دراسات أسيويةدراسات قانونية

فلسفة الإدارة اليابانية الحديثة

بقلم د/ محمد بغدادي

    عندما نتحدث عن قيام حضارة من الحضارات فإننا نتحدث عن إدارة قادت لهذه الحضارة، وكما قال شيشرون الفيلسوف الروماني ما كان للحضارة الرومانية أن تقوم بدون الإدارة العامة. حيث أصبحت دولة اليابان منذ السبعينات في المركز الثاني عالمياً اقتصادياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تركت اليابان الدمار الذي أتت به الحرب العالمية الثانية؛ وهذا بفضل فحوى النتائج الأخلاقية والاجتماعية المتمثلة في الانضباط الذاتي والروح الوطنية التي يتميز بها العامل الياباني وتطبيق الجودة الشاملة، وتجسيد الثورة التكنولوجية على مستوى جميع الميادين، وبذلك أصبح اليابان قوة عظمى من ضمن الثمانية الكبار في العالم.

     كما أدت الإدارة دورًا محورياً في إحياء الحس الفردي والجماعي لدى العامل الياباني، كما أثبتت وجودها في تفعيل النشاط الحضاري، فأكسبته بريقًا وتألقًا في مدارج التطور للركب الحضاري العالمي، واتسم النظام الإداري الياباني بعدد من الصفات والمقومات الإدارية التي تجعله متفرداً عن النظم الإدارية الأخرى.

      إن طريقة تطبيق النظم والسياسات اليابانية وتفعيلها في ظل الإطار والمناخ التنظيمي والقيم الثقافية اليابانية جعلها في مقدمة الدول المتقدمة حيث يقول أحد كبار المدراء اليابانيين سابورو اوكيتا أن التقدم في اليابان سببه عامل الإدارة، لقد دفع هذا التقدم الذي حققته اليابان فخرجت من محنتها.

     ومع انتهاء نظام القطبية الثنائية في بداية التسعينيات وانتهاء الحرب الباردة؛ حققت اليابان في فترة هذه الحرب قفزات كبيرة في عالم ثورة التكنولوجيا والصناعة، ونافست بضائعها البضائع الأمريكية الأمر الذي دعا الباحثين للبحث في أسرار الإدارة اليابانية وكيفية الاستفادة منها والتعلم منها.

      وكان للجغرافيا دوراً في تقدم الإدارة لدى اليابان، فلم يمثل الإفتقار الطبيعي للدولة عائقاً تنموياً، بل كان دافعاً للإستثمار في طاقة العقول والمواهب البشرية ، وفي التركيز على استخدام مهاراتهم ومعرفتهم في زراعة الأرض، واستغلال المساحة المحدودة لديهم، حيث ساهم ذلك وبشكل مباشر في تكثيف زراعة الأرز بطريقة جماعية، البارز في السياق ذاته، أن التوجه الإنتاجي لإنتاج الأزر خلق ثقافة على مستوى آخر بارز في صلب الثقافة اليابانية، حيث وبما أنه لا يمكن للعائلة الواحدة إنتاج كفايتها من الأرز لوحدها، الأمر الذي يتحتم عليها التكاتف مع العوائل الأخرى لإنتاج ما يكفيهم جميعا وإلى وجود فائض احياناً([1]).

     ولا شك أن للإدارة اليابانية الدور الأكبر في نهضة اليابان في وقت قياسي، فهذا البلد الذي فتَنَ وأبهر الجميع في سنوات قليلة، بعد انتكاسته الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، وإبادة عدد كبير من شعبه ، لجأ إلى التصنيع والسلام معاً، وركن إليه بعد الأحداث والكوارث الطبيعية التي كانت ولا زالت تفتك به، كالزلزال الذي ولّد أمواج تسونامي مؤخراَ، التي أحدثت ضرراً هائلا بمفاعل مدينة فوكوشيما ، ناهيك عن الوفيات والدمار الهائل للبنية التحتية هناك.

     مما سبق تولّدت لدى اليابانيين حضارة الإنتاج، وهذه الحضارة زٌرعت في صلب الثقافة اليابانية، وغرست أولى بذورها في أولى مؤسسات التكوين الاجتماعي الأسرة، الأمر الذي يجعلها قابلة للديمومة والإنتشار في صلب الثقافة الإجتماعية عموماً، ويجعلها في ذات الوقت تشكل أول قاعدة استراتيجية إقتصادية للإقتصاد الياباني ومؤسساته، ولو ألقينا نظرة على طبيعة المكون الجغرافي لليابان (التضاريس، الطقس، المساحة) مقارنة بجيرانها ومعظم الدول الاوروبية الكبرى والولايات المتحدة الامريكية والدول الأخرى كالهند واندونيسيا والبرازيل.

     كما يعتبر المؤرخون أن تاريخ اليابان المعاصر يبدأ مع عصر ميجي وهو العهد الذي يلي النظام الإقطاعي للساموراي، حيث وضعت فيه الأسس الحقيقية لنهضة اليابان في جميع المجالات، وفي هذا العصر، حيث انتقلت العاصمة اليابانية من كيوتو إلى طوكيو، كما ألغي فيه النظام الطبقي، وانصرفت الدولة كلياً إلى دراسة الحضارة الغربية وتبنيها. وقام ميجي بإحداث تغييرات جوهرية في الإدارة اليابانية عن طريق إصلاح التعليم والإدارة.

       ويلي عصر ميجي ثلاثة عصور:عصر تايشو عام 1912 م وعصر شووا عام 1926 م ، وعهد الإمبراطور الحالي المسمى بعصر هيسي1989 م. وتخللت هذه الفترة تورط اليابان في حروب مدمرة مع الصين وروسيا وكوريا، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فالثانية والتي انتهت باستسلام اليابان في عام 1945 م  بعد قنبلة هيروشيما وناجازاكي الذرية ثم أصبحت اليابان من بعدها دولة صناعية مسالمة.

ومن أسباب تقدم اليابان إدارياً ما يلي:

   أن الإنسان الياباني تمكن من نقل ما لدى الغرب من علوم مختلفة ونجح في تقليدها وتطبيقها بل أبدع في تطويرها إلى الأحسن. أن الياباني يعتبر الراحة والنوم شيء معيب؛ لذلك تجده في غاية النشاط وقت عمله، وتجد أن إجازته السنوية شبه معدومة، بالإضافة إلى عدم وجود سن للتقاعد بالنسبة له. أن الياباني يجيد الادخار فهو شعب يدخر من 20 % إلى 40 % من دخله. أن الياباني يتقن ما يصنع ويقوم به.5 أن الياباني لديه شعور بالرقابة الذاتية فلا يحتال أو يتخاذل لأجل توفير بعض المادة. يحب الياباني العمل الجماعي وعدم الظهور أو التسلق على الآخرين.

      ومن جهته أشار ياماشيما من جامعة كيوتو وهو أحد أشهر الأخصائيين اليابانيين في الإدارة عندما سئل عن سر نجاح التجربة اليابانية فأجاب أن الاعتقاد السائد هو أن اليابانيين يعملون أكثر، ولكنهم في الحقيقة يعملون أفضل، أنهم كغيرهم يعملون 43 ساعة في الأسبوع أي 2000 ساعة في العام بينما يعمل الكوريون 3000 ساعة في العام بزيادة الثلث، وليست هناك معجزات وخوارق، لأن العامل في اليابان يتفوق في تأهيله الثقافي والمهني على زميله في أوربا الغربية والولايات المتحدة للأمريكية.

        وذكر أيضاً ياماشيما أن الجامعة والمدرسة هما القوة الضاربة لليابان وأما الذخيرة فهي الانضباط الذاتي، فلا حاجة لتعيين جيش من المراقبين والمفتشين يقضي نصف أوقاتهم في حراسة النصف الآخر فمن أسرار النجاح للإدارة اليابانية التزامهم بسلوك الانضباط الذاتي، هذا سواء كان على مستوى الفرد، والجماعة، والمؤسسة، والمجتمع بأكمله.

      ويكمن سر نجاح اليابان أيضاً في عدة عوامل منها أيضاً: طبيعة الفرد الياباني، وتقديس العلم والعمل، والتخطيط أي تخطيط الدولة بمعية المؤسسات الاقتصادية الكبرى فكل سياسة تكون في خدمة القوة الصناعية، فضلاً عن التوجيه والمساعدات حيث تقدم الدولة توجيهات للاستثمار داخل وخارج البلاد، وتقوم بالإشهار بمعنى إنتاج النوعية الجديدة وترويجها للسيطرة على الأسواق، وقوة الاستثمارات في الخارج و إقامة مصانع في كل أرجاء العالم وتجنب الحواجز الجمركية.

       وكان للتقسيمات الإدارية دوراً في نجاح اليابان فهي تتكون من 47 مقاطعة، وكل مقاطعة يشرف عليها بيروقراطي محافظ، ويتم انتخابه وفقاً لنظام محايد بعيداً عن الانتماءات السياسية والحزبية، وتنقسم كل محافظة إلى مدن وبلدات وقرى. وعلى الرغم من ذلك فإن اليابان تقوم من فترة لأخرى بعملية إعادة التنظيم الإداري عن طريق دمج العديد من المدن والبلدات والقرى مع بعضها البعض. وهذه العملية سوف تقلل من عدد ما سمى بشبه محافظة ، ومن ثم يتم تخفض التكاليف الإدارية.

     وكان للسلطة المركزية التي يتولاها الإمبراطور الياباني دوراً في التطوير الإداري عندما بدأ عملية التحديث المخططة والتي جنت ثمارها في سنوات قليلة وانتعش بفضلها اقتصاد اليابان وصار لها جيش وأسطول قويان، وذلك من خلال الرمز الذي يتعلمه اليابانيون من وجود الامبراطور على رأس السلطة على الرغم من قلة صلاحياته وسلطاته.

([1]) ميري هوايت ، التربية والتحدي: التجربة اليابانية ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1991 ،ص 30 .

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى