على الاوضاع الداخلية في المدن اليونانية. إذ لأول مرة ينشأ مقوِّم جديد في الحياة الاقتصادية، وهو ما أصبح يعرف بـ “رأس المال – Le Capital”، حيث أصبح معدنا الذهب والفضة يكونان بذاتهما ثروة محددة القيمة، ولذلك صار، لاول مرة ايضا، راس المال النقدي يمثل ثروة تُنافس ملكية الارض وثروتها.

(2) لعل أبلغ شاهد على الاهمية التي اكتسبها رأس المال النقدي عند الناس، هو قول الشاعر الأيوني (نسبة إلى مقاطعة ايونيا – Ionie) بيثيرموس (Pythermos) “لم يعد هناك ما يشغل الناس، سوى المال”. وهو شاهد من ساحل أيونيا.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى