دراسات سياسية

قراءة في مضامين المشهد الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة

شكل سقوط جدار برلين و معه نهاية الحرب الباردة نقطة انعطاف حاسمة على صعيد النقاشات التي مست حقل العلاقات الدولية . حيث شهد النظام الدولي موجة من التحولات الكبرى ، اتسمت بالعمق ، الديناميكية و الوتيرة المتسارعة  محكومة بالعولمة و مساراتها من جهة و بالثورة الصناعية الثالثة من جهة أخرى ، و هي ثورة تستند إلى تدفق المعرفة ، تنامي تقنيات الاتصال و المواصلات بهدف عولمة الحركية الاقتصادية و الاجتماعية . و يشير بعض المحللين أنها تشكل سابقة أن يحدث تغيير بهذا الحجم دون توظيف الآلة العسكرية ، حيث اهتزت كلية منظومة القيم و المفاهيم التي سادت مرحلة الحرب الباردة إلى بروز مقاربة عالمية جديدة تدور حول قيم الحرية و التعددية السياسية ، الديمقراطية و حقوق الإنسان ، الرشادة و الانفتاح الاقتصادي تحاول فرض نفسها بأدوات مختلفة ، من المؤسسات المالية الدولية إلى المنظمات الدولية الحكومية و غير الحكومية .

         و يمكن رصد أهم مدلولات هذه التحولات ضمن ثلاثة أبعاد شمولية ، من المشهد الجيوسياسي إلى الاقتصادي و انتهاء بالمعطيات الثقافية و الاجتماعية .

         المطلب الأول : التحول في بنية الخريطة الجيوسياسية

         يشير البعض إلى أن واقع التحولات الهيكلية و المجتمعية الحديثة و المعاصرة التي تشهدها بنية النظام الدولي ، لم تتحدد معالمها بعد بوضوح إنما لا تزال قيد التشكل ، مع ذلك لم يمنع المتخصصين من محاولة تفسير مضامينها ، التي يمكن حصر أهم تجلياتها في المظاهر التالية :

         1/ كرست التحولات الدولية التي برزت إيحاءاتها منتصف ثمانينيات القرن الماضي تغيرا جذريا في موازين القوى الدولية بين أطراف النظام الدولي ، من خلال إعادة توزيع عناصر القوة بعد نهاية الصراع الإيديولوجي بين المنظومتين الشرقية و الغربية و بانهيار أهم قلاع الشيوعية في العالم ممثلة في الاتحاد السوفييتي ، و هو ما كان يعني في الواقع العملي انتصارا مطلقا للمنظومة الفكرية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية

2/ بمجرد نهاية الحرب الباردة اتضح جليا أن النظام الدولي استقر على صيغة الأحادية القطبية مما دفع الكثير من المحللين إلى التأكيد على معطى أن أجهزة و ميكانيزمات النظام الدولي باتت تشكل جزءا لا يتجزأ من ميكانيزمات و آليات النظام السياسي الأمريكي ، التي عادة ما وظفت لخدمة المصلحة و الهيمنة الكونية الأمريكية منذ حرب الخليج الثانية حتى الحملة الدولية الشرسة بدعوى القضاء على الإرهاب و الجريمة العابرة للأوطان .

3/ انحسار الإيديولوجية الشيوعية ساهم في وضع حد لنظام يالطا و معه التناقض شرق – غرب ، و اندماج موسكو في المحيط الدولي الجديد ، مما يعني التقليل من أهمية الفكر الاستراتيجي الغربي و إعادة طرح مسألة التهديد بشكل جدي ، فتآكل التحالف الغربي ([1]) بتآكل مبرراته التي باتت ولاهية يقتضي البحث عن عدو جديد يضمن تماسك و استمرارية الغرب .

كتحصيل لما سبق يثير المفكر العربي سمير أمين سعي الو م أ الحثيث للبحث عن مبررات جديدة من شأنها إضفاء مشروعية أخرى على تحالفها مع قوى أوربا و اليابان تمثلها الغرب في التهديدات الجديدة الآتية من دول العالم الثالث أو الجنوب بصورة عامة .

         4/ التحولات الكبرى التي مست الكتلة الشرقية أدت إلى تفجر مسألة الحدود و إعادة طرحها من جديد ، حيث كان من أهم تداعياتها أن أضحى متغير العرقية بمختلف أبعاده القبلية ، القومية و الطائفية أهم محرك للتفاعلات النزاعية العالمية .

فرغم نمو الاتصالات و شيوع قيم المدنية و الثقافة ضمن المجتمعات المعاصرة إلا أنها لم تكن كفيلة بإذابة جليد العلاقات الأولية  (Primordial ties)و استبدالها بعلاقات أكثر حداثة و عملية أساسها الولاء للدولة الحديثة و مؤسساتها .

حيث غدت النزاعات المعاصرة من طبيعة متحولة انعكاسا لمحدداتها ، فواعلها و تداعياتها ، فقد أفرزت بيئة النظام الدولي الجديد استبدال النزاعات العسكرية بين الدول إلى نزاعات اقتصادية ، ثقافية ، تجارية و أمنية صمن إطار أو داخل الدول ، تحت ما أصبح يعرف بالنزاعات اللامتماثلة .

         5/ تحولات ما بعد الحرب الباردة جعلت النظام الوستفالي ([2]) الذي ولد مفهوم الدولة الأمة(Nation state) قيد التساؤل ، إذ كان واقع ما بعد الإيديولوجية حافزا لتوارد نهايات مــن شاكلة ” نهاية التاريخ ” ، “نهاية السياسة”  وصولا إلى ” نهاية الدولة الأمة ” . و هو اتجاه أخذ يشق طريقه نحو التبلور و تتأسس جل افتراضاته على تجاوز الدولة  (Centric state)و التشكيك في يقينية اعتبارها محرك التفاعلات الدولية .

فتراجع دورها من فاعل رئيسي إلى أحد الشركاء من بين عدة شركاء في إدارة شؤون الدولة و المجتمع ([3]) أمام التدفق المتسارع لفاعلين حدد من قبيل القوى المنافسة للدولة على المستويين التحتي أو الفوقي ، و التي أخذ دورها يتعاظم ضمن تفاعلات السياسة العالمية .

         و كتحصيل لذلك أضحت الهرمية الدولية محكومة بمؤشرات جديدة للاستقطاب تختلف في حيثياتها عن تلك التي سادت زمن الحرب الباردة ، و التي لا تتجه نحو توزيع القدرات الاقتصادية ، السياسية و العسكرية – الإستراتيجية بين مختلف الأقطاب على مستوى عالمي ، إنما هو استقطاب على مستوى السياسات و القيم ([4]) في إطار السوقنة الرأسمالية ، و هناك عدة مستويات للجاذبية الجديدة تتأرجح بين الدول المنبوذة أو محور الشر و هي غير المنصاعة لقيم و سياسات الهيمنة العالمية ، و غيرها المتكيفة التي تبدي سياسات تتسق و منظومة العمليات السارية .

         6/ نهاية الحرب الباردة خلقت عالم دون عدو واضح و العمل جار لخلق عدو جديد يؤدي نفس الدور الذي لعبه التناقض شرق – غرب ، و يبرر في المقام نفسه شرعية التحالف الأممي بين الو م أ ، أوربا و اليابان و غيرها من القوى الدولية .

و قد تصور الغرب هذا التهديد في الخطر الآتي من دول العالم الثالث أو الجنوب بشكل عام ، تبعا لما بات يفرزه من مخاطر من شأنها تهديد الأمن الوطني ، الإقليمي و العالمي الشامل من قبيل الهجرة غير الشرعية ، ظاهرة الإرهاب الدولي ، الجريمة المنظمة عبر الوطنية فجوات الصحة و التعليم ، …إلخ

         7/ هذا الوضع المعقد على مستوى الخارطة الجيوسياسية أدى إلى بروز فكرة ” الدولة الحاجزة ” كما عبر عن ذلك Ean Christopherufinو حاول تنميتها صناع السياسة الأمريكية ، و يشير فحواها إلى بعض دول الجنوب التي يشكل تموقعها ضمن خط التماس مع الشمال حساسية قصوى للأمن القومي للدول المعنية .

حيث ساهمت دول مثل المكسيك و بعض دول الضفة الجنوبية للمتوسط من لعب دور التخوم و صمام الأمان لامتصاص التوترات القادمة من الجنوب و احتواها بشكل لا تهدد قلعة الشمال ، مقابل حصولها على مكاسب و امتيازات قد تكون نسبية مقارنة بالخدمات الجليلة التي تقدمها في سبيل كبح  اللاتوازنات الاقتصادية ، الديموغرافية و الاجتماعية و إضعاف حركيتها .

         المطلب الثاني : عولمة التفاعلات الاقتصادية

         لا شك أن العولمة في منطلقها الأساسي اتخذت المظاهر الاقتصادية ، فجذورها اقتصادية ، مكوناتها اقتصادية و فضاء اشتغالها اقتصادي . لكن المفارقة الأساسية أن تبعاتها غالبا ما تطال ليس فقط الجوانب الاقتصادية إنما حتى الجوانب السياسية ، الثقافية ، الدينية و الحضارية ، من خلال تشعب و كثافة وتيرة تفاعلاتها التي فرضتها ديناميكية اقتصاد السوق .

         و قد دخل الاقتصاد العالمي مع نهاية أربعينيات القرن الماضي خطى التعولم بشكل غير مسبوق و تصاعد حدة الاعتماد المتبادل بين محركي الاقتصاد العالمي و الاتجاه نحو تكريس الإقليمية التي تدرجت اقتصادية لتغدو متكاملة سياسية و أمنية ، و سنقف فيما يلي عند المؤشرات التالية :

         المؤشر الأول : التحول في أدوار الدولة الوطنية

         يشهد نسيج الأبنية السياسية ، الثقافية و الاجتماعية في مختلف الدول تحديدا العالم ثالثية تحولات عميقة من شأنها أن تلقي بتبعاتها على وظائف هذه الأخيرة ، و قد سمحت التحولات المعولمة على المستوى الاقتصادي ببروز عالم دون حدود عززته ثورة تكنولوجيا الإعلام و الاتصال على نحو ما هو محددات داخلية و أخرى خارجية .

         أ/ المحددات الداخلية :

  • تراجع مؤشر السيادة الوطنية للدول ، حيث لم تعد تلك القوة العليا المهيمنة داخليا و خارجيا ، غير القابلة للتجزئة أو المساس بها أمام الانكشاف في عصر العولمة و تزايد حدة الاختراقات السياسية ، الاقتصادية و الأمنية .
  • توسع المنظومة القانونية الدولية إلى الحد الذي أصبح بالإمكان تحديد إملاءات على الدول بما تستطيع فعله و ما لا تستطيع خاصة مع القضايا شديدة الحساسية و لا أشد حساسية من علاقة الدولة بالمجتمع .
  • تراجع دور الدولة في ظل التدفقات تحت و عبر الوطنية ، إذ تآكلت الحدود الجغرافية أمام امتداد خط المصلحة و الامتيازات التجارية ، و بهذا يحل النفوذ الأفقي للسوق محل القدرة الرأسية للدولة
  • على صعيد إدارة الأنشطة الاقتصادية ترجمت في البداية فكرة العصرنة بتثمين دور الدولة المخططة الضابطة ، المراقبة و المقاولة اعتقادا بأنها القادرة على تدارك و النهوض بالاقتصاديات الهشة من خلال ” نموذج التدخل “([5]) لكن سرعان ما تم التراجع عنه تحت تأثير الأزمات الاقتصادية المستعصية و تبعاتها كارتفاع معدلات البطالة ، التضخم و الكساد العالمي .
  • أدت سياسات الخصخصة ، الانفتاح و ضمن ما يعرف بالتصحيح الهيكلي إلى إضعاف قدرة الحكومات الوطنية ، و تخفيف قبضتها في تنظيم الفعاليات الاقتصادية على الصعيدين الداخلي و الخارجي ، خاصة بعد تصفية القطاع العام .

ب/ المحددات الخارجية :

باتت البيئة العالمية في عصر العولمة و مجتمع المعلومات مفتوحة على موجة من التغيرات التي أخذت تتضح ملامحها و تلقي بظلالها على أدوار الدولة الوطنية ، على مستوى أكثر اتساعا و شمولية ، و لما أشرنا إلى بعضها سابقا ، نوجز غيرها على النحو الآتي :

  • تراجع قدرة الدولة عن إدارة أنشطتها الاقتصادية و الاجتماعية ، فتح المجال لتموقع السوق و صار قانون العرض و الطلب أفضل الأنظمة المتاحة على المستوى العالمي ، مما جعل الدولة تفقد استقلاليتها و مصالحها الوطنية لتبقى رهينة القوى الاقتصادية العالمية .
  • ساهم تفكك الاتحاد السوفييتي و معه دول المنظومة الشرقية في تهاوي المنتظمات القائمة على الظاهرة الشمولية ، التي تعظم دور الدولة باعتبارها تتموقع في طليعة القوى الاجتماعية ، فاسحة المجال أمام شكل آخر منها هو الأنظمة التسلطية .
  • بات التحول الديمقراطي من أهم القيم المتدفقة على الصعيد العالمي ، إذ يعد هذا أمرا طبيعيا في ظل صعود نجم الليبرالية التي تجعل من الحرية شعارا لها في جميع المجالات ، و أصبحت الدول في الهرمية الجديدة تقيم على مدى توافقها أو العكس مع المعايير التي تجعل منها قادرة على الانسجام و الذوبان في دينامية العولمة و ملحقاتها .

و عليه فقد هيأت العولمة لإضعاف الدولة القطرية التي باتت في نفق مظلم عاجزة أن تكون في مستوى طموح مواطنيها ، و خير من عبر عن هذا عالم الاجتماع الأمريكي دانييل بيل بالقول : ” أصبحت الدولة أصغر من أن تتعامل مع المشكلات الكبرى ، و أكبر من أن تتعاطى بفعالية مع المشكلات الصغرى “(the state is becaming too small to handle realy big problems and too large to deal effectively with small ones )

و إذا كان من المجازفة العلمية القول أن العولمة لا تعمل على حل كيان الدولة إلا أنها في المقابل لم تتركه سليما تماما ، و نشير هنا إلى تراجع دورها خاصة في أداء الوظائف الاجتماعية و الاقتصادية ، و مع ذلك نجد أن مختلف القوى عبر الوطنية في مقدمتها الشركات متعددة الجنسيات لطالما عبرت بوضوح عن تملصها من مسؤولياتها تجاه الآثار الجانبية التي يمكن أن تنجر عن نطاق مشروعاتها ، و تطالب في المقابل بتدخل الدولة .

المؤشر الثاني : ديناميكية الإقليمية

         لم يتوقف الانكماش الحاد الذي أصاب الدولة الوطنية عند أدوارها التقليدية التي أدتها بفعالية خلال مرحلة البناء و التشييد ، بل أبعد من ذلك أصبحت خاضعة لتأثير فواعل جدد شهدت استقطابا قويا من قبل الأفراد و الجماعات .

و نحدد فيما يلي المعطيات الدالة على ظواهر الاقتصاد بعد الحرب الباردة التي اكتست ثوب العولمة-الإقليمية :

  • تحدث الكثير من المحللين و منهم جيمس روزنو عن بداية زوال عالم الدول الذي تأسس منتصف القرن السابع عشر . إذ غدا تحليل السياسة العالمية كسياسة دولاتية غير ذي معنى ، أمام الدور المتعاظم الذي بات يلعبه فواعل من قبيل : الأفراد ، جماعات المصالح ، المنظمات غير الحكومية و الشركات الاقتصادية الكبرى .
  • تنامي النزعة الدولية نحو تكريس التكامل الإقليمي الذي تحول إلى أهم مؤشرات الاستدلال على مرحلة ما بعد الحرب الباردة .

و تعبر الإقليمية في جوهرها عن رغبة الدول – الأطراف في التنازل إن لزم الأمر لصالح الكيان الإقليمي الجديد ، الذي قد يؤدي دورا وظيفيا في حل المشكلات و التصدي للأزمات التي قد تعجز الدولة عن مواجهتها من خلال قدراتها الذاتية .

  • توارد الإقليمية التي أضحت شكلا للتوحيد و تجميع القوى على مستوى فوقي من خلال عمليات السوق و التنسيق على مستوى السياسات بشكل يؤدي إلى التمركز المتزايد للتبادلات الدولية حول ثلاث كتل كبرى في العالم هي : أمريكا ، أوربا و جنوب شرق آسيا .
  • شكل الاعتماد المتبادل تعبيرا عن العلاقات المكثفة بشكل غير مسبوق بين الدول ، التي يبقيها دوما في وضعية تبعية متنامية ، تحركها عوامل تقنية و أخرى نابعة من توسع المبادلات الاقتصادية و ديناميكية رؤوس الأموال .
  • انعكاسا لكثافة حجم الاعتماد المتبادل تتجه القوى الاقتصادية العالمية نحو التكامل الإقليمي من خلال سعي كل منها لتدعيم إنشاء جهوي خاص به مع دول الجوار الجغرافي ، مثـل ما فعلتـه الو م أ في حيزها الإقليمي من خلال تجمع النافطا ، الاتحاد الأوربي و منظمة التعاون لدول جنوب شرق آسيا .
  • رغم جدلية الارتباط بين ظواهر العولمة و الإقليمية ، اللتان قد تبدوان من الناحية الشكلية متناقضتين لكنهما جوهريا تعملان بطريقة تكاملية ، فقد بات واضحا أن الدولة الإقليمية (Region state)ستحل تدريجيا محل الدولة القطرية و قد عبر الباحث كينيشي أوماي (Kenichi Ohmae)عن هذا الشكل المستحدث ن التنظيمات بقوله : “هي مناطق اقتصادية طبيعية قد تظم أقاليم تنتمي إلى أكثر من دولة وطنية كما أنها قد تقع في مناطق جغرافية متباعدة ، غير أن أبرز ما تتسم به هو أنها تملك مجتمعة المقومات الرئيسية للمشاركة الاقتصادية الناجحة في الاقتصاد العالمي ” .

المؤشر الثالث : التوزيع غير المتكافئ للثروة على المستوى العالمي

 إذا كان اندماج موسكو في المحيط الدولي الجديد قد أدى إلى تآكل التحالف الغربي إلا أنه في المقابل مثل دافعا قويا للغرب لتجديد البحث عن عدو جديد يؤدي دور الفزاعة ، و قد تم تصوره في التهديد الآتي من دول الجنوب .

حيث مثل هذا الأخير بؤرة للتوتر العالمي ، انعكاسا لتدني معدلات النمو الاقتصادي و انعكاسه على باقي القطاعات ، مما يعبر عن فجوة حقيقية بين أغنى و أفقر سكان العالم و يمكن النظر إلى هذه ” الأزمة الدائمة الصامتة “([6]) كما عبرت عنهاكارولين توماس (Caroline Thomas)  من خلال إثارة الحقائق و المؤشرات التالية :

  • حيازة أقل من ربع سكان المعمورة على أكثر من 80%من الثروة العالمية ، بينما لا تحوز الغالبية و التي تتموقع ضمن دول الجنوب سوى على 5%، مما عمق الفجوة بين أغنى و أفقر سكان العالم .
  • تنامي حظوظ دول الشمال في مقدمتها القوى المصنعة من تحسن عائداتها انعكاسا لتحرير التجارة و فتح الأسواق العالمية ، على حساب تدني معدلات النمو بشكل مطرد في دول الجنوب .
  • انعكاس التطورات الاقتصادية في العشرية الأخيرة على تصاعد حدة الاضطرابات الاجتماعية و بالتالي تزايد معدلات عدم الاستقرار السياسي ، باتت معه قضايا الجوع ، الفقر و التلوث المصادر الأولى للفوضى العالمية و المآسي البشرية .
  • مع أن قضايا الفقر و الجوع لا تمثل من القضايا الأكثر إثارة مقارنة بالمسائل المرتبطة بالصراع بين و ضمن الدول ، إلا أنها دون شك تفرز تحديات جسيمة تهدد الوجود البشري بشكل عام فحيث الفقر تنمو الآفات الاجتماعية و تتسع دائرة العنف و معه اللااستقرار و هي معضلات تحتاج ليس تدخلا طارئا سريعا ، إنما عملية طويلة الأمد و هادئة من التنمية المستدامة .

تماشيا مع ذلك استنفرت الجهود الدولية التي قادتها مختلف القوى و الأطراف الدولية في مقدمتها الأمم المتحدة ، ممثلة تحديدا في برنامجها الإنمائي لوضع أجندة من ثمانية نقاط عبر عنها بأهداف الألفية الحديدة الإنمائية الثمانية ، و الملفت أن يكون تحدي القضاء على الفقر المدقع و الجوع إلى مستوى النصف بحلول عام 2015([7]) أولى هذه الخطوات المسطرة ، و ما هذا إلا دليلا على حساسية المسألة في ارتباطها بكافة جوانب الحياة الاجتماعية للفرد و الجماعة .

المطلب الثالث : التحول من المتغير الإيديولوجي إلى الثقافي و الاجتماعي

يكشف الواقع  أن المتغيرين الثقافي و الاجتماعي لم يكونا ليبرزا بحدة قبل و إبان الحرب الباردة نظرا لهيمنة المحدد الإيديولوجي على طبيعة العلاقات التفاعلية التي ميزت تلك المرحلة .

تميل أغلب الدراسات إلى اعتبار العولمة و مظاهرها متعددة الأبعاد نتاجا للثورة التقنية المتسارعة التي اكتسحت مجال المعلوماتية و التي تحول معها مجتمع المعلومات إلى أهم مظهر للتغير الاجتماعي المعاصر ، أو كما تمثله إلفين توفلر في تحولات ” الموجة الثالثة ” ،التي أصبحت معها المعلومةأهم مورد للإنتاجية العالمية من يمتلكها امتلك ثروة هائلة ([8]) .

و يمكن الوقوف على أهم تجليات المعطيات الاجتماعية و الثقافية في المظاهر التالية :

  • بروز المقاربة الصراعية الصدامية التي شكل صموييل هنتنغتون(Samuel Huntingon) ملهمها الأساسي إضافة إلى بعض مسؤولي حلف شمال الأطلسي ، الذين جعلوا من مسائل الهوية و الحضارة قيما قابلة للتصادم فيما بينها ، بات معها الخطر القادم في المستقبل يستوجب القطيعة الثقافية بين الشمال و الجنوب .
  • مع انكشاف هشاشة الغرب بعد حرب الخليج الثانية تصاعدت حدة التناقض بين أطرافه و برز توجه لإحلال الإسلام محل الشيوعية من خلال نعته بالتطرف و الإرهاب ، و قد أعلن ذلك صراحة الأمين العام للناتو الأمريكي ويلي كلايس .
  • تصور بعض منظري الغرب أن الإشكالية أو جوهر التناقض لا يكمن بين الإسلام و المسيحية كديانتين ، أو بين محمد صلى الله عليه و سلم و عيسى المسيح كحاملي رسالتين ، إنما بين الإسلام و الغرب كديانة و منطقة جغرافية ([9]) .

و قد كان وراء هذا التصور الغربي للإسلام فرضية ” العدو الضروري ” التي من شأنها تبرير الجهاز العسكري و ميزانيات التسلح المكلفة و المتعاظمة .

  • كان للتدفقات الثقافية العالمية أثرها على منظومة القيم الثقافية و نقضها لطابعها الإقليمي ، فرغم خطورة التوحيد في شكل الأمركة(Americanization) و المكدلة(MacDonaldizaton)  و الكوكلة(CocaColanization)  ([10]) إلا أن الاتجاه الرئيسي يؤكد على خطاب التنوع و الغزارة في هويات الشعوب و خصوصياتها ، و عليه تهاوي مساعي الغرب في تعميم نموذجهم .
  • مع كل ما أثير حول طبيعة النزاعات المعاصرة ، يبقى محركها الأساسي دون منازع المصلحة القومية و توازن القوى أكثر مما هي نتاج انقسامات ثقافية أو دينية ، و قد عبر عن هذا المعطى غراهام فولر بالإشارة إلى أن جوهر الصدام الحضاري يدور حول التوزيع غير العادل للقوة ، الثروة و النفوذ العالمي ([11]) ، إنه نزاع بين أولئك الذين يملكون القوة و من لا يملكونها ، بين أولئك الذين يسيطرون على مصير العالم و أولئك الخاضعين للسيطرة .

و عليه مثلت العولمة و مجتمع المعلومات أهم ملامح نهاية القرن العشرين ، باكتساحها أوجه الحياة كافة السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية و الثقافية و باتت معها الخصوصيات المحلية و الذاتية للأفراد و الجماعات قيد التساؤل و التشكيك بوصفها قيم لن تصمد أمام هذه النزعة التوسعية الشمولية التي تتجاوز حدود الزمان و المكان .

([1]) بخوش مصطفى ، مضامين و مدلولات التحولات الدولية بعد الحرب الباردة . مجلة العلوم الإنسانية ، العدد 03 ، أكتوبر 2002 ، جامعة محمد خيضر بسكرة ، ص162 .

(3) نسبة إلى معاهدة واستفاليا للعام 1648 المحكوم بثلاثة مبادئ أساسية :

            * احترام سيادات الدول .

            * مبدأ المساواة بين الدول .

            * عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

(4) سلوى شعراوي جمعة ، مفهوم إدارة شؤون الدولة و المجتمع : مستخرج من الصفحة الإلكترونية التالية :

http//:www.islamonline.net/arabic/mafaheem.2004/01/article01.html.

([4]) جهاد عودة ، العمليات الجديدة في النظام الدولي :مستخرج من الصفحة الإلكترونية التالية :

http://www.mearsinfo.com/makhzoumy/audi.html.

([5]) سعيد مقدم ، التنمية و الإدارة في ظل تحديات العولمة : حالة الجزائر . إدارة ، مجلة المدرسة الوطنية للإدارة ، المجلد 16 ، العدد 31 ، 1006 ، ص15 .

([6]) جون بيليس و ستيف سميث ، ترجمة مركز الخليج للأبحاث ، عولمة السياسة العالمية ( دبي : مركز الخليج للأبحاث ، 2004 ) ص 935 .

([7]) البنك الدولي ،تقرير عن التنمية في العالم للعام 2004 : جعل الخدمات تعمل لصالح الفقراء.ص02 .

([8])عبد الحفيظ ديب ، الاختراق الأمني في عصر ثورة المعلومات . ورقة بحثية مقدمة في إطار النشاط العلمي لكلية الإعلام و العلوم السياسية ، جامعة الجزائر .

([9]) يوكسيل سيزغين ، ترجمة هشام الدجاني ، هل يشكل الإسلام تهديدا للغرب . الثقافة العالمية ، العدد 107 ، جويلية/أوت 2001 ، ص134 .

([10]) جوران توربون ، ترجمة بدر الرفاعي ، العولمات : الأبعاد و الموجهات التاريخية و المؤثرات الإقليمية و توجيه الحكم المعياري . الثقافة العالمية ، العدد106 ، جوان 2001 ، ص08 .

([11]) يوكسيل سيزغين ، مرحع سابق ، ص138 .

الأستاذة علاق جميلة جامعة منتوري ، قسنطينة الجزائر

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى