بعد فترة زمنية قليلة من نجاح الحركة الانقلابية لتنظيم الضباط العراقيين أو “الأحرار” في الإطاحة بنظام الحكم الملكي وتحويل نظام الحكم في العراق إلى النظام الجمهوري في عام 1958، بدأت بوادر الخلافات بين الأحزاب والقوى السياسية والضباط الوطنيين أو “الأحرار”، حيث كانت القوى القومية بزعامة العقيد عبد السلام عارف وحزب البعث تنادي بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. في المقابل، وفي محاولة لخلق حالة من التوازن السياسي، حاول الحزب الشيوعي العراقي الذي كان معارضًا لفكرة الوحدة إلى طرح فكرة التعاون مع الجمهورية العربية المتحدة في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية بدلًا من الوحدة السياسية والعسكرية الشاملة.
تدريجيًا ساءت علاقات عبد الكريم قاسم مع بعض زملائه من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين أو الأحرار ثم تعكرت علاقته مع التيارات الوحدوية والقومية التي لعبت دورًا فاعلًا في دعم حركة سنة 1958. أما التيارات المتصارعة في الحزب الشيوعي العراقي فكانت طامحة للتحالف مع العميد عبد الكريم قاسم والتي كانت تمتد علاقتها معه منذ أمد بعيد حيث اعتقد قاسم أن بعض حلفائه الشيوعيين أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم، وخاصة بعد تزايد نفوذ الحزب الشيوعي بعد ذلك الشعار التي كان يردده الكثير من الشيوعيين ومؤيدي الحكومة في إحدى المسيرات: “عاش الزعيم عبد الكريم، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم” وجعلته يصمم منذ ذلك اليوم على تحجيم التيار الشيوعي المتحفز لقلب نظام الحكم وتقليم أظافره فقام بسحب السلاح من ميليشيا الحزب واعتقال معظم قادتها إلا أنه أبقى على التيار الموالي له وكان من قياداته العميد الطيار جلال الدين الأوقاتي قائد القوة الجوية والمقدم فاضل عباس المهداوي ابن خالة قاسم. وتوالت التغييرات السياسية في العراق في تلك المرحلة الحرجة بسرعة بالغة وانتهى حكم عبد الكريم قاسم في 8 فبراير/ شباط من سنة 1963 بإعدامه من خلال محكمة صورية عاجلة في دار الإذاعة في بغداد وسارع قادة الحركة إلى عرض جثته على شاشة التلفزيون في نفس اليوم.
بدأ الصراع بين قاسم وفرقاءه من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين أو “الأحرار” والشخصيات السياسية الفاعلة في الساحة السياسية من مختلف التيارات بسبب بعض الإجراءات التي اتخذها عبد الكريم قاسم منها تفرده في السلطة وفرضه لهيمنة العسكر والحزب الشيوعي على الوزارة والسياسة العراقية، حيث منح صلاحيات واسعة للتيارات اليسارية من الشيوعيين المعارضين لتطبيق الأحكام الإسلامية في القانون العراقي والذين كانوا وراء إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي شجبته المراجع الدينية، وكذلك ابتعاد قاسم عن ما اتفق علية فيما سمي بالميثاق الوطني لتنظيم الضباط الوطنيين “أو الأحرار” لانضمام العراق للاتحاد العربي المسمى “الجمهورية العربية المتحدة”، وبدلًا عن ذلك دخل قاسم في عداء مع أغلب الدول العربية خصوصا المحيطة بالعراق وتوج اجراءاته بإلغاء عضوية العراق من الجامعة العربية. وكذلك الاضطرابات التي حدثت ابان حكم قاسم بسبب حملات إعدام بعض قادة تنظيم الضباط الوطنيين والأحداث المؤسفة التي قامت بها المليشيات الشيوعية في الموصل وكركوك، علاوةً على انتفاضة الأكراد في سبتمبر/ أيلول من عام 1961 وضربهم بقسوة، مما أدى إلى إضعاف أكثر للهيمنة المركزية لقاسم على حكم العراق.
كما كانت لطلب قاسم في ضم الكويت للعراق سنة 1961 أثره في زعزعة السياسة الخارجية وإظهاره بمظهر المتخبط. كان تنظيم الضباط الوطنيين عبارة عن خلايا وتجمعات مستقلة توحدت عام 1957 وتأسست أول خلية عام 1949 بعد حرب فلسطين، أسسها العقيد رفعت الحاج سري، وكان قاسم ينتمي إلى خلية في معسكر المنصورية في ديالى جلها من الضباط ذوي الأصول الفلاحية أو الفقيرة ومن المنتمين للتيارات الشيوعية في زمن كانت الطبقة والبيوت العائلية والقبلية تلعب دورًا وتظهر هيمنة في المجتمع. فتأثر قاسم بالتجربة الاشتراكية والشيوعية التي لا تعير اهتمامًا للتطلعات الدينية ولا القومية.
وفي الطرف الآخر كان أغلب تنظيم الضباط الوطنيين ينتمون إلى حركات التحرر التي تنادي بالوحدة العربية. لاسيما بعد تأجيج المشاعر القومية على أعقاب ثورتي رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز عام 1941 وإنقلاب يوليو/ تموز في مصر وما تبعها من إجراءات رأت فيها الجماهير ضرب للمصالح الاستعمارية كتأميم قناة السويس وقيام الاتحاد العربي المسمى بالجمهورية العربية المتحدة.
تحول صراع الأيديولوجيات بشكل تدريجي إلى صراع مسلح بين الفرقاء، وبدأت سلسلة من المحاولات من الجانبين لفرض المواقف فبعد أن أحس بعض رفاق سلاح عبد الكريم قاسم في تنظيم الضباط الوطنيين ومعهم شخصيات من التيار القومي وحزب البعث بان عبد الكريم قاسم يمارس معهم عملية اقصاء وما اسموه بعدم تنفيذه لما اتفق عليه قبل حركة 14 يوليو/ تموز وانفراده بالحكم، شجع ذلك عضو التنظيم العقيد عبد الوهاب الشواف بالقيام محاولة انقلاب عسكرية عرفت باسم حركة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل في 8 مارس/ أيار من سنة 1959، أو ثورة الشواف، والتي أخمدها العميد عبد الكريم قاسم بقسوة حيث قتل وأعدم منفذيها. وتلا ذلك استهداف قاسم من قبل حزب البعث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 1959 حيث تعرض عبد الكريم قاسم إلى محاولة اغتيال سببت له إصابات بليغة في كتفه.
بعد سلسلة من الاعتقالات والمداهمات أطلق قاسم شعاره: “عفا الله عما سلف”. وفي تاريخ تلك المرحلة وقعت ثلاثة أحداث مثيرة للجدل، وهي ما أشيع من قبل حكومة عبد الكريم قاسم عن اكتشاف محاولات قلب نظام الحكم والتي لم يتأكد من صحتها بالوثائق أثناء المحاكمات التي عُقدت بشأنها ولا بعد ذلك إضافة إلى تقديم المشتكين لوثائق أخرى تثبت برائتهم مما أثار سخط الرأي العام في حينه حول ما أسموه الدواعي وراء تلفيق التهم لقادة حركة 14 يوليو/ تموز أو الرموز الوطنية الأخرى.
الحدث الأول الذي أثار جدلاً كبيرًا امام الراي العام هو ما أشاعته الحكومة بأن عبد السلام عارف حاول اغتيال عبد الكريم قاسم والتي حدثت أثناء اجتماع اعتيادي ضم قاسم وعارف وبعض المسؤولين فحين همّ عارف بالجلوس اخذ يعدل ملابسه ونطاقه العسكري المتضمن مسدسه. وفي تلك الفترة كان قاسم ممتعضًا من عارف بسبب ازدياد شعبيته لدوره الرئيس في حركة 14 تموز/ يوليو من جهة وزياراته للمحافظات وإلقاءه للخطب الارتجالية عن دوره في (الثورة) وضرورة قيام الوحدة للحفاظ على الثورة من التهديدات البريطانية والإسرائيلية. والتي أثارت امتعاض رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، لا سيما بعد زيارة عارف لسوريا والتي كانت متوحدة مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة، حيث بدأت شعبيته محليا وعربيا تزداد بشكل ملحوظ، من هنا ازدادت مخاوف قاسم الذي اعتقد أو استغل تلك الفرصة للتخلص من عارف وإبعاده عن الوزارة ومركز القرار. حيث نفى عارف التهمة المنسوبة إليه واستشهد بشهود من الحاضرين في الاجتماع، حيث اكتفى قاسم باعتقاله على عجل ثم أصدر أوامره بتعيينه سفيرًا في ألمانيا كونه درس وعاش في ذلك البلد قرابة ست سنوات.
بعد عودة عارف من ألمانيا على أثر البرقية التي أرسلتها له عائلته لضرورة مجيئه لمرض والده العضال والذي توفي على اثره، استثمر قاسم هذه الحادثة وقام باعتقال عبد السلام عارف وتقديمه أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة على الرغم من تقديمه للبرقية وشهادة الشهود من عائلته والتقارير الطبية التي قدمتها عقيلته وأخوه عبد السميع للمحكمة، إلا أن الأخيرة قضت بإعدامه، وظل معتقلا في السجن العسكري رقم واحد بانتظار يوم إعدامه لمدة سنتين. وبعد حادثة فشل الوحدة بين مصر وسوريا والتي صرح قاسم بأنه دعم قادة الانفصال فيها، العميد عبد الكريم النحلاوي والعقيد موفق عصاصة، “لتحرير سوريا من الهيمنة المصرية”.
وجد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بأن الخطر قد زال فأصدر عام 1961 أمراً دون الرجوع للمحكمة بتحويل حكم إعدام عارف إلى المؤبد بصيغة الإقامة الجبرية، حيث بقي عبد السلام عارف معتقلًا في منزله حتى قيام حركة 8 فبراير/ شباط من عام 1963م، ولم يخلي سبيله رغم مطالبة زملاءه وعائلته ورفاق السلاح. رشيد عالي الكيلاني باشا قائد ثورة 1941 ضد الإنكليز. أما الحدث الثاني فهو زج اسم عميد أركان الحرب ناظم الطبقجلي مع المتهمين بحركة الشواف، إلا أن المحكمة لم تستطع إثبات التهمة المنسوبة إليه بالوثائق.
لم يكن عبد السلام عارف هو الوحيد الذي يخشى منه عبد الكريم قاسم، بل كان يخشى من أغلب أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين حيث احتج كل من العميد ناظم الطبقجلي والعقيد عبد الوهاب الشواف والعقيد رفعت الحاج سري على إبعادهم من الواجهة السياسية والوزارة أو من عدم تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة وتعليق انتخاب رئيس للجمهورية، حيث وزعهم على المعسكرات في المحافظات البعيدة عن بغداد.
بعد اعتقال الطبقجلي وتصريحه امام شاشات التلفزيون بأنه يتحدى الحكومة بان تثبت التهمة عليه وإنه قد تم تعذيبه واهانته، تم إعدامه مما أدى إلى سخط الراي العام. والحدث الثالث الذي شغل الرأي العام فهو ما أشاعته الحكومة بان وراء عودة الشخصية الوطنية العراقية رشيد عالي الكيلاني باشا رئيس الوزراء الأسبق وقائد ثورة مايو/ أيار عام 1941 هو التخطيط لمحاولة انقلابية في عام 1959 وقد نفى الكيلاني التهم بسخرية قائلا: “لم انتظر يوما قط وأنا في المنفى بعيداً عن الوطن، أن يقدم لي أحد مكافأة على ما قمت به من دور وطني في سبيل تحرير العراق، وقد استبشرت بقيام الثورة وعدت لبلدي الحبيب، ولم أتوقع ان أكافأ بهذه الطريق وقد بلغ بي العمر 84 عاما”. تم تقديم الكيلاني إلى المحكمة العليا الخاصة والتي حكمت عليه بالإعدام بالرغم من نفيه لهذه المزاعم مطالبًا بتقديم وثائق تثبت هذه التهمة مما أدى إلى عدم تنفيذ الحكم ثم أطلق سراحه فيما بعد ونفي إلى لبنان حيث لاقته المنية عام 1965 في بيروت.
أدى سخط الشارع لما اعتبره الرأي العام محاولة قاسم وحكومته وحلفائه من الشيوعيين إلى ابعاد جميع الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في الشارع عن الواجهة السياسية بتلفيق التهم لها أو ابعادها عن المسرح السياسي بنقلها إلى وحدات عسكرية بعيدة عن بغداد كما حدث لقادة تنظيم الضباط الوطنيين، وما عزز هذا الاعتقاد حول الشكوك بصحة هذه التهم هو اعتقاد بعض الباحثين والمؤرخين حول كونهما قصتين ملفقتين لغرض التصفية السياسية حيث لم يتم العثور على أي وثيقة تثبت تورط عارف والكيلاني والطبقجلي بأي محاولة انقلابية لا في حينها ولا بعد نشر الوثائق ومحاضر جلسات مجالس الوزراء بعد احتلال بغداد عام 2003.
أجمل قادة حركة 8 شباط/ فبراير لعام 1963 من خصوم ومعارضي قاسم عددًا من العوامل التي دفعتهم للقيام بالحركة، منها أن حركة أو انقلاب يوليو/ تموز 1958 هي عمل جماعي منظم جاءت وليدة حتمية للظروف الموضوعية التي كان يمر بها العراق والمنطقة، فقام بها تنظيم الضباط الوطنيين الأحرار أو جزء كبير من قياداته وقواعده ولم يقم بها العميد عبد الكريم قاسم بمفرده بل إن دوره فيها كان ضمن صفحة التخطيط والإشراف ولم يسهم في صفحة العمليات التنفيذية المباشرة. إن جميع ما أصدرته الثورة عند انطلاقتها الأولى من قرارات وطنية وتشريعات ومنجزات جاءت “وليدة العمل الجماعي” المثمر لقادتها الوطنيين ولم تكن من إنجازات عبد الكريم قاسم لوحده. إعدام الطبقجلي وسري. يرى قادة حركة 8 شباط/ فبراير 1963 أن عبد الكريم قاسم تحول من زعيم للثورة إلى “دكتاتور” تفرد بالسلطة، فاستحوذ على مركز صناعة القرار وبدأ بجمع الصلاحيات بيده مجرداً شيئاً فشيئاً الصلاحيات من زملاءه. فأصبح هو رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة.
لم يمنح مجلس السيادة الصلاحيات وأحاله إلى واجهة شكلية ليس بيدها لا سلطة تنفيذية ولا تشريعية، كما وقف حائلاً أمام انتخاب رئيس الجمهورية، وبقي المنصب معلقاً في عهده. كما عطل تأسيس المجلس الوطني لقيادة الثورة كما كان متفقاً عليه في تنظيم الضباط الوطنيين الأحرار وحل مجلسي النواب والأعيان للحكم الملكي، ولم يفسح المجال لانتخاب مجلس نواب جديد. وعند بدء الثورة حين كان العمل في القيادة جماعيا قبل تفرده بالسلطة سمحت وزارة الداخلية التي كان عبد السلام عارف وزيرا لها بتأسيس بعض الأحزاب مثل الحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية، إلا أن عبد الكريم قاسم وبعد تفرده ألغى هذه الأحزاب ولم يفسح المجال لعمل أحزاب جديدة سوى الحزب الشيوعي العراقي الذي شاركه في السلطة.
يرى قادة الحركة أيضًا ان عبد الكريم قاسم أصدر أحكام إعدام وسجن جائرة بغية تصفية قيادات حركة عام 1958 من زملاءه وأعضاء تنظيم الضباط الوطنيين وشملت التصفيات أي شخصية وطنية يعلو صوتها على صوت عبد الكريم قاسم، فلفق التهم لبعضهم وزجهم بالسجون وأعدم البعض الآخر مستغلا حركة عبد الوهاب الشواف الانقلابية كذريعة لهذه التصفيات، أما الذين قاموا فعليًا بالحركة فقد تم قتلهم مباشرة بالقصف المباشر بالطائرات، والبعض الآخر أحيلوا إلى المحكمة الخاصة، “محكمة الشعب”، حيث تم زج الكثيرين ممن ليس لهم علاقة بحركة الشواف وتعذيبهم ثم إعدامهم. ومن أبرز المعدومين العميد الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري ومجموعة من رفاقهم، وإصدار أحكام الإعدام التي لم ينفذها بسبب الضغوطات الشعبية بحق كل من الشخصية الوطنية رشيد عالي الكيلاني باشا والعقيد الركن عبد السلام عارف، وكذلك رئيس الوزراء السابق أحمد مختار بابان. المقدم فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة.
وصفت قيادات الحركة “محكمة الشعب” المشهورة باسم “محكمة المهداوي” بكونها محكمة “هزيلة”، وكانت تلك المحكمة العسكرية الخاصة العليا تقوم بمحاكمة أركان النظام الملكي وأيضا جيء بالكثير ممن ليس لهم علاقة بمركز القرار وأعدم الكثيرين مجرد لأنهم كانوا مسؤولين في النظام الملكي. يرى المعارضون لطريقة سير تلك المحكمة أنها وبسبب رئيسها المقدم فاضل عباس المهداوي وادعائها العام العقيد ماجد محمد أمين كانت منبرا وواجهة إعلامية للحكومة واستخدمت فيها وسائل تعذيب وإهانة الموقوفين وكثيرًا ما كان رئيس وأعضاء المحكمة ينحدرون بالسباب والشتائم وتلفيق التهم بالشبهة وأثناء البث المباشر على شاشات التلفزيون.
من وجهة نظر التيار المساند للإطاحة بقاسم فإن عبد الكريم قاسم فسح المجال للحزب الشيوعي ومليشياته بالعبث بأمن الدولة والمواطنين وتمكينهم من المناصب الهامة في الوزارة والجيش ومستشارية لأخر يوم في نظام حكمه مثل العميد الطيار جلال الدين الأوقاتي الذي قُتل صباح يوم الحركة وطه الشيخ مدير العمليات في وزارة الدفاع وفاضل المهداوي رئيس المحكمة الخاصة الذين أعدما معه. كما قامت المليشيات الشيوعية المسماة بالمقاومة الشعبية بارتكاب أعمال عنف مؤسفة كقتل وتعذيب معارضيهم بالشوارع وتعليق الكثيرين منهم على أعمدة الكهرباء، والقيام بمداهمة واحتلال المنازل والمؤسسات الحكومية والمعسكرات والعبث بها بمساعدة العامة من الدهماء كما حدث من مجازر وتجاوزات على حقوق الإنسان في الموصل وكركوك. كما لعبوا بسياسة الدولة الداخلية والخارجية ومنعوا أي تقارب مع الدول العربية أو تحقيق أي وحدة عربية والتي كانت حلم الجماهير التي تعتبرها ضرورة للوقوف بوجة القوى الكبرى للنيل من الثورة.
هناك قناعة راسخة من قبل المؤيدين للإطاحة بقاسم بأن سياسة العراق في عهده عزلت العراق عن محيطة الإقليمي العربي بسبب عدم إيمانه بالوحدة العربية ووقوفه ضد الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة بعد زيارة وفد من التنظيمات الشعبية للجمهورية العربية المتحدة برئاسة أعضاء من حزب البعث للتهنئة بالثورة ودعوة قيادة العراق للانضمام للوحدة، كما شكلت محاولته بضم الكويت عسكريا عام 1961 بعيدًا عن التنسيق الوحدوي أثرًا سلبيًا على علاقاته العربية التي ازدادت سوءًا بقطع العراق لعلاقاته الدبلوماسية مع العديد من الدول العربية مثل مصر وسوريا والكويت والسعودية والأردن، وانتهى به الأمر إلى الغاء عضوية العراق من الجامعة العربية أواخر عام 1961. بالإضافة إلى القوى القومية العربية وحزب البعث التي ناهضت سياسات عبد الكريم قاسم فقد واجه قاسم انتقادات من المراجع الدينية المحافظة التي لم تكن مع بعض القرارات التي كانت تُعتبر تغيرات جذرية سريعة نحو العلمانية في دولة لا تزال تتمسك بالعرف الديني والعشائري ومن أشهر هذه القرارات قانون الأحوال الشخصية التي ضمنت للمرأة حقوق واسعة بعيدة عن التشريع الإسلامي ومستوحاة من الفكر الماركسي وقانون الإصلاح الزراعي حيث انتزع الأراضي العقارية التي كانت للملاكين وشيوخ العشائر والاقطاعيين ووزعها على الفلاحين والمهاجرين من الشروقيين والتي أصدرت المراجع الدينية الشيعية، بضمنها الحوزة العلمية الشيعية، والمراجع السنية بيانات شجبها ومنافاتها للشريعة الإسلامية.
يُضاف إلى هذه الانتقادات استغلاله لمنصبه بتولية المناصب الهامة لأصدقاءه وأقاربه دون وازع من الكفاءة أو المهنية كما ميز بعض أفراد عائلته بمنح أشقائه وشقيقاته الدور السكنية الراقية مجانا مع كبار القادة العسكريين وجعل أخيه الكاسب المعدم المتنفذ الملقب “بالبرنس” حامد قاسم مشرفًا على توزيع أراضي الإصلاح الزراعي على الفلاحين والتي جمع منها أموالًا طائلة أصبح على إثرها من كبار الأثرياء، وابن خالته المقدم فاضل المهداوي الذي عينه بمنصب رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة.
كذلك فهو لم يؤمم نفط العراق في ظروف مواتية بعد تعالي الصيحات المنادية بالتأميم وذلك بعد تأميم إيران “مصدق” للنفط ومصر “عبد الناصر” لقناة السويس. واكتفى كبديل بتبني اقتراح وزارة النفط بإصدار القانون رقم 80 الذي فسح المجال للعراق باستكشاف حقول نفطية جديدة. أما حقول العراق النفطية والتي لم يكن مكتشفا منها سوى عدد قليل، فبقيت بيد الشركات الاستثمارية الأجنبية التي كان لها نصيب الأسد من عوائد تصدير النفط بحسب الاتفاقيات الجائرة المبرمة في نهاية العهد العثماني وبداية تأسيس الدولة العراقية، حيث كانت تدفع تلك الشركات ما مقداره “شلن” فقط أي درهم عن كل برميل نفط. فالعراق كان فقيرًا بسبب هيمنة شركات النفط من جهة وبسبب الاستثمار المحدود للحقول البسيطة يوم ذاك.
يُنتقد قاسم أيضاً بسبب ميوله الطائفية والعرقية بتفضيل طائفة على أخرى وقومية على أخرى، حيث استغل قانون الإصلاح الزراعي وانتزع الأراضي العقارية التي كانت للملاكين وشيوخ العشائر والاقطاعيين ووزعها على الفلاحين والمهاجرين الشروقيين وذلك لانتماء أسرته لهذه الفئة. كما دعم المهاجرين الذين كانوا يعملون عبيد لدى الإقطاع وساواهم بالفلاحين العرب العراقيين ووزع لهم الأراضي الزراعية والدور السكنية ليضمن دعمهم له. كما ألب العشائر العربية في الموصل وكركوك لاضطهاد الأكراد على إثر عدم اتفاقهم معه وأرسل القطع العسكرية للنيل منهم.
أقوال وآراء بشأن إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ومن معه في دار الإذاعة
الفريق الركن نعمة فارس
عن الايام الاولى لقيام حركة 8 شباط/ فبراير، يقول الفريق الركن نعمة فارس ”في الحال خرج علي صالح السعدي من غرفة القيادة واصطحبني معه وقال لي أريد أن يقابل عبد الكريم قاسم عند وصوله إلى دار الاذاعة بكل احترام وان يشعر بذلك ولا أريد أي مظهر فوضوي أو يدل على عدم التزام الجميع بما أقوله. وأرجو أن تتولى هذه المسؤولية فورًا. فأجبته بالإيجاب وناديت جميع العسكريين الموجودين في الساحة الامامية للإذاعة وفي الشارع الرئيس بصوت واضح طالبًا انتباههم لي بالقول أن الزعيم عبد الكريم قاسم يصل بعد قليل الى هنا، وأن قيادة الثورة تطلب منكم جميعًا أن توجهوا فوهات أسلحتكم إلى الارض وأن يقابل بكل احترام وأن لا يمسه أحد أو يهتف ضده أحد وأن تتراجعوا إلى الخلف بحيث يكون الطريق مفتوحًا من الشارع حتى مدخل دار الاذاعة لكي يسلكه عبد الكريم قاسم ومجموعته بكل حرية بدون أية مضايقات، ويمنع الرمي نهائيًا الا دفاعًا عن الموقع ومن قبل القوة المكلفة بذلك وهي سرية الدبابات الاولى فقط، وأن أية مخالفة لكل ذلك سيكون حسابها عسيرًا من قبل القيادة”.
عن وصول قاسم إلى مبنى الاذاعة يقول الفريق الركن نعمة فارس ”وصل عبد الكريم قاسم إلى مبنى الاذاعة والتلفزيون وكانت تبدو على وجهه ملامح ابتسامة خفيفة ولا ادري أن كانت حقيقة ام مصطنعة. وبعد أن اكمل تسلق سلم الاذاعة الخارجي التقى به علي صالح السعدي الذي كنت اقف الى جانبه، وصافح ببرود كل منهما الاخر، وأستمر بالمسير إلى داخل الاذاعة متوجهين إلى غرفة كبيرة تدعى –صالات الاخوة- التي كانت قد افتتحت قبل فترة وجيزة من قبل عبد الكريم قاسم، وكان بداخلها معظم أعضاء القيادة الجديدة ومجموعة من الضباط وهم كل من حازم جواد وطالب شبيب وأحمد حسن البكر وهاني الفكيكي ومحسن الشيخ راضي وعبد الستار عبد اللطيف وصالح مهدي عماش وعبد السلام عارف وطاهر يحيى وعبد الغني الراوي ورشيد مصلح وخالد مكي الهاشمي وحردان عبد الغفار والرائد المظلي عبد المنعم حميد، ولم أشاهد أحدهم قد صافح عبد الكريم قاسم واثناء المناقشات مع عبد الكريم قاسم خاطبه علي صالح السعدي، لماذا أعدمت ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري؟ وهل ذلك ضمن مخطط محاربة القومية العربية؟ فأجاب قاسم لقد تأمروا على الثورة وعليّ أيضًا وحكمت محكمة الشعب عليهما بالإعدام وصادقت على الحكم. وهنا التفت علي صالح السعدي إلى فاضل عباس المهداوي سائلًا اياه، كيف أعدمتهما؟ فأجاب المهداوي بأنني تبلغت أمرا من الزعيم قاسم ، وقد أشار عليه بيده بإعدامهما وحكمت بذلك. وأستدار علي صالح السعدي الى قاسم في اشارة لطلب الاجابة على ما قاله المهداوي، فألقى قاسم بابتسامة ونظرة أستخفاف بالمهداوي وبإجاباته ولم ينطق بكلمة. وقال علي صالح السعدي موجها كلامه الى عبد الكريم قاسم: لقد تعرض حزب البعث العربي مؤخرًا الى حملة شرسة من قبل أجهزتك الأمنية شملت على مداهمة أوكاره واعتقال العديد من كوادره وأعضائه مع أنه ليس حزبًا ممنوعًا في العراق، وقد علمنا أن أحد الضباط قد أبلغك بنشاط الحزب وبأسماء كوادره فمن هو هذا الشخص؟ ولم يجب قاسم على السؤال، وبعد الحاح علي صالح السعدي بضرورة الاجابة قال قاسم صدقوني لا أعرف ذلك”. ”وأستمر علي صالح السعدي بتوجيه الاسئلة الى قاسم قائلًا: لقد أتسم نظامك بالابتعاد كليًا عن التوجه القومي الوحدوي بل محاربته كما عملت شخصيا على محاربة بعض الانظمة العربية مثل نظام جمال عبد الناصر المعروف بعدائه للاستعمار وبالتآمر عليه، وحاولت عزل العراق كليًا عن الامة العربية فلماذا؟ أجاب قاسم إنني عراقي وعملت لمصلحة العراق والشعب العراقي ونفذت رغبات الشعب، كما قلت سابقًا. ولم أحاول عزل العراق بل العكس كنت أعمل على انشاء العديد من الطرق التي تربط العراق بجيرانه، وتعمل على أدامة الصلة بالعالم الخارجي والشواهد على ذلك معروفة لديكم ولم أتآمر على أي نظام عربي فهذه ليست من صفاتي. لقد حاولت جهدي أن أخدم الفقراء في العراق ولهذا وزعت عليهم الاراضي السكنية وساعدتهم بدعم مالي لبناء دور عليها. وفعلا تم بناء 30 الف دار ومدينة الثورة خير شاهد على ذلك. كما قمت ببناء دور سكنية للضباط والعسكريين في بغداد وبمنطقة اليرموك وزيونة وهي معروفة لديكم وللجميع وهؤلاء كانوا بحاجة لرعاية الثورة لهم ولعوائلهم وكنت خططت للمزيد من أعمال البناء والاعمار لشرائح من المجتمع العراقي في بغداد والمحافظات، الا أن القدر شاء الا أكمل هذه المشروعات، وآمل أن تعملوا على الاستمرار بها خدمة للشعب العراقي ولمساعدة الفقراء من ابناء الشعب، وأتمنى لكم التوفيق ان كنتم لا ترغبون بأن أعاونكم في تحقيق ذلك. فقال علي صالح السعدي ان حال مدينة الثورة لا يدعو الى الفخر بهذا المشروع، كما لا يمكن وصفه بأنه حقق فائدة للشعب لأنك ساعدت على الهجرة من الريف الى المدينة وأثقلت بغداد بأعباء كبيرة تتطلب الكثير من الخدمات. فقال قاسم هذه مسؤولية من يأتي بعدي ليعمل على اكمال نواقصها وخدماتها وآمل أن تنجحوا بذلك. وهنا طلب خالد مكي الهاشمي من علي صالح السعدي ان يسمح له بالحديث مع عبد الكريم قاسم، وبعد الاذن قال خالد لقاسم: من أخبرك بأنني كنت أتآمر عليك بكتيبة الدبابات الرابعة؟ لقد أستدعيتني إلى مقرك بوزارة الدفاع وأسمعتني كلامًا غير لائق لماذا؟ قال قاسم توفرت لدينا معلومات عن قيامك وضباط كتيبتك بالتخطيط لتنفيذ انقلاب بالتعاون مع جهات أخرى، ولكنني لا أذكر أن شخصًا قد أخبرني عنك”.
طالب شبيب في مذكراته يتحدث عن استسلام عبد الكريم قاسم بشكل مغاير لما ذكره نعمة فارس فيقول” استجاب قاسم لطلب الاستسلام أعلنا تعيين الرائد محمد علوان الذي كانت هناك نية لتعيينه معاونًا لرئيس الاستخبارات العسكرية ليذهب ويشرف على عملية الاستسلام وأبلغنا عبد الكريم قاسم تلفونيًا بأن الضابط المذكور سيتقدم نحوه غير مسلح ويحمل علمًا أبيض وطلبنا منه التهيؤ لاستقباله خلال خمس دقائق. وفعلًا دخل الرائد علوان المبني وتوجه نحو البناء الداخلي وحينما صار على بعد أقل من عشرة أمتار عن المدخل أطلقت عليه عدة رصاصات من أحد الموجودين في الداخل فسقط قتيلًا، أثرت تلك الحادثة على نفوسنا فأصدرنا أمرًا فوريًا الى القوات وهي كثيرة لتقتحم المكان وتجلب قاسم بالقوة لأنه خان العهد الذي قطعه بالاستسلام دون مقاومة وقتل ضابطًا غير مسلح، ولم نستطع حتى بعد استسلام قاسم أن نعرف من هو قاتل الضابط المغدور، وأغلب الظن كان كنعان حداد بسبب تورطه بقتل ثمانية من جنود وضباط هو الرائد ابراهيم التكريتي، وهو في طريقه للالتحاق بوزارة الدفاع كما أعتقد أن كنعان كان أرعن.
مدخل الاذاعة
كنت أقف في مدخل الاذاعة ومعي عدد من الاشخاص بينهم صبحي عبد الحميد (أصبح وزيرا للخارجية وللداخلية) عندما وقفت المدرعة الاولى أمام الباب الخارجي فترجل منها راكبوها وكان أول من تبرع بالضرب والشتم على عبد الكريم قاسم ومن معه هم الجنود وضباط الصف وبعض الضباط فتدخلنا لحمايتهم، وتحملنا انا وصبحي ضربات كثيرة وبصاق من أشخاص عديدين وتمادى بعضهم محاولا الحاق الاذى الشديد بهم. ويضيف شبيب قائلًا ”تصرف علي صالح السعدي مع عبد الكريم قاسم والاخرين بحدة وساق له الاهانات وشتمه وسأله عن اسم الشخص الذي ابلغه بسر ثورة رمضان، فرفض قاسم الاجابة، فكرر السعدي متسائلًا فيما اذا كان الواشي مودا الان بيننا في هذه القاعة؟ فرد قاسم بالنفي. اقتيد عبد الكريم ورفاقه الى احدى غرف الاذاعة واظنها غرفة الموسيقى الشرقية حيث وقف قاسم والى جانبه كنعان وطه الشيخ احمد وفاضل عباس المهداوي كانوا اربعة ووقفنا نحن بمواجهتهم علي السعدي وحازم جواد وانا –طالب شبيب- وعبد الستار عبد اللطيف واحمد حسن البكر وعبد السلام عارف وعبد الستار الدوري وصالح مهدي عماش ولا اتذكر وجود محسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وكريم شنتاف. أما هاني الفكيكي فيتحدث عن لحظات وصول عبد الكريم قاسم الى دار الاذاعة في الصالحية مستسلمًا فيقول ”دخل قاسم وصحبه منزوعي الرتب والنياشين ومن دون سلاح الى دار الاذاعة وسط ممرها الطويل بين صفين من العسكر يتقدمهم العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت ولم يحصل أي اعتداء أو اهانة غير أن أحد الضباط الموصليين حاول الاعتداء على المهداوي بالضرب لكن علي صالح السعدي منعه ونهره. ودخل قاسم وصحبه الى قاعة من قاعات التسجيل الموسيقي وبادر حازم وحردان بإخراج المقدم قاسم الجنابي ووضعه في غرفة أخرى لحمايته نظرا لما كان يقدمه للحزب من خدمات ومعلومات”.
قصة الدقائق نقلًا عن المقدم الركن قاسم الجنابي
نقلًا عن المقدم الركن قاسم الجنابي مرافق عبد الكريم قاسم يتحدث اسماعيل العارف وزير المعارف في حكومة قاسم اللذين التقيا في لندن يوم 30 مايو/ أيار 1984 وروى له قصة الدقائق الاخيرة لعبد الكريم قاسم لدى دخوله مبنى الاذاعة بعد ظهر يوم 9 شباط/ فبراير 1963 فيقول ”عند الساعة الثانية عشرة والنصف من بعد ظهر يوم السبت المصادف 9 شباط/ فبراير سلم عبد الكريم قاسم نفسه وكذلك فعل الضباط الذين اختاروا البقاء معه الى آخر لحظة. وكان خارج وزارة الدفاع العقيد الركن محمد مجيد والمقدم هادي خماس ( كان أحد آمري أفواج لواء عبد الكريم قاسم وقد كان يثق به فأناط به حراسة بناية الاذاعة والتلفزيون) فصعد الزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ احمد الى دبابة لوحدهما وصعد قاسم الجنابي وفاضل المهداوي وكنعان خليل حداد الى مدرعة. واتجهوا جميعًا الى بناية الاذاعة والتلفزيون. وعندما وصلنا الى الاذاعة ساد الحاضرين من الجنود والضباط المحيطين بالبناية وجوم خيم على الجو صمت الاموات؟، فكنت اذا رميت أبرة على الأرض سمعت رنينها، فانزل عبد الكريم قاسم من الدبابة وأستلمه بعض الضباط يتقدمهم المقدم عبد الستار عبد اللطيف وحاولوا درء الاعتداء والاهانة عنه. أما المهداوي وطه الشيخ فقد انهالت عليهما الضربات من كل حدب وصوب فجرح المهداوي براسه، واقتادونا الى داخل البناية التي كان يقف في داخلها عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وخالد مكي الهاشمي وعلي صالح السعدي، ويقف الى جانب منهم المقدم عرفان عبد القادر وجدي وعبد الغني الراوي وبعض الضباط القوميين ممن لا تحضرني أسماؤهم، فوقفنا في وسطهم وهم يحيطون بنا أنا والزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد وفاضل عباس المهداوي والملازم كنعان خليل حداد، وجه علي السعدي سؤالًا الى الزعيم عبد الكريم وقال ”كانت عندنا حركة قبل أسبوعين وأخبرك بها أحد الاشخاص فمن هو هذا الشخص؟ وهل هو موجود الان بيننا نحن الحاضرين؟ فأجابه الزعيم عبد الكريم ”لا يوجد هذا الشخص الذي أخبرني بينكم بشرفي” فرد عليه علي السعدي ”من أين لك أن تفهم الشرف” فأجابه عبد الكريم قاسم ”ان لي شرفًا أعتز به” والح علي السعدي في السؤال ثانية وثالثة، وقال أخيرًا ”ماذا كان يعمل عندك المقدم خالد مكي الهاشمي عندما قابلك في وزارة الدفاع قبل اسبوعين؟” فأجابه ”أرسلت بطلبه لاستفسر عن صحة والدته” ثم أخذ يتحدث قائلًا ”انني خدمت الشعب ونفذنا ثورة أنقذته من الاستعمار وهيأنا له العيش الكريم، وجئنا بهذا السلاح الذي تستعملونه ضدي لكي يشهر في وجوه الاعداء” وكان المقدم أحمد حسن البكر قلقا وقال لي” لماذا جلبتم هذا الشخص مشيرًا الى عبد الكريم قاسم؟ فقلت له ”أنا لم أعمل سوى خدمة بلدي” فقال ”اذن قف مع جماعتك حتى نرميك معهم” ثم توجه عبد السلام عارف يناقش عبد الكريم قاسم محاولًا أن ينتزع منه اعترافًا في ذلك الظرف الحرج في أنه هو الذي كتب البيان الاول لثورة 14 تموز/ يوليو وسأله من الذي كتب البيان الاول لثورة 14 تموز/ يوليو؟ فأجابه عبد الكريم قاسم اجابه غامضة لم تنل رضى عبد السلام عارف الذي راح يعاتبه لتركه اياه واهماله وحبسه. ثم دخل المقدم عرفان وجدي وحردان التكريتي وسحباني من بين الجماعة وانقذاني من الاعدام. ثم أدخلاني غرفة السيطرة على التسجيل وجاءني حازم جواد ليبلغني قرار المجلس الوطني لقيادة الثورة بإعفائي من الاعدام فشكرته والحزب على ذلك، وقلت له هذا فضل منكم انقذتم حياتي. ثم جاءني علي السعدي وعبد الستار عبد اللطيف وجلبا لي فطورًا وسألني عبد الستار عبد اللطيف مستفسرًا عن الشخص الذي أخبر عبد الكريم قاسم عن الحركة ؟ وهل هو الملحق العسكري في لندن عبد القادر فايق؟ فقلت له ليس لدي علم مؤكد بذلك. والحقيقة أن الملحق العسكري بعث بتقرير خاص الى الزعيم عبد الكريم قاسم من انكلترا يخبره بتفاصيل الحركة وأسماء الضباط المشتركين فيها، وقد حصل على تلك المعلومات من أحد الضباط القادمين الى انكلترا في دورة قصيرة ولم أكن أعرف أسمه. ثم سألني علي السعدي ما اذا كنت احتاج الى شيء. وقدم لي احد الموظفين سجائر. وجاءني حردان التكريتي وقال لي ”ابو سمير من الممكن أن تذهب الى بيتك ولكن أخاف عليك، فالأفضل أن تذهب الى سجن سرية الخيالة لبضعة ايام”.
نقلًا عن قاسم الجنابي مرافق قاسم يقول اسماعيل العارف” عندما اقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم كان في كامل قيافته جذابًا انيقًا وقد حلق ذقنه قبل ذلك في صباح يوم 9 شباط/ فبراير وقد وعدوه قبل أن يستسلم بان يسمحوا له بترك العراق ولكنهم قرروا اعدامه بعدئذ. ولم يفقد رباطة جأشه وشجاعته. وعند الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم السبت 9 شباط/ فبراير اقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ احمد وفاضل عباس المهداوي وكنعان خليل حداد الى استوديو التلفزيون وبلغوا بقرار المجلس الوطني لقيادة الثورة وبإعدامهم رميًا بالرصاص واعتبرت المناقشة التي جرت محاكمة سريعة له وللضباط الاخرين. فرفضوا وضع عصابة على أعينهم”.
رد “حازم جواد” على “نعمة فارس”
حازم جواد هنا يرد على ما جاء تحدث به نعمة فارس موضحًا ومفندًا الكثير مما جاء به فارس فيقول حازم “كان عبد الكريم قاسم قد استدعى آمر الكتيبة المدرعة الرابعة خالد مكي الهاشمي وواجهه بالمعلومات التي عنده وحسب رواية العقيد الهاشمي كان بعض هذه المعلومات دقيقة وبعضها غثا ولا وجود له أثر هذا الاستدعاء على معنويات العقيد الهاشمي وأثار مخاوفه فأرسل رسالة شفوية الى الحزب بواسطة عضو المكتب العسكري والضباط عبد الستار عبد اللطيف يبلغنا فيها تجميد نشاطاته الحزبية كليًا ويرجو التوقف عن الاتصال به وأنه جاهز للتحرك بشرط ابلاغه عند الاطاحة بقاسم قبل ساعة واحدة، فأوكلت مسؤولية الاشراف على تنظيم الكتيبة للأستاذ علي صالح السعدي، وكان قد عاد مؤخرًا من سوريا بعد قضاء عدة اشهر وبحكم مسؤوليته لتنظيم الكتيبة الرابعة وتوليه سابقًا مهمة الاشراف على المكتب العسكري قبل ان تنتقل الى حازم جواد، واشترك السعدي ببعض اجتماعات المكتب رغم ان بعض أعضاء المكتب سبق ان قدموا استقالاتهم تذمرًا من تصرفات علي صالح السعدي كما يقول حازم جواد، واحتجاجًا على سلوكه في نيسان/ أبريل 1962 ومنهم احمد حسن البكر نفسه وعبد الستار عبد اللطيف، إلا أن حازم جواد يقول تدخلت لإقناع المستقيلين على سحب استقالاتهم في حينها وطلب عقد اجتماع للمكتب السياسي وتم الاجتماع في بيت أحمد حسن البكر حضره كل من صالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف وحردان عبد الغفار وخالد مكي الهاشمي والبكر، وتم الاتفاق على اعادة هيكلة الاتصالات والعلاقات داخل المكتب وبينه وبقية تنظيمات الحزب. وحينما تم انتخاب السيد علي صالح السعدي للإشراف على نشاطات التنظيم العسكري داخل الكتيبة لم يغير من حالة الخلخل هذه، ولسد هذه الثغرة واعادة تهيئة الكتيبة للتحرك واداء دورها المحدد ولرفع معنويات اعضاء في الكتيبة وتعريفهم بشكل غير مباشر الى ان الحزب يمتلك رصيدًا لا ينضب من القيادات العسكرية ، وأقترحت على الرفيق علي صالح السعدي كما يقول حازم جواد أن يبلغ ضباط الكتيبة بأن الحزب قرر تعيين آمر لهم بمستوى رفيع لقيادتهم عند التحرك لتجاوز صدمة تراجع العقيد الهاشمي، وهذا القائد المقترح هو العقيد عبد السلام عارف الذي كان لاسمه اعتبارًا مدويًا لما عرف من جرأة واقدام تثير الاعجاب. ويقول حازم جواد ”ابلغني بعد ذلك علي صالح السعدي كيف أن هذا النبأ أحدث ما يشبه الرجة الكهربائية بما أثاره من بهجة وفرحة وحماس كانت دليلًا على ارتفاع المعنويات وانتفاص الهمم وكيف دبّت بضباط الكتيبة روح الحمية والحماس والهمة وهم لا يكادون الا يصدقون أن أسد ومنفذ ثورة 14 تموز/ يوليو المحاصر في منزله سيكون القائد العسكري الذي سيشرف عليهم ويقود حركتهم العسكرية لخطة الحزم والحسم”. و”وبعد التبليغ الذي نقله علي صالح السعدي لضباط الكتيبة وتبليغي لعبد السلام بهذه المهمة تمت مناقشة كل التفاصيل المتعلقة بالمهمة حتى اعداد البدلة العسكرية المطلوب ان يرتديها عند البدء بالحركة”. ويرد حازم جواد على نعمة فارس مفندًا الكثير مما جاء في حديثه عن حركة 8 شباط/ فبراير 1963 وكيفية اختيار عبد السلام عارف رئيسًا للجمهورية فيقول في رده الذي نشرته صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن على حلقات قاربت العشرين ”لقد جاء تعيين عبد السلام عارف رئيسًا للجمهورية منسجمًا مع الاهداف المعلنة للحركة، وما أعلنته في بيانها الاول من أنها ليست الا حركة تصحيحية تهدف الى اعادة ثورة 14 تموز/ يوليو لمسارها الصحيح، اذ كان عبد السلام عارف هو القائد الحقيقي لثورة تموز وعلى رأس القطعات العسكرية التي نفذت الثورة وعودته للواجهة تعبيرًا لعودة الثورة لاهدافها الاساسية”.
من الوثائق المدونة التي اطلعت عليها وجدت أنه في 15 شباط/ فبراير 1963 منح المجلس الوطني لقيادة الثورة عبد السلام عارف رتبة مشير. وذلك كما جاء في البيان بناءًا على الخدمة الجليلة التي قدمها عارف للبلاد وللامة العربية في ثورة 14 تموز/ يوليو. كما تضمن البيان، الغاء المرسوم الصادر في 11 ايلول/ سبتمبر 1958 الذي أصدره عبد الكريم قاسم بإعفاء العقيد الركن عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. ومنحه رتبة مشير ركن اعتبارًا من 8 شباط/ فبراير 1963. واعتبار الفترة الواقعة بين 11 ايلول/ أيلول 1958 و8 شباط/ فبراير 1963 خدمة له لأغراض قانون خدمة الضباط وقانون التقاعد العسكري.
أحمد حسن البكر
عن انقلاب 8 شباط/ فبراير يتحدث الرئيس العراقي الاسبق أحمد حسن البكر لمجلة (الشباب) في عددها الصادر في شهر شباط/ حازم جواد هنا يرد على ما جاء تحدث به نعمة فارس فبراير 1969 فيقول ”ان نقاشًا دار قبل ما يزيد على الثلاثة اشهر من تنفيذ الثورة يتعلق بعبد السلام عارف، وقد سألني صالح مهدي عماش عن فردية عبد السلام فأجبته مؤكدًا على ذلك، وبعد ذلك اتفق الجميع على عدم الاتصال بعبد السلام عارف وعدم اخباره بالثورة حيث اصر الجميع على عدم تبليغ عبد السلام، وفعلًا لم يبلغ بساعة الصفر ولم يعلم شيئًا عن تنظيماتنا وخططنا، وكان هناك قرار بتعيينه سفيرًا في أي مكان يختاره بعد نجاح الثورة). وفي الاجتماع الخاطف الذي جرى في دار المرحوم عبد اللطيف الحديثي قال حازم جواد انه أعطى كلاما لعبد السلام عارف بتبليغه، وفعلًا لم يبلغ بساعة الصفر، ولكن أتفق على الاتصال بعبد السلام عارف بعد اعلان قيام الثورة، وفعلًا فقد تجمع الضباط صبيحة 14 رمضان وانطلقوا لينفذوا واجباتهم بدقة، وكانت أشارة البدء ظهور الطائرة التي يقودها منذر الونداوي. وبعد أن سيطرت قوى الثورة على معسكرات الرشيد والوشاش ومرسلات أبو غريب التقينا بعبد السلام عارف وكان راكبًا سيارة يقودها الاخ عدنان القصاب، وقد ركب معنا عبد السلام في الناقلة حيث اتجهنا الى دار الاذاعة، وقد اشترك عبد السلام في تنفيذ مراحل الثورة بعد أن أنجزنا جوانبها الاساسية. وفي عصر يوم الثورة جاءني علي صالح السعدي وسألني رأيي في أن يكون عبد السلام عارف رئيسًا للجمهورية، فقلت له هذا رأيك أم رأي الحزب؟ قال انه رأي القيادة، فالتزمت بالأمر رغم قناعتي بعدم صلاحية عبد السلام لتولي هذه المسؤولية الكبيرة، وجاءني السعدي ايضًا يسأل عن رأيي في موضوع تعيين طاهر يحيى رئيسًا لأركان الجيش وقد قبلت ذلك انسجامًا مع رأي الاكثرية في قيادة الحزب.
الغريب أن خلافًا كان قد نشب منذ الاسبوع الاول بين علي صالح السعدي وعبد السلام عارف، وأن خلافًا كان قد دب داخل قيادة الحزب وعمل عارف على استغلال هذا الخلاف كل الاستغلال من أجل تحقيق نزوعه الفردي بعد أن التزم حازم جواد جانب عبد السلام عارف ضد علي صالح السعدي الذي انحاز الى الحرس القومي.
في مساء ذلك اليوم التاسع من شباط/ فبراير ذهبنا حازم جواد وعلي صالح السعدي ومحسن الشيخ راضي وأنا -هاني الفكيكي– إلى مقر اللواء التاسع عشر في معسكر الرشيد حيث وجدنا بعض الضباط من أركان عهد قاسم يخضعون للاستجواب كالعقيد حسين خضر الدوري عضو محكمة الشعب والعقيد عبد المجيد عبد الجليل مدير الامن العام واللواء أحمد صالح العبدي رئيس أركان الجيش وكثيرين غيرهم، كانت القاعة الرئيسة في مقر اللواء مليئة بالضباط الذين لهم علاقة والذين لا علاقة لهم بالثورة، ومعظمهم يستجوب ويسأل ويحاسب. كانت الفوضى حقيقية وهياجًا عصبيًا والجو الثأري يخيم على أجواء القاعة الكبيرة وشتائم بعض الضباط الصغار تنهال بدون حساب بما فيها من اهانات واذلال، حاولنا ضبط الامور، وعلى ما أذكر استدعى حازم جواد بعض الضباط ومنهم أنور الحديثي وطه الشكرجي وحميد السراج وطلب اليهم تهدئة الضباط قائلًا ان لجانًا خاصة بالتحقيق ستشكل، كما طلب جردًا بأسماء المعتقلين من كبار الضباط. وقبل مغادرتنا جيء بالعميد الركن اسماعيل العارف – وزير المعارف في حكومة قاسم- وأخيه صفاء فطلب علي صالح السعدي بصوت عال الى جميع الضباط احترامهما وعدم التعرض اليهما لانهما ضيفاه الشخصيان فهما أبناء قريته تربطه بهما صلة قربى بعيدة, وطلب لهما الشاي وتحدث بأدب واحترام مع اسماعيل وطلب اليه أن يكتب تجربته مع قاسم وكل ما يعرفه عن مسألة الكويت والنفط، كما اوصى الضباط المسؤولين به وبأخيه خيرًا.
نحو وضع الحقائق على وفق تفسير المصطلحات أكاديميًا ومعجميًا
هنالك تعريفان ومفهومان للثورة، التعريف التقليدي القديم الذي وضع مع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، وهو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. وقد طور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال الذين أسموهم البروليتاريا. أما التعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً فهو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته “كالقوات المسلحة” أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية. والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم.
أما الانقلاب العسكري فهو تحرك أحد العسكريين للاستيلاء على السلطة لتحقيق طموحات وأطماع ذاتية بغية الاستفادة المادية من كرسي الحكم. تداخلت مجموعة من العوامل الداخلية والإقليمية وهيأت الظروف المناسبة للإطاحة برئيس الوزراء العميد عبد الكريم قاسم وأركان حكمه، فيرى بعض المؤرخين أن من أسبابها ما وصفوه بتخبط وفردية قاسم والأخطاء التي ارتكبها بإعدام القادة والوطنيين وأعمال العنف التي قامت بها المليشيات الشيوعية المتحالفة مع قاسم، والخلاف مع المشير عبد السلام عارف الذي كان قيد الإقامة الجبرية، علاوةً على تصريحات قاسم المتكررة عن دعمه للعميد السوري عبد الكريم النحلاوي وللعقيد موفق عصاصة، بغية القيام بانقلاب لغرض انفصال الشطر السوري الذي كان متوحداً مع مصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة.
كما أن لعبة السياسة الدولية ومصالحها كان لها دور في تشجيع أو تأييد الخصوم أو جني ثمار نزاعات الأطراف المتصارعة، حيث رأت الدول الكبرى وإسرائيل أن تصرفات عبد الكريم قاسم لا تخدم إستراتيجياتها في المنطقة التي كانت تحاول إحكام الطوق على الاتحاد السوفيتي ومنظومة حلف وارسو بعدد من الدول المؤيدة لسياساتها، فكان قاسم يطمح للتقرب من الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو حبا بالتجربة الاشتراكية وعقد معاهدة دفاع إستراتيجي مشترك معه مما سيسبب وفقا للإستراتيجية الأميركية والعالم الغربي بتقرب الاتحاد السوفيتي مما اصطلح عليه “بالتقرب من المياه الدافئة” أي مياه الخليج العربي الغني بالثروة والتقرب من الشرق الأوسط المثقل بالمشاكل والصراعات التي خلفتها دول الاستعمار القديم، فرنسا وبريطانيا، وما تسببت به من كارثتين في المنطقة أولهما شطر الولايات العثمانية العربية إلى دول مستقلة على وفق معاهدة (سايكس – بيكو)، والإسهام بتأسيس دولة “إسرائيل في فلسطين” – وبين السيطرة الأميركية المتنامية في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا بعد حرب السويس أو العدوان الثلاثي على مصر، ناهيك عن الصراع بين الحكام الموالين لهاتين الكتلتين والحكام الثوريين الجدد الذين يطمحون للتحرر والثورة وإعادة توحيد أوصال الوطن العربي.
نحو وضع الحقائق على وفق تفسير المصطلحات أكاديميًا ومعجميًا
هنالك تعريفان ومفهومان للثورة، التعريف التقليدي القديم الذي وضع مع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، وهو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. وقد طور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال الذين أسموهم البروليتاريا. أما التعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً فهو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته “كالقوات المسلحة” أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية. والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم.
أما الانقلاب العسكري فهو تحرك أحد العسكريين للاستيلاء على السلطة لتحقيق طموحات وأطماع ذاتية بغية الاستفادة المادية من كرسي الحكم. تداخلت مجموعة من العوامل الداخلية والإقليمية وهيأت الظروف المناسبة للإطاحة برئيس الوزراء العميد عبد الكريم قاسم وأركان حكمه، فيرى بعض المؤرخين أن من أسبابها ما وصفوه بتخبط وفردية قاسم والأخطاء التي ارتكبها بإعدام القادة والوطنيين وأعمال العنف التي قامت بها المليشيات الشيوعية المتحالفة مع قاسم، والخلاف مع المشير عبد السلام عارف الذي كان قيد الإقامة الجبرية، علاوةً على تصريحات قاسم المتكررة عن دعمه للعميد السوري عبد الكريم النحلاوي وللعقيد موفق عصاصة، بغية القيام بانقلاب لغرض انفصال الشطر السوري الذي كان متوحداً مع مصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة.
كما أن لعبة السياسة الدولية ومصالحها كان لها دور في تشجيع أو تأييد الخصوم أو جني ثمار نزاعات الأطراف المتصارعة، حيث رأت الدول الكبرى وإسرائيل أن تصرفات عبد الكريم قاسم لا تخدم إستراتيجياتها في المنطقة التي كانت تحاول إحكام الطوق على الاتحاد السوفيتي ومنظومة حلف وارسو بعدد من الدول المؤيدة لسياساتها، فكان قاسم يطمح للتقرب من الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو حبا بالتجربة الاشتراكية وعقد معاهدة دفاع إستراتيجي مشترك معه مما سيسبب وفقا للإستراتيجية الأميركية والعالم الغربي بتقرب الاتحاد السوفيتي مما اصطلح عليه “بالتقرب من المياه الدافئة” أي مياه الخليج العربي الغني بالثروة والتقرب من الشرق الأوسط المثقل بالمشاكل والصراعات التي خلفتها دول الاستعمار القديم، فرنسا وبريطانيا، وما تسببت به من كارثتين في المنطقة أولهما شطر الولايات العثمانية العربية إلى دول مستقلة على وفق معاهدة (سايكس – بيكو)، والإسهام بتأسيس دولة “إسرائيل في فلسطين” – وبين السيطرة الأميركية المتنامية في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا بعد حرب السويس أو العدوان الثلاثي على مصر، ناهيك عن الصراع بين الحكام الموالين لهاتين الكتلتين والحكام الثوريين الجدد الذين يطمحون للتحرر والثورة وإعادة توحيد أوصال الوطن العربي.