شهد أغسطس (آب) 2021 أحداثًا لم يتم التركيز عليها إعلاميًّا في ظل التغطية الإخبارية المُكثفة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتدور تلك الأحداث حول قطع الصين علاقاتها مع ليتوانيا، تلك الدولة البلطيقية الصغيرة، بعدما قررت الأخيرة الاعتراف بحكم الأمر الواقع بسيادة تايوان، التي تعدّها بكين جزءًا من جمهورية الصين الشعبية، والسماح بفتح مكتب تمثيل (ليتواني – تايواني). ولم يكن الاعتراف الليتواني بحكم تايوان أو مكتبها التمثيلي الحدث الاستفزازي الأول للصين؛ بل أيضًا انسحبت ليتوانيا من اتفاقية الإطار التعاوني بين الصين وبلدان وسط أوروبا وشرقها (17 + 1) التي تُعد جزءًا من الإستراتيجية العالمية الأوسع للصين، المعروفة باسم مبادرة الحزام والطريق.
أثارت هذه التحركات الليتوانية عدة تساؤلات، أبرزها:
- هل تملك ڨيلنيوس (عاصمة ليتوانيا) القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تؤكد استقلال قراراها الدبلوماسي؟
- لماذا خرجت ڨيلنيوس عن العُرف المُتبع في كثير من الدول الأوروبية التي لها مكاتب تمثيلية مع تايوان، لكن باسم “تايبيه” (عاصمة تايوان) للحفاظ على علاقات غير رسمية، وغير استفزازية للصين؟
- هل موقف النخبة السياسية الحاكمة في ڨيلنيوس (اتحاد الوطن، الديمقراطيون المسيحيون) ضد الصين سيزيد من مكاسبهم، أم سيزيد من الأخطار على الدولة الصغيرة؟
سيكون من المُضلل التركيز على تحركات ڨيلنيوس وحدها للإجابة عن التساؤلات السابقة، ولكن إذا ضُمِّن رفض واشنطن لاختراق بكين قلب أوروبا وغربها عبر المناطق الهشة اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، مثل البلطيق والبلقان، سنتمكن من بناء نموذج عن نمط الحرب الدبلوماسية بالوكالة بين أمريكا والصين، التي يبدو أنها انطلقت من تخوم أوروبا.
العقوبات الصينية على ليتوانيا
في البداية، كان متوقعًا أن تفرض بكين عقوبات على ليتوانيا بعدما “تجاوزت الخط الأحمر الصيني”، ولن تكتفي بكين بسحب سفيرها في ڨيلنيوس، وطلب مُغادرة سفير الأخيرة أراضيها، وبالفعل أوقفت الشحن بالسكك الحديدية إلى ليتوانيا، وأوقفت تصاريح التصدير لمُنتجي البلاد، لا سيما فيما يتعلق بالزراعة، وتربية الحيوانات، وصناعات الأخشاب.
الموقف الأمريكي تجاه ليتوانيا
ولم يكن مفاجئًا أن نرى موقف الولايات المتحدة مع ليتوانيا، حيث أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين لوزير خارجية ليتوانيا أن واشنطن ستقف إلى جانب ڨيلنيوس، التي وصفها “بالحليف والشريك”؛ لمساعدتها على تحمل الضغوط الصينية بشأن تعميق العلاقات مع تايوان، فيما أعرب عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي عن دعمهم لڨيلنيوس في خلافها الدبلوماسي مع الصين، مؤكدين أن “إرادة ليتوانيا الحازمة ستواجه النفوذ الخبيث المتزايد للحزب الشيوعي الصيني في أوروبا”، وأصدرت 11 دولة أوروبية بيانًا مشتركًا تدين فيه أي تحرك صيني ضد ليتوانيا.
وفي سياق متوازٍ، تُحاول واشنطن أن تُبطئ من معدلات نمو التجارة الثنائية بين الصين ودول وسط أوروبا وشرقها، التي بلغ متوسطها بين عامي 2012 و2020 (8%) سنويًّا، وهذا ضعف مُعدل التجارة الصينية مع الاتحاد الأوروبي تقريبًا. وفي ظل تركيز سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن على منطقة المُحيطين الهندي والهادئ، التي يحاول فيها تقويض النفوذ الصيني، وكبح تنامي قوة بكين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، يتم الضغط على كل حلفاء واشنطن لأخذ قرارات مِن شأنها أن تُعرقل المشاريع الصينية.
أسباب صراع ليتوانيا مع الصين
في ضوء هذا يمكن فهم لماذا ذهبت ليتوانيا بعيدًا، وانخرطت في أحد أصعب الصراعات في منطقة شرق آسيا، واشتبكت مع الملف الجيوسياسي الأبررز في غرب المحيط الهادئ، فهذا يُلبي رغبة واشنطن، ويمس المصالح الأساسية للصين، دون اصطدام مباشر، فتنفيذ السيناريو يتم عبر وكيل؛ هو ڨيلنيوس.
فاختيار واشنطن ليتوانيا لهذه المهمة، يمكن النظر إليه بعدة مستويات:
- أولًا: الجغرافيا: ليتوانيا دولة على بحر البلطيق، بعيدة جدًّا عن أي تماس مباشر مع الصين؛ ومن ثم فإن خطابها الأخلاقي ضد بكين غالبًا لن يُفسر على أنه قائم على صراعات جيوسياسية/ اقتصادية/ عسكرية، وفي الوقت نفسه يخدم الأجندة الأمريكية للديمقراطيين، التي ترفع شعار “معركة الديمقراطيات ضد الأنظمة الاستبدادية”؛ لذا جاء في بيانات ڨيلنيوس استخدام متكرر لجُمل مثل “أحرار تايوان”، وفي بيانات التأييد الأمريكية وُصِفَت الخطوات الليتوانية بأنها “تحدٍّ للحزب الشيوعي الصيني الذي يُمثل أكبر تهديد وجودي لأسلوب الحياة الديمقراطي منذ عقود”.
- ثانيًا، السياسة: وهنا سننظر إلى ليتوانيا بعين واشنطن، فمنذ تولي إدارة بايدن يتم تطوير رؤية عن “المشاركة العالمية لأمريكا”، حيث يدور النقاش عن كيفية تحقيق تنسيق مع الدول الديمقراطية في أوروبا وآسيا لتحقيق فوائد ملموسة للناخب الأمريكي، حيث لم تعد “الأفكار عن القيادة الأمريكية للعالم كافية للحفاظ على الدعم الشعبي”. وقد كانت النُخب الحاكمة لليتوانيا منذ التسعينيات مستعدة لتقديم مساعدات ملموسة لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية، في إشارة إلى اهتمامهم بعلاقة نفعية متبادلة مع واشنطن. وعام 2002 قال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش في خطابه في العاصمة ڨيلنيوس: “أي شخص يختار ليتوانيا عدوًا، فهو عدو للولايات المتحدة الأمريكية”. وبالفعل لم تُنهِ الأخيرة جدول أعمالها القديم منذ الحرب الباردة؛ بل أبقت على منطقة ساحل بحر البلطيق وليتوانيا على وجه التحديد بوصفها مجال نفوذ للأمن القومي الأمريكي.
- ثالثًا: الشؤون العسكرية: أيضًا سنبقى مع نظرة واشنطن، فالاهتمام الإستراتيجي لها منصب على منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ ما جعلها تعتمد على ليتوانيا وشركاء آخرين قادرين على تولي المهام، ليس فقط على طول الجبهة الأوروبية ضد روسيا؛ بل أيضًا ليمتد نشاطهم إلى شمال إفريقيا والشرق الأدنى والخليج والمُحيط الهندي، خاصةً للاستعداد لعمليات الإسناد والدعم في حالة نشوب صراع في المحيط الهادئ؛ لذا تضغط واشنطن على شركائها الأوروبيين لتعزيز العلاقات مع شركائها في المُحيطين الهندي والهادئ، مثل أستراليا، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، واليابان، ومنغوليا، وأن يؤسس حلفاء الناتو، مثل ليتوانيا، علاقات دبلوماسية أوثق مع شركاء أمريكا الآسيويين، مثل تايوان.
وانخرطت ڤيلنيوس مع الرؤية الأمريكية، وتقدمت بسرعة؛ حيث قررت مشاركة لقاحات كوفيد- 19 مع تايوان، وأوكرانيا، وجورجيا، في إشارة واضحة أنها تقف ضد بكين وموسكو على السواء، وقد أخذت زمام المبادرة في تطوير وتصنيع أسلحة دفاعية وهجومية باستخدام تقنيات “الثورة الصناعية الرابعة” التي تركز على إنتاج الأسلحة غير المأهولة (جوية، بحرية)، مثل الطائرات بدون طيار، والصواريخ الموجهة، بالإضافة إلى أنظمة حرب المعلومات الإلكترونية، والأنظمة المُتنقلة للاتصالات والمراقبة، في محاولة للالتفاف حول القدرات التقليدية للعسكرية الروسية والصينية. وإذا أتمت ليتوانيا تحولها التقني العسكري سيحل هذا جزئيًّا المشكلة التي تواجه الناتو في المسافة والزمن اللازم لنشر القوات، وذلك عبر إلحاق الضرر بالقوات الروسية حال تحركها تجاه أوروبا؛ من خلال استهداف أهداف روسية كثيرة جدًّا من داخل أراضي دول البلطيق ككل.
كما تستخدم واشنطن نفوذها على بلدان البلطيق، وخاصةً ليتوانيا، لمحاولة كبح جماح الاتجاه السياسي داخل الاتحاد الأوروبي، ولا سيما من البلدان الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا، حيث هناك رغبة أوروبية في “الاعتماد على النفس، خاصةً في الشأن الدفاعي”، و”المساواة بين الصين والولايات المتحدة” في العلاقات التجارية، لكن إدارة بايدن تريد موقفًا أوروبيًّا موحدًا ومُتشددًا ضد الصين، مقابل تنازلاتها لألمانيا عن العقوبات المفروضة على روسيا من أجل مد خط الغاز (نورد ستريم 2).
تُعول ليتوانيا على أن دعمها لأجندة واشنطن، وتضحيتها بعلاقات مستقرة مع روسيا والصين، سيجعلانها إحدى النقاط المركزية الأساسية في الملفات المُعاد تقييمها أمريكيًّا فيما يتعلق بنقل التكنولوجيا، وأمن الطاقة، والدعم المالي للتحول الديمقراطي، ودعم الصحة ومشروعات البنية التحتية، وهذا يُعد استمرارًا للجهود التي بدأت خلال إدارة ترمب، ويُكملها بايدن، حيث أمر بإعادة تقييم الأدوار والمساعدات، فيما أشار إليه بقوله: “التعاون الوثيق والمرن مع الحلفاء والشركاء الذين يشاركوننا قيمنا سيعزز الأمن الاقتصادي والوطني الجماعي، ويعزز القدرة على الاستجابة للكوارث وحالات الطوارئ الدولية”؛ لذا أصدر الرئيس بايدن أمرًا تنفيذيًّا لإعادة تقييم سلاسل التوريد الأمريكية، وعلى رأسها المستلزمات الطبية إلى أوروبا، بالإضافة إلى أمر تنفيذي آخر بشأن إيجاد طرق للمساهمة في التحول من الهيدروكربونات إلى الطاقة النظيفة، وتأمل نُخب ڨيلنيوس السياسية بأن يكون نصيبها مِن هذه التوزيعات كبيرًا بقدر يُحقق لها مكاسب داخلية تُعزز من حضورها على الساحة الدبلوماسية الخارجية.
أخيرًا، ما سبق كان مُحاولة للإجابة عن التساؤلات التي طرحتها التحركات الليتوانية ضد الصين، والتي حاولنا أن نستنتج منها نموذجًا لما تراه الولايات المتحدة عن الصراع المقبل في العالم، حيث تبقى روسيا منافسًا، لكن خطورته تبدو متناقصة بمرور الزمن، وسيتركز الصراع أكثر ضد الصين، وستحشد له واشنطن كل حلفائها مهما كان حجمهم الجغرافي، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو العسكري؛ لذا فأهمية ليتوانيا بالنسبة إلى واشنطن تكمن بصورة أكبر في توجيهها ضد بكين، وفي استخدام صوتها في الاتحاد الأوروبي ضد أي تيار سياسي راغب في التقارب مع قوى الشرق (خاصةً مع الصين)، وفي الانخراط أكثر في علاقات مع دول آسيا المُناوئة للصين.
استنتاجات
- الانخراط المُتزايد لليتوانيا في الإستراتيجيات الأمريكية ضد الصين وروسيا قد يُهدد السلام في منطقة البلطيق.
- ليتوانيا ستكون مصدر اضطراب بين بلدان وسط أوروبا وشرقها، وستعمل على خلق تكتلات داخل الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تزيد من الأزمات الهيكلية لبروكسيل.
- ليتوانيا اختبار (أمريكي- صيني)، فإن نجحت في تحدي الصين، ستلحق بها بلدان صغيرة ومتوسطة الحجم والقوى، وإن فشلت سيخشى الكُل من الانجراف نحو الإستراتيجية الأمريكية ضد بكين، لكن سيبقى إشكال؛ هو تعريف النجاح أو الفشل في تلك الحالة.
- ستواجه الصين مشكلات بنيوية في علاقتها مع البلدان الصغيرة التي لا تتمتع بقدرة كبيرة على حماية سياستها الاقتصادية وعلاقتها الثنائية.
- قد تضغط الصين على روسيا لكبح جماح دول الفضاء السوفيتي السابق عبر النُخب والنفوذ السياسي والثقافي والإعلامي الروسي هناك.
- مِن الصعب وقف النفوذ الصيني الذي في مراحل نموه في مناطق وسط أوروبا وشرقها، وهذا يعود غالبًا إلى موقف النخب الحاكمة في تلك البلدان، التي تبحث عن استثمار مباشر في ظل ابتعاد الرؤى المشتركة بين هذه البلدان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
- الصراع الصيني- الأمريكي في بلدان الفضاء السوفيتي قد يُفيد روسيا بشكل غير مباشر؛ لأنه يُبطئ التهام بكين للحصص الاقتصادية الروسية، ويُشغل واشنطن عن أداء دور المُراقب، حيث تندفع النخب المحلية أكثر نحو موسكو.