قضايا فلسفية

تحولات الفكر السياسي المعاصر: ميكيافلي، هوبز، جون لوك، مارتن لوثر…

المصدر: من كتاب مدخل إلى الفكر السياسي الغربي – الجزء الأول، إعداد وتأليف الدكتور صلاح علي نيّوف، كلية القانون  و العلوم السياسية- الأكاديمية العربية  في الدنمارك

صعود الاستبدادية (الحكم المطلق) داخل الدولةـ الأمة لعصر النهضة

في بداية القرن السادس عشر،المذهب الاستبدادي كان قد وجد قبل ذلك،تأسس في العصر الوسيط من قبل بابا الكنيسة و الملوك على قواعد لاهوتية،ولاسيما،على قاعدة القانون الإمبراطوري الروماني. هذه القاعدة سوف تنتشر، تتثبت و تأخذ طابعا أكثر تنظيما ضمن سياق “عصر النهضة” حيث ستتأكد الدول ـ الأمم.ولكنها ستصطدم مع تقاليد للاستقلال المحلي ومع مؤسسات تمثيلية هي أيضا موروثة من العصر الوسيط.

أولا ـ الأصول القديمة و الوسطى لمفهوم “السلطة المطلقة” الاستبدادية.

المذهب الاستبدادي هو من أصول قديمة أي يمكن رده للأفكار السياسية التي ظهرت في العصر القديم والوسيط. ولكن نحن سنبدأ دراسة هذا المذهب منذ العصر الروماني لاعتقدنا بوجوده بشكل ممنهج ومنظم أو قائم على قواعد محددة.

1ـ السلطة المطلقة في القانون الإمبراطوري الروماني.

السلطة الفردية للإمبراطور الروماني تم تثبيتها على طول ومر العصور. ففي عصر الإمبراطور Vespasien (69 ـ 79 بعد الميلاد)، الشعب الروماني تخلى عن إرادته في السلطة لصالح الإمبراطور. ولكن بسرعة كبيرة الأباطرة كانوا الوحيدين الذين لديهم حق التصرف فيما يتعلق بالقوانين ووضعها،ثم منح الامتيازات لمن يريدون و تسمية الموظفين الكبار. إذا انتهى تماما ما يمكن أن نسميه حق التشريع للشعب.

2ـ الإرادة البابوية الكاملة.

في أوربا الغربية الإقطاعية،قبل القرن الثالث عشر، لم تطبق فكرة السلطة المطلقة إلى من خلال الباباوات.ففي عام (1076) البابا غريغوار السابع أكد أن “السلطة الكاملة” تعود للبابا: إنه رئيس الكنيسة،يستطيع تشكيل السلطات الزمنية، ويشرع أي قانون يريده. وتأتي هذه السلطة من حيث أن البابا هو “نائب للمسيح”. ضمن هذا السياق، البابا له سلطات عادية يتصرف فيها من خلال القوانين القائمة،وسلطات ما فوق عادية تسمح له بالتصرف بشكل مطلق بعيدا عن الالتزام بالقوانين القائمة. ولكن الاستبدادية البابوية لم تتعلق في البداية بالسلطة الزمنية للباباوات، بل حصرا في سلطاتهم الروحية. بعد ذلك تحولت إلى سلطة يدعي فيها البابا أنه يأخذ أوامره مباشرة من الله من أجل الكنيسة ومن أجل المملكة أيضا، وكان هذا في القرن السادس عشر. إذا السلطة البابوية وحتى طبيعة السلطة التراتبية القائمة داخل الكنيسة أصبحت في أوربا العصر الوسيط نموذجا للملكية المطلقة والإدارة المركزية.

3ـ تطبيق البابوية على السلطة الزمنية.

أصبحت البابوية مدرسة بسبب هيبته القائمة والوزن المتنامي للقانون الكنسي. هذه المبادئ سوف تطبيق بعد فترة وجيزة على الملوك. ولا نسى أنه حتى الملوك كانوا يدعون بأنهم ممثلون لله على الأرض. إذا فكرة السلطة المطلقة كانت ماثلة في أوربا منذ وقت طويل. ولكن،في العصر الوسيط، كانت في منافسة مع سلطات أخرى. ضمن هذه الظروف، التغيرات السياسية،الاقتصادية و الاجتماعية التي طبعت عصر النهضة ستساهم في ميل الميزان داخل العديد من البلدان الأوربية لصالح السلطات القوية و المركزية التي اعتمدت الحكم الاستبدادي المطلق.

ثانيا ـ نشؤ الدول ـ الأمم.

1 ـ تحالف السلطات المركزية مع القوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة [1].

في الواقع ومنذ “الانقلاب البابوي” الكبير ما بين القرنين الحادي عشر و الثالث عشر، الإقطاع بدأ بالتراجع. فالكنيسة مع الممالك القائمة وجدت نموذج الدولة القديمة وعملت على بناء دول كبيرة متمركز على هذا النموذج. وبشكل متدرج،تقدمت في هذا الاتجاه لتضعف استقلالية الإقطاعيين، أيضا الاقتصاد تغير في أبعاده وبنيته ليصبح في جوهر المركزية الجديدة،فمن اقتصاد زراعي ريفي تسيده الإقطاع،إلى اقتصاد منظم تدعمه الاكتشافات الجديدة والسيطرة على الطرق البحرية وفيه مجموعة كبيرة من التجار والصناعيين الباحثين عن استغلال الفرص الجديدة . ضمن هذه الصيرورة الجديدة، أنصار نظام سلطة سياسية قوية، والتي تضفي على نفسها الشرعية من خلال الحكم المطلق، استطاعوا تحقيق مراحل قطعية وجذرية. ولكن هناك اختلافات بين الدول الأوربية تفرض علينا أن نفصل في دراستنا للحكم المطلق في أوربا.

2ـ اختلاف الحالات في الدول الأوربية.

لدينا حالة مختلفة ظهرت في هولندا،حيث النزعة الاستبدادية لم تستطع الوصول إلى إضعاف المؤسسات التمثيلية القائمة منذ العصر الوسيط. حالتان أنتجتا أوضاع ” وسطية”، إسبانيا و إنكلترا؛ وبلدان آخران يشكلان خصوصية هما إيطاليا وألمانيا؛ وأخيرا حالة فيه الاستبداد أو الحكم المطلق يظهر بشكل كبير وواضح، إنها الحالة الفرنسية.

في هولندا، بعد سقوط  الدوق Charles le Téméraire الذي أراد بناء مملكة موحدة، النزعة الاستبدادية، ورغم حرب رهيبة، فشلت كليا وهزيمتها شكلت الفرصة لولادة أول أكبر جمهورية أوربية حديثة[2]. في إسبانيا، وفي القرن الخامس عشر، تحدث Alphonse الخامس ( 1396 ـ 1458) عن “القوة الكاملة لسلطتنا الملكية، إنها رائعة ومطلقة”. هذه السلطة المطلقة والتي وحدت إسبانيا كانت نتيجة لزواج بين ” فرديناند أرغون و أليزابيت كاستيل”، ولتصبح إسبانيا أقوى دولة أوربية.أما في إنكلترا، وبعد نهاية حرب Deux Roses،هنري السابع يصبح ملكا ما بين 1485 إلى 1509 ليبني العائلة الملكية Tudor. اعتمد على الطبقة الوسطى،طور التجارة ودعم المغامرات البحرية. بنى نظاما قويا على مركبات استبدادية. ولكن لا هو ولا خلفه الملك هنري الثامن و إلزابيت الأولى استطاعوا أن يبعدوا أو ينهوا دور البرلمان.

في ألمانيا، وجود إمبراطورية أدى إلى حالة خاصة: الإمبراطورية ضعيفة جدا لا تستطيع القيام بحركة توحيدية،ولكن مجرد وجودها أعاق قيام دولة ألمانية فيدرالية تقوم بالدور بدلا منها. لكن هذا لم يعيق انتصار الحكم المطلق في داخل العديد من الدول الألمانية لاسيما تحت تأثير النظرية اللوثرية luthéranisme. الحالة الإيطالية هي نوعية أيضا بسبب وجود البابوية ودولها.حيث كتب ميكيافلي:”إيطاليا مقسمة إلى خمسة دولة أساسية: مملكة نابولي في الجنوب،دوقية ميلان في الشمال،جمهورية البندقية “فينيس” في الشمال الشرقي،جمهورية فلورنسا والدول البابوية في الوسط.

في فرنسا. الملكية الفرنسية أخذت ثلاثة أشكال متعاقبة : أولا “إقطاعية”، ثم كانت “معتدلة”، وأخيرا ومع بداية عصر ” جان بودان” أصبحت سلطة الحكم المطلق والمستبد. [3] بداية من القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، بدأت السلطة الملكية الانتقال من الإقطاعية إلى الاستبدادية absolutisme والتي تستلهم القانون الإمبراطوري الروماني. هذه السياسة اصطدمت بمقاومة البارونات barons وأيضا”برجوازية” المدن. نذكر هنا أن هذا التحول قاده كل من :Philippe Auguste, saint Louis, Philippe le Bel.

حتى النصف الثاني من القرن السادس عشر، الاستبدادية الفرنسية كانت معتدلة، مع انقسام كبير بين المفكرين، فالبعض يفضل الاستبدادية و الآخر يعارضها، أنا الباقي فيسعى لتلطيفها أو التخفيف منها.[4] ولكن من المؤكد أن إشارات التوجه إلى الحكم المطلق كانت واضحة في السلطة الملكية الفرنسية منذ بداية القرن السادس عشر. وتبين التوجه الاستبدادي مع الملك فرنسوا الأول، حيث أكد بأن السلطات الملكية هي: الدفاع، القضاء، الحكومة والإدارة. تحت حكم لويس الثاني عشر الكاتب Jean Ferrault طالب بسلطات غير محدودة للملك. ونحو عام 1550 مجموعة من الكتاب ظهرت كتاباتهم كدعم واضح للاستبدادية المطلقة ومنهم Charles Dumoulin , Etienne du Bourg , Pierre Rebuffi.

الاستبداديون و أنصارهم اندفعوا بطرح منطقهم من خلال وضع الملك فوق القانون وأرادوا إبطال مفعول البرلمان وأحكامه السيادية الاستقلالية. في النتيجة،فكرة أن البرلمانات تراقب النصوص الصادر عن الملك وتعترض عليها بالنسبة لهم هي فكرة عبثية ولا يمكن قبولها قانونيا. إذا النزعة الاستبدادية تمركزت بقوة وزادت قوتها بعد عام 1560، في عهد حاكمة Hospital والتي في خطاب شهير لها في عام 1561 أكدت أن :” شخصا واحدا يجب أن يحكم و على الآخرين الخضوع”. ولكن في هذا التاريخ اشتعلت الحروب الدينية حيث ستغير طبيعة المشكلة كما سنرى فيما بعد. بمعنى أن تيارات ومذاهب جدية ستظهر أهمها ” الدستوريون” constitutionalistes، ومنهم انبثقت اتجاهات “ما قبل ديمقراطية” و أخرى”ما قبل ليبرالية”، ولكن لم ينته وجود المناصرين لتعزيز السلطات الملكية.              

بالنسبة لمناصري الاستبدادية، لم يستطيعوا فرض وجودهم بشكل كبير في أوربا القرن السادس عشر والسابع عشر لولا أن العقليات في القرون الوسطى كانت مع تعزيز دور الدولة، وقد جاء التعبير عن هذه الأفكار والعقليات من خلال العديد من الأعمال الفكرية السياسية كما سنرى في الفصل التالي.

1 ـ ميكيافلي ( 1469 ـ 1527)

حياته

ولد في فلورنسا وينحدر من عائلة قديمة في هذه المدينة الإيطالية. شغل أول منصب سياسي له في عام 1494 بعد سقوط الديمقراطية الثيوقراطية في Savonarole، لقوم سلطة جمهورية كلاسيكية مكانها قادها منذ عام 1502 Gonfalonier وكان ميكيافلي رجل الثقة في هذا النظام الجديد. أما مهمته فكانت “سكرتير” (لجنة العشرة من أجل الحرية والسلام)، وهي شكل من أشكال وزارة الداخلية والحرب.خلال أربعة عشر عاما قضاها في خدمة الجمهورية تم تكليفه بالعديد من المهام الدبلوماسية في فرنسا وروما، أيضا عمل في المسائل العسكرية حيث حصل من حكومة فلورنسا على قرار بإنشاء جيش وطني دائم. شغل ميكيافلي ثلاث مرت مناصب رسمية هامة، في عام 1520، 1521 و 1525.

أعماله

1ـ كتاب “الأمير”. وهو الأكثر شهرة، ولكنه ليس الأكثر أهمية من بين أعماله.كتبه بين عامي 1513 و 1514.

2ـ “خطاب حول أو عشر كتب”، كتبه بين عامي 1513ـ1519. وهو الكتاب النظري الأساسي عند ميكيافلي.

3 ـ “تاريخ فلورنسا” ( Storie Fiorentine) كتب بين 1520 و 1526. يتحدث الكتاب عن الفترة من 1251 إلى 1492. ويتحدث فيه عن الأحداث التي حصلت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب.

4ـ كتب ميكيافلي أيضا وبين عامي 1513 و 1520 كتابا في غاية الأهمية عن “فن الحرب”.

يعتبر الكثير من علماء السياسة [5] أن ميكيافلي حتى ولو كان أو “اعتبر” منظرا سياسيا، إلا أنه لا يمتلك نظاما مفهوميا متطورا بشكل كلي أو شامل أو أنه متماسك.ففي جميع أعماله التي كتبها مستفيدا من خبراته العملية والوظائف التي مارسها يظهر وكأنه كتب فقط كمستشار للحكومة،الأمير، الباباوات أو القضاة في فلورنسا. ولكن يمكننا القول من جهة أخرى أنه بحث عن قوانين دائمة للحياة السياسية.

منهج ميكيافلي

أـ الواقعية.

رفض ميكيافلي كل أوهام المثالية :” بما أنني أحاول كتابة أشياء يمكن الاستفادة منها لمن ينتظروها، فإنه يظهر لي أكثر إقناعا أن أتبع الحقيقية الواقعي للأشياء وليس كما نتخيلها”.[6] وبسبب منهجه “الواقعي” اعتبر ميكيافلي من قبل العديد من الكتاب المعاصرين كأب “لعلم السياسة”. وربما يكون هذا التصنيف له ناتج عن أن ميكيافلي كان أول من فصل الأشياء السياسية عن جميع الأشياء الأخرى، الدين،الأخلاق و الاجتماع.

ب ـ الطبيعة الإنسانية وفق ميكيافلي.

أفكاره تستند في الكثير منها على التشاؤم، وهي رؤية رما ارتبطت بعد الاستقرار و حالة انعدام الأمن ثم العنف الذي عرفته إيطاليا في زمنه. يعتقد ميكيافلي أن البشر هم هكذا بطبيعتهم في كل زمان ومكان وهذا شيء من المستحيل تغييره أو إصلاحه:” منافقون، جشعون وشرهون للحصول على الربح”.( من كتاب الأمير، الفصل السابع عشر، الصفحة 339). أيضا بالنسبة له جميع البشر هم طغاة، والفرق بين إنسان عادي وطاغية، هي أن الثاني لديه الوسائل بينما الأول لا يملكها كي يصبح طاغية ولكنهما متماثلان في الطبيعة.

بالإضافة لذلك، يرى ميكيافلي أن الفضائل غير موجودة. وفقط هي الضرورة التي تقود إنسانا ما ليكون جيدا في بعض الأحيان، وهو لن يكون ذلك أبدا بشكل عفوي. وإذا اقتنعنا بعكس ذلك سيكون هذا وهما خالصا. ولا يتردد في وصف الإنسان بأنه حيوان، أسد أو ثعلب، وفق الظروف. وهنا يقول أننا نستطيع الحكم بالقوانين على ما هو إنساني في الإنسان،و بالقوة على ما هو من “خاص بالحيوانات”. وعندما القوانين لا تكفي علينا ألا نتردد في استخدام القوة، وعلى الأمير أن يعرف استخدام هذه أو تلك.(الأمير،الفصل 18،صفحة 341).

ت ـ الميكيافلية  Machiavélisme

عندما لا يحدث أي وهم فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية فإن رجل الدولة سيستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من النظام الاجتماعي، هكذا يرى ميكيافلي. وبما أنه لا يوجد في المجتمع سوى القوة،المصالح و الأنانية، وليس هناك قيم للعدالة والأخلاق تسمح بإبقاء القيم في حالة تناغم مع المصالح، فإن المشكلة التي على رجل الدولة حلها هي الحفاظ وبشكل مصطنع على التوازن بهدف وضع حدود لتبادل المصالح.وكل فكرة تهدف لإقامة “العدالة” تركها ميكيافلي أو في أحسن الأحوال تجاهلها.

ويبدو أن ميكيافلي في فكره السياسي يفضل ما يدعوه المعاصرون “بالبراغماتية”. حيث أنه لا يوجد مبادئ أخلاقية أو قانونية يمكن فرضها بشكل دائم، فإن القيادة لشؤون الحكم عليها أن تسترشد باعتبارات عملية خالصة، وبقدر تغير الظروف فإن قرارات الحكم يمكنها أن تتغير.” على الأمير أن يكون جاهزا ليدور مع رياح الحظ وتقلبات الأشياء التي يقودها”. ( الأمير ، الفصل 18، الصفحات 341 ـ 342).

المعيار القاطع، في السياسة، ليس أن تكون جيدا أو شريرا، وليس أيضا أن تكون ضعيفا أو قويا، ولكن سعيدا أو كئيبا في هذه السياسة. وهنا يؤكد ميكيافلي على أن الغاية تبرر الوسيلة، فليس المهم ما يفعله رجل الدولة في مراحل اتخاذ القرار بل المهم هو نتيجة هذا القرار.  إن كل أفكار ميكيافلي تتمركز ضمن هذا المنطق أو النظام. ولكنها تختلف وفق ما يمكن أن نسميه أو نعتبره بالسياسة الداخلية أو بالسياسة الخارجية.

ث ـ السياسة الداخلية.

يفضل بالنسبة للحاكم أن تخافه الناس لا أن تحبه. شيء مثالي أن يكون محبوبا، ولكن، إذا من الواجب الاختيار بين الوسيلتين، الأفضلية يجب أن تعطى إلى الخوف. وهذا يبرر ويعود إلى الطبيعة العميقة للإنسان. ( الأمير، الفصل 17، الصفحة 339). بمعنى آخر، الأمير الواعي أو المتيقظ عليه أن يوجد وفق ما يريد هو، وليس على ما يريد الآخرون، ومن هنا تأتي أفضلية الخوف كأداة في السلطة. (المرجع السابق، الصفحة ، 341). واقعية ميكيافلي وتفكيره حول إستراتيجيات فعّالة للتوازن بين القوى الاجتماعية تقوده يعلن عن الأطروحة التالية : أحيانا، الحكام، ومن أجل تهدئة الشعب، عليهم ألا يترددوا في تقديم “كبش المحرقة” والذي سيخدم في مخرج من غرائزه العدوانية وبالتالي إيجاد حل لراحتهم ولجميع المواطنين. في الواقع هذه التفكير الميكيافلي حول التضحية بأحد المواطنين من قبل الدول هو ما يمكن أن نسميه “بجريمة الدولة”. فهو يعطي الشرعية للحكام بتصفية المعارضة من خلال ارتكاب الجرائم، ومن غير تقديم هؤلاء للعدالة، لذلك ندرس الفكر السياسي الميكيافلي هنا كجزء تابع لمرحلة الحكم الاستبدادي أو المطلق. ( يمكن مراجعة “الأمير” الفصل 17، الصفحة 338).

ج ـ ميكيافلي بين الملكية والجمهورية ؟

ساند ميكيافلي و بشكل متزامن في كتابه “الأمير” وكتاب “خطابات”، الأطروحات الملكية و الجمهورية، لدرجة أن العديد من المحللين اعتقدوا أن أطروحاته غير متماسكة. في الواقع مسألة نموذج أو شكل الحكم كان ثانويا بالنسبة له. فقد كان في البداية مدفوعا بمسألة الاستقلال الإيطالي، إذا إنها الدولة كمجسدة للأمة، التي اهتم بها في المقدمة. ولكن بواسطة من هذه ستؤسس ويتم حكمها ؟

في ” الأمير” يتحدث ميكيافلي عن الحل الملكي. ولكن في كتاب “خطابات” يظهر وكأنه جمهوريا. في الحالتين، الدولة الميكيافلية عليها وفي جميع الظروف أن تحكم من غير اعتبارات للقوانين أو الأخلاق. فروح الجمهورية الرومانية التي تم تحليلها في كتاب “خطابات” هي نفسها المملكة الفرنسية والإسبانية، أو بمعنى آخر سلطة سياسية مطلقة. ولكن يمكننا القول أن ميكيافلي اعتقد أن الجمهورية ليست شكلا جيدا للحكم في إيطاليا آنذاك، وهي على كل فكرة كانت سائدة بشكل واسع في ذلك العصر. إذا بالنسبة للدولة يجب أن تكون خاضعة لرجل واحد فقط يظهر قوة لا تعادلها قوة أخرى في الدولة. ( من كتاب”خطابات” الفصل 9، الصفحة 405). أما السلطة التنفيذية يجب أن تكون واحدة غير مقسمة لاسيما في أوقات الأزمات.

من جهة أخرى لا يتردد ميكيافلي في القول أن التعددية فيها إيجابيات كثيرة، وخاصة التعددية في ظل”جمهورية”. فأفضل القوانين في روما كما يقول، كانت ثمرة للتعددية. ولكن على هذه التعددية أن تتماشى مع اختيارات الحكام.

ح ـ ميكيافلي و القومية.

كان ميكيافلي يشعر بالإهانة بسبب الحالة التي تعيشها بلاده أمام الغزو الفرنسي و الإسباني،التي الدول التي اعتبرها أقل حضارة من إيطاليا وهي في نفس الوقت أقوى منها لأنها استطاعت أن تبني وحدة وطنية. من هنا أراد تحقيق الوحدة الوطنية في إيطاليا. قدم ميكيافلي مفهومه للأمة كشخصية مجردة وهي في نفس الوقت أسمى من الفرد الذي يكونها وأيضا لها طابع دنيوي خالص. هذه الأمة هي شيء آخر غير الفرد فليس من شانها الخضوع لأي أخلاق أو قانون. الفكرة الأهم عند ميكيافلي فيما يتعلق بالشعور القومي كانت في إنشاء جيش وطني مؤلف من جميع المواطنين وليس من ميلشيات. أيضا وقف ميكيافلي إلى جانب استخدام جميع الوسائل في العمل الدبلوماسي ضد العدو خاصة إذا كنا لا نملك القوة لمحاربته. فالأمة هنا ليست مضطرة لاحترام كل أنواع المعاهدات و الاتفاقيات التي وقعتها من أمة أخرى.

أخيرا وفيما يتعلق بميكيافلي ،نستطيع القول أن أفكار ميكيافلي السياسية لاقت إعجابا كبيرا من قبل أنصار الحكم الاستبدادي المطلق في مختلف الدول الأوربية، فالملوك الذين ترددوا في السير خلف شعار “الغاية تبرر الوسيلة”، وجدوا في كتاباته الوسيلة التي حررتهم من هذا التردد. أما في القرن العشرين فحصلت أفكاره على قوة أكبر عند اليمين المتطرف كما عند اليسار المتطرف. وحتى في القرن التاسع عشر لاقت ترحيبا عند ما يسميهم مؤرخ الأفكار السياسية Philippe Nemo ” بأسياد الشك” ماركس ونيتشه، إلى منظري التوتاليتارية الذي أخذوا أيضا من أفكاره. واستخدمه كمرجع كل من الفلاسفة Pareto, Sorel , Maurras ، كما كان مشهورا في الأوساط الجامعية الفرنسية كمفكر سياسي كبير وخاصة عند المفكرين المقربين من الماركسية. ونذكر هنا أن المنظر الماركسي الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي اعتبر أن النظرية الميكيافلية في كتاب “الأمير” هي أول نظرية “للثورة”، وقد كانت “اليعقوبية” في فرنسا الثورة الفرنسية وروسيا البلشفية التجسيدات التاريخية الأولى لكتاب ” الأمير”.

2ـ مارتن لوثر ( 1483 ـ 1546).

دولة وطنية من غير نفوذ كهنوتي.

يقول الكاتب الإنكليزي Figgis [7] :” لولا مارتن لوثر فلن يكون لويس الرابع عشر”. بداية يمكن القول أن لوثر شارك في مساندة فكرية للاستبدادية. فقد أنكر أن الكنيسة أسست بغرض التصرف كسلطة لها نفوذ. وبشكل عام قاعدة فكره هي القناعة أو اليقين العميق بأن دناءة الإنسان، شره،خطيئته، تجعل من الصعب التعايش و التعاون العفوي والسلمي بين البشر. والنتيجة أن تدخل الدولة يمكن أن يسمح بالحفاظ على النظام الاجتماعي. وهنا يلتحق لوثر مع ميكيافلي ولكن فقط في هذه النقطة.

حياة وأعمال مارتن لوثر.

درس لوثر القانون في جامعة Erfurt الألمانية،ثم درس علم اللاهوت وأصبح دكتورا في هذا التخصص في Wittenberg. أعطى إشارات أولية بقدوم الإصلاح عندما عرضا وبشكل علني في عام 1517،بيع “صكوك الغفران” من قبل الكنيسة الرومانية. نشر بشكل متقطع منذ عام 1520 ما يسمى “الكتابات الإصلاحية الكبرى” : ( الدعوة إلى النبل المسيحي للأمة الألمانية)، (الأسر أو العبودية البابلية للكنيسة)، (تحليل أو قراءة الحرية المسيحية). قدم ترجمة ألمانية رائعة للكتاب المقدس.بقي زعيما من غير منازع للكنيسة الجديدة حتى موته في عام 1546.

ـ الأفكار السياسية عند مارتن لوثر.

يعود لوثر إلى “التشاؤمية” عند سان أوغستان وسان توماس،ووفقها الطبيعة تعافت أو شفيت بواسطة بفضل رعاية الله،والإنسان يمكنه بشكل واقعي ملاحظة قوانين الله ويعمل بنفسه لخلاصه وخلاص العالم،والعقل لا يستطيع فهم الله، إذا لا بد من الخضوع لقوانينه، ليس لأننا سنفهمها ولكن لأنها قوانين الله.”فنحن جميعا عبيد، بؤساء، مرضى و موتى” كما يقول لوثر.

أما الكنيسة يجب ألا تحصل على سلطات سياسية وقانونية خاصة بها. فإذا كان الخلاص يأتي من خلال الإيمان وحده sola fides فإن الفكرة القديمة لكنيسة تعمل كوسيط للحصول على الخلاص يجب أن تختفي. والكنيسة، كما تشير الكلمة اليونانية ecclesia ليست إلا “شعب الله” Gottes Volk”، أو بمعنى آخر مجلس أو تجمع المؤمنين. وهي لا تتعلق إلا بأعضاء هذا المجلس أو التجمع. وفي هذا الحالة كل المؤمنون لديهم صفة روحية ولديهم القدر على مساندة أخوتهم روحيا، وبالتالي ليس هناك رجل دين، بل الجميع يحملون هذه الصفة ،ويقصد هنا انعدام الوصاية الدينية من أي شخص آخر.

إذا الكنيسة البابوية ليس من حقها الإدعاء بوجود أية امتيازات لها وليس لديها حق بالحصول على الأموال. كما لا يمكنها الحصول على سلطات قانونية وقضائية خاصة تضاف لسلطات الدولة وتكون بهذه الحالة سلطة أخرى ذات نفوذ داخل الدولة.حتى السلطة القضائية داخل الكنيسة نفسها يجب أن تمارس من قبل سلطة زمنية وليست دينية.

كذلك،أطروحة لوثر تلتحق بالأطروحة الأصلية عند سان أوغستان : كل أعمال السلطات الزمنية يجب أن تكون معتبرة كإرادة أو مشيئة سماوية إلهية، يقول لوثر :”الملوك أو الأمراء واجبهم استخدام السلطات التي أعطاهم إياه الله، عليهم الانشغال بكل حاجات شعوبهم من سلام وازدهار. عليهم إلا يستغلوا سلطاتهم وخاصة ضد فيما يتعلق بحرية العقيدة. إذا هنا يضع لوثر حدودا للسلطة المطلقة للملوك، فعلينا ألا نخضع لهم عندها لا يظهرون الرحمة.

هذه الحدود اللوثرية للسلطة تختلف بشكل كبير عن تلك الحدود التي ستضعها فيما بعد التقليد الليبرالية وكما سنراها في الفصول اللاحقة. هذا الاختلاف يأتي من جانبين :

الأول: لوثر،ومن أجل إنشاء هذا الحد في الخضوع الواجب للحكم، لا يستند على بعض القواعد السامية كما هي في القانون الطبيعي، بل يستند على أن الحكومات لن تذهب ضد إرادة الله، وحيث القديسين في الأرض هم متحدثين باسم الله، فالقانون الطبيعي بحد ذاته ليس له أية قيمة.

ثانيا : إذا أكد لوثر حق المسيحي في عدم الخضوع للأوامر الإلحادية للحكومة، فإنه أيضا يدين كل مقاومة حقيقية. فالعقوبات الناتجة عن عدم الخضوع يجب ألا نتجنبها لأنها تجارب من عند الله ” علينا ألا نقاوم الطغيان، بل الألم مع الصبر”. ( المرجع السابق، صفحة 17).

أخيرا، أفكار مارتن لوثر ساعدت في ظهور الملكية المطلقة في أوربا الشمالية ،ألمانيا،اسكندنافيا وفي مناطق أخرى، وبشكل أقل بكثير في إنكلترا. وجاءت كتابات كل من Philippe Melanchton (1496 ـ1540) في ألمانيا، و William Tyndale (1495 ـ 1536) في إنكلترا، لتطور بشكل كبير المبادئ و نتائج الأفكار السياسية عند مارتن لوثر. هذان الكاتبان اقتسما مع غيرهم أيضا، أفكار سيد Wittenberg والتي تقول بأن النظام الاجتماعي هو مشيئة الله أو بمشيئة سماوية ومن الخطأ القيام بثورة ضده.

ـ جان بودان (1529ـ 1596) ، منظر للدولة ذات السيادة.

جان بودان وضع من جانبه أسسا للاستبدادية من خلال وضع نظرية للدولة السيادية وهي من المصادر الأساسية للتقليد الدستوري الفرنسي.

حياته

ولد في Anger. كان ابن لتاجر غني ينتمي لعائلة من القضاة. عاش في باريس، “تولوز” و “نانت” (مدن فرنسية)، تعلم القانون ثم أصبح مدرسا له. بعد ذلك أصبح محاميا في البرلمان بباريس. نشر في عام 1566 كتابه ” Methodus ad facilem historiarum cognitionem” (منهج من أجل معرفة التاريخ بسهولة). تمت تسميته من قبل “شارل الرابع” مفتشا في منطقة النورماندي. انتقل للعمل بعد ذلك للعمل مع أخ الملك هنري الثالث الدوق “ألينسون” وسافر معه إلى إنكلترا وهولندا.[8]

أعماله

أهمها: كتاب “الجمهورية” la République، وفي هذا العمل يتخذ جان بودان مواقف تتعلق بمذهبه الفكري السياسي الذي يتطابق بشكل كبير مع الحكم المطلق، وفي عام 1986 صدر عن دار نشر “فيارد” في باريس تحت عنوان “الكتب الست للجمهورية”. وكتب جان بودان “مسرح الطبيعة العالمية” ونشر بعد موته بعام واحد. من جانبا سوف نقرأ أطروحاته الفكرية السياسية التي وردت في “الجمهورية”.

“الجمهورية” هو من أوائل وأهم كتب الفلسفة السياسية في العصور الحديثة (بالمعنى العلماني للمصطلح)،ويقدم نظرية دستورية كاملة. منهج جان بودان في هذا العمل هو منهج قانوني وتاريخي بشكل أساسي. في جوهر العمل،”الجمهورية” يقدم المبادئ التي يمكن أن تبنى عليها دولة ملكية قوية وموحدة،وفيها قانون وإدارة متجانسة. بداية سندرس النظرية العامة للدولة السيادية،ثم النظام الذي تمناه جان بودان لدولته فرنسا. وأخير سنحاول تبيين أن،وبشكل مختصر، هذه النظرية أخذت معناها ضمن سياق وصيرورة كبيرة، سيسيولوجية و وكوسمولوجية. قبل ذلك نشير على عناوين “الكتب الست” للجمهورية وهي كالتالي : الأول (تعريف الجمهورية ونظرية السيادة)، الثاني (الأنظمة السياسية)،الثالث(البنى الإدارية للدولة)، الرابع و الخامس (نظرية الأعراق و المناخات،دراسة التوازنات الاجتماعية،التطورات و الثورات)،السادس (قضايا خاصة تلمس الرقابة أو النقد،الأموال،العملة،الأنظمة السياسية، العدالة المتناغمة).

 1 ـ الدولة السيادية.

السيادة هي المفهوم المركزي لنظرية جان بودان في الجمهورية، أي الدولة.هذا المفهوم يسمح بتحديد ماهية الدولة نفسها وما هي عليه بالنسبة للقوى الخارجية. والسيادة تتصف وفق بودان بالعديد من “العلامات”، حيث تعود النقاط التالية وبشكل خاص لمفهوم السيادة:

أ ـ إصدار و إنهاء القوانين.

السلطة السيادية أو “صاحب السيادة” يستطيع فقط وضع القوانين، أما السلطات الأخرى التي تصدر أوامرها أو بعض القواعد وإن كنا ندعوها قوانين فإنها لا يمكن أن تصبح كذلك إلا بعد مرورها للبحث أو الدراسة “السيادية”. هنا يميز بودان بين “محتوى” القوانين وبين “شكلها”. فالمحتوى يمكن أن يحدد من خلال مستشارين قضائيين،التقاليد،العادات ..الخ،بمعنى من خلال أشخاص لا ينطبق عليهم مفهوم السيادة. فالمفهوم الأخير وحده يستطيع أن يعطي للقوانين شكلها أي قوتها المجبرة أو المرغمة. أما السلطة التنفيذية يمكنها أن تمتلك سلطة إعلان أو إصدار القوانين ،تصحيحها وتفسيرها أيضا.ويعارض بودان حق التفسير للقوانين من قبل القضاة، بل يذهب في ذلك إلى الحد الأقصى، فما يرفضه هنا ” معارضة أن تكون الهيئة القضائية مصدرا، أو على الأقل مصدرا شرعيا بنفسها، للقانون”. وكل “علامات”السيادة الأخرى هي في السلطة التشريعية.

ب ـ قرار السلم و الحرب.

هذا القرار يجب ألا يخلط وفق جان بودان مع السلطة العسكرية أو الإستراتيجية. فالقيادة تعطى في مثل هذه الظروف لفرد أو مجموعة تستطيع التصرف في الحرب بصفة ملكية وتكون لديهم سلطات واسعة بل مطلقة، مع ذلك هؤلاء لا يتصرفون إلا كمندوبين عن “السيادة”، المجلس الشعبي أو مجلس الشيوخ،والذي وحده يمكن أن يدخل البلاد في حرب أو يمكنه أن يسحبها منها.

ت ـ تسمية منفذي سياسات الدولة.

هذه التسمية تعود للهيئة السيادية. ويبارك بودان في هذا الصدد السلطة الملكية في فرنسا والتي في عصره قامت بجعل هذه الموضوع محصورا بالملك وسحبته من الإقطاعيين أو الأقل منهم سلطة.

ث ـ ممارسة حق العفو.

يرى بودان أنه في روما، كل الحكومات الإقليمية ورغم أنها تجمع في يدها كل السلطات القضائية، إلا أنها لم تمتلك حق العفو،فهذه السلطة تعود فقط للشعب.أما في فرنسا فرأى بودان أنه من الواجب وضع حد فوري لإعطاء هذه السلطة لأي جهة غير سيادية.

2 ـ استقلالية الدولة ـ الأمة بالنسبة للقوى الخارجية.

في الكتاب الأول من “الجمهورية” يتحدث بودان عن العلاقات السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة مع وجود الإقطاع والطبيعة العائلية لهذه العلاقات التي حولت أوربا إلى فوضى وأنهت الاستقلالية بسبب غياب السلطة السيادية. ففي العصر الإقطاعي، وبسبب علاقات الزواج و الميراث القائمة تمت إعاقة قيام إقليم موحد. فعند جان بودان كان لابد من الخروج من هذه الحالة من خلال إقامة إقليم واضح فيه سلطة أو قوة سيادية واحدة. هذا الخروج يتم بواسطة تبني نظرية قيام “الممالك ـ الأمم”. أي يجب تقسيم أوربا إلا دول مستقلة كل منها يمارس سيادة خاصة على إقليمه، وبهذا يكون جان بودان قد ساهم بشكل كبير في وضع مفهوم “الدولة /الأمة” الحديث.      

3ـ سيادة مطلقة ولكن ليست غير محدودة.

أ ـ السيادة غير مجزئة.

أطروحة بودان هنا، هي أن إرادة الملك يجب أن تكون أكيدة وتظهر في كل لحظة، وهذا لن يكون ممكنا إذا كانت السيادة مجزئة. هذه الحالة نجدها في الأنظمة “المختلطة”. ويقف بودان بكل قوته ضد هذه الطرح التقليدي الذي كان مطروحا في زمنه من قبل الدستوريين البروتستانت. يعتقد جان بودان أن الدولة يجب أن تبنى وفق تراتبية تشبه البناء المعماري، حيث كل فيها يستطيع أن يكون له سلطة أساسية، ومنها كل السلطات الأخرى للدولة وكل القواعد القانونية تستطيع أن تكون معتبرة كصادرة وفق صرامة وشفافية، أو ما يسميه بودان ” تراتب القواعد والقوانين”. النظام المختلط لا يستطيع إلا أن يكون مفتوحا باتجاه هذه التراتبية.

ب ـ السيادة ثابتة أو خالدة.

السلطة المطلقة لن تكون محدودة مع الزمن. لذلك السلطات ذات الفترات المحددة مثل القضاة و القواد، أو نواب الملك،الأمراء والحكام ستنتهي عند عزل هؤلاء، وبالتالي لا يمكن اعتبارها سلطات سيادية.(من كتاب الجمهورية الأول،الصفحة 180).

ت ـ السيادة هي مطلقة.

السلطة ومن أجل أن تكون “سيادية”، يجب أيضا أن تكون “مطلقة”، وهنا في الواقع نلمس المفهوم المركزي لمذهب “السلطة المطلقة”. حيث جميع القوانين الداخلية مهما كانت فهي لا تستطيع أن تقف أو تشكل صعوبة أمام القانون الصادر عن الملك. (من الجمهورية الأول،الصفحة 192).

ث ـ الملك ليس لديه عقد مع الشعب.

يتابع جان بودان أطروحته، لا يوجد أي عقد يربط الملك مع الجسم الاجتماعي. لأن هذا العقد سيكون القانون المشترك للأجزاء التي تكونه، وبالتالي هذا يحد من السيادة المطلقة ( الجمهورية الأول، الصفحة 187)، وهنا من جديد يتجلى الفكر السياسي عند بودان والداعم للسلطة المطلقة.

ج ـ الحد الحقيقي للسيادة المطلقة: هي “قوانين السماء والطبيعة”.

مع كل ما سبق، فإن جان بودان لا يصل إلى الحالة الميكيافلية. في الواقع،وفق بودان، السيادة المطلقة والتي هي غير محدودة بالنسبة للملوك وفق ما رأينا، هي بشكل قاس محدودة بشكل آخر: “السلطة المطلقة لا يمكنها أن تمتد لتصل لقوة القوانين الإلهية أو قوانين الطبيعة”. (الجمهورية، الكتاب الأول،الصفحة 193). يمكننا ترجمة احترام السيادة المطلقة أو السلطة المطلقة “لقوانين الله والطبيعية” عند جان بودان من خلال وضع حدود مجسدة جدا وواضحة لسلطات الدولة. كما أنه على الدولة احترام الملكيات الخاصة واحترام المواطنين أيضا.

ح ـ مشكلة الضريبة والعملات.

الضريبة كانت في عهد جان بودان كشيء جديد وقليل الشرعية. ومنها يرى بودان أن الملك لا يستطيع إقرار الضريبة أو ضرائب غير عادية من غير موافقة المقاطعات أو الدول التابعة له. أيضا بالمقابل يعتقد بودان أنه لا يوجد شخص على الإطلاق،وابتداءا من الملك، يستطيع التلاعب بالعملة أو بالنقد.

4 ـ النظام الأفضل: الملكية أو “الملكية الشرعية”.

النظام المثالي الأفضل،وفي جميع الظروف،بالنسبة لفرنسا عام 1576 هو،وفق بودان، “الملكية الشرعية”. “ملك فرنسا عليه أن يحكم بناءا على القوانين حتى ولو كان هو لذي يضعها أو هو الذي يغيرها. عليه أن يحترم الحريات الفردية و الملكيات الخاصة.فالملكية المثالية لفرنسا ستكون شكلا من أشكال عودة الإمبراطورية الرومانية، أو على الأقل عودة ما استطاعت هذه الإمبراطورية تقديمه في أفضل أيامها تحت حكم عائلة “أنطونيوس”.هذه الملكية الشرعية تتعارض مع الملكية الطاغية التي لا تحترم القوانين ولا “قانون الله أو قانون الطبيعية”. إذا إنها تصالح بين الحكم المطلق و حرية الأفراد الذي يجب أن يبقون أسيادا على أنفسهم وممتلكاتهم. في الملكية الشرعية كل يخضع لقانون،الناس لقانون الملك،والملك لقانون الله والطبيعة”،( الجمهورية،الكتاب الرابع،الصفحة 210 ـ 213)، وهنا يظهر بودان قريبا جدا من “شيشرون” المفكر السياسي في العصر الروماني أكثر مما هو قرب من ميكيافلي أو هوبز.

في النهاية، “دولة” جان بودان ستكون ملكية متجانسة وتراتبية، حيث النظام والتماسك سيكونان مضمونان بوجود سلطة ملكية مطلقة،غير مجزئة ولا اعتراض عليها. وضمن فكر جان بودان، ممارسة هذه السلطة المطلقة لا تهدف في النهاية لتوحيد المجتمع في شكل واحد،بل على العكس من ذلك يجب أن تكون موجهة لقيان التعددية والحفاظ عليها في المجتمع أو ما يسميه بودان بالتناغم. فالدولة الملكية التي تحكم بشكل متناغم هي الأكثر جمالا والأكثر كمالا. ( الجمهورية،الكتاب الخامس، الصفحة 303).

التماسك الفلسفي أو الروحاني “الخفي” لفكر جان بودان هو ناتج عن فكرة أن البنية التناغمية و الانسجامية harmonique للعالم ترتكز على الوحدة الغير مجزئة للسيادة، إن كانت في الكون حيث الله هو صاحب السيادة الغير مجزئة، و في الدولة حيث الملك صاحب الحكم المطلق، أو إن كانت في الروح حيث العقل أو الفكر هو صاحب السيادة الغير مجزئة. يقيم جان بودان من خلال هذا التماسك الذي يكاد يتطابق مع النموذج الأفلاطوني الأكثر اكتمالا، توازيا بين شكل الروح وشكل المدينة. (انظر: الجمهورية، الكتاب السادس، الصفحة 307).

هذا هو برنامج جان بودان الذي اقترحه على ملوك فرنسا. ولكنهم بالإضافة للقضاة وحاشيتهم، لم يفهموا جيدا هذه التعليمات.لم يفهموا أو يستوعبوا دروسه الأساسية حول التناغم و الانسجام التي ضمت بين سطورها مبدأ التعددية الديمقراطية والليبرالية، بل أخذوا منها ما يتعلق فقط بالحكم المطلق أو السلطة المطلقة.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            

    

4ـ توماس هوبز ( 1588 ـ1679).

في انكلترا،الملوك Stuarts أرادوا السير على خطى ملوك السلطة المطلقة في فرنسا.وفي اللحظة التي ووجهت سلطتهم بالرفض من قبل الثوريين “الطهريين” puritains (جماعة بروتستانتية طالبت بالتمسك بالفضيلة)، ظهر منظر كبير للدفاع عن الحكم المطلق، إنه توماس هوبز. النقاط التي انطلق منها هوبز تختلف عن الآخرين السابقين الذين نظروا للسلطة المطلقة. عند هوبز لا يوجد”قانون سماوي”، لا توجد مرجعية للقانون الإمبراطوري الروماني ولا إلى فكر سان أوغستان. لقد انطلق من مفهوم مادي للإنسان.

حياته

حياة هوبز وأعماله تتمركز ضمن سياق الثورة الإنكليزية الأولى. بسبب انتمائه لعائلة غير ميسورة،قام عمه بتقديم المساعدة له كي يستطيع إكمال دراسته والتي أتمها في جامعة أكسفورد.عمل بعد ذلك سكرتيرا عند المستشار “فرنسيس باكون” وهو “رئيس وزراء” شارل الأول. وبسبب الحرب الأهلية غادر إلى فرنسا واستقر فيها حتى عام 1651 حيث تعرف على العديد من المثقفين والعلماء الفرنسيين( Mersenne, Gassendi , Descartes) . وخلال هذه المرحلة من حياته وفي باريس أنجز أهم عملين سياسيين لديه De Cive ( 1642)، Léviathan (1651).

عاد إلى إنكلترا، ولكن أعداءه أشاعوا عنه أن هذه العودة هي بسبب ارتباطه بنظام Commonwealth of Cromwell ، وهو نظام يتطابق عمليا مع أطروحة هوبز الأساسية في كتابه Léviathan،والقائلة أن شرعية أي نظام سياسي هي في قدرته على تامين وحماية النظام العام والاستقرار. أثناء “عودة العرش” Restauration في عام 1660، لم يقلق هوبز كثيرا، ولكن الملك شارل الثاني منعه من نشر كل كتابة سياسية له ويعود هذا في جوهره لسمعة هوبز بأنه ملحد ولا يعترف بالأديان. تفرغ هوبز بعد ذلك لإكمال عمله الفلسفي، قضايا الرياضيات والعلوم الطبيعية، ثم قام بترجمة هوميروس.

أعماله

ـ السياسية : “عناصر القانون” بالإنكليزية، طبع في عام 1650؛ ” المواطن” De Cive باللاتينية، عام 1642؛ “التنين” Léviathan بالإنكليزية، عام 1651، وظهر عنه نسخة مصححة باللاتينية في عام 1668.

ـ الفلسفية : De Corpore 1655، De Homine 1658، Elementa philosophica، ثم عمل عن فلسفة ديكارت في عام 1641.

ـ التاريخية : Behemoth أو the Long Parliament أو بصيغة أخرى ( Dialogue of the Civil wars of England كتب نحو عام 1668، لم ينشر أثناء حياته، وهو وصف للثورة الإنكليزية.

ـ العلمية : كتاب في البصريات، كتاب في الرياضيات ويقول فيه أن وجد حلا لتربيع الدائرة.

كتاب Léviathan ( وهو واحد من وحشين مذكورين في التوراة)، يشكل عملا فلسفيا كبيرا. في قسم كبير منه يحلل الإنسان، طبيعته، روحه، طرقه للمعرفة وللعلوم. وفي القسم الثاني يكرسه “للجمهورية” أو بمعنى آخر الدولة. القسم الثالث والرابع للقضايا الدينية.

1ـ حالة الطبيعة عند هوبز.

أ ـ حرب الكل ضد الكل:

في رأيي هوبز، الطبيعة جعلت من الناس متساويين. في الواقع يوجد اختلافات في القوة الجسدية والفكرية بين البشر،ولكن هذا لا يبرر اللامساواة الدائمة. فالضعيف،يقول هوبز،هو دائما لديه القوة الكافية من أجل قتل القوي، فالاختلافات الجسدية يمكن أن تصبح لا قيمة لها. أما بالنسبة للاختلافات العقلية فهي وهمية لحد كبير: فكل واحد يعتقد نفسه أكثر ذكاء من الآخرين، ولكنها فكرة موجودة عند كل البشر.

ب ـ (…) من المساواة تأتي الريبة والشك:

المساواة نفسها تسمح لكل واحد بالاعتقاد أنه يستطيع هزيمة الآخر، أو أن يكون مهزوما من قبله.إذا المساواة وبعكس ما نعتقد في الغالب، لا تحدث الألفة أو الود،بل تحدث الشك والريبة[9].

ت ـ (…) من الشك إلى الحرب:

بفعل هذه الريبة، فإنه تصرف عقلاني بالنسبة للإنسان ألا ينتظر أن يهاجمه الآخر، بل أن يأخذ المبادرة و يجعله غير قادر على مضايقته المحتملة وحتى يصل إلى درجة لا يمكن لأي شخص أن يهدده.(المرجع السابق).

ضمن هذه الظروف، نحن نفهم أن المجتمع، في حالة الطبيعة، هو بشكل كبير غير مستقر، وفي هذه الحالة البشر “هم في ظرف كهذا نستطيع أن نسميه بالحرب، وهذه الحرب هي حرب الكل ضد الكل”[10]،”وما هو أخطر من كل شيء، أن هذه الحالة من الحرب هي مستمرة، وبالتالي حياة الإنسان ستكون مليئة بالوحدة والرعب وقريبا جدا من حياة الحيوان”[11].

2 ـ حالة الطبيعة هل هي حقيقة موجودة ؟

هوبز يجيب : لم يوجد لحظة في التاريخ حيث كل الإنسانية عاشت في حالة الطبيعة. بالمقابل يوجد مناطق عرفت هذه الحالة ويعطي مثالا عن القارة الأمريكية. وحالة الطبيعة توجد أيضا بين الأمم، أما الدليل فهو واضح جدا: كل الدول تتسلح وترسل الجواسيس وتبني جيوشا. لكن المثال الأكثر عمقا عن حالة الطبيعة عند هوبز فيراه في “الحرب الدائمة وحالة الطبيعة الدائمة” في الدولة البوليسية نفسها، فهي تهدد بالظهور في كل لحظة.

3 ـ لا يوجد عدالة في حالة الطبيعة.

يصل هوبز إلى هذه النتيجة من خلال العديد من المضاعفات التي يتحدث عنها. ففي الحرب”العنف و الخديعة هما الفضيلتان الأساسيتان”،حيث لا مكان للحديث عن العدالة و الظلم، ما يمكن حسابه فقط هو علاقات القوة. وحالة الطبيعة هي حالة من الحرب، إذا نستطيع القول أن العدالة و الظلم غير موجدين فيها،حتى أنه لا يوجد قانون طبيعي”. (المرجع السابق،الصفحة 126). أيضا يقول هوبز:”في حالة الطبيعة، مفاهيم الشرعية و اللاشرعية،العدالة و الظلم، ليس لها مكان. هنا حيث لا يوجد سلطة مشتركة،لا يوجد قانون”. ( الصفحة 126).

4 ـ مشكلة التعاقدات.

حالة الطبيعة إذا لا يمكن العيش فيها، لذلك لا بد من البحث عن مخرج. ولكن كيف؟ للإجابة على هذا السؤال ،يحاول هوبز توضيح مفهوم العقد أو التعاقد. فالقانون الأول للطبيعة هو حماية النفس،ولهذا الغرض الإنسان يقوم بالحرب. ولكن إذا وجدت وسائل أقل تكلفة للحماية من الأخطار، فإن هذا سيكون بالنسبة للإنسان قانونا طبيعيا للعقل أن يقبل بالوسائل الجديدة. وحتى توجد هذه الوسيلة لا بد من المضي إلى مرحلة العقد. للأسف،من أجل إقامة العقد لا بد إجباريا عند هوبز من رفض الأفكار التقليدية “للحالة الاجتماعية الطبيعية”، للوعي الأخلاقي وللنيات الطيبة، هذه الأفكار التي تقع ضمن النظريات التقليدية للقانون الطبيعي؛ لأن هوبز يعتقد ومن أجل الوصل للتعاقد مع الآخر، أنه لا بد من الحديث معه، لكن الكلام لا يكفي فهو ليس إلا كلاما في الهواء، خاصة عند يشعر الإنسان بخطر يهدده فإنه يتخلى عن هذا الكلام. وفي هذه الحالة لا يحترم الكلام إلا بوجود قوة مشتركة تعاقب من لا يحترم التعاقدات وفي جميع الظروف وبالتساوي بين الجميع. وفي هذه الحالة فقط لا غير يمكننا الاعتماد على احترام التعاقد، ويصبح العقد عقلانيا و ليس طبيعيا. يبقى في هذه الحالة اختبار مدى إمكانية و طرق إقامة تلك القوة التي تحكم بين الجميع والتي هي إشارة لانتهاء عصر بأكمله وبداية طريقة أخرى في الحياة. في الجزء الثاني من كتاب”التنين” والمعنون “بالجمهورية” يختبر هوبز هذه الإمكانية.

 

 

5ـ العقد الاجتماعي عند هوبز.

أ ـ مقدمة أساسية:

القوة التي ستحك بين الناس سيتم إذا التعبير عنها من خلال عقد اجتماعي، هذا العقد سيكون فريدا بشكله ومحتواه، بمعنى أنه لن يحتاج إلا ضامن له، لأنه هو الضمان بحد ذاته. هنا هذا العقد سيؤدي إلى قيان “سلطة مرئية” قادرة على :” إقامة الاحترام بين البشر، ربطهم ببعضهم من خلال الخوف من العقوبة”[12]. يحدد هوبز في هذا الموضوع العديد من النقاط الأولية :

ـ القوة “التحكيمية” التي سيقيمها العقد يجب أن تكون وحيدة في الدولة، حتى لا توجد قوى أخرى ضد هذه القوة.

ـ بما أنه لا يوجد عدالة أو ارتباط واختلاط اجتماعي طبيعي، فإن هوبز يرد بشكل “مبطن”،كما سنرى، على أطروحة أرسطو والتي وفقها يوجد تناغم عفوي أو طبيعي بين البشر،وأن العقد ليس ضروريا.

ب ـ إنشاء أو خلق الكومونويلث  Commonwealth أو “الرابطة”.

 ما يجب القيام به وفق هوبز:” أن يسلم أو يعهد الناس بكل سلطتهم وقوتهم لشخص واحد،أو إلى مجلس واحد والذي يستطيع التقليل أو تخفيض كل أشكال العنف، وذلك من خلال قاعدة الأغلبية، أو على إرادة واحدة (….)حيث كل واحد يعترف و يعترف له ككاتب لكل ما سيحصل أو ما يجب أن يحصل فيما يتعلق بالسلم والأمن المشترك”.( الجمهورية،الكتاب الثاني، الفصل 17، الصفحة 177).

وما يجب أن يحصل:” من خلال تعاقد كل واحد مع الآخر و كأن كل منهم يقول للثاني: أسمح لهذا الإنسان أو هذا المجلس وأترك له حقي في حكمي”. (المرجع السابق). نشير هنا إلى أن العقد الاجتماعي عند هوبز ليس بين مواطنين وملوك، بل “بين واحد و واحد آخر”. أما العلاقة هنا فهي قائمة بين المتعاقدين، والملك “أو صاحب الحكم والسيادة” هو خارج العقد وليس جزءا منه. بمعنى آخر انه غير مرتبط بأي شيء،لا يعد المتعاقدين بشيء. طبعا هذه النسخة من العقد الاجتماعي هي أصلية وجديدة أتى بها توماس هوبز. إذا المتعاقدون والملك لا يشكلون كائنا واحدا نسميه الجمهورية (الكومونويلث أو civitas في اللاتينية)، لأنه من خلال هذا النقل للإرادات إلى إرادة واحدة تمثلها جميعا،هذا النقل هو أكثر من “توافق”. فما يتم تحقيقه هو وحدة حقيقية، “شخص واحد”. ومن يمتلك هذه الشخصية نسميه الملك، والآخرون هم خاضعون له ” حيث أنه،هذا الملك،يمثل المجموع،وأن هذا العقد للتمثيل هو من يؤسس المجموع، فالملك هو المجموع.لا يوجد مجموع لوحده و ملك لوحده من جهة أخرى، فالمجموع ليس مجموع أو جماعة إلا لأن أعضاءه يربطون شخصيتهم في ممثل واحد لهم هو الملك”. (المرجع السابق). بهذه الحالة نلاحظ عدم الفرق عند هوبز بين المجتمع والدولة،إنهما كلا واحدا. المجتمع هو الدولة، والدولة هي المجتمع. والسبب أنه لا يوجد عقد بين ” ليفياثان” Léviathan ( وهو وحش مائي في الأسطورة الفينيقية تم ذكره في التوراة،حيث أصبح رمزا وثنيا للعبادة) و الشعب،لا يوجد مكان في نظرية هوبز للفكرة الليبرالية القائلة “بمجتمع مدني” يميز عن الدولة. فالمجتمع ليس موحدا إلا من خلال وداخل الملك،ليس له سوى رأس واحد وصوت واحد، إنه صوت الملك، وإذا هذا الأخير رفض أو تاجر بسلطته المتفردة فإنه يتوقف عن الوجود.     

       

 6 ـ ” الليفياثان” Léviathan.

يرى هوبز أن الدولة هي كائن قوي مهما كان الشكل أو الطريقة التي وجدت من خلالها. هوبز يعطي أو يهب هذه الدولة اسما غريبا ” الليفياثان الكبير”، وهو أقل من إله وأكثر من إنسان، و عن هذا الكائن أيضا يقول هوبز :” إن سلامنا وحمايتنا تعود لهذا الله الذي لا يموت” أي الدولة. إنه يشكل بهذه الطريقة بل يؤسس من دون أدنى شك واحدة من النظريات الأكثر تطرفا التي عرفت عبر التاريخ فيما يتلق بموضوع الدولة وسلطاتها على الأفراد.

“الليفياثان” هو من سيضع القانون القضائي والأخلاقي في كل ما يتعلق بالأفراد. فالقانون ليس شيء آخر سوى إرادة الملك.القانون بالمعنى الدقيق للكلمة هو “قيادة الشخص”، هذا الأخير الذي لديه في نفسه مبدأ الخضوع. ( من كتاب ” المواطن” De Cive ، الفصل 14، الصفحة 1). القانون هو : ” بالنسبة لكل خاضع، مجموعة من الأحكام، والتي الجمهورية، شفهيا أو كتابيا أو أية طريقة أخرى تشير إلى إرادتها، تقوده للتميز بين ما هو صحيح وما هو خطأ ( right….wrong) بمعنى ما هو ضد القانون وما هو ليس ضده”. ( الليفياثان،الكتاب الثاني، الفصل 26،الصفحة 282).

يرى هوبز أن المذاهب البرلمانية أخطأت عندما اعتقدت أن قبول أو رضاء الجسم التمثيلي يمكن أن يضيف شيئا على القانون. فسلطة الملك غير محدودة.لا يوجد قانون أعلى منه، فهو من يعرّف القانون والأخلاق،وهي ليست إلا شرحا لإرادته. سلطته أيضا لا يمكن الحد منها بسلطات أخرى، لأن جميع السلطات موهوبة منه. أيضا حكمه المطلق غير قابل للتجزئة وهنا يلتقي هوبز مع جان بودان في هذا الموضوع.

أيضا ووفق هوبز، لا يستطيع أحد الاعتراض على المؤسسة الملكية التي تم الاعتراف بها من قبل الأغلبية، ولا أحد يستطيع تجريم أفعال الملك. لأن كل واحد أراد مسبقا كل ما يريده الملك؛ لا شيء من تصرفات الملك يمكن أن يعاقب عليها من قبل الخاضعين له، لأننا نعاقبه بهذه الحالة بسبب فعل قمنا به بأنفسنا. الملك هو من يقدر الضروري للسلام والدفاع عن رعاياه. إنه يختار مستشاريه ووزرائه،يحقق العدالة،يقرر السلم والحرب.

إن نظرية الحكم المطلق عند هوبز،كما هي عند جان بودان، تتلاءم مع أشكال متعددة للأنظمة، لأنها تستطيع اتخاذ تجسيدات متعددة للملك، ومنها التقسيم التقليدي للأنظمة: ملكية،أرستقراطية و ديمقراطية.لكن هوبز يفضل الملكية من بين مختلف الأنظمة الأخرى التي تشبه الملكية. إن حجج هوبز في دعمه للملكية أو أهمية نظريته تكمن في أنها تدافع عن السلطة المطلقة للدولة، وبعيدا عن أية مراقبة ديمقراطية، أخلاقية أو أي شكل من أشكال القضاء. فالدولة عند هوبز لديها جميع الحقوق.

خاتمة حول الحكم المطلق أو الاستبدادي.

لقد رأينا في هذا الفصل الذي تحدثنا فيه عن الحكم المطلق أن لطبيعة هذا الحكم مصادره في القانون الإمبراطوري الروماني، مصادر لم تخلو من طعم السلطة البابوية الكنسية ثم الدول “العلمانية” التي استخدمت هذا الحكم في صراعها ضد الإقطاعية في القرون الأخيرة من العصر الوسيط. مع ذلك،وخلال فترة طويلة جدا، الكنيسة و الدولة كانتا قوتان متوازنتان لا تستطيع قوة من بينهما إخضاع الأخرى وتأسيس سلطة مطلقة بشكل كامل. العقبة أمام السلطة الكهنوتية جاءت من خلال “علم لاهوت عصر الإصلاح”. أما ما تبقى من البنى الاجتماعية الإقطاعية فقدت شرعيتها مقابل الدولة ولو في بعض الدول من دون غيرها. إن مذهب الحكم المطلق الغير قابل للتجزئة تم رسمه على يد جان بودان، وتبعه معظم القضاة الفرنسيين في مجال القانون العام. ولكن ميلاد علوم اجتماعية جديدة سيضع هذا المذهب بعد فترة زمنية قيد المساءلة و البحث.     

       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

التقليد الديمقراطي و الليبرالي

الفصل الرابع

التقليد الديمقراطي و الليبرالي

مدخل

إن ما يميز العصر الحديث والمعاصر في حقل الأفكار السياسية في الغرب هو ظهور الفلسفة السياسية والنظريات الدستورية والتي أسست لوجود الدولة الديمقراطية الليبرالية . ولكن في الواقع إن الأفكار الأساسية هذه التي أسست ” لدولة الحق ” كانت قد شكلت بواسطة المفكرين في العصور القديمة والوسطى . ضمن هذا السياق لا بد من طرح السؤال التالي : لماذا إذا هذه الدولة وهذا المجتمع المتطور لم يزدهر بشكل حقيقي إلا في العصر الحديث والمعاصر ؟ الإجابة السريعة تقول : لأن القرون الأخيرة اكتملت بشكل عميق وكبير ومتقدم فكريا بالمقارنة مع العصور القديمة والوسطى . إن المفكرين في هذه العصور أسسوا نموذجا جديدا للنظام الاجتماعي ، والذي نستطيع أن نصنفه على أنه نموذج أو ” براديغم” التنظيم من خلال التعددية . لقد علموا أن الحرية الفردية والتعددية وهما متلازمان ونتاجات طبيعية ، لم تكن عنصرا أو سببا للتفجر الاجتماعي و الفوضى ، بل شكلا راقيا وساميا لتنظيم العلاقات بين البشر . هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت لهم بإنتاج وتشييد مؤسسات الدولة ” دولة الحق والقانون ” والنظام التعددي. أما أهم الأفكار فكانت [ حقوق الإنسان ، السوق ، الديمقراطية ، المؤسسات الأكاديمية الحرة ، الصحافة الحرة ..]


فيما بعد ، ومن خلال صيرورة التقوية والدعم والسمو الممنوح من خلال هذه المؤسسات للمجتمعات الغربية والأفضلية على جميع أشكال التنظيمات المعروفة ، تأمنت عملية البقاء والخلود للنموذج الديمقراطي والليبرالي . هذا النوع والنهج من التطور الاجتماعي وتطور تنظيم الدولة وبناء المؤسسات انتصر بشكل ساحق على الأشكال المرضية والتخريبية لبناء المؤسسات والفرد وأهمها الفاشية والشيوعية.

من خلال هذه ” الإشكالية ” ، إشكالية العلاقة بين بنية هذه الأنظمة المتعاقبة وتداخلاتها ، ونظرتها للدولة والمجتمع والفرد والمؤسسات والحرية ، نستطيع أن نضع الأساس الذي سننطلق منه في هذه المقولات حول الفكر السياسي في العصر الحديث والمعاصر .


في بداية هذه الرحلة الطويلة مع قراءة الفكر السياسي الديمقراطي والليبرالي ، لا بد من إيضاح وتعريف عدة مناهج تساعد على القراءة الدقيقة للإشكالية المطروحة أعلاه .


1- براديغمات متعددة للنظام الاجتماعي :

 

أولا : مفهوم البراديغم ” Paradigme ” :


ماذا يقصد بالبراديغم أو ” النموذج ” في الفكر السياسي و الاجتماعي ؟

بشكل عام ، البراديغم : هو نموذج يشكل البناء ” التحتي ” لفكر ما ، والذي يحدد بنيته ، والذي يطرح أسئلة محددة ، والذي ينظم ” المعطيات ” ،أو ” المعطى ” وفق بنى أو ” محيطات ” متعددة .
” البراديغم ” في الفكر السياسي والاجتماعي ، هو نطاق أو محيط في داخله نفكر بالمشاكل المتعلقة بالمجتمع والدولة . وكل “براديغم ” يرتكز على استيفاء أو الحصول على شكل ما للتنظيم أو الفوضى الاجتماعية ، وهذا يعني ، ما يحدد بدقة ” واحترام ” الازدهار ، السلام ، السعادة للمجتمع ، أو بالعكس ، الذي يحدث اضطرابات وبلبلة وعدم استقرار وسقوط وانهيار .هذا المفهوم ” للتنظيم ” سيحدد كل شيء على سلم أو مقياس للقيم بما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع ، ومن خلاله نحدد معيار أو معايير ما نفضل ، والأعمال التي سنقوم بها ، والبرامج التي سنعدها .


ثانيا : ” البراديغمات ” الثلاث للفكر السياسي والاجتماعي الحديث :

في الفكر السياسي الغربي الحديث نميز ثلاث عائلات من النظريات : اليمين ، اليسار ، والديمقراطية الليبرالية . ونستطيع الاعتبار أن كل واحدة من بينها ” تقاد ” بشكل عميق من خلال ” براديغم ” أساسي ، أو رؤية للنظام الاجتماعي . وبشكل عام أكثر تبسيطا ، الفكر اليميني يظهر كأنه يقاد من خلال النظام الفطري أو الطبيعي ، أم اليسار من خلال نظام مصطنع ، والتقليد الديمقراطي والليبرالي من خلال نظام عفوي ، تعددي ، ثقافي ، متداخل ومتعدد التنظيم .


ثالثا : النظام المقدس

في المجتمعات البدائية يوجد نظام مقدس وهو الذي أقيم بواسطة الآلهة . هذا النظام المقدس كان في الكثير من الأحيان متعذر مسّه ، حيث أعطته الآلهة و أعطت المجتمع بنى متعددة وفرضت عليه القيام بأشياء عدة . بالنتيجة ، إنسان المجتمعات الابتدائية سيكون خطرا على النظام الاجتماعي القائم ، أما الإنسان الحديث فقد طمح وعمل على التحرر من القوانين الطبيعية والميتافيزيقية . النظام المقدس يستبعد عملية التغيير الاجتماعي ومن ثم يعطل التقدم . فالمجتمع الكهنوتي هو مجتمع ” بلا تاريخ ” ، والتقدم العلمي والتقني لم يحدث غلا عندما قام المجتمع بتحطيم كل قيود الشعائر والطقوس والأساطير .


رابعا : الأنظمة ” الوسطى ” ما بين الطبيعي والمصطنع :

القارئ لتطور الفكر السياسي يتوصل على معرفة وجود نوع من ” الأنظمة ” التي تشكل حقائق داخل المجتمع والتي لا تنتمي لا للنظام الطبيعي ولا للنظام المصطنع . و إذا قمنا باختبار وتحليل ” الأخلاق ” أو ” القانون / الحق ” وهي من ” الأنظمة ” الجوهرية للفكر السياسي / اجتماعي ، فإننا سنعرف تماما ماذا نعني بالأنظمة الوسطى . فهي ” الأخلاق والقانون ” ليست من الأنظمة الطبيعية حيث أنها تتغير وفق الزمان والمكان . وهي ليست اصطناعية ، حيث لا يستطيع أي كان أن يصمم أو يخلق ” أخلاقا ” أو نظاما قانونيا على طريقة مهندس يصمم آلة أو أي شيء آخر مصطنع . ولكن فقط في العصر الحديث والمعاصر حتى تيقن المفكرون بكثير من الوعي والتيقظ ، على أهمية ونوعية هذه الأنظمة المذكورة و أنها كوّنت بشكل واضح وعلمي مفاهيمها الخاصة بها .


الاقتصاديون ” التوماسيون ”
thomistes ، في القرن السادس عشر سيقولون أن الأسعار أقيمت وكونت بواسطة ” الله ” ، وهذا ما يشير إلى مسؤول آخر في العملية الاقتصادية خارج عن طبيعة الإنسان .
” هيوم ”
hume ، سوف يشرح بوضوح فيما بعد كيف أن ” التعاقدات أو الاتفاقات ” التي تعرف العدالة هي من أعمال البشر من غير أن تكون من صياغة ” العقل الإنساني ” . ” آدم فيرغوسون ” ، سيتحدث عن “أنظمة ” ناتجة عن أفعال الإنسان ولكن من غير قصدهم أو نيتهم ، ” آدم سميث ” ، يضع ” اليد الخفية ” الشهيرة للسوق ، وهي ليست يد الله ولا يد الإنسان ، ولكن هو المجتمع الذي ينظم من خلال ذاته وهنا ” سميث ” لا يحدد ” المفردة ” الدالة على هذا التنظيم والتي يمكن أن تكون auto-organise .


المشكلة السياسية أيضا وضعت تحت نوع آخر من الأضواء . فهدف مؤسسات الدولة والنظام القانوني لم تكن نهائيا التقرب من النظام الطبيعي ، المصدر الوحيد لكل شيء ” عادل ” ، ” قابل للحياة ” ، ” خصب” . كما لم تكن الأهداف هي إقامة نظام اجتماعي مثالي أو طوباوي ، بل كان الهدف هو تصور أو إدراك المؤسسات الأكثر ” مقبولية ” من أجل انبثاق نظام اجتماعي ” عفوي ” ينتج عن أفعال إنسانية تعددية تهدف للتوافق أو التلاؤم بين البشر ، ثم إنتاج حقائق اجتماعية واقعية وسامية : قوانين مجردة عن أي شيء غير الإنسان تسمح بالسوق أي التنافس الاقتصادي الذي لم يسبق حصوله ، مؤسسات برلمانية وديمقراطية والتي تقلل بشكل كبير خطورة بقاء مجموعة من المتسلطين في أماكنهم بشكل دائم ، وحرية صحافة تسمح بظهور حقائق اجتماعية وسياسية أكثر موضوعية ، الحرية الأكاديمية والتي تسمح بالانبثاق السريع للعلوم . هذه التغيرات الجوهرية و الأساسية للمجتمع الغربي جعلت بالإمكان لتاريخ فكري أن يمتد هذه القرون ، و أن يكون نظريات حديثة للدولة الديمقراطية والليبرالية .


إن تاريخ الفكر السياسي الحديث والمعاصر هو تمازج مع هذه التكوينات السابقة للمجتمع ، ولكن وجد من يقاوم هذا الفكر الحديث ويعارضه وخاصة من خلال المفكرين التابعين لنماذج فكرية رجعية . من هنا يمكن تصنيف دراسة تطور الفكر الليبرالي والديمقراطي ونمييز ثلاثة محاور أساسية فيها :


– اتجاه من الفكر يصنف ب” التقليد الديمقراطي والليبرالي ” ، والذي ينطلق من نموذج غير طبيعي أو مصطنع في النظام الاجتماعي .

– عائلة من التفكير ” اليميني ” المعتمدة في أساسها على النظام ” الطبيعي ” .

– عائلة من التفكير ” اليساري ” القائمة على نموذج ” منظّم ” .

2- السؤالان الأساسيان للنظرية السياسية وفق ” لورد أكتون ” ( 1834 – 1902 )

 تختص النظريات السياسية وفق ” لورد أكتون “  في الرد على سؤالين كبيرين :

أ- من يجب أن يأخذ السلطة السياسية ؟

ب- ما هي الحدود التي يجب أن تكون للسلطة السياسية ، مع وجود أي كان فيها ؟


من الواضح هنا أن النظرية السياسية تبحث على حل : إما لمسألة السلطة داخل الدولة ، أو لمسألة سلطة الدولة . من المهم والجوهري الفهم أن هذين السؤالين الكبيرين يعودان إلى إشكالية مهمة في تاريخ البشر وهي ” إشكالية الخضوع والتبعية ” . يمكن اعتبار الإجابات على السؤال الأول تتدرج ما بين القطبين المتضادين أو النقيضين : حكومة تسلطية / الديمقراطية . يوجد حكومة تسلطية والتي تأخذ شكل ” الملكية ، أو الديكتاتورية ، أو أرستقراطية مغلقة …..” هنا الفرد الحاكم أو المجموعة الحاكمة تأخذ وحدها القرارات وتحتفظ لوحدها بالسلطة . ويوجد ديمقراطية حيث الحاكمين يكونون في السلطة وفق إجراءات قانونية سلمية ، مع تعددية للمرشحين ، وحرية التعبير ، والنقاشات العلنية ، انتخابات . من جهة أخرى يمكن تغيير الحاكمين بشكل سلمي على السلطة .


أما الإجابة على السؤال الثاني تترتب حول قطبين متناقضين آخرين : التوتاليتارية / الليبرالية .
يوجد ” توتاليتارية ” عندما الدولة تدير أو تقود ” كل شيء ” في المجتمع ، لديها سلطات غير محددة ، تسيطر على الفكر والتعبير، الحياة الاجتماعية و الاقتصادية ، لا تعترف بحقوق الأفراد ، أو الجماعات الخاصة ، ولا بحقوق الأقليات ، كما لا تعترف ولا تقوم بأي شيء يؤدي لقيام المجتمع المدني .
ويوجد ” ليبرالية ” حيث سيادة الدولة تكون محدودة ، وتكون مضطرة للاعتراف بالقانون أو ما يتفرع عنه من تشريعات دولية [ مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، أو الأحكام الدستورية الأساسية ] . والدولة تحترم هنا بشكل عملي المبدأ الذي وفقه سلطتها التنفيذية والتشريعية لا تعيق أي حق من الحقوق أو الحريات ” الدينية ، التفكير ، الملكية ، العمل ، التعاقد … “


ولكن هل من تداخل بين هذه الأنظمة ؟

– يمكن أن يكون لدينا ” انتقال ” ديمقراطي للسلطة السياسية داخل الدولة ، والتي لديها نفوذ أو سلطان محدود على المجتمع ، من خلال الحقوق الأساسية للأفراد . وبالتالي يكون لدينا ديمقراطية ليبرالية .
– يمكن أن يكون لدينا سلطة سياسية ” تسلطية ” ودولة ” شمولية ” . وهذا ما نلحظه داخل ما ندعوه الأنظمة التوتاليتارية [ الفاشية ، الشيوعية ] ، حيث الدولة تفعل كل شيء مع الفرد دون حدود ، وبالإضافة لذلك ، الحكام يحتكرون السلطة ويبعدون المعارضة من خلال البوليس السياسي ، وهؤلاء في هذه الدولة لا يعترفون نهائيا بالانتخابات الحرة .


– ولكن بالإمكان وجود حكومة تسلطية في دولة ليبرالية : حصل هذا في الماضي ، في الإمبراطوريتين الفرنسيتين ، وحصل في تشيلي وكوريا الجنوبية وسنجابور ، وفي حكومة الشاه الأخيرة في إيران.


– إذن الإمكانية النظرية موجودة، وهناك أمثلة تاريخية لدول وأنظمة مهيمنة وشمولية، ولكنها في الأساس منتخبة ديمقراطيا. الأنظمة الثورية في أسابيعها الأولى تفعل نفس الشيء، عندما يأخذون التفويض من الشعب في الوصول على السلطة ولا يحترمون الأشخاص والملكيات، ومن ثم يعتبرون الشعب عدوهم. هذا الشكل من الأنظمة غير مستقر، ويقود في النهاية على استبعاد الآخرين، ويتحول من ثوري إلى تسلطي شمولي. .


3- الديمقراطية والليبرالية تفترض ” براديغم ” النظام ” العفوي ” Spontané :


Spontanéisme : نظرية قائمة على العفوية المبدعة في الفرد .


Spontanisme : نظرية تعتمد على التوالد الذاتي ” عفوية التولد ” .


عندما يتلازم وجود الديمقراطية والليبرالية عبر تاريخهما معا ، فهذا لم يأت محض صدفة ، بل لأنهما يملكان نقاطا مشتركة في تأسيسهما للأنظمة التعددية ” العفوية ” أو الأنظمة ” المنظمة ” ذاتيا من نفسها .
الأنظمة المؤسساتية الديمقراطية تستند على النقاش أو الجدال المتناقض والمتعارض ، وحرية الترشيح والتصويت ، وفي الغالب تعتمد على حكومات تأخذ بالإدارة الجماعية [
Direction collégiaux ] ، إذا هي تتطلب الفصل ” séparation ” ، وبالتالي التوزيع أو التقسيم ” répartition ” بين أيد متعددة للسلطة أو السلطات . أنصار الديمقراطية يعتبرون هذا كله لبلوغ فعل سياسي متلاحم وقوي ، ولتعريف وتنفيذ لسياسية تتم متابعتها ، وتكوين تشريع مستمر .


والليبرالية أيضا ، ليس فقط هي حرية السوق والمبادرات الفردية ، إنها تعددية الصحافة والعلوم ، تفتح الحقيقة ونموها ، فالتعددية تولد شكلا ساميا للنظام . لهذا السبب في العصر الحديث والمعاصر مذاهب الديمقراطية والليبرالية تطورت إلى هذا الحد . وتاريخ الفكر السياسي في هذه الفترة يستطيع أن يكون متصفا أو مطبوعا كتاريخ يرتقي أو يدور في داخل ” براديغم ” التعددية ، وفي داخل كل سؤال من الأسئلة الأساسية للسياسة والتي وردت سابقا . ومن جهة أخرى يدور بنفس التناسق في صراع ضد نموذج من التفكير يقام بواسطة مفكري ” اليمين ” المرتبطين في ” براديغم ” النظام الطبيعي ، ومفكري ” اليسار ” المرتبطين في ” براديغم ” العقل البنائي ”
Constructiviste . Constructivism“نظرية تعنى بالجمال ظهرت عام 1920 ، جاءت في مكان النحت التقليدي ، وتؤسس نحتا مفرغا متعدد التشابكات والخطوط والسطوح ، وهي تعدّ كل موضوع للفكر ” مبنيّا “.وبهذا تكون الليبرالية قد حاربي على جبهتين : ضد هذه الأنواع من الفكر ، وفي سبيل صياغة نظرية للتعددية.

 

4 ـ القرن السادس عشر:”المدرسة الفلسفية الثانية”،” الملكية” و الدستورية الكالفينية calviniste.

في معارضة لصعود الحكم المطلق الاستبدادي، وضمن سياق من الحرب الدينية الدموية، عرف القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر تشكل مذاهب “ديمقراطية” (مذاهب لتقاسم السلطة داخل الدولة ضد الملك و المجالس الحاكمة)، وأخرى ليبرالية (مذاهب تدعو لوضع حدود لسلطة الدولة). حاولت هذه المذاهب البناء على مادة فكرة قديمة: القانون الروماني، القانون الكنسي، المدارس الفلسفية،التصالحية، الجمهورية républicanisme الإيطالية،التقاليد البلدية من العصر الوسيط، الإنسانية humanisme.

 

نشير هنا في البداية إلى ملاحظة هامة. في العادة نقول أن الأفكار الديمقراطية و الليبرالية هي “حديثة”. بالتأكيد، لديها تعبيراتها المذهبية doctrinal الكاملة في العصر الحديث والمعاصر. مع ذلك، إنها لم تظهر هكذا بضربة واحدة أو بشكل مفاجئ بعد “ظلام” العصور الوسطى. فمنذ العصور القديمة وحتى العصور الديمقراطية الليبرالية الحديثة مرورا بالعصور الوسطى، هناك الكثير من هذه الأفكار. “الثورة البابوية” في القرن الحادي عشر و الثالث عشر وجدت العديد من الأفكار القادمة من العصور القديمة وفكرت بها ضمن معنى التبشيرية messianisme المسيحية والتي دعت إلى التقدم الاجتماعي والفكري. مع الإشارة هنا إلى القطيعة التي حصلت مع هذه الأفكار على مع نظريات ميكيافلي و هوبز. سنرى مباشرة عملية الانتقال من “التصالحية” القروسطية إلى الدستورية الحديثة، بمعنى آخر من” Gerson إلى Grotius “[13] ومن ”  Constanceإلى 1688″ [14].

أولا ـ مثابرة التقاليد القروسطية.

رأينا في السابق ومنذ تجديد دراسة القانون الروماني في القرنين الحادي عشر و الثالث عشر،وخاصة بعد انفصال الدول الأوربية عن الإقطاعية  لتصبح أكثر قوة ومركزية، العديد من القانونيين حاولوا تبرير هذا التطور إلى الحكم المطلق. ولكن بعض القانونيين في المقابل عرضوا هذا الصعود للاستبداد مبينين الجوانب الديمقراطية و الجمهورية في نفس القانون الروماني،أي على العكس من مبرري الاستبداد. حصل في هذه الفترة نوع من المناظرة بين “اللاهوتيين” أنفسهم، هؤلاء يبحثون لتعميق الاستبداد،والآخرون يشيرون على التقاليد “الديمقراطية” للكنيسة حتى تشكيل ما يمكن اعتباره المذهب الديمقراطي الأول أو “التصالحية”. وكما فعلنا في الإشارة على الأفكار العريضة والكبرى لمذهب الحكم المطلق الاستبدادي، سوف نشير هنا إلى أهم أفكار المشرعين والمدرسيين الكنسيين القروسطيين الذين دعوا للتعددية وظهروا فيما بعد في ثوب الدستوريين constitutionalistes في القرن السادس عشر.

1 ـ التفسيرات القروسطية غير الاستبدادية للقوانين الرومانية والكنسية.

العديد من المشرعين والكنسيين عارضوا مفهوم “السلطة المطلقة” من خلال ما وجدوه في القانون المدني، ثم قالوا جملتهم الشهيرة ” ما يتعلق بالجميع يجب أن الجميع موافق عليه”.    

أ ـ ” بارتول” Bartole و الحكم أو السيادة الشعبية.

في القرن الرابع عشر،قدم بارتول (1313 ـ1347) تفسيره لما كان يسمى قانون ” lex regia”، وهو في الواقع القانون القديم الذي تم التصويت عليه من قبل “الجمعيات المشيخية الناخبة” وكانت موجودة في العصر الروماني، و ينص على منح الهيئات القضائية الجمهورية دورا كبيرا في اختيار الإمبراطور. يؤكد بارتول أن الإمبراطور الأول كان دائما يقول أنه حصل على سلطته من هذا القانون. والقانون يعني أيضا أن الشعب لا يقوم سوى بتوكيل ممارسة الحكم أو السيادة لشخص أو جسم منتخب، وأن السيادة نفسه بقيت داخل الشعب. بارتول وفي سياق البحث عن استقلال بعض المدن الإيطالية الشمالية عن الإمبراطورية،ساند التفسير الذي يقول بأن هذه المدن حصلت على استقلالها عن الإمبراطورية وفق القانون المسمى lex regia الذي ينص على أن السيادة الأصلية تعود للشعب، وأن هذه المدن عادة وحصلت على “أميرها الخاص” sibi princeps.

ب ـ ” غيرسون” Gerson والتصالحية.

بعد ذلك وجد وضمن سياق الانفصال الكبير عن الكنيسة الرومانية Grand Schisme (1378ـ1417)، بروز الأفكار التصالحية، حيث اللاهوتيين و المدرسيين الكنسيين، Pierre d’Ailly, Francisco Zabarella, Jean Gerson , Nicolas de Tudeschis , Nicolas de Cuse، لعبوا الأدوار الأولى في هذا الموضوع. الأطروحة التصالحية الأساسية كانت ترى أن “المجمع الديني” concile هو أعلى من البابا نفسه. إذا هي أطروحة “ديمقراطية”. “غيرسون” أسس لهذا الموقف ،لاسيما، على الاعتبار التالي: في الكنيسة كما في الدولة، السلطة العليا تعود للمجلس التمثيلي لكل الأعضاء. حيث لا يستطيع أي زعيم حتى ولو كان في تعريفه بأنه”أكبر من الآخرين” أن يكون “أكبر من الجماعة”.

2ـ إعادة التأكيد على الأفكار التصالحية.     

في بداية القرن السادس عشر،هذه الأفكار حول مصدر السلطة عادت بقوة وتم الإصرار عليها من قبل عالمين من جامعة السوربون في باريس،الاسكتلندي John Mair [15] و تلميذه الفرنسي Jacques Almain [16]. أكد كلاهما أن السلطة السياسة وجدت من خلال الشعب وتبقى للشعب. اللاهوتي الاسكتلندي يقبل بأطروحة “غيرسون” القائلة بان سلطة آدم هي سلطة أبوي وليست سياسية. ثم أسس لفكرة لم تأتي من قبله ووفقها أن السلطة السياسية تشكلت من خلال البشر الذين هم قدموا الزعماء،مستخدمين العقل الذي أعطاهم إياه الله. هذه الفكرة سيتم تطويرها فيما بعد من قبل المدارس الفلسفية لتصبح القاعدة الأساسية للأفكار السياسية لكل الفكر السياسي الحديث، أفكار “حالة الطبيعة” و ” العقد الاجتماعي”. أيضا مع الاسكتلندي وتلميذه الفرنسي جاء القول بشكل أكثر راديكالية من “غيرسون”، ففي نظرهما وبما أن السيادة للشعب،فإن أية حكومة لا تحكم بشكل صحيح يجب إسقاطها.

ثانيا ـ في أصل المذاهب الليبرالية:

المدرسة الفلسفية الثانية، و مدرسة ” سلامونك” Salamanque.

في القرن السادس عشر، نرى تفتح بذور المذاهب الديمقراطية والليبرالية في البلدان الأوربية الأخرى. نبدأ بدراسة تكون المذاهب “الليبرالية”. فالعنصر الفكري الأساسي فيها هو ولادة “التومائية” Thomisme نسبة إلى توما الأكويني ،بداية في باريس ومن ثم في إسبانيا. في باريس، وفي بداية القرن السادس عشر، واحد من تلاميذ John Mair، وهو Pierre Crockaert (1450ـ1514) سينفصل عنه وعن الحياة الحديثة من اجل الدخول إلى مدرسة Saint-Jacques. مع بداية عام 1509، سيختار ككتاب أساسي لتعلمه اللاهوت كتاب somme théologique لمؤلفه “توما الأكويني” بدلا من الكتاب التقليدي “الحكمة أو الحكم” لمؤلفه Pierre Lombard. هذا التحول سيكون ولادة جديدة وكبيرة “للتومائية” في القرن السادس عشر.

خلال أربع فقرات متتالية سنقدم الكتّاب الأساسيين لهذا التيار، ثم نتحدث عن النقاط المشتركة في منهجهم،وبعد ذلك أطروحاتهم السياسية، وأخيرا أطروحاتهم الاقتصادية.

1ـ الكتّاب.

 مع قدوم التيار “الإنساني”، المدارس الفلسفية، أو الفكر التقليدي للجامعات في العصر الوسيط، أصبح مهملا. في البلدان المعادية للإصلاح وبشكل خاص في إسبانيا، عرفت هذه الأخيرة في القرن السادس عشر آخر تجديد يمكن أن نقول عنه مهما. وهذا في الواقع ما ندعوه “المدارس الفلسفية الثانية”. وما سنتحدث عنه في هذه الفقرة هو أهم الكتاب التي عرفتهم هذه المدارس. الكثير منهم كان بروفسورا في المكان الذي أنهى فيه دراسته، أي في جامعة “سلامونك” Salamanque، الأولى في إسبانيا واهم المراكز الثقافية الأوربية، لذلك نحن نقول ” مدرسة سلامونك”.

أ ـ ” فيتوريا” Vitoria.

من المحتمل أنه ولد في عام 1492 وتوفي في عام 1546، فرانسيسكو فيتوريا درس في مدرسة “سان جاك” في باريس عام 1509.أصبح أستاذا في جامعة السوربون عام 1523. بعد ثلاثة سنين سمي أستاذا في جامعة “سلامونك” بفضل ما يمتلكه من مهارات تعليمية، وحيث سيعلم فيها حتى وفاته. في هذه الجامعة ستربى على يديه أفضل التلاميذ ومن بينهم Domingo de Soto. اتخذ من كتب “سان توماس الأكويني” قاعد لتعليم اللاهوت. ساند “فيتوريا” فكرة السلطة غير المباشرة للبابوية على السلطة الزمنية للملوك مع الحق في تصحيح أخطاء الملوك إذا هددوا بشكل كبير الغايات الروحية (وفي الحقيقة هذه أطروحة لتوماس الأكويني). اهتم أيضا بالفكر الاقتصادي وبقضايا تتعلق بالعملة أو النقد.

ب ـ ” دو سوتو” De Soto. ( 1449ـ 1560).

تلميذ عند “فيتوريا” في جامعة السوربون ومن ثم جامعة “سلامونك”. أيضا قام بالتدريس في الجامعة الإسبانية حتى وفاته.باستثناء بعض السنوات التي قضاها كعالم للاهوت في “مجلس الثلاثين” حيث كان له تأثير كبير. ألف عشر كتب حول العدالة والقانون، ولعب دورا أساسيا في تكوين مذهب “حالة الطبيعة” و “العقد الاجتماعي”. في أواسط هذه القرن،السادس عشر، تم تأسيس “اليسوعيين”( سموا أنفسهم جماعة المسيح، تأسست الجماعة في عام 1540 من قبل ” سان إيناك لويال”)، أصبحت منافسة بشكل قوي لمدرسة باريس و إسبانيا “سلامونك” وفي إيطاليا أيضا. استطاعت أيضا الدخول بقوة على الجامعات الإسبانية ليكون لها فيها العديد من اللاهوتيين والمفكرين السياسيين. أما أكبر “اليسوعيين” الإيطاليين فهم Antonio Possevino  (1534ـ1611)، و الكاردينال Robert Bellarmin ( 1542ـ1621)، و أكبر اليسوعيين الأسبان هم Luis de Molina (1535ـ1600)، Juan de Mariana (1535ـ1624)، و Francisco Suarez ( 1548ـ1617).

ت ـ ” بيلارمين” Bellarmin.

درّس في Louvain عام 1570،ثم في المدرسة الرومانية، و الجامعة اليسوعية منذ عام 1576. ثم قضى حياته كلها في الدعاية لسلطة رجالة الكنيسة. عاد على أطروحة “فيتوريا” حول السلطة الغير مباشرة للباباوات. اعتبر “بيلارمين” كما كان يعتبر في السابق”سان توماس” أن أصل السلطة يعود إلى الله، ولكن من خلال وسيط هو المجالس الشعبية mediante consensu hominum. إذا لا يوجد أي “حق سماوي” بالمعنى الذي كان سائدا عن منظري الحكم المطلق في فرنسا وإنكلترا، و الذي يضع الملك فوق كل تقييم إنساني.

ث ـ “ماريانا” Mariana.

درس اللاهوت والفلسفة الإنسانية في جامعة ” Alcalá”. عمل مع “اليسوعيين” منذ عام 1554، ثم أستاذا في Collège Romain عام 1561.ألف الكثير من الكتب و أهمها ( Isidore de Séville)، (تاريخ إسبانيا، مجموعة من 25 كتابا نشرت بين عامي 1592 و 1598)، أيضا عمل على القضايا الاقتصادية و النقد، ثم مسائل التعليم. لديه فكر سياسي غني جدا. يعتبر من الورثة الكبار لمدرسة”الأكويني” لكنه أيضا في نفس الوقت ينتمي إلى تقاليد “المدرسة الإنسانية الإراسمية” Erasme،المدرسة التي ظهرت في روتردام على يد الهولندي Erasme ( 1469ـ1536) والتي حاولت تعريف “الإنسانية المسيحية بناءا على نقد العهد الجديد”، ولكن مع تذوق لفكر “شيشرون”. كان مهتما كثيرا بالأفكار الليبرالية.

ج ـ “مولينا” Molina.

كان تلميذا في جامعة “سلامونك” ثم في ”  Alcalá”. أصبح أستاذا في علم اللاهوت بجامعة Evora البرتغالية عام 1571. ألف عشر كتب حول العدالة والقانون .

ح ـ ” سواريز” Suarez.

يعتبر من أهم المفكرين في القرن السادس عشر. ولد في غرناطة، درس القانون الكنسي في جامعة “سلامونك” ثم علم اللاهوت عند “اليسوعيين”. قام بالتدريس في العديد من الجامعات و أهمها “سلامونك” الإسبانية، “المدرسة الرومانية”،و في جامعة ” Alcalá”، وأخيرا في جامعة coïmbre البرتغالية حيث عين فيها كأستاذ لعلم اللاهوت. يعتبر من أهم منظري الأفكار السياسية في عصره، ومع زميله De Soto يعتبران من أهم مؤسسي مذهب “العقد الاجتماعي”، قام “سواريز” بتجديد أطروحة “الأكويني” حول السيادة الشعبية، لكنه لم يطور نتائجها الديمقراطية.

2 ـ مراجع المدرسة : ” التومائية” Thomisme المُجدَّدة.

أسس الكتاب الذين تحدثنا عنهم في الأعلى ما يمكن أن يوصف “بالمدرسة” وللإجابة على خصومهم فقد استخدموا وتبنوا نفس الأفكار الفلسفية واللاهوتية الأساسية التي استخدمها هؤلاء، إنها أفكار توماس الأكويني لكن بصيغة أخرى جديدة.

أ ـ الخصوم المستهدفون.

سيهاجم كتَّاب هذه المدرسة ما كان يسمى “باللوثريين” luthériens و أنصار ميكيافلي machiavéliens فيما يتعلق بدور الدولة.فيما يتعلق “باللوثريين”: عاد هؤلاء الكتّاب إلى جذور علم اللاهوت “اللوثري”،بمعنى آخر، أي الفكرة القائلة بأن الطبيعية الإنسانية تم تدميرها كليا بعد “سقوط” الإنسان من السماء.  رفض هؤلاء في مجلسهم، “مجلس الثلاثون”، هذا الخطأ وعملوا على دحضه. واعتبروا أن في الطبيعة الإنسانية عدالة ضخمة يمكن للبشر أن يتعرفوا عليها. أي أن “أصل السلطة السياسية هو في الطبيعية و ليس في الرعاية الإلهية”. هاجم كتّاب المدرسة النظرية اللوثرية في ثلاثة نقاط أساسية :

ـ رفضوا الفكرة اللوثرية القائمة على رفض التقليد الكنسي.

ـ حاربوا الفكرة اللوثرية و التي وفقها الكنيسة ليس لها وجود سياسي خاص. “فالمدرسة” ترى في الكنيسة أنها جسم تشريعي مستقل ينتج قانونه الكنسي الخاص بالموازاة مع القانون المدني ولا يخضع له، لأن هذا القانون هو ضروري حتى تستطيع الكنيسة قيادة البشر إلى غايتهم الماورائية.

ـ رفضوا النظريات الثورية اللوثرية التي تؤكد أن السلطة لحاكم ما ليس فيها أي إجبار في المعتقد. حيث ترى “المدرسة” أنه إذا الحاكم يحكم بالتطابق مع القانون الطبيعي فإنه يجب أن يخضع له، وإذا لم يتقيد بهذا القانون تجب محاربته.

وفيما يتعلق “بالمكيافيليين”: انبرى كل من Possevin, Ribadeneyra, Suarez لمهاجمة أتباع أو أنصار مذهب ميكيافلي. فالدولة عند ميكيافلي ليس من شأنها أن تسير وفق العدالة. وهذا يعني أن هناك إنكار بان روح الحكام مضاءة بنور سماوي وطبيعي يأتي من الله، وأن ميكيافلي لا يرى بان القوانين يجب أن تخضع للعدالة بل للوحدة السياسية.

ب ـ القواعد الفلسفية و اللاهوتية لإجابات “المدرسة”. 

رفض هؤلاء الكتّاب ما يمكن تسميته “بالاسمية” nominalisme (مذهب فلسفي لا يقر بوجود الكليات أو المفاهيم المجردة بل هي أسماء فقط) و “الشكوكية” scepticisme (التي تشك في معظم المفاهيم الدينية وخاصة ما يتعلق بالآخرة وروح الإنسان) عند ” أوكهام”، رفضوا هذه الفلسفات وقالوا عنها بأنها ليست إلا مصدرا من مصادر الهرطقة والبدع اللوثرية. يعتقد كتّاب “المدرسة” أن الإنسان يمكن أن يبني نظاما سياسيا على العقل،لأنهم، ويعودون هنا من الحياة الحديثة إلى القديمة، يجدون فكرة توماس الأكويني، والتي وفقها العالم هو موضوعيا يسير وفق تراتبية من القوانين، يمكن إتباعها بواسطة العقل. والهدف من القوانين الإنسانية هو ببساطة إعطاء قوة داخل العالم الخارجي in foro externo لقانون سام والذي كل إنسان يعرف من خلال ضميره الأخلاقي في العالم الداخلي in foro interno.

بالتأكيد هناك مشكلة نوعية إذا كان الهدف قيام فلسفة مسيحية للقانون الطبيعي، ومعارضو الإصلاح من “المدرسة” لا يستطيعون،في مواجهة الإيمان البروتستانتي، تجاهل هذه المشكلة والاصطفاف بشكل كامل حول “المذهب الطبيعي” للفلاسفة والقائل أن الطبيعة هي المبدأ الأول في الكون، وحول القانونيين الإغريق و الرومان. في هذه الحالة، عالم القدماء هو خالد، والعالم المسيحي هو مخلوق. القانون الطبيعي في النتيجة ليس جوهرا في ذاته أو من خلال ذاته، ولكنه ينتج كما هو ظاهر عن إرادة الخالق الذي هو الله.

في هذه الحالة كان لا بد من “طريق وسط”، بين الواقعيين réalistes و الاسميين nominalistes، المفكرون مثل Grégoire و Rimini اعتقدوا أن القانون الطبيعي كان موضوعيا ويمكن اتبعه بالعقل، والمفكرون مثل Ockham و تلامذته Mair و Almain اعتقدوا أنه ليس إلا إرادة الله. وفي الواقع القانون هو كليهما، إنه في النفس الوقت “دليل”، وأيضا “إجباري” نابع من إرادة الله.الفلسفة السياسية البروتستانتية فضلت الجانب الثاني. أما عند “اللوثرية” العادلة التي أتى بها الإنجيل هي تجديد مطلق مقارنة بالقانون الطبيعي. نستطيع الآن الدخول في أطروحات”المدرسة” الخاصة وللكتّاب الذين عرفناه قبل قليل. هذه الأطروحات كان لديها أهمية خاصة في تكوين وانبثاق النظريات الدستورية الحديثة، وعلى الصعيد السياسي أدت لظهور مذهب “العقد الاجتماعي”، أما على الصعيد الاقتصادي فقدت أسست لظهور وتفوق الحرية على قسرية أو إجبار الدولة.

3 ـ الأطروحات السياسية.       

أ ـ قانون الهنود.

الغزو الإسباني للقارة الأمريكية “العالم الجديد” على أعمال رهيبة واغتصاب لحقوق السكان الأصليين وكثيرا ما أدى هذا الغزو لارتكاب مجازر مرعبة.المبشرون الأسبان انتقدوا هذه الأعمال بشدة وكان على رأس المنتقدين Antoine de Montesino،و Bartolomé de Las Casas. ولكن العديد من الكتاب الأسبان ساندوا الفكرة القائلة بأن الهنود هم من العبيد ويجب تحويلهم على الإنجيلية. برروا ذلك بالقول لو أن الهنود من المسيحيين ويريد الله حمايتهم لما وضعهم في هذه الأرض البعيدة. بمعنى آخر نحن لن نكون أرحم من الله نفسه مع هؤلاء الهنود.

“فيتوريا” افترض أن الهنود هم على الأقل بشر ولهم حقوق طبيعية يملكها كل إنسان،وكونهم شعبا فيحق لهم كل ما يحق للشعوب الأخرى. وأكد أنهم جزء لا يتجزأ من العالم.( من كتاب،فيتوريا،” دروس حول الهنود وحول قانون الحرب”). فالنسبة له الهنود لديهم حقوق شخصية، ولكن جماعية أيضا. هذا التفكير والمنطق قاده لرفض الأطروحة القائلة بالسلطة الزمنية المباشرة للباباوات والسلطة الشاملة و الكلية للإمبراطور. هنا يستند “فيتوريا” على سان توماس. حيث لا يمكننا تبرير الغزو بحجة نشر تعاليم الإنجيل، وورد هذا المنطق في كتاب سان توماس “تحليل الإيمان”،:”إنه من العبث إجبار شخص على الاعتقاد،كما أننا لا يمكننا تعميد أو تنصير أطفال اليهود أو غير المؤمنين من غير موافقة أهلهم”. وهذه الآراء سعى”فيتوريا” لتطبيقها على الهنود.

ب ـ حالة الطبيعة،و تأسيس المجتمعات السياسية “بالتوافق”.

خارج الحالة الخاصة للهنود،فإن “المدرسة” تعتقد أن الشعوب يجب أن تحمى بحكومات. هذه الحكومات تقوم بالتوافق بين الشعوب ووفق شروط محددة. من هنا تحدث كتاب “المدرسة” عن الانتقال الكبير من أجل المستقبل من “الحالة الطبيعية” إلى “الحالة المدنية” بواسطة “عقد اجتماعي”.كما أشرنا سابقا،هؤلاء رفضوا المقولة اللوثرية بأن الدولة هي عمل مباشر للعناية الإلهية. ولكن يمكنا الرفض أيضا إذا بينا أن الناس يستطيعون بناء الدولة بأنفسهم كما ترى “المدرسة”. حالة الطبيعة بالنسبة لهم هي حالة من الحرية والمساواة وهي حالة اجتماعية منذ البداية. علما أنه في هذه “الحالة” لا يوجد قوانين إيجابية، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد قانون لكل شيء. في هذا الوقت يطرح سؤالان أساسيان من قبلهم: لماذا البشر يريدون الخروج من حالة من الحرية وفيها جميعه قادرين على العيش؟ وهل الحالة الجديدة التي ستنشأ،ستكون شرعية؟

ت ـ أسباب الخروج من حالة الطبيعة.

السبب الرئيسي الذي يدعونا للخروج من حالة الطبيعة هو أن هذه الحالة غير دائمة ومؤكدة كما أنها مهددة بخطر الظلم.إذا قرار البشر ترك حريتهم الطبيعية هو ثمرة لحسابات من أجل مصالحهم. إذا سيكون من مصلحتنا القبول بتشكيل مجتمع سياسي من أجل “إنشاء بعض السلطات العامة والتي دورها سيكون الحفاظ على الخير المشترك”.

ث ـ شرعية الحالة الجديدة،”العقد الاجتماعي”.

هذه الحالة هي شرعية لأن البشر يعترفون أنها عقلانيا هي مفضلة؛ إنه يشعرون بأن البقاء في الحالة القديمة سيكون مستحيلا أو فيها خسارة لهم. إذا هم يقبلون بأن تكون حريتهم محددة في حالة أن الجميع يقبل بذلك، في هذه الحالة لا أحد سيكون له امتيازات أو أنه سيضحي بأشياء كان يمتلكها في حالة الحرية الطبيعية. إذا هو التوافق بين الجميع الذي سيخلق الدولة. ربما يكون هؤلاء ساندوا الملكيات التي كانت في جنوب القارة الأوربية ولم يكن لهم مواقف ديمقراطية، ولكن بالمقابل وضعوا بشكل واضح الحقوق الطبيعية للإنسان التي تخلق معه وليس من حق أية سلطة دنيوية أن تجعلهم يتخلون عنها، وأنه لا بد من وجود آليات دستورية يمكنها معاقبة سلطات الدولة في حالة قيام باغتصاب الحقوق الطبيعية للبشر، آليات يمكن دعمها “بسلطات روحية” مستقلة عن الدولة. في كل الأحوال هؤلاء الكتاب ومدرستهم لعبوا دورا كبيرا في نشؤ وتكون الليبرالية.

4ـ الأطروحات الاقتصادية.

كتّاب مدرسة “سلامونك” كان لديهم أيضا مساهمات هامة على الصعيد الاقتصادي كانت مهمة جدا في إنشاء المذاهب الليبرالية المستقبلية. دعوا إلى حماية الملكية الخاصة، وعلى هذه القاعدة رأوا أن السوق الحرة هي شرعية. الكتّاب ذهبوا بعيدا في موضوع الحرية الاقتصادية حتى أنهم تجاوزا سان توماس.تحدث كتّاب مدرسة “سلامونك” عن الآليات الطبيعية والعفوية للسوق وهذا ما سمح لهم بوضع نظريات اقتصادية متقدمة. بداية مع “النظرية الكمية للعملة” والتي وضعها Azpilcueta.ثم وضع المدرسيون الأسبان نظرية عن “معدلات التبدل” ووفقها القيمة المتعلقة بالعملة هي محددة من خلال تساوي القوى الشرائية”، أيضا نظرية حول القرض مع الفائدة [17].

يمكننا القول إذا بأن الأطروحات الليبرالية هي “حديثة” ولكن هي ناتج عمل بدأ منذ القرون الوسطى، لاسيما مع مدرسة سان توماس الذي دمج مع علم اللاهوت عند “شيشرون” ومع القانون الروماني والفلسفة اليونانية في الطبيعة، معان للحرية و للملكية. التوماسيون استحقوا إعادة تشكيل هذه القضايا في مواجهة التعصب الكامن في “الأوغستانتية الجديدة” البروتستانتية وضد أتباع الحكم المطلق الاستبدادي المدعين “بالإرادة الخالصة” الإنسانية التي تتجاوز العقل وقوانين الطبيعة.

ثالثا ـ في أصول المذاهب الديمقراطية.

إن الأفكار السياسية الأولى عند “لوثر” و”كالفن” ذهبت في اتجاه مساندة الحكم المطلق.مع ذلك،وبسبب الصراعات مع القوى الكاثوليكية، هذه الأفكار تحولت باتجاه “حق المقاومة” وفي النهاية أصبحت نظرية حقيقية “للثورة”،نظرية تطورت في إنكلترا مع علم اللاهوت “الميثاقي أو التعاهدي” ولتلاقي نجاحها الأول في اسكتلندا. فيما بعد، هذه “الثورية” الراديكالية سوف تصبح أكثر هدوءا وتعقلا وأقل “تعصبا” لتعطي مكانا لظهور النظريات الدستورية والتي تم وضعها ضمن سياق “الحروب الدينية” التي استمرت من 1562 إلى 1598.

  

أ ـ راديكالية “اللوثرية” و “الكالفينية”، في إنكلترا واسكتلندا.

منذ عام 1529،اللوثريون كان عليهم وضع أطروحاتهم الاستبدادية في المساءلة وإيجاد حجج لصالح مقاومة السلطات القائمة. في هذه الفترة أصبحت الأفكار الثورية عند البروتستانت أكثر راديكالية. وبعيدا عن تفاصيل الحياة السياسية التي كانت قائمة، نستطيع إيجاز الأطروحات الأساسية الأربعة التي وضعها البروتستانت.

1ـ الدلائل التي استندت على القانون الخاص.

برر العديد من اللوثريين المقاومة المسلحة بالاستناد على القانون الخاص والذي تم تفسيره من قبل القانونيين الكنسيين: يمكننا المقاومة باستخدام القوة ضد قاض حكم وفق إجراءات غير قانونية أو ظالمة،لأنه لم يعد قاضيا بل أصبح شخصا عاديا أو خاصا.

2ـ نظرية “الهيئات القضائية الدنيا”.

لوثريون آخرون غير راضين عن الاستناد على القانون الروماني ـ الكنسي،بحثوا عن حجج في الأناجيل. فقد رأوا من خلال بحثهم أن “سان بول” أمر بإطاعة “الهيئات القضائية” من غير تحديد إن كان المقصود بذلك هيئات قضائية”عليا” أو أخرى “دنيا”. ضمن هذه الحالة فإن هؤلاء و الآخرين “هم مأمورون” من الله” والذي أعطاهم سلطاتهم لهدف محدد”العيش والحكم وفق إرادة الله في كل شيء”. بعد ذلك، إذا سلطة عليا ما سخرت من واجبها، فإن الهيئات القضائية الدنيا تستطيع تغييرها، وفي حالات أخرى يمكنها استخدام القوة المسلحة.

3 ـ نظرية “الحاكم الإسبرطي”.

“كالفن” Calvin، وفي الطبعة اللاتينية لكتابه “تأسيس الدين المسيحي” الصادر في عام 1559،تحدث عن “الهيئات القضائية الشعبية” وليست الدنيا والتي يتم تأسيسها لكسر إرادة الملوك، وقد أخذ بشكل واضح عن حكام إسبرطة اليونان. يريد”كالفن” الحديث عن القضاة المنتخبين، وفي هذه الحالة يصبح الشعب لديه أو يقوم بدور ما.

4ـ نظرية “المتعاهد”.

في الجزء الثاني من كتاب “تأسيس الدين المسيحي”، وضّح Calvin أطروحة وجود دائم “لمعاهدة” أو “تحالف” وقد ترجمه الإنكليز بمفردة ” covenant” بين الله والإنسان. حيث كل مواطن هو شخصيا مسؤول عن احترام القوانين الإلهية في المجتمع الذي يعيش فيه. هذه الفكرة يمكنا مقارنتها بشكل واضح مع الفكرة الإنجيلية “الكلاسيكية القائلة بتفوق وسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية، لكن هذه السلطة الزمنية تغنيها وتجددها، لأنه من الآن فصاعدا، أصل “الروح” التي تحكم على الحالة أو الوضع وتتصرف في هذا العالم ليس نهائيا محصورا في نبي أو رجل دين، ولكن الضمير الفردي والمواطن العادي أيضا.

ب ـ “الهوغونية” الفرنسية.

الأفكار البروتستانتية ما قبل ديمقراطية سوف تتأكد فيما بعد مع ما يسمى huguenots français أي “البروتستانتي الفرنسي”، والهوغونية  Huguenotisme هي التمسك بالبروتستانتية الفرنسية.هذه البروتستانتية لحقت بها تحولات كبيرة كما سنرى. فالسياق الإيديولوجي والسياسي الفرنسي يشكل تحليلا نوعيا أو خصوصيا لهذه البروتستانتية.

1 ـ خصوصية السياق الفرنسي.

 ـ وجد في فرنسا،لاسيما من خلال تيار “الإنسانية القانونية” ومدرسة “Bourges”،كل المواد الفكرية الضرورية لبناء قانون دستوري “علماني” يذهب في اتجاه ملكية تشاركية.

ـ “الهوغونية” الفرنسية لم تستطع الحصول على تصلب الإنكليز و الاسكتلنديين بسبب الحالة الحرجة التي كانت تمر بها، خاصة أنها كانت أقلية بالنسبة لعدد السكان الكلي. مما دفعها بالمطالبة فقط بحق الوجود، بالتوازي مع وجود الكاثوليكية.

ـ منذ سنوات سابقة على هذه الأحداث، “الإنسانيون” كانوا قد أكد وجود الحقوق و عدم القدر على اغتصاب العقائد.

ضمن هذا السياق الخاص جدا، البروتستانتيون الفرنسيون كان عليهم تشكيل نظرية سياسية تكون من طبيعة إرادتهم، ليست فقط مساندة إخوانهم في الدين أو العقيدة، ولكن، إذا أمكن، مساندة الكاثوليكية الغاضبة من الحكم المطلق القائم وخاصة من قبل كبار النبلاء[18].

2ـ مؤلفات البروتستانتية “الهوغونية” الفرنسية.

صدرت مجموعة من الكتب الغنية جدا عن البروتستانتية الفرنسية يمكن أن نذكر أهمها:

Le Réveille –Matin des Français et de leurs voisins,( 1573-1574).

         ـ ” منبه الفرنسيين و جيرانهم”، تأليف، Eusèbe Philadelphe.

– Vindiciae contra Tyrannos.

        ـ ” القوة الشرعية للأمير على شعبه، وللشعب على الأمير، تأليف،Etienne Junius.

في كل هذه الكتب، كان الهدف هو تأسيس “قانون إلهي للتمرد” ضد ملك فرنسا. البروتستانتيون عادوا إلى إعطاء نظريات القرون الوسطى حول سمو المجتمع والقانون قوة جديدة، ثم عودة الحديث عن الواجبات المتبادلة بين الشعب والملك، وعن شرعية المقاومة ضد الطغيان.

من أجل اختتام هذه الفقرة نعود إلى الأطروحات الأربعة التي قدمتها البروتستانتية ضد الحكم المطلق الاستبدادي، لنقول أنه من بين هذه الأطروحات فقط علم لاهوت “المتعاهد” covenant هو عنصر له خصوصية أو مرجعية إنجيلية. أما الثلاث الباقية فهي استعارت بشكل مباشر أو غير مباشر، من القانون المدني أو الكنسي الذي كان في القرون الوسطى. وكأن البروتستانت انتهوا بالالتفاف على أو الاتجاه إلى الفكرة التي وضعها “سان بول” و” سان أوغستان” التي تقول أن الله أخضع الإنسان لسلطة غير عادلة بسبب خطاياه ، ثم عاد البروتستانت لاكتشاف أهمية الأطروحات الكلاسيكية حول “المواطنية” civisme القديمة التي تم تجديدها من قبل المدارس الفلسفية قبل إعادة الاكتشاف البروتستانتي الفرنسي لها. وهذا يؤكد ما ذكر سابقا بأن البروتستانتيين وجدوا أفكار مشابهة على قواعد تشبه القواعد الفكرية لخصومهم،وخاصة من المدارس الفلسفية أو مدرسة “سلامونك”،وقد ترافق ظهور وتطور الأفكار البروتستانتية الفرنسية مع نفس الفترة التي وجدت فيها هذه المدارس في إيطاليا وأسبانيا.نذكر هنا أن الحروب الدينية قسمت أوربا إلى نصفين، ولكن هذه الحروب ستؤدي بدورها إلى ولادة النظريات السياسية الحديثة.

رابعا ـ الفكر السياسي للثورة الإنكليزية الأولى.

في إنكلترا القرن السابع عشر، والتي ورثت من جميع تأسيس المذاهب الفكرية السياسية التي درست سابقا، تم إغناء التقاليد الديمقراطية والليبرالية بشكل كبير. كل هذه الأفكار تم وجودها ضمن سياق دار بين ثوريتين إنكليزيتين، فمن الضروري هنا تقديم الروح التي كانت سائدة في تلك اللحظات.

أ ـ النطاق التاريخي للثورة الإنكليزية الأولى وإعادة بناء البروتستانتية.

نعود هنا إلى فترة حكم “إليزابيث الأولى”، حيث في هذا العصر تم تشكل القوى السياسية والتي ستتواجه خلال قرن الثورات الإنكليزية[19]. إليزابيث جاءت على العرش في عام 1558 بعد الكاثوليكية “ماري تيودور” والتي اضطهدت البروتستانت لفترة طويلة. إليزابيث هي ابنة ” آن بولين”،ولن تصبح ملكة قبل القطيعة التي أنجزها “هنري الثامن” مع روما؛ إذا يمكننا فهم أن هذه الملكة رغبت بالعودة إلى البروتستانتية. ولكن كان لديها مشاعر دينية معتدلة وقابل تحديات مع المتطرفين ومن بينهم “جون كنوكس”. من هنا ستقوم سياسة دقيقة بقيادة قيام كنيسة أنكليكانية anglicane قوية. لكن العديد من البروتستانت الإنكليز لن يقبلوا بالصيغة التي تقدمت بها إليزابيث ومستشاروها.

1ـ المتزمتون الصارمون Puritains.

رفض هؤلاء الكنيسة الأنكليكانية، إما لأنهم وجدوا فيها القرب من الكاثوليكية من ناحية المظهر (الألبسة على سبيل المثال)، أو لأسباب تتعلق بالعقيدة. لم يكونوا منظمين في البداية، لكنهم سيصبحون كذلك خاصة أنهم كانوا لاجئين في سويسرا وألمانيا،حيث نضجت مذاهبهم من خلال احتكاكها بالحركات البروتستانتية الراديكالية. مع بداية عام 1572،السلطة الملكية أصبحت أكثر تشددا. الجامعات و المطابع أصبحت تحت الرقابة، الطبقة الكهنوتية تمت تنقيتها من خلال تأسيس محكمة خاصة، اللجنة العليا أصبحت مؤسسة من اثني عشر كاهنا. وفي نهاية حكم الملكة كانت الجماعات المتزمتة قد أصبحت ضعيفة.

2ـ البرلمان.

منذ قدوم عائلة Tudors في عام 1485، حدث تطور في الملكية الإنكليزية باتجاه الحكم المطلق الاستبدادي. حيث وضع الملك بيده جميع السلطات التنفيذية،التشريعية والقضائية. مع ذلك،وعلى العكس مما كان يجري في فرنسا في نفس الوقت،النظام الإنكليزي أبقى البرلمان. هذا البرلمان كان يجتمع بشكل مستمر منذ عام 1529. وأثناء حكم إليزابيث، عشر برلمانات اجتمعت في 13 جلسة.وكان الملوك يسيطرون بالكامل على مجلس اللوردات، وكان لديهم القدرة أيضا على معارضة جميع قرارات المجالس.

3ـ تصاعد الصراع بين الملك،البرلمان والمتزمتين مع حكم “جاك الأول” و”شارل الأول”.

وصل “جاك الأول” على العرش في عام 1603 ليؤسس بعد عائلة Tudors، العائلة المالكة “ستيوارت” Stuarts. خلفه ولده “شارل الأول” في عام 1625.وباعتبار الاثنين عمدا لتعزيز الحكم المطلق للملوك فقد اصطدما مع البرلمان من جهة، ومن جهة أخرى وباعتبارهما زعيمين للكنيسة الأنكليكانية فقد اصطدما مع المتزمتين Puritains. لم يتردد الملكان في استخدام جميع الوسائل القمعية ضد معارضيهما.امتد الصراع من “جاك الأول” على خلفه ” شارل الأول”.حيث رفض الملك “عريضة الحقوق” في عام 1628 وبضغط من Edward Cock. وقد كانت هذه العريضة أول نص دستوري يهدف لضمان الحريات الفردية ضد التعسف، منذ عام 1215. ضمت العريضة خمسة إلغاءات: إنهاء التوقيف التعسفي،كل المعتقلين لهم ضمانات قانونية، أي معتقل بطريقة غير قانونية يجب أن يحرر فورا،التاج أو الملك عليه أن يرفض كل ضريبة تفرض على الناس ولم يقرها البرلمان والشعب ليس مسؤولا عن إيواء مشردي الحرب[20]. في عام 1629 أمر “شارل الأول” بإلقاء القبض على المسؤولين الأساسيين عن “العريضة أو البيان”. ثم حكم خلال أحد عشر عاما ولم يدعو البرلمان للانعقاد ولا مرة واحدة،وهذا ما يسميه الإنكليز “دكتاتورية السنوات الإحدى عشرة”، أي الحكم المطلق الاستبدادي على الطريقة الفرنسية. لكن الإنكليز سيقاومون هذه النظام بشجاعة ونجاح أكبر من جيرانهم الفرنسيين.

هذه المعارضة السياسية تغذت عمليا من المعارضة الدينية. الملوك في إنكلترا هم زعماء الكنيسة الأنكليكانية، والتي تحتفظ بقدرة دعمها الخارجي للكاثوليكية. أكثر من ذلك،مع الملك “شارل الأول”، هذه الكنيسة أصبحت “أرمنيوسية” نسبة إلى العقيدة اللاهوتية التي أسسها Arminius. هذه العقيدة لها مواقف دوغمائية متصلبة حول قدر الإنسان، وأيضا دعت للاعتراف من جديد بشرعية دور رجال الدين وبالعديد من الطقوس الكاثوليكية، وهذا التطور أخاف الإنكليز إلى تحول بلادهم من جديد إلى “الأنكلو ـ كاثوليكية”، مما قاد في النهاية على صب الزيت على النار فكانت ثورة عام 1638.

ب ـ الثورة.

في هذا التاريخ عرفت اسكتلندا انتفاضة ضد الأنكليكانية وقام بها “الكالفينيون” Presbytériens، وهم كما نعرف ضد سلطة رجال الدين أو الأساقفة.هذه المرة اضطر الملك على دعوة البرلمان للانعقاد وذلك من أجل فرض الضرائب بطريقة تجهض الانتفاضة. اجتمع البرلمان بتاريخ 13 نيسان 1640، لكن الأحداث جرت بطريقة تراجيدية نذكر هنا أهم السيناريوهات التي تجلت عنها:

ـ البرلمان يشطب أدوات الاستبدادية والحكم المطلق (اللجنة “الدستورية” العليا، المحاكم الاستثنائية،والمحاكم الاستثنائية الكنسية). ثم أوقف وزراء “شارل الأول”، الذي لم يستطع أن يفعل شيئا.

ـ في كانون الثاني 1641، البرلمان يصوت على بيان و على ” إنذار كبير”. حيث قام بتجريد الملك من مستشاريه وفرض عليه مستشارين ووزراء جدد. لكن الملك رفض وجرب توقيف الأشخاص الذين اقترحوا نص البيان على البرلمان. بالطبع علاقات القوة ليست من صالحه في هذه اللحظة، والنتيجة أن هيمن على لندن الميلشيات التي تسكن المدن، فما كان على الملك سوى الهروب.

ـ بدا سبع سنوات من الحرب الأهلية. البرلمانيون في البداية لم يفكروا نهائيا في القضاء على الملكية، بل محاولة إعادة توازنها. أما الحرب فكانت بين الجيش الملكي وجيش البرلمان المنظم على الطريقة السويدية، فمن المعروف أن الجيش السويدي تم تنظيمه بالكامل على يد الملك “غوستاف الثاني أدولف” بين عامي (1594ـ1632)، وهذا الجيش كان الطريق الذي سلكه البروتستانت أثناء الحرب الأهلية التي استمرت ثلاثين عاما وكان للجيش السويدي سمعة كبيرة فيها. جيش البرلمان قاده الجنرالان Fairfax و Cromwell.تم تسليم الملك في النهاية إلى الجنرال Cromwell من قبل الاسكتلنديين، ليوضع في السجن عامين متتالين جرب خلالهما التفاوض من غير نتيجة. في النهاية تم إعدامه من قبل “مجلس ضباط الجيش” في 30 كانون الثاني من عام 1649.

ـ الملكية ومعها غرفة اللوردات في البرلمان تم إلغاؤهما، ثم أنشئ “الكومنولث” أو ما يمكن أن نسميه بشكل قريب “بالجمهورية”، وأنشئ أيضا ما سمي وقتها Free State في 19 أيار من عام 1694.

ـ خلال أربع سنوات 1694ـ1653، وجدت حكومة مدنية حكمت البلاد لكنها كانت خاضعة لضباط الجيش.

ـ في النهاية وفي نيسان من عام 1653، جيش Cromwell أخذ السلطة وأبعد نواب البرلمان، ثم شكّل برلمان “دمية” Barebone’s Parliament. ووضع دستورا مكتوبا كأداة لحكم البلاد.أما السلطة فأصبحت مركبة من لورد يحكم الكومنولث (إنكلترا،اسكتلندا،ايرلندا)،ومن مجلس مؤلف من 26 عضوا، ثم برلمان من 460 نائبا منتخبا باقتراع “دافعي الضرائب” censitaire، ولكت حتى يستطيع أي شخص أن يقترع عليه أن يملك عقارا أو ملكا معينا قيمته على الأقل 2000 جنيها بريطانيا.              

             

ت ـ القانون غير المكتوب Common law و “الدستور الإنكليزي القديم”.

التاريخ الإنكليزي يشكل خصوصية معينة، والتي تبين أن مشكلة الحريات السياسية و القانون المدني تطرح في هذا البلد بشكل مختلف عما هو الحال في القارة الأوربية.

1ـ النورمانديون و الساكسون.

إنكلترا وقع بين أيدي ” غيوم الفاتح أو الغازي” كما كان يلقب، في عام 1066 ثم حكمت بعد ذلك من قبل ورثته من نفس العائلة ومن طبقة محددة من البارونات النورمانديين، هؤلاء اعتبروا من الغرباء،خاصة أنهم حافظوا على الحديث بلغتهم الفرنسية ولمدة قرنين من الزمن. كل ذلك أدى إلى نتيجتين هما:

ـ الملوك النورمانديون كانوا مجبرين على تغير “قانون العادات” السكسوني و المحاكم الذي تدير هذه القوانين، ولن يستطيعوا أبدا فرض القانون الروماني أو كل ما يتعلق بالمفاهيم الاستبدادية. لم يتدخل التاج أو العرش في وضع القانون إلا بشكل غير مباشر ومن خلال هيئات قضائية تابعة لمحاكمه والتي سميت المحاكم التي تأخذ بالعادات أو القوانين غير المكتوبة Common law[21].

ـ بينما عرفت فرنسا عبر زمن طويل مجموعة من الملوك و الذين استطاعوا، خاصة من القرن الثالث عشر،فرض سلطة قوية ومركزية، إلا أن إنكلترا أو الملوك الإنكليز دائما اعتمدوا على مجالس تابعة للخاضعين لحكم الملوك، أي أنها ليست مركزية.

وعندما بدأ الصراع بين الملك والبرلمان في بداية القرن السابع عشر،هذه الخصوصية الإنكليزية ترجمت بوجود معسكرين متواجهين ومتعارضين. من الجانب الملكي،نرى أن الملوك الإنكليز يمسكون بسلطتهم من خلال قانون سموه “قانون الفتح أو السيطرة”، وهذا يعني أنه من العبث الطلب إلى الملوك بتنفيذ “عقد” بين الملك و رعيته هذا العقد الذي لم يوجد أصلا. أما من جانب البرلمانيين، فقد دعوا بشكل دائم وذكروا، كما فعل ” إدوارد كوك”، بأن إنكلترا عرفت ما يسمى “الحريات القديمة الأنكلوـ سكسونية” ومنذ زمن طويل.

2ـ Edward Coke (1552ـ1634).

درس القانون في كامبردج. عمل محاميا ثم أصبحا رئيسا “لغرفة محاكم قوانين العادات”، وبعد ذلك محاميا للدولة في عهد الملكة إليزابيث والملك “جاك الأول”. أصبح نائبا  عام 1620 في الوقت الذي صعدت فيه البروتستانتية 1621 و نشرت “عريضة” الحقوق 1628. له العديد من المؤلفات أهمها : Reports ( 11 جزءا، نشر بين عامي 1600 و 1615)، Institutes of the Laws of England (1628ـ 1644) والذي هدف إلى ربط “قوانين العادات” مع “الدستور القديم”. القانون بالنسبة له يضم شكلين: statutes أي قوانين تفرض من قبل السلطة، و common law أي قوانين العادات. هذا الأخير كان الأهم بالنسبة له حيث ضم القانون المدني والقانون “الدستوري”،أي العلاقة بين السلطة الملكية والبرلمان.

يرى “إدوارد كوك” أنه إذا “قانون العادات” أو غير المكتوب ومعه القانون الدستوري هما متعارضان مع الإرادة السياسية القائمة،فإن هذا لأنهما يحتويان على “حكمة متفوقة وسامية”، إنهما تجسيد للعقل نفسه[22].طبعا نفهم هنا من “إدوارد كوك” أنه ينتمي إلى براديغم “النظام الطبيعي العفوي” والذي سنتحدث عنه عندما نصل إلى المفكرين الليبراليين. أما بالنسبة “للقانون غير المكتوب” والقانون الدستوري فلا يمكن أيضا تغييرهما أو تحريفهما وفق إرادة الملك. “كوك” لم يتحدث فقط في أطروحاته عن موضوع القانون الخاص، بل أيضا تحدث عن القانون العام، تنظيم السلطات ضمن المملكة الإنكليزية،توزيع السلطات بين الملك واللوردات والمحاكم، بهذا يكون قد وضع جميع المفاهيم الاستبدادية لعائلة Stuarts وبشكل عميق، قيد المساءلة.

3ـ النتائج السياسية لمذهب “الدستور القديم”.

في جميع الأحوال، حتى يتم قبول الجوانب الفلسفية و التاريخية لأطروحة”الدستور القديم”،هناك نتائج أساسية تلحق بهذا القبول.

ـ ” العقد الأصلي”.

يتحدث هنا عن واجبات الملك: الملك يحمي الأرض و الحريات، يحقق العدالة هو ومستشاريه. الناس في القرن السابع عشر فسروا هذا النص كشهادة ثمينة جدا على واجبات الملكة في السلطة وسموه”العقد الأصلي”.

ـ امتيازات البرلمان.

على قاعدة نصوص “الدستور القديم”، البرلمانيون في عام 1628 استطاعوا معارضة ممارسات العائلات الملكية التي وضعت منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر من قبل عائلتي Tudors و Stuarts، مثل الضرائب التي تفرض بالقوة، السجن التعسفي للمعرضين والإيواء الإجباري لضحايا الحرب. أيضا وضعوا قانونين هامين : قانون التمثيل البرلماني لمقاطعات إنكلترا، قانون “غرفة المحاكم” وممارستها للسلطة التشريعية خارج إرادة الملك و اللوردات وتوازيهما في القوة.

ث ـ المستقلون و دعاة المساواة السياسية Levellers.

خلال سنوات 1640، ظهرت أفكار جديدة مدعومة من قبل مجموعات مستقلة وخاصة من قبل جماعة”المؤيدين للحقوق السياسية”. هذه الأفكار أكدت فكرة التسامح والتي تحضر لفصل بين الكنيسة والدولة، وبأكثر بعد وعمق، مبدأ حرية التفكير. “المؤيدون” اقترحوا أفكارا دستورية جديدة أكثر تقدما من المبادئ التي كانت سائدة في دول أخرى آنذاك.

1ـ أصول النقاشات حول التسامح.

فكرة التسامح تعود إلى العصور القديمة.تم التأكيد عليها في العصور الوسطى من قبل العديد من المفكرين”المعزولين”. مع العهد البروتستانتي الإصلاحي،ظهر موضوع التسامح كأولوية حيث بدأ الحديث في أوربا عن التعددية الدينية. في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، “المذهب الإنساني” شكل قاعدة فكرية للتسامح مع أهم منظريه : Nicolas de Cuse , Marsile Ficin, Pic de la Mirandole, Erasme, Thomas More, Guillaume Postel, La Boétie, Montaigne….،الفكرة الأساسية التي طرحها هؤلاء كانت أن الإنسان يمتلك معرفة ضعيفة، هذه المعرفة تمنعنا من التمزق حول قضايا وأشياء غير مؤكدة. (بالتأكيد هناك مدارس ومذاهب كثيرة حول هذا الموضوع لكن اكتفينا هنا بعرض أهم الأفكار الأولى للتسامح).

2ـ المشاركة الإنكليزية.

استقبلت إنكلترا هذه الأفكار التي كانت تدور في أوربا وقدمت لها الكثير من الغنى الفكري. دافع الكاثوليك الإنكليز عن فكرة التسامح ومنهم William Allen, Robert Person وقد قتلا كلاهما من قبل البروتستانت. يمكننا تمييز عدة مراحل في الحالة الإنكليزية. مع “الكالفينيين” presbytériens كان هناك نقد لمذهب ” érastianisme”، بمعنى نقد للمذهب القائل بأن الأمير يمتلك جدارة أو وضعا خاصا فيما يتعلق بالبوليس الديني الذي وضع أثناء حكم ” هنري الثامن، إدوارد السادس، إليزابيث الأولى”. الكنيسة إذا يجب أن تكون كليا مستقلة عن الأمير،من هنا جاءت الدعوة لانتخاب ديمقراطي في الكنيسة ابتداءا من القواعد وحتى قمة الهرم. بالنسبة “للكالفينيين” هذه الفكرة كانت أشبه بجريمة دينية كبيرة.

إن موقف “المستقلون” كان أكثر تقدما. حيث هذه المرة الفكرة الدينية نفسها التي تقف وراء العقوبات،أصبحت مكانا للنقد.فبالنسبة “للمستقلين”، الدولة والكنيسة يجب أن يكونان مجتمعات منفصلة كليا عن بعضها،الدولة لا تستخدم سلطاتها الإلزامية الإجبارية إلا في ميادين خاصة بالحكومة الدنيوية”العلمانية”.

مع دعاة “المساواة في الحقوق السياسية” Levellers،كانت أيضا هناك مشاركة كبيرة خاصة مع مؤلفات William Walwyn والتي جاءت تحت العنوان التالي: The comassionate Samartane  Liberty of conscience asserted and the separatist vindicated(1644)، قدم فيها أربع دلائل أو مبررات جوهرية :

ـ لا أحد يستطيع أن يسيطر على أفكاره، فالإنسان يعتقد بشكل حقيقي ما يراه كما هو،بالتالي لا نستطيع معاقبة أحدهم لرؤيته لأشياء خارجة عن إرادته.

ـ يوجد شك قوي في هذه الحياة،فالمضطهِدين يمكن أن يصبحوا مضطهَدين في لحظة معينة من غير أن يدروا.

ـ كل ما لا يأتي من الإيمان هو خطيئة،إذا المضطهِد (بكسر الهاء) يجبِر على ارتكاب الخطيئة، وهو بهذه الحالة يرتكب بدوره الخطيئة.

ـ إن التماثل لحد الوحدة، وليس التعددية، هو في حد ذاته سبب في الفوضى.

فكرة التسامح انتشرت في هولندا وفي إنكلترا في القرن السابع عشر،ولكنها لم تكن مقبولة من الجميع.ونشير هنا إلى أن ممارسة هذه الفكرة بشكل عملي أدت إلى تراكمات لها شيئا فشيئا لاسيما في هولندا وإنكلترا،وفيما تبقى من أوربا كانت الحالة متأخرة جدا مقارنة مع التطور الأنكلوـ هولندي في هذا المجال.

ج ـ الأفكار الدستورية عند Levellers.

الفكر السياسي عند “دعاة المساواة في الحقوق السياسية” تجاوز بكثير الحديث فقط عن مفهوم التسامح. هذه المجموعة لم تلعب دورا كبيرا في “الثورة” لأنها لم تحاول تنظيم نفسها داخل الجيش في فترة ما بين (1646ـ1649). مع ذلك، مشاركتها الفكرية والإيديولوجية كانت أساسية بل يصفها البعض”بالنبوية” prophétique. إنهم كما يشير اسمهم،يطالبون بالمساواة السياسية ولكن ضمن مفهوم المساواة في الحقوق، وهي ليست مساواة ظرفية.

1ـ سلطة الدولة تقوم بالتوافق أو التعاقد.

يقول أحد منظريهم وهو Liburne ،كل سلطة مدنية تمارس “فقط من خلال المؤسسة، أو الوثيقة،بمعنى من خلال اتفاق وقبول متبادل وتضمن أمن هؤلاء والآخرين”. [23] ويقول أيضا أحد أعضاء هذه الجماعة وهو Thomas Rainborough:” حقيقة أعتقد أن الإنسان الأكثر فقرا في إنكلترا لديه رأي في الحياة،تماما كما الإنسان الأكثر غنى ومركزا”.

2ـ الاقتراع الوطني.

ينتج من هذا المبدأ، أن جميع المواطنين يجب أن يستطيعوا وبشكل متساو المشاركة في الحياة السياسية من خلال الاقتراع الوطني الشامل، وأن البرلمان يجب أن يكون مجلسا تمثيليا للمواطنين الأفراد وبكل طبقاتهم. هذا المفهوم الثوري بكل معنى الكلمة في ذلك الوقت، اصطدم مع المفاهيم القديمة القروسطية. فمن المعروف تقليدا في إنكلترا أن المملكة هي تنظيم للمصالح الجماعية المستمرة،وللطبقات التي تمتلك أحكاما خاصة بها، وفي الواقع هذه البنية العضوية انعكست على البناء السياسي و المؤسسات السياسية القائمة. لكن مع “دعاة المساواة في الحقوق” الأمر مختلف تماما،فلا أحد يخضع لقانون تم وضعه من غير مشاركته شخصيا أو مشاركة ممثلين له، ويكون هذا من خلال الاقتراع.

3ـ فكر الدستور المكتوب.

انشغل”دعاة الحقوق” بتوسيع سلطات البرلمان في إنكلترا،أيضا في نفس الوقت وضعوا فكرة حديثة حول “الدستور المكتوب”، هدفها وضع حدود لسلطات الدولة، ثم أو مخطط واضح “لإعلان حقوق الإنسان”،Agreement of the people. هذا الإعلان حدد النقاط التالية: سلطة مختلف مؤسسات الدولة التي هي في حالة إنشاء كما جاء في الإعلان،الحقوق الأساسية التي يعلن المواطنون الاحتفاظ بها لأنفسهم ولا توكل لممثليهم في البرلمان. أيضا البرلمان لا يمكنه وضع العديد من أشكال القوانين غير موجودة في نص. لا يمكنه أيضا تشريع القوانين فيما يتعلق بالدين، لا يمكنه إعلان الحرب،لا يمكنه سن قوانين تعرض للخطر المساواة أمام القانون. الدستور المكتوب بالنسبة لهم هو “عقد اجتماعي” حقيقي على الجميع الموافقة عليه من خلال الاقتراع.

ح ـ الجمهوريون.         

بالنسبة للنزعة الجمهورية الإنكليزية فإنها إيديولوجيا أنتجت أفكارها في مراحل مختلفة، وكل مرحلة كان لها كتابها الأساسيون:

1649ـ1660 ( Marchmont Nedham, John Milton, James Harrington).

1675ـ 1683 ( Henry Neville, Algernon Sidney).

1690ـ وما بعد ( Robert Molesworth, Walter Moyle, John Trenchard, John Toland, Andrew Fletcher).

ونستطيع أن نذكر أهم المواضيع المشتركة التي عملوا عليها: الأفكار حول النظام المختلط، حكم القانون،الدستور المكتوب،فصل السلطات.

1ـ المواضيع المشتركة.

ـ النظام المختلط: إشكالية النظام الملكي أو الجمهوري للحكم لم تكن يوما في مقدمة أولويات ثورة البروتستانت الإنكليز،أي حتى عام 1649.أما ضباط “كرومويل” فقد أعدموا الملك “شارل الأول” ليس لأسباب تتعلق بالنزعة الجمهورية، وإنما لمعرفتهم بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق دائم معه.ولكن بعد إقصاء الملك كان لابد من التفكير بشكل سياسي جديد للحكم، من هنا بدأ التفكير بالجمهورية. تم البحث بداية في النماذج التي وجدت آنذاك، في البندقية، سويسرا أو غيرها، وبسبب تعدد الأشكال الجمهورية تم الأخذ بالنظام المختلط وليس الأخذ بالديمقراطية.

ـ حكم القانون rule of law.

وهو موضوع عاد مع الجمهوريين الإنكليز وتحول بواسطتهم إلى مذهب سياسي حقيقي، وسيصل هذا المذهب إلى شكل الأكمل مع “جون لوك” كما سنرى لاحقا، بمعنى “حكم القوانين وليس حكم الرجال” gouvernment of laws, not of men . والفكرة هنا أن القوانين والحرية يتواجدان بشكل كل منهما يشترط الآخر، حيث لا يوجد حرية من غير وجود القوانين. إن موضوع النظام مهم بالنسبة لهم،ولكنه متروك لصالح قيام هذه الحالة الجديدة” حرية تحت القانون”. فإذا كانت الجمهورية أفضل نظام هذا يعود لأنها تضمن أفضل قيام ومحافظة على هذا الوضع.

ـ الدستور المكتوب.

حتى “أليفييه كرومويل” نفسه أراد مثل هذه الفكرة التي جاء بها “دعاة المساواة في الحقوق السياسية”، حيث تمنى وجود نص يشكل القاعدة الثابتة لنظام الحكم ويقول في هذا الصدد:”في كل دولة يجب أن يوجد أشياء أساسية، أشياء على شكل عقد اجتماعي تبقى ثابتة لا تتغير”.

ـ فصل السلطات.

في العادة عندما نتحدث عن هذه الفكرة فلابد أن يخطر ببالنا مباشرة الفرنسي “مونتسيكيو”، ولكن في الحقيقة إنها تعود لجماعة “دعاة الحقوق” Levellers وبالتحديد عند John Liburne في عام 1645.وبشكل عام ترجمت هذه الفكرة من خلال المفهوم التالي عند هذه الجماعة :” يمكننا أن نقول أنه ومن خلال قانون الطبيعية،السلطات التشريعية،القضائية والتنفيذية يجب أن تكون في أيد مختلفة ولناس متعددين”.

2ـ الجمهوريون الإنكليز بعد عام 1660.

عندما اقترب حكم الملك “شارل الثاني” من النهاية، تبين أن وريثه الوحيد هو شقيقه دوق York، والذي كان كاثوليكيا. اندلع النزاع من جديد. الملكيون كان لديهم فكرتهم في 1680: حيث نشروا محاولة مكتوبة كانت قد ظهرت قبل ثلاثين عاما وأثناء الثورة الإنكليزية الأولى. إنه كتاب وضعه Sir Robert Filmer وكان بعنوان Patriarcha or the natural power of kigs. يطرح الكتاب موضوعا ضعيفا جدا: الملوك لديهم الحق الطبيعي، لأنهم الوارثون الشرعيون لأول ملك للإنساني وهو آدم، ويتحدث الكتاب أيضا عن حجج أكثر قوة ضد فكرة العقد الاجتماعي، من خلال إجابتين شهيرتين سنتحدث عنها في الفصل اللاحق، بمعنى أنهم قدموا دراسات “جون لوك” كحجج لهم : Two Ttreatises on Civil Gouvernment، و Discourses Concerning Gouvernment of Sidney، وهي كتابات ظهرت بين عامي 1680ـ1683 ونشرت 1698.

في الواقع، كتاب Sidney، والذي يدحضه Filmer صفحة بعد صفحة، يؤكد حق المقاومة ضد شرعية الطغيان و الطغاة. إنه يظهر ارتباطا عميقا بالنماذج الجمهورية القديمة، ويعيد الأفكار الجمهورية التقليدية السابقة التي تقول:” كل الشعوب لديها حق طبيعي أن تحكم نفسها، ولديها الحق في اختيار قادتها الذين يرون أن يخدمون ويحققون مصالحهم”. بعد الثورة الإنكليزية الثانية 1688،الجمهوريون يستمرون في توضيح وشرح آراءهم، وكانوا أيضا في مواجهة مع النظام السياسي الجديد في إنكلترا وهو النظام الملكي الدستوري رغم تحقيقه جزءا من برنامجهم المطروح.

الجمهوريون حاربوا أيضا مبادئ “الجيوش الدائمة”. حيث طرحوا سؤالهم التالي: لماذا إنكلترا تحتفظ بجيشها بعد أن وقعت اتفاق سلام مع فرنسا ؟ الجيوش الدائمة تكلفتها كبيرة وتبرر فرض ضرائب كبيرة على الشعب وهي حجة بيد السلطة الملكية لتحصيل هذه الضرائب. عاد الجمهوريون في عام 1700 لنشر أو إعادة نشر سلسلة من المؤلفات التي شكلت القاعدة الإيديولوجية “لحزب الأحرار في بريطانيا” Whig في القرن الثامن عشر، أما اهم هذه الكتب فكان :

ـ Memoirs d’Edmund Ludlow ، وهو كتاب يتحدث فيه عن الحرب الأهلية.

ـ Historical and Political Works of Milton.

ـ Discourses of Sidney.

ـ Plato redivivus of Neville and Harrington.

خلال تلك الفترة سيظهر أيضا كتاب جدد ضمن نفس المجال لفكري وأهمهم : John Trenchad و Thomas Gordon وخاصة في عملهما المشترك The Independant Whig “الأحرار المستقلون”،وسيكون لهم وقعا كبيرا في أمريكا. أيضا الاسكتلندي Fletcher المتأثر بالأفكار “الإنسانية المدنية” في اسكتلندا، سيكون له تأثير كبير على كل من David Hume و Adam Smith. الجمهوريون الإنكليز لم يكن لهم تأثيرا سياسية فورية، لأن فكرة الجمهورية نفسها فقد الكثير من التعاطف في إنكلترا بسب دكتاتورية “كرومويل”. مع ذلك،الشكل والمنهج الجمهوري للنظام لم يكن إلا جانبا من الفكر عند الثوريين الإنكليز، و الجانب الآخر كان “الحرية تحت القانون” rule of law،وهي حالة من الحرية المدنية تتوافق مع أنظمة أخرى وبشكل خاص الملكية الدستورية.هذا الجانب الثاني ستتم قيادته حتى تحقيقه على يد كاتب ليس جمهوري، إنه ” جون لوك”.

 

خامسا ـ جون لوك و الثورة الإنكليزية الثانية.

1 ـ مذهب الحرية في ظل القانون، “سيادة القانون”.

 

مدخل:

السياق التاريخي.

في عام 1685، أخ الملك “شارل الثاني” دوق York،خلفه على العرش تحت اسم أو لقب “جاك الثاني”. وبما أنه كاثوليكي، فقد اشتبه فيه فورا بأن سيقيم في إنكلترا وفي نفس الوقت المذهب الكاثوليكي ونظام الحكم المطلق الاستبدادي. بدأ الملك الجديد باتخاذ إجراءات تسلطية مستبدة لم يكن الشعب الإنكليزي معتاد عليها منذ قيام الثورة الأولى. الكثير فكر في ظل هذا المناخ السياسي بتأييد القطيعة مع النظام الوراثي العادي الذي كان قائما. وفي عام 1688، العديد من هؤلاء طلبوا من Guillaume d’Orange، حاكم “الأقاليم المتحدة” والذي تزوج من Marie ابنة “جاك الثاني”، التدخل لإنهاء الحالة القائمة.

Guillaume وصل مع جيشه، أما “جاك الثاني” من غير مواجهة” تخلى عن العرش، أي لم يكن هناك مكان للعنف ولهذا يسمي الإنكليز هذه الفترة ” الثورة المجيدة”. Guillaume و زوجته أصبحا في الحكم ملك وملكة وبعد تصويت في البرلمان بغرفتيه وذلك في 13 شباط من عام 1689.وكانت بداية البرلمان مع نص جديد وأساسي إنه Bill of Rights أو ” شرعة  أو ميثاق الحقوق” انطلاقا من عام 1689 أي قبل الثور الفرنسية بمائة عام. هذه الوثيقة كانت عبارة عن “عقد” بين البرلمان والملك الجديد. الشعب الإنكليزي موجود وممثل في البرلمان ووجوده لا يعود بفضل الملك. والشعب يختار بين العديد من المرشحين قدر الإمكان ، أما الملك فقد احترم هذه الوثيقة لتكون أشبه بدستور جديد في إنكلترا. أما الفلسفة السياسية لهذا الشكل الجديد تم وضعها على يد “جون لوك”، والذي انتشرت أفكاره بسرعة في أوساط “حزب الأحرار البريطاني” whigs وخاصة مع كتابه المؤلف من جزأين “تحليلات حول الحكومة المدنية”. والنظام الجديد تبنى بالمقابل تشريعا حول التسامح سمي “ميثاق التسامح” والذي يكرس حرية جميع الطوائف البروتستانتية وتم إبعاد جميع الكاثوليك عن الوظائف العامة طبعا مع إبقاء الكنيسة الأنكليكانية.

جون لوك

حياة و أعمال

ولد في عام 1632 قرب مدينة بريستول. درس الأدب والطب في جامعة أكسفورد حيث سيعلم فيما بعد اللغة اليونانية. عاش فترة طويلة في فرنسا ( 1672ـ1679)،و كان يتردد بشكل دائم على كلية الطب بجامعة مونبيليه. انتقل إلى هولندا في عام 1683، هناك التقى وفي عام 1689 بالملك الذي أصبح ملكا على إنكلترا Guillaume d’Orange. عاد معه إلى إنكلترا وبقي فيها حتى وفاته في عام 1704. أم أهم أعماله فهي :

ـ “محاول حول التسامح” 1667.

ـ “الدساتير الأساسية في كارولين”،عمل جماعي، 1669.

ـ “حول الاختلاف بين السلطة الكنسية و السلطة المدنية” 1674.

ـ “رسالة حول التسامح” 1686.

ـ “تحليلان حول الحكومة المدنية” 1680.

ـ ” رسالة ثانية حول التسامح” 1690.

ـ “معدل الفائدة والعملة” 1692.

ـ “نصوص حول الاتفاق بين المسيحية والعقل”1695 و 1697.

“تاريخ الإبحار” 1704.

أولا ـ جون لوك و نظرية سيادة القانون.

جون لوك هو المنظر الرئيسي لما سمي”بالثورة المجيدة” في انكلترا 1688، هذه الثورة التي شيدت الملكية الدستورية و الليبرالية الاقتصادية.انتقد جون لوك في الجزء الأول من كتابه “تحليل الحكومة المدنية”، الأطروحات الملكية لمعاصره “روبيرت فيلمر” التي تقول بأن السلطة السياسية لا يمكن أن تكون إلا ملكية و أن “السلطة الأبوية” للملوك أسست في نفس الوقت بالطبيعية و من خلال الثورة. يقول لوك أن هذه النظرية خاطئة ولابد من اكتشاف واحدة أخرى تتعلق بالحكم. ومن أجل هذا لابد من العودة للحالة الطبيعية عند الإنسان. فما هي هذه الحالة الطبيعية ؟

ـ الحالة الطبيعية:

هي حالة من الحرية و المساواة، حيث لا يوجد تبعية أو طاعة بين البشر، والذين هم من فضاء واحد ونظام واحد، لقد ولدوا من غير اختلاف ولديهم نفس المؤهلات. طبعا هذا الطرح كان قد سبق عصر جون لوك وخاصة في المدارس الفلسفية التي اعتمدت النهج الأرسطي، ثم تم أعادة تشكيله تحت عناوين مختلفة أثناء الثورة الإنكليزية.

الحرية الطبيعية ليست من غير حدود عند لوك. إنها محددة بما سماه “قانون الطبيعة” نفسه، هذا القانون يمتزج مع العقل والذي يعلم جميع الناس أن البشر جميعهم متساوون ومستقلين ،يجب ألا يضر أحد أحدا آخر، لا في حياته ولا صحته ولا حريته. نفس المنطق في الحق الطبيعي يتطلب أن يكون لدي القدر على محاسبة الذي يشكل أذى لي أو يضرني، هذا الذي يغتصب القانون الطبيعي. والجميع في حالة الطبيعة يمتلكون هذا الحق الذي يتكون من جانبين أساسيين : إعاقة ضرر الآخرين، و الحصول على الحق في محاول وقوع هذا الضرر. هذا الحق في الدفاع عن النفس وفي العقوبة هو أيضا له حدود، حيث لا نستطيع أن نفعل ما نريد مع شخص مذنب.

في الواقع من العبث القول أن الإنسان سيطبق القانون في غير مصلحته، لأن “حب الذات” كما يقوا لوك يجعل من البشر متحيزين لمصالحهم و لمصالح أصدقائهم. بالتأكيد، ولهذا السبب سنرى أن الإنسان يسعى للخروج من الحالة الطبيعية إلى حالة أخرى نتحدث عنها لاحقا.

نرى جون لوك أنه مازال يصطف خلف التقاليد القديمة الموروثة من (أرسطو،سان توماس،و غروتيوس)، حيث أن حالة الطبيعة هي منذ البداية حالة اجتماعية، البشر مجبرون للقيان بأشياء تجاه بعضهم البعض، حتى ولو لم توجد حالة مدنية أو حالة سياسية.

 

ـ الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية.

ترافق الحالة الطبيعية العديد من الصعوبات. حيث ملكية الفرد أو الإنسان في هذه الحالة معرضة لضعف وهشاشة كبيرة. يقول جون لوك هنا :” إذا كان الإنسان حرا في حالة الطبيعة وسيدا مطلقا على شخصيته وأملاكه، إلا أنه ليس الوحيد الذي يمتلك ويعيش نفس الحرية، فالجميع لديهم نفس المميزات والقسم الأكبر منهم لا يحترم المساواة ولا العدالة، وهذا يعرض الملكية للخطر وعدم الثبات. ضمن هذه المشكلة لابد من البحث عن علاج.

ولكن السؤال هنا: هل نترك الحالة الطبيعية للبحث عن حالة أكثر سوءا منها ؟

حالة الطبيعة حتى ولو كانت عابرة وغير ثابتة إلا أنها عند جون لوك تختلف عن ما جاء به “هوبز”. هوبز يرى أن الحالة الطبيعية هي قاتلة، فمن أجل حماية الحياة نحن جاهزون لكل شيء،وخاصة للتضحية بالحرية. بينما عند لوك لا نصل للحديث عن فقدان الحياة بل عن الازدهار ، لذلك لا يمكننا الانتقال للحالة السياسية إذا كنا سنفقد ميزات الحالة الطبيعية. ولن نغير حالتنا الطبيعية إذا لم نحصل في الحالة الجديدة على ميزات أكثر من الحالة الماضية.

من أجل وضع حد أو نهاية لضعف وهشاشة الحياة في الحالة الطبيعية، لابد من أن نجتمع أو ننتقل إلى الجماعية. حيث يتخذ الإنسان قرارا بالاتصال بالإنسان الآخر، من أجل حماية بالتبادل لحياتهم،لحريتهم ولأملاكهم. وحتى يصيح هذا ممكنا، يجب و يكفي أن كل فرد من بين الجماعة يمتلك و يمارس حقه الطبيعي ، وهنا لن يكون لديه القدر على الحصول على حقه أو يثأر للضرر الواقع عليه لأنه أصبح يعيش في جماعة وليس لوحده. إذا الجماعة هنا عليها أن تمتلك القوانين والتي من خلالها تتم المحاسبة ثم تنفيذ الأحكام، في هذه الحالة الحق الطبيعي في العقوبة سيكون مضمونا من قبل الجماعة بدل من أن يقوم كل فرد وبنفسه بتحصيل أو تطبيق الأحكام.

نستنتج هنا الصفات الثلاث الجوهرية للاجتماع السياسي. هذا الاجتماع سيكون لديه :

1ـ قوانين، معروفة وواضحة ومجربة.

2ـ قاض يطبق القوانين بشكل موضوعي، وهذا ممكن لأنه لا يطبق قوانينه الشخصية بل قوانين الجماعة أو المجتمع السياسي.

3ـ سلطة تستطيع تنفيذ الأحكام ، وهذا ممكن أيضا لأن من سيملك السلطة هي قوة مشتركة مكونة من كل الجسم الاجتماعي.

من يريد مميزات قيام الدولة عليه القبول و احترام هذه القوانين التي تكفل الحرية التي كفلتها القوانين الطبيعية. و بالتالي يتم التخلي  عن الحق الطبيعي في العقوبة لصالح السلطة ( إلا في حالات الدفاع عن النفس حيث الضرورة والحالة الطارئة لا تسمح للسلطة بالتدخل الفوري).

هنا ننتقل لما نسميه “العقد الاجتماعي”،هذا العقد الذي لن يجعلنا نخسر أو نفقد حقوقنا في تبادلها مع الآخرين لأن:

ـ العقد الاجتماعي سيحمي الملكية، أو جوهر الحقوق الطبيعية.

ـ يتم التخلي عن الحقوق التي ليست من الأولويات، لأن الدولة ستنوب عن الفرد في ممارستها، وسيكون هذا لصالح المجموع.

إذا يمكننا في النهاية أن نختصر نظرية العقد الاجتماعي عن جون لوك بما يلي : حقوق انتقلت إلى الدولة حيث كانت في حالة الطبيعة : وفيها (الحق في تفسير القانون الطبيعي ،الحق في الحكم،الحق في العقوبة). وأصبحت في المجتمع السياسي:( سلطة تشريعية، سلطة قضائية، سلطة تنفيذية). أما بالنسبة للحقوق المتعلق بالفرد ، انتقلت من حق الملكية الطبيعي إلى حق الملكية القانوني.

ـ الاجتماع السياسي و حماية الملكية.

الخروج من الحالة الطبيعية ليس لديه معنى إلا إذا أوصلنا لحماية أفضل للملكية التي يملكها الإنسان في الحالة الطبيعية . فالدولة ليس لوجدها سبب إذا لم تكن تستطيع حماية الملكية. وهنا يقول جون لوك :”النهاية الرئيسية و الجوهرية، لوضع يكون فيه الناس مجتمعين أو خاضعين لجمهوريات أو حكومات، هي حماية و الحفاظ على ممتلكاتهم”. وهنا الدولة يجب ألا تستخدم قوة المجتمع ،في الداخل، إلا من أجل ضمان تطبيق القوانين، وفي الخارج، من أجل حماية الدولة من الاعتداءات الخارجية، ووضع المجتمع في حماية من الغزو أو الاجتياح.

ـ حدود السيادة.

من الوظيفة الأساسية للمجتمع السياسي في حماية “المجال الخاص” سيكون لدينا وظيفة أخرى كبرى: وهي حدود السلطة السياسية. يقول جون لوك في هذا الصدد:” بما أن المواطنين ليس لديهم اهتمام آخر إلا القدرة على الحفاظ على شخصياتهم،حريتهم، ملكياتهم، فإن سلطة المجتمع و السلطة التشريعية المقامة من خلالهم لا تستطيع الافتراض أن من واجبها الامتداد بشكل أوسع و أبعد من حماية الخير العام. هذه السلطة يجب أن تضع في مأمن وتحافظ على المجالات الخاصة لكل إنسان.

إذا السلطة التشريعية، إذا كانت عليا ( أعلى مصدر تشريعي في الدولة)، فهي ليست مطلقة، إنها محددة كالدولة نفسها، من خلال القوانين الطبيعية. ويقول جون لوك في هذا الشأن:” إنها سلطة ليس لها غاية سوى الحفاظ على الحقوق، فليس من حقها التدخل في تحديد أي موضوع. قانون الطبيعة يستمر دائما كقاعدة أبدية بالنسبة لكل البشر، عند المشرعين وعند غيرهم، وقوانين المشرع يجب أن تنطبق مع القوانين الطبيعية”.

جون لوك يشكل هنا في نظريته ما سيصبح قلب أو مركز مذهب حقوق الإنسان، و الذي كل الديمقراطيات الليبرالية الحديثة تعترف به كمؤسس لها، حيث هذه الديمقراطيات جعلت من مبادئ جون لوك مبادئ عليا لها.

ـ شروط قيام و تجديد العقد الاجتماعي.

إن المفهوم الذي قدمه جون لوك “للعقد الاجتماعي” ليس مفهوما طوباويا لا يمكن تحقيقه. إنه لا يتخيل أن الناس يجتمعون في يوم جميل و يخلقون الدول بواسطة اقتراع شكلي. إنه يفهم العقد الاجتماعي أن بإمكانه أن يكون بشكل متعاقب متتالي و ضمني. لقد دفع لوك هذه الموضوع و التفكير فيه بشكل كبير نحو الأمام. حتى أكثر مما قدم جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي”. أما الشروط التي تحدث عنها جون لوك فهي :

1ـ ضرورة الانتساب الطوعي:

الإرادة الطوعية في الانضمام على العقد الاجتماعي، وفي كل الظروف، هي مطلوبة حتى يكون العقد سليما وصالحا. بحيث لا أحد يمكن أن يسحب الحالة الطبيعية ويخضع للسلطة السياسية للآخرين من غير إرادته الخاصة.

2ـ تاريخية “العقد الاجتماعي”، أي حصوله تاريخيا:

فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي الطوعي يمكن أن نقدم اعتراضين على هذا المفهوم : الأول، عدم وجود مثال تاريخي لمجتمع سياسي بدأ بعقد اجتماعي. ثانيا، وهذا من جهة أخرى مستحيل، حيث كل إنسان ولد في دولة ومن هنا حريته هي منذ البداية متنازل عنها، فهو ليس حرا برفض العلاقة التي أخذها وربطته مع الآخر في مكان وجوده أو في مكان آخر.

فيما يتعلق بغياب المثال التاريخي، جون لوك يعترف بالعقبة. فالانتقال من مرحلة الطبيعة إلى المرحلة الاجتماعية ضاع غياهب الماضي. رغم ذلك، يعتقد لوك أن الحكومات الملكية البدائية أنها كانت ثمرة لعقد اجتماعي. باختصار، الدول هي في الحقيقة تشكلت بواسطة عقد اجتماعي طوعي، حتى ولو كان هذا العقد في الغالب ضمنيا و نتيجة لتتابع أو توال في الانضمام الفردي إليه.

ـ مذهب الحرية برعاية القانون أو ” دور القانون”.

رأينا أنه في عملية الارتباط أو التجمع السياسي، القوانين الناتجة عن الطبيعة تتجسد في القوانين المدنية. وعلى هذه القوانين تستند الأحكام والقضاء. “دولة لوك” هي حكومة من القوانين وليس من البشر، هي حالة من حكم القانون. من هذا المفهوم و الذي كان قد خضع للتداول في إنكلترا قبل جون لوك، يستنتج جون لوك أو يعطي تحليلا خاصا واضحا وعميقا. إنه يبين أن “دور القانون” و الحرية لا يمكن فصلهما وكل منهما يشترط الآخر. هذا المذهب سيشكل جوهر الليبرالية الحديثة.

أولاـ جوهر الحرية.

لا بد في البداية من الإشارة أن الحرية لا تعني القدرة على فعل كل شيء. إنها شيء آخر، إنها عدم الخضوع لسلطة تعسفية للآخر. ” الحرية الطبيعية للإنسان هي عدم خضوعه لسلطة تهيمن على إرادته، الحرية ترتكز على أن تكون غير معيقة أو تشكل عنفا ما ضد الآخرين”. بمعنى آخر الحرية ليست سلطة بل هي علاقة اجتماعية، وعكس الحرية ليس الضرورة بل التعسف و القهر.

ثانياـ جوهر القانون.

يتطرق لوك لهذا الموضوع بعناية ودقة. إنه يبين أن ، إذا القانون استطاع أن يلعب هذا الدور، هذا يعني أن له قيمة معرفية إدراكية: إنه قبل كل شيء معرفة ما يتوجب علينا فعله وما يجب ألا نفعله. إذا إنه يعطينا الوسيلة الفكرية لتجنب كل خلاف معه و يعطي للآخرين نفس الوسيلة بالنسبة لنا.

ثالثاـ العلاقة بين القانون والحرية.

القانون عندما يدرك ويتم فهمه فإنه يجعل الحرية ممكنة. فحيث لا يوجد قانون لا توجد حرية. في حكم القانون و سلطته، قدرتنا على التصرف محدودة، حيث لا يمكننا معارضة القانون في التعدي على أملاك الآخرين أو على حريتهم. بالمقابل حريتنا غير محددة، في أشياء أو أسباب جيدة، أي عندما نتصرف وفق القانون. أما قوة الدولة في “حكومة من القوانين وليس الأشخاص” لا يمكنها التدخل غلا وفق القانون، القاضي لا يستطيع أن يقضي إلا وفق القانون. لذلك التعسف والقهر ضد الفرد لا ينتج من سلطة ناتجة عن إرادة هذا الفرد.

وفي دولة جون لوك، الناتجة عن عقد اجتماعي، التعسف الدولاتي تم تقليصه على أبعد حد، ذاك الحد الذي سيكون ضروريا لحماية الحرية.

ـ صفات القانون.

حتى يستطيع القانون أن يلعب الدور الذي يريده له جون لوك، لابد أن يكون مؤكدا وواضحا في الموضوع الذي يتناوله. لأن أي غموض في القانون سيؤدي للإضعاف من قيمته المعرفية. يحدد جزن لوك صفات القانون بما يلي :

ـ الوضوح : أي الابتعاد عن الغموض في صياغته. ونحن نعرف من أيام الرومان أن كل تقدم في القانون هدف للبحث عن أدوات معرفية فكرية تسمح بتقليل الغموض في القوانين.

ـ العمومية: ينتج تعميم القانون من خلال مفهومه. على القانون ألا يصدر عن شخص أو يستهدف شخصا،فالقانون المدني يجب أن يكون عاما كما هي قوانين الطبيعة.

ـ نشر القانون والإعلان عنه: القانون ليس المطلوب فقط معرفته، بل يجب أن ينشر أمام الجميع.بمعنى الجميع يعرفون بأن الجميع قد علموا وعرفوا بهذا القانون. و بالتالي هناك واجبات من قبل الجميع تجاه هذا القانون. أيضا القانون يشكل وسيطا بين جميع المواطنين يساعدهم على الاتصال فيما بينهم ويشكل تصرفاتهم تجاه قضايا معينة.

ـ ألا يكون للقانون مفعول رجعي: هذه صفة ملازمة للصفة الماضية أو ناتجة عنها. إذا كان القانون ذا مفعول رجعي، فهذا يعني أنه وجد زمن خلاله هذا القانون لم يكن منشورا أو معلنا عنه، وخلال هذا الزمن لا يوجد أي مواطن كان يعرف أن هذا القانون ساريا.

ـ الاستقرار: منذ لحظة الإعلان عن القانون، هذا يعني بعدم تطوير التشريع إلا ببطء كبير. فالتشريع الذي يتغير باستمرار لن يكون لديه الوقت لكي يصبح عاما ويعرف الجميع،و بالتالي لن يشكل قاعدة من أجل تعاون المواطنين فيما بينهم، ولا من أجل الحفاظ على حرياتهم في مواجهة السلطة.

ـ المساواة: فكرة المساواة أمام القانون هي فكرة قديمة، لكن نظرية لوك السياسية و حول القانون تضيف الجديد على الفكرة. السبب الذي من أجله يجب أن يكون القانون مساويا للجميع هو سبب إدراكي معرفي وليس سببا أخلاقي. إذا من الواجب أن تكون القوانين مساوية للجميع، هذا لأنها الوسيلة الوحيدة حتى يعرف كل واحد بماذا هو مرتبط ومتمسك ، ومهما كان الشخص الذي يندمج أو يعيش معه. و إذا الآخر ليس لديه نفس الحقوق التي أملكها، لا استطيع أو لا أعرف كيف سأتفاعل معه، حيث أنني في حالة عدم المساواة، سأجهل الواجبات القانونية التي يخضع إليها الآخر بالنسبة لي، و ما هي واجباتي القانونية تجاهه.

لقد أكد جون لوك في نظريته السياسية على الصفات المتعددة للقانون ، حتى يكون بإمكانه إدانة جميع السياسات التي تستخدم القوانين الطارئة، التعسفية والقمعية تجاه الإنسان. ثم إدانة القوانين التي تشرعها الأكثرية و لا تأخذ بظروف الأقلية وحاجاتها. إذا حصل هذا من تجاوزات للقوانين وعدم اكتمال صفاتها المذكورة فإنه من الأفضل كما يقول لوك العودة إلى حالة الطبيعة. 

إن جون لوك يؤسس بنظريته السياسية و القانونية، نظرية كاملة للثورة في بلاده، مبررا الثورة التي قامت في عام 1688 أو ثورة ” ويغ” Whig ، ولكنه أيضا وضع أسسا للثورات المستقبلية في الولايات المتحدة وفرنسا. لقد تفرد جون لوك في نظريته من خلال طرحه لمبدأ المقاومة ضد الأنظمة السياسية الطاغية، و إدخال هذا الحق في رفض الاضطهاد كمبدأ من المبادئ الدستورية، هذا المبدأ الذي أصبح عضويا في كل دستور ولا يمكن فصله عنه.

 

2ـ تقليد النظام العفوي “الطبيعي” في إنكلترا القرن الثامن عشر.

( Mandeville, Hume, Smith, Ferguson, Burke ).

يقصد بتقليد “النظام العفوي الطبيعي” أنه تقليد فكري فرض من قبل الديكارتية،وهو يطور الحدس و الأفكار التالية: العقل الإنساني هو بشكل أساسي محدود؛وعمل المجتمع يستند على الأشياء العملية و الحدسية والتي لا يمكننا أن نفهما بكليتها،ولكن هي مع ذلك مؤثرة بشكل عميق وخصبة،كما أنها تشرحها حتى ولو لوحدها درجة التطور الاقتصادي و العلمي التي تبلغها المجتمعات الحديثة؛ هذه الممارسات”الأشياء العملية” و معها الحدس أخذت شكلها بفضل “عملية متطورة”،مبادرات متعددة،محاولات وأخطاء.

أما كتّاب هذا التقليد”العفوي” سيؤسسون الحرية وفق حجج أو قواعد ليست ميتافيزيقية،بل وضعية،والتي ستؤدي لقيام ما ندعوه اليوم بالعلوم الاجتماعية.إنهم يدافعون عن الأطروحة التي تقول بأنه من المستحيل على حكومة مهما كانت أن تدير المجتمع بشكل تعسفي قمعي من غير أن تخلق الفوضى بدلا من أن تخلق النظام والاستقرار،وأن المؤسسات الديمقراطية و الليبرالية هي الشكل الوحيد “العقلاني” الذي يمكنه إدارة المجتمع.

نقطة الانطلاق لتقليد النظام العفوي الطبيعي في العصر الحديث هي ردة الفعل ضد الفكرة القائلة بأن القانون و المؤسسات يمكنها أن تكون المنتج لإرادة شخص واحد.من بين الكتّاب الذين اشرنا لهم سابقا وعملوا على هذه الأطروحة نجد Edward Coke و Mattiew Hale. فيما العديد من ردات الفعل ضد نظرية “هوبز” ستزيد من تطور هذه الأطروحة. أما الحوار الإنكليزي الكبير حول حرية الصحافة وحول التسامح،وقد شارك فيه “جون لوك” بقوة، شجع الأخذ بالحسبان والوعي بحدود معرفة “الاجتماعي” social من قبل العقل الإنساني،و بقيمة المؤسسات المبنية بواسطة التقليد البسيط العفوي. ولكن مرحلة جديدة سيتم الانتقال إليها ضمن هذا الإطار مع Mandeville.

أ ـ Mandeville. (1670ـ1733).

ولد في روتردام.درس الطب والفلسفة في جامعة Leyde.استقر فيما بعد في لندن وظل فيها حتى وفاته في عام 1733. من أهم أعماله : ترجم من الفرنسية إلى الإنكليزية في عام 1703 أعمال “لافونتين”.نشر في عام 1704 كتاب Typhon أو “حرب الآلهة والعمالقة “. في عام 1705 نشر The Grumbling Hive , or Knaves Turn’d Honest . في عام 1720 كتاب “أفكار حرة حول الدين،الكنيسة،الحكومة و سعادة الأمة”. أما كتابه “أسطورة النحل” يمكن تصنيفه ضمن تاريخ الأفكار السياسية و الاجتماعية.

يمكننا هنا عرض أهم الأفكار التي وردت في هذا المؤلف الأخير:

ـ دور المصالح الشخصية كمحرك حقيقي هو دور منتج أكثر مما هو دور مستهلك.

ـ المنفعة الشخصية تولد و تنتج منافع جماعية.

ـ إن صعود وهبوط الاقتصاد، ضعف الإنتاج وقوته، هي عوامل ضرورية لديناميكية الاقتصاد نفسه.

أيضا المجتمع يسير من دون أن يدري أي شخص أو يكون لديه أية فكرة دقيقة عما يجري في هذا المجتمع،ففي داخله تتفاعل قوىً و بنىً قوية وثابتة،بالرغم من أن معظم الناس لا يفهمون دورهم ولا يفهمون هذا المجتمع؛ بمعنى آخر “هذا المجتمع يسير لوحده”. ويرى Mandeville أن الأخلاق والقانون،عملا جماعيا يتحدد عبر الزمن من قبل أفراد كثر لا أحد منهم يمتلك رؤية كاملة للبنية التي يتم بناءها.

في النتيجة، النفس الإنسانية هي في نفس الوقت محدودة وقوية: حيث لا يوجد أي ذكاء فردي يمكنه أن يفهم كليا السبب بأن القيم والمؤسسات الاجتماعية التي يوجد هذا الفرد بداخلها؛ لكن التطور العفوي الطبيعي لجماعة إنسانية هو باستطاعته بناء القيم والمؤسسات القوية،المعقدة والثابتة، متجاوزا بذلك كل ما يمكن أن يبنيه المسعى “الديكارتي” القائل بالبناء المنطقي ـ الاستنتاجي. وهذا عمليا ما يمكننا أن نسميه “بضد العقلانية” antirationalisme في القرن الثامن عشر،حيث هذه المعرفة لشرعية التقاليد و المعارف السابقة يمكن أن تكون معتبرة،على العكس مما هو سائد، كشكل متفوق على العقلانية[24]. لقد لعب Mandeville دورا مهما في شرح وتوضيح هذا النقد الجديد للعقلانية. لقد فتح الطريق لكل من Hume و Ferguson.

ب ـ David Hume . (1711ـ1776).

ولد في Edimbourg، ينتمي إلى عائلة من البرجوازية الصغيرة.درس في نفس مدينته وكان مهتما منذ البداية بالعلوم الطبيعية.انتقل للدراسة في فرنسا وفيها كتب “تحليل طبيعة الإنسان”.عاد إلى لندن في عام 1737 لينشر كتابه هذا. في عام 1742 كتب “دراسات سياسية وأخلاقية”، وعمل بعد ذلك كدبلوماسي في ألمانيا، فيينا و إيطاليا. كتب في عام 1752″خطابات سياسية”. بعد ذلك قدم مؤلفا ضخما حول”تاريخ إنكلترا”. الأفكار السياسية عند Hume جاءت في “خطابات سياسية” و” تاريخ إنكلترا”.

1ـ الأخلاق لا تختزل بالعقل.

بالتطابق مع الإبستومولوجيا و البسيكولوجيا التجريبية التي عرضهما Hume في الجزأين الأولين من”تحليل طبيعة الإنسان”، إنه يضع بداية مبدأ عاما يلحق من زاوية أخرى بأطروحة Mandeville:”القواعد الأخلاقية ليست نتائج لعقلنا”. فالقيم الأخلاقية لديها قوة وهي تحدد عمليا تصرفاتنا. فالأخلاق عند Hume لها أصول غير العقل التجريبي، وهنا ينتقد بعض الفلاسفة مثل “سبينوزا”.

2ـ العدالة أصلها الاتفاق.

الإنسان عند Hume هو الأكثر ضعفا من بين المخلوقات. في حالة الطبيعة يثق بنفسه من خلال”اتحاد توحشي للضعف والحاجة”. ولكن من خلال المجتمع فقط يستطيع حل مشاكله الأكثر إلحاحا. في الواقع،المجتمع يسمح في اتحاد القوى،توزيع العمل والمساعدة المتبادلة.”اتحاد القوى يزيد من قوتنا؛فتوزيع المهام يزيد قدرتنا،والمساعدة المتبادلة تقلل من الأخطار حولنا”. (صفحة 602 من الكتاب).

ولكن المشكلة هي كيف نعرف طريقة الدخول إلى المجتمع. لحسن الحظ،الطبيعة أمدت الإنسان بقاعدة أول مجتمع،إنها العائلة. يبقى أن أنانية الإنسان تحول بينه وبين الوحدة التي يجب قيامها في المجتمع. والحل هو في تدخل عنصر ليس طبيعي”اصطناعي” ومنه نستطيع بناء قاعدة حقيقية للحياة الاجتماعية. العقل المجرد لا يستطيع وفق Hume أن يقوم بهذه المهمة. إذا إنها “الاتفاقيات” أي قواعد يتم تشكيلها. “العقد” أو الاتفاق الإنساني هو في نفس الوقت واعٍ و حدسي، يقوم على الوعي والحدس. ومع التدرب النفسي للفرد فإنه يمضي من العلاقات العائلية إلى العلاقات المجتمعية أو “المجتمع”، والقواعد هنا يتم تعزيزها من خلال التجربة. ضمن هذه الحالة يجب احترام وضع الآخر، هذا الاحترام نفسه يقود على إنتاج ميزات تزيد من مشاعر الارتباط بالقواعد. هنا يقترح  Hume عملية تطورية سيستفيد منها فيما بعد العديد من المنظرين لما يسمى “نظام التنظيم الذاتي”.

3ـ التعاقد على استقرار الملكية هو مصدر لكل القواعد الأخرى في القانون.

كل شيء يبدأ عند Hume بواسطة التعاقد أو الاتفاق على الكف أو الامتناع عن الهيمنة على أملاك الآخرين. وفقط إقامة هذه القاعدة هي التي تعطي معنى لأفكار العدالة والظلم، لأنه في اللحظة التي يضر فيها أحدهم أحدا آخر أو أملاكه،فإن هذا سيوقظ مشاعر من الشك.إن موقف Hume يتعارض مع موقف”هوبز” ومع “الوضعية القانونية”، ويقترب كثيرا مع الفكر الأرسطوطاليسي الممتد إلى مدارس الفلسفة الأوربية ذات البعد الأرسطي،ومع مدرسة “سلامونك” الإسبانية: بمعنى أن مفهوم وجوهر العدالة يسبق الدولة، مفهوم وجوهر القانون يسبق التشريع.

من بين جميع القواعد التي تتعلق بالعدالة عند  Hume، تعتبر القاعدة التي تتعلق باستقرار الملكية هي الأكثر أهمية لديه. فعدما تكون الملكيات واضحة ومستقرة، فإن تعاونا اجتماعيا سلميا يصبح ممكنا.أما الأهواء و النزوات يمكن أن تقود المجتمع إلى الانفجار.وعلى قواعد استقرار الملكية يضيف Hume قاعديتين أساسيتين: أولا ،نقل الملكية بالتراضي،ثانيا، احترام الوعود.

4ـ المجتمع يمكن أن يتجاوز الدولة،ولو بشكل مؤقت.

الدولة لا تظهر ضمن هذا المعنى عند Hume إلا في وقت الحروب،أما الحياة الاجتماعية يمكن أن تجري من غير الدولة. مع ذلك الدولة يمكن أن تحسن من ظروف العدالة،ولكن هي لا تخلقها.( نلاحظ هنا الاقتراب من مفاهيم جون لوك).

5ـ القانون قبل التشريع.

 القانون هو قبل التشريع،والدولة،بالرغم أنها بعيدة عن تأسيس القانون كما يعتقد هوبز، تستمد شرعيتها من الذين يحترمون قانونا سبقها في الوجود. “فالدولة لا تقيم العدالة، بل تساهم بتطبيق أكثر صرامة لها، وهذا يسمح بحماية المميزات السابقة عليها واقتناء مكاسب جديدة”. (المرجع السابق، صفحة 665).إن الدولة ضرورية من أجل العدالة وخاصة في “المجتمعات المتنازعة” (صفحة،666). هنا يلتقي Hume مجددا مع جون لوك في هذه النقطة،لكن Hume يزيد شيئا جوهريا على مذهب لوك في الدولة الليبرالية.

6ـ وظيفتا الدولة.

Hume في الواقع هو واحد من أوائل المفكرين السياسيين الذي أعطى للدولة دورين شرعيين: الدور الأول هو احترام قوانين العدالة ويخدم في تحكيم وفض النزاعات. الدور الثاني هو تزويد أو تقديم المنافع وخدمة المجتمع. ( المرجع السابق، صفحة 659ـ660).

ت ـ Ferguson. اسكتلندا (1723ـ1816)

كتّاب آخرون ساهموا في بناء “تقليد النظام العفوي الطبيعي”. من بينهم Josiah Tucker (1712ـ1799)، Thomas Reid (1710ـ1796)، و Adam Ferguson. هذا الأخير هو كاتب شديد التعقيد،يحلل الكثير من المواضيع المتنوعة ولها علاقة بتاريخ علم الاجتماع،الأنثروبولوجيا ،الأدب،الفلسفة الأخلاقية الفلسفة السياسية بشكل خاص.ولكنه ليس ليبراليا له خصوصية في ليبراليته.

درس Ferguson علم اللاهوت في جامعة إدنبرة.ثم أصبح أستاذ في الفلسفة الطبيعية ثم في الفلسفة الأخلاقية وفي نفس الجامعة. من أهم مؤلفاته: “دراسة حول تاريخ المجتمع المدني” (1767)، ” مبادئ العلوم الأخلاقية والسياسية” (1792).

ما يهمنا في دراسة الفكر السياسي عند Ferguson، في الواقع، منهجه أكثر من أطروحاته . في كتابه حول تاريخ المجتمع يحاول رد الاعتبار إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية، من المجتمعات “المتوحشة” إلى المجتمعات “التجارية” في المملكة المتحدة المعاصرة.ضمن سياق هذه الإشكالية، يقاد Ferguson إلى صياغة العديد من الفرضيات الجديدة فيما يتعلق بمنطق تطور المجتمعات الإنسانية. هذا التطور كما يراه،هو بشكل أساسي متقدم ومتراكم،بشكل بطيء ومعقد، من غير أن يستطيع الإنسان الادعاء بأنه يقود هذا التطور للمجتمع.

على الخلاف من “جان جاك روسو” الذي يتخيل أنه كان هناك بالنسبة للإنسان حالة طبيعية وأن كل المخترعات الاجتماعية هي مصطنعة وغريبة عن هذه الطبيعة، Ferguson ينكر أننا نستطيع التمييز عند الإنسان بين ما هو مصطنع وما هو طبيعي.حتى عند الإنسان البدائي كان هناك ما هو مصطنع،بمعنى أنه استخدم عقله،إرادته وحريته من أجل الاختراع؛ وعند الإنسان المتحضر هناك ما هو طبيعي. في الحقيقة وكما يقول Ferguson،الإنسانية هي مختلط من الطبيعي و المصطنع،بمعنى آخر يريد أن يسميها” مجتمع مدني”،ولكن هذا المصطلح يظهر أنه يتطابق بشكل واضح مع مصطلح للحداثيين يدعونه “الثقافة”. في كل الأحوال، إنه يريد وضع نظام وسطي بين النظام الطبيعي والنظام المصطنع.

وجد  Ferguson في بحثه عن طبيعة هذه الظاهرة من التطور،تعبيرا في غاية الأهمية سيساهم في وضع حد للصعوبة المعرفية التي تعيق التمييز بين مفهوم النظام العفوي للمجتمع،و النظامين المصطنع والطبيعي : فالتطور الثقافي يختلق،كما يقول،” أنظمة والتي تعتمد على الفعل البشري أو الإنساني، وليس على نيات البشر”. يعطي مثالا عن التطور العفوي “للثقافة” أو “للتاريخ”، فهو بالنسبة له عملية لم يتم تخطيطها ولم يقررها أي شخص، فالتطور حصل من خلال تعدد الفعل الإنساني، حيث لكل فعل هدف متفرد يميزه،وأفعال جميع أعضاء المجتمع الإنساني تتعاقب و تتراكم مع الزمن. هذا التراكم يصل إلى قيام مؤسسات،قيم،معارف كلها ذات تأثير وفعالية.

  ث ـ Adam Smith ( 1723ـ1790).

ليس المقصود هنا أن نتحدث عن الفكر الاقتصادي،ولكن سوف نتحدث عن Adam Smith فيما يتعلق بدوره في وضع مفهومه حول “اليد الخفية”. اعتقد Smith بشكل واضح بأن السوق يشبه نظام “التسيير الذاتي”. فمبادرات الفاعلين الاقتصاديين كما يبين Smith، هي محكومة ليس بالمعرفة التي سيحتاجونها و بالقدرة الفعلية لشركائهم المباشرين أو البعيدين،ولكن من خلال الإشارات المجردة للسعر والتي عليها تكون الأشياء في حالة عرض وطلب في السوق. والناشطون أو الفاعلون الذين يتحركون وفق هذه الإشارات من أجل شراء منافعهم الإنتاجية أو الاستهلاكية،أو من أجل بيع منتجاتهم،يندمجون بواسطة الفعل نفسه ،من غير أن يكونوا واعين لهذا الفعل، داخل الشبكة المعقدة لتقسيم العمل.

فالإنسان،ودائما وفق Smith،إذا ترك حرا في متابعة مصالحه الخاصة ووفق طرقه الخاصة،وإذا على الأقل احترم قواعد المساواة،الحرية والعدالة، فإنه يقاد ليلبي حاجات إنسان لا يعرفه؛وبهذه الحالة هو يشارك في عمل وحركة مجتمع أبعد من أن يدركه بذكائه المحدود. Smithلن يستطيع أن يكون ضد الاشتراكية،مذهب سيشكل بعده بعشرات السنوات. ولكنه يبشر بمقدمات هذه الاشتراكية، مع ما يدعوهم”برجال النظام”. أما صورة “اليد الخفية” ستفهم من خلال التعارض أو التناقض مع صورة ” اليد المرئية”،بمعنى أنها يد ستتم قيادتها بواسطة رأس واضح ومرئي، أي يقصد بواسطة الدولة التي تمتلك إرادة وسلطة التنظيم.

Smith رأى بشكل واضح التعرض بين نموذجين لتنظيم الاقتصاد، “المخطط” و ” السوق”، النظام المخطط والنظام العفوي،ولم ير أنهما مختلفين فقط بالقيم،ولكن أيضا أن المجتمع الحديث لا يمكنه أن ينتظم إلا وفق النموذج الثاني.

من الوقت الذي طلب فيه Smith العمل لهذا النظام الذي يقوم على المبادرة الحرة و التبادل الحر ورأى أنه الطريقة الوحيدة لتنمية “ثروة الأمم”،فإنه بذلك أعطى للمسألة التي جاء بها جان لوك وتركها معلقة، إجابة كان لهل رنينها مع الفلسفة القانونية/السياسية عند جون لوك: “حرية في سيادة القانون” وسوق،هما وجهان لنفس الظاهرة، ظاهرة النظام العفوي للمجتمع. فالقانون ليس شيئا آخرا سوى قاعدة لتنظيم لعبة التبادل، فالتبادل الاقتصادي السلمي و الفعال ليس ممكنا إلا في وجود القواعد القانونية.

مع Smith، تقليد “سيادة القانون” والذي وضعته الثورة الإنكليزية الثانية ثم أضافه عليه جان لوك،وتقليد النظام العفوي، شيئا فشيئا بدأت خطوطهما ترتسم في إنكلترا القرن الثامن عشر. وقواعد المذهب الليبرالي تكون قد تأسست حتى ولو أن Smith نفسه لم قد أتم أو أنجز تركيبه الأخير لهذا المذهب.

ج ـ Edmund Burke (1729ـ1797).

يوضع هذا الاسم بشكل واضح ضمن “تقليد النظام العفوي”. ايرلندي وأحد قادة “حزب الأحرار البريطاني”،دافع عن الحريات الأمريكية و الحقوق الايرلندية وعن الهنود أيضا. هاجم الثورة الفرنسية من خلال كتابه “تأمل حول الثورة الفرنسية”[25] (1790)، والذي عرف نجاحا كبيرا.

1ـ فكرة التقليد.

عارض Burke فكرة “السيادة” أو فكرة المجلس الذي يدعي هذه السيادة. إنه يعتقد “أن المؤسسات السياسية تشكل نظاما ضخما معقدا من القوانين والعادات؛وأن هذه المؤسسات ظهرت بشكل متدرج في الماضي وهي تأقلمت في الحاضر من غير وجود حل لاستمراريتها؛ وأن تقليد الدستور و المجتمع يجب أن يكون مكانا للاحترام بشكل أوضح من الاحترام الواجب للدين،لأنه الخازن لذكاء جماعي وحضارة جماعية”[26].

2ـ نقد فكرة الدستور المصطنع.

 Burke وبما أنه من حزب الأحرار البريطاني،فقد دافع عن حقوق البرلمان في مواجهة الملك،ولكنه أيضا انتقد دور البرلمان نفسه. لا يعتقد Burke أن الرأي العميق للبلاد هو يعادل هؤلاء الذين يقررون بشكل أغلبية من الأفراد،ولا يعتقد أن برلمانا يمثل المواطنين الأفراد ويبحث للدفاع عن مصالحهم وهو في نفس الوقت يمثل كل البلاد.فالبرلمان في رأيه يجب أن يكون مشكلا أيضا من زعماء الأقليات الذين يتبادلون النقد بالتبادل من خلال النقاش والحوار.

أما الثوريون الفرنسيون الذين يعترضون على النموذج الإنكليزي وبشكل خاص على مذهب حزب الأحرار، فهم فهموا هذا النموذج وذاك المذهب بشكل خاطئ. فشعاراتهم السياسية مثل المساواة الطبيعية بين الناس أو قانون الأغلبية هي مجردة ومدمرة عندما تتطلب وفي دارة صغيرة عملية زمنية من خلالها تتشكل التقاليد. الدساتير التي يقوم بها النموذج الإنكليزي أو حزب الأحرار ستكون دائما معلنة كدستور حقيقي للشعب والذي تم إيجاده عبر قرون عدة، أو الذي تم تسجيله وخلقه من قبل كل واحد من الفئات الاجتماعية ،وأيضا من خلال عمل وفعل الأكثر ثقافة والأكثر غنى والذين حموا الأكثر ضعفا،وهذا يعني أنه دستور يتضمن العادات،التراتب والتنظيم العضوي، وهذا ما يرفضه الثوريون الفرنسيون، ولكن تلك الأفكار القادمة من الثورة الإنكليزية ستجعل من الشعب الفرنسي”شخصية سياسية حقيقية” لا تستطيع إرادة الثوريون تدميرها.

3ـ “العقد الاجتماعي” الحقيقي هو الذي يضعه مختلف الأجيال في الأمة.

ينتقد Burke تمجيد الثوريين الفرنسيين “للعقل”. فالمجتمع يرتكز على “أشياء استباقية” أكثر مما يستند على “العقل” الواعي.فالأشياء الاستباقية كما يراها Burke هي المشاعر المتجذرة بشكل عميق في النفوس،هي الحب و الارتباط والتي تولد في العائلة والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان بشكل مباشر،ثم في البلاد كلها. هذه المشاعر والأحاسيس تشكل الركن أو الأس soubassement الغير واع للشخصية، وإذا قارنا بها وعي العقل والمصالح الشخصية فإن هذه الأخيرة تبدو أمامها شيئا صغيرا.فالمجتمعات تقدم مشاعر الانتماء والواجب،وليس الحساب الدائم للمصلحة الشخصية كما يريد بعض المنظرين الحداثيين للعقد الاجتماعي، خاصة أن الحساب الدائم للمصالح يؤدي لبناء جماعات غير مستقرة.إذا الدولة المجردة التي يريدها الثوريون الفرنسيون هي فقط لتسيير وتدبير”تجارة البهارات والقهوة” وهي يخاطر بتدمير الدولة بمعناها القوي والذي هو “المجتمع” و “الأمة”.

[1] – George H. SABINE, A History of Political Theory, Chicago, 1973, chap. 18.

[2] – Philippe NEMO, Histoire des idées politiques aux Temps modernes et contemporains, puf, Paris, 2003, P. 39.

1 ـ للإطلاع بشكل أكبر على “الاستبدادية” في فرنسا يمكن مراجعة كتاب: فرنسوا أوليفيه مارتان، “الاستبدادية الفرنسية”، بالفرنسية،صدر في عام 1951 و أعيد طبعه في عام 1997 في باريس.

 ـ بيير ميسنارد،”ازدهار الفلسفة السياسية في القرن السادس عشر”،بالفرنسية، كتاب طبع في عام 1935، وأعيد طبعه في عام 1977 في باريس.[4]

[5]- Philippe NEMO, Histoire des idées politiques , مرجع سابق، الصفحة 47.   

[6] – « Le prince », XV, p. 335.

[7] – in « The Foundation of Moderne Political Thought », Volume two, The Age of Reformation, Cambridge University Press, 1978.

[8]  ـ انظر كتاب Yves Charles Zarka، ” جان بودان : طبيعة،تاريخ،قانون وسياسة”، صادر بالفرنسية، دار نشر PUF،1996، الصفحة 233ـ244. أيضا انظر Julian H.Franklin ،” جان بودان و ولادة نظرية الحكم المطلق”، صادر بالإنكليزية عام 1973.

[9]  ـ انظر، توماس هوبز” كتاب التنين”، صادر عن دار نشرSirey ، باريس،،بالإنكليزية والفرنسية ،1971.

[10]  ـ من مقدمة كتابه De Cive ” المواطن” باللاتينية، الصفحة 124.

[11]  ـ المرجع السابق، الصفحة 125.

[12] ـ الجزء الثاني من “التنين”، الفصل 17، الصفحة 173.

[13]  ـ هذا التعبير ” من Gerson إلى Grotius “، يظهر في الواقع ضمن عنوان لكتاب John V. Figgis ” Studies of Political Thought from Gerson to Grotius” ،لندن، 1907. أما ” Gerson” ( 1363 ـ 1405) فهو واحد من أهم المنظرين “للتصالحية”، و “Grotius” (1583 ـ1645)  فهو من الكتاب الهولنديين الأوائل الذين أسسوا لنظرية القانون الطبيعي المتعارض مع الدولة كما سنرى ذلك في مراحل متقدمة من الكتاب.

[14]  ـ ” Constance”: هو مجلس استشاري (1414 ـ 1418)، ثبت الأفكار التصالحية. و عام “1688”: هو تاريخ الثورة الإنكليزية الثانية التي أدت لإيجاد أو تأسيس نظام دستوري.

[15]  ـ ولد في عام 1468 وتوفي في عام 1550. حصل على دبلوم في علم اللاهوت من جامعة السوربون في عام 1506. علم فيها حتى عام 1518،حيث عاد إلى اسكتلندا للتعليم في غلاسكو. 

[16]  ـ ( 1480ـ1515). دكتور في علم اللاهوت. رد على العديد من الأطروحات التي كانت ضد التصالحية.

[17] – Marjorie Grice – HUTCHINSON, « The School of Salamanca : Reading in Spanich Monetary Theory 1544-1605, ( 1950); early Economic Thought in Spain: 1177-1740, (1978); Economic Thought in Spain, selected essays edited with an introduction by Laurence S. Moss and Christopher K. Ryan, Edward Elgar, Aldershot, Vermont, 1993.

[18]  ـ انظر، فرنسوا هوتمان، ” التخبط الفرنسي”، صادر بالفرنسية، مجموعة من الأعمال الفرنسية تمت مراجعتها من قبل Christiane Frémont، وصدر عن دار نشر Fayard، باريس 1991. انظر أيضا، تيودور بيز،” قانون القضاة”،بالفرنسية، نشر وتعقيب Robert M. Kingdon، أيضا في نفس الكتاب: انظر بحث “كلاسيكيات الفكر السياسي”، صادر بالفرنسية، جنيف، مكتبة Droz، 1970.

[19] ـ يمكن العودة هنا ومن أجل قراءة تاريخ بريطانيا بشكل أوسع إلى : رولان ماركس،”تاريخ بريطانيا العظمى”،باريس دار نشر Armand Colin، 1980، و لنفس الكاتب ” إنكلترا الثورات”، نفس دار النشر، 1971. انظر أيضا، Barry Coward , and Chris Durston، « The English revolution », London, 1997.

[20]  ـ من نص كتبه David Wootton تحت عنوان ” Divine Right and Democracy”، الصفحة 168ـ171.

[21] ـ انظر: رينيه دافيد، ” le droit anglais”، بالفرنسية، مجموعة من الكتّاب، دار نشر PUF، الطبعة التاسعة، 2001.

[22]  ـ انظر ، George H. sabine and Thomas L. Thorson, « A history of Political Theory », Winston, 1973, p.418.

[23]  ـ انظر، Wootton،” Divine Right and Democracy”، مرجع سابق ،الصفحة 283ـ285.

[24] – F. A. Hayek , « New Studies in Philosophy, Politics, Economics and the History of Ideas », London and Henley, Routledge & Kegan Paul, 1978, p. 260-261.

[25] ـ صدر هذا الكتاب عن دار النشر الفرنسية “هاشيت” في عام 1989.

[26] – George H. Sabine, « A History of Political Theory », op. cit., p.558.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى