أعلن السفير الصيني لدى إريتريا، في 22 يونيو 2022، بدء التعدين المشترك للنحاس والذهب والزنك والفضة في إريتريا. ولم تستغرق بكين سوى بضعة أشهر لإقناع أسمرة بإنشاء مشروع مشترك في جميع مواقع التعدين. ويمنح المشروع الجديد بكين السيطرة على منجم النحاس بما يعادل أكثر من 2% من النحاس في العالم، وهو ما يثير التساؤلات حول عوامل الاهتمام الصيني المتزايد بإريتريا، والسياسة التي تنتهجها الصين لتعزيز حضورها الاقتصادي في البلاد.
جدير بالذكر أن العلاقات الصينية الإريترية كانت قد بدأت منذ ثلاثة عقود؛ إذ حافظت الصين على علاقات شبه مستقرة مع إريتريا منذ استقلالها عام 1993. وكان الرئيس أسياس أفورقي قد تلقى تدريبات عسكرية بالصين (1966– 1967)، لكن العلاقات بين البلدين تعرضت لانتكاسة أثناء الحرب ضد إثيوبيا (1998– 2000) بسبب اتهامات إريترية لبكين بتزويد أديس أبابا بكميات كبيرة من السلاح. وبعد انتهاء الحرب تعرض الاقتصاد الإريتري للانهيار؛ ما ساعد على عودة علاقات أسمرة مع بكين في ظل تدهور علاقاتها بالغرب. ومنذ عام 2001، بدأت بكين ترسل الوفود والخبراء لتأهيل عدد من القطاعات في المجالات المختلفة المدنية والعسكرية، كما قدمت قروضاً مالية ميسرة.
محددات حاكمة
أبدت بكين اهتماماً متزايداً بإريتريا، لا سيما عقب بنائها قاعدتها العسكرية في جيبوتي عام 2016. وكشفت مرحلة ما بعد اندلاع الحرب مع جبهة التيجراي عن رغبة صينية واضحة في تطوير العلاقات مع إريتريا؛ وذلك لعدة أسباب، أهمها:
1– انضمام إريتريا إلى مبادرة الحزام والطريق: تعمل بكين على تأمين وجودها في منطقة البحر الأحمر وضمان دخول ميناءي مصوع وعصب في مبادرة الحزام والطريق؛ لذلك وقعت بكين مع أسمرة مذكرة تفاهم في 24 نوفمبر الماضي، للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، وهو ما يضمن لها منفذاً إلى البحر الأحمر وقناة السويس وصولاً إلى أوروبا، كما تطمح بكين إلى أن تصبح إريتريا مركزاً إقليمياً في شرق أفريقيا؛ لكونها متميزة على إثيوبيا الحبيسة جغرافياً.
2– أهمية الموقع في استراتيجية بكين العسكرية: تعمل بكين على تطوير التعاون العسكري مع أسمرة، واستغلال الأرخبيل الإريتري في حضور عسكري صيني قريب من شواطئ إريتريا. كما تسعى بكين إلى أن تكون إريتريا نقطة مهمة تعزز بها وجودها في منطقة القرن الأفريقي بجانب تغلغلها في جيبوتي، وهو ما يعزز تطور استراتيجيتها في منطقة باب المندب.
3– دعم النظام الإريتري مبدأ “الصين الواحدة“: تعمل بكين على تعزيز علاقاتها بالدول الداعمة لمبدأ “الصين الواحدة”. وتعد إريتريا من هذه الدول. وقد حرص الرئيس أسياس أفورقي، أثناء زيارة وزير الخارجية الصيني وانج يي، إلى إريتريا في مارس الماضي على تـأكيد دعم بلاده وحدة الصين. لذلك تعمل بكين على موازنة النفوذ الأمريكي على المستويين الأفريقي والدولي، وخاصة أن واشنطن تعمل على حشد موقف دولي وأفريقي داعم لاستقلال تايوان.
4– استثمار الفرص الاقتصادية الواعدة في إريتريا: تعمل الشركات الصينية في مجال التعدين والتنقيب عن الذهب والنحاس والحديد والزنك بعدد من الأقاليم الإريترية، وتملك امتيازها شركتا دنيا وبكين (Bejing وDonia). كما حازت المؤسسة الصينية الجيولوجية (CGC) امتياز التنقيب عن الغاز والبترول في إريتريا. وقد أعلن السفير الصيني لدى إريتريا، في 22 يونيو الجاري، بدء التعدين المشترك للنحاس والذهب والزنك والفضة في إريتريا، وهو مشروع طويل الأمد تستخرجه شركة أسمرة الصينية الإريترية الجديدة للتعدين (AMSC)، التي من المتوقع أن تجلب 692 مليون دولار من صافي الإيرادات إلى إريتريا كل عام لمدة 17 عاماً على الأقل. وتحتوي المواقع الأربعة المعنية باستخراج الخامات على 380 طناً على الأقل من النحاس، وألف طن من الزنك، و850 طناً من الذهب، وألف طن من الفضة.
أدوات بكين
تعمل بكين، من خلال مداخل متعددة، على تعزيز حضورها الاقتصادي في إريتريا؛ وذلك على النحو الآتي:
1– تبني سياسة مغايرة لمقاربة الضغوط الأمريكية: في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على ممارسة الضغوط على دول المنطقة، لا سيما أسمرة وأديس أبابا، لتغيير سياستها بما يتفق مع السياسة الأمريكية، فإن الصين تعتمد على “السياسة الناعمة”؛ لذلك نجحت في توقيع صفقات تجارية واستثمارية. وفي هذا السياق، تعد بكين من أهم القوى الدولية التي عارضت فرض عقوبات أمريكية، خلال نوفمبر الماضي، على قوة الدفاع الإريترية “إي دي إف”، وحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، و”صندوق هيديري”، إضافة إلى رئيس مكتب الأمن القومي الإريتري “أبرهة كاسا نيمريم”، و”هاجوس جبريويت كيدان” المستشار الاقتصادي لحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، ووضعهم على القائمة السوداء، لاتهامهم بالضلوع بجرائم في إقليم تيجراي بإثيوبيا.
وفي المقابل، عملت بكين على تقديم مساعداتها بسخاء لإريتريا بقيمة 100 مليون يوان (15.7 مليون دولار)، عقب زيارة وزير الخارجية الصيني وانج يي، إلى إريتريا في يناير الماضي، في وقت تحتاج فيه إريتريا إلى حليف قوي يصطف معها ضد السياسات الغربية، وهو الأمر الذي بموجبه منحت أسمرة الشركات الصينية حق التنقيب والتعدين عن الذهب والحديد والزنك والنحاس، وامتياز التنقيب عن البترول في إريتريا.
2– تقديم الدعم الصيني دون مشروطية سياسية: وهو عكس النمط الأمريكي في علاقته بدول أفريقيا؛ حيث تعمل بكين على مساعدة الدول الأفريقية بدون رهن هذه العلاقة بشروط سياسية، مثل احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد وجدت السياسة الصينية ترحيباً واسعاً من بعض دول المنطقة. وعلى سبيل المثال، انتقدت كل من أسمرة وأديس أبابا في أكثر من مناسبة السياسة الأمريكية التي تعمل من أجل السيطرة والهيمنة على مقدرات دول العالم النامي. وفي هذا السياق، قال أفورقي إن الحرب بين إريتريا وإثيوبيا كانت بتشجيع من الأطراف الخارجية، في إشارة إلى الولايات المتحدة والدول الغربية بوجه عام.
3– توظيف الانفتاح الإريتري على النفوذ الصيني: تستثمر بكين بكثافة وتوظف التوتر المستمر في علاقات إريتريا مع الولايات المتحدة وحلفائها لتعزيز حضورها الاقتصادي وزيادة استثماراتها في المنطقة، كما تستغل بكين اعتماد أفورقي على الصين في قطاع التعدين؛ حيث إن فتح إريتريا أمام الشركات الصينية سيضمن زيادة الناتج المحلي الإجمالي لأريتريا بأكثر من 30%.
4– تعزيز الدعم السياسي للرئيس أسياس أفورقي: حيث يعمل أفورقي على تعزيز سلطته وقبضته على الحكم في إريتريا، ومحاولة تقليل الدعم الغربي للمعارضة الإريترية، في إطار مساعي الغرب للمحافظة على الأوضاع في باب المندب ومنطقة القرن الأفريقي، في الوقت الذي تبدي فيه بكين وأسمرة دعمهما لرئيس الوزراء أبي أحمد في قتاله ضد قوات التيجراي. وتصطف بكين مع أسياس أفورقي وأبي أحمد في مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية. وقد رفضت الصين وروسيا كل قرارات مجلس الأمن لإدانة السياسة الإريترية أو الإثيوبية تجاه جبهة التيجراي خلال فترة الحرب مع الجبهة.
توظيف التنافس
إجمالاً يمكن القول إن الصين تستثمر بكثافة في سياق التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وبعض دول منطقة القرن الأفريقي، لا سيما إريتريا، لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة. وتتقاطع هذه المصالح الصينية مع مصالح إريتريا التي تتمثل في رغبة الرئيس أفورقي في توظيف التنافس بين الصين والولايات المتحدة في المنطقة لتحقيق مكاسب اقتصادية وجذب الاستثمارات الصينية والحصول على الدعم السياسي للصين في مواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية، ومن ثم ترحب إريتريا بالحضور الصيني باعتبار أن بكين تمثل طرفاً دولياً فاعلاً وقوياً وموازناً للسياسة الامريكية في المنطقة.
المصدر إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية