نظرية العلاقات الدولية

مبدأ المصالحة في العلاقات الدولية

لقد عانت البشرية من ويلات الحرب طوال القرون العديدة التي قدر لها أن تعيشها و لكن تسارعت وتيرة الدمار و الموت بشكل رهيب خلال القرن العشرين و ذلك بفعل ظهور الإيديولوجيات الوطنية المتشبثة بمفهوم السيادة و الحدود الوطنية و باقي الرموز بالإضافة إلى التطور المهول الذي عرفته التكنولوجيات العسكرية الشيء الذي جعل أدوات التدمير الفتاكة تأخذ أحجاما و أشكالا مخيفة أدركت الإنسانية أبعادها مع قنبلتي هيروشيما و ناغازاكي في 6 و 9 أوت 1945 و كذلك الحروب المتوالية على ذاكرة الإنسان. حربا الفيتنام و الجزائر ما والاهما من صراعات مثلت مرحلة الحرب الباردة التي لم تكن باردة أبدا في الأماكن الجغرافية البعيدة عن حلبة الصراع التقليدية (أوروبا).

مبدأ المصالحة في العلاقات الدولية أو وزن التاريخ في السياسة الخارجية

بعد انحسار المد الاستعماري و نهاية عالم الثنائية بدأ التفكير في بناء عالم يقوم على قواعد غير التي سيرت دفتيه طوال حقبة زمنية طويلة كادت أن تؤدي إلى هلاك البشرية بحرب عالمية ثالثة لم يكن لأحد توقع انعكاساتها. نهاية الحروب و الصراعات تطرح إشكالية أخرى لم يتم التفكير فيها تاريخيا بشكل جاد و هي مسألة المصالحة بين الشعوب التي تكون قد اقتتلت بطريقة عنيفة و انتهى بينها الصراع بمشاهده التقليدية من موت و تشريد و دمار. الذهاب إلى الحرب قرار خطير لكن اختيار السلم هو أيضا خيار مسئول فيه من الصعوبات ما يجعله خطوة شجاعة لأصحابها. اختيار السلم في بعد المراحل التاريخية الصعبة يعد مجازفة تماما مثل خيار الحرب.

المصالحة

إن الأصل القانوني للمصالحة هو الاتحاد ما بين البرلمانات الذي تم إنشاؤه عام 1889 و الذي قام على مبدأ “التحكيم”، أي إمكانية بل وجوب ذهاب الدول نحو التحكيم من أجل حل الخلافات القائمة بينها لكن بظهور جوانب الضعف في هذه الطريقة بدأ الحديث عن المصالحة.

مهما كانت المصالحة قريبة من مفهوم التحكيم إلا أنها كلمة حديثة إضافة إلى أنها شيء آخر باعتبار أنها لا تتوقف عند الدول بل تحاول أن تجعل العنصر الأهم في المعادلة هي الشعوب بدل الدول. يقول المؤرخ سوفوكليس أن “الشعوب لا تتعلم الحكمة من الكتب بل من الدموع” و لذلك كان هدف المتصارعين دوما هو السلم.

خلفية تاريخية

المصالحة الوطنية هي الخطوة الأولى لكافة أشكال المصالحة التي تحدث على المستوى الدولي و كانت دولة جنوب إفريقيا هي السباقة في هذا المجال إلى تشكيل لجان الحقيقة و المصالحة و ذلك في سنة 1994 برئاسة القس ديسموند توتو. كان الهدف الأساسي لهذه اللجنة هو إلقاء الضوء على عمليات التعذيب و الجرائم التي ارتكبت أثناء حكم الأبارثيد بين 1960-1993 مما قاد إلى تفادي حمامات الدم التي كانت محتملة بين البيض و السود. فمن بين 7116 طلب للعفو الشامل تم قبول 1312 مما يؤكد أن المهم في الحكاية ليست المحاكمة في ذاتها بل تقديم الشهادات و الاعتراف بالأفعال. إن هذه التجربة تمت على المستوى الداخلي لكنها في الواقع نموذج مهم بالنسبة للعلاقات بين الدول التي ذهبت إلى الحرب فيما بينها في مرحلة من حياتها، نموذج إذا ما تم إتباعه في العلاقات الدولية سوف يؤدي إلى خلق أرضية صلبة لإقامة عالم يسوده السلم و الأمن بأشكاله المعاصرة أي الأمن الإنساني بكافة أبعاده السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية.

مسئولية الدول الغازية هي الاعتراف بالأخطاء التاريخية التي ارتكبها الاستعمار في حق الشعوب الأخرى من تدمير و تعذيب و تشريد عانت منه هي ذاتها في مرحلة أو أخرى (مثل ما حدث لفرنسا الاستعمارية تحت القوة الألمانية النازية)، و محاولة تضميد جراح الذاكرة و آثار السياط و الرصاص الذي ما زال يقيم في أجساد الضحايا و الأماكن التي مورس فيها التعذيب لا تزال شاهدا على البشاعات و اللاإنسانية التي راحت ضحيتها الملايين.

محاورة الذاكرة و تقديم الشهادات و التوبة و الاعتراف بالجريمة يقود لا محالة إلى ميلاد مسئولية الضحية في محاولة تجاوز ما حدث لأن العيش بالماضي لا يفيد في مواجهة المستقبل، لكن الحق في الصراخ من أجل إظهار الحقيقة هو حق أبدي (من قبيل ما ضاع حق وراءه طالب). التعرف على القاتل و المجرم تسكن الآلام و خاصة حين يطلب المجرم الصفح من ضحيته لأنه كان ضحية إيديولوجية عنيفة متعالية عنصرية تجاوزها الزمن.

مكونات المصالحة

حاول الباحثون شرح مفهوم المصالحة و ضبط خصائصه التي تم تلخيصها فيما يلي:

-المصالحة لا تهدف فقط إلى حل النزاع بل إلى تجاوزه.

-إنها تفترض الاعتراف بالحقوق.

-تكون المصالحة مصحوبة بالعفو الصادق ليس بهدف نسيان و محو الماضي بل لعيش الحاضر بطريقة ذكية.

-إنها ليست فقط إرادة واعية لطي صفحة الماضي بل تفترض وجود مقاربة نشيطة لإعادة زيارة الذاكرة و إعادة كتابة التاريخ بصراحة و وعي.

-إنها ميزة الشعوب المحبة للسلام التي لا تنسى الماضي و الآلام لكنها تتمكن من التخلص من الخوف و الحقد و تتوجه نحو بناء المستقبل.

-إنها الاعتراف الحقيقي بالحقوق و الواجبات من كلا الطرفين.

-إنها تذهب إلى أبعد من الإنهاء الشكلي والقانوني للنزاع لأنها تبعث أسباب الأمل.

-خلافا للحلول التي تقترح للنزاعات بهدف التعامل مع مشاكل الماضي فإن المصالحة تحاول التفكير في شروط المستقبل.

-إنها تضع الحقوق و الهويات في أفق تاريخي أساسه التعاون.

-المصالحة ليست فقط تجاوز أسباب اللجوء إلى الحرب بل إيجاد فرص للتحاور و توازن للذاكرة أي قبول الطرف الآخر و محاولة نسيان اللجوء لخيار الحرب مع التذكر بشكل كافي يردع الجميع عن معاودة الكرة.

و عليه لا يمكن بلوغ سلم حقيقي من دون مصالحة تحدث من قبل الشعب و ممثليه مع شعب آخر و ممثليه في الطرف الآخر. التاريخ جمع بين الشعبين في ظروفه الصعبة ومراحله الحالكة لكن ذلك ليس قدرا أبديا. يمر الزمن و تنمو إمكانيات لرسم علاقات جديدة تتجاوز ما عاشه الجميع. قد يحس طرف ما بالظلم لأنه عانى الاستعمار و الاستغلال و أشكال الإهانة لكن بالمصالحة يهون كل شيء، بالاعتراف بالذنب من جانب و العفو من جانب آخر يتمكن الطرفان من تجاوز كل العقبات لبناء المستقبل.

المصالحة الدولية

لقد وجت الصراعات الكثيرة بين الدول نهايتها في الميكانزمات التقليدية للقانون الدولي (معاهدات السلام، التحكيم…) لكن التاريخ يعلمنا أن مثل هذه الاتفاقيات لم تكن سوى هدنة بين حربين و نادرا ما قادت إلى سلم دائم في غياب مصالحة صادقة بين الشعوب. مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى مثلت ما قبل الحرب العالمية الثانية باعتبار أن ديمومة فترات السلم ما كانت سوى نتاجا لتوازن قوى (مؤتمر فيينا) أو استمرارية قوة مهيمنة (باكس رومانا). لقد تمثلت المصالحة الدولية في مبدأ تغير التحالفات بحيث يتصالح طرفان بهدف مجابهة طرف ثالث ( تصالح الاسكندر المقدوني مع أثينا بهدف غزو بلاد الفرس).

النموذج الألماني للمصالحة

إن المثال الألماني نموذج ناجح تمكن من الانتقال إلى الدول المجاورة بحيث بدأ التقارب من العدو الأول و هو فرنسا امتدادا إلى أوروبا الستة و انتهاء بكل القارة الأوروبية. ما هي شروط هذا النجاح النموذجي ؟ هناك وعي الشعوب التي أدركت أن الحرب لا تؤدي سوى للخراب ثم الأدوار التاريخية التي لعبتها شخصيات هامة مثل جون مونيه/ روبرت شومان/ كونراد أديناور/ شارل ديغول و غيرهم إضافة إلى الاتفاقيات التي توصلت إليها الأطراف المتصارعة تاريخيا حول موارد الحب آنذاك و هي الفحم و الحديد الصلب.

مع ظهور قواعد الحرب الباردة بدا من الصعب العودة إلى الحرب كما عرفتها الدول الأوروبية في السابق أي أن الخوف من المعسكر الشيوعي أدى إلى تقارب الدولتين اللتين تحالفتا وراء مشروع مارشال الذي كان بمثابة الهدف السياسي الهام. بسقوط العالم في يد المتنافسين الكبيرين، الولايات المتحدة و الاتحاد السوفياتي، فقدت أوروبا الحق في اللجوء إلى الحرب كما بينت ذلك حرب السويس عام 1956 و كما قال فيليب مورو ديفارج “أن أوروبا أخذت طريق المصالحة لأنها خرجت منهزمة من الحرب و لم تعد لها القدرة على منافسة القوتين العظميين”. هناك عامل هام آخر ساهم في إرساء دعائم سلم دائم و هو اعتراف الدول الأوروبية بالحدود السياسية لكل دولة في مؤتمر الأمن و التعاون.

إن هذه الشروط النابعة من الواقعية السياسية من دون شك قد خلقت المناخ المناسب للمصالحة لكن لم يكن ذلك كافيا باعتبار أن المصالحة مشروع معقد يتطلب سبعة شروط لخصها البروفيسور وليام زارطمان:

-الاعتراف المتبادل.

-بناء السلم.

-الوساطة.

-إقامة مؤسسات مشتركة.

-العدالة.

-الاشتغال على الذاكرة.

-القيام بمشاريع مشتركة.

وجب إضافة شرط آخر أصبح ضروريا و هو التأكيد على القيم المشتركة فيما يخص الحريات الأساسية وحقوق الإنسان و هكذا فإن تصالح ألمانيا مع جيرانها يمثل بحق هذا المنطق الايجابي الذي كان أساسه تحقيق المشاريع المشتركة. فقد كانت البرلمانات (البرلمان الأوروبي و البرلمانات الوطنية) هي حجر الزاوية على طريق المصالحة بحيث كانت الكثير من اللجان التابعة لكل من الجمعية الوطنية و البوندستاغ تقوم باجتماعات مشتركة أدت إلى تعاون مستمر بين الهيئتين الوطنيتين وصل إلى حد تبادل الخبرات و الموظفين بما في ذلك تعويض بعضهما البعض في بعض الاجتماعات الأوروبية.

وجبت الإشارة إلى أن المصالحة بين ألمانيا و فرنسا (اتفاقية الايليزي 1963) قد انتقلت إلى بولونيا مثلا بالاتفاقية الألمانية البولونية 1991 التي قادت إلى إقامة مجموعة معتبرة من الأجهزة التابعة التي مكنت من تسارع وتيرة المصالحة التي تمثلت في الاجتماعات الدورية على المستوى الحكومي.

إن مثلث فايمار اليوم أي التعاون الألماني/ الفرنسي/ البولوني على المستوى الحكومي و البرلماني و المجتمع المدني يشهد بصراحة على إرادة المصالحة و الصداقة بين هذه الدول، العدوى الجميلة التي انتقلت إلى رومانيا و المجر اللتين أبرمتا اتفاق 1996 بهدف إقامة مصالحة تاريخية تمكن لتعاون مستقبلي دائم.

دور المنظمات الدولية

لقد أخذت منظمة الأمم المتحدة موقفا صارما في هذا المجال بحيث رفضت فكرة الإفلات من القصاص الشيء الذي يمنحها هامشا للردع و تطبيق العدالة لأن القصاص هو شرط أساسي للسلم و احترام القانون الدولي ثم أن هذه القناعة ترتكز على أن فكرة التهرب من المحاكمة يؤدي إلى عنف جديد باعتبار أنه يمثل احتقارا للقانون الإنساني الدولي. لقد تجسد موقف الأمم المتحدة هذا في التدخلات المختلفة للمنظمة في مختلف مناطق العالم بهدف متابعة و محاكمة المجرمين باعتبار أن الهيئة ساندت إقامة محاكم دولية حتى أنها دعت إلى الإسراع في توقيف الأشخاص المتورطين في الجرائم التي ارتكبت في حق البشر في البوسنة و الهرسك و الروندا و كمبوديا. إن هذا الموقف يرتكز على أن كشف الجرائم هو شرط مركزي لتحقيق المصالحة (و هذا ما تتستر عليه الدولة الفرنسية في تعاملها مع قضايا التعذيب أو حتى استعمال مصطلح الحرب للتدليل على ما حدث بين 1954 و 1962 في الجزائر). إن المحاكم الدولية التي تهتم بقضايا الجرائم تمنح الأولوية للمحاكم الوطنية بما فيها محاكم الدول الخارجة لتوها من الحرب باعتبار أنها أقرب من الجريمة و من مكان حدوثها ثم أن هذا الخيار فيه الكثير من المزايا: ضرورة إثبات أن العدالة قد أخذت مجراها العادي، قرب القرائن و الأدلة و الشهود، سهولة التعامل مع المسائل اللوجستيكية.

إن المجازر و الانتهاكات المختلفة التي ارتكبت في حق البشر في دول مثل روندا و البورندي و ليبيريا و سيراليون و البوسنة و الهرسك و كوسوفو و فلسطين هي كلها نماذج جب أن تحرك ضميرالانسانية و مؤسساتها حتى تقبل بإنشاء محاكم دولية للجزاء هدفها محاكمة المجرمين و معاقبتهم على أفعالهم الشنيعة.

تناضل هيئة الأمم المتحدة أيضا من أجل تطوير أنظمة القضاء في الدول الخارجة لتوها من الصراع و كذلك الدول الأخرى باعتبار أن ذلك شرط أساسي لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي. و تعتبر هيئة الأمم المتحدة أيضا رائدة في مجال تشكيل لجان تحري الحقائق و المصالحة و تكوين بعثات للحفاظ على السلم لأنها ما دامت تبغي السلم الدائم و المصالحة العميقة فإنها لا تكتفي بإرسال وحدات عسكرية للتدخل بهدف فصل المتنازعين بل إنها ترسل إلى مناطق النزاعات شخصيات معروفة و أفرادا مكونين في هذا المجال و على رأسهم علماء النفس.

لقد أكد اجتماع اتحاد البرلمانات في الاجتماع 110 المنعقد بمكسيكو في 23 أفريل 2004 الإجماع بأن كل برلمانات الدول المشاركة تساند سياسة الأمم المتحدة في إرساء دعائم سلم حقيقي أساسه المصالحة و الحوار الخلاق الذي سوف يؤدي لا محالة إلى خلق مساحات كبيرة للتعاون و الديمقراطية.

إلى جانب هيئة الأمم المتحدة هناك مجموعات أخرى تشتغل على هذا الموضوع و منها جمعية كنائس الجنوب الغربي الألماني التي تضم 23 كنيسة و 4 مجموعات تبشيرية في أوروبا، إفريقيا و آسيا و التي اختارت للقائها السنوي 2001 و 2002 موضوع “المصالحة” و بناء السلم و عليه فهي تحاول أن تكون مساحة للتواصل و تبادل التجارب و الخبرات في مجال خلق قنوات لتفعيل المبادرات المختلفة الهادفة لبناء عالم آمن أساسه الحق و العدالة.

مبدأ العفو/ التعويض

في كل المجتمعات التي عانت ويلات الحروب نجد القتلة و الضحايا إضافة إلى الأغلبية الصامتة و خاصة الأطفال و الأجيال التي لم تكن شاهدة على ما حدث و لهذا فإن واجب الجميع هو القيام بعمل يبدو متناقضا في البداية لكنه عقلانيا و منطقيا إلى أبعد الحدود: الحرص على عدم نسيان الماضي الذي هو ذاكرة الشعوب و في نفس الوقت القيام بالبحث الحثيث عن أدوات و آليات تحقيق السلم و المصالحة.

إن الاعتراف العلني بالأخطاء المرتكبة هو باب يفتح على عوالم التعاون و مشاريع المستقبل التي يستفيد منها كل من الجلاد و الضحية خاصة إذا ما تمت عملية الاعتراف بكل حادثة بدقة لا تخون الوقائع و الأدلة التاريخية و كذلك ذاكرة الأحياء. المشكلة اليوم هي أن مرتكبي هذه الأخطاء التاريخية التي جاءت في مرحلة الاستعمار (على الأقل بالنسبة للجزائر) لخوفهم من المحاكمة (مثلما حدث للسفاح الجنرال أوساريس) و من ضياع النياشين المزيفة التي حصلوا عليها لحظة الانتصار الكاذب. لن يعترف هؤلاء بجرائمهم/ أخطائهم إلا إذا منحت لهم فرصة العفو و تلك هي قوة الشعوب التي كانت ضحية لتلك البشاعات، الشعوب التي يكون بمقدورها مد الخطوة الأولى على مشوار السلم و المصالحة. المشكلة ليست مرهونة بالأفراد لأنهم قد يذهبون إلى التسامح طواعية بل في الشعوب لأن مصالحة الشعوب يجب أن تمر عبر أشكال سياسية و اقتصادية.

إن أي تعويض مهما كان شكله لن يشفي غليل الضحايا و لن يكون كافيا لمحو الذاكرة و لهذا فإن كل ما ينتظره الناجون من الجرائم و ضحايا الكوارث الإنسانية هو سماع الحقيقة بصوت مرتفع صريح يسمح لهم في نهاية المطاف من التصالح مع تاريخهم الخاص إضافة إلى تعويضات مادية تضمد جراحاتهم و لو بشكل سطحي. التعويض يخلق قناة للتواصل و رد الاعتبار للأشخاص الذين ما زالت ذاكرتهم عامرة بما كانوا ضحية له و شاهدا على ما لم يره أحد غيرهم. لقد كانوا ضحية للعنف الذي مهما تكن اللغة التي يترجم إليها المفهوم فإنه في كل الأحوال ليس شيئا مجردا بل يعني “إحداث الألم لدى كائنات بشرية الهدف منه تكسير كبريائهم و قتل الحياة فيهم سواء كأفراد أو كجماعات”. و مهما يكن فالمصالحة لها مرتكزات أساسية:

-لا وجود لمفهوم واحد للمصالحة لأن المقاربات لهذا الموضوع تختلف من مرحلة إلى أخرى لكن مع ذلك فإنها تتمحور حول مفاهيم التوبة و التعويض و العفو. الشيء الذي يتغير في الحقيقة هو المكانة التي تمنح لكل واحد من هذه العناصر.

-المصالحة هي مسار له عين على الماضي و أخرى على المستقبل لأنها مشروع لا يمكن أن يكون مكتملا بل هو دوما قيد الانجاز.

-المصالحة مسار للتبادل يتطلب حلولا بالتفاوض في نهايتها لا يوجد الغالب و المغلوب أي أن المصالحة تبقى ناقصة إذا ما رأى أحد الأطراف أن حقوقه لم تحترم بالشكل الكافي.

-لا تأتي المصالحة إلا إذا قام أحد الأطراف بالمبادرة إلى الخطوة الأولى التي هي الشاهد على النية الطيبة التي يكملها عمل الوساطات و الدبلوماسية الرسمية أو غير الرسمية.

-من الواجب العمل على علاج آلام الذاكرة إذا ما كان الهدف الحقيقي هو التغلب على العنف و المعاناة التي يتعرض لها كل من الظالمين و الضحايا.

الجزائر و فرنسا

يرى تييري ميسان رئيس تحرير شبكة فولتير (على الانترنيت) بأن تعيين السيد دوست بلازي على رأس وزارة الخارجية الفرنسية قد جاء بمثابة الاستفزاز المباشر لجبهة التحرير الوطني لأنه يعتبر من الشخصيات التي وقعت على قانون جديد بتاريخ 23 فيفري يعزز الصورة الايجابية للاحتلال الفرنسي للجزائرو يرمي بالمزيد من المتناقضات بخصوص حقيقة الاعتراف بالجرائم التي ارتكبت بالجزائر و التي ستبقى حاجزا في وجه تجسيد المصالح الحقيقية المتبادلة بين الطرفين. هذه المصالحة التي تبدأ أولا من مصالحة الفرنسيين مع تاريخهم.

لم تزل فرنسا تعاني من مخلفات الحقبة الجزائرية، وهذاما يفسر تعثر مسيرة المصالحة بين البلدين والتي لازالت تراوح مكانها وتتعرض بينالحين والآخر إلى مزيد من الهزات والصدمات والتصريحات الجارحة. وكان آخر مبادرة منهذا القبيل، هو المصادقة على مادة جديدة من القانون الفرنسي بتاريخ 23 فبراير 2005،وهو قانون يسلط الضوء ” على اعتراف الشعب الفرنسي بمنجزاته الوطنية تجاه الفرنسيينالعائدين إلى أرض الوطن”، هذا المحور الذي لقي ترحيبا من وزيرة الدفاع الفرنسيالسيدة ميشال آليوت ماري، والذي ترى فيه معنى ” الواجب الوطني نحو الذاكرةوالحقائق”. ولقد أدخلت بنود هذه المادة القانونية الجديدة كتعديلات على فحوىالقانون الفرنسي الحالي، الأمر الذي استفز مشاعر بعض المؤرخين الفرنسيين، و السلطات الجزائرية الحاكمة.

نشرت جبهة التحرير الوطني يوم 6 جوان 2005بيانا يرى أن “الحزب يعرب عن امتعاضه من هذا القانون والذي يكرس وجهة نظر رجعيةللتاريخ، والحزب يدين بشدة وحزم كل محاولات تبرير الهمجية والوحشية للفعلالاستعماري، والمتنكرة لكل الأفعال البربرية كعمليات القمع الجماعي للعائلاتوالقبائل، عمليات التعذيب الجماعي، عمليات الاسترقاق الجماعي للجزائريين، المجازرالرهيبة في حق الجزائريين بتاريخ 8 ماي 1945، عمليات قمع المتظاهرين الجزائريينبتاريخ أكتوبر 1961، العمليات الإرهابية المعزاة لما يعرف بمنظمة الجيش السري،وبصفة عامة بكل الجرائم القمعية ضد الفئات الشعبية المدنية البريئة”.

-لقد لزم انتظار صدورقانون 18 أكتوبر 1999، حتى تتحرك السلطات الفرنسية نحو توصيف ” أحداث الجزائر” علىأنها ” حرب ضد الجزائر”.

-أعتبر أوساريس ضابطا منبوذا تمت إقالته من هيئة متقاعدي الجيش الفرنسي الشرفيين لأنه قال الحقيقة و فضح الجرائم بالرغم من أنه لم يقدم اعتذارا بهذا الصدد.

-اعتبرت السلطات الفرنسية “الحرْكة” (الخونة في لغتنا الوطنية) خادمين أوفياء للشعب الفرنسي.

– تقدم أحد الأحزاب الفرنسية بطلب تقديم تعويضات لهؤلاء و تدريس دورهم في المدارس الفرنسية.

و هكذا فإن فرنسا التي لا يحلو لها سماع الشهادات الحية حول الجرائم التي أعطت أوامر تنفيذها هي اليوم تنفي حدوثها أصلا. هذا دليل آخر على أن الطريق نحو المصالحة بين فرنسا و الجزائر ما زال طويلا بسبب الشرائح الاجتماعية الفرنسية التي لها مصالحها في الإبقاء على الوضع و لها عقدها العنصرية التي سوف يكتسحها التاريخ يوما ما.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى