دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

قراءة في إشكالية الهوية الوطنية العراقية

الأصول التاريخية لإشكالية الهوية في العراق

         تطرح آراء و وجهات نظر مختلفة ومتعارضة بصدد طبيعة وأصل إشكالية الهوية في العراق، فهناك من يعدها إشكالية بنيوية ظهرت مع تأسيس الدولة العراقية، ويعدها آخرون إشكالية مصطنعة ظهرت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق كأحد إفرازات هذه الاحتلال. ونسعى في هذا المبحث إلى عرض في إشكالية الهوية في العراق وفقا لوجهات النظر المختلفة هذه.

     يعتقد أحد الباحثين بأن من المفارقات الكبرى للتاريخ العراقي الحديث تحول الهوية الوطنية إلى إشكالية مثيرة للجدل مع كل ما يرافق ذلك بالضرورة من شكوك بما يفترض أن يكون احد أكثر واشد الأمور يقينا، وتجد هذه المفارقة تعبيرها الأوضح في تحول المرجعية الروحية المتجسدة تاريخياً وثقافيا في الأفكار والقيم والمشاعر المتعلقة بقضايا الانتماء الوطني والهوية والتاريخ إلى مصادر تفرقة واختلاف.ويقوم الواقع الفعلي لهذه المفارقة في الظروف الراهنة على أن الدولة الأكثر عراقة في التاريخ المدني والحضاري تقف أمام إشكاليات تشير إلى ضعفها الشامل وخللها البنيوي التام بحيث تضع المرء أمام إمكانية الاعتقاد بوقوفه أمام كيان يظهر للمرة الأولى على حلبة التاريخ، بمعنى أن العراق المعاصر يعاني من خلل بنيوي و أزمة شاملة وخواء هائل في المكونات الجوهرية لوجوده السياسي الاجتماعي بما يعني إمكانية الحكم بأنه (كيان هش). وتركيبة مصطنعة وما شابه ذلك. وحسب رأي (ميثم الجنابي) فإن هذا اتهام أكثر مما هو تصوير نقدي للواقع. وهذا اغفال للواقع الحقيقي الذي تعانها العراق من اشكالية في هويتها الوطنية.  ويعتقد باحث آخر بأنه لعل من أهم الإشكاليات التي لم تستطيع تجربتنا الحديثة حلها هي إشكالية الهوية السياسية للدولة العراقية، وهي إشكالية بنيوية في العمق أكثر من كونها إشكالية مصطلح، فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام (1921م) والإشارة إلى الذات الوطنية على مستوى الهوية تشكل أزمة على مستوى الخطاب والممارسة السياسية لدى اغلب المكونات؟ العراقية، وما ذاك إلا انعكاس للفشل في التعاطي مع استحقاق قيام الدولة الوطنية، كواقع جديد على الأرض، ذلك الفشل البنيوي الذي أضر بهوية الدولة ونظامها السياسي وبرامجها الوطنية وبالتالي فقاد إلى كارثة.

     ويعتقد (برهان غليون) بأن تفكك الدولة العثمانية، فجر إحدى أعظم أزمات الهوية التي عرفها الوطن العربي في تاريخه كله وأكثرها حدة وديمومة، وتكفي من أجل إدراك ذلك الإشارة إلى أهمية الموضوعات التي سوف تطرح للنقاش في المجتمعات العربية وفي مقدمتها تحديد طبيعة الكيانات السياسية التي سوف يسفر عنها زوال السلطنة ومكانة اللغة وقدراتها و وضع التراث والعلاقة التي تربط بين اللغة والتراث العربيين وهذه الكيانات ،والعلاقة بين الهوية المحلية القطرية والهوية العربية الإسلامية الشاملة. وليس الاستمرار في طرح هذه الموضوعات اليوم، وهي لا تزال محاور النقاش الأساسية في الأدبيات السياسية العربية المعاصرة، إلا تعبير عن الطبيعة الملتبسة والازدواجية التي لا تزال تسمى أسلوب تمثل الهوية الوطنية في الوطن العربي حتى يومنا هذا.وتعد نشأة الدولة العراقية إحدى إفرازات تفكك الإمبراطورية العثمانية الإسلامية. ومن ثم فقد عانت هذه الدولة الحديثة من كل الإشكاليات والأزمات التي أفرزتها عمليتي لتفكك الإمبراطورية الحديثة ونشوء الدولة العربية الحديثة، كما هو حال باقي الدول الأخرى الناشئة في القرن العشرين. وعلى الرغم من محاولة إخفاء هذه الإشكاليات والتستر عليها، إلا أن الأزمات السياسية والحروب التي تعرضت لها الدولة العراقية الحديثة أعادت إلى السطح وكشفت عن كل هذه الأزمات والمشاكل البنيوية ومنها إشكالية الهوية الوطنية العراقية. ويقول (ليورا لوكيز) بأن الأحداث التي جرت بين عامي (1991- 1992) في منطقة الخليج ركزت أنظار العالم مرة أخرى على العراق وخلقت تساؤلات عديدة حول طبيعة النظام العراقي وخاصة طبيعة علاقاته والعوامل التي تحرك السياسة العراقية بشكل عام في أعقاب انتهاء حرب الخليج. حيث تركزت التساؤلات حول طبيعة وأسباب الحوادث التي جرت في أقاليم شمال العراق وجنوبه، وباتت تساؤلات عديدة تطرح ومن بينها التساؤل عن انتفاضة الكُرد في الشمال والشيعة في الجنوب وهل كانت مجرد رد فعل على سياسات النظام أم أن هناك خللا بنيوياً أساسيا في التركيبة الداخلية للعراق يحول دون تحقيق اندماج اجتماعي متكامل لشعب العراق.

    إن مجرد تشخيص هذه المشاكل و وضعها في إطار بنيوي أدى إلى استقطاب ردود فعل قوية من لدن هؤلاء الذين يؤمنون بحصول تقدم مضطرد في عملية اندماج جميع أطياف الشعب العراقي على الرغم من الاضطرابات التي شهد تها الحياة السياسية في العراق منذ تشكيل الدولة فيه.ولا يعني الاعتراف بوجود خلل بنيوي بالنسبة لهؤلاء إلا سد الطريق أمام إيجاد حلول للمشاكل العالقة في العراق، وهم يعتقدون أن التركيز على جذور المشاكل ليس إلا نظرة ذات طبيعة رجعية، لذلك فأنهم يصرون على التمسك بالأفكار العامة المتعلقة بعملية بناء الدولة الوطنية العراقية، وهناك من يرى بان أي حديث حول موضوع الإشكالية البنيوية للدولة العراقية والمتمثل في عدم اندماجها الوطني، والحديث عن الفروقات والانقسامات بين مكونات سكان العراق هو إعلان عن موقف سياسي، ومن ثم فإنهم يركزون فقط على جانب التماسك والتعايش بين مكونات الشعب العراقي. ولكن التركيز على الفروقات والانقسامات لا يعني بالضرورة بأن هذه الفروقات أزلية، لأن الهويات المتداخلة والولاءات المتغيرة تتعايش مع بعضها البعض، والجماعات البشرية تتغير في بعض الأحيان بشكل راديكالي، ولكن لا تحصل هذه التغيرات في ليلة وضحاها، والولاءات السابقة تبقى تأثيراتها حتى ظهور ولادات جديدة بفترة طويلة من  الزمن، لأن الولاءات جزء من شعور عام وعقائد موروثة ودوافع تحدد توجهات وتحركات المجموعات البشرية.

     أن ولادة الدولة تقرن عادة بسؤال مركزي تتوجب الإجابة عليه وهو: ما هي هوية هذه الدولة الوليدة؟ وغالباً ما أدى حسم البعض للإجابة- بعدما تهيأت لهم السبل لذلك- إلى النأي ببلدانهم عن الأزمات، وقادوها إلى الثبات والاستقرار، ويبدو أن مؤسسي الدولة العراقية الحديثة ابتداء من عام (1921م) قد واجهوا أزمة هوية حقيقية، لأن العراق حسب رأي بعضهم لم يكن وحتى مطلع القرن العشرين بلداً موحداً ولا شعباً متجانساً ولا مجتمعاً متكاملاً ينضوي تحت هوية وطنية واحدة، ففي الوقت الذي خضع فيه الحضر إلى الشريعة الإسلامية، كان الريفيون يخضعون عموماً إلى القيم والأعراف والعصبيات القبلية المصبوغة بصبغة دينية، وخضعت فئة الأفندية إلى الثقافة التركية، ولم تشغل القومية مركز استقطاب لمشاعرهم القومية. وكان موضوع الروابط والفروقات من المواضيع الأساسية، في أغلب الأبحاث التي نشرت حول العراق خلال العقود الثلاثة الماضية . إلا أن حقيقة وطبيعة هذه الفروقات وكذلك تعبيراتها السياسية، كانت تعطى في معظم الأحيان تفسيرات مختلفة. لقد كان لهذا الانقسام والتشظي دوره الكبير في الحيلولة دون نجاح الدولة العراقية الحديثة في بدايات تأسيسها في بناء روح المواطنة والشعور بالهوية الواحدة. ولعل خير ما يعبر عن ذلك المذكرة التي كتبتها الملك فيصل الأول في آذار (1932) قبل وفاته بأشهر قليلة وبعد أن خبر الوضع العراقي عن كثب ولعب دوراً أساسيا فيه مدة اثنتي عشر عاماً، وضمنها خلاصة تجاربه وتقييمه للوضع آنذاك وعرضها في زمني الوزارة السعيدية الثانية على ساسة العراق البارزين الذين عاصروه وتعاونوا معه أو عارضوه، وجاء في نص المذكرة فيما يتعلق بموضوع الهوية:

  1. إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها، أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها.
  2. ففي العراق افكار ومنازع متباينة جداً تستوجب رد الفعل (الشبان المتجددون بما فيهم رجال الحكومة، المتعصبون، السنة، الشيعة، الاكراد، الاقليات غير المسلحة، العشائر، الشيوخ، السواد الاعظم الجاهل المستعد لقبول كل فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة).

العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على انقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً اكثريته جاهلة بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليس من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة إلا أن الاضطهاد التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، و فتحت خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين. إضافة إلى أقليات مسيحية، وكتل كبيرة غيرها من العشائر، كردية وشيعية وسنية… تجاه هذه الكتل البشرية، المختلفة المطامع المشارب، المملوءة بالدسائس، حكومة مشكلة من شبان مندفعين، أكثرهم متهمون بأنهم سنيون أو غير متدينين أو أنهم عرب. كل هذه الاختلافات وكل هذه المطامع تشتبك في هذا الصعيد أو تصطدم، وتعكر صفو البلاد و سكونها فإذا لم نعالج هذه العوامل أجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معاً ردحاً من الزمن حتى تزول هذه الفوارق وتتكون الوطنية الصادقة وتحل محل التعصب المذهبي والديني.

ويقول الملك فيصل أيضاً واصفا شعوره إزاء هذا الوضع “وقلبي ملآن أسى، إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتل بشرية، خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء ميالون للفوضى مستعدون دائما للانتفاض على أية حكومة كانت، فنحن نرى، والحالة هذه، أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لا تمام هذا التكوين وهذا التشكيل”.

لقد أدرك الملك فيصل الأول أنه لم يكن يوجد في العراق شعب عراقي بالمعنى الصحيح ،وأن سكان العراق كانوا وقتئذ مؤلفين من فئات متعددة متنافرة متباينة في طرق تفكيرها ومصالحها  ولاءاتها الدينية والمذهبية والعشائرية والإقليمية والعنصرية، وتتفاوت فيما بينها تفاوتاً كبيراً في مستوياتها الحضارية، وان مهمة الملك الأولى هي توجد هذا التشتت وصهره في وحدة وطنية وتكوين شعب موحد منه يصلح أن يكون أساسا قوي لبناء دولة عصرية. وكانت خطته لتحقيق هذا الهدف تتألف من اثنتي عشرة فقرة تتفاوت في درجة أهميتها.ويمكن من جهة أخرى أن نفسر هذا النص بأنه تعبير عن الإحباط الذي اعتمل في نفس الملك فيصل الأول جراء فشل مشروعه لبناء هوية وطنية عراقية حديثة واعتقاده أيضاً بان فكرة التماسك والتجانس في العراق هي محض خرافة وغير واقعية. ويؤيد هذه الفكرة العديد من الكتابات والدراسات والبحوث حول العراق الحديث، ومن أبرز الآراء في هذه الشأن آراء (على الوردي) الذي يقول بأن أهل العراق في ذلك الحين(قبل نشوء الدولة العراقية) لم يعرفوا شيئاً من المفاهيم السياسية الحديثة مثل الوطنية، بل كان جل ما يشغل بالهم الإحساس الديني المتمثل بقضايا التعصب المذهبي. وبذلك يمكن القول بأن المذهبية والطائفية السياسية والولاء للهويات الفرعية دون الوطنية ليست شيئاً مستجداً أو مستحدثا في العراق كما تدعي بعض الآراء القائلة بأنها مسائل جاءت مع الاحتلال الأمريكي أو إنها من إفرازات الهيمنة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد. فهذا في واقع الأمر أرث تاريخي لم تستطيع الدولة العراقية تجاوزه لبناء هوية وطنية حديثة تستوعب كافة الهويات الاثنية والدينية والطائفية والقبلية القديمة والسابقة بعهد الدولة الوطنية الحديثة التي، أوضحنا في الفصل الأول من هذا البحث أنها تتطلب نوعاً جديدا من حيث الشكل والمحتوي من الهوية والانتماء.ومن المنطقي القول بان من غير الممكن أن نطالب الناس وبالانتماء والولاء إلى شيء غير موجود أساسا، فالانتماء قبل نشوء الدولة العراقية إلى الهويات ما دون الوطنية (القبلية، المذهبية، المناطقية) والهويات ما فوق الوطنية (الدينية- الإسلامية) شيء طبيعي حتى أن ذلك لم يمثل إشكالية فكرية نظرية أو عملية. ولم تنشأ إشكالية الهوية الوطنية العراقية في واقع الأمر إلا بعد نشأة الدولة العراقية الحديثة وهي النشأة التي فرضت ضرورة وجود هوية وطنية لمكونها البشري والانتماء لها. لذلك ترتبط إشكالية الهوية الوطنية العراقية كظاهرة حديثة بمشروع بناء الدولة مما يجعل كل حديث عن إشكالية الهوية قبل نشوء الدولة العراقية غير ذي صلة بموضوع إشكالية الهوية الوطنية العراقية ألتي هي إشكالية حديثة،  ومن هذا المنطلق فان العراق من الدول التي نشأت قبل نشوء أو وجود الأمة فيها مما يجعل عملية بناء الأمة هي المشروع الأول للدولة العرقية وليس العكس كما هو الحال بالنسبة لبعض الأمم والدول الأخرى التي قامت فيها الأمة بإنشاء الدولة ولكن مشروع بناء الدولة العراقية والأمة العراقية وهويتها ظل مشروعاً سياسياً لم يتم انجازه على ما يبدو إلى يومنا هذا بل انه واجه العديد من العقبات وتعثر في العديد من المنعطفات التاريخية.وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بأن غياب الهوية الوطنية العراقية و وجود هويات فرعية ما فوق أو ما دون الهوية الوطنية قبل نشوء الدولة العراقية شيء طبيعي ولا صلة مباشرة له بعدم وجود هذه الهوية الوطنية بعد مرور عقود على نشأة الدولة، ومن ثم فإن هذا الغياب السابق لا يبرر الوجود الراهن لإشكالية الهوية الوطنية العراقية.ومن ناحية أخرى فان وجود الإشكالية الراهنة للهوية الوطنية العراقية لا يعني استحالة تجاوز هذه الإشكالية وعدم وجود احتمالية أو إمكانية الإنشاء هذه الهوية إذا توفرت الظروف والشروط اللازمة لذلك.

 العراق والبحث عن الهوية الوطنية

قليلة هي الدول التي تقوم على وجود مجتمع أحادي الدين والعرق واللغة، فمعظم دول العالم تضم أقليات كبيرة تتميز عن الأكثرية بأصولها أو بثقافتها أو بديانتها و في أكثر من ثلثي دول العالم أقلية من هذا النوع تضم (20 بالمائة) من السكان أو أكثر([563]). وقد ورثت الدول الحديثة وضعاً كانت فيه الهوية الفرعية عنصراً مهما في ولاء الفرد، يكاد يكون طاغيا.وكان تصنيف سكان العراق خلال مرحلة تشكيل الدولة مبنياً على أساس التقسيم الفعلي الموجود على ارض الواقع بين المجتمعات المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات تأثرت بعملية بناء الدولة إلا أن التقسيمات هذه حافظت على أهميتها في مجرى العلاقات الاجتماعية والسياسية في الحقب اللاحقة.ويعتقد (برهان غليون) أن أزمة الهوية تمد جذورها في تربة المفهوم الوطني الذي صاغته وعاشت عليه الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي منذ نشوئها. فقد حرصت هذه الدولة منذ لحظة ولادتها على أن تنتزع لنفسها هوية خاصة، تميزها عن الإرث الحضاري الإسلامي التقليدي الذي يشكل استمراره وإحياؤه تحدياً دائما لها ونفيا قائما لشرعيتها. لقد كان بناء شخصية متميزة هو شرط بقاء هذه الدولة ومبرر وجودها الأخلاقي والعقائدي ككيان حقوقي سياسي مستقل، ويؤكد (غليون) بأن هذه الدولة الحديثة نشأت على أساس تجزئة جماعة لا تزال تتمتع بشعور عميق بوحدتها وانتمائها العميق لمدنية، وثقافة وأمة واحدة، وأصبح استمرارها مرتبطا بإلغاء وجود هذه الجماعة أو خلق التمايزات الوطنية الضرورية فيها، وفي هذه السياق ثم البحث في كل دولة عربية، مهما كانت درجة إصطناعيته، عن الأصول التاريخية ما قبل الإسلامية للثقافة المحلية، وتم أيضاً إبراز حركة التأكيد على الهويات المحلية هذه على أنها مظهر من مظاهر الاستقلال عن الماضي العتيق والمتخلف والدين معاً وكجزء من عملية الاندراج في الحضارة الحديثة العقلانية والعلمانية والوطنية على حد سواء.

وفي سياق البحث في مدى نجاح الدولة العراقية في إنجاز هذه المهمة يمكن القول بأن إشكالية الهوية العراقية إحدى الإشكاليات القديمة التي ورثتها الدولة العراقية عند ولادتها وعاشت معها طوال العقود الثمانية الماضية دون أن تتمكن من حلها أو احتوائها أو التعامل معها بابتكار واقتدار. لذلك فقد تفاقمت واتسعت هذه الإشكالية حتى بلغت ذروتها في العقدين الأخيرين بل واندمجت أيضاً مع الإشكاليتين الأخريين وهي الاندماج والوطني والشرعية.وهكذا تنازعت المواطن العراقي، وكما هي الحال مع مواطني الدول العربية الأخرى في مسألة الهوية ثلاث هويات على الأقل متنافسة، إن لم تكن متناقضة، الوطنية والقومية والدينية. وكان من شأن كل اختيار ضمني أو صريح لإحدى هذه الهويات أن يُحدث مشكلات داخلية أو إقليمية، حيث اصطدمت الهوية القطرية الوطنية بمشاعر قطاع كبير من المواطنين الذي يرنون إلى التواصل والالتحام في جامعة سياسية حضارية أوسع، مثل الأمة  العربية أو الأمة الإسلامية. واصطدمت الهوية القومية العربية بمشاعر التكوينات الاثنيته والقومية غير العربية في داخل الدولة  العراقية خاصة والعربية عامة (الاكراد، التركمان). مثلما اصطدمت أيضاً بدول عربية أخرى، وبخاصة من جيرانها، كانت قد قررت صراحة أو ضمنا أن تكون وطنيتها القطرية اختياراً نهائيا لهويتها. واصطدمت الهوية الدينية بمشاعر غير المسلمين فضلا عن اصطدامها بالولاءات المذهبية والطائفية داخل الدين الواحد كالسنة والشيعة في الإسلام. ومن ثم فقد كانت تداعيات الاختيار بين الهويات المتنافسة، ولغة الخطاب السياسي والممارسة الفعلية المصاحبة لكل اختيار هي مشكلة للدولة العراقية منذ ولادتها.

وبالرغم من كون العراق دولة تتسم بالتنوع والتعدد السياسي والاجتماعي والثقافي والجغرافي إلا أنها لم تكن قادرة على تبني فكرة بناء الهوية الوطنية عن طريق تبني التعددية الثقافية التي لم تجد قبولا لدى النخب السياسية التي قادت عملية إنشاء العراق الحديث. ويعني ذلك أن مشروع بناء الهوية الوطنية العراقية لم يتجه إلى مزج التقاليد المحلية للمجموعات الثقافية العراقية وكما حددتها الايدولوجيا القومية والدينية السياسية. لقد تجلى طرح الهوية في العراق منذ قيام الدولة وينعكس في أفعالها وحراكها، وقد تراوح التعبير عن الذات العراقية الحديثة بين ثلاثة اتجاهات تتنازع تعريف الذات والتأسيس على هذا التعريف، وهي اتجاه الدولة الوطنية واتجاه الدولة الدينية واتجاه الدولة القومية. وقد تلبست كافة هذه الاتجاهات التعريفية بمناهج بنيوية حملت الدولة بالقوة على فهمها دونما أدنى مرونة، والأكثر تعقيداً هنا تداخل هذه الاتجاهات في تكوين وتشكيل الهوية لدى النخب المجتمعة والسياسية والجمهور معا، وهو تداخل على مستوى الفهم والوظيفة السياسية، يضاف إلى ذلك مديات التخزين الثقافي والتاريخي الذي حاولت بعض الأطراف توظيفه لشد هوية الدولة الجديدة إلى نموذج الدولة الدينية. ونلاحظ هنا أن مأزق هوية الدولة العراقية تشاطره مفاهيم ومقولات ووظائف مفاهيمية وبنيوية من قبيل: الوطن العربي والأمة العربية والدولة القومية، والوطن الإسلامي والأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بالإضافة إلى الأممية والدولة الاشتراكية، في خلط مفاهيمي وبرامجي أفقد معه هوية الدولة في الإنشاء والتشكل والدور والوظيفة، ومعلوم أن أي فشل في تأكيد هوية الدولة و وضوح طبيعتها يضر لا محالة ببنيتها وفعلها الخارجي ومثلما يفقدها وضوح الانتماء فإنه يفقدها وضوح ورسوخ التأسيس والبقاء وفي هذه الحالة ستنشط الذات الوطنية وتفقد بوصلة الاتجاه.

 تحديات الهوية الوطنية العراقية

تواجه الهوية العراقية تحديات كبيرة متعددة، ولكن أبرز هذه التحديات هما التحديان القومي والطائفي اللذين أعاقا بلورة و صياغة هوية وطنية عراقية، و سنبحث في هذا المطلب في هذين التحديين الأساسيين.

أولا/ هوية العراق بين الوطنية والقومية

العراق دولة تتعدد فيها المكونات القومية ولكن ليس لكل هذه المكونات مشاريع قومية سياسية بالمعنى المعروف الذي تسعى فيه الجماعة القومية لبناء كيان سياسي قومي مستقل. ولكن يوجد أيضاً في العراق على الأقل مشروعان قوميان بارزان هما المشروع القومي العربي والمشروع القومي الكُردي. ومن ثم فان العراق يعاني من تبعات هذين المشروعين والتي تتجلى في التعارض والتضارب بين الوطنية العراقية وكل من القوميتين العربية والكردية. حيث إن القومية في العراق أوسع من الوطنية، لأن لكلتا القوميتين تطلعات أوسع تتجاوز حدود الدولة العراقية الحديثة، إذ يتطلع العرب إلى الوطن العربي والكُرد إلى كُردستان الكبرى.ويتوقف تأثير هذين التوجهين القوميين في بناء هوية عراقية على قوة كل واحد منهما من الناحية السياسية والإيديولوجية والموقف الإقليمي والدولي المساند أو المعارض له. والحركة القومية العربية في العراق وإن لم تسبق الحركة القومية الكردية في العراق من الناحية التاريخية، إلا أنها كانت أقوى ونضجت بصورة واضحة أكثر من الحركة القومية الكُردية في العراق، فضلا عن حصولها على دعم اكثر من الحركة القومية الكردية لتساهم بدور أكبر في بناء الدولة العراقية الحديثة، وبذلك فقد تمكنت من فرض تصورها للهوية العراقية بوصفها هوية عربية([569]). ولكنها واجهت أو اصطدمت منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى يومنا هذا بمقاومة عنيفة داخلية (طائفية قبلية) أو خارجية بالنسبة للقومية العربية في العراق(كردية، تركمانية، آشورية)، أو مقاومة عراقية، من تيارات سياسية عراقية ذات توجهات وطنية عراقية حديثة.

ويؤكد ذلك احد الباحثين عندما يقول بأن ” الفكر القومي العربي بصورة عامة وفي العراق بصورة خاصة، ومنذ وقت مبكر وتحديداً منذ البدايات الأولى لنشأة الدول في العالم العربي، يعاني من مشكلة حقيقية اقرب إلى الوصف بالمعضلة المزمنة التي لم ينجح في حلها أو السيطرة عليها إلى يومنا هذا وهي مشكلة التجزئة والوحدة، أي مشكلة تحديد العلاقة بين الساحتين القطرية والقومية”. وتثير هذه المعضلة تساؤلات عن الوجهة التي يتخذها الولاء العربي؟ هل هي لدولته المحلية الموصوفة في أدبيات الفكر القومي العربي بالدولة القطرية، والتجزئة الواقعة؟ أم لدولة الوحدة العربية المأمولة مستقبلاً؟ وأيهما لها الأولوية؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما هو قطري وما هو قومي؟ وحسب رأي القوميين العربي، فان الدائرة التي تمثلها الدولة القطرية العربية ككيان سياسي لم تكن متطابقة مع الدائرة الحضارية والثقافية للقومية والأمة العربية. فقد قامت الدولة القطرية معتمدة على أسس إقليمية أو قبلية أو دينية أو طائفية مما جعل منها دولة مناطق أو قبائل أو طوائف في واقع الأمر ليست مجرد جهاز إداري يدير شؤون جماعة من الناس، بل يلزمها مبررات تاريخية واجتماعية وثقافية من منظور المفهوم القومي الذي يبرر ظهور الدولة الوطنية في أوربا. والدولة الطبيعية في المفهوم القومي العربي هي الدولة- الأمة أو الدولة القومية- حيث يرى القوميون العرب أن الدولة الطبيعية هي الدولة التي تجمع الأمة العربية بكاملها تحت لوائها وبغيابها تكون الدولة القائمة أي (الدولة القطرية) اصطناعية ومؤقتة. وبعبارة أخرى أن الفكر القومي العربي بصورة عامة، والفكر القومي العربي في العراق بصورة خاصة، يقوم على دعامتين أساسيتين هما، الاعتقاد بأن العرب أمة واحدة، وبأن من الضروري أن تكون لهذه الأمة دولة واحدة، وهو ما يعبر عنه شعار (أمة عربية واحدة). ولهذه الأمة هوية قومية متحدة كانت بوتقة الانصهار لعوامل اللغة والثقافة والتاريخ، وترفض هذه العقيدة وجود دول  تقتصر على أقاليم عربية معينة، مع ذلك، وبعد أن نالت دول عربية استقلالها، وجد السؤال عن الهويات القطرية تعبيره السياسي.

ويقصد بالهوية العربية في الفكر القومي العربي “وجود هوية عربية على مدى التاريخ، وهذه الهوية هي نتيجة تداخل عناصر الخصائص المتميزة المشتركة بين العرب، والقومية العربية تجعل من هذه الهوية المتصورة المبرر الجوهري للوحدة العربية ومنطقها باعتبارها التعبير السياسي عن وجود الأمة العربية، فعلى أساس اللغة العربية والثقافة العربية المتحدة بصفة أساسية تحدد الهوية العربية”.

ويقول احد الباحثين عن ذلك: ” وان هدف توحيد العرب في دولة واحدة هو قوة دافعة للقومية العربية، وتشكل مسائل الوحدة العربية واستدلالها وفوائدها للعرب أوجه العجز التي تواجهها، القسم الأكبر من هذه الايدولوجيا، وتولي الوحدة العربية القيمة الأكبر، ويعتبرا لفكر القومي العربي الوحدة العربية ضرورة يتوجب تحقيقها إذا كان للأمة العربية أن تحافظ على هويتها القومية”([574]).ويتطلب تحقيق الوحدة العربية القضاء على الدول العربية القطرية، وخلق دولة جديدة. ويعرف (سعدون حمادي).  الوحدة بأنها”بكل بساطة هي اندماج دولتين أو أكثر بدولة واحدة ذات كيان دولي واحد و ذات سيادة كاملة، فالدولتان أو الدول الداخلية في الوحدة يزول كيانها الدولي، ومن اندماجها يظهر كيان دولي جديد، أي دولة جديدة، فالدولتان أو الدول التي تتحد فيما بينها تذوب في دولة جديدة لها أرض وشعب وحكومة وسيادة تماماً كما كان الحال في كل دولة من الدول التي دخلت في الوحدة”. ويعني ذلك أن الوحدة في المنظور القومي العربي مسألة تتعلق بكيان الدولة التي يقتضي تحقيقها زوال كيان الدولتين المتحدتين أو الدول المتحدة وقيام دولة جديدة تحل محل الكيانات التي زالت. ويؤكد (غانم محمد صالح) هذه الفكرة حين يقول “رغم الصعوبة التي تكتنف عملية تحديد مفهوم الوحدة السياسية إلا انه يمكن القول إن هذا المصطلح يعني عملية تغيير في حالة النظام من أجل مستوى أعلى من الاندماج، هو بتعبير أدق تعبير عن صورة من صور الانصهار السياسي الذي يؤدي إلى القضاء على تعدد الوحدات السياسية لتحل محلها وحدة واحدة ذات وجود وكيان واحد في النطاق الداخلي والنطاق الدولي”.

وبذلك يمكن القول إن مفهوم الوحدة العربية يعني “التطلع نحو إقامة كيان عربي واحد يقضي على أسباب التفرقة ويؤمن للعرب جميعاً سلامتهم ويحقق لهم كرامتهم التي ينشدونها، وهي بعبارة أخرى عملية خلق مجتمع جديد تنعدم فيه الحواجز التي اصطنعها الاستعمار الغربي”. ويتعارض هذا المفهوم بشدة مع مفهوم الوطنية القائمة على الولاء للكيانات السياسية (الدول) الحديثة النشأة، ومن ثم فانه يقف بالضد من تبلور أية هوية وطنية قطرية. ولكن (برهان غليون) يعتقد أن “ترسيخ الحدود السياسية- والإدارية الذي كرسته أو ساهمت فيه السيطرة الاستعمارية، لن يتأخر عن فرض التصور القطري كواقع وكمصدر استراتيجياً ممكنة للتعامل بين الأقطار العربية، وخاصة أن هذه الحدود تبدو صعبة التجاوز، وقد أدى ذلك إلى إعادة بناء القوى والتوازنات الاجتماعية داخل كل قطر، كما أدى إلى تغيير الأهداف والقيم والبرامج السياسية للحركات المختلفة، وافرز عقائديات ومذاهب جديدة احتل فيها الدفاع عن القطر أو التعلق به المرتبة الأولى في سلم الاهتمامات والتربية السياسية وبدل أن تستملك العقيدة القومية العربية العقائد القطرية الأخرى، استطاعت هذه العقائد الأخيرة أن تستخدم في الكثير من الحالات العروبة لإعطاء نفسها الشرعية وللظهور بمظهر الجزء التابع للكل والأداة الضرورية لتحقيق القيم والأهداف العليا العربية والإسلامية”.

وفي هذا السياق عمدت الإيديولوجية القومية العربية إلى فرض هوية قومية عربية على (القطر- الدولة) العراقية ،وحسب ما يذهب إليه بعض الباحثين، فإن الأمر بدأ مع الملك فيصل الأول (1921- 1933)، وعلى الرغم من نجاحه النسبي في بناء الوطنية العراقية، إلا أنه بقي محملاً بهم نجاح مشروع الدولة/ الأمة في لجمع التنوعات الثقافية وصبها في كيان سياسي موحد وخلق أمة موحدة إذ كان يؤمن بأن بناء أركان الدولة وتحقيق فكرة مركزية الحكم سيسهل عملية الاندماج الاجتماعي والوحدة الثقافية للسكان فيمكن عن طريق فرض التجنيد الإلزامي ونشر سياسة لغوية موحدة بفرض لغة موحدة ونظام تعليمي موحد زرع شعور مشترك بسهل عملية اندماج الاجتماعي ونحو الهوية الوطنية المشتركة([579]).وبذلك اعتمد تحقيق مركزية الدولة وبناء هوية وطنية موحدة على ركيزتين أساسيتين هما خلق نظام تعليمي موحد و فرض نظام التجنيد الإلزامي، وفيما يخص التعليم كان “ساطع الحصري”([580])، الرجل المهمين على صياغة السياسة التعليمية للعراق قد تبنى سياسة تربوية تسهم في خلق هوية موحدة عن طريق توحيد النظام التعليمي القائم على الترويج للثقافة واللغة العربية الموحدة لبناء شعب عراقي يكون جزءا من الأمة العربية مما يعني نوعاً من الهيمنة الثقافية لايدولوجيا القومية العربية مما أدى إلى إرساء ثقافة أحادية لا تتجاوب مع القيم المقبولة لدى بقية المجموعات الثقافية. وفشلت هذه الثقافة في مسعاها حتى يوم (9/4/2003) لأنها لم تتجذر في المجتمع ولم تسهم في توفير الأرضية اللازمة لبناء هوية وطنية أو مشتركة، ولم تخلق مجتمعاً متجانساً على أسس تحترم جميع الثقافات والروابط الاجتماعية([581]). ويرجع إلى الاعتقاد بأن الهوية الوطنية بمفهومها العصري هي نتاج خصائص الثقافة الجماعية التي تشبع الأمة بشعور يضع الأسس التي تبنى عليها حياة سياسية مستقرة في البلد. وإذا كان المفهوم العصري للهوية الوطنية يعني تخطي كل الولاءات الأخرى، فانه لا يعني بالضرورة محوها، وقد تكون الهوية الوطنية امتدادا للفكرة القومية إذا كان سكان الدولة من قومية واحدة أو إذا كانت الإيديولوجية القومية السائدة مبنية على أساس قومي مدني أو قومي جغرافي، أي (قومية سياسية دولية)، بعبارة أخرى قومية متوافقة مع الوطنية والولاء للدول القائمة([582]). الا ان هذا النوع من الوطنية لم يكن ما كان يخطط له المشرفون على بلورة الهوية العراقية، إذ كانت تطلعات هؤلاء تتخطي الحدود العراقية وتروج لنمط من القومية العربية يلعب فيه العرب السنة الدور الرئيسي سياسياً وثقافياً إلا أن الوطنية المبنية على أسس القومية المتطلعة لتحقيق الوحدة القومية العربية، لم تكن تتواءم مع الواقع المنقسم بالتعددية القومية خلافاً لمفهوم القومية المبنية على الأساس الجغرافي/ ألمناطقي.والتي تعني الاعتراف بالتعددية الثقافية/ الاثنية في منطقة معينة والتي كانت أكثر ملائمة للظرف العراقي الخاص. إلا أن هذا النمط من الوطنية (الجغرافية) كان بعيداً كل البعد عما يفكر به القادة العراقيون ويخططون له، حيث كانت الوطنية العراقية بالنسبة لهؤلاء تعني الوطنية العرقية أي القومية العربية بكل تطلعاتها التي تتعدي حدود الدولة العراقية لتشمل الوطن العربي ككل([583]). وكان هذا التوجه بلا شك يختلف عن مفهوم الوطنية بالنسبة للقوميات غير العربية في العراق (الكُرد والتركمان وغيرهم)([584]). ويؤكد (حسن العلوي) أن قومية الدولة التي تأسست في العراق بعد الحرب العالمية الأولى كانت هي المسئولة عن عدم نمو تطور وطنية عراقية على غرار الوطنية المصرية حيث يجتمع المختلفون في العنصر والدين على مشاعر الولاء للوطن المشترك”([585]).ويعتقد (العلوي) بأن السلطة الهاشمية تشكلت وفقا لمواصفات المشروع القومي والإطار الإيديولوجي الألماني مما يعني في النهاية فرض تغيير شامل في النسيج الاجتماعي للشعب العراق. ويعني ذلك أن قومية السلطة لم تكن اختياراً عراقياً ولم تعبر عن إرادة وطنية أو رغبة في رؤية العراق موحداً بقدر ما كانت طريقاً سهلاً للاستيلاء السياسي على السلطة والاستئثار بها وإقصاء المجموعات السكانية الكبرى من العرب الشيعة والأكراد والتركمان عن الإسهام في إدارة الدولة. وإذا كانت التجمعات السكانية من غير العرب قد عبرت بشكل أو بآخر عن احتجاجها على الشكل السياسي للنظام والطبيعة العنصرية للدولة، فان طريق السلطة القومية إلى الجبال الكردية كان عسكرياً دائماً على ظهور الدبابات وعلى متن الطائرات الحربية، وبسبب قومية السلطة، نشأ نظام سياسي وفكر سياسي تعامل مع الاتجاهات الوطنية الخالصة باعتبارها ولاء إقليميا، وهي من المحركات التي يعاقب مرتكبوها بالموت، وقد أدى ذلك إلى الإضرار بالوطنية العراقية([586]). وقد جسد فكر حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق التوجه القومي العربي ومفهوم الوحدة العربية للأمة والوطن العربيين حتى بات حزب البعث أحد أهم التيارات السياسية العاملة ضمن الاتجاه القومي العربي والمعبرة عنه، فهو حركة سياسية وضعت هدف الوحدة العربية ضمن سياق فكري واضح أساسه الترابط الوثيق بين العمل القومي والعمل الاشتراكي، وجاء شعار حزب البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) ليعبر عن إيمانه بأن الأمة العربية أمة واحدة ولا بد أن تتحقق الوحدة العربية، وأن وحدة الأمة حقيقة ثابتة وما الفوارق بين أجزاء الوطن العربي إلا فوارق مصطنعة([587]). ويشير احد منظري الحزب إلى أن ” الوحدة العربية هي وحدة الأمة على جميع الأصعدة والتي لا تتم إلا بالقضاء على الاستعمار، والقضاء على حالة التجزئة القطرية والقضاء ومن خلال النضال على كل الأسس التي بناها الاستعمار وغذاها”([588]). وبذلك يعتقد الحزب أن الوحدة ثورة كاملة تتطلب معارك مستمرة بين الأمة وأعدائها، ويؤكد (ميشيل عفلق) أن معركة الوحدة هي أصعب معاركنا وأنها تتطلب من العرب الجهد الذاتي، تتطلب محاربة النفس والتضحية وبعداً في النظر….” ([589]). وقد عبر دستور الحزب عن هذا المعنى، حيث جاء في المادة الأولى منه “تؤسس المبادء العامة للحزب (البعث العربي)، حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا”([590]).ونتيجة لذلك، فقد تجاهل حزب البعث هوية العراقيين من غير العرب في العراق في سياساته القومية العربية وتوجهه الوحدوي، منطلقا في هذا من إيمانه بان العراق جزء من الوطن العربي وان الشعب العراقي جزءً من الأمة العربية الواحدة، وهذا فرض للهوية العربية كما يتصورها الحزب على كل المكونات غير العربية في العراق وعلى مساحات جغرافية يرى فيها بعض هؤلاء (الاكراد) جزء من وطنهم، المميز والمختلف عن الوطن العربي. بوصول حزب البعث في العراق للسلطة بدأت مرحلة جديدة في التاريخ العراقي المعاصر، إذ تغلب فيها الاتجاه القومي بوضوح، متجاوزاً واقع خارطة التنوع الثقافي للمجموعات التي تكون المجتمع العراقي وهذا ما لم يتقبله غير العرب في العراق([591]).

ولكن هذا لا يعني أن العراق في صراعه لبناء هوية وطنية عراقية يعاني فقط من التوجه القومي العربي، لكنه يعاني أيضاً من التوجه القومي الكُردي الذي يتجاوز الانتماء إلى القطر أو الدولة العراقية إلى الانتماء إلى كيان مفترض يتمثل في دولة كُردستان الكبرى*. فقد كان الأكراد في العراق وما زالوا يتحسسون من الروابط العربية المشتركة وعلى الرغم من حرصهم على التعاون الوطيد مع سائر البلدان العربية، فإنهم يعلنون بصراحة أنهم يرفضون الاندماج في دولة عربية، كما أنهم يدركون أن انصهار العراق في وحدة عربية كبرى لا بد وان يؤدي إلى قيام دولة كُردية مستقلة([592]). لقد أعلن الدستور الانتقالي لجمهورية العراق بعد ثورة (1958)، والذي تمت صياغته بعد الثورة مباشرة، أن العراق جمهورية وجزء من الأمة العربية، واقر أيضاً بالشراكة الكُردية العربية في الوطن معترفا بالحقوق القومية الكُردية ضمن نطاق الدولة العراقية، وكان هذا الإقرار من أكثر الخطوات أهمية لأنه فتح المجال امام قيام دور كُردي اكبر في مجال صياغة الهوية العراقية وفي نفس الوقت تجميد التيارات الانفصالية الكُردية([593]). ولكن إخفاق هذا التوجه في الاستمرار أدى إلى بدء ثورة كُردية مسلحة ضد الحكومة العراقية للمطالبة بحقوق قومية كُردية بصورة واضحة أكثر وعرفت الثورة بـ(ثورة أيلول) بقيادة (ملا مصطفى البارزانى) في عام (1961)  ([594]).

     يقول (سليم مطر): ” فأنه من اكبر الأخطاء التعصبية التي مارستها الحكومات والنخب السياسية العراقية تتمثل بالفكرة التالية: إن الوطن العراقي هو جزء من الوطن العربي، وان الشعب العراقي هو جزء من الأمة العربية. إذن فأن العراق يشترط وجود العنصر العربي، وأية منطقة ليست فيها أغلبية عربية هي بالضرورة ليست عراقية بشكل تام، وعلى أساس هذا المفهوم القومي التعصبي قامت الحكومات العراقية بتطبيق سياسة تغريب الأكراد ومحاربتهم في وطنيتهم العراقية ومحاولة تعريب مناطقهم أو تهجيرهم وجلب سكان عرب بدلهم”([595])، وهذا تصوير خاطئ للتوجه القومي الكُردي بصورة عامة و التوجه القومي الكُردي في العراق بصورة خاصة، فالحركة القومية التحررية الكُردية ومطالبها سبقت حتى نشوء الدولة العراقية، وعارض الكُرد وبقوة ضمهم إلى العراق وهذا واضح في قضية ولاية الموصل والموقف الكُردي منها، وأيضا في مسألة البيعة للملك فيصل و الموقف الكُردي من الأتفاقية البريطانية- العراقية وقبول العراق عضواً في عصبة الأمم واستقلاله والثورات الكردية المستمرة من (1918) إلى يومنا هذا([596]).

يقول (ميثم الجنابي) إن النابض الذاتي للوجود الكلدو آشوري والتركماني بسير عموما ضمن الرؤية الوطنية العراقية، وبالتالي فان البعد القومي عندهم يسير بدوره باتجاه الرؤية الثقافية، بمعنى تداخل الرؤية القومية والسياسية والثقافية ضمن الإطار العام للهوية الوطنية العراقية، ولكن الأمر حسب اعتقاده يختلف بالنسبة للأكراد، إذ الغالب على نابض وجودهم القومي (البعد الكردستاني)، أي الكُردي، وهو الأمر الذي يعطي للعراق والهوية العراقية في الفكر القومي الكردي واتجاهاته العملية بعداً جزئياً وثانوياً، أما الإعلان الظاهري والمباشر للبعد العراقي، فإنه في الأغلب نتاج لاعتبارات سياسية وتكتيكية، أما التيار الداعي للاندماج الفعلي والتام في الوطنية العراقية، فإنه ما زال ضعيفاً([597]). ويطلق (ميثم الجنابي) هذا الحكم متجاهلاً مطالب الحركات القومية التركمانية والكلدو آشورية في العراق، ويفترض وجود هوية وطنية عراقية يجمع عليه الكل باستثناء الأكراد. حيث يرى (سليم مطر) في إطار تحليله وتناوله بعض أطروحات احد الأحزاب التركمانية، بأن الحزب يعتبر “الوطن الأم هو تركيا، وهذه الفكرة تمثل حجر الزاوية بالنسبة لفكر التحزب الوطني التركماني، وهذا يكشف عن مدى هشاشة الهوية العراقية التي تسمح بنشوء مثل هذه الأطروحات المنافية لأبسط المبادئ الوطنية والإنسانية”([598]).

هكذا يمكن القول بأن هناك توجهات قومية عربية، كردية، تركمانية وكلدو آشورية في العراق تعارض أو تتصادم مع الوطنية العراقية، وهنا تنطبق فكرة (ساطع الحصري)([599]). على أن الوطنية في العراق لا تنطبق أو لا تتطابق مع القوميات في العراق، بل تختلف عنها اختلافاً بيناً، لأنها تتكون من قوميات تطالب بتقديم مصالح الأمة العامة على مصلحة الوطن (الدولة)، وبهذا يعيش الفرد في العراق وهو يعاني مشكلة الهوية والانتماء بين الانتماء إلى الدولة، أي الانتماء القانوني والرسمي حسب الجنسية الوطنية والانتماء إلى القوم أو الأمة الذي تتجاوز حدودها حدود الدولة القائمة كأمر الواقع.

ثانيا: هوية العراق بين (الوطنية والطائفية)

        أضحت الطائفية مفردة شائعة في الدراسات والأبحاث السياسية الخاصة بالعراق، إذ تستعمل لوصف ظاهرة أو كأداة للتحليل، وهي تحمل عند التخاطب رؤية استفزازية للطرف المقابل ومع هذا فإنها تكاد تكون السمة الغالبة على الواقع العراقي والتي لها انعكاساتها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية وامتدت آثارها لتكون رافداً مهما من روافد  صنع الموقف السياسي ليس فقط في داخل العراق وإنما أيضاً لدى بعض دول الجوار إزاء العراق، وبالتالي تؤثرتأثيراً فعالاً في تشكيل وصياغة الهوية في العراق([600]). وتعرف الطائفية بأنها تعصب لجماعة عضوية تتطلع إلى تحقيق مواقع سياسية واجتماعية أفضل في الدولة عبر تحالفات تتبنى طابعاً سياسياً أو حزبياً يتخذ من الانتماء الطائفي معياراً للمفاضلة والأهلية لتولي المسؤوليات والقيادات بصرف النظر عن الكفاءة([601]).وعادة ما يميز الباحثين بين نوعين من الطائفية هما([602]):

  1. الطائفية السياسية أو طائفية السلطة، والمقصود هنا هو أن تتبنى السلطة وتتمحور على أساس طائفي بما يخدم الجماعة التي تنتسب إليها مجموعة الحاكمين والمرتبطين بالسلطة واعتماد للتميز الطائفي بحسب امتيازات وحقوق الطوائف الأخرى. وغالبا ما يتم التعبير عن طائفية السلطة بصيغ دينية في محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على سلوكها السياسي.
  2. الطائفية الدينية: ويقصد بها تقسيم المجتمع إلى طوائف مذهبية أو دينية، وتتمحور كل طائفة على نفسها وتعصبها لذاتها، وإيجاد حواجز اجتماعية واقتصادية وأمنية لحفظ وجود هذه الجماعة، والسعي لإضعاف وانتقاص الجماعات الأخرى بكل الوسائل المتاحة. وقد تكون للسلطة يد في إثارة الطائفية الدينية وتأجيجها وذلك حسب مصالحها. وقد اقترنت الحالة الطائفية في العراق بأوجه مقيتة عرفها العراق على طول تاريخه السياسي بحكم معاناته من هذين النوعين من الطائفية.

ويعتقد (حسن العلوي) بأن الظاهرة الطائفية في العراق لا تخضع للقوانين الطائفية المعروفة في صراع الأديان والمذاهب مما يدعو للاعتقاد بوجود طائفية عراقية، بجناحيها الشيعي والسني، تختلف عنها في البلاد العربية والإسلامية الأخرى في طبيعتها واتجاهاتها وتركيبها([603]). ومن هذا المنطلق يحاول (حسن العلوي) توضيح مفهوم الطائفية، ويؤكد على أنه من الطبيعي أن لا تعني الطائفية الانتماء المجرد إلى الطائفة، وإلا أصبح كل كائن بشري طائفيا بحكم ميله إلى طائفة أو تجمع بشري، ولا تعني الطائفية حق الإنسان في الدفاع عن جماعة البشرية ضد ما يصيبها من أضرار، والعمل على تأمين حياة كريمة للطائفة دون المساس بحقوق الطوائف الأخرى([604]).

وهناك أيضا من يميز بين الطوائف (Sects) و الطائفية (Sectarianism)، فالمفهوم الأول يشير فقط إلى التنوع في المعتقدات والممارسات الدينية بين الإفراد أو المجموعات التي يتكون منها المجتمع، أما المفهوم الثاني (الطائفية) فهو يشير إلى استخدام هذا التنوع الديني لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، مثل المحافظة على مصالح ومزايا مكتسبة أو النضال من اجل تحقيق مثل هذه المصالح والمزايا لزعماء أو أبناء طائفة معينة في مواجهة طوائف أخرى، وعندما تتخذ الطائفية هذا المعنى فإنها تستخدم الدين كوسيلة لتحقيق أهداف دنيوية، وطبقاً لهذا التعريف تتطابق المذهبية الدينية السياسية في أهدافها و وظائفها مع القومية أو العرقية([605]).والطائفية السياسة ذات الصبغة الدينية هي ظاهرة موجودة في الحاضر وتعمل كرد فعل للأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي.

    فإذا كانت الطائفة هي حالة اختيارية ينتمي إليها الناس أو أن الطائفة هي جماعة طوعية لا ينتمي إليها الأعضاء بالضرورة بحكم المولد، فهذا يعني أن الطائفة تختلف عن الطائفية، حيث إن الطائفية تستخدم التفرع الديني والعقائدي الذي تقوم عليهما الطائفة لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، وخلاصة الأمر هنا أن التمييز الطائفي وليس الانتماء الطائفي هو الذي يجعل المرء طائفياً([606]).ولا يتحول الفرد إلى شخص طائفي إلا حينما تحول قضية انتمائه من انتماء لطائفة إلى ولاء لها بشكل يؤثر على  الولاءات الأخرى المهمة لهذا الفرد مثلما يحدث حيث يتقدم ولاء لطائفته على ولائه الوطني، الأمر الذي يخلق مردودات سلبية على الدولة و مؤسساتها من حيث تنظيمها ومؤسساتها وإدارتها وبالتالي على هويتها.

     وإذ تعد الطائفية إحدى العوامل الأساسية التي تعرقل بناء هوية وطنية عراقية، فإنها تغلق الطريق أمام بناء الدولة العراقية([607]). ومن ثم فإن ” الجرح الطائفي في الهوية لا يكف عن النزيف جاعلاً من الوطن مبتغى للأحلام الطامعين إلى التوسع والاستحواذ على الامتيازات عن طريق احتكار السلطة في الدولة بالاعتماد على الطائفية”([608]).

    ويعتقد احد الباحثين بأنه ليس جديداً القول بأن الحالة الطائفية قد هيمنت على الدولة العراقية الحديثة فكراً و سلوكا منذ تكوينها في مطلع القرن الماضي و حتى اليوم، ويحدد باحث آخر جملة من العوامل التي وقفت وراء ولادة وانبعاث هذه الحالة وتمثل تلك العوامل في([609]).

  1. إن الاستعمار قد عمل بمرونة لاستغلال المسألة الطائفية أو على الأقل التقسيمات الطائفية في المجتمع العراقي لخدمة سياسياته، وغالباً ما اتخذ هذه الاستغلال الاستعماري للمسألة شكل تحالف مع طوائف الأقلية مستغلاً مشاعر الغبن القائمة لديها، أو الخوف أو عدم الأمان سواء كانت موهومة أو حقيقية، ضد الأكثرية، وذلك بتجنيد الأقليات ضد الأكثرية في أجهزة الدولة بشكل عام، الأمر الذي جعل التقسيمات الطائفية القائمة تتخذ طابعاً سياسياً جديداً ما زالت تجره وراءها.
  2. إن التنوع المذهبي الذي عرف به العراق قديما، بدأ يلعب منذ القرن التاسع عشر، دوراً مغايراً للأدوار السابقة، ففي هذا القرن أخذت عوامل تشكل القوميات بالنضوج، وبدأت تتضح أيضا مقدمات الانتقال من المجتمع القبلي المجزأ إلى مجتمع إقطاعي/ مركزي بشكل أكثر نضجاً. ومع اتخاذ الخطاب القومي في العراق طابعاً عنصرياً في فترة لاحقة ظهرت الطائفية بصورتها البشعة في كافة مفاصل الدولة العراقية.
  3. غياب الممارسة الديمقراطية في العراق مما أدى إلى بروز الحالة الطائفية فيه بعد أن هيمنت على المسرح السياسي في العراق الأنظمة الشمولية السلطوية الدكتاتورية التي اتجهت إلى تبني الحالة الطائفية نتيجة لضعف القاعدة الاجتماعي لها بسبب اعتماد على أقلية لا تمثل إلا جزء من الشعب تجمع عشائري أو طائفي أو ديني أو مناطقي أو سياسي أو كلها معاً. ويصبح النظام السلطوي في هذه الحالة منخوراً من الداخل بانقسام أهلي عصبوي تمتنع معه علاقة المواطنة، وهي علاقة تحتية وأساس في تشكيل الوحدة الوطنية وتحقيق التجانس الاجتماعي.وبغياب التجانس والوحدة يتأسس الكيان على تعايش حذر وأحيانا مغشوش بين جماعات مختلفة ومتباينة تعجز عن توليد ولاء أعلى يتجاوز حدود عصبيتها من جنس الولاء للنظام([610]).ويتجه النظام لتجاوز ذلك إلى الاعتماد على الأجهزة المخابراتية والقمعية التي عادة ما تنمي إلى الطائفة التي تساند النظام أو تقف معه، الأمر الذي يدفع الطوائف الأخرى إلى الوقوف بوجه هذه الطائفة أو التصارع معها، ومن دون شك أن هذا التكريس للحالة الطائفية وعدم تجاوزها هو في حد ذاته صورة للعجز القائم في نظام غير عقلاني يحاول أن يحفظ بقاءه بين غير عاقلة، إن هذه العوامل وغيرها مجتمعة أسهمت في بلورة الحالة الطائفية في السياسة والمجتمع العراقيين بصورة أصبحت تنذر بالخطر الشديد على مستقبل العراق كدولة موحدة([611]).

وعلى الرغم من ذلك هناك بعض من يصر على أن كل مظاهر أزمة الهوية في العراق من القبلية والعرقية والمذهبية إلى الطائفية مظاهر افرزها الاحتلال الأمريكي، حيث انطلقت الطائفية كباقي المؤسسات التقليدية والولاءات دون الوطنية أو فوقها كالعشائرية والقومية والإسلامية في العراق بعد التاسع من نيسان/ 2003، بسبب الفراغ الأمني والسياسي الذي ولده انهيار الدولة التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى. وجاء نشاط التشظي الطائفي موازياً لضعف مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لأن الاحتلال شجع الولاءات دون الوطنية وحفز حراك المجتمع وفق الأفكار الطائفية([612]). ويقول باحث آخر أن الولايات المتحدة وعموم العالم الغربي قد مهدوا لتفكيك رموز الهوية العراقية وكانت أولى مهام الاحتلال في العراق استئصال الفكر الوطني ومفهوم المواطنة وتقسيم العراق على أسس المحاصصة الطائفية، وأول من تبني خطاب الانتقال من مفاهيم الوطنية إلى مفاهيم الطائفية هي إدارة الاحتلال الأمريكي ذاتها ليتبناها في ما بعد قادة العراق الجدد، ومن ثم وسائل الإعلام العربية والغربية، وتلا ذلك التركيز على مفردات شيعي وسني وكردي… الخ. التي لم تكن متداولة قبل الاحتلال في الخطاب السياسي، بل كانت مستهجنة([613]).

ولكن باحثين آخرين يرفضون هذه الفكر بالكامل، ويؤكدون على أن الحديث عن الطائفية كوضع فرضته مرحلة ما بعد الاحتلال وسقوط النظام السابق، حديث غير دقيق، لأن الطائفية كانت ولا زالت واقعاً يتحكم بالتصورات والرؤى السياسية والاجتماعية والفكرية في العراق منذ بدايات وجود دولته الحديثة، فتلبست بلباس ديني تارة وقومي تارة و اجتماعي تارة أخرى([614]). ويقول (ليورا لوكيتز):” في المراحل الأولية لتشكيل الدولة وقف عاملان أساسيان كعائق أمام تقبل الشيعة للدولة العراقية، العامل الأول كان الصراع التقليدي بين السنة والشيعة والمتسم بالعداوة الطائفية التي بدأت منذ قرون عديدة بداً بموضوع الصراع على الخلافة، وكان والعامل الثاني الصراع السياسي والاجتماعي بين المجتمع العشائري والمجتمع المدني”([615]).وتعود صعوبة تحديد تأثيرات وتبعات هذين العاملين المتداخلين إلى صعوبة فصلها عن تأثيرات العامل الطائفي، ولعل من الضروري الذكر بأن شيعة العراق في هذه المرحلة المبكرة لم يكونوا ضد مفهوم الدولة العراقية كدولة، ولكنهم كانوا ضد صيغتها السنية، وعلى الرغم من أن العرب السنة والشيعة في العراق لهم هوية واحدة يحددها نظام ثقافي مستمد بالأساس من لغة عربية واحدة وتاريخ مشترك إلا أن النظام الاجتماعي الشيعي والظروف التاريخية التي ساهمت في تطويره عملا على بلورة الخلافات بين السنة والشيعة في العراق، ولعبت العادات والرموز والتقاليد الموروثة دوراً كبيراً في الحالتين في تحديد الهوية الجماعية. إن الأصل العربي الواحد للشيعة والسنة لا يعني أن الصراع بينهما هو فقط صراع على السلطة، حيث كانت للصراع بينهما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة أبعاد أخرى إذ أن الشيعة كانوا يحبذون أن يكونوا شركاء مع السنة في عملية خلق هوية عراقية مستلهمة من الثقافة الشيعية أيضاً واحد أركان المقاومة الشيعية كان رفضهم التخلي عن القواعد التي تتحكم في قيم ثقافتهم وكذلك رفضهم الفكرة التي تزعم بأن العربي يعني السني، إذ لم يشعر الشيعة بأنهم اقل عربية أو عروبة من السنة، ويرفض الشيعة تقبل فكرة الدعوة إلى الأمة العربية الواحدة، السنية في الجوهر- التي كانت تؤدي عملياً إلى دعم الهيمنة السياسية السنية على العراق، حيث كانوا على دراية بأن السبب العملي وراء الدعوة العربية السياسية هذه هو إضفاء الشرعية على حكم السنة للشيعة([616]).

ويعتقد (سمير خليل) إن القومية العربية متأصلة ليس فقط في الإسلام ، لكن في الطائفة السنية التي تضم الأغلبية الساحقة من المسلمين الذين يتكلمون اللغة العربية وإن التجربة الأولى للقومية العربية في العراق (1936_1941) تؤكد صلة الانجذاب التاريخي بين القومية العربية والمذهب السني ،فالسياسيون البارزون وضباط الجيش في مجملهم كانوا سنيين ،وإن الانجذاب أو التقارب الذي يشعر به الشيعة العرب تجاه إيران (هناك بعض الأماكن المقدسة في إيران) ، على النقيض  من التقليد السني والذي لسببه تجري العداوة بين الفرس والعرب مجراه العميق هذا ، تؤكد عدم التوافق أو التنافر بين المبدأ الشيعي والقومية العربية([617]) . وكان من المحتمل والممكن أن تزول مخاوف الشيعة من طغيان الأكثرية السنية مع الوقت لو أتيح للقومية العربية أن تصبح قومية علمانية حقيقية في روحها وفي ولائها، فتحل محل الانقسامات الطائفية([618]). إذ أن الوطنية العراقية الحقة تبنى على أساس المساهمة والمشاركة في الحقوق والواجبات لكافة مكونات العراق بما في ذلك مساهمة في بلورة هوية وطنية. ولكن ذلك لم يتحقق حتى يومنا هذا وبقيت الانتماءات دون الوطنية هي السائدة والمعرقلة لنشوء هوية وطنية مشتركة وجامعة لكل العراقيين.

هكذا بقي تطيف الدولة العراقية ظاهرة واضحة منذ نشأتها ويقول (على جواد كاظم وتوت) بأن “التطرف الاثنى الشوفيني كان يصاحبه ميول طائفية شديدة النزعة فالسمة السياسية الأكثر فاعلية في الدولة الحديثة في العراق كانت تطيفها السياسي، وذلك على الرغم من الإدعاآت القومية التي سادت الدولة العراقية، إلا أن الميل الطائفي كان هو الأكثر تأثيرا وخصوصاً في عملية اختيار الكوادر الدولة والجيش”([619]). فمثلاً وعلى الرغم من العداء المعلن للأكراد فإنهم كانوا مفضلين على الشيعة العرب في مختلف المجالات المهمة وخصوصاً الجيش، وسواء كان حكام الدولة مدنيين أو عسكريين، علمانيين أو إسلاميين، فقد ظل هاجسهم الأول هو انتمائهم الطائفي. ويؤكد (حسن العلوي) أن الطائفية العراقية سياسية شبه محضة ذات علاقة بالسلطة([620]). وبالتالي تبدى الطائفية في العراق في سياسة طائفية ومن مظاهرها([621]).

  1. إن نسبة المشاركين في السلطة من الشيعة اقل بكثير من أبناء السنة على الرغم وان الشيعة يشكلون الأغلبية في العراق، ولا يمكن أن يكون السبب عزوف الشيعة عن السياسة- كما يحلو للبعض- أن يجد تبريراً له. ومشاركة الشيعة في السلطة بعد 9/4/2003 دليل على ضعف هذا التبرير.
  2. انتشار ثقافة طائفية وتداول مفاهيم ومصطلحات استفزازية لوصف الشيعة في العراق مثل مصطلح الشعوبية.

    ويقول (سمير خليل) “لقد استخدمت العديد من القوميين العرب علاوة على( ساطع ألحصري) هذه الكلمة غير الملائمة . إن الفكرة متشعبة في التاريخ العربي الإسلامي …. وأن ذكرها يجعل القومي العربي  محفوفاً أو مجاطاً بالشبهات والريبة “([622]) .

    وكما يقول (حسن العلوي) فإن الذي ينهض بمهمة التمييز الطائفي ينبغي أن يكون بمركز القوة أي أنه يمتلك امتيازات عامة قابلة للتوزيع فيتصرف في توزيعها بطريقة متحيزة، وطبيعي أن السلطة هي اكبر الامتيازات في الدولة الحديثة، والمعروف أن السلطة في العراق كانت متمذهبة، وحين تتمذهب السلطة فهذا يعني وجود مذهب حاكم ومذهب محكوم، الأول يملك الدولة- المؤسسات- الجيش – القانون- الخزينة – المركز، والآخر لا يملك إلا ما يعطيه المذهب الحاكم([623]).

   إن التميز الطائفي أحد أشد أشكال التمييز في المجتمع البشري، وهو في درجة أوطىء من التمييز العنصري رغم قسوة الأخير و بشاعته ذلك أن التمييز العنصري يشترط لحصوله وجود عنصرين أو نوعين أو لونين من البشر، بينما يحصل التمييز الطائفي داخل النوع الواحد واللون الواحد، فهو حصل في العراق ولم يكن يجري بين عربي وغير عربي ولا بين مسلم وغير مسلم ولا بين عراقي وغير عراقي، لكن تطوراً دخل إلى التمييز الطائفي لتبريره يجعل العرب الشيعة فرساً أو إيرانيين ليتسنى إيجاد ركيزة كالتي يعتمدها التمييز العنصري([624]).وإذا كان للسياسة دور بارز في إثارة النزعة الطائفية في العراق، فان آثارها تجاوزت السياسية إلى مجالات أكثر، وإذا كان بالإمكان التوافق على حل سياسي يقلل من الأثر السياسي السلبي للطائفية، فان من الصعب التقليل من آثارها السلوكية والشعورية والنفسية والاجتماعية السلبية، ومن الآثار السياسة الضارة للطائفية إنها ساهمت في إعاقة بناء الدولة العراقية والهوية الوطنية المشتركة بين العراقيين. فقد أصبح المعيار الطائفي الأكثر حضوراً في عملية بناء الدولة والحراك والنشاط السياسيين والمنافسة الحزبية والسياسية وحتى انه دخل في سياسات الدولة الرسمية (الخارجية والداخلية)، هذا فضلا عن آثاره السيئة على انتماء المواطن وولائه للدولة ومواقفه من سياساتها.

    ومن أسوءا آثار الطائفية تجذزها وتوسعها في الأوساط الاجتماعية العراقية وصولا إلى مرحلة القتل على الهوية بصورة عامة والهوية الطائفية بصورة خاصة التي تركت آثارا نفسية عميقة يصعب تجاوزها.

ولكن كل ذلك لا يعني استحالة معالجة الآثار السلبية للطائفية في العراق وتعذر تجاوزها وهيمنة قبولها والاستسلام لها، وإنما يتوجب على الجميع العمل على التصدي لها ومحاربتها و إلغاء دورها  بوضع حلول وصياغة مقترحات؛ يقترح (حميد فاضل حسن) مجموعة منها على المستويات السياسية والدستوية واقتصادية ومنها([625]):

  1. الحلول السياسية وتتضمن:
  • نقطة الانطلاق في تجاوز الطائفية هي الإقرار بوجودها وعدم إنكارها ومواجهة حقيقة النظام الطائفي وكشف الستار عن مقوماته الاجتماعية وأصوله التاريخية.
  • إن الديمقراطية هي الضمانة الأساسية لعلاج مشكلة التمييز والاضطهاد الطائفي.
  • اعتماد مبدأ التوافق السياسي وتوسع المشاركة السياسية لجميع الأطياف المكونة للشعب العراقي. هذا بالإضافة إلى الحلول الدستورية المتمثلة في أن يتكفل الدستور العراقي والصياغات القانونية المتفرعة منه بتحديد الوسائل والأدوات الكفيلة بإزالة كل شكل من أشكال التمييز الطائفي التي أفرزنها الحقب السابقة. وتتمحور الحلول الاقتصادية بشكل أساس حول تحقيق التنمية الشاملة التي تغطي كافة أرجاء العراق.

وأخيرا إذا كانت الولادة الأولى للدولة العراقية في بدايات القرن العشرين قد جاءت من رحم ينوء بالطائفية التي نمت وتطورت مع نمو وتطور الدولة ذاتها، فعلى القائمين على رعاية شؤون هذه الدولة ومواطنيها أن يتجنبوا بعد ولادتها الثانية في مطلع القرن الحالي أخطاء السابقين، وان يعملوا على جعل عملية بنائها عملية وطنية مجردة من أية نزعات طائفية أو عرقية أو دينية عنصرية، لتكون الهوية العراقية الوطنية الواحدة هي الهدف أولا  وأخيرا، ولكن ليس على حساب أية مجموعة أو طائفة معينة.

إشكالية الدولة العراقية والهوية  القومية الكردية

إشكالية الهوية القومية الكردية

        في هذا المبحث نعرض إشكالية الهوية القومية الكردية من خلال البحث عن أصل الكُرد وجذورهم، الموطن الكردي (كردستان) و حدوده الجغرافية والطبيعية والقومية، وأخيرا اللغة الكردية والثقافة الكردية، وذلك باعتبار أن هذه المسائل تعتبر عناصر أساسية وبارزة في تحديد الهوية القومية الكردية. ولا ندعي في هذا المبحث بأننا نصل إلى نتائج وحقائق نهائية وحاسمة في هذه المسائل، لان ذلك ليس من اختصاصنا ولا هو ممكن علميا وإنما نقصد إظهار وإبراز إشكالية الهوية القومية الكردية من خلال عرض الأطروحات والآراء المختلفة والمتضاربة والمتباينة حول هذه المسائل بالإضافة إلى الكشف عن المقاصد الكامنة وراء هذه الاختلافات و التي هي بالدرجة الأساسية سياسية، وبذلك نسعى إلى البحث عن مدى كون الهوية القومية الكردية وتحديدها إشكالية فكرية متجسدة في الأبحاث والدراسات المختلفة والمتنوعة حول القومية الكردية.

 الأول: أصل الكُرد وجذورهم

        غالبا ما يطرح البحث عن أصول أي شعب كان مشكلة مستعصية، وبخاصة  في مثل حالة الشعب الكردي، لأن الشواهد التاريخية تعوزها الديمومة، ويتعذر التثبت منها في بعض الحالات، فلكي نثبت هوية شعب ما، نلجأ في الغالب إلى مقاييس معينة حاسمة كإسمه وعرقه ولغته دون أن نقتنع بقيمتها العلمية المطلقة فالاسم وحده لا يسمح في الواقع بأي استنتاج مرض بالنسبة للشعب الذي يتسمى به، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال، الشعب الفرنسي، فإذا اعتمدنا على اسمه دون أن نعرف جيدا أصوله التاريخية، أمكننا افتراض أنه يعود إلى أصل جرماني، وكذلك بالنسبة إلى الروس الذين يشتق اسمهم (اسم شعبهم) من كلمة اسكندنافية، إذ يمكن أن تضللنا هذه التسمية إن لم نكن نعرف أنها تشير إلى فئة مسيطرة من زعماء الفايكنغ الذين أخذ منهم هذا الشعب السلافي اسمه([626]).

يقول (منذر الموصلي) بأنه لم يختلف المؤرخون حول نسبة شعب أو أصله كما اختلفوا حول الشعب الكردي خاصة منهم علماء الأجناس ومؤرخو الأقوام والشعوب القديمة، ولن تجد رأيا لهولاء يتفق مع آخر كما لم يقطع مؤرخ أو عالم برأي حاسم، فهو يورد عدة آراء ثم يعطي ترجيحا لواحد منها، مجرد ترجيح، وهذا شيء طبيعي بسبب الافتقار لما يشكل سنداً أو مستندا علميا في البحث التاريخي. وُيرجع (منذر الموصلي) سبب ذلك إلى أنه ليس للأكراد ماضٍ قديم معروف بالدقة، ولا ما يدل أو يعرف بهم في التاريخ البعيد البعيد([627]). ولكن أليس في ذلك مبالغة كبيرة؟ وهل أن الشعوب والأقوام الأخرى لديها ماضي وتاريخ قديم واضح ومتفق عليه؟ ألا تعاني كل الشعوب والأمم المعاصرة في تحديد أصوله وجذوره؟ ويمكن إرجاع السبب إلى الواقع السياسي الذي يعانيه الكُرد، لأن الدراسات التاريخية حول أصل وجذور الكُرد تتأثر وتؤثر في المواقف السياسية حول المسألة الكردية بصورة عامة، وكما تقول (ماريا أوشي) فقد “جرى، لأسباب مختلفة تصوير تاريخ الكُرد وكردستان تصويراً قاصرا في الأعمال التاريخية التقليدية عن الشرق الأوسط، ومن السهل أن نرى لمإذا صار الكُرد يشعرون أنهم مستبعدون عن العمل في مثل هذه الأعمال وبقدر تعلق الأمر بالتاريخ القديم يبدو أننا نعرف أكثر بكثير عن الحضارات التي لم يعد لها وجود، ربما لأنها لا تمثل الآن تهديدا محتملا للقوى الحاكمة في الوقت الحاضر”([628]). لذلك فمن الضروري الأخذ بالتحفظات المتعلقة بنسبية المعايير اللغوية والعرقية من جهة والتحفظات السياسية من الجهة الأخرى عندما نبحث عن أصول الكُرد وجذورهم.

إن هناك من يعرف الكُرد بالقول بأن “الكُرد شعب آري من مجموعة الشعوب الهندو- أوربية، من العائلة الإيرانية التي تضم الشعوب الكردية والفارسية والإذرية والأفغانية وألبلوجية، له لغته الخاصة وهي اللغة الكردية، وقد عاش الأكراد على أرض كردستان الحالية بصورة مستمرة منذ فجر التاريخ، وواجهوا نفس المصير، وكونوا تراثاً أدبيا وفنيا وإنسانيا مشتركا وساهموا في تقدم ركب الحضارة، والأكراد حاليا هم المجموعة العرقية الوحيدة في  العالم التي يبلغ تعدادها أكثر من 35 مليونا والتي لم تحصل بعد على حقوقها القومية “([629]). ولكن هذا تبسيط لتعريف هوية قوم أو مجموعة بشرية يعاني من إشكالية تحديد هويتهم القومية لأسباب سياسية وتاريخية عديدة.

و يشير (احمد تاج الدين) إلى نظريتين في أصل الأكراد ويعتبرهما اقرب النظريات معقولية وهما([630]):

        النظرية الأولى: هي ما ذهب اليه البعض، في اعتقاده بأنتساب الاكراد إلى منظومة زاكروس (زاجروس) بأعتبارهم من الجنس القوقازي (قفقاسي) وأن تاريخهم يبدأ مع ظهور السومريين والاكديين.

        النظرية الثانية: و تؤكد أن الكُرد ينتسبون إلى عناصر آرية أو (هندو أوربية) هاجرت منذ ثلاثين عصراً قبل الميلاد نحو زاكروس ومن ثم إلى شرقيها وغربيها واندمجت مع بقايا أهالي زاجروس وكُردستان ألاصلية وشكلت هذه الهجرات الطبقة الثانية لمنظومة زاجروس المسماة بالآريين الذين يرجع اليهم أصل الأمة الكردية.

إذا لقد اختلفت المؤرخون حول أصل الاكراد وطرحت عدة نظريات وافتراضات متنوعة، قبائل آرية نزحت إلى الجبال من إيران منذ القدم واختلطت بالقبائل الجبلية الاصلية، أو قبائل سامية وسومرية رافدية نزحت إلى الجبال واختلطت بالقبائل الاصلية ثم خضعت للقبائل ألآرية، أو قبائل جبلية أصلية تبنت اللغة ألآرية والإيرانية، ويعتقد (سليم مطر) بأن الحقيقة المعقولة التي يمكن استخلاصها من جميع هذه الفرضيات، أن الاكراد هم أولاً من القبائل الجبلية الاصلية وهم ينتسبون إلى العرق (الأرموندي أو القفقاسي). وتعرضت الجماعات الكردية الأصلية خلال حقب التاريخ لهجرة القبائل ألآرية القادمة من الشرق حيث الهضبة الإيرانية وكذلك القبائل السامية النازحة  من غرب وادي الرافدين، و يبدو أن العنصر الآري بسبب طبيعته الجبلية أو امتلاكه قوة عسكرية وحضارية هو الذي تمكن من فرض لغته بحيث اعتبرت اللغة الكردية لغة آرية إيرانية([631]).

و يعتقد (باسيلي نيكيتين) أن الكاردوخيين الذين تكلم عنهم (زينفون) في روايته عن الانسحاب المشهور (بين 400- 401 ق. م) لعشرة الآف يوناني عبر كردستان الحالية إلى البحر الاسود لم يكونوا غير الاسلاف الحقيقيين للكرد، أنهم كانوا جبليين اشداء مثلهم، يقطنون البلاد نفسها ولهم اسم شبيه بأسمهم.و لكن هناك بعض البحوث التي لا توصلنا إلى هذه النتيجة المؤكدة نفسها، حيث اثبت بعض المستشرقين من امثال (نولدكه) و (هارتمان) و (ويسباخ) أن لفظتي (كورد) و (كاردو) غير متماثلتين لغوياً، ويذهب العالمان الاخيران إلى القول إن (السرتيين) الذين ذكرهم المؤرخون الكلاسيك و (سترابون) خاصة، و الذين كانوا يقطون بلاد ميديا الصغيرة وبلاد (برسيس) هم أسلاف الكُرد، إلا أننا لا يمكننا إنكار صلة الكاردوخيين بالكرد انكارا كلياً([632]).

و يقول المسشترق (دراور) إن كاردا، كاردوخي، كورتوخي، غوردي، كارداك و سيرتي، غوردياي، عوردوته، كاردو، كاردا، كارداويه، كاردايه، كارتاريه… الخ كلها اسماء مختلفة لأمة واحدة هي الأمة الكردية القديمة، ويؤكد بأن الاكراد الحاليين هم أحفاد الـ (كاردوخي) الذين حاربوا (زينوفون) وكذلك هم احفاد (كاردا) في لغة السومريين ولكنا يظهر من لوحة ملك (اراد – نانار) ملك لاغاش في الدور الثالث لحكومة أور في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد بأن كاردا اسم لعشيرة أو فرع من الاكراد، لذلك فإن بعض المؤرخين يقولون بين التمييز بين كلمتي كوتي و كورتي صعب جدا لدرجة أنه يمكن القول بأن قسماً من الاكراد الحاليين انحدروا من الكوتيين مباشرة([633]). وهناك من يقول: إن أصل تسمية (كورد- كرد) ترجع إلى (كوتو – Gutu) أي شعب (كوتو) وهو عبارة عن الاقوام التي عاشت في مملكة (كوتيام) الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة بين نهر (الزاب الصغير) ونهر (ديالي). ويعتقد آخرون أن التسمية مأخوذة من الكلمة الآشورية (كورتو – Gurtu) التي تطورت إلى (Gutun) ويقولون ان هذه الكلمة الاشورية تطلق على الاقوام التي تسكن المنطقة التي يعيش فيها الاكراد حاليا([634]). ويرجح (شاكر خصباك) أن كلمة (كُرد) تطورت من اللفظ الاشوري لكلمة (كرتو) أي كلمة (كوتو). وربما نقل الآشوريون هذا الاسم إلى الفرس وثمة احتمال بأن يكون (الكورتيون) و (الكرتيين) من شعب واحد رغم انشائهم لقبائل مختلفة، ذلك أن مناطقهم التي وصفها السومريون والآشوريون والفرس هي المناطق الحالية لكردستان([635]).

ويقول (شاكر خصباك) إن كتاب التاريخ القديم يتفقون على وجود شعب كان يسمى بالكوتيين حوالي (2000) ق.م. وقد عاش في منطقة تؤلف الآن إحدى مناطق الاكراد الرئيسية وهناك دلائل كثيرة على وجود شعب بهذا الاسم كعنصر واضح متميز، ويؤكد على أن الاكراد أحفاد الكوتيين، وهم القوم الذين نتجوا من التزاوج بين سكان جبال زاكروس الاصليين وبين الموجات الأولى من الآريين التي اكتسحت منطقتهم([636]). ولعل اقدم اشارة إلى الكوتيين هي تلك التي عثر عليها في الكتابات السومرية، وكان السومريون يشكون من قوم محاربين اسمهم الكوتي، وقد اعتادوا الانحدار من جبالهم ومهاجمة المدن السومرية واعترف السومريون و كذلك الاكديون بمملكة الكوتيين التي كانت عاصمتها (ارابخا)([637]).

هكذا تعددت النظريات والآراء حول أصل الكُرد ومنشأهم بين من يعتبرهم من الشعوب الهندو- أوربية المهاجرة إلى جبال زاكروس، ويؤكد هذا الفكرة كل من (باسيل نيكتين ومينورسكي)، ومن يعتبرهم من السكان الاصليين لجبال زاكروس وكردستان، ويؤكد هذا الرأي (مار) الذي يرى انهم سكان أصليون للمناطق الجبلية في آسيا الصغرى ولغتهم الكردية تكونت في تلك البقعة لا في منطقة أخرى من الكرة الارضية([638]).

ولكن من الممكن ترجيح الآراء الذي يعتبر الكُرد من الشعوب الهندو- أوربية، فحسب رأي غالبية الباحثين فانه في الالف الثاني قبل الميلاد استقر المهاجرون من الاقوام الهندو- أوربية في إيران وجبال زاكروس، و مما يثبت ان أصل الكُرد من الآريين، أن الموجة ألآرية الأولى التي حملت الكُرد إلى مناطقهم الحالية آتية بهم من أواسط اسيا، قد حدثت حوالي (2000 ق. م). وبعد مرور ألف عام جاءت موجه أخرى من منطقة القوقاس ومن المحتمل حسب رأي بعض الباحثين، أن يكونوا هم الكاردوخيين الذين ذكرهم (زينفون) أحفاد الموجة الثانية لأن الاوصاف التي ذكرها زينوفون على سكان كردستان كانوا يتميزون يومئذ بمميزات آرية وخاصة من النواحي الاجتماعية([639]). ويقول (محمد امين زكي) “ان الشعب الكُردي قوم من الأقوام والشعوب (هند- إيراني) قدموا إلى كُردستان في الوقت الذي قدم فيه الميديون إلى ميديا والفرس إلى الفارس”([640]).

وهكذا نلاحظ ان غالبية الباحثين وخاصة الاكراد منهم، يرجحون كون الكُرد من السلالات الآرية أي هندو – أوربية، وذات أصل واحد مع الميديين الذين أسسوا امبراطورية ميديا في (612 ق. م) ([641]). ويؤكد (منذر الموصلي) بأن معظم الكتاب والمثقفين الاكراد وقادة الفكر السياسي ومنظري الحركة الوطنية والمسيرة القومية الكردية يميلون إلى هذا الترجيح، أي ترجيح آرية الكُرد ويؤيدونه لأنه أثبت من غيره في سياق البحث العلمي والرواية التاريخية([642]).

إذا قلة من القضايا استأثرت مؤخرا بأهتمام الاكاديميين الكُرد، وحتى المتعاطفين مع الكُرد، مثل المسألة المتعلقة بأصل الكُرد، الذي يشعر هؤلاء الاكاديميون، على ما يبدو، بضرورة استجلائه وتسجيله على نحو حاسم ففي الدول المستقلة تاريخيا يجري التعبير عن الاستمرارية من خلال مؤسسات قانونية وسياسية، ولكن شعباً بلا دولة، مثل الشعب الكردي، يحتاج إلى استثمار موارد مختلفة لايجاد استمرارية ثقافية وصنع ذاكرة جمعية، والاصرار على صنع اسطورة ذات اصول مبكرة يبدو جزء  من هذه العملية([643]).

لان النظرة الاكثر واقعية وعلمية هي  أنه لا يوجد شعب أو أمة ذو أصل وجذور واضحة ونقية بالمطلق، ومن الاجدر أن ننظر إلى الكُرد على انهم حصيلة تخالط بين عدة مجموعات توطنت في زاكروس ومجموعات أخرى مرت بها في الطريق إلى أماكن أخرى.

إن البحث عن الأصول النقية لأية أمة أمر فرضته النزعة القومية في التاريخ الحديث وذلك بهدف خلق الذاكرة الجماعية الضرورية للشعور القومي والتماسك والتضامن القومي، ويسمي (يان اسمن) هذا العملية بـ (اعادة تركيب الذاكرة الجماعية، مونتاج الماضي)، لأنه حسب رأي (اسمن)، الوعي بالانتماء الاجتماعي الذي اطلقنا عليه مصطلح الهوية الجماعية يعتمد على مشاركة الانسان الفرد في معرفة مشتركة وفي ذاكرة مشتركة ايضا، تمثل ذاكرة المجموعة ككل([644]).ويكفي لتحديد الكردي من يقر بكرديته، حتى لو أنكر عليه الآخرون ذلك، كما يحصل بالنسبة للاكراد  في تركيا، حسب المعايير المعاصرة والمعتمدة في مبادئ حقوق الانسان لتحديد الهوية والانتماء وهو اخذ حرية الانتماء بنظر الاعتبار، فإن الكُردي من يقر بكرديته، وهذا الرأي ينم ايضاً عن تفكير عصري وعقلاني، لانه يترك للعاطفة القومية وحدها حرية الاختبار في الانشاء، وبعد ذلك يأتي دور الشروط الأخرى.

 كــُردســتان (الجغرافيا والهوية)

        إذا كانت الارض تشكل أحد أهم الأركان في تكوين الدولة، فانها تشكل كذلك أحد أهم العناصر الأساسية في تكوين هوية أية أمة إلى جانب العناصر الاخرى مثل (الثقافة واللغة والتاريخ والاصل والارادة والاقتصاد) المشتركة. و يؤكد (صموئيل ب. هنتغتون) على الارتباط الارض (المكان) بالهوية ويقول “ينتمي الناس بقوة إلى الاماكن التي خلقوا وعاشوا فيها، والتي وفقا لظاهرة- الجماعة الصغيرة- تمثل تماثلهم مع بلدهم ككل، فقد يرى الناس بعض المواقع المعينة انها تمثل شخصية الأمة الرمزية والتاريخية والثقافية وعلى نحو أكثر اتساعاً قد ينتمون إلى خصائص الارض العامة الجغرافية والطبيعية التي يسكنونها”([645]). لذلك نرى من الضروري البحث حول الارض وجغرافية كردستان بأعتبارها عنصرا اساسيا في تكوين الهوية القومية الكردية. كما يرى البعض بأن ” كُردستان هو الاسم الأحب إلى قلب الكُرد حيث يحرك آمالهم القومية، ويجعلهم يشعرون على الدوام بأن لهم وطنا قوميا خاصا بهم وأن هذا الوطن القومي ذو معالم جغرافية واقليمية متميزة وله حدود معلومة”([646]). و يقول (ابراهيم محمود) حول جغرافية كُردستان، ما أن تلفظ اسم (كُردستان) حتى يهتز التاريخ، ويرتج فـ(كردستان) ملحمة جغرافية، يعرفها التاريخ جيداً، ولا يعترف بها، كونه لم يدون الا لتمزيق هذه الجغرافيا، وتفتيتها. هذه الجغرافية المكانية الموغلة في القدم، لم تزل، كما كانت، شاهدة على ماضٍ عريق لا يمكن اخفائه، وان كان التاريخ المدون سياسيا، قد حاول، وما يزال يحأول، أن يمارس مثل هذا التعتيم لصالح الغزاة الذين اجتاحوه، وما زالوا يبتغون امتلاكه، كردستان شهيدة التاريخ، وشاهدة على عظمة المكان، لم يمتها الزمان ولم يمحها المكان([647]).

وحول اسم (كُردستان) أو (كوردستان)، يتفق معظم الباحثين على أنه اسم مركب من (كُرد) أو (كورد) و (ستان)، (الكُرد- الكورد) اسم لشعب و (ستان)، تعني البلاد باللغات الإيرانية مثل (باكستان وافغانستان و هندستان و بلوجستان)([648]).

ويعتقد (منذر الموصلي) أن (كوردستان) اصح من (كُردستان)، لغوياً وأن تعبير (كوردستان) إنما يدل في الاصطلاحين، الجغرافي واللغوي، على أرض محدودة لوطن بذاته يملكه شعب معين ويتوطن فيه أو يستوطنه منذ آماد بعيدة فهو وطنه ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان هذا الوطن يشكل دولة قومية سياسية أم عدة دول أو أنه موزع أو منقسم إلى اأقاليم تابعة لدول أخرى([649]). لقد تم استعمال كلمة (كردستان) كمصطلح جغرافي لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي من قبل السلاجقة، فقد فصل السلطان سنجار القسم الغربي من اقليم الجبال ووضعه تحت سلطة قريبه سليمان شاه، و كانت هذه الولاية الجديدة تشتمل على الاراضي الممتدة بين أذربيجان ولورستان، سنة، دياناوار، همدان كرمانشاه، بالاضافة إلى المناطق الواقعة غرب جبال زاكروس كشهرزور وكوى سنجق([650]). وأن أول مؤرخ ذكر اسم كردستان هو حمد الله ابن المستوفي القزويني في القرن الرابع عشر في كتابه نزهة القلوب عام (740هـ)([651]).

وجاء في الموقع الالكتروني الرسمي لحكومة إقليم كُردستان العراق حول تعريف كُردستان وتحديد مساحته، بأن “كُردستان تعني أرض الكُرد وهي المنطقة الجغرافية التي يقيم فيها الكُرد في الشرق الاوسط، و المنطقة موزعة على مجموعة دول هي العراق، إيران، سوريا، أرمينيا، جورجيا و تركيا، ومن الصعب تحديد المنطقة الجغرافية لكُردستان لعدم اعتراف الدول آنفة الذكر بهذا الكيان، وتم تقسيم كُردستان على هذه الدول قسراً في اتفاقية لوزان المبرمة بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى”([652]). اما تحديد حدود كُردستان فأنه ليس بالامر السهل، لانه إذا كان تحديد حدود أقاليم دول معترف بها قانونيا وسياسيا في المجتمع الدولي وذات سيادة من الامور ذات الإشكالية و موضوع جدل فكيف ستكون الحال مع حدود الاقليم الجغرافي لكُردستان المنقسمة والموزعة بين عدة دول وفي منطقة ذات مشاكل عديدة؟ فلا شك إذن سيكون من الصعب تحديد حدود كُردستان، كما يؤكد على ذلك (حكومة إقليم كُردستان العراق) في الموقع الالكتروني الرسمي، حيث جاء فيها حول مساحة وحدود اقليم كُردستان، وتشكل كُردستان في مجموعها ما يقارب مساحة العراق الحديث، أما تحديد مساحتها وترسيم حدودها فليس بالعمل السهل وذلك لاسباب متعددة ومنها:-

  1. تقسيم كُردستان من قبل الدول الاستعمارية الكبرى خاصة (بريطانيا وفرنسا) في اعقاب الحرب العالمية الأولى والتغييرات الحدودية التي قامت بها تلك الدول.
  2. عدم وجود احصائية حقيقية ومحايدة للمناطق التي يسكن فيها الشعب الكُردي والممارسات العنصرية التي كانت ولا تزال تمارس ضد أبناء شعب الكُردي من قبل الأنظمة الحاكمة والمسيطرة على كُردستان، ولكن بالرغم من كل ذلك يمكن تحديد حدود كُردستان بأنها تمتد من جبال أرارات في الشمال إلى سلسلة جبال زاكروس في الجنوب ومن جبال زاكروس أيضا في الشرق إلى (اسكندرونة) على ساحل البحر الابيض المتوسط وتقدر مساحة كُردستان بأكثر من (500000كم2) وتقع أكثر أراضيها في كُردستان تركيا ثم في إيران ثم في العراق ثم في سوريا تم في إذربيجان([653]).

ولكن إذا كان هذا هي رأي حكومة اقليم كُردستان العراق حول حدود ومساحة كُردستان، فإن للباحثين والاكاديميين آراء مختلفة ومتعددة حول هذه الامور كما يشير إلى ذلك  (ديفيد مكدول) ويقول بأن مسألة الاعتراف بالأرض تشكل أحد المسائل الأساسية فيما يتعلق بقضية الهوية الكردية، ففي حين تميل دول المنطقة إلى إنكار وجود كردستان، فإنها موجودة ضمن حدود منطقة معروفة تماماً في أذهان كافة الجماعات الكردية السياسية، وهناك تفسيرات عملية وأخرى أسطورية لحدود كردستان السياسية([654]). وفي رأي (منذر الموصلي) أن هناك فرق بين كُردستان الوطن التأريخي أو كُردستان الاصلية والحقيقية وبين كُردستان المتخيلة في التصورات العاطفية للاكراد، ويقول: ” يبقى أن كُردستان هذه التي ندرسها ونعرف بها أو عنها في هذا الكتاب، تختلف عن كُردستان التي تزدحم بها تصورات غلاة الاكراد المعاصرين بالنسبة إلى مساحتها وحدودها، فهذه الحدود تتعرض عندهم لتبدلات عديدة لأنها تتسع بلا ضوابط صحيحة وبشكل نظرى (خرائطي) غير معتمد علمياً أو واقعياً وتأريخيا، فقد يحلو لباحث كردي أو قائد حركة سياسية أن يضع حدوداً لكُردستان على هواه وعاطفته، فتراه يدخل فيها ويجعل ضمن حدودها مدناً وبقاعاً هي جزء لا يتجزء من وطن آخر”([655]). ويرفض منذر الموصلي آراء كل من (محمد امين زكي و عبدالرحمن قاسملو) والعديد من السياسيين والباحثين الكُرد الآخرين حول حدود ومساحة كُردستان ويؤكد على أن هؤلاء يمدون حدود كُردستان متتجاوزين على حدود الوطن العربي، ويؤكد على أن إدعاءات هؤلاء غير صحيحة، لان كُردستان التي يبغيها هؤلاء ليست بلاداً واحدة كما يدعون لا بسكانها ولا بعاداتها ولا بتاريخها ولغتها، وينصرف ذلك إلى الماضي والى الحاضر معاً، ولأنها بهذا الاتساع والشمول فهي ليست كُردية خالصة ولم تكن كذلك في يوم من الايام. بل أنها بوضعها الذي حدده هؤلاء، تكون كردية، عربية، أرمنية، تركمانية، تركية، وإيرانية تضم هذه الشعوب مجتمعة، لذلك حسب ما يذهب اليه (منذر الموصلي) فهناك كُردستان التاريخية أو كُردستان المركزية أي الاصلية حيث تواجد الاكراد فيها ولكن وجودهم امتد إلى خارجها عن طريق عمليات نزوح وزحوف مستمرة حيث تؤكد الحقائق التاريخية حسب رأي (الموصلي) بأن بلاد الاكراد لم تكن تتعدى حدود (حكاري – هكاري) التي منها انطلقوا إلى المناطق المجاورة، وبذلك توسعت رقعة سكنى الاكراد عدة اضعاف كردستان الاصلية، ولهذا ليست كل بقعة أرض يسكنها الكُرد هي كردية بالاصل أو جزء من كُردستان التاريخية والحقيقية. لذلك يرفض المعنى الشائع لكلمة كُردستان بأنها الأراضي التي سكنها الاكراد. وبالنهاية يلجأ (منذر الموصلي) ببساطة إلى نظرية الموآمرة لتفسير الاسباب التي تؤدي بالباحثين والقوميين والسياسيين الكُرد للتجاوز على أوطان الشعوب المجاورة في تمديدهم حدود كُردستان لاراضي العرب والفرس والترك. حيث يؤكد على تبعية هؤلاء للامبريالية العالمية والقصد وراءها هي الاستيلاء على أراضي تحتوي النفط ولذلك يسمى كُردستان المتخيلة في تصورات العاطفية للاكراد بـ (كردستان النفطية) ([656]).

وهناك آراء مماثلة لدى بعض الباحثين العرب ومن أبرزهم (سليم مطر)و (محمود الدرة). يقول (سليم مطر) بأن الذي يستحق الانتباه في تاريخ (كردستان) أن مساحتها الجغرافية تتوسع مع مر القرون، وهذا يدل على توسع الهجرة الكردية إلى مناطق جديدة كانت مقطونة بشعوب أخرى، وبالتالي تضاعفت مساحة كُردستان عدة مرات على حساب مجالات سكنى مناطق لم تكن كردية خلال حقب التاريخ السابقة ومقطونة بشعوب أخرى مثل اللور وبختيار والأرمن والسريان والعرب، ويتهم (سليم مطر) الاكراد بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الأرمن والسريان وتكريد مناطق غير كردية وتغيير ديموغرافية عدة مدن معروفة ويذكر (أربيل وديار بكر وكركوك… الخ) ويلجأ (سليم مطر) أيضاً إلى اتهام الكُرد بأنهم وقعوا تحت التأثير الصهيوني والامبريالي الغربي في تضخيم مآسيهم وفي صناعة الهولوكوسست وتوسيع رقعتهم الجغرافية([657]). ويقول ” إن هنالك حملة تشترك بها الصحف والفضائيات الكردية المدعومة بمراكز عالمية ودول مختلفة المصالح، اتفقت على تضخيم الطروحات والمشاريع الكردية من أجل التحضير لمخططات مستقبلية لمنطقة الشرق الاوسط، ويبدو أن هذه المؤسسات تتبع نفس الطريقة اليهودية المعروفة: تضخيم صورة الضحية لدى الاكراد”([658]). ويؤكد (سليم مطر) على العلاقة بين الموساد والاسرائيلي والحركة القومية الكردية وهذا من أسهل الوسائل لتشويه تاريخ حركة قومية وطروحاتها في منطقة الشرق الاوسط والتحريض ضدها.

ولـ(محمود الدرة) آراء مماثلة حول تاريخ الكُرد وجغرافية كُردستان ودور الصهيونية والامبريالية العالمية في التحريض وإثارة المسألة الكردية واختلاق الاعذار والمبررات لهذه الحركة وطروحاتها القومية كي تتجاوز على حقوق وأوطان الآخرين من العرب والترك والفرس في المنطقة، ويقول (محمود الدرة) بهذا الصدد “كانت المنطقة الكردية وهي تخلع عنها رداء جهل القرون الطويلة والتخلف، وتسير قدماً في المضمار الحضاري إلى جانب القومية قد حملت راية إنسانية مثلى، تبشر بها وتضحي من أجلها، ليست دخيلة ولا غاصبة لا تتحزب ولا تتعصب، توفر الرخاء لها و لشركائها بالعدل، ويطمع الكردي العراقي المتعصب أن يتخذ من وطننا العربي قاعدة لا للتبشير بقوميته الكردية وخلق الوعي القومي بين مواطنيه وحسب، وانما يريد تحرير مواطنيه في تركيا وإيران بقوة السلاح”([659]).

وفي حديثه حول إشكالية تثبيت الحدود العراقية ومسألة ولاية الموصل يؤكد (محمود الدرة) على أن الاكراد تجاوزوا حدود موطنهم الاصلي وتوسعت كُردستان نتيجة الهجرات الكردية المتتالية ونزحت من الجبال نحو السهول واستوطنوا في أاراضي الشعوب الأخرى([660]).

وبالعودة إلى آراء بعض الكُرد حول كُردستان وتحديد حدودها فأنها بالتأكيد تختلف كثيراً عما قاله الباحثون العرب السابقون، فعلى سبيل المثال يقول (جواد ملا) حول كردستان أنها الوطن القومي للشعب الكردي منذ فجر التاريخ، وهي تحتل مساحة كبيرة من اليابسة في الشرق الاوسط، ويمكن تحديد موقع كردستان ومساحتها بالاستناد إلى أمرين:

أولا- تواجد الشعب الكردي حالياً

ثانيا- ما قاله المستشرقون والمؤرخون عن تواجد الشعب الكردي عبر التاريخ([661])، ويمثل هذان المعياران الاساس لدى (جواد ملا) في تحديده حدود كردستان.

وبالاستناد إلى هذين الامرين تمتد كردستان من جهة الشرق اعتباراً من الخليج العربي وحتى بحر قزوين شاملةً اللور والبختيار في أقصى الجنوب يليهم شمالا ايلام و كرمنشاه وهمدان حيث كانت عاصمة الإمبراطورية الميدية الكردية في القرن السابع قبل الميلاد، ويتجه خط حدود كردستان شمالاً من بحر قزوين إلى الغرب باتجاه البحر الاسود ماراً بجبال أرارات (آكرى)، ويمثل الخط المنحني الوهمي الممتد من طرابزون على ساحل البحر الاسود باتجاه أضنة واسكندرون على البحر الابيض المتوسط حدود كردستان الشمالية والغربية. أما الحدود الجنوبية لكردستان فتأخذ شكل زاوية منفرجة أحد ضلعيها يمتد من اسكندرون بخط مستقيم حتى الموصل والضلع الثاني للزاوية يمتد من الموصل وحتى الخليج الفارسي (العربي) ماراً بمندلي وبدورة وزرباطية والكوت جنوب شرقي بغداد، كما اكد على ذلك كل من المستوفي القزويني و ماثيوس الاورخلي فيما بين القرن (11-12) الميلاديين([662]).

و يؤيد بعض الكتاب العرب هذه الآراء نسبياً ويحددون حدود كردستان حسب هذين المعيارين، كما يحدد (عبدالرزاق الحسني) حدود كردستان فيقول ” يقطن الاكراد مدنا وقرى تبتدئ من الحدود الإيرانية العراقية على خط مستقيم يمتد من جبل حمرين حتى جبل سنجار حتى تتصل بالحدود العراقية السورية”([663]). و يقول (فائق السامرائي): “ان كردستان تعني بأوسع معانيها البلاد التي يسكنها الاكراد كمجموعة موحدة متجانسة من الناس، وتنقسم هذه البلاد ما بين العراق وتركيا وإيران مع بعض الامتداد في الاتحاد السوفياتي وسوريا فمن الشمال تسير الحدود بصورة تقريبية خلال بريفان وارضروم واذربيجان أي بقول تدخل ضمنه مرعش حتى حلب، ومن الجنوب الغربي تسير بمحإذاة سفوح التلال حتى نهر دجلة ثم بعد ذلك شرقي هذا النهر إلى الاسفل ومن بعد ذلك يعرج شمالا مع خط جبل حمرين حتى مندلي على الحدود العراقية الإيرانية”([664]). وللمستشرقين آراء متباينة ومتعددة حول كردستان، فحسب رأي (باسيلي نيكيتين)، تعني لفظة كردستان بلاد الكُرد، وهي ليست دولة مستقلة يعيش ضمنها شعب متجانس، ولكن أكثرية على الاقل، تنتمي إلى العرق نفسه، وأن الأقاليم أو الولايات التي تحمل اسم كردستان، سواء في إيران أو في تركيا لا تمثل مطلقاً المنطقة الشاسعة التي يعيش فيها الشعب الكردي، ويؤكد (باسيلي نيكيتين)، على أنه إذا أردنا التعرف على البلاد التي يعيش فيها الكُرد، فلا يصح الاستناد إلى الاسم الذي يحمل كلمة كردستان، لأنه اصطلاح يختلف مدلوله من حيث الزمان والشمول، بل يجب البحث عن تحديد آخر ولا يمكننا إيجاده إلا بالرجوع إلى دراسة الجغرافيا الطبيعية لآسيا القديمة مع الأخذ بنظر الاعتبار المبدأ الثابت القائل إن الكُرد قوم جبليون بجبليتهم”([665]). ويؤكد أيضاً بأن هذه البلاد التي رغم أنها مقسمة بحدود سياسية، لكنها متجانسة بسبب طابعها الجبلي على اختلافها من حيث طبيعة جبالها والمياه الجوفية الموجودة فيها. وضمن هذا الإطار الطبيعي الذي يضم قمما عالية وسهولاً مرتفعة ومضايق وممرات و ودياناً عميقة متتالية، اتخذ الشعب الكردي منذ بداية تكون موطنه المفضل لديه. فإذا كان المجرى الاعلى لنهر الفرات وحوض بحيرة وان هي المناطق التي استقر فيها الكُرد بصورة مبكرة، إلا أن من الضروري البحث عن موطنهم الاصلي في حقبة تاريخية في الفروع الجنوبية لسلسة جبال طوروس وفي البلاد الجبلية الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دجلة (على امتداد أنهار يونان والخابور والزب الاعلى) وإذا ما عدنا أكثر إلى فجر التاريخ وجدنا أن الوطن الأول لهذا الشعب يقع في مكان أبعد من ذلك شرقاً وجنوباً ويقابل هذه المراتب الثلاث لاسلاف الكُرد من حيث الزمان ثلاث مناطق استقروا فيها من حيث المكان وهي الهضبة العليا لارمينيا وكردستان تركيا وجبال إيران الغربية.

        وبإختصار، انتشر الكُرد من الجنوب إلى الشمال في موجة واسعة على رقعة كبيرة تشمل الحدود العراقية الإيرانية ابتداء من مدينة (مندلي) شرقي بغداد، ويشمل فيما بعد الخط الذي يفصل بين إيران وتركيا حتى جبل أرارات و الحواشي الجنوبية للقفقاس (ارمينيا وإذربيجان السوفياتيين). وكان الكُرد يعيشون حتى الحرب العالمية الأولى في الهضاب الارمينية مختلطين مع الارمن، الا ان الخط الموازي لارض روم يعتبر حدهم الشمالي في تركيا. اما جنوبا فقد نزل الكُرد إلى سهول بلاد مابين النهرين. ومن جهة الغرب يمكن تحديد وجودهم بوجه عام بنهر الفرات (وبصورة أوضح نهر قرةسو). الا انهم يمتدون اعمق من ذلك في اسيا الصغرى ويقطنون المنطقة الجنوبية الشرقية من (سيواس) وينتشرون ايضا كمجموعات متفرقة قرب (قونية) و (سيلسي) واصلين تقريباً إلى البحر الابيض المتوسط. ومن جهة الشرق، توجد عناصر متناثرة من الكُرد في خراسان (ابعدهم إلى هناك الشاه عباس الصفوي)، وبالقرب من قزوين واقليم (فارس) وكذلك في مازندران. ويقول (نيكتين)”([666])، ويمكننا بوجه عام التاكيد على ان الكُرد والجبل لا ينفصل احدهما عن الاخر، وحينما يبدأ ” السهل يخلي الكُرد المكان للعرب أو الترك أو الفرس، وعلى ضفاف بحيرة وان ينسحبون جنوباً امام الأرمن”([667]).

        إذا نستنتج من كل هذه الآراء حول تحديد كردستان، بأن كردستان بلاد ذات حدود طبيعية وهي وطن الشعب الكردي رغم عدم وجود حدود سياسية دولية ورغم تقسيمها بين دول العراق وإيران وتركيا وسوريا وارمينيا، وجغرافية كردستان تشكل عنصراً اساسياً من الهوية القومية الكردية، والحركة القومية الكردية مصرة على تحويل الحدود الطبيعية لكردستان إلى حدود سياسية لكيان سياسي مستقل أو شبه مستقلة، وهي تصر على أن كردستان هي بلاد الاكراد وتحدد حدودها حسب تواجد الشعب الكردي بالاضافة إلى الرجوع إلى اقوال بعض المستشرقين وخاصة الذين تكون اقوالهم في صالح الكُرد. وبذلك تساهم إشكالية تحديد حدود كردستان الجغرافية والطبيعية في تعميق إشكالية الهوية القومية الكردية.

 اللغة والثقافةوالهوية القومية الكردية– اللغة الكردية

        إن أهمية اللغة في حياة الانسان الفكرية والاجتماعية من الأمور التي لفتت أنظار الكتاب والمفكرين منذ الازمنة القديمة، حيث لاحظوا بأن اللغة هي أهم الصفات التي تميز الانسان عن سائر الحيوانات، لذلك عرفوه بقولهم “حيوان ناطق”، وفي الواقع أنهم عرفوا الانسان من جهة أخرى بقولهم (حيوان عاقل) و (حيوان اجتماعي) أيضا ولكن  لا مجال للشك في أن تعبير (الحيوان الناطق) أصدق وأصح التعابير الثلاثة المذكورة([668]). ويقول (بويد شيفر) “تعد اللغة المشتركة من أقوى العوامل المكونة للأمة، ويكاد جميع الباحثين في موضوع القومية يعتقدون بأن اللغة عنصر أساسي في تكوينها، وهذا أمر لا يمكن انكاره. ولكن من الضروري أن نؤكد على أن اللغة لم تكن غير عامل واحد فقط، وأنها ليست عاملاً فاصلاً في جميع الحالات، فقد لا تفصل الفروق اللغوية الأمم بصورة واضحة”([669]). وهناك من يعتقد بأن اللغة هي دم الروح، وأنها اساس الجماعة، لأنه غالباً ما يتماثل الناس من مختلف الاعراق ومختلف الاديان في ما بينهم، ولكن إذا كانوا يتكلمون اللغة نفسها يمكنهم  أن يتكلموا معاً ويقرأ أحدهما يكتبه الآخر، لأنه حسب رأي هؤلاء فأن الأمم هي جماعات من الناس الذين يتواصلون على نحو أكثر شمولاً وتركيزاً فيما بينهم أكثر مما يتواصلون مع الناس الاخرين. و يغدو التواصل صعباً إذا لم يكن مستحيلاً دون لغة مشتركة،  وتصبح الأمة ميداناً لمجموعتي لغة أو أكثر التي يتواصل أفرادها على نحو أكثر تركيزاً مع أفراد مجموعتهم من هؤلاء الذين ينتمون إلى المجموعة الاخرى، ويؤكد (صموئيل هنتنغتون) على أهمية العلاقة بين اللغة والهوية، ويعتبر أن اللغة الانكليزية كانت ولاتزال تشكل عنصراً مركزياً في الهوية الامريكية([670])، وحسب النظرية القومية الالمانية فإن اللغة تشكل العنصر الأساسي في تكوين الأمة*.

وعلى هذا الاساس يؤكد (ساطع الحصري) أن انحلال كل من السلطنة العثمانية والامبراطورية النمساوية أيضا جرى من جراء اختلاف لغات الشعوب التي كانت تابعة لها، ويقول “فقد انفصلت عن السلطنة العثمانية كل الشعوب التي تتكلم بغير اللغة التركية كما انفصلت عن النمسا الشعوب التي تتكلم لغة غير الالمانية”([671]). ومن هنا تبرز أهمية اللغة في تكوين الهوية القومية الكردية، فعندما بدأت الحركة القومية التركية تفرض لغتها وثقافتها على الشعوب والامم الخاضعة للحكم العثماني بدأ الوعي القومي الكردي يتبلور شيئاً فشيئاً، وازدادت وتصاعدت حدة هذا الوعي أكثر مع نشوء الدول القومية الحديثة (العربية، والتركية، والفارسية) حيث إن ضرورة بناء الدولة الحديثة ارتبطت بضرورة فرض اللغة الرسمية للدولة على المواطنين، ولكن الاختلاف والتعدد في تكوين هذه الدول العرقي والثقافي اديا إلى التصادم بين اللغة الرسمية المفروضة واللغات الأخرى للمكونات العرقية المختلفة عن المكون العرقي المهيمن والمسيطر. وتمثل هذا التصادم في العراق  بالنسبة للكُرد بالتصادم بين اللغة العربية واللغة الكردية و في تركيا بالتصادم بين اللغة التركية واللغة الكردية وفي إيران بالتصادم بين الفارسية والكردية. ويعتقد (بةختيار عةلى) بوجود تشابه واضح بين نشوء القوميات في أوروبا وعملية تزايد أهمية اللغات القومية مقابل تراجع اللغة اللاتينية مع تراجع أهمية اللغة العربية باعتبارها لغة الدين الاسلامي مقابل اللغات القومية للكرد والترك والفرس والقوميات الاسلامية الاخرى([672]).

ويقول (بةختيار عةلى)، فقدت اللغة العربية سيادتها وأهميتها كلغة موحدة للعالم الاسلامي ولغة للثقافة، كما فقدت اللغة اللاتينية مكانتها الريادية بعد اللوثرية في الغرب، وضعف العربية مصاحب لنشوء الحركات القومية والتعامل القومي السياسي الحديث مع اللغة. ولكن القومية الكردية وطوال القرن العشرين لم تقدر أن تخلق وعياً قومياَ كردياَ مميزاً وموحداً، لأن اللغة الكردية بقدر ما هي عامل اختلاف وتمايز بين الكُرد والامم الأخرى بصورة فعالة، فانها لم تستطيع أن تخلق وعياً قومياً عاماً وموحداً، وإذا كان الارهاب والمنع الخارجي أحد أسباب إضعاف هذه اللغة، فإن ضيق إطار استخدام اللغة الكردية للتعبير والتواصل هو أيضا أحد أسباب هذا الضعف([673]). وبالرغم من تعدد محاولات إثبات أن القومية الكردية تقوم على أساس اللغة الكردية بأعتبارها لغة مشتركة تشكل الهوية القومية الكردية، إلا أنه كما يقول (بويد شيفر) لاتتطابق خطوط اللغة مع ما يسمى بخطوط العنصر أو الثقافة، كما ان القوميون يميلون إلى الاعتقاد بأن لغتهم تراث مشترك لأمتهم، وانها لسان طبيعي لشعبهم، وهنا أيضا يجب أن نميز بين الحقيقة والخيال، بين التاريخ الصادق والخيال والخرافة، فليست هناك لغة تاريخية مشتركة ثابتة، لأنه إذا سرنا مع الحقيقة لا وراء الخيال، نجد أن اللغات تتغير وتنمو وتموت وأنها لم تكن راكدة مستقرة على الاطلاق ولا بنفس الشكل، وهي لن تكون كذلك أبداً، ومع أنه من الممكن تتبع جميع اللغات إلى جذورها واصولها فأنه لم تظهر أية لغة منها إلى الوجود دفعة واحدة، فهي ليست جميعاً سوى خليط مركب من لغات اقدم منها تفرعت بدورها عن لغات أخرى أعرق في القدم ثم توسعت وازدادت حيويتها، كالفرنسية والانكليزية، عن طريق تدفق مفردات أجنبية ومفردات جديدة استعملت لوصف أشياء جديدة في المحيط الطبيعي المادي والمحيط الاجتماعي([674]). لذلك فإن وجود لغة مختلفة لوحدها لا يخلق قومية أو أمة مختلفة ومستقلة، وإنما التعامل القومي والسياسي مع اللغة هو الذي يجعل من الجماعة أمة مميزة بلغتها القومية أي أن اللغة تصبح لغة قومية إذا تم التعامل معها قومياً.

و لعل الشعراء الكُرد هم أول من استخدم الكردية، لغتهم الأم، في أعمالهم، وصدرت أولى الروائع الادبية المعروفة التي جعلت اللغة الكردية رمزاً للهوية الجمعية وعنواناً لهوية الشعب الكردي في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما كانت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية توحدان أركانهما: وكانت كُردستان وقتذاك هدفاً لاطماع جيرانها الأقوياء الذين تقاتلوا عليها بلا هوادة مخلفين ورائهم تركة من الدمار. وفي نهاية القرن السابع عشر، طرح الشاعر (أحمدي خاني) الفكرة القائلة بأن الكُرد شعب متميز وذلك في عمله (مَم و زين) فهذه الملحمة المؤلفة من (2655) وحدة ثنائية الابيات، مترعة بالصور الشعرية والمشاهد الغنائية وتزخر قصة الحب المأساوية هذه الأبيات بطليها (مم وزين). وبالرموز القومية وتتفجر روحاً وطنية، وهناك من يعتقد بأن الشاعر كتب قصته الرومانسية هذه رداً على صعود النزعة القومية عند العثمانيين والصفويين، ويقول (خاني)([675]):

هذب لسان الكُرد ونقاه من الشوائب
مثلما حصل مع لغة الداري

وسبك هذا اللسان في قالب متين
متجشماً هذا العناء من أجل شعبه

حتى لا يزعمن احد أن الكُرد
جهال بلا جذور أو أرومة أصلية

    وحسب رأي (أحمدي خاني)، أياً تكن نواقص اللغة الكردية، فهي تبقى متفوقة على لغات أخرى، وكان (خاني) رائدا يعرف بالسليقة ارتباط اللغة والادب بالثقافة والأمة إلى جانب كونها مؤشراً للإثنية، وشاع هذا الموقف في اللغة الكردية طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد كتب الشاعر حاجي قادر كويى([676]) ” لا تقولوا إن اللغة الكردية لم تبلغ شأن الفارسية نقاء فالكردية تمتاز بلباقة لا تدانيها أعلى الذرى لكن التكافل بين الكُرد حط من قيمتها وشأنها”([677]).

و تعتقد غالبية الأدباء، والأدبيات الكُرد، إن لم يكن كلهم، بأن اللغة الكردية أداة حقيقية للتعبير عن هويتهم القومية، ومعيار مهم يميزهم اثنيا وقوميا عن جيرانهم. ولكن هناك من يعتقد بأنه بالرغم من كون الثقافة حالة مهمة معبرة عن المرحلة الحضارية تعيشها الأمة، ولكنها ليست الأمة، لذلك فان الإغراق في المباحث اللغوية قد يكون أمراً مهماً في طرح الهوية الثقافية للأمة لكنه لا يحدد ماهية الأمة ولا يثبت الانتماء الاجتماعي، ونحن نقف دائماً على حالات حضارية تثبت بأن الثقافة تتبع الأمة بمراحلها الحضارية فتبدل لغات الشعوب وثقافتهم لا يعني تبدل الأمة وانحلالها([678]). إذأ وحسب هذا الرأي لا تعتبر اللغة محددة للامة، والبحث عن الجذور اللغوية أي دراسة اللسانيات على أهميتها لا تحدد الأمة ولا تاريخها بل تحدد الارتقاء الثقافي العام، والأبحاث اللغوية عندما تحأول البحث عن الجذور اللغوية والنقاء في اللغة، تقع أسيرة المحدودية، ذلك أن اللغة نتاج اجتماعي يدل تطوره على رقي الجماعة، كما أن الجذور اللغوية لا يمكن تحديدها وفصلها بشكل دقيق لتداخل شعوب وحضارات المنطقة، فاللغة كائن حي يتطور بالتفاعل بين الشعوب وتسيطر بعض اللغات لحركيتها أو لقوة القوم الذين يستعملونها، وتندثر لغات أخرى، مما يدل على أن اللغة شأن متعلق بالنشاط القومي وليس بتأسيس الرابطة القومية([679]).

ويعتبر (ديفيد ماكدول) بأن المؤشر الآخر على الأصول المختلفة للاكراد يكمن في التنوع اللغوى في كردستان ويشير إلى وجود لغتين أو لهجتين رئيسيتين موجودتين في الوقت الحاضر، حيث يرى في تعدد اللهجات الكردية إشارة ودليلاً على تعدد وتنوع أو اختلاف الأصل العرقي والإثني الكردي([680]). و أدى هذا التوجه بـ (سليم مطر) أن ينفي وجود شيء اسمه (أمة كردية أو شعب كردي) ليستخدم بدل ذلك (الشعوب الكردية) لأنه يعتقد بأن الناظر يعمق إلى الفروق اللغوية والثقافية وحتى الشكلية بين الجماعات الكردية يكتشف أنهم يستحقون تسمية (شعوب كردية) ومن ضمن الفوارق الاساسية التي تحتم هذه التسمية هي الفروق اللغوية المتمثلة بوجود اربع لغات مختلفة رغم تقاربها بدرجات متنوعة. وأن التشابه بين هذه اللغات يكاد أن يكون بالدرجة التي تتشابه بها اللغة العربية مع السريانية والعبرية، ويشير (سليم مطر) إلى الاختلافات بين اللغات السورانية والبهدينانية (الكرمانجية) والزازائية والكرمانشاهية والفيلية المتأثرة بالعربية واللورية، ويبدو أن هناك اصراراً من قبل الأطراف الكردية السياسية والثقافية على غض الطرف عن هذه الحقيقة اللغوية المزعجة بسبب تناقضها مع المفهوم القومي التوحيدي السائد([681]).

ولكن مثل هذه الرؤية تعمل في الوقت ذاته على بناء هوية عراقية أو رافدية كما يسميها، ويسمى شعوب المنطقة بأنهم شعب واحد ومتجانس بالرغم من كل الاختلافات العرقية والثقافية واللغوية([682])، وهذا تناقض صارخ، فكيف يمكن تسمية اللهجات الفرعية في اللغة الكردية بـ(اللغات) وجعلها معياراً للتمايز والتباين بين الجماعات الكردية، وتجاهل الاختلافات اللغوية الواقعية والحقيقية بين الكردية والعربية والسريانية والتركمانية والاعتراف بكل القاطنين في المنطقة بأنهم شعب واحد ومتجانس. إذ أن التنوع والتعدد في اللهجات ضمن أية لغة لا يجعل الناطقين بها أمما وشعوباً مختلفة ومتمايزة لاننا إذا طبقنا هذا المعيار فلن نجد أمة واحدة في العالم ذات لغة واحدة خالية من وجود لهجات فرعية متنوعة.

ويعتقد القوميون الكُرد بأن للشعب الكردي لغته القومية الخاصة به وهي اللغة الكردية بلهجاتها المتعددة وهي لغة مستقلة قائمة بذاتها لها قواعدها ومفرداتها الخاصة بها، وهي ليست لهجة تركية محرفة أو لهجة فارسية صغيرة كما يزعم الترك والفرس. وأن اللغة الكردية كاللغة الفارسية تنتمي إلى المجموعة الإيرانية من اللغات الهندو أوروبية من حيث الأصل([683]). ولا يؤثر على صحة هذا الرأي كون اللغة الكردية متعددة اللهجات، لأنه لا توجد في العالم لغة تخلوا من لهجات مختلفة. ولكن ضعف اللغة الكردية يكمن في عدم وجود لغة كردية موحدة ورسمية بين جميع الاكراد، ويرجع ذلك بالدرجة الأساسية إلى غياب الكيان السياسي القومي الكردي المستقل([684]). ويعتقد بعض الاكراد بأنه في محأولاتها قمع الهوية والانبعاث الكُردي استخدمت تركيا وإيران وسوريا والعراق أشكالا مختلفة من القمع ضد الكُرد بدرجات متفاوتة من النجاح. حيث كان القمع الثقافي أكثر فعالية من القمع السياسي أو الاستغلال الاقتصادي، وأثبت أنه سلاح يمكن بواسطته منع الكُرد من تأكيد هويتهم وأن الاشكال التي نفذ بها القمع الثقافي كانت متنوعة ومن ضمنها محاربة اللغة الكُردية التي كانت بمثابة القوة المثبتة للقومية الكُردية وبقائها. مما اضطر الكُرد للخضوع لأبجديات الامم السائدة في كل من إيران وتركيا والعراق وسوريا. فقد استخدموا في تركيا الأبجدية اللاتينية، وبالرغم من أن اللاتينية كانت مناسبة للكوردية بشكل أكبر، الا أن ذلك أنهى التبادل والتواصل الثقافي بين كورد تركيا و كورد إيران و العراق وسوريا من جهة أخرى، لأن الاخيرين استمروا في استعمال الحروف العربية. وطبقت في تركيا في إذار (1924) إجراءات صارمة بهدف قمع لغة مواطنيها الكُرد، فضلاً عن ضمان توفير التعليم والمعرفة لأولئك الذين يتحدثون باللغة التركية فقط، وصار امتلاك مواد مكتوبة بالكُردية جريمة خطيرة يمكن أن يعاقب عليها الجزء بالسجن لمدة طويلة([685]). وفي العراق تم ضمان اللغة والادب الكرديين وبعض الاشكال الاخرى من التعبير الثقافي في دستور عام 1925، وقد نصت المادة السادسة عشرة منه على حق الطوائف المختلفة في تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغتها الخاصة، وقد صدرت بعد ذلك توصيات و تشريعات بخصوص كون اللغة الكُردية لغة رسمية في كُردستان العراق، إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ، بسبب اعاقات بيروقراطية متعمدة من قبل الحكام. ومن ذلك على سبيل المثال، التوصيات الواردة في تقرير اللجنة الدولية لعصبة الامم حول مشكلة الموصل في عام 1925، وقانون اللغات المحلية عام 1931 الذي أصدرته الحكومة العراقية بناءً على طلب السلطات البريطانية للاعتراف باللغة الكُردية لغة رسمية، وحصل تقدم أكثر في الوضع بعد سنة 1958 عندما تم الاعتراف رسميا باللغة الكردية بوصفها لغة ثانية في البلاد([686]). وهناك تفسيرات مختلفة لهذه التطورات في العراق، حيث يعتبرها البعض فضلاً ومنة من الحكومات العراقية العربية على الاكراد([687])، ويعتبرها البعض الآخر مكتسبات قومية كردية نتيجة كفاح ونضال قومي كردي([688]). ونستخلص ان من الملامح المهمة لإعتزام الاكراد بعث أمتهم واقامة دعائم بنيانها القومي هو اهتمامهم بلغتهم القومية والتفاتهم اليها برغبة وجموح وحماس ظاهر، إذ لا أمة بدون لغة ولا مستقبل لقومية في عالم اليوم بدون صرح ثقافي وأدب مدون وصحافة حديثة وتراث فكري متميز. وان الاكراد لا يفتقرون إلى لغة خاصة، وتقوم حالياً جهود مضنية للتغلب على تعدد لهجاتها ودمج هذه اللهجات بعضها ببعض و وضع حد للانعكاسات السيئة التي تنتج عن هذه التعددية في مجالات الثقافة والتعليم والسياسة أي في النضال السياسي القومي من أجل وحدة الاكراد وتوحيد الوطن القومي الكردي، لأن الاكراد يشكون حقيقة من هذه الإشكالية في لغتهم وهي عائق أمام توحيدهم وتكامل هويتهم القومية. وحسب رأي القوميون الكُرد فأن اللغة الكردية هي من أهم العناصر توحيد وتواصل الكُرد فيما بينهم وتمايزهم عن غيرهم، أي يعتبر الكُرد لغتهم نقطة تمايزهم عن غيرهم من القوميات الاخرى ويقول البعض بأن اللغة الكردية هي الهوية القومية الكردية فلا وجود للقومية الكردية بدون اللغة الكردية([689]).

إشكالية الهوية الكردية بين القومي الكُردستاني والوطني العراقي

أولا: نشوء الحركة القومية الكردية والنزعة القومية الكردية

قبل البدء في البحث عن نشوء النزعة القومية الكردية أو نشوء الحركة القومية الكردية لا بد أن نميز بين ثلاث مستويات مختلفة من مستويات الترابط القومي كما يميزها بعض الباحثين([690]):

أولا/ المستوى الوجودي الشعوري للارتباط القومي:

و يعبر هذا المستوى عن احساس الجماعة الاجتماعية بذاتها بوصفها جماعة مميزة تحدد نفسها بـ (نحن) وتميز الآخرين بوصفهم (هم). و تشترك في هذا المستوى كل الجماعات القومية القديمة والحديثة، البدائية والمتحضرة، الصغيرة والكبيرة، لا فرق بينها في ذلك الاحساس، وينعكس هذا المستوى في صورة شعوراحساس إنساني فردي وجماعي بوحدة الجماعة التي ينتمي اليها الفرد ويشترك مع باقي اعضائها بخصائص توحدهم وسمات تميزهم. ومن ثم يترتب على ذلك شعور احساس مرادف ومقابل بالاختلاف عن الجماعات الاخرى انطلاق من التباين معها في السمات والخصائص التي تتمتع بها. ويخلق هذا الشعور الاحساس فضائين اجتماعيين وثقافيين نسمي الفضاء الذي تنتمي اليه الجماعة بـ(نحن/ ذات) ونسمي فضاء غيرهم بـ (هم/ الآخر).

ثانيا/ المستوى الوجودي الفكري للارتباط القومي:

و يعبر هذا المستوى عن تقدم الجماعة القومية خطوات جديدة على طريق تعميق ارتباطها القومي وصولاً إلى ما هو أبعد من المستوى الوجودي الشعوري، حيث تحتفظ الجماعة القومية بالمستوى الأول، لكنها تضيف اليه قيامها بتقديم مساهمات نظرية فكرية واعية، تؤكد من خلالها وحدتها وتمايزها، وتعمل من خلالها على الدفاع عن ذاتها وتأكيد مصالحها القومية وقيمها، جاعلة من رابطتها القومية محركا لنشاطها الفكري الواعي واقعا لهذا النشاط. وتتم اطار هذا المستوى محاولة التعبير عن وحدة الجماعة القومية وهويتها المميزة، والبحث في ذلك و تأمله نظرياً باستخدام الادوات الفكرية ومنتجاتها و أساليبها المختلفة، أدبية كانت أم فنية أم بحثية منهجية. وإذا كان المستوى الأول أمراً تشترك فيه كل الجماعات الانسانية فأن المستوى الثاني يقتصر وجوده على عدد أقل من الجماعات القومية، تتميز ببلوغها درجة من الرقي والتحضر تسمح لها بخلق وتطوير ادوات تعبير فكري واع تجسده شعراً أو قصة أو رواية أو بحثاً منهجياًفي الظاهرة القومية.

ثالثا/ المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي:

وهو آخر المستويات الوجودية للارتباط القومي وأكثرها عمقاً وتطوراً وتعقيداً، إذ يضم في إطاره عناصر ومضامين المستويين السابقين مضيفاً اليها عناصر جديدة ذات طبيعة سياسية وقانونية تلخصها الحقوق الأساسية الثلاثة للجماعات القومية أو الأمم التي ظهرت في إطار المستوى الوجودي السياسي ومثلث جوهره وأساسه ألا وهي:

  • حق الجماعة القومية (الأمة) في تقرير مصيرها.
  • حق الجماعة القومية (الأمة) في إقامة دولتها القومية المستقلة الموحدة.
  • حق الجماعة القومية (الأمة) في السيادة الكاملة في دولتها وعلى إقليمها.
  • هكذا تكون ولادة المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي مشروطة بامتلاك الجماعة القومية للمستويين الوجوديين الشعوري والفكري ثم امتلاكها لحق تقرير مصيرها واقامة دولتها القومية المستقلة ذات السيادة.

اما مايخص البحث عن نشوء النزعة القومية الكردية فانه من الصعب تحديد تأريخ محدد لهذا النشوء يتفق عليه الباحثون، والسبب هو أولاً قلة الدراسات والأبحاث الاكاديمية حول هذا الموضوع وثانيا عدم التمايز بين المستويات الثلاث الذي ذكرناها بخصوص الترابط القومي مما يؤدي بالبعض إلى اعتبار عام (1695م) أي عام كتابة (مم و زين- مةمء زين) من قبل الشاعر الكردي (أحمدي خاني) بداية نشوء الفكر القومي الكردي وايضا بداية ظهور الحركة القومية الكردية([691]). ويعتمد هؤلاء على بعض الأبيات الشعرية من قصائد (أحمدي خاني) يصف ويمدح فيها شهامة وشجاعة الكُرد، وينتقد أمراء وحكام الامارات الكردية لأنهم أصبحوا تابعين للترك أوالعجم، بالاضافة إلى ذلك فانه يؤكد على ضرورة الوحدة بين الكُرد ويقول، إذا توحدالكرد وتضامنوا فيما بينهم، فان الروم والعجم سيصبحوا خدماً عند الكُرد، وهكذا نحن (الكُرد) نكمل ديننا و دنيانا ودولتنا وسنصل إلى قمة العلم والحكمة. وحول تبريره وتفسيره الكتابة باللغة الكردية يقول (أحمدي خاني)([692]).

دا خلق نةبيذيتن كو اكراد بى معرفتن بى أصل و بنياد
هةم اهلى بةبين كو كرمانج عشقى نةكردن ذبو خوة امانج

يقصد (أحمدي خاني) انه كتب باللغة الكردية حتى لا يقولوا بأن الكرد هم في الاصل لا يعرفون الكتابة والقراءة وأنهم يفتقدون العلم والمعرفة والثقافة، ويقول أحمدي خاني أيضا “إنني حائر في المصير الذي خصصه الله للكرد، هؤلاء الكُرد الذين بلغوا المجد بسيوفهم، كيف يصح منعهم من حكم أنفسهم بأنفسهم واخضاعهم لسلطة الآخرين؟ إن الترك والفرس محاطون بأسوار كردية وكلما تحرك جيوش العرب والترك سبح الكُرد في الدماء التي يسفكها هؤلاء إننا متفرقون دوماً وعلى خلاف فيما بيننا، ولا يخضع الواحد منا للآخر… أما إذا اتحدنا جميعاً، فلن يستطيع هؤلاء الوقوف في وجهنا”([693]).

إن مكانة (أحمدي خاني) وعلاقته بالقومية الكردية مرتبطة بالدرجة الأساسية بمكانته و دوره في الثقافة والأدب و اللغة الكردية بصورة عامة، بالرغم من أن العمل في اللغة لا يكفي لنشوء النزعة القومية الكردية، وأن (أحمدي خاني) لم يستطيع التحرر من تأثير الفكر الديني والثقافة الدينية في استخدامه لمفاهيم ومصطلحات مرتبطة بالثقافة الدينية الاسلامية أكثر مما ترتبط بالثقافة أو الفكر القومي الحديث، علما بأن المفاهيم السياسية القومية لم تتبلور بصورة واضحة حينها حتى في الغرب([694]). وهكذا حسب راي بعض الباحثين لا يمكن اعتبار بعض الأبيات شعرية ذات الطابع العاطفي في التعبير عن الحب للقوم، بأنها جوهر الفكر القومي الكردي ومن ثم بداية الحركة القومية الكردية. ولكن يمكن القول بأن (أحمدي خاني) ساهم في ظهور الفكر القومي الكردي،أو مهد له بدعوته لنصرة الكُرد وتمنياته الوحدة والغلبة الكردية مقابل الفرس والترك ومطالبته بأن يحل الكُرد مكان الترك في الحكم ولم يطالب بتأسيس  دولة كردية قومية([695]). يقول (به ختيار عةلى)، أن من أكبرالأخطاء هو البحث عن تأريخ النزعة القومية والحركة القومية في الأدب، لانه لا يمكن لنا البحث عن الفكر القومي والحركة القومية في الأدب والشعر، ولهذا فمن الخطأ أن نعتبر بيت شعر لأحمدي خاني أو لغيره، دليلاً على وجود الفكر القومي والحركة القومية الكردية، لأن النزعة القومية ليست فقط خيالاً يوتوبياً، وانما هي حقيقة و واقعة اجتماعية وسياسية ومشروع صريح و واضح، قد يبدأ مع اليوتوبيا أو يدعمه الخيال لكنه لا تقف ولا تكتفي بهذا الحد([696]).

وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك (أي ابعد من أحمدي خاني)، بكثير بأرجاع الوعي والحركة القومية الكردية إلى معركة جالديران (1514) التي وقعت بين جيوش السلطان العثماني سليم جيوش الشاه اسماعيل الصفوي التي أدت إلى تقسيم كُردستان لأول مرة بين الصفويين والعثمانيين([697]).

ويقول (احمد تاج الدين) إن المرحلة الأولى للنضال القومي الكردي هي مرحلة موقعة جالديران([698]). ويقول (جةمال نةبةز)، في الحقيقة لا يمكن معرفة متى وكيف بدأ الاكراد نضالهم القومي لتأسيس دولتهم القومية الموحدة والمستقلة، ولكن من غير المشكوك فيه بأن مثل هذه الدولة الكردية المستقلة وجدت على شكل إمارات منذ القدم، حيث كانت كل امارة تحتوي وتضم جزء من الأمة الكردية([699]). ويحأول (جةمال نةبةز) أن يفسر كل المحاولات التي قام بها الاكراد تلك لتوحيد الإمارات بأنها محاولات قومية من أجل بناء دولة قومية كردية، ولكنه يرجع ويؤكد على أن النضال العملي من أجل الدولة الكردية الموحدة والقومية بدأ في القرن الثامن عشر، و وصل إلى ذروته في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما بدأ أمراء البابان والسوران والبوتان والبهدينان والاردلان ثوراتهم الواحدة تلو الأخرى ضد العثمانيين والقاجاريين، فان هؤلاء كلهم بدأوا النضال القومي الكردي في التاريخ الحديث من أجل دولة كردية قومية مستقلة([700]).

ولكن هذه الآراء هي محاولة لإسقاط الماضي على الحاضر والحكم على التاريخ الماضي والاحداث الماضية بمعايير حديثة، إذ لا يمكن اعتبار كل انواع الصراعات السياسية والاجتماعية بين المجموعات السكانية قبل نشوء مبدأ القوميات نزاعات وصراعات قومية. يقول (جلال الطالباني) بصدد ظهور القومية الكردية وحركتها التحررية، إن هذه العملية الاجتماعية، عملية تكون القومية الكردية ونشؤ حركتها التحررية، قد نجمت عن تفاعل جملة من العوامل الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية مع العناصر الأولية للأمة الكردية التي كانت بمثابة المواد الخام في هذه العملية الاجتماعية المهمة، واهم هذه العوامل هي([701]):

  1. احتلال واستعباد كردستان و آثارهما ونتائجهما، بعد الحملات العسكرية والقضاء على الإمارات الكردية وجميع مظاهر الحكم الكردي فيها والعمل على اخضاع الشعب الكردي بقوة الحديد والنار لسيطرة عثمانية المظهر وتركية الجوهر وفرض نظام مركزي.
  2. مقاومة سلمية ومسلحة ضد الغاصبين العثمانيين وحدوث انتفاضات مسلحة، وان هذه الإنتفاضات الثورية المسلحة أعطت السعرات الحرارية التي ساهمت في صهر العناصر الأولية للأمة الكُردية.
  3. التطورات الاجتماعية- الاقتصادية، في مجتمع كردستان وتصادمها مع السيطرة التركية.
  4. ما نتج عن توحيد الإمارات الكردية والمقاطعات المختلفة تحت لواء دولة واحدة ذات نظام واحد، من توحيد للاعراف والقوانين وتشابه في العادات ومن زيادة الاختلاط والامتزاج بين الاكراد.
  5. ظهور الحركة القومية التركية بعنف وبشكل عنصري ونشوء الحركات الوطنية في أرمينيا والبلدان العربية وبلغاريا وتأثير وانعكاس هذه الحركات على المتعلمين ورجال الدين الاكراد.

ويقول جلال طالباني أننا نستطيع في ضوء ما تقدم ملاحظة حقيقة ان القومية الكردية- بشكلها الابتدائي- والحركة القومية للشعب الكردي- في دور البداية والنشوء – قد ظهرتا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم غدت معالمها ظاهرة و واضحة رويداً رويداً معالمها ظاهرة وواضحة بحيث تبلور الشعور القومي المنعكس عنهما أيضا وانتشر بين المتعلمين والمتنفذين الاكراد- والوطنيين من التجار وأصحاب المانيفكتورات والمصدرين والمستوردين الذين أربكت السيطرة التركية أعمالهم وهددت مصالحهم بالضياع والضرر وبحيث اتخذ النضال الكردي ضد العثمانيين الغاصبين وسيطرتهم طابعاً قوميا لا لكونه فقط ضد الغاصبين الاجانب ودفاعاً عن نوع من الاستقلال القومي بل ولكونه ذا مضمون اجتماعي أيضاً([702]).

ويحدد (باسيلي نيكيتين) ثلاث مراحل تطورية للحركة الوطنية الكردية كالتالي([703]):

المرحلة الأولى، هي فترة التمردات والهيجانات الاجتماعية وثورات الاقطاعيين الحريصين على امتيازاتهم، حيث رافقت ثورة تركيا الفتاة محاولات عدة قام بها الكُرد من أجل تنظيم أنفسهم بغية الحصول على نظام يعترف بخصوصيتهم القومية، وتلك هي المرحلة الثانية، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فقد اعقبت الحرب العالمية الأولى، و جرى فيها بحث المسألة الكردية في المحافل الدولية (معاهدة سيفر ومن ثم معاهدة لوزان). وفي المرحلة الثانية بدأت المحاولات الجدية لتنظيم الحركة الوطنية الكردية في إطار التنظيمات السياسية الكردية الأولى في القسطنطينية منذ عام 1908، حيث بدأ الكُرد وعلى طريقة القوميين العرب والترك في تنظيم أنفسهم، والتئموا في البداية حول صحيفة اسبوعية تأسست لتكون نقطة تلاق لجميع الذين كانوا نواة لتلك الحركة، فتبلورت لديهم فكرة التحرر الوطني.

وهذه الصحيفة التي تأسست في البداية في مدينة القاهرة عام (1898) هي صحيفة كردستان، ثم انتقلت إلى (جنيف) ثم إلى (فولكستن) في بريطانيا، ثم عادت إلى القسطنطينية عندما تسلمت جماعة (تركيا الفتاة) زمام السلطة، وخلال الحرب الكونية الأولى عادت إلى الصدور في القاهرة مرة أخرى، لقد تبدل محرروا هذه الصحيفة ولكنهم كانوا جميعاً ينتمون إلى اسرة (بدرخان): الامراء مدحت و عبدالرحمن وثريا بدرخان([704]).

ويربط (ديفيد ماكدول) بين اعادة النظر من قبل الاتراك بنظام الملل، وتأكيدهم على الهوية القومية وظهور وتطور الوعي والحركة القومية الكردية([705]). ويعتقد (به ختيار عةلى) بأن النزعة القومية الكردية ظهرت تحت ضغوط القوميات الأخرى (التركية والفارسية والعربية)، وأنها نزعة قومية انعكاسية لهذه القوميات أي عبارة عن ردة الفعل والمقاومة ضد هذه القوميات أكثر مما هي نتيجة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الكردي، وأنها لم تكن نتيجة لهذه القوى الاجتماعية تربط سلطتها و نفوذها السياسية بشكل عضوي بسلطة ومصير الأمة، والحركة القومية الكردية هي حركة أمة مستعمرة أي حركة تحررية من احتلال الآخرين لها([706]). ويؤكد هذا الراي (جلال طالباني) حيث يعتقد بأن نهج الحركة القومية الكردية هو نهج تحرري نتيجة التصادم القوي والحاد بين القوى الجديدة المتنامية في مجتمع كردستان وقوى السيطرة العثمانية المعرقلة لنموها، والصراع العنيف بين الحكومة العثمانية، التي أرادت إحكام طوق العبودية وشد قيود الاحتلال في أعناق وايادي الشعب الكردي بقوة الحديد والنار، وبين القوى الكردية التي أرادت التحرر وأبت العبودية. واندلعت الشرارة الأولى للثورة الوطنية الكردية منذ أواخر النصف الأول للقرن التاسع عشر، فالحركة التحررية القومية للشعب الكردي إذن حركة تاريخية موضوعية، منبثقة من صميم مجتمع كردستان تلبية لضرورات تطوره و مستلزمات تقدمه، وهي حركة تحررية لانها تستهدف التحرير الوطني من السيطرة  الاستعمارية للغاصبين وتحقيق الأماني القومية المشروعة، حق تقرير المصير([707]).

ويؤكد (فالح عبدالجبار) أن النزعة القومية الكردية كما النزعة القومية العربية، لا تعبر عن تحول اجتماعي فعلي ناتج عن تطور الرأسمالية أو المجتمع الحديث، بل تشكل نوعاً من الاستجابة لمؤثرات العالم المحيط ومن هذه المؤثرات: الاصلاحات العثمانية (الدستور)، نشوء القومية التركية، الغزو الكولونيالي، وإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة على أسس مبادي ولسون. وأن النزعة القومية الكردية والقومية العربية تميزت بأمرين:

  1. إن النزعة القومية كانت وما تزال سابقة لنشؤ الدولة- الأمة الكردية أو العربية.
  2. إن هاتين النزعتين القوميتين الكردية والعربية سابقتان أيضا لعملية الانتقال من التنظيم الزراعي إلى التنظيم الصناعي للمجتمع([708]).

فإذن نستطيع القول بأن النزعة القومية الكردية ظاهرة حديثة، بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع العشر بشكلها البدائي، وعكست واقع المجتمع الكردي وتفاعله مع البيئة الدولية والسياسية المحيطة به، وتطورت في القرن العشرين. ولكن عدم التمييز بين المستويات الثلاثة للترابط القومي يؤدي ببعض الباحثين والقوميين الكُرد إلى إرجاع الوعي القومي الكردي والحركة القومية الكردية إلى تأريخ أبعد بكثير حتى من ظهور مبدأ القوميات في الغرب، ولكن ما يعتبرها هؤلاء دلائل على الوعي والفكر القومي الكردي و النزعة أو الحركة القومية الكردية، يمكن اعتبارها فقط دلائل على المستوى الوجودي الشعوري للارتباط القومي الكردي الذي يعكس الاحساس الاجتماعي الكردي بذاتية الاكراد بوصفهم جماعة مميزة، ولكن ظهور المستوى الوجودي الفكري للترابط القومي الكردي يعد ظاهرة حديثة تسبق قليلا المستوى الثالث من الوجود السياسي للارتباط القومي الكردي حيث برزت بصورة واضحة وصريحة وناضجة في بدايات القرن العشرين. وكما يقول (فريد هاليداى)، ينبغي النظر إلى صعود أية نزعة قومية لا بمفردات ما تؤكده النزعة القومية نفسها، وهو تنامي الوعي والتنظيم القوميين، فحسب وإنما  في سياق صراع الدول وضعف الدول المهيمنة أو تحولها. فقد لعب صراع القوي الكبرى، من حروب نابليون حتى نهاية الحرب الباردة، دوراً كبيراً في صعود النزعة القومية الحديثة في معظم أنحاء العالم ومن هذا المنطلق كان نشوء الحركة القومية الكردية ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً، بدرجة كبيرة، نتيجة صعود دول اخذت تقبل على الحداثة وظهور الحركة القومية بين غالبية شعوب الدول التي كان الكُرد يخضعون لحكمها: الاتراك والإيرانيون والعرب. وتسبب الضغط الغربي على الامبراطورية العثمانية، منذ القرن الثامن عشر فصاعداً، في إضعاف تلك الامبراطورية العثمانية من أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية عام 1908، ثم صعود الكمالية، إلى نشوء دولة تركية جديدة بعد عام 1923، وكذلك كان النظام البهلوي في إيران من جهته نتاجاً للأزمة التي عاشها ذلك المجتمع خلال الحرب العالمية الأولى، فقد عمل مشروعها على تحديث الدولة للمجتمع وتنمية شكل من أشكال القومية الإيرانية، مما شجع على انبثاق الحركة القومية الكردية في إيران، وفي العراق، وتكفل النظام الملكي الهاشمي ثم تعاقب الأنظمة العسكرية التي خرجت من عباءة القومية العربية بعد عام 1958، بتوفير الحافز والسياق لصعود الحركة الكردية في العراق([709]).

ثانيا: النزعة لقومية الكردية والنظرة إلى الآخر

 

يقول (بةختيار عةلى) إن النزعة القومية الكردية تواجه نوعين من التحديات في بناء هويتها القومية، و يتمثل الأول في الهويات الفرعية ما دون القومية مثل القبائلية والمناطقية والفئوية وما قبل القومية. و الثاني هو الهويات الأخرى المقابلة للهوية القومية مثل القوميات العربية والتركية والفارسية أو الإسلامية أو الوطنية العراقية و الوطنية الإيرانية والتركية([710]). لذلك لم يحقق الكُرد بناء هويتهم القومية بصورة تامة وكاملة سواء على المستوى الذاتي والداخلي أو على المستوى الخارجي مع الآخر. ويشير (مارتن فان برونسن) إلى أنه إذا توخينا الحذر والوضوح والبساطة، فثمة وسط الكُرد (كما في وسط أية مجموعة اثنية أخرى) كتلة أساسية تنتمي انتماء اثنيا جازما لا مراء فيه إلى الكردية، وأن هذه الكتلة الأساسية محاطة بفئات طرفية يتميز انتمائها إلى الكردية بالتارجح والغموض، حيث لا تعد الهوية الكردية سوى واحدة من خيارات عدة للانتماء. غير أن هذا التعريف بالغ التبسيط  لأن النظرة المدققة تبين أن تعيين الكتلة الأساسية ليس خلواً من اللبس تماماً، فكل فرد من أفراد الكتلة الأساسية يمتلك، شأن المنتمي إلى الفئات الطرفية من (الكُرد المحتملين)، عدداً من الهويات المتضاربة التي يمتلك بعضها قوة جذب اكبر من الولاء للهوية الكردية. فهذا الكردي قد ينتمي إلى قرية أو لهجة معينة أو طائفية دينية، ونجد وسط الكتلة الأساسية أيضا وفرة من التنوعات الثقافية التي تجعل من تحديد تخوم هذه الكتلة عينها، على أساس بعض السمات الثقافية المشتركة ضربا من المحال([711]).

وإذا عدنا إلى بدايات ظهور النزعة القومية الكردية والفكر القومي الكردي، نرى هذه الازدواجية والتضارب داخل الاكراد في ولائهم وانتمائهم القومي بوضوح حتى على مستوى مثقفين والسياسيين البارزين. ويقول (ديفيد مكدول) إن مسألة الهوية القومية باتت مشكلة حتى بين الأكراد أنفسهم، إذ لم يشعر كل كردي بالطبع باغراء الهوية الكردية، بينما أصبح البعض مثل الآن تماماً، يتعاطف بكل صدق مع الأيديولوجية الرسمية ويتبني الهوية التركية للنخبة الحاكمة التي بدأت بالظهور وهناك بعض الامثلة الصارخة على ذلك، فقد كان اسماعيل حقي بابان، الذي يشك في كرديته، ذا نفوذ قوي في الحلقات الداخلية للجنة الاتحاد  والترقي، وكان مصمما على الارتقاء بالهوية التركية، وهناك كرديان آخران أيضا يعتبران رائدين للهوية التركية، الأول هو سليمان نظيف وهو سياسي وإداري وصحافي بارز خدم كوالي للموصل وقام بعمل قوي ضد البارزانيين واعتباراً من 1915 عمل كوالي فعلي لبغداد، أما الآخر فقد كان ضياء (غوك الب) الذي لعب دوراً رئيسيا في وضع الأسس الأيديولوجية للقومية التركية، ورغم كونه كرديا فقد تربى على استشراف المدنية العثمانية وعلى ازدراء طبيعي للثقافة الكردية الريفية، وكانت مساهمته الفكرية في الهوية القومية التركية من الأهمية بحيث إنه بعد مماته في 1924، خلفت أفكاره حركة فكرية وفرت الالهام اللازم من أجل تغيير العقلية الشعبية من الأمبراطورية إلى الأمة ومن الدين إلى العلمانية ومن الشرق إلى الغرب. ولكن بقي العديد من الأعيان المدنيين الكُرد الذين أرادوا تكييف دعمهم لحركة الاتحاديين مع هويتهم القومية وقد شكلوا عدة جمعيات أبرزها (تعالى وترقي كردستان)([712]).

ويسعى (بةختيار عةلى) إلى تفسير الأسباب الرئيسية لفشل الكُرد في بناء هويتهم القومية، ويصل إلى رأي مفاده أنه بالرغم من تأثير العوامل الخارجية المتمثلة بالظروف الدولية والاقليمية المحيطة بالكرد، فان هناك العوامل الذاتية والجوهرية المتمثلة في عدم قدرة الكُرد على خلق هوية قومية قائمة على التجانس والاندماج القومي الداخلي والتمايز الواضح عن الآخر الخارجي، لأن قوة القومية تكمن في قدرتها على تحقيق الاندماج في الداخل وصهر وتوحيد المكونات المختلفة للأمة في بوتقة قومية واحدة وموحدة([713]). وهذا يعني قدرة الأمة على خلق التشابه والتوحد والتجانس في الداخل وخلق التمايز والاختلاف مقابل الآخر، واضافت الحداثة والعصرنة السياسيتين تحديا وعائقا آخراً أمام بناء الهوية القومية الكردية على المستوى الذاتي والداخلي هو نشوء وبروز ظاهرة التحزب السياسي و تصاعد الانتماء إلى الحزب السياسي إلى درجة اصبح معها للانتماء إلى الحزب الأولوية على الانتماء إلى الأمة أو القومية، وحتى الأحزاب الأكثر قومية لم تستطع أن تتجاوز هذه الإشكالية لتصبح عائقا أمام الانتماء إلى الأمة الكردية والدفاع عن المصالح القومية قبل الدفاع عن المصالح الحزبية والفئوية الضيقة. وأعادت هذه الاحزاب انتاج أطر ضيقة للانتماء على حساب الهوية القومية الشاملة و الواسعة، وهي الأطر المناطقية وفي بعض الاحيان القبائلية الضيقة، ويشير الكثير من الدراسات والأبحاث إلى الصراع بين الأحزاب السياسية والقومية الكردية وأبرزها الصراع بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني إلى درجة أدت إلى تعميق الهويات الكردية الفرعية بين الـ (سوران) والـ (بادينان) على الرغم من أن سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني تتجاوز بادينان وحدها، ومن ثم فقد تبلور في هاتين الرقعتين ميل لصعود النزعة المحلية والتعامل السلبي إزاء الاخر([714]). ويؤكد (فان بروينسن) أن الانقسامات الداخلية لم تختف وسط الكُرد، ويبدو أن بعض الحدود الاثنية الداخلية برزت بقوة أكبر خلال العقود الماضية. ويبدو أن ثمة زيادة كبرى ليس فقط في وعي الاكراد بكرديتهم؛ بل أيضاً في وعي الجماعات الفرعية داخل الكُرد لنفسها كجماعات فرعية، ولكن التسامح إزاء التعددية قد نما أيضاً نمواً ملحوظاً وسط المجتمع الكردي. وهناك تزايد جلي في الوعي وسط الأكراد بأن مجتمعهم يمثل موزاييكا تعترف معظم مكوناته بالانتماء إلى الكل وأن كانت بعض تلك المكونات لا تعترف بذلك بقوة، وان الحدود الفاصلة قد تتغير، لكن المجتمع سيظل على الدوام موزاييكا([715]).

و تتجسد نظرة الكُرد إلى الآخرين بوضوح في الخطاب القومي الكردي، يقول (عباس ولي) لقد اتخذت التنظيمات السياسية الكردية المنتشرة في كردستان المقسمة منذ عام 1918، أشكالا متباينة، وعملت من أجل أهداف مختلفة، ولكن التصدي لانكار الهوية الكردية ومقاومة الهويات القومية المفروضة، يبقيان السبب الأساسي للثورات الكردية، ويحدد ديالكتيك الانكار والمقاومة الشكل السياسي للقومية الكردية وطابعها، فان النزعة القومية الكردية بالأساس هي سياسة توكيد الهوية القومية الكردية، التي هي نتاج الحداثة، ولكنها نتاج شكل خاص من الحداثة يرتبط ارتباطاً وثيقاً ومحدداً بمؤسسة الدولة القومية الحديثة([716])، وتكمن جذورها في العمليات والممارسات السياسية والثقافية لبناء الدولة القومية الحديثة والهوية القومية في مجتمعات تركيا وإيران والعراق سوريا المتعددة اثنيا وثقافيا خلال الفترة الواقعة بين الحربين. وكان إنكار إثنية الكُرد وهويتهم القومية الشرط اللازم لهذه العمليات في المجتمعات المذكورة، ولكن الدول القومية الناشئة في هذه البلدان والخطابات القومية الرسمية التي صنعت لشرعنة حكمها السلطوي وثقافتها السياسية المتسلطة، كانت تتفاوت تفاوتاً كبيرا في الشكل والطابع، واختطت الدينامية البنوية لهذه الخطابات مسارات متباينة لتحقيق التحديث والتنمية بتأثيرات مختلفة في العمليات السياسية والثقافية العامة على مستوى انكار الهوية الكردية واستعبادها في الأراضي الإقليمية لكل من الدول ذات العلاقة، وحملت الهوية القومية الكردية ميسم هذا التنوع السياسي والثقافي لـ (الآخر) فكانت هوية قومية متشظية منذ نشوئها([717]). وهكذا تصادمت القومية الكردية مع كل من القومية العربية في العراق و سوريا، والقومية الإيرانية أو الفارسية في الإيران، والقومية التركية في تركيا([718]).

والآخر في ذهنية القومي الكردي هو إما التركي أو الفارسي أو العربي، وانعكس ذلك بصورة واضحة في الخطاب السياسي القومي الكردي بالاضافة إلى الخطاب الادبي والثقافي الكردي، ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح وبصراحة فعلى سبيل المثال في دراسة أدبية للكاتب(عطا قرداغي) يبحث عن محاولات أدباء الكُرد في نتاجاتهم الأدبية لتحديد هوية أمتهم القومية، حيث يعالج تجربة (13) شاعر كردي معاصر في كردستان العراق، وتحديد الآخر بالنسبة لهؤلاء دائماً وفي كل الحالات هو إما (العرب) أو (الفرس) أو (الترك) بصورة عامة، وفي العراق بصورة خاصة كان الآخر بالنسبة للكرد هو (العرب)، وهذا واضح وجلي في شعر الشاعر (كريم دةشتى) المعنون (راهيبةكانى وةهم- رهبان الوهم) حيث يشير إلى الآخر العربي المسلم عبر التاريخ ودوره السلبي في سعيه للقضاء على الأمة الكردية وقتله واحتلال أرضه وخاصة في عمليات الفتح الإسلامي عبر التأريخ وعمليات الأنفال والأبادة الجماعة في التاريخ الحديث، وهنا يربط الشاعر الحاضر القومي بماض سحيق، وهذه إعادة صياغة لمدلول الأحداث التاريخية القديمة وفق معايير معاصرة. ويشير الشاعر إلى الآخر العربي في صورة مقاتل (فارس) قاسي القلب يحمل سيفه الدامي ولا يتعب من التدمير والقتل والابادة حتى يصل إلى الأنفال ويعطي صورة سلبية جدا للعرب ودورهم في التاريخ لأنهم حسب رأيه سبب تدمير وتخلف كردستان والقضاء على أحلام الكُرد القومية([719]). وينتقد (ريَبوار سيوةيلى) هذا التوجه في مقالة له يبحث فيها عن دور الآخر في تحديد الذات والهوية القومية، وعندما يصبح الأخر في الذهنية عدواً ازلياً وغير قابل للمصالحة معه، فهذا تحول نحو الفاشية، ويؤكد أن الفاشية كامنة دائماً في النظرة العدائية للآخر([720]).

      إن الآخر يتنوع ويتعدد بالنسبة لأية جماعة بشرية، ولكن هذا التعدد والتنوع للآخر بالنسبة للكرد له دور فعال ومؤثر في تحديد طبيعة تكوين الهوية القومية الكردية بشكل فريد. يقول (عباس ولي)، إن تنوع (الآخر) هذا لا يحدد تشظي الهوية القومية الكردية فحسب، بل يحدد طابعها فوق القومي أيضا. إن ديالكتيك الانكار والمقاومة يضفي طابعاً قومياً بصفة خاصة على القومية الكردية التي يمكن لو توفرت ظروف اقليمية مواتية أن تتجاوز التشظي السياسي والثقافي للهوية الكردية. ولكن هذا لم يكن أكثر من إمكانية نظرية. وسيكون من الزلات النظرية الخطيرة أن تعزى الخصوصية السياسية للقومية الكردية إلى الظروف الداخلية للمجتمعات الكردية فقط، صحيح أن ثقل القوى والعلاقات السياسية والثقافية ما قبل الحديثة والمعادية للحداثة، واستمرار هذه القوى و العلاقات في المجتمعات الكردية، يفسران الطابع المتشظي للهوية القومية الكردية ولكنهما لا يفسرانه إلا جزئياً، ونظرة سريعة إلى الكتابات النظرية حول سياسة الهوية ستذكرنا بأن الهوية، سواء أكانت قومية أو غير ذلك، تفترض مسبقاً، وعلى الدوام، وجود اختلاف، ولا يمكن تصورها من دون هذا الاختلاف. فالهوية هي علاقة الذات والآخر في اختلافهما، وتحمل دائما أثر الآخر الذي لا يني يطاردها، وبذلك لا تكون الهوية ثابتة أو راسخة أبداً لأنها تتغير استجابة للاختلاف (الاختلافات) الذي يحدد هوية الآخر، ودلالة هذه المسألة النظرية واضحة، فالخصوصية القومية الكردية تتحدد في جزء منها أيضا بالعلاقة المتغيرة للهوية الكردية بـ (آخريها)([721]).

تالثا: النزعة القومية الكردية والهوية الوطنية العراقية

حسب الخطاب القومي الكردي ورأي القوميين الكُرد “ظهرت القضية الكُردية في العصر الحديث نتيجة لتقسيم كُردستان ومصادرة حق شعبها في تقرير مصيره وفرض سياسة الاضطهاد الاستعماري والاضطهاد القومي على الجماهير الكُردية، و واجه الكُرد الدولة العراقية ومؤسسيها منذ اللحظة الأولى للنشأة، فبعد قرار التأسيس البريطاني للدولة العراقية نصب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 23/اب/ 1921، بعد استفتاء، لم يرحب به معظم الكُرد”([722]). وبذلك فقد واجه الكيان الجديد (الدولة العراقية) منذ تأسيسه مشاكل عدة، فقبل كل شيء لم يؤلف سكان الولايات العثمانية الثلاث (الموصل، بغداد، البصرة) التي تكون منها العراق كياناً سياسياً واجتماعيا متماسكا، وبالإضافة إلى الخلافات الطائفية والمذهبية بين العراقيين، كان هناك الكُرد الذين كانوا يشكلون غالبية السكان في ولاية الموصل، أو كما يسميها الكُرد بـ( جنوبي كُردستان أو كُردستان الجنوبية)، فقد كانوا مختلفين قوميا عن سكان ولايتي بغداد والبصرة، واهم ما كان يجمعهم بالسكان العرب هو الدين الإسلامي، إلا أن الدين لم يكن كافيا لتوحيد سكان هذه الولايات وهي تدخل مرحلة الصراعات القومية الحديثة([723]). وبسبب غلبة التصور القومي على الكورد، حتى خطباء المساجد في بعض المناطق الكُردية، عارضوا وبشدة فكرة الانضمام إلى الدولة العراقية، وتركوا في خطبهم تأثيراً كبيراً في عواطف الجمهور([724]). وسعى بعض كبار علماء الدين في كُردستان إلى تحقيق الطموحات القومية الكُردية، فعلى سبيل المثال، صرح الملا (محمد كويى) الملقب بـ(مةلاى طةورة) أثناء لقائه في بلدة كويسنجق بأحد الضباط البريطانيين في صيف سنة (1920) بأنه “لا أمل في خلاص كُردستان إلا تحت الحماية البريطانية”([725])، وشدد على ضرورة تنصيب حاكم كوردي لكُردستان، وفي تموز 1920 بعث (62) زعيماً من زعماء العشائر الكُردية في كُردستان الجنوبية رسالة إلى المندوب السامي البريطاني في العراق جاء فيه “إننا نحن قادة الشعب الكردي نعبر عن رغبتنا في أنه ينبغي أن تشكل دولة مستقلة للكرد تحت انتداب الحكومة البريطانية”([726]).

واعتمدت هذه المطالب الكردية على الوعود البريطانية التي حاولت أن تطمأن الكُرد وتكسب ودهم وذلك بوعدهم بأعطائهم حقوقهم في الاستقلال أو شبه الاستقلال. حيث صدر عن مؤتمر القاهرة (24/ مارس / 1921) برئاسة السير ونستون تشرشل قرار يقضي بتفويض المندوب السامي باتخإذ الخطوات اللازمة لتحديد أماني الاكراد، وعمل المندوب السامي في بغداد بتوصيات مؤتمر القاهرة حيث أصدر بياناً في السادس من مايو (1921)، أي قبل وصول فيصل بسبعه أسابيع، يتضمن: أن المندوب السامي يرغب أن يحصل- إن أمكن- على ما يشير إلى أماني الاكراد الحقيقية، فإن كانوا يفضلون البقاء في كنف الحكومة العراقية فإنه مستعد لأن يقترح على مجلس الدولة بحل على الوجه الذي بحقق الطموح الكردي([727]).وأجري استفتاء عام بين الاكراد لمعرفة رأيهم في هذا البيان، ويعرف هذا الاستفتاء بـ(لام باشة و لام باش نيية)، أي أحبذ ولا أحبذ، والتحبيذ دمج كردستان بالعراق، وكان استفتاء عاماًً أسترك فيه كل من له مسكن في منطقة الاستفتاء، وقد أجمعت الاراء في السليمانية على (لام باش نيية) أي عدم تحبيذ الاندماج، حيث رفضوا فكرة الاندماج فى العراق في ظل اللواء تحت الهيمنة البريطانية يحكمه موظف بريطاني مسئول أمام المندوب السامي يعاونه في ذلك مجلس محلي منتخب([728]).

ويبدو أن بريطانيا كانت تتهيأ لضم كردستان الجنوبية وجعلها الجزء الشمالي للدولة العراقية، والموافقة على بقاء كردستان المركزية والشرقية تحت سيطرة تركيا وإيران والتراجع عن نصوص معاهدة سيفر حيال كردستان وجعل ذلك شرطاً للمساومة المرتقبة مع تركيا الكمالية، وقررت استعمال القوة وكل السبل والوسائل الأخرى لفرض هذه السياسة([729]). وقد كرست  الحكومتان العراقية والبريطانية كل امكانياتهما للتعامل مع أجواء الاستياء التي عمت كُردستان الجنوبية إثر محاولات ضمها إلى العراق إلى أن تمكنت من الحاقها بالعراق في 16/ كانون الأول/1925 بموجب تقرير لجنة التحقيق الدولية، ولكن بشرطين: الأول، أن تبقى أراضي ولاية الموصل تحت الانتداب الفعال لمدة 25 سنة، والشرط الثاني أن تؤخذ بنظر الاعتبار رغبات الكُرد بتعيين موظفين كورد في المحاكم والمدارس وبأن تكون اللغة الكُردية اللغة الرسمية فيها([730]). لم تهدأ الحركة القومية الكُردية بعد إلحاق كُردستان الجنوبية بالعراق، فقد شهدت هذه الحركة تطوراً ملحوظاً وظهرت القضية الكُردية مجدداً، بفعل عدم مراعاة الحكومة العراقية للحقوق القومية للشعب الكُردي التي أقرها مجلس عصبة الأمم، فقد كان من المؤمل أن تطبق توصيات عصبة الامم بشأن الكُرد ابتداءً من سنة 1926، إلا أن ذلك لم يحدث([731]).

 لقد احبطت مساعي الكُرد القومية في كُردستان الجنوبية بعد أن تبددت الوعود التي قدمتها لندن وبغداد لهم، وكان ردهم سلسلة من الثورات والانتفاضات القومية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة منها انتفاضات الشيخ محمود البرزنجي (1881- 1956م) في السليمانية و أنحائها، وانتفاضة بارزان الأولى (1931- 1932) بقياة الشيخ احمد البارزانى (1892- 1969)، و انتفاضة بارزان الثانية (1942- 1945) بقيادة (ملا مصطفى البارزانى) (1902- 1979)، واستمر النشاط السياسي الكُردي وتصاعد حتى سقوط النظام الملكي في 14/ تموز/ 1958([732]).والسبب الجوهري الكامن وراء كل تلك الانتفاضات والتمردات القومية هو فشل الحكومات العراقية المتعاقبةفي  حل المشكلة  وهذه دلالة على فشلها في ادراك الخصوصية الكردية مما دفع بـ(رئيس الوزراء العراق السابق) (عبدالرحمن البزاز) إلى القول ” أن المشكلة الكردية بحق ولا تزال من أهم مشكلات العراق الداخلية وأكثرها خطورة”([733])، و هناك أيضاً من يقول “لم يكن العراق قط وحدة سياسية ذات ماض مستقل، فالحدود الحالية رسمت في زمن يتذكره الأحياء جيداً بإرادة دول أجنبية على الأكثر ليخدم مصالح خارجية”([734]).لقد كانت سياسة بريطانيا تجاه القضية الكُردية متذبذبة حتى عقد معاهدة لوزان في 22/ تموز/ 1923، حيث افصحت بريطانيا فيه عن رغبتها في إلحاق كُردستان الجنوبية بالعراق والابتعاد عن الترويج لفكرة (الدولة الكُردية)، وحسب رأي بعض الباحثين فإن ذلك يعود إلى الاسباب التالية([735]).

أولا: ارادت الحكومة البريطانية ابقاء كُردستان الجنوبية ضمن العراق لأنها رأت أن السيطرة على حقولها النفطية ستكون أسهل مما لو ضمت إلى تركيا.

ثانيا: كانت بريطانيا تعلم أن تركيا و إيران لن تقبلا بدولة كوردية مجاورة، قد تصبح منطلقا لإثارة الكُرد في هاتين الدولتين مستقبلاً، وهذا ما لم تكن ترغب به بريطانيا التي كانت حريصة على حفظ الاستقرار في هذه الدول ضماناً لمصالحها الاستعمارية([736]).

ثالثا: إن دولة عراقية تضم المنطقتين العربية والكُردية سيكون أفضل، لإن ذلك سيضمن لبريطانيا السيطرة عليهما معاً من خلال معاهدة ثنائية واحدة وليس معاهدتان([737]).

رابعا: كانت المنطقة الكُردية غنية بالموارد الطبيعية والزراعية والمائية لذا فإن ضمها إلى الدولة العراقية سيضمن اقتصاداً قويا للعراق وكان هذا تلبية لرغبات العرب الحاكمين والمتحالفين مع البريطانيين.

خامسا: رغبة الحكومة البريطانية في إيجاد حالة من التوازن بين نسبة السكان من السنة مقابل الشيعة في الدولة العراقية. فمن المعروف أن الدولة العراقية كان من المفروض أن تتشكل من ولايتي البصرة وبغداد، ونتيجة لموقف الشيعة في ثورة العشرين من الاحتلال البريطاني اصبح السنة هم المسيطرون علي العراق، لذا وجدت بريطانيا أن ضم كُردستان الجنوبية إلى العراق، سيكون أفضل علاج لهذه المشكلة، أي مشكلة عدم التوازن بين السنة والشيعة، حيث شكل الشيعة الأغلبية في العراق.

و يتضح مما سبق أن بريطانيا نظرت إلى القضية الكردية من زاوية مصالحها السياسية والاقتصادية فقط دون مراعاة لمشاعر السكان الكُرد ومصالحهم، فكان من الطبيعي أن تواجه محاولات الحكومتين البريطانية والعراقية الهادفة لضم المنطقة الكُردية تحت سلطة الحكومة العراقية مقاومة عنيفة وخاصة في السليمانية التي لم تشارك في انتخابات المجلس التأسيسي العراقي([738]).وقد لجأ زعماء الكُرد إلى طلب المساعدة من الدول الأخرى، مثلما فعل ذلك الشيخ محمود البرزنجي (1881- 1956)؛ الذي بعث برسائل عدة إلى حكومة روسيا طالبا فيها الدعم ضد بريطانيا، كما كان للشيخ محمود مراسلات مع زعماء الشيعة في الجنوب لتوحيد مواقفهم مع الكُرد ضد الحكومة العراقية، فضلا عن أنه قاد عدة حركات مسلحة ضد الدولة العراقية الجديدة وصرح علنا في رسائله برغبته في  أستقلال كُردستان لأن الكُرد يشكلون حسب رأيه قومية مختلفة عن العرب بالرغم من إقراره بالأخوة الكردية العربية على أساس الدين الإسلامي، إلا أنه أدرك أنه في ضوء مباديء ودرو ولسن حول حق تقرير المصير، يحق للكورد التمتع بالأستقلال القومي عن الآخر العربي والعراقي ([739]).

وحول طبيعة الحركة القومية التحررية الكردية وثورتها يقول (جلال طالباني)، ظهرت الحركة التحررية الكُردية للشعب الكردي بشكل ثورة تدافع عن حقوق الأكراد وتقاوم العدوان التركي المسلح، واندمجت الثورة الكردية بالحركة التحررية الكردية للشعب الكردي حتى غدت مرتبطة بها ارتباطا عضوياً، بحيث عدت الثورة الكردية مرادفة تقريباً للحركة التحررية للشعب الكردي التي طالما ظهرت بشكل ثورة مسلحة، فإذا كانت الثورة الكردية نهج الحركة التحررية الكردية وحاملة شعاراتها وأهدافها وبالتالي غدت ثورة التحرر الوطني للتخلص من العبودية وتحرير الوطن من السيطرة الاجنبية وتحقيق أهداف الشعب القومية، بمعنى أنها تستهدف تحرير الشعب الكردي من الامبريالية وامتداداتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والفكرية ومن السيطرة الاجنبية التي تفرضها الحكومات الغاصبة لكردستان والتي تمثل تحالف الاقطاع والرأسمالية الكومبرادورية والبرجوازية البيروقراطية الكبيرة([740]).

 ويعني هذا أن القوميين الكُرد يعتبرون كردستان محتلة من قبل حكومات أجنبية ومنها الحكومة العراقية التي اعتبرت دائماً المحتل والغاصب لكردستان الجنوبية، وكان التمرد ضدها وحمل السلاح نهج الحركة القومية الكردية، وسميت بحركة التحرر بمعنى تحررها من احتلال واقع، ولم تتسم بحركة ديمقراطية وطنية أو اصلاحية أو ثورية ديمقراطية وما إلى ذلك وإنما دائماً تلقب الحركة القومية الكردية بالحركة التحررية إما وطنية كردية أو قومية كردية وهذه دلالة واضحة على عدم اندماج الكُرد في الدولة العراقية وعدم إعتبارهم لأنفسهم عراقيين يناضلون من أجل حقوق المواطنة والديمقراطية وحكم الدستور والقانون، وإنما اعتبروا أنفسهم مناضلي التحرر الوطني أو القومي الكردي من الحكومات الغاصبة والمحتلة لكردستان حسب الخطاب القومي الكردي أو جزء منها على الأقل. وعند العودة إلى الخطابين القوميين الكرديين الأكاديمي والسياسي نلاحظ دائماً التركيز على عبارات مثل التحرر القومي الكردي في العراق أو الحركة التحررية الوطنية الكردية في العراق أو في أي جزء من الأجزاء الاخرى من كردستان، والتاكيد على أن كردستان قسمت وألحق القسم الجنوبي منها قسرا بالعراق الحديث رغماً عن إرادة الكُرد أنفسهم، كما بيننا ذلك بوضوح  في مقدمة هذا المطلب، وهذه دلالة على عدم وجود ذاكرةجماعية كردية وعراقية واحدة ولا تأريخ كردي وعراقي موحد، وأنما هناك التصادم والصراع والنضال الدائم للقومية الكردية ضد هذه الدولة([741])، أو على الأقل ضد السلطات الحاكمة في هذه الدولة.

ويصعب في الاطار العام توحيد مواقف الاكراد من العرب أو من السلطات الحاكمة في العراق وحصرها بنموذج واحد معين، إلا أنها تتسم عموماً (حسب رأي ميثم الجنابي) بمواقف تتراوح بين العداء الصريح والكراهية المستترة والدعوة للعمل المشترك والأخوة، الا أن مضمونها الفعلي مقرون بالمواقف السياسية للحركات القومية الكردية، أما السائد فيها حالياً فهو المكون السلبي وليس الايجابي بحكم التأريخ العنيف الذي رافق هذه العلاقة في تكون الدولة العراقية الحديثة من جهة، واختلاف النزعات السياسية عند المركز العربي والأطراف الكردية من جهة أخرى، والمتمثلة في المساعي الكُردية للتصير في العراق و خصوصيتها عند الاكراد، والفهم الكردي لظهور الدولة العراقية الحديثة وموقع الاكراد فيها، وهي فكرة يمكن إيجازها بالشكل التالي حسب رأي (ميثم الجنابي)([742]):

لقد قامت الدولة العراقية الحديثة منذ بداية عشرينيات القرن العشرين على أساس صيغة مركبة تجمع العرب والأكراد والقوميات الأخرى، وأن الأكراد حشروا فيها حشراً، وأن دستورها الأول كان ينص على شراكتهم في الدولة، لكنها شراكة لم تكتمل بسبب السياسة العنصرية أو الاستعلائية للمركز العربي الذي أقصى القوميات الأخرى جميعا عن المشاركة الفعلية في إدارة شؤون الدولة، وهو إجحاف أكثر من تعرض له الاكراد بسبب ثقلهم السكاني الذي يقارب ربع سكان العراق، وهي حالة خفف منها الاقرار بصيغة الحكم الذاتي في بداية سبعينيات القرن العشرين، لكنها سرعان ما تعرضت للخراب بسبب السياسة العنصرية لحزب البعث والدكتاتورية الصدامية. والتي اكملت من الناحية التاريخية ممارسات النازية العربية التي ابتداها رشيد عالي الكيلاني، وتوجتها الصدامية في سياسة التنكيل والتهجيير والتعريب([743]).

و تصاعدت بعد سقوط النظام العراقي في (9/4/2003) حدة إشكالية العلاقة بين الدولة العراقية والهوية القومية الكردية، ويشير (رشيد الخيون) إلى أنه وسط اعلان الأحزاب والمنظمات والشخصيات العراقية وقوائمها، وسعيها للفوز بمقاعد الجمعية التأسيسية، يجري الحديث عن غياب التأكيد على الهوية العراقية. إذا ما قيس الأمر بحضور التأكيد على القومية والمذهب والدين والعشيرة والحزب. وأحدث ممارسات الصدود عن الهوية العراقية هو استفتاء مليون وسبعمائة ألف كردي عراقي طلباً للانفصال، واللافت للنظر ان يدعم الحزبان الكرديان مثل هذا الاستفتاء، وأن يقترح يوم الانتخابات (3/1/2005) موعداً فكيف سيوفق بين المبايعة الوطنية لوطن واحد و المبايعة للانفصال؟([744]).

ويصر الكُرد على ان لهم حقاً تأريخياً و قانونياً في إجراء استفتاء في كردستان الجنوبية وذلك حسب رأي البعض، لأن ذلك يضمن في اعتقادهم الاتحاد الاختياري الطوعي في إطار عراق ديمقراطي تعددي برلماني فدرالي يتمتع فيه الشعب الكردي بكامل حقوقه على قدم المساواة مع الشعب العربي والأقليات أو في تشكيل دولته الكردستانية، وفي كلتا الحالتين فان للشعب الكردي حقأً تأريخياً وقانونياً في الاختيار، أما خوف القادة العراقيين من ممارسة الكرد لحقوقهم فهو خوف من ممارسة الديمقراطية، والنية السيئة لإضطهاد الشعب الكردي، لأن الشعب الكردي لا يعادي الشعب العربي، ولن يأخذ شيئاً من أراضي أحد، إنما يريد أن ينعم بالحرية فوق أرض وطنه كردستان بطوع إرادته([745]). وإصرار الكُرد على أن يورد الدستور العراقي الدائم مادة تضمن حق الكُرد في الاستفتاء على حق تقرير مصيرهم، ادت إلى مساومة كردية وتنازل مقابل فقرة أو عبارة في الديباجة يؤكد فيها “أن الإلتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة”([746]). وهذا يؤكد موقف الكُرد من الاتحاد الإختياري في العراق مما يعني إنتماء وإنضمام مشروط للدولة العراقية نتيجة لفقدان الثقة بين الكُرد والاخرين في العراق الحديث([747]).

      ونستخلص من كل ما سبق ان الغالب على وجود الكُرد القومي هو البعد الكردستاني، أي الكردي، الامر الذي يعطي للعراق وللهوية العراقية في الفكر القومي الكردي واتجاهاته العملية بعداً جزئياً وثانوياً، أما الاعلان الظاهري والمباشر للبعد العراقي، فانه في الأغلب نتاج الاعتبارات السياسية أو التكتيكية. أما التيار الداعي للاندماج الفعلي والتام في الوطنية العراقية فانه ما زال ضعيفاً.

الاستنتاجات

 

بناءً على ماتقدم في سياق هذا الدراسة، من خلال دراسة إشكالية الدولة الحديثة والهوية بصورة عامة، والدولة العراقية، والهوية القومية الكردية بصورة خاصة؛ توصلنا الى الاستنتاجات االآتية:

1.إن الدولة كيان سياسي وقانوني وذو سلطة سيادية معترف بها في رقعة جغرافية محددة وعلى مجموعة بشرية معينة، وهي ظاهرة حديثة برزت إلى الوجود بعد أن تجاوزت المجتمعات الغربية العصور الوسيطة، ودخلت العصور الحديثة بكل ماتبعتها من التحولات والتغييرات في كافة المجالات الحياتية، فإنَّ ما تصفه الدراسات التاريخية، والاجتماعية، والسياسية من أشكال النظم السياسية بأنه دولة، أما أن يكون من الأشكال التقليدية القديمة للنظم السياسية، وعندها لايكون وصفه كدولة وصفاً صحيحاً، إذ لا تعدد حدود الاستعارة المجازية التي لا تتطابق فيها الصفة (الدولة) مع الموصوف (النظام السياسي التقليدي)؛ أو أن يكون الشكل الحديث للنظم السياسية والمقترن ظهوره بالحداثة الاوربية، إذ نتج منها وأنتجها في آنٍ واحد، وعندها يكون وصف هذا الشكل بأنه (دولة State) صحيحاً تماماً لأنه الشكل الوحيد من أشكال النظم السياسية الذي تتطابق فيه صفة الدولة مع موصوفها مع بقائه شكلاً واحداً فقط من أشكال السلطة السياسية في المجتمع، ولكنها بالتأكيد ليس شكلها الوحيد، ومع أن الدولة الحديثة بشكلها وبنيتها الحالية حديثة النشأة، ولكنها تكونت في المجتمعات القديمة بشكلها الجنيني، وتحت مسميات أخرى، وإِن كانت الاختلافات بين الدولة الحديثة، وأشكالها القديمة كثيرة وكبيرة، إلاّ أنّها في بعض جوانبها تعد امتداداً لها، ومن ثمَّ لا يمكن عدّ (الدولة) ظاهرة حديثة بالمطلق. وهكذا فإنَّ ظهور الدولة الحديثة كان نتيجة لتبلور وحدات سياسية دائمة وثابتة ومستقرة في إطار حدود جغرافية، وتطور مؤسسات دائمة، وغير شخصية، والاقتناع الجماعي بضرورة وجود سلطة عليا، وعلى نزعة الولاء لهذه السلطة.

  1. إن بناء الدولة عملية تتعلق بتأسيس، وإنشاء، وتقوية بنية المؤسسات، وقدرات الدولة، بمعنى آخر: أن بناء الدولة يتم بصورة أساسية على المستوى المؤسساتي، ولكن هذا لا يكفي لأنَّه يحتاج إلى الاعتماد على الفاعل السياسي الذي يتوقف عليه تكوين ووجود هذه الدولة، ومن هنا نرى: بأن هذه العملية ترافقها عملية أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي وهي بناء الأمة، وهي عملية تهدف إلى خلق وإنشاء هوية جماعية لكي يستطيع جميع أفراد هذا المجتمع التماهي  والتماثل مع بعضهم في الدولة
  2. إن الإندماجية والتجانس المطلقين بوصفهما قاعدة لتكوين الكلية الاجتماعية الموحدة الحية ليسا في الواقع إلاّ من أوهام الأيديولوجية المركزة للدولة-الأمة في مفهومها للهوية، وأن الدول القومية الحديثة ليست إلاّ تجمعاً غير متجانس لعناصر متباينة، ونظم انثروبولوجية مختلفة بعضها عن البعض الآخر، بل أن الإنموذج للدولة-الأمة إذا ما تم الحفر في طريقة اختراعه لم يكن سوى (اسمنت بيروقراطي) لـ(فسيفساء مركبة للهوية)، ونظراً إلى أن أغلب الدول التي نشأت في أوربا كانت أيضاً فسيفساء، فإنّها قد نزعت لإتباع الإنموذج نفسه.
  3. إن علاقة الدولة الحديثة بالهوية يتجلى عن طريق إشكالية الهوية الوطنية، والهوية القومية كأنماط وأشكال حديثة للهوية الجماعية في المجتمعات الحديثة، إذ مرت هذه العلاقة الإشكالية بصعوبات كثيرة ومختلفة كانت على مرحلتين رئيستين هما: مرحلة نشأة الدولة الحديثة، وبلورة هويتها الوطنية، وكل ماصاحبها من صعوبات وتحديات، والمرحلة المعاصرة، ومايواجهها من تحديات تهدد هويتها الوطنية، وصراعها من أجل البقاء بتشكيلاتها السابقة، وبالرغم من أن الكثير من دول العالم لم تستطع أساساً تجاوز تحدياتها القديمة التي تعود إلى مرحلة النشأة، فقد أضافت الظروف الدولية والعالمية المعاصرة الراهنة إليها تحديات جديدة أثقلت كاهلها أكثر، وهددت وجودها كدولة.

5 . إنّ (العولمة) ظاهرة معقدة وهى على صعيد الهوية ذات شقين، تخصيص ماهو كوني، وكوننة ماهو خاص، و يعني هذا  أن البحث عن الأسس (الجذور، والأصول الخاصة)، وعن الهويات المتعلقة بالتراث والوطن، يجري في إطار الأفكار المنتشرة عالمياً، ليكون البحث عن الخصوصية هو في حد ذاته أحد المظاهر البارزة للعولمة، وقد تكون الأشكال المتنوعة والعديدة من الأصولية طرقاً ومحاولات للعثور على مكان داخل العالم ككل، و تقع هذه كلها ضمن مسألة الحق في الهوية، أو النضال من أجل المكان، والاعتراف (حسب تعبير فوكوياما) التى باتت منتشرة في الوقت الحالي، وهذا مظهر من مظاهر العولمة، التى انتجت و تنتج تنوعاً وتعدداً ثقافيين إلى جانب إنتاجها لعناصر وخصائص عالمية متشابهة واحدة عالمياً. وبذلك يكون للعولمة تأثيرً مزدوج على الدولة- الوطنية و الهوية القومية والثقافية، إذ أنّها تؤدي إلى خلق عناصر عالمية وشاملة للهوية الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته تنتج عوامل وأسباب صعود الهويات والخصوصيات، بإضعافها لسيادة الدولة، وخرقها الحدود الثقافية، والسياسية، والاقتصادية للمجتمعات، مما يثير ردود أفعال الهويات والثقافات المحلية والصغيرة، في الوقت الذي نرى في ظل العولمة توجهاً من قبل بعض الدول والجماعات البشرية نحو الإندماج، والإنسجام، وتشكيل تكتلات دولية إقليمية مافوق القومية والدولة الوطنية، تشهد أيضاً تفككاً لبعض الدول الأخرى إلى أجزاء على أُسس اثنية، وطائفية، ومذهبية.

  1. إن حدود الدول العربية الحالية قد تبلورت كنتاج للتفاعل المباشر أو غير المباشر مع الخبرة الاستعمارية، والهيمنة الغربية خلال القرنين الأخيرين،  ولا بد من تصحيح المقولة الشائعة: بأن الخطة الاستعمارية مزقت أو جزأت الوطن العربي ٳلى هذا العدد الكبير من الكيانات القطرية ، لان الخطة الاستعمارية أعادت ترتيب المنطقة و تشكيلها بما يناسب مع أغراضها ومصالحها هي تحديداً فضلاً عن مصالح هذه المنطقة ، بماتطلب في بعض الحالات توحيد وضم كيانات قائمة الى بعضها البعض ، وبذلك لم يكن الأمر مجرد تفتيت وتجزئة أو طرح وقسمة فقط ، ولكنه انطوى أيضاً على عمليات جمع وتجميع . وقد دخلت هذه الدول المسرح الدولي، وهي مثقلة بأعباء كان من أبرزها: مشكلة الإندماج الوطني لعدد من التكوينات الاجتماعية، والسياسية، وبخاصة الاثنية والطائفية في الجسم السياسي لهذه الدول، وترتب على ذلك في بعض الحالات صراعات وتوترات داخلية فرضت شرعية الدولة الوليدة أو أمنها الداخلي و الأقليمي. وكان لذلك تداعيات أخرى متشابكة  منها : استنزاف الموارد ، والتعثر في جهود التنمية الاقتصادية، وفتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي ، وبتعبير آخر دخلت معظم الدول القطرية العربية الجديدة الساحة، وهي مثقلة بإرثين هائلين، الأول/ هو ٳرث المجتمع التقليدي الذي تكون قبل الاختراق الغربي  و ظل مستمراً بعده ، أما الأرث الآخر/ فهو ما طرأ على تكوينات مجتمع الدولة القطرية العربية  من تغييرات مستحدثة ( بنيوية، ومؤسسية، و قيمية، و سلوكية ) وفدت مع التجربة الاستعمارية، ولم تختفِ مع رحيل الاحتلال الأجنبي المباشر.

 

  1. إن الخلاف والاختلاف على تحديد الرقعة الجغرافية للدولة الحديثة سبب و نتيجة فى آن واحد لٳشكالية الهوية في هذه الدولة أو حتى ٳشكالية هوية الدولة بذاتها ، لأنّ استمرار الجدل و الأختلاف حول تحديد الاقليم الجغرافي لأية دولة، ومحاولة العودة الى الماضي لأثبات الرأي هو بحد ذاته دلالة على عدم الإتفاق على هوية هذه الدولة أوعدم قبولها و رفض الانتماء إليها من قبل البعض، ويمكن لكل طرف من الأطراف أن تأتي بالدلائل والمسوغات التاريخية لاثبات موقفه، لأن التاريخ لم يكن يوماً من الأيام مستقراً و لاثابتاً على وتيرة واحدة، فلكل الأطراف دلائل ووقائع يمكن أن تثبت صحة رأيه ، لأن الأقاليم الجغرافية دائماً كانت في حالة التحول والتغير وهذا هو الحال بالنسبة للغالبية العظمى من الدول في العالم، وأن اغلبية الدول الحديثة لم تكن في الماضي بالشكل الذي هى عليه الآن من حيث رقعتها وحدودها، وٳنّما حدث الاستقرار والثبات للحدود الدولية ( نسبياً ) في العصر الحديث مع نشوء الدول الحديثة، والقواعد القانونية الدولية التي تنظم العلاقات بين تلك الدول بصورة عامة، وبصورة أخص بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تشكل دول عدة نتيجة استقلالها عن الاستعمار الغربي، ولكن في الوقت ذاته هذا الثبات ليست ثباتاً دائماً ومطلقاً وأزلياً ، إذ لا تزال هنالك تحولات وتغيرات في تكوين وتركيب الكيانات السياسية، وجغرافيتها ( إقليمها )، والتي تتجلى فى ظاهرتي (التفكك والتوحد) في الوقت ذاته ( يوغسلافيا / التفكك و الاتحاد الأوروبي / المتوحد ). واذاً، فإنّ الوقائع والدلائل التاريخية لا تُحدد صورة وشكلا مطلقين وثابتين لأي كيان سياسي في الوقت الراهن ، وٳنّما ٳرادة ورغبة مكونات هذا الكيان ( الشعوب ) هى التي تحدد شكل، وحدود، وهوية أي كيان سياسي، فضلاً عن قوة الدولة المتمثلة في نجاحها فى تلبية وإشباع رغبات سكانها وجذبهم ، فالدولة القوية والناجحة من النواحي السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والمتمتعة بالشرعية هى التى تستطيع أن تخلق هوية وانتماء موحدين لمواطنيها حتى ولو كانوا من أصول، وأعراق، وأديان مختلفة ، و كان إقليمها مكوناً من اتحاد من مجموعة أقاليم جغرافية مختلفة ومتباينة تاريخياً، والمثال هو الولايات (المتحدة الأمريكية) .
  1. إن العراق ليست هى الدولة الوحيدة في العالم التي تعاني التقسيم والتمايز في القيم، و الأنتماء والتنوع في التكوين الاجتماعي والعرقي والصراع فيما بينها ، ولكن الاختلاف هو في أسلوب وطريقة ٳدارة هذه الصراعات، وهذه التنوعات والمسالك التي يسلكها والذي يؤثر سلباً أم ٳيجاباً في وجود هذه الدولة ومجتمعها ، حيث إن اسلوب ٳدارة الصراع الاجتماعي، وأسلوب التعامل مع التنوع والتعدد يحدد ،  ما ٳذا كانت هذه الظاهرة ستتحول الى حالة ايجابية، وٳغناء ثقافي، وحيوية اجتماعية وديناميكية للتغير والتطور، أو الى حالة سلبية، وٳعاقة للتطور والازدهار، والى الدمار، والانهيار، والجمود ، وهنا تؤدي الدولة المؤسساتية والمتمايزة عن سلطة الحاكم فيها دورها الفاعل في هذا الأمر.
  1. إن العراق ليس دولة مكتملة ( تامة التكوين )، وٳنما هي مشروع دولة فى طور التكوين والبناء منذ تأسيسها، ولحد الآن وعلى الرغم من تعثر هذا المشروع و مواجهته  لعقبات ومعوقات معقدة ومتعددة  ولكنه مشروع  مستمر في المُضي قدماً ونلاحظ الإشارة  إلى ٳعادة بناء أو ٳعادة تأسيس الدولة في العراق، وخاصة ما بعد ( 9/ 4 / 2003 )، في البحوث والدراسات الخاصة بالشأن السياسي العراقي.
  1. إن غياب الهوية الوطنية العراقيةالعامة و الموحدة و وجود هويات فرعية ما فوق أو مادون الهوية الوطنية قبل نشوء الدولة العراقية شيء طبيعي، ولا صلة مباشرة له بعدم وجود هذه الهوية الوطنية بعد مرور عقود على نشأة الدولة، ومن ثم فإنّ هذا الغياب السابق لا يبرر الوجود الراهن لإشكالية الهوية الوطنية العراقية.ومن ناحية أخرى، فإنّ وجود الإشكالية الراهنة للهوية الوطنية العراقية لا يعني: استحالة تجاوزها، وعدم وجود إحتمالية أو إمكانية لإنشاء هذه الهوية إذا توفرت الأوضاع والشروط اللازمة لذلك.
  1. إن الدول الحديثة ورثت وضعاً كانت فيه الهوية الفرعية عنصراً مهما في ولاء الفرد،  بل ويكاد يكون طاغيا، وكان تصنيف سكان العراق خلال مرحلة تشكيل الدولة مبنياً على أساس التقسيم الفعلي الموجود على أرض الواقع بين المجتمعات المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات تأثرت في عملية بناء الدولة، إلاّ أنّ هذه  التقسيمات حافظت على أهميتها في مجرى العلاقات الاجتماعية والسياسية في الحقب اللاحقة.
  1. إن ما تتسم به دولة العراق من التنوع، والتعدد السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والجغرافي، لايعنى بالضرورة عجزها عن خلق هوية وطنية عامة و موحدة عن طريق تبني التعددية الثقافية، والتي لم تلق قبولا لدى النخب السياسية التي قادت فى السابق عملية إنشاء العراق الحديث، ويعني ذلك: أن مشروع بناء الهوية الوطنية العراقية يمكن ان ينجح فى حالة مزج التقاليد المحلية للمجموعات الثقافية العراقية.
  1. إن الولادة الأولى للدولة العراقية في بدايات القرن العشرين قد جاءت من رحم ينوء بالطائفية والقومية فيما بعد، ومن ثم فإن على القائمين على رعاية شئون هذه الدولة ومواطنيها أن يتجنبوا بعد ولادتها الثانية في مطلع القرن الحالي الأخطاء السابقة، وان يعملوا على جعل عملية بنائها عملية وطنية مجردة من أية نزعات طائفية أو عرقية أو دينية عنصرية، لتكون الهوية العراقية الوطنية الواحدة هي الهدف أولا وأخيراً، ولكن ليس على حساب أية مجموعة أو طائفة معينة.

 

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى