تقرير يمضيه موظف في سفارة دولة في الخارج يقرر مصير علاقة شعبين اثنين. السفارات، كما يقول خبراء العلاقات الدولية، هي المكان الذي تُطبخ وتدار وتسيّر فيه السياسة الخارجية للدولة، لدرجة أن وزيرا في الحكومة قد لا يعرف أسرارا بالقدر الذي يعرفه موظفو السفارة.
صفوة خريجي الجامعة
بارع في كتابة التقارير، لدرجة أن استبدال أي كلمة من تقرير مطول يمكن كشفه، هو أيضا خبير في إخفاء نواياه، سواء أثناء الحديث أو في محرراته الرسمية، ينتقي كل كلمة أثناء الحديث، يطلب الإذن عند الرغبة في التعبير عن موقف معين، يسمح لخصومه بالحديث بكل أريحية، يتقن بشكل جيد لغة الجسد والتعبير بوسائل غير منطوقة عن مواقفه، أيضا لديه براعة تدرب عليها لإخفاء نواياه، حتى أنه قادر على إعطاء انطباع خاطئ حول موقفه، مستغلا كل وسائل التعبير من اللسان إلى العينين ولغة الجسد، هو أيضا مخادع، وخبير في اختلاف تعابير اللغات المختلفة، وبلا شك فإنه خبير قانون دولي، ويعرف تماما طريقة تحرير العقود والاتفاقيات الدولية ذات الطرفين أو متعددة الأطراف، وبما أنه بارع في الخداع فإن مخادعته أمر بالغ الصعوبة..
هذه بعض صفات الدبلوماسي التي لا يمكن إتقانها بالدراسة والتدريب فقط، بل تحتاج لموهبة معينة. يقول الدكتور يوسف شايب أستاذ العلاقات الدولية: “الدبلوماسي شخص ودود متفتح على كل الأفكار، لديه اطلاع على ثقافات دول عدة في العالم، ومن الواجب عليه أن يكون واسع الاطلاع على عادات وتقاليد الشعوب، بشكل خاص شعوب الدول التي يكلف بالعمل فيها”.
ويضيف الدكتور يوسف شايب في مقال منشور له بصحيفة “المدى” العراقية: “من واجبات الدبلوماسي أن يدرس بشكل دقيق كل شيء يتعلق بالدولة التي تقرر إرساله إليها، وفي أغلب الحالات يتم اختيار السفراء بناء على خبرتهم ومعرفتهم بالدولة التي تقرر تعيينهم كسفراء أو قناصلة فيها، ولهذا السبب تقسم وزارات الخارجية في دول العالم موظفيها إلى مجموعات، كل مجموعة منهم متخصصة في ثقافة معينة أو في منطقة معينة من العالم، شعوبها ثقافتها متجانسة”.
يتكونون في أعلى المدارس والمعاهد المتخصصة، يرتدون على الدوام ملابس أنيقة، يتقنون الحديث بعدة لغات، يتعاملون بذكاء بالغ مع وسائل الإعلام، لا يغضبون، ولا يُظهرون أي تأثر حتى في أسوأ الأزمات. هذه بعض صفات العاملين في السلك الدبلوماسي.. إنهم مجموعة من الرجال البارعين والموهوبين تحديدا في التفاوض وإدارة الاتصال.
في الولايات المتحدة الأمريكية يتم اختيارهم من صفوة خريجي الجامعات في تخصصات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وفي دول أوروبية، يلتحق أفضل خريجي الجامعات بالسلك الدبلوماسي وفق شروط مشددة. دول أخرى تفضل تكوين دبلوماسييها في مدارس تابعة مباشرة للدولة، كل هذا لأن كل حكومات العالم تعرف تماما أن الدبلوماسيين لهم دور لا يقل خطورة عن دور القوة المسلحة.
يقول زهواني حسين، خريج المدرسة الوطنية للإدارة تخصص دبلوماسية في عام 1979: “حتى طريقة ارتداء الملابس وطريقة وضع ربط العنق تخضع للمراقبة أثناء التكوين ويتم التنقيط عليها، تلقينا أيضا تكوينا في البروتوكول الذي تضمن كل شيء، بما في ذلك طريقة تناول الطعام والجلوس”، ويضيف المتحدث: “تعلمنا الكثير في تلك الفترة، ومن بين الذين درست معهم يوجد وزراء سابقون وسفراء كبار بعضهم ما يزال في الخدمة إلى اليوم”.
عبقري مخادع
يقول وزير الخارجية الألماني الشهير في الحرب العالمية الثانية فون ريبنتروب: “الدبلوماسية ليست مهنة الوطنيين المتحمسين، لأن أعصاب الدبلوماسي يجب أن تكون باردة إلى درجة التجمد”. هذه العبارة المتداولة كثيرا على لسان مختصين، تعني أن أي سفير أو عضو في بعثة دبلوماسية يجب عليه إخفاء انتمائه الوطني، أو على الأقل التعود على قبول بعض الأوضاع التي يراها أي شخص وطني متشدد غير مقبولة، لكن سفير دولة ليس من اختصاصه التعبير عن الانتماء الوطني دائما، لأن لديه مهمة أكبر وأهم، هي ضمان تنفيذ سياسات بلاده الخارجية بالطريقة الأكثر ملاءمة، وتحقيق أفضل النتائج بأقصر الطرق.
تقول قصة شهيرة: “إن أحد السياسيين أدى فريضة الحج، وأثناء رجم الشيطان رمى السياسي 5 جمرات بدلا من 7، وعندما سئل عن ذلك أجاب بالقول إنه لا يرغب في قطع كل الخطوط حتى مع الشيطان”. هذه القصة غير المستساغة تلخص بدقة طبيعة مهمة الرجل الدبلوماسي الذي يُفرض عليه العمل في دولة عدوة أو دولة على وشك الدخول في حرب مع دولته، ففي بعض الحالات وعندما يتقاتل جنود دولتين في ساحات المعارك، وتصل حالة العداء إلى مستوى شيطنة الشعب الآخر، يتبادل دبلوماسيو الدولتين أطراف الحديث في مفاوضات مباشرة لحل الأزمة ووقف القتال، الدبلوماسي مطالب بإخفاء مشاريعه الشخصية، والتركيز فقط على المهمة التي كلف بها.
القراءة الصحيحة للأحداث والوقائع
بينما تعيش أي دولة من دول العالم أزمة اقتصادية أو سياسية أو حتى حربا داخلية أو خارجية، يراقب سفراء الدول المعتمدون في هذه الدولة الوضع، ويحررون تقارير يومية وأحيانا ساعة بعد ساعة حول الوضع، ويرسلون هذه التقارير التي لا تستند فقط لما ينشر في الصحف المحلية، أو ما يتداول وسط الطبقة السياسية. فمن صميم عمل السفراء وأعوانهم مراقبة تطور الوضع الاقتصادي السياسي والأمني في الدولة المضيفة لهم، والأهم هو القراءة السليمة للأحداث، لأن حكومة السفيرة تحتاج لمعرفة الوضع من أجل تحديد موقفها بدقة من تطورات الوضع على الساحة الدولية، وزارة الخارجية المسؤولة أمام القيادة السياسية تحتاج من السفير وطاقمه قبل كل شيء، لتحليل ووجهة نظر مراقب قريب جدا من الأحداث، شخصا يعيش الأجواء الحقيقية ويتابعها من قريب.
يقول السفير والوزير السوفيتي السابق أندريه غروميكو: “الممارسة الدبلوماسية هي المهنة الأصعب والأعقد في العالم، الدبلوماسي هو الرجل المكلف بأداء مهمة والعيش في دولة غير صديقة، ومهما كانت قناعاته السياسية فإنه يجب أن يكون متفتحا على الأفكار ومجبرا على مناقشة الأفكار دون إبداء أي وجهة نظر صدامية”.
وفي مقال للدبلوماسي السوفيتي السابق، مترجم إلى العربية في مجلة الجيل اللبنانية، يقول: “بينما تكون مهمة السفير في دولة معينة، سيكون قادرا على التواصل مع سفراء دول أخرى صديقة وغير صديقة، وتكوين صورة كاملة حول طبيعة العلاقات السياسية والتحالفات، وحتى معرفة نوايا دول وحكومات خارج إطار موقع مهمته الدبلوماسية”، ويعني كاتب المقال أن سفير دولة ما في لندن أو واشنطن يمكنه من خلال التواصل مع سفراء دول أخرى تقديم تقارير بالغة الأهمية لحكومة بلاده حول طبيعة العلاقات الدولية، وكل هذا يلخص طبيعة مهمة السفير التي تتعدى مجرد تمثيل بلاده إلى التواصل مع وزارة خارجية الدولة المضيفة.
الدبلوماسية هي لعبة عالمية تجري في كل العواصم، وتحديدا عواصم الدول الكبرى، ويضيف غروميكو في مقاله المترجم في عام 1989: “الدبلوماسيون هم مفتاح حل الأزمات، لكنهم أيضا مسؤولون ضمنا عن وقوعها، فسياسة الدول الخارجية مبنية في 80% منها على أساس التقارير السرية التي ترسلها السفارات”. وتكشف وثائق الأرشيف التابعة لوزارات خارجية دول كبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة، والتي تتضمن مراسلات سفراء هذه الدول وتقييمهم للأزمات السياسية في العالم، في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، عن القراءة والتقييم الصحيح لسفراء الدول الكبرى في عواصم دول عاشت أزمات وحروبا.
جاسوس قانوني
رجال الدولة الدبلوماسيون لديهم مسؤوليات تتعدى مجرد الجلوس في مكاتب السفارات، أو تمثيل دولتهم في الخارج، إلى مهام شديدة الحساسية، فالدبلوماسي هو جاسوس قانوني كما يلقبه المختصون، إنه الشخص الوحيد المسموح له بممارسة التجسس قانونا، وهذا أمر تقره القوانين الدولية بما فيها اتفاقية فيينا، فالدبلوماسي مسموح له جمع المعلومات بكل الوسائل من داخل الدولة المضيفة ضمن قيود معينة، وهو أيضا محمي ليس فقط بالحصانة المقررة له بل أيضا بالحقيبة الدبلوماسية التي تتيح سرية الاتصالات.
لكن تجسس السفراء والدبلوماسيين له حدود معينة، ففي أكثر من مناسبة قررت دول طرد دبلوماسيين من أراضيها بشبهة ارتكاب مخالفات خطيرة، بعض هذه المخالفات يتعلق بممارسات تتعدى دور ومهام الدبلوماسيين، ففي بعض الحالات تتوصل تحقيقات أمنية إلى معلومات تؤكد ارتباط دبلوماسيين بمعارضين لنظام الحكم في الدولة أو تمويل حركات معارضة غير شرعية، أو الارتباط بعمليات استخبارية سرية خطيرة، بما في ذلك تنفيذ عمليات اغتيال أو علاقة مباشرة بين دبلوماسيين واغتيال لاجئين معارضين، وبما أن الدبلوماسي تتوفر له الحصانة وفقا للقانون الدولي، فإن الإجراء الأقصى المتاح أمام الدولة المضيفة هو طرد الدبلوماسي من أراضيها، وقد اتهمت العديد من الدول دبلوماسيين سابقين بالتجسس، وفي بعض الأحيان بالتورط في أعمال ذات طابع عدائي، مثل اغتيال معارضين أو محاولة اغتيالهم، أو التواصل مع قوى معارضة مسلحة تعتبرها الدول تهديدا مباشرا لأمنها الوطني.
أعراف دبلوماسية
بدأ موظفو سفارة اليابان في الولايات المتحدة الأمريكية يوم 7 ديسمبر 1941 في حرق كل وثائق السفارة، العملية كانت تتم في حديقة السفارة على مرأى ومسمع من السلطات الأمريكية، دون أن يتدخل أحد ضد أفراد البعثة، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد دخلت فعليا في حالة حرب مع اليابان. المشهد التاريخي المثير الموثق ضمن تاريخ الحرب العالمية الثانية هو أحد الأدلة على حصانة الدبلوماسيين حتى أثناء أسوأ الأزمات السياسية في العالم. وباستثناء حوادث قليلة جدا في تاريخ العالم الحديث، فإن سفراء الدول لديهم ما يشبه الحصانة المطلقة، لدرجة أن صاحب موقع “ويكيلكس” جوليان أسانج لجأ طيلة 7 سنوات داخل مقر سفارة الإكوادور في العاصمة البريطانية، من جوان 2012 حتى أفريل 2019، عندما وافقت السلطات الإكوادورية على اعتقاله من داخل السفارة، وحتى الدول التي لها سوابق سيئة في مجال عدم احترام القانون الدولي وخرق المعاهدات، تحترم القوانين والأعراف الدبلوماسية، لأن البعثات الدبلوماسية هي في حكم القانون الدولي جزء من إقليم الدولة لا يجوز المساس به بأي شكل من الأشكال.
أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران
كانت الوساطة الجزائرية للإفراج عن 52 أمريكيا محتجزا في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في طهران، بين عامي 1980 و1981، أحد أهم إنجازات الدبلوماسية الجزائرية في التاريخ، وإحدى أهم الوساطات الناجحة في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما ساهمت الدبلوماسية الجزائرية في تحرير 52 رهينة أمريكي ظلوا محتجزين داخل مبنى سفارة الولايات المتحدة في طهران طيلة 444 يوم من قبل مجموعة من الطلبة الإيرانيين، ويقول صحفيون وخبراء تابعوا القضية وكتبوا عنها إن الجمهورية الإسلامية في إيران بررت الفعل بأنه عمل ثوري قام به أشخاص لا يرتبطون بشكل مباشر بالحكومة الإيرانية، ورغم هذا فإن الحادثة سببت الكثير من الحرج للدولة الإيرانية، ويقول خبراء وكتاب إن إيران ما زالت تعاني من تبعات هذه الحادثة التي بررها الطلبة الذين اقتحموا السفارة الأمريكية في 04 نوفمبر 1979 بقبول واشنطن إيواء شاه إيران الذي ذهب إلى أمريكا من أجل العلاج، وفي الأشهر الأخيرة من الأزمة تحركت وزارة الخارجية الجزائرية التي كانت لديها علاقة متميزة مع الحكومة الإيرانية، بالتوسط وترتيب عملية تحرير الأمريكيين المحتجزين في إطار تسوية مع واشنطن، عرفت لاحقا باتفاقية الجزائر.
ما هي السفارة؟
السفارة هي مبنى، منشأة، أو مجموعة مباني تستغل من قبل بعثة موظفين تابعين لوزارة الخارجية في دولة أجنبية، تنطبق عليهم صفة البعثة الدبلوماسية، وتنص القوانين الدولية على أن السفارة الموجودة في أي دولة لا تطبق فيها قوانين الدولة المضيفة، بل قوانين الدولة صاحبة السفارة، ولا يجوز دخول أي شخص السفارة إلا بإذن من موظفيها، ولا يجوز أيضا تفتيش السفارة حتى في حالة وقوع جريمة داخلها إلا بإذن من الدولة صاحبة السفارة، كما أن المسكن الخاص للممثل الدبلوماسي لديه الحرمة والحماية اللتان تتمتع بهما مباني البعثة، بمن فيهم كبار موظفي السفارة المصنفين. السفارة في أي دولة ليست مجرد مبنى أو مجموعة مبانٍ موجودة في عاصمة الدولة، بل قد تمتد إلى مدن كبيرة أخرى وتسمى بعثة قنصلية، ولديها نفس حرمة السفارة، وتنص اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقعة في عام 1961 على أنه يجوز للسفارة أو القنصلية رفع علم الدولة وحمل شعارها الرسمي، بما في ذلك صور رئيس الدولة أو رئيس وزرائها أو الملك.
موظفو السفارات والقنصليات
حددت القوانين الدبلوماسية وبعض الأعراف الدبلوماسية أنواع موظفي الوزارات وطبيعة مهامهم، وينقسم السفراء الذين يطلق عليهم أيضا رؤساء البعثات الدبلوماسية إلى: السفراء ورؤساء البعثات لدى المنظمات الدولية المختلفة، الذين تنطبق عليهم صفة السفير، ثم فئة المبعوثين والمفوضين المكلفين بمهام مؤقتة محدودة من حيث الزمن، ويدخل في هذا الإطار موظفو الأمم المتحدة المكلفون بمتابعة ملفات أو بحث نزاعات، وبعض كبار موظفي الخارجية في أي دولة من الذين يتم تكليفهم بمهام تتعلق بوساطة أو مهام إنسانية أو متابعة مسألة تتعلق بمعاهدة ثنائية بين دولتين، وأخيرا القائمون بالأعمال الذين لديهم نفس حصانة السفير لكنهم بدرجة أقل، وفي العادة هذه الفئة أيضا لديها مهمة مؤقتة تقع في الغالب بعد استقالة أو مغادرة أو وفاة سفير.
تضم سفارات بعض الدول عشرات الموظفين، يحمل بعضهم الصفة الدبلوماسية الرسمية، والبعض الآخر لديهم مهام محددة، ويخدم في السفارات والقنصليات، وتصنف قوانين وزارات خارجية أغلب الدول في العالم موظفي السفارات ضمن الترتيبات التالية:
رئيس البعثة الدبلوماسية le chef de mission
السفير في العادة المعين هو حلقة الاتصال الأولى المباشرة بين حكومة بلاده والدولة المضيفة، يترأس البعثة الدبلوماسية لدولته في دولة أخرى بعد موافقة الدولة المستقبِلة، ويكون مسؤولا أمام حكومته وحكومة الدولة المعتمدة لديها عن كافة الأمور والتصرفات المتعلقة بالبعثة، ومنها كل المكاتب الفنية الملحقة بها، وإدارة شؤون البعثة التي يرأسها.
ويعاون السفيرَ الموظفون الدبلوماسيون الذين يتمتعون بحصانة دبلوماسية، ويشترط من أجل هذا تسجيلهم ضمن قائمة الموظفين أو أفراد البعثة الدبلوماسية، فالقوانين الدولية تنص على أن عدد الموظفين في أي سفارة يتم تحديده وفقا لاتفاق بين الدولتين المعنيتين، ولا يعترف بأي شخص خارج قائمة الموظفين. وينقسم الموظفون الدبلوماسيون إلى فئات هي المستشارون أو المساعدون، وهم موظفون دبلوماسيون يقومون بمسائل التسيير اليومي الخاص بالسفارة، وبعدهم يأتي موظفو الأمانة أو السكرتارية الدبلوماسية العامة للسفارة، وهو موظف في السلك الدبلوماسي.
الملاحق
تكشف أغلب قصص الأزمات الدبلوماسية أن فئة معينة من موظفي السفارات هي المتسبب رقم واحد في الأزمات الدبلوماسية الكبيرة في العالم، بل إن بعض التصنيفات تقول إن السفارات كلها مبنية حول شخص واحد هو المدبر الفعلي لأنشطة السفارة، ويتعلق الأمر بالملحق العسكري وطاقم مساعديه.. أزمات دبلوماسية عدة وقعت بين دول كبرى تسبب فيها الملحقون العسكريون، أو على الأقل اتهموا بالتسبب فيها، ويعود هذا لأن أغلب الملحقين العسكريين في السفارات يكونون من ضباط المخابرات، أو ضباطا عسكريين من الجيش لديهم مهمة استخبارية مباشرة.
يقوم الملحق العسكري رسميا بتسهيل التواصل بين وزارة الدفاع في بلاده ووزارة الدفاع بالدولة المضيفة، ويحضر الحفلات والاستقبالات الرسمية، وفي بعض الأحيان تتم دعوته لحضور عروض أو مناورات عسكرية، لكنه في الحقيقة مكلف رسميا بنقل أخبار الجيش والقوات المسلحة في الدولة المستهدَفة. في بعض الأحيان يساهم موظفو الملحقية العسكرية في عملية استخبارية، وأنشطة تجسس مباشر، وفي أغلب حوادث طرد وإبعاد الدبلوماسيين في العالم استُهدفت فئة الملحقين العسكريين بقرارات الطرد. وينتمي الملحق العسكري إلى فئة الملحقين الدبلوماسيين، وهي فئة تصنفها بعض الدول في المرتبة الثالثة ضمن تصنيف كبار مسؤولي البعثات الدبلوماسية، مع الملحق الاقتصادي والتجاري والملحق الثقافي والملحق الصحفي، ويتخصص الملحق الثقافي مثلا برعاية الأنشطة الثقافية للدولة في الدولة المضيفة، بينما يقوم الملحق الاقتصادي، الذي يصنف في مرتبة بالغة الأهمية بالنسبة للكثير من الدول، بتسهيل نشاط شركات بلاده في الدولة المضيفة ومتابعة أنشطتها، وإعداد تقارير حول النشاط الاقتصادي والتجاري للدولة المضيفة.
الحقيبة الدبلوماسية
يوجد ضمن التنظيم الداخلي للسفارات في العالم موظفون آخرون، أبرزهم من يسمى حامل الحقيبة الدبلوماسية، وهي وظيفة بالغة الحساسية، لأن حامل الحقيبة الدبلوماسية هو المسؤول رسميا عن سرية وخصوصية المراسلات البريدية والطرود التي تتلقاها وترسلها سفارته إلى بلاده.
الحقيبة الدبلوماسية هي الاصطلاح الذي يطلق على كل أنواع الطرود والمراسلات التي ترسلها وتتلقاها السفارة، والتي لا يجوز بالمطلق تفتيشها في المطارات والموانئ، وقد تم تفصيل الأمر في اتفاقية فيينا عام 1961 حول طبيعة الطرود والمراسلات الدبلوماسية التي يطلق عليها اسم الحقيبة الدبلوماسية، والتي تكون دائما مرفقة بوثيقة خاصة تؤكد طبيعتها، كما يجب أن تكون مختومة ومغلقة بطريقة تسمح بالتأكد من عدم فتحها أو المساس بها طيلة فترة التنقل.
وقد اعتمدت الحقيبة الدبلوماسية في أغلب الدول لنقل وتبادل المراسلات ذات الطبيعة السرية جدا، والأموال في بعض الأحيان، وبعض التجهيزات التقنية المتطورة، وفي أغلب الحالات يكون حامل الحقيبة الدبلوماسية عنصر مخابرات، أو شخصا حصل على تدريب أمني متخصص يسمح له بمباشرة مهامه.
المراسلات
الرسائل الدبلوماسية هي مراسلات خاصة، تحمل في كل الحالات كلمة أو كلمتين تدل على مستوى سرية المراسلة، في رأس الرسالة أو التقرير تأتي الملاحظة بالغة الأهمية التي تدل على درجة أهمية وسرية التقرير، قائمة الملاحظات هي: سري، سري للغاية، سري وخاص، سري عاجل، للاطلاع أو أحيانا لمن يهمه الأمر، وأخيرا الرجاء التخلص من الوثيقة فورا.. هذه العبارة التي توضع في شكل ختم تدل على قيمة الوثيقة المرسلة، وأهميتها، وتفسر على الشكل التالي:
سري: تدل على أن المراسلة على درجة سرية متوسطة، وهي موجهة من السفير أو أحد ملحقي السفارة إلى وزارة الخارجية.
سري للغاية: تدل على أنها أيضا موجهة من مسؤول رفيع في السفارة إلى وزارة الخارجية دائما، لكنها سرية جدا ولا يجوز أن يطلع عليها إلا الشخص الذي وجهت إليه حصريا.
سري وخاص: تعني في عرف المراسلات الدبلوماسية أن الرسالة موجهة من السفير شخصيا إلى وزير الخارجية شخصيا وحصريا.
للاطلاع أو لمن يهمه الأمر: فهي رسالة عادية يمكن لموظفين في الخارجية الاطلاع عليها ثم تصنيفها ضمن مصنفات الوزارة الخاصة.
الرجاء التخلص من الرسالة: هي عبارة تكون موجهة من السفير أو من أحد كبار موظفي السفارة إلى موظف آخر في ذات السفارة في قنصلية موجودة في إحدى المدن أو إلى أحد الملحقين، وتعني أن الرسالة سرية جدا ولا بد من التخلص منها فورا.
التقارير الدبلوماسية
تنقسم المراسلات الدبلوماسية إلى أنواع، فمنها البرقيات الدبلوماسية، والمراسلات والتقارير. يقول الدكتور عبد اللطيف سليم محمد، أستاذ العلوم السياسية من مصر، في مقال له منشور في صحيفة الديار اللبنانية: “البرقيات الدبلوماسية هي المراسلات التي توجهها وزارة الخارجية إلى السفارات أو العكس، ولا يعني برقية أن الأمر يتعلق بمراسلة عاجلة، بل يعني طريقة إرسالها، فهي ترسل بجهاز الاتصال اللاسلكي الخاص بالسفارة، وهذا طبعا باستعمال الشيفرة السرية، أو عبر الإنترنت المؤّمن، وتأتي في بعض الأحيان قصيرة أو مطولة، وتتضمن معلومات جديدة ومهمة تتعلق مثلا بتطورات الوضع السياسي داخل الدولة المضيفة، أو بتطورات أزمة اقتصادية أو أزمة خارجية أو حتى حرب أهلية داخلية. وتساهم البرقيات الدبلوماسية في صناعة توجهات السياسة الخارجية للدولة، لأنها تعطي لصانع القرار معلومات بالغة الأهمية حول الوضع في دول العالم، ولهذا السبب اكتسبت تسريبات ويكيليكس كل هذا الزخم والتأثير”.
وتُكتب البرقيات الدبلوماسية التي تُرسل مشفرة أو عبر البريد الإلكتروني المؤّمن باتباع بروتوكول معين معروف عالميا مع اختلافات طفيفة، وتجتهد كل أجهزة المخابرات في العالم لمحاولة اختراق منظومة إرسال البرقيات الدبلوماسية لكشف طبيعة نشاطات السفارات، وأدوارها المتعلقة بمجال جمع المعلومات، وبينما يعتقد الكثيرون أن أجهزة مكافحة التجسس تنشط فقط في مجال البحث عن جواسيس يعملون لصالح دول أجنبية، فإن الحقيقة أن 50% على الأقل من نشاط هذه المصالح الأمنية يدور حول مراقبة ومتابعة نشاط السفارات وملحقيها.
رئيس الجمهورية “أعمى”
أحد أكثر التعليقات إثارة للانتباه في موضوع أدوار السفارات أو الجهاز الدبلوماسي، ذلك الذي جاء على لسان وزير الخارجية الروسي الشهير أندريه غروميكو في مقال منشور بمجلة الجيل اللبنانية عام 1989، عندما قال “إن صانع القرار في أي دولة في العالم، سيكون أعمى إذا حُرم من المعلومات التي توفرها له سفارات بلاده في الخارج”، لأن منظومة صنع القرار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للدولة مبنية على أساسين اثنين: الأول هو تقارير المخابرات، والثاني هو المعلومات التي توفرها السفارات في الخارج. وتتضخم أهمية هذا في أثناء الأزمات السياسية أو الحروب، وحتى الأزمات الاقتصادية الكبيرة، لأنها تعطي مؤشرات قوية حول توجه السياسات الداخلية والخارجية للدول عبر العالم، وتنقل المعلومات التي توفرها السفارات الخارجية إلى رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء في الدول ذات النظام البرلماني بعد تلخيصها في وزارة الخارجية.
وتنقسم المراسلات الدبلوماسية إلى برقيات وتقارير شهرية، وأحيانا تقارير خاصة وسرية جدا، وبينما ترسل التقارير اليومية في شكل برقيات، توجه تقارير السفارات الخارجية إلى الوزارة المسؤولة عادة في شكل تقارير مكتوبة تُنقل عبر ما يسمى الحقيبة الدبلوماسية، وتلخص التقارير الشهرية الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في الدولة المضيفة، وتكتب وفقا لبروتوكول معين يختلف بشكل طفيف بين دولة وأخرى.
يقول الدكتور عبد اللطيف سليم محمد في مقال له منشور في صحيفة الديار اللبنانية: “تنقسم التقارير الدبلوماسية إلى صنفين اثنين: تقارير شهرية، وتقارير عاجلة، وهي مراسلات تتم بناء على طلب عاجل من وزارة الخارجية، فمثلا في أثناء حرب الخليج الأولى في عام 1991، طلبت الخارجية الأمريكية من سفاراتها في الدول الإسلامية والعربية تقارير مفصلة حول مستوى التهديد الذي قد تتعرض له المصالح الأمريكية في الدول الإسلامية والعربية، وبناء على هذه التقارير تم تأمين السفارات والمصالح الأمريكية في سفارات الولايات المتحدة في دول مسلمة أو عربية، وبناء على ذات التقارير تنصح الخارجية الأمريكية رعايا الولايات المتحدة مثلا بعدم التنقل إلى دول معينة”، ويضيف الكاتب “وتختلف اهتمامات الدول، فمثلا تركز دول غربية بشكل كبير على مستوى التهديدات الأمنية التي قد يتعرض لها رعاياها، بشكل خاص مع تناهي التهديدات الأمنية، بينما تركز بعض الدول مثلا على الوضع الاقتصادي، وأحيانا حتى على متابعة وضعية بعض الأقليات، وفي حالات نادرة على وضعية حقوق الإنسان أو الحريات الفردية والجماعية”.
لسانان تحت السيطرة
ضمن مجموعة الدروس التي يتلقاها طالب الدبلوماسية قبل تخرجه، محاضرات تتعلق بالسيطرة على اللسانين، القلم واللسان، وقبل السيطرة عليهما لا بد من التحكم في أمور أخرى بالغة الأهمية، تصل إلى حد كبت المشاعر الشخصية والتعبير المتحكم فيه في لغة الجسد. وأحد هذه الدروس عنوانه: اللغة هي رأسمال الدبلوماسي، فالعامل في هذا السلك ليس مجبرا فقط على إتقان عدة لغات كتابة وتحدثا، بل معرفة أدق تفاصيل التعابير والكلمات باللغات التي يتم بها تبادل النقاشات والرسائل، فكل كلمة يتفوه بها الدبلوماسي في مباحثات مع نظرائه يجب أن تعبر بدقة شديدة عن موقف دولته، ويجب أن توصل الرسالة المطلوب تبليغها. ففي اللغة الإنجليزية كما يقول سفراء توجد أفضل العبارات التي يمكن بها إيصال الرسائل بدقة شديدة، وهذا قد يفسر أسباب تدهور العلاقات العربية العربية، لأن كل كلمة في لغة الضاد لها عدة تفسيرات، بل إن كلمة واحدة في لهجة لبنان مثلا قد تكون مسيئة، وقد تكون مقبولة في لهجة الكويت.
ويقول السفير محمد حشي، مساعد وزير الخارجية المصري للمراسم، في مقال منشور على صحيفة الأهرام المصرية تحت عنوان “قواعد كتابة المراسلات الدبلوماسية”: “أولى قواعد كتابة المحررات الدبلوماسية، خصوصاً الخارجية منها، اللغة الدبلوماسية التي أصبح لها مفردات تتسم بالعذوبة والمجاملة والحرص على شعور الغير واحترام كرامته”، ويضيف “اللغة يجب أن تكون مفهومة، والمفردات لها نفس المعنى في مختلف الثقافات.. ورغم ذلك، فهناك تعبيرات دبلوماسية أصبح متعارفا على مدلولها على الرغم من أنها قد لا تفهم كذلك من قبل الأفراد العاديين خارج السياق الدبلوماسي، وذلك بسبب التلطيف الشكلي الذي تفرضه اللغة الدبلوماسية.. فعبارة مثل: “إن حكومة مصر، مثلا، ترى أنها قد تكون مضطرة لإعادة النظر في موقفها.. هذه العبارة التي تبدو وكأنها عتاب رقيق تعد بمثابة تهديد، وقد تعني في العرف الدبلوماسي أن موقفا ما أو اتفاقية ما قد تُلغى إذا لم يتم تدارك الأمر”، ويضيف “وبالمثل فإن عبارة: إن حكومة مصر ترى أن ما قامت به حكومتكم هو عمل غير ودي، هذه العبارة البسيطة قد تعني أن طرفا يرى تصرف الطرف الآخر يقترب من العمل العدائي أو عمل من أعمال الحرب، ويستلزم ردا على المستوى نفسه. كما يجب أن تتسم الرسالة باكتمال البيانات وتدقيق الحقائق والأسماء والألقاب، وعدم المبالغة في البلاغة اللفظية، وأن يتم تبويبها إذا كانت طويلة”.
من تهديدات لفظية إلى قطع العلاقات
كيف تتعامل الدول مع الأزمات الدبلوماسية؟
تنقسم الأزمات الدبلوماسية بين الدول إلى أنواع:
النوع الأول: الأزمات العابرة والمؤقتة، تقع بين بلدين حليفين أو صديقين، مثل الأزمة الأخيرة بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ومع بريطانيا، فالدول الثلاث مرتبطة بمجموعة من الاتفاقيات في مجالات الأمن والسياسة والدفاع والاقتصاد والثقافة، ورغم هذا وقعت الأزمة، ويتوقف مثل هذه الأزمات عند حدود معينة.
النوع الثاني من الأزمة هو الذي يقع بين بلدين مرتبطين بعلاقات دبلوماسية واقتصادية، وحتى نوع من أنواع التحالف، لكن الأزمة وقعت وأدت إلى تعقيدات، مثل الأزمة الخليجية بين قطر والسعودية والإمارات والبحرين، وهذه تقع في العادة بسبب تضارب المصالح، أو تطورات جديدة أدت إلى تعقيد العلاقة بين الدول، ولم يتم حلها بوسائل تسوية النزاعات.
النوع الثالث هو الأزمات التي تقع بين دول لديها علاقات عادية.
ودائما يمكن تفسير الأزمة بالعبارة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني التاريخي وينستون تشرشل “لا توجد صداقة دائمة أو عداوة دائمة، بل فقط المصالح”.. فالمصالح تفرض نفسها دائما وتؤدي إلى وقوع الأزمات، سواء أكانت مصالح اقتصادية أو أمنية أو ما يتعلق بحقوق أقليات، وفي بعض الأحيان تكون الأزمة عبارة عن سوء تفاهم وقع بسبب رعاية دولة لمعارضين من دولة ثانية، سواء بالإيواء أو التمويل أو الاتصال. وتتشارك أزمات العلاقات الدولية في صفة واحدة هي الدور الكبير الذي يلعبه الدبلوماسيون، فهذه الفئة من موظفي الدول تتحمل العبء الأكبر في إدارة وتسيير هذه الأزمات، إما بتوجيهها إلى الحل أو بزيادة تعقيدها، وفي العادة تبدأ الأزمة في صمت دون ضجيج، وتتحول إلى حدث تغطيه وسائل الإعلام.
مبدأ المعاملة بالمثل
يعني مبدأ المعاملة بالمثل أن الدولة التي اتُّخذ بحقها إجراء قانوني أو إداري، سواء تم الإجراء إزاء شركة تابعة للدولة أو أحد مواطنيها، يمكنها الرد بإجراء مساوٍ للأول في طبيعته وفي تأثيره.
ينطلق مبدأ المعاملة بالمثل في السياسة الدولية من أساسين اثنين: الأول هو المساواة بين دول العالم باعتبارها أعضاء في المجتمع الدولي، والأساس الثاني هو السيادة التي تمارسها الدول المستقلة في رسم سياساتها الداخلية والخارجية.
يقول خبراء القانون الدولي إن مبدأ المعاملة بالمثل هو أحد ركائز العلاقات الدولية، فالدولة التي تتعرض لاعتداء من حقها الرد ضمن ما يسمى الدفاع عن النفس. ويقول الدكتور حسين منذر، خبير القانون الدولي، في تعريف المبدأ ضمن مقال حول حق الدفاع الشرعي في القانون الدولي منشور بصحيفة الأهرام المصرية: نرى ونلمس تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل في مجالين اثنين من مجالات العلاقات الدولية على نطاق واسع، هما المعاملات القضائية والقانونية بين الدول، والمعاملات التجارية والاقتصادية، وفي العلاقات الدبلوماسية، بينما ينحصر تطبيق المعاملة بالمثل في العلاقات السياسية، بسبب اختلاف موازين القوة، يمارس مبدأ المعاملة بالمثل، كما يقول خبراء القانون الدولي، بصفة مباشرة وآنية وإلا يفقد قيمته، ومن هنا تبرز أهمية العبارة التي تتكرر كثيرا في البيانات الرسمية للدول، وهي: تحتفظ الدولة بحقها في الرد.
ويقول خبراء القانون الدولي إن هناك فرقا بين الثأر والانتقام والمعاملة بالمثل في العلاقات الدولية، لأن المساس بحقوق الإنسان أو المساس بالمدنيين اعتمادا على مبدأ المعاملة بالمثل لا يحصل على الشرعية.
تقليل التمثيل الدبلوماسي
تقليل التمثيل الدبلوماسي هو أحد إجراءات الاحتجاج السياسي الذي تمارسه الدول، ويتمثل في خفض درجة التمثيل الدبلوماسي، من سفارة وسفير إلى ممثلية أو قائم بأعمال السفير، في الدولة المضيفة، ويعني أيضا أن علاقة الدولتين تراجعت إلى مستوى رعاية أعمال الدولة لدى مثيلتها، ويترتب على هذا توقف التنسيق الدبلوماسي في المسائل ذات المصلحة المشتركة، وبعني أيضا، طبقا لما يقوله خبراء القانون الدولي، اقتصار الاتصالات الرسمية على تبادل المراسلات الدبلوماسية بين وزارة الخارجية والقائم بالأعمال. في حوادث تاريخية، قام القائمون بالأعمال برعاية مصالح دولهم ضمن الحد الأدنى من الخدمة، وتلجأ بعض الدول إلى إجراء خفض التمثيل الدبلوماسي بسبب وجود مصالح اقتصادية ورحلات سياحية متبادلة لا يمكن القفز فوقها.
أصدقاء أعداء!
تتوقف في الصباح سيارة سوداء تحمل لوحة ترقيم دبلوماسية قرب مبنى وزارة الخارجية، ينزل منها رجل يحمل حقيبة جلدية غالية، ويرتدي بدلة سوداء أنيقة، ويتجه بعد محادثة قصيرة مع أحد الأعوان الإداريين في الخارجية إلى طابق يقع في أعلى المبنى، حيث يوجد مكتب وزير الخارجية، يلتقي الوزير بالسفير أو المكلف بأعمال السفارة، ويدور حديث قصير بين الرجلين، قبل أسابيع قليلة التقى الوزير بالسفير في حفل استقبال على شرف أحد الدبلوماسيين الأجانب، وفي هذا الحفل التقطت عدسات التصوير صورا للوزير مع السفير، صور تعبر عن عمق العلاقة بين البلدين، وعمق العلاقة الشخصية، لأن الوزير سبق له العمل في منصب رئيس بعثة دبلوماسية لبلاده في إحدى الدول، وارتبط بعلاقة صداقة قوية مع السفير، وبينما يفترض أن الرجلين في هذه المرحلة أصدقاء، تختفي الحفاوة في أثناء استقبال الوزير للسفير، لأن طبيعة المهمة تفرض على الوزير إبداء غضب حكومة بلاده من تصرف حكومة السفير، الحديث القصير بين الرجلين ينتهي في العادة بعبارة محددة هي: “سأبلغ احتجاج بلادكم لحكومة دولتنا، انتظروا الرد”.
في بعض اللقاءات السرية بين الوزراء والسفراء، لا يجور أي حديث، مجرد تبادل عبارات تحية بروتوكولية، يتم بعدها تسليم مذكرة رسمية من وزارة الخارجية، تتضمن تحذيرا أو إنذارا أو طلبا عاجلا، هذه هي بدايات الأزمة التي تتفاقم لكي تصل إلى حد القطيعة بين دولتين، في العادة تبدأ المراسلات الرسمية بين حكومتين في الظل بعيدا عن الإعلام، لكن بعض الدول التي ترغب في إعطاء مصداقية أكبر لمطالبها، أو للتأكيد على أن الأزمة الحالية مختلفة تماما، تلجأ إلى الإعلان رسميا عن الاحتجاج الذي تم إبلاغه لسفير الدولة الثانية، وهنا تكون الأزمة مثل كرة الثلج التي تتضخم مع تواصل انحدارها، لأن الأمر الطبيعي هنا هو أن الحكومة الثانية لن تقبل إطلاقا تنفيذ مطالب الدولة التي كانت قبل أسابيع قليلة دولة صديقة.
أحد أبرز الأمثلة في هذا المجال ما وقع قبيل اجتياح العراق للكويت في عام 1990، عندما تواصلت الحكومة العراقية، قبل فترة طويلة من بدايات الأزمة، مع سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد، واستطلعت موقفها من احتمالية تصاعد أي أزمة بين العراق والكويت، وتشير أغلب الدراسات حول الأزمة التي وقعت عام 1990 إلى أن الحكومة العراقية إما أساءت تقدير طبيعة الموقف الأمريكي، أو وقعت في خديعة كبرى تم استدراجها إليها، وعلى الأغلب فإن الحكومة العراقية تواصلت بطريقة أو بأخرى مع دول عربية ودول كبرى في هذا الموضوع، قبل اتخاذ قرار الغزو الذي سبقته أزمة كبرى في صيف عام 1990.
48 ساعة
إنها عبارة شهيرة تُستعمل للدلالة على أن العلاقة بين دولتين بلغت إلى مستوى معين من التصعيد، يقال للسفير: “أنت شخص غير مرغوب فيك”، وتعني أن على السفير أو عضو البعثة الدبلوماسية مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة.
يقول شملول يسين، طالب دكتوراه وباحث في العلاقات الدولية: “طرد الدبلوماسيين هو إجراء تلجأ إليه بعض الدول في واحدة من 4 حالات: إما بسبب التوصل لمعلومات تتعلق بسيرة عدائية لهذه الشخصية قبل قبول تعيينها في المنصب، مثل حالة رئيس النمسا والأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كورت فالدهايم، عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية اعتباره شخصا غير مرغوب فيه. وجود أدلة على أن الدبلوماسي المعني تورط بشكل مباشر في عمل تعتبره الحكومة المضيفة عملا عدائيا، مثل زيارة منطقة محظورة أو الإدلاء بتصريح غير دبلوماسي، أو بسبب أن دولة الدبلوماسي المعني طردت دبلوماسيين في إطار ما يسمى المعاملة بالمثل، أو بسبب الاحتجاج على قرار أو عمل لدولته”، ويضيف المتحدث “بما أن تعيين الدبلوماسيين في أي دولة يتم طبقا لمعاهدة فيينا بموافقة الدولة المضيفة، فإن قرار اعتبار السفير أو أحد موظفي البعثة شخصا غير مرغوب فيه يعني ببساطة سحب اعتراف الدولة المضيفة بكون هذا الشخص تنطبق عليه الصفة الدبلوماسية فوق أراضيها ضمن أجل معين هو 48 ساعة، يمكن تمديدها للضرورة القصوى”.
شكل آخر من الاحتجاج الذي تمارسه بعض الدول للضغط هو استدعاء السفير، وتعبير “استدعاء السفير” لا يعني بالضرورة أن الأمر يتعلق بأزمة، ففي الكثير من الأحيان تقرر دول إجراء حركة في سلكها الدبلوماسي تقرر بموجبها إنهاء مهام سفير أو سفراء، وفي أحيان أخرى يتم استدعاء السفير لتعيينه في منصب أعلى، ولكن استدعاء السفير للتشاور يعني أن حكومة بلاده قررت إرسال رسالة احتجاج قوية، تعني أن هذه الحكومة قررت مراجعة العلاقة بالكامل مع الدولة المستهدفة بالقرار.
يقول الكاتب جسور عدنان في كتاب “تفسير الالتباس في العلاقات الدولية في فصل الأزمات الدولية الوهمية”: “في أغلب الأحيان تقرر الدول استدعاء سفيرها للتشاور للتعاطي مع أزمة وقعت مع دولة صديقة أو دولة لديها معها ارتباط لا يمكن بالمطلق القفز فوقه، علاقة اقتصادية ضخمة، أو ارتباط جغرافي، وهي ترغب في إيصال الرسالة التالية: لدينا مصالح مشتركة قوية فالرجاء عدم العبث بالعلاقة، أو الرسالة القوية التالية: هذا إنذار أول، يجب أن تنتبهوا إلى خطورة الإجراءات التي اتُّخذت. وهذا حدث أكثر من مرة أثناء أزمات دولية، الإجراء الخاص باستدعاء السفير ينتهي في أغلب الأحيان بتوقف الأزمة بعد فترة بتسوية معينة.
مراقبة “المشاغبين”
يتلقى مسؤول أمني رفيع في جهاز المخابرات تقريرا يتضمن كل ما يتعلق بمراقبة نشاط سفارة دولة أجنبية، التقرير يشير إلى تحركات مشبوهة لعضوين من أعضاء البعثة الدبلوماسية في الدولة، ويخصص أوراقا عدة لنشاطاتهم واجتماعاتهم ولقاءاتهم، ويتلقى المكلفون بمتابعة وضعية البعثات الدبلوماسية في البلاد تعليمات بمتابعة المراقبة وتشديدها على الموظفين اللذين أشار إليهما التقرير، أسابيع بعد تشديد الرقابة يصدر قرار بطرد الدبلوماسيين، بناء على معلومات حول تورطهما في عملية كبيرة كانت تستهدف التجسس على مشروع تقني عالي السرية في البلاد.. هذه حالات وقعت بالفعل في مسار العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وبين أمريكا وروسيا، وفي كل سفارة يوجد من يسمى “المشاغبين”، الذين تثير تحركاتهم قلق الأجهزة الأمنية، سواء بسبب عدم الالتزام الحرفي بالتعليمات الأمنية الخاصة بحدود تحرك الدبلوماسيين، والقوانين المنظمة للنشاط، ويشمل طرد الدبلوماسيين في 90% من الحالات “عناصر المخابرات” الموجودين في السفارات، هذه الحقيقة تكشف عنها أغلب الحوادث التي شهدها العالم في العقود الماضية، المشاغبون في السفارات ليسوا أشخاصا أساءت حكومتهم اختيارهم، لكنهم موظفون ملحقون من المخابرات مكلفون بمهام محددة، وفي بعض الأحيان تصطدم مهامهم هذه بضوابط تضعها الدولة المضيفة.. “المشاغبون”، كما يسميهم خبراء العلاقات الدبلوماسية هم “كبش الفداء” الذي يضطر لتسديد ثمن المهام الصعبة التي تلقيها الدولة على عاتق البعثات الدبلوماسية.
جنرال في الجيش وعامل شيفرة
لا يعرف قائد عسكري كبير في الجيش نفس قدر المعلومات التي يطلع عليها عامل شيفرة يعمل في إحدى سفارات الدولة في الخارج، عامل الشيفرة المكلف بتشفير المراسلات، وفي بعض الأحيان يكون مجرد ضابط صغير، يعرف بدقة توجهات السياسة الخارجية لدولته، بل وطبيعة القرارات التي قد تُتخذ في وقت قريب، لأن السياسة الخارجية للدولة تُطبخ في الأصل خارج وزارة الدفاع، حتى في الدول ذات الطابع العسكري.
السياسة الخارجية للدول تُصنع في رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء، وتنفذ من قبل جيش الدبلوماسيين، وكما أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فإن موظفي السفارات هم أول من يتلقى أوامر تنفيذ سياسة الدول الخارجية سواء أكانت صدامية أو تصالحية، لهذا السبب فإن أغلب النزاعات في العالم بدأت في كواليس الجهاز الدبلوماسي، ومن هنا تبدأ الدول تصعيد أي نزاع إلى درجة إعلان الحرب.
قطع العلاقات الدبلوماسية
بينما يمكن تصنيف إجراء استدعاء السفير للتشاور وإبعاد دبلوماسيين بالعمل المتوقع دائما في العلاقات الدولية، تتحول العلاقة بين دولتين أو بين دولة ومجموعة دول إلى مستوى يصل إلى حد إعلان الحرب.
وفي هذا السياق يأتي قرار قطع العلاقات الدبلوماسية الذي يعد أعلى مستويات توتر العلاقة، وتعني طبقا لخبراء العلاقات الدولية أن الدولة التي قررت قطع العلاقة رأت استحالة التوصل إلى تسوية، وفشل محاولات حل الأزمة بالطرق الدبلوماسية، أو كما يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “اللغة الدبلوماسية لديها حدود تتوقف فيها، هي اقتناع السياسيين بأن الحل يجب أن تأتي به المدافع”.
وجاء في الفصل الثالث من كتاب “إدارة الأزمات من منظور دولي” للكاتب فادي حسون: “قطع العلاقة الدبلوماسية هو أعلى مستويات التصعيد في العلاقات الدولية، وقد يقع قبل بداية الحرب بوقت قصير، وأحيانا مباشرة بعد بداية الحرب”، ويضيف الكاتب في ذات الفصل “يحدث قطع العلاقة الدبلوماسية، بقرار إبعاد متبادل أو أحادي للدبلوماسيين، وقطع العلاقة القنصلية وكل معاملات إصدار التأشيرة، ووقف الرحلات الجوية البرية والبحرية، وحتى تبادل البريد، وصولا إلى غلق المجال الجوي والبحري أمام طائرات وسفن، مع ملاحظة أن بعض الدول تقرر الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية وقنصلية حتى بعد قطع العلاقة الدبلوماسية”، ويتابع “تنص اتفاقية جنيف للعلاقات الدبلوماسية أنه حتى بعد قطع العلاقة الدبلوماسية، لا يجوز المساس بالسفارات والقنصليات التي حتى بعد غلقها مؤقتا أو نهائيا تبقى لها حرمة المقرات الدبلوماسية بقوة القانون الدولي”.
وتبدأ إجراءات قطع العلاقة الدبلوماسية ببرقية ترسلها وزارة الخارجية، تتضمن استدعاء السفير وكامل طاقم السفارة وفروعها القنصلية، بعدها يتم الإعلان عن قطع العلاقة، وتحدد مهلة محددة لدبلوماسيي الدولة الثانية للمغادرة بين 48 ساعة وأسبوع، وفي كل السوابق التاريخية قررت دول مقطوعة علاقتها مع دول أخرى تكليف سفارات دول صديقة برعاية مصالحها في الدولة المقطوعة علاقتها، وتختلف حالات القطيعة الدولية، فبينما لا تمنع بعض الدول رعاياها من السفر إلى دول تم قطع العلاقة معها، تعتبر دول تنقل مواطنيها إلى هذه الدول عملا يعاقب عليه القانون، وهذا في حالات الحروب، وفي حالات القطيعة الطويلة، كما هو الشأن في الدول العربية مع الكيان الصهيوني قبل بدايات التطبيع.