دراسات سوسيولوجيةدراسات سياسية

شبكات الاحتجاج العابرة للحدود: نموذج الفاعلية الإسلامية الجماهيرية المُمَكَّنَة شبكيًّا في البيئة الدولية

أسماء حسين ملكاوي مشاري الرويح

تقترح الدراسة نموذجًا نظريًّا لفاعلية جماهيرية لمجتمعات مُسْلِمَة مُمَكَّنَة شبكيًّا، وتَتَبُّع مسارات هذا النوع من الفاعلية والقيود المفروضة عليه في البيئة الدولية. وتهدف الدراسة إلى التعامل مع احتجاجات الجماهير المُمَكَّنَة شبكيًّا ذات الطابع الديني، ومساراتها المحتملة طويلة المدى في السياسة العالمية المعاصرة.

2

المصدر: من إعداد الباحثين

يوضح هذا الشكل عددًا من الاختلافات مع نموذج “بوميرانج” الذي ينطلق، كما ظهر في الشكل (1)، من افتراض أن التفاعل الاحتجاجي الرئيسي يكون دائمًا أو بشكل أساسي بين الجماهير في الدول غير الليبرالية، ممثلة في كيانات غير حكومية، وبين حكوماتها، ومن ثم تقوم عملية نقل المعلومات للمنظمات غير الحكومية وشبكات مناصرة الحقوق العابرة للحدود بتأطيرها وإقناع حكوماتها بالضغط على حكومة الدولة غير الليبرالية المنتهكة للحقوق، ويتماشى هذا مع فكرة “الإنقاذ” المرتبطة بالأدبيات الليبرالية الحقوقية، التي تظهر فيها المنظمات والحكومات الغربية كمنقذ للمجتمعات غير الغربية من حكوماتها. في المقابل، ينطلق نموذجنا المقترح كما يظهر في الشكل (2) من افتراض أن احتجاجات الجماهير الإسلامية قد تكون موجهة ضد سياسات الحكومات الغربية وبعض الممارسات في المجتمعات الغربية المسيئة للمسلمين. ومن المهم الإشارة إلى أن السهم الموجه للأعلى، الذي يربط بين الجماهير والدولة، لا يمثِّل تفاعلًا احتجاجيًّا أساسيًّا كما في نموذج “بوميرانج”، بل يعكس عدم قدرة أو رغبة الدولة على تبني الفعل الاحتجاجي، أو مشاركة الجماهير الاحتجاج على سياسات الدول المُستهدَفة بالاحتجاج.

ويتضح من الشكل أعلاه أن المقصود بسمة “عابرة للحدود” لوصف الفاعلية الجماهيرية الإسلامية هو ذلك الارتباط والتواصل بين الجماهير الإسلامية، في دول مسلمة متعددة، وهو ما تعكسه المستطيلات الثلاث العمودية في الجزء الأسفل من الصورة، التي تمثِّل هذه الدول، بينما يمثِّل المستطيل الأفقي المتقطع التواصل بين الجماهير عبر حدود هذه الدول من خلال الشبكات الرقمية المُمَكِّنَة للجماهير، وما يخلقه هذا التواصل من مساحة للفعل التواصلي، وما يتطلبه من نقل المعلومات وحشد الموارد الهوياتية والمشاعرية لتأطيرها والتنسيق حول أهداف هذا الفعل التواصلي. ويُلاحظ هنا أن عمليات التأطير وإعطاء المعنى للممارسات والأفعال محل الاحتجاج تحدث في إطار هذه الشبكات، وليس من قِبَل شبكات مناصرة الحقوق العالمية أو المنظمات غير الحكومية الليبرالية.

وتعكس المسارات على جانبي الشكل القنوات الناقلة للموارد غير المادية (المعلومات، والقيم، والأفكار) على يمين الشكل، والمادية (البضائع، ورؤوس الأموال، الأسلحة،…إلخ) على يساره، وتحمل هذه المسارات معها التفاعلات المعلوماتية والتأطيرية من جهة، وتفاعلات الضغط المادي الذي يأخذ شكل المقاطعة الاقتصادية الشعبية، من جهة أخرى. وذلك طبقًا لما اقتُرِح في المحاور السابقة. أخيرًا، تعكس الأسهم في منتصف الشكل التأثير المقابل للدولة المُستَهدَفة بالاحتجاج، والذي قد يأخذ بدوره مسار المعلومات والتأطير من خلال التأطير المقابل (الاتهام بالتطرف والعدائية،…إلخ) وإقناع/الضغط على كيانات الحوكمة الخاصة في منظومة المعلومات الليبرالية بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، والذي قد ينتج عنه حجب أو تقييد التواصل بين الجماهير أو/ومسار الضغط السياسي والاقتصادي على حكومات الدول المسلمة، والتي تقوم بدورها بأمننة الفعل التواصلي الاحتجاجي والمشاركة فيه. على الرغم من عدم إمكانية التخلص من الاختزال في أي محاولة للنمذجة، إلا أن هذا النموذج للفاعلية الإسلامية الجماهيرية في البيئة الدولية قد يمثِّل أرضية يتسم بمستوى من المرونة، يسمح بنطاق أوسع من الاحتمالات يتماشى مع تعقيد البيئة الدولية وفي نفس الوقت يسمح لنا بتتبع علاقات سببية وتكوينية، تعزز من فهمنا لهذه الفاعلية وسياقاتها.

خلاصة

في الوقت الذي أسهمت دراسات تحليل الشبكات الاجتماعية في فهم الحركات الاحتجاجية الرقمية، تقدِّم دراسات العلاقات الدولية هذا الشكل من النشاطية الرقمية باعتباره جزءًا من بنية دولية شبكية أوسع، تتحدد مساراتها وخياراتها وممكناتها وفقًا للمراكز المحورية المتحكمة بها، وذاك جوهر النفع المرجو من هذه الدراسة، وهو فهم الأفعال الاحتجاجية الرقمية برؤية أوسع من مجرد جعلها فاعلية اجتماعية محدودة بنوع الشبكة ومؤثريها ومضامينها، رغم أهمية ذلك كله. ولذلك نأمل أن تقدم هذه الدراسة بُعدًا جديدًا يمكن لدراسات تحليل الشبكات الاجتماعية الاهتمام به، وهي تحاول أن تجد طريقها إلى الأكاديميا العربية في إطار العلوم الإنسانية والاجتماعية.

والجديد في هذه الدراسة أنها لم تركن إلى التنظير الأريكي البعيد عن الواقع، أو ذلك الذي يعتمد على بيانات ونظريات نشأت في سياقات بعيدة عن واقعنا العربي، بل استندت في محاولتها للتنظير للأفعال الاحتجاجية ذات الطابع الديني، إلى بيانات ميدانية جُمعت في دراسة سابقة، وإلى أهم ما كُتب في أدبيات العلاقات الدولية وتنظيراتها للأفعال الاحتجاجية. وأهم ما خرجت به، هو تطوير نموذج نظري للفاعليات الشبكية الممكِّنة للجماهير المسلمة، يمكن البناء عليه في دراسة الاحتجاجات الرقمية ذات الطابع الديني في السياقات العربية.

وتعتبر شبكات الاحتجاج ذات الطابع الديني شبكات عابرة للحدود المحلية، بسبب بنيتها الهوياتية المتجاوزة للانتماءات الوطنية الضيقة، وتمثيلها لأعداد أكبر من الفاعلين؛ وهذا يعطيها قوة إضافية من جهة تنوع مواردها غير المادية (المعلومات والمعتقدات والقيم)، وفاعلية الجماهير في التحفيز والعزم وتأثيرها غير المباشر على البيئة الدولية، بشرط حسن إدارة تلك الموارد، واطلاع كاف على بنية الشبكات الإقليمية وآليات التواصل اللغوي والمفاهيمي الجاذبة لتعاطف شبكات المناصرة العابرة للحدود.

غالبًا ما يُحجم الناشطون عن التواصل مع شبكات المناصرة العابرة للحدود، إما لعدم ثقتهم بها، أو لجهلهم بدورها في تبني المطالب الحقوقية وتأثيرها على الكيانات المعنية، أو لمعرفتهم بتحيزاتهم المسبقة، ويأسهم من جدواها، خاصة إذا قامت دولهم بوصمهم بالإرهاب أو الانتماء إلى جماعات دينية محظورة، إلا أننا نجد أن التواصل مع تلك الشبكات يكون مفيدًا في جميع الأحوال، فإن لم يحصل التعاطف والضغط المرجو فإنها تشكِّل حرجًا أخلاقيًّا لتلك الجهات وتضعها أمام مسؤولياتها في تبني القيم العليا التي تدافع عنها. وهذا يتطلب ذكاءً تواصليًّا من الناشطين، يستخدمون فيه خطابًا تفهمه تلك الجهات الدولية؛ ذلك أن كثيرًا من مطالباتهم، وإن كانت ذات طابع ديني، فإنها ليست بعيدة عن خطابات حقوق الإنسان، وحرية التعبير، واحترام الثقافات والأديان والمعتقدات، وحقوق الإنسان الأساسية.

وربما نحتاج إلى مزيد من الدراسات حول التجارب العملية في التواصل بين الجماهير المُمَكَّنَة شبكيًّا ذات المطالب الدينية، وشبكات المناصرة العابرة للحدود، والضغط عليها، تقدم رؤية أوضح لمآلات التواصل وفرص النجاح، فضلًا عن المزيد من الدراسات حول المسارات البديلة وبعيدة المدى المستندة على الفعل التواصلي للمبادرات التعليمية والمعرفية، التي ظهرت بفعل القيود المفروضة على الفعل التواصلي الإسلامي.

مراجع
1) جوهر الجموسي، “التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي: السياسات والأهداف”، مركز الجزيرة للدراسات، 2 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 29 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/2W5ZveE.

(2) أسماء ملكاوي، مشاري الرويح، يحيى السيد عمر، “حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على تويتر: دراسة في تحليل الشبكات الاجتماعية”، (مجلة لباب للدراسات الاستراتيجية والإعلامية، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 10، مايو/أيار 2021)، ص 11-57.

(3) تستخدم الدراسة مصطلح الفاعلية بمعنى القدرة على التأثير. هذه العمومية تخدم أهداف الدراسة الخاصة باستكشاف مكامن ومستويات مختلفة من القدرة على التأثير في البيئة الدولية. ولنقاشات أعمق حول مفهوم الفاعلية في العلاقات الدولية، انظر:

Alexander Wendt, Social Theory of International Politics (Cambridge University Press, 1999).

Colin Wight, Agents, Structures and International Relations: Politics as Ontology (Cambridge University Press, 2006).

(4) يحدث التفريق عادة بين الدولي (International) وبين العالمي (Global) في أدبيات العلاقات الدولية؛ حيث يشير وصف “العالمي” إلى مجال يتضمن فاعلين من غير الدول، بينما يقتصر “الدولي” على الدول، إلا أنه من الدارج أيضًا استخدام عبارة “البيئة الدولية” بشكل توسعي. في هذه الدراسة، تماشيًا مع ما هو دارج، ستُستخدم عبارة “البيئة الدولية” بهذا الشكل التوسعي الذي يتضمن الفاعلين من غير الدول أيضًا.

(5) W. Lance Bennett and Alexandra Segerbeg, The Logic of Connective Action: Digital Media and the Personalization of Contentious Politics (Cambridge University Press, 2013).

(6) يعتمد هذا التصنيف على ما قدَّمته كل من مارغريت كيك وكاثرين سيكنك في كتابهما: “نشطاء عبر الحدود: شبكات المناصرة في السياسة الدولية” إلا أن المعالجة في هذا البحث مختلفة كما سيتضح خلال المحاور القادمة.

(7) Asef Bayat, “The Coming of a Post-Islamist Society, Middle East Critique,” vol. 5, issue 9, (1996): 43-52.

(8) Margaret Keck and Kathryn Sikkink, Activists Beyond Borders: Advocacy Networks in International Politics (Cornell University Press, 1998), 9.

(9) Ibid,13.

(10) Colette Mazzucelli, “Humanitarian Technologies and Genocide Prevention: A Critical Inquiry,” Genocide Studies and Prevention: An International Journal, vol. 8, issue. 3, (2014): 87-99.

(11) Nick Anstead, Book Review of W. Lance Bennett and Alexandra Segerberg “The Logic of Connective Action: Digital Media and the Personalization of Contentious Politics,” Journal of Information Technology and Politics, vol. 11, issue 3, (2014): 345-347.

Sidney Tarrow “Critical Dialogue. The Logic of Connective Action: Digital Media and the Personalization of Contentious Politics,” Perspectives on Politics, vol. 12, issue 2, (2014): 468-470.

(12) Bennett and Segerbeg, The Logic of Connective Action, 2-5.

(13) Mancur Olson, The Logic of Collective Action: Public Goods and the Theory of Groups (Harvard University Press, 1965), 11.

(14) Ibid, 51.

(15) Juan Floreal Grana, “Too Small to Succeed? The Case of #NoAIVotoElectronico and the Limits of Connective Action,” (LSE, Media and Communications, 2017): 4.

(16) Bennett and Segerbeg, The Logic of Connective Action, 13.

(17) Ibid, 13.

(18) Ibid, 42-52.

(19) Bentley B. Allan, Scientific Cosmology and International Orders (Cambridge Studies in International Relations, 2018) 1.

(20) Ibid, 2.

(21) Thomas Oatley, “Toward a Political Economy of Complex Interdependence,” European Journal of International Relations, vol 25(4), (2019): 961.

(22) Ibid, 961.

(23) Ibid, 961.

(24) Melanie Mitchell, Complexity a Guided Tour (Oxford University Press, 2009), 13.

(25) Oatley, “Toward a Political Economy of Complex Interdependence,” 961.

(26) Mattias Leese, “Configuring Warfare: Automation, Control, Agency,” in Mattias Leese and Marijn Hoijtink, Technology and Agency in International Relations, )Routledge, 2019)5, 2.

(27) Peter J. Katzenstein and Seybert A. Lucia, “Uncertainty, Risk, Power and the Limits of International Relations Theory” In Protean Power, Exploring the Uncertain and Unexpected in World Politics, eds. Peter J. Katzenstein and Seybert A. Lucia (Cambridge University Press, 2017), 40.

(28) Colin Wight, Agents, Structures, and International Relations: Politics as Ontology (Cambridge University Press,2006), 129-137.

(29) Jepperson Ronald, et al., “Norms, Identity, and Culture in National Security” in Peter Katzenstein, The Culture of National Security: Norms and Identity in World Politics (Columbia University Press, 1996), 41.

(30) Emilie Hafner-Burton, et al., “Network Analysis for International Relations,” International Organization, vol. 63, issue 3, (July 2009): 560.

(31) Ibid , 562.

(32) Ibid, 570-573.

(33) Henry Farrell and Abraham Newman, “Weaponized Interdependence: How Global Economic Networks Shape State Coercion,” International Security, vol.44, no. 1, (Summer 2019): 45.

(34) Ibid , 45.

(35) Mattew Baum and Potter Philip, “The Relationship between Mass Media, Public Opinion, and Foreign Policy: Toward a Theoretical Synthesis,” Annual Review of Political Science, 11(1), (2008): 58.

(36) Henry Farrell and Abraham Newman, “The Janus Face of the Liberal International Information Order: When Global Institutions are Self-Undermining,” International Organization, vol, 75, issue 2, (2021): 4.

(37) Ibid, 8.

(38) Ibid, 18.

(39) David Snow and Robert Benford, “Ideology, Frame Resonance, and Participant Mobilization,” in International Social Movement Research. Vol. 1, from Structure to Action: Comparing Social Movement Research Across Cultures, eds. Bert Klandermans et al., (JAI Press, 1988) 198.

(40) ملكاوي، الرويح، السيد عمر، حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على تويتر، مرجع سابق.

(41) Monroe Freidman, Consumer Boycotts: Effecting Change Through Marketplace and Media, (Routledge, 2015), 13.

(42) Eamonn Butler, Public Choice-A Pimer, (London: The Institute of Economic Affairs, 2012), 25.

(43) Ibid , 11.

(44) “Resist The Blackmail: French Companies brace for Arab Boycott,” The Economic Times, October 26, 2020.

(45) Barry Buzan et al., Security: A New Framework for Analysis (Boulder, 1998), 25.

(46) Seth Dunacan and Lisa Barret, “Affect is a form of cognition A Neurobiological Analysis,” Cognition and Emotion, vol. 21, issue 6, (2007): 1192.

(47) James Fearon, “Rationalist Explanations for War,” International Organization, 49(3), (1995): 379-414.

(48) Joshua D. Kertzer, Resolve in International Politics (Princeton University Press, 2019), 8.

(49) هشام جعفر، “الشباب المصري وبدائل الإسلاميين”، منصة مدى مصر، 19 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 29 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3CVlkON.

(50) Brandon J. Kinne, “Defense Cooperation Agreements and the Emergence of a Global Security Networks,” International Organization 72, (2018): 800.

(51) Ibid, 800.

(52) John Ruggie, “International Regimes, Transactions, and Change: Embedded Liberalism in the Postwar Economic Order,” International Organization, vol.36, no.2, (Spring 1982):195-231.

(53) محمد فتوح، “من يملأ الفراغ؟: الكيانات الدينية والثقافية في مصر بعد الثورة”، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 29 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 29 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3mbOF1s.

(54) Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks (London: Lawrence and Wishart, 1971).

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى