إنَّ الله تعالى خلق البشر بألوان مختلفة ولغات متعدّدة، ولم يخلقهم بعقيدة واحدة، ولا فكر واحد، ولكن أراد الله لهم أن يتعايشوا بروح واحدة، هي روح الوحدةالإنسانيّة ،والتي ترتكز على عدّة أسس ومبادئ هامّة.
والحقّ هو الأساس الأوّل الذي تُبنى عليه هذه الوحدة الإنسانيّة، لأنّه الضّمانة التي تضفي على العلاقات الإنسانيّة الثّقة والطّمأنينة، وتحيطها بجوّ من الدّفء والرّضا والتّفاهم، والمحبّة والعطف الأخويّ.
وبالحقّ تسود الحقيقة بعيدا عن الخرافة، والصّواب بعيدا عن الخطأ ،وتتبلْوَر المواقف السّليمة .
ولقد دعانا الله تعالى إلى التمسّك بالحقّ وعدم كتمانه والابتعاد عن الباطل .
{الحقُّ من ربّك فلا تكونَنَّ من المُمْتَرين}[ البقرة: ١٤٧].
{ولا تلبِسوا الحَقَّ بالباطِل وتكتموا الحَقَّ وأنْتُم تعْلمون} [البقرة: ٤٢].
وإذا جاء الحقّ عن طريق الإحساس بالدّافع الإيمانيّ والإنسانيّ، فذلك سيكون الضّمان لبقائه ،أمّا إذا جاء عن طريق القهر والجبريّة والغلبة وقوّة السّيف، فإنّنا نودّع الحقّ بمجرّد غياب هذة الجبريّة وفقدان ذلك السّيف .
ولا يطبّق الحقّ إلا من خلال الأساس الثاني الذي تُبنى عليه الوحدة الإنسانيّةوهو العَدْل.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: { وممَّن خَلَقْنا أمَّةٌ يَهْدُونَ بالحقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ} [ الأعراف: ١٨١].
و يتمثّل العَدْل بالقدرة على مواجهة الظّروف الطّارئة، والضّغوط والأزمات الخانقة، وتلافي سلبيّاتها إلى حدّ كبير .
وهو الذي يُعمّر القلوب بالحبّ ويتحقّق من خلاله معيار السّعادة والحضارة وبه يستقيم كلّ شيء.
فإذا تحقّق العَدْل تُحْفَظ كرامة النّاس وترتقي المجتمعات وتطمئنّ النّفوس، ونكون به الأقرب إلى التّقوى .
قال تعالى:{ يا أيُّها الّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ للهِ شُهداءَ بالقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ألّا تعْدِلوا اعْدِلوا هُوَ أقْرَبُ للتّقْوى واتّقوا الله إنّ الله خَبيرٌ بما تَعْمَلون} [المائدة: ٨].
إنّ الله دعانا لأن يكون الحقّ والعَدْل، الأساس الذي تقوم عليه كلّ علاقات الإنسان وسلوكيّاته في الحياة.
فبالحقّ والعَدْل يتحقّق الأساس الثالث، الذي تبنى عليه الوحدة الإنسانيّة، وهو المساواة الإنسانيّة الذي ينطلق من مبدأ احترام الإنسان وتكريمه من حيث هو إنسان لا من أي حيثيّة أخرى ، قال الله تعالى: { يا أيّها النّاسُ إنّا خَلقْناكُم مِنْ ذَكرٍ وأُنْثَى وجَعَلْناكُم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ إنَّ الله عليمٌ خبيرٌ} [ الحجرات: ١٣].
فلا يوجد أيّ فرق بين إنسان وآخر إلا بالتّقوى والعمل الأفضل.
فالله تعالى خلق الناس كافّة من أصل واحد .
{ ولقَدْ خَلقْنا الإنسانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طينٍ} [المؤمنون: ١٢]. فلا فرق بين غنيّ وفقير، ولا بين قويّ وضعيف، ولا بين حاكم ومحكوم ،وقد دعا عزّ وجل الأنبياء والرّسل عليهم السّلام ،إلى الدّعوة لهذا المبدأ الإنسانيّ الراسخ، الذي به يرتقي البشر وتُعمّر الأرض.
وبالحقّ والعَدْل والمساواة، تُقْطف ثمرة إنسانيّة راقية، وهي من الأساس الرابع لبناء الوحدة الإنسانيّة، هي الرّحمة التي تحمل أسمى المعاني الرّاقية المتمثّلة بالرقّة والرأفة والعطف والحنان والإحسان وبذل الخير والمعروف ،والتي يجب أن يتحلّى ويتخلّق بها الإنسان في تعامله ونفسه وكل مراحل حياته، رحمة لا تقتصر على إنسان دون آخر، رحمة تتجلّى في التّعامل مع كافّة المخلوقات من أصغرها وأضعفها، إلى أكبرها وأقواها، رحمة في الإنسانيّة بالّتعامل مع كل أشكال البشر وأجناسهم وجنسيّاتهم وألوانهم .
فجوهر الرّحمة هو الإحساس بأنّ ألم الآخرين يماثل ألمنا، وفرحهم يشابه فرحنا.
وبالرّحمة تَضْمَحِلّ القسوة التي تشكّل عنصرا أساسيا في تركيب العنف، بكلّ أشكاله وصوره وأدواته ومجالاته.
والعنف يولّد الكراهيّة والتعصّب الذي بدوره يدعو إلى التقليل من شأن الآخر والإنقاص من كرامته الإنسانيّة.
وتزداد الرّحمة بوجود المحبّة، حيث لا يمكن تصوّر محبّة حقيقيّة تخلو من الرّحمة تجاه من نحبّ، لكنّ المحبّة ليست شرطا للرّحمة ، فالرّحمة تتّسع حتّى لمن لا نكنّ لهم أيّ مشاعر، بحيث نحسّ بآلامهم وأفراحهم بعيدين كانوا عنّا أم قريبين، متوافقين معنا أم مختلفين.
فما من رابطة إنسانيّة إلّا وأساسها وقوام أمرها الرّحمة والتّراحم، وقد وصف الله تعالى نفسه بالرّحمة في كثير من الآيات القرآنيّة، فقال سبحانه: { ولَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وأنَّ اللهَ رؤوفٌ رَحيمٌ} [ النور:٢٠].
{كَتبَ رَبُّكُمْ على نفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [ الأنعام:٥٤].
{وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شيْءٍ} [ الأعراف: ١٥٦].
فالله خلقنا ليرحمنا ، وأراد أن تكون علاقته بنا مبنيّة على الرّحمة وأوسع باب نصل منه إلى الله هو أن نتخلّق بالرّحمة.
وتنمو الرّحمة في ظلّ الأساس الخامس لبناء الوحدة الإنسانيّة، وهو التّسامح الذي يُعتبر من أرقى وأعظم الفضائل الإنسانيّة والأخلاق الحميدة، وذلك لما يشمله من طاقة إيجابيّة.
فهو الشعور بالعطف على الآخرين ورحمتهم والتجاوز عن أخطائهم، ووضع الأعذار لهم وعدم مقابلة الإساءة إلّا بالإحسان ،والنظر إلى مزاياهم وحسناتهم بدلا من التركيز على عيوبهم وأخطائهم.
فلا نحمل الكره والحقد بداخلنا ،بل نملأ قلوبنا بالحبّ والتّسامح والأمل، حتى نكون مطمئنّين ونشعر بالاستقرار النفسيّ، وينعكس ذلك على المجتمع بالخير، ويوحّده من خلال تماسكه ، و يزيد من نسبة تحضّره وازدهاره ،حيث يزيد التّكافل بين أفراد المجتمع، ويقلّل نسبة العصبيّة والتوتّر التي تؤدي إلى انتشار الجريمة والعنف في المجتمع، ومختلف أشكال الدّمار والصراعات والإضطرابات التي قد تفتك بأفراده.
التّسامح يدلّ على اتّساع أفق فكر الإنسان ،ورحابة صدره ،وهو من صفات الأقوياء فالضعيف لايمكنه أن يسامح، وهو من الأمور المهمة التي دعا لها العظماء والأنبياء المرسلين على مرّ الزّمان ، حيث أنّهم لم يُكْرِهوا أحدًا من قومهم، على الدّخول بالدّين الذي كانوا مكلّفين بإبلاغهم لهم، بالرّغم ممّا لاقوه من ظلم وأذى واضطّهاد.
وأجمل الكلام عن التسامح قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهلينَ} [ الأعراف: ١٩٩].
فهذه المرتكزات الحقّ والعَدْل والمساواة والرّحمة والتّسامح، هي قوّة الوحدة الإنسانيّة التي تحيي الأمّة والمجتمع .
ومن دونها يصبح الإنسان عاجزا عن أداء أي عمل مهم، ويصبح المجتمع غارقا بالضياع ،وكالبركان الذي يغلي من الداخل ،وإن كان ظاهره ساكنا لا يتحرّك ولا يعلم أحد إلّا الله متى ينفجر فتقضي حممه على كل ما تصادفه أو تصيبه…..
بقلم: د. زينة محمد الجانودي – بيروت
كاتبة وباحثة لبنانية في الشؤون الإسلامية، والحوار الإسلامي /العربي