د./ هاله ماهر- مصر
عندما تغوص بعمق في قراءة ابن خلدون، تجد نفسك تغوص في بحور علم لا تنتهي، حاله من الاندهاش المتواصل خلال الغوص ولا أبالغ إذا قلت لك ان هذه الحالة تظل معك وكأنها ملكت جزء بداخل ذلك العقل عبر فصول المقدمة، وغيرها من الكتابات التي خطها بعقله قبل قلمه، وهي تمنحك أكثر من قانون حتى تستطيع الغوص لدي بن خلدون
الامر الاول أنه قدم لنا مفهوم “الشمولية” بمعناها الانسيكلوبيدي المتعارف عليه في القرون الوسطى. وكذلك نستطع مع هذا التجسيد مناظرته بما فعله سقراط حينما كان يجادل الناس في كل شيء حتى يستخرج منهم الحقيقة وهي ما يعرف عند سقراط بالتهكم والتوليد، لقد اهتم ابن خلدون بكل شيء حوله حتى يغير كل شيء، كما قال عنه د محمد الحبابي وهو في هذا دقيق اللفظ، مع عمق الفكر والتحليل.
والامر الثاني معرفه وعلم متسع اتساع قدرة القارئ على الغوص، مع تطور في المنهج وجرأة في التناول، رؤية متميزة تبتغي التجديد في كل المجالات حتى انها قاربت النظريات الحديثة ومهدي لها، ومع ذلك السبق للعصر الا انه لم يشفع له، حتى يتهم بتهمه عصره، من الزندقة، ولم يشفع له لدى المعاصرين، الي الحكم عليه، بالرجعية والتخلف في المنهج والفكر.
ان ابن خلدون دمن أكثر المفكرين المسلمين إثارة لفضول الباحثين المعاصرين واستقطابا لدراستهم، لسعه مجالات تميزه، سياسيا واجتماعيا وأدبيا واقتصاديا وفيلسوفا مؤرخا، ومربيا، وقاضيا، وسفيرا، ورحالة…الخ، والتصوف الذي ألف فيه كتابا على جانب كبير من الأهمية هو: شفاء السائل بتهذيب المسائل”، وأهلته تجربته فيه لأن يتولى مشيخة الخانقاه (الزاوي) البيبريسية بالقاهرة… وكالشعر الذي خلف فيه عددا كبيرا من النصوص الجيدة، وكتب، وكالفقه والمنطق… إضافة إلى النقد الأدبي.
مرحله التفرغ في حياة ابن خلدون ٧٧٦—-٧٨٤هجرى——١٣٧٤م- ١٣٨٢م
فقد قام ابن خلدون بتأليف كتاب العبر.. في اقامته بقلعة ابن سلامه. حيث نستطيع الجزم، بأن هذه الفترة بتاريخ ابن خلدون، تعتبر الذهبية حيث تبلورت موهبته، وسطعت للعالم بأسره وعلم بها، واستشرافها الداني والقاصي.
بعد هجر الأندلس، مهاجرا الى المغرب، قاصدا مدينة تلمسان والاستقرار بها، بعدما نال العفو من اميرها.. أبو حمو على ما اقترفه في حقه، من خياناته المتعددة، واستقر مع اسرته في قلعة ابن سلامه. .فأفرز في هذا المكان ، وتلك الفترة ، اروع مؤلفاته ، وأميزها واعمقها وأوسعها ، اثرا على مدى التاريخ ، وقد ساعده هذا التفرغ ، بإقامته في القلعة بالتأمل ، والقراءة ، وطرح كل ما اختزنته ، ذاكرته وامتلأت به مغامراته ، وخبراته ، في حياته حتى في عالم السياسة التي ، امتهنها في ، فتره سابقه من حياته ، ليفرغ كل هذا ، مع مزيد مما اكتسبه من، اطلاعاته ، بالكتب ومعايشة البشر، على اختلاف أهوائهم ، ومشاربهم وعاداتهم ، ليخرج للوجود ، هذا المؤلف المميز في خلال اربع سنوات كامله ، والمسمى بكتاب …العبر…وقدم لهذا ببحث عام في شؤون الاجتماع الإنساني ، وقوانينه والذى اشتهر فيما بعد بمقدمة ..ابن خلدون. ويشمل، خطة الكتاب على سبع صفحات صغيره. اسماه المقدمة، في فصل علم التاريخ، وتكونت من ثلاثين صفحه.
وقد ألفه ابن خلدون، ولم يتجاوز الخامسة والاربعين من عمره، وقد اتسعت دائرة اطلاعاته، وارتقى تفكيره وقد اجتر، كل ما مر به في، سابق حياته، من معرفه في شؤون، الاجتماع الإنساني بعمومه. والسياسي، مستفيدا ابن خلدون، بمشاهداته، حين اقامته ما بين القصور، والدول المغربية، والأندلسية والقبائل، بطباعها وأحوالها، وتقاليدها.
وقد استغرق في الجزء الاول، من مقدمته ستة أشهر بالتأليف، والتأمل قبل أن يشرع لتنقيحه، وتهذيبه.
حتى انه استغرب، واندهش معجبا لحاله، فخورا بها لان بحثا، كبحثه جديرا، أن يستغرق عدة سنين.
اما في بحثه في التاريخ، والذي اقتصره في البداية فيه، على أحوال المغرب.
ثم سرعان ما عدل، للتوسع فقرر، ان يشمل احوال الشرق، وأممه، واخباره المتناقلة، وجعله تاريخا، عاما لجميع الامم المشهورة والمعروفة في عصره، دون ان يلغى، عبارته السابقة، في اقتصار بحثه على المغرب وحده…فذكر، تاريخ وأحوال ومشاهير، وعادات، وطبائع دول النبط.. السريان.. الفرس.. بنى إسرائيل.. القبط.. اليونان. الروم.. الترك.. الفرنجة.
فاستوعب، مؤلفه احوال الخليقة، استيعابا مميزا، متفردا لم يطاوله، اخر من مؤلفي، عصره لا سابقا، أو لاحقا. فخرج، لنا كتاب.. العبر…. والمبتدأ والخبر، في ايام العرب، والعجم والبربر، ومن عاصرهم، من ذوي السلطان الأكبر. وقد استغرق في، تأليف كتاب العبر، أربع سنين.
وبذلك ندرك، انه شرع في، تأليف المقدمة، بعد فراغه، من تأليف الاقسام التاريخية، من كتابه العبر.