ولد فرحات عباس مكي يوم الخميس 24 أوت 1899 بدوار الشحنة الواقعة بمنطقة بني عافر الجبلية، وهي منطقة فقيرة ومعزولة، تابعة إداريًا لبلدية الطاهير المختلطة بولاية جيجل بالجزائر. فتح الطفل فرحات عباس عينيه في أسرة كثيرة العدد ومحافظة تتكون من اثني عشر فردا، سبع بنات وخمسة ذكورًا. وتميزت أسرة فرحات عباس بأنها متماسكة ومحافظة فإلى جانب الأب والأم والأخوة كانت تضم كذلك الجد والجدة وقد شكلت الجدة والجد حجر الأساس في بناء هرم الأسرة، وكان والده سعيد بن احمد عباس وأمه معزة مسعودة بنت علي، وهم من وسط فلاحي متوسط الحال ونستدل في ذلك عند رجوعنا إلى مصنف فرحات عباس ليل الاستعمار حيث يتحدث عن طفولته قائلًا: “إنني من سلالة فلاحية لئن كان أبي وأخواتي موظفين فقد وقع ذلك عرضا في حياتهم، لقد ترعرعت وسط فلاحي أولئك الفلاحين الذين لا ينال الفقر من شجاعتهم ولا من انفاتهم، نشأت في دوار وضيع من بلدية متوحشة جرداء أين قضيت طفولتي كلها وأنا في نعومة أظافري في وسط مجتمع وضيع وساذج لكنه كريم”.، ويسترسل فرحات عباس في حديثه عن أصوله وكيف كان مصير عائلته من جراء الهجمة الاستعمارية التي كانت تهدف إلى تفكيك ملكية الأهالي الجزائريين المسلمين واستبدالها بفئة جديدة أطلق عليها اصطلاحات المعمرين (les colons).
إن القضاء على ثورة المقراني 1871 وما نتج عنها من انعكاسات خطيرة على المجتمع الجزائري كإصدار السلطات الاستعمارية جملة من القرارات الجائرة والمراسيم التشريعية التي أدت إلى مصادرة الأراضي الزراعية وتغريم المجموعة الريفية التي شاركت أو تعاطفت مع ثورة المقراني ومن نتائجها الوخيمة على السكان هو إعدام الكثير من الناس في إطار العقوبات الجماعية المسلطة على الجزائريين بالإضافة إلى الإعدامات الفورية ونفي الزعامات الوطنية إلى المستعمرات الفرنسية فيما وراء البحار، وكان جد فرحات عباس المدعو احمد بن الضاوي الذي شارك في ثورة المقراني رفقة قبيلة بني عمران قد تعرض هو الآخر كغيره من الجزائريين إلى مصادرة أملاكه وأراضيه الزراعية ليتحول بعدها إلى فلاح صغير ومعدوم، كان والد فرحات عباس السعيد بن أحمد فقيرًا لكنه استطاع مع مرور الوقت أن ينتقل من وضعه كفلاح معدوم الحال إلى تاجر محترم له مكانة اجتماعية محترمة بمنطقة الشحنة وكان له ذلك بعد تعرفه على أحد المعمرين الذي كان يدعى: المستشار العام لمدينة جيجل الذي اشترك معه في تجارة المواشي مما مكن أب فرحات عباس من شراء أراضي زراعية وتأجير أخرى في منطقة الطاهير، كما ارتقى في السلم الاجتماعي حتى أصبح قايد في دوار بني عافر.
يتحدث فرحات عباس كثيرًا عن علاقته بوالده التي شابها كثيرًا من التناقض في الأفكار فسادها في أحيانًا كثيرة شيء من التوتر إلى درجة القطيعة أحيانًا خاصة فيما يتعلق بمعاملته للفلاحين غير القادرين على دفع ما عليهم من ضرائب في نهاية موسم الحصاد، وفي هذا السياق يروي عباس بشيء من التفاصيل ذلك المشهد وهو طفل صغير عندما يأتي جباة الضرائب إلى دواره فيقول: “إن مشهد جمع الضرائب هو إحدى ذكريات الطفولة التي لا تزال في ذاكرتي كنت أتردد على المدرسة القرآنية بدون أحذية مرتديًا جلابية أشبه أبناء الفلاحين وكانت إحدى أكبر لحظات سعادتي عندما أرى كل سنة في منتصف سبتمبر قدوم الخز ناجي مرفوقًا بحرسه وقد جاء البلدة لجمع الضرائب، كانوا يمكثون عندنا طيلة عشرة أيام وكان من المثير أن أشاهد هؤلاء الفرنسيين ولكن هناك مشاهد أخرى مأساوية فتحت عليها عيناي، كنت أرى الفلاحين الفقراء الذين لا يملكون أي شيء لتسديد ضرائبهم، كانوا يجلسون لساعات طويلة تحت الشمس عقابًا لهم وكانت أياديهم مكبلة وكنت أسال رئيس المشتة عن أسباب عقوبتهم فكان يفسر لي ذلك قائلًا أن والدك ليس قاسيًا معهم مقارنة بقياد آخرين، وكان يحدث أن اسرق من والدي الأموال وأعطيها لهؤلاء الفلاحين”.
رغم أن علاقة الطفل فرحات عباس بوالده كانت متوترة ومتناقضة منذ البداية، فكان العكس من ذلك كانت علاقته بجدته التي كان مرتبطًا بها كثيرًا وكانت حكايتها خاصة حول دخول الفرنسيين إلى الجزائر والمقاومة البطولية التي قابل بها الشعب الجزائري الاستعمار وخاصة (قبيلة بني عمران) التي ينتمي إليها فرحات عباس، فشكلت بذلك الجدة حجر الأساس في التماسك العائلي وخاصة دعوتها المتكررة للتمسك بالدين الإسلامي وعدم الذوبان في دين الرومي لأن ذلك يعد جريمة يعاقب عليها الله، فالحديث عن التماسك الديني هو الذي دفع العائلة إلى إدخال أبنائها إلى المدارس القرآنية أو الكتاب، وكان فرحات عباس من هؤلاء الأبناء حيث التحق بالمدرسة القرآنية وسنه الثامنة لتلقي مبادئ القران وذلك للتحصين والمحافظة على القيم الإسلامية خوفًا من الذوبان في دين الغزاة، فتردد فرحات عباس على الكتاب لفترة محدودة غير أنها كانت مفيدة تركت بصماتها الواضحة في فكر الطفل فرحات عباس، ويمكن أن نستشف ذلك من خلال الرجوع إلى مصنفاته التي كان يصف فيها معلميه في الكتاب ومنهم على وجه الخصوص الشيخ: بوكفوس، الذي يصفه بالرجل الفاضل والمستقيم التريه، حيث تعلم في المدرسة القرآنية مبادئ اللغة العربية لان كان مشواره السياسي فيما بعد يثبت أنه كان ضعيفًا فيها، غير أنه تميز بين أترابه في تلك الفترة بسرعة الحفظ والبديهة وكانت سعادته عندما يعود إلى البيت ويعرض على أمه ما حفظ من آيات قرآنية، أما والده فكان رجل أمي لكنه متحمس لإرسال أبنائه للتعليم وخاصة الذكور منهم إلى المدارس الفرنسية وكان يقول لأبنائه في كثير من الأحيان أن أحسن ارث اتركه لكم هو العلم الذي لا يستطيع أن ينتزعه منكم.
زاول فرحات عباس تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، والثانوي في مدينة سكيكدة ، وقام بالخدمة العسكرية فيما بين عامي 1921 و1923 ثم انتقل للعاصمة لإكمال تعليمه الجامعي وتخرج بشهادة عليا في الصيدلة عام 1931، فتح صيدلية في سطيف سنة 1932. وكان خلال فترته الطلابية نشطا حيث ترأس جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين بالجزائر من 1927 إلب1931 بعد أن كان نائب رئيس الجمعية بين عامي 1926-1927 ، كان قريبًا من حرمة الشبان الجزائريين التي تكونت عام 1908 وفي عام 1930 أصدر مجموعة مقالاته الصحفية في كتيب عنوانه “الشاب الجزائري” وفيه عبر عن أفكاره الإصلاحية والتجديدية.
لم تكن له قاعدة ثابتة من المعتقدات أو الأتباع، إلا أن مثابرته وتكيفه السريع مع المتغيرات المستجدة جعلت منه قوة لا يمكن للكيانات السياسية تجاهلها عند التعامل مع القضية الجزائرية.
العمل السياسي
عرف فرحات عباس بانفتاحه السياسي والفكري، حيث تحول خلال حياته السياسية التي تمتد على أكثر من ثلاثين سنة، من فكرة الاندماج إلى الفكرة الاستقلالية، ومن الإصلاحية إلى الثورية، ففي عام 1936 كتب في جريدة الوفاق الفرنسية مقالًا شهيرًا تحت عنوان ‘فرنسا هي أنا’، أكد فيه دعوته إلى الاندماج مع فرنسا، مستنكرًا وجود الأمة الجزائرية، حيث قال: “لو كنت قد اكتشفت أمة جزائرية لكنت وطنيًا ولم أخجل من جريمتي، فلن أموت من أجل الوطن الجزائري، لأن هذا الوطن غير موجود، لقد بحثت عنه في التاريخ فلم أجده وسألت عنه الأحياء والأموات وزرت المقابر دون جدوى”. وكان قبل ذلك قد انضم إلى فيدرالية النواب المسلمين الجزائريين التي أسسها الدكتور بن جلول عام 1930 والتي كانت تهدف إلى جعل الجزائر مقاطعة فرنسية.
خلال الحرب العالمية الثانية ودخول الجيش الأمريكي الجزائر في 8 نوفمبر 1942. إتصل فرحات عباس بروبرت ميرفي، المبعوث الشخصي للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى شمال أفريقيا ليطلب منه تقرير مصير المنطقة بعد الحرب. في 20 نوفمبر 1942، أرسل فرحات عباس ومجموعة من الجزائريين برسالة إلى قوات الحلفاء يرحبون بهم ويعرضون “باسم شعب الجزائر القيام بتضحيات بشرية ومادية، بشروط، لدعم الحلفاء حتى يتحقق النصر الكامل على دول المحور”. بتاريخ 22 ديسمبر 1942 وجه فرحات عباس رسالة إلى السلطات الفرنسية وإلى الحلفاء طالب فيها بإدخال إصلاحات جذرية على الأوضاع العامة التي يعيشها الشعب الجزائري، وصياغة دستور جديد للجزائر، ضمن الاتحاد الفرنسي، أصدر في فيفري 1943 بيان الشعب الجزائري وأعلن في مارس 1944 عن تأسيس حزب حركة أحباب البيان والحرية، بهدف الدعاية لفكرة الأمة الجزائرية.
إثر مجازر 8 ماي 1945 حل حزبه وألقي القبض عليه ولم يطلق سراحه إلا في عام 1946 بعد صدور قانون العفو العام على المساجين السياسيين، أسس بعد ذلك حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وأصدر نداء أدان فيه بشدة ما اقترفته فرنسا من مجازر رهيبة في 8 ماي 1945، وعبّر فيه عن أهداف ومبادئ حزبه التي لخصها في ” تكوين دولة جزائرية مستقلة داخل الاتحاد”.
الرجل كان يمكن أن يكون مفكرًا عملاقًا لا يقل شأنًا عن الأمير عبد القادر هذا الأخير الذي أبدع فكريًا كما أبدع عسكريًا لأن استسلامه وفي سن مبكرة نسبيًا للاحتلال الفرنسي جعله يتفرغ وبصورة نهائية للعمل الفكري وهذا على عكس فرحات عباس والذي أوقف حياته على قضية شعبه وهذه الأخيرة هي من سرقت منا عباس فرحات المفكر والمبدع ونحن هنا لا نأسف على هذه السرقة لأن أولوية الأولويات قد كانت تتمثل في ما ناضل لأجله الرجل وها هو يخبرنا بأنه “يوجد سبعة ملايين ينتظرون نصيبهم في وطنهم بعد قرن من الحيرة والقهر، ومن أجلهم دخلنا النضال السياسي” أجل إن الأولوية قد كانت تتمثل في استعادة ما سُلب وصُودر من شعبه من حقوق مادية ومعنوية ومن بعدها يأتي الجانب الفكري.
رغم ما كُـتِـبَ عن عباس فرحات، تبقى دومًا هناك قضايا تثار حول الرجل وسوف تبقى دومًا هناك نقاط ظل بحاجة إلى تسليط الضوء عليها أو إعادة قراءتها وقراءة للرجل من جديد ففي الماضي القريب منا كنا نضن بأن رواد المدرسة التاريخية الجزائرية كشيخ المؤرخين أبي القاسم سعد الله ومحمد العربي الزبيري مثلًا قد قالوا كل شيء في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية ولكنه ومع توسع أفق الواحد منا التاريخي يدرك أنه لم يكن بإمكانهم قول كل شيء وهذا نظرًا للثراء وللتنوع العجيب والكبير والفريد في مسار تاريخ الجزائر في الفترة الممتدة ما بين (1830 : 1962) وهذا ما يقر به أبو القاسم سعد الله ذاته في الجزء الثاني من كتابه الحركة الوطنية الجزائرية فهو يخبرنا صراحة بأنه لم يقل كل شيء فيما ألفه عن تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية وهو على حق في هذا فكل حدث وكل معلم تاريخي وكل شخصية تاريخية جزائرية هما بحاجة إلى دراسة أو دراسات مفردة له و لها وكل على حذا وهذا ما ينطبق على فرحات عباس فالرجل لم يكن خط سيره مستقيم كمحمد الصالح بن جلول مثلًا، أو كالعلماء فمسار هؤلاء معروف ولكن الرجل هاجر من ضفة إلى ضفة أخرى، وفي كل مرة هناك مبررات لهذه الهجرة بقيت محل جدل ونقاش واسع بين أنصاره وخصومه وبين هؤلاء وبين من يقفون على الحياد تجاهه وهذا لكونه لم يكن يصارع في جبهة واحدة والمتمثلة في النظام الاستعماري البغيض فقط بل تعددت جبهات الرجل مما جعل له خصوم كثر من رجال دين وسياسة وفكر وكان من الطبيعي أن يكثر الكلام حوله وإلى اليوم وهذا نتيجة الاختلاف في زوايا الرؤى صوبه خاصة وأنه شخصية ثرية جدًا ومشوار نضالي طويل كما نعلم جميعًا.
هنا في محاولة تفكيك الخلفية والبنية الفكرية والعقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي صاغت عباس قبل 1956 بتلك الصورة التي نعرفها عنه اليوم، بعدها نعرج على أدواته في النضال ضد النظام الاستعماري ولِـمَا تطور فكره السياسي ليتحول من مطالب بالإدماج إلى مطالب بالاستقلال التام كما أننا سوف نحاول استعراض أسباب انضمامه إلى الثورة التحررية وهل انضم إليها عن قناعة أو خوفًا من أن يلقى نفس مصير ابن أخيه علاوة عباس أي التصفية الجسدية ثم سنعرج على مواقف خصومه منه وهل من الحكمة أن نبقي وإلى اليوم نلوم الرجل أم لا.
انطلاقًا مما سبق فإننا نجد جيل فرحات عباس وخلال فترة العشرينات من القرن الماضي قد كان يفكر في الإطار الفرنسي الذي يمكننا وصفه بالإطار المغلق، وكانوا لا يرون سوى الوجه الجميل لفرنسا الديمقراطية وقد يعود هذا إلى ولوع هذا الجيل ورغبته الجامحة في التطور ضمن القوانين الفرنسية ووصل بهم الحال أنهم يتغاضون عمدًا عن الجوانب السلبية للنظام الكولونيالي ومن أبرز زعامات هذه الفترة محمد صوالح والدكتور بن تامي والربيع الزناتي والشريف سيسبان ومحمد الصالح بن جلول وبالطبع فرحات عباس الذي أراد مد الجسور بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية مدعي التعايش والتجانس معتقدًا أن ثقافة الأنوار والتسامح كفيلة بتحقيق جزائر فرنسية كما حلم بها هو وجماعته ونحن نقتبس من المرجع المذكور أعلاه دومًا وهذا هو الإطار الذي كان يتحرك فيه الرجل ولازمه طوال حياته تقريبًا. وهذا ما يعبر عنه فرحات عباس شخصيًا وهذا عندما يخبرنا بأنه من المستحيل بأن تقضي شبابك مع باسكال بليز Blaise Pascal وراسين Jean Racine وسان جوست Louis Antoine Léon de Saint-Just دون أن تمتلك الحس المدني والتعلق بهذا التعليم كما أنه يخبرنا بأنه قد بقي وفيًا للثقافة الفرنسية خاصة وأنه بها حارب الإقطاعيات الاستعمارية ومن وقفوا ضد شعبه ودينه ولهذا فهو قد كان يؤمن بالمهمة الحضارية لفرنسا الجمهورية لا لفرنسا الاستعمارية فهو يقول بأن: “جميع الشعوب تصبوا إلى اقتفاء أثر أوروبا دون أن تضرب بمدنيتها عرض الحائط، أو التنكر لتقاليدها، لأن هذه الشعوب في حاجة إلى دولة أوروبية تكون لها بمثابة همزة وصل بين الماضي والحاضر” ونحن هنا لا نلوم عباس فرحات على وجهة نظره هذه فالرجل قد ولد في عام 1899 أي في فترة ذروة ازدهار الاستعمار الفرنسي في الجزائر كما كان هذا الأخير يعيش أوج عظمته في حين واقعيًا الشعب الجزائري لمن يرى الصورة فقط وتغيب عنه الخلفية هو شعب غير موجود لأنه تحول من تلك القبائل الجزائرية القوية والشديدة البأس والتي كثيرًا ما امتدح رواد الاستعمار الأوائل بسالتها وفروسيتها ونبالتها قد تحولت إلى شذر ومذر وأصبحت تكون شعبًا مغلوبًا على أمره مكبلًا بأغلال العبودية والقهر وهذا ما انعكس على نفسية هذا الشعب فتحول من سيد إلى عبد ومن صنديد إلى جبان ومنحط وبائس وهذا طبعًا من بعد أن تسلط عليه الاستعمار ونحن نقتبس هذا الوصف من كتابه ليل الاستعمار أما المجال الجغرافي للدولة الجزائرية فقد أدمج وبصورة فظة ونهائية في الدولة الفرنسية الأم أو المركز بالتعبير الاستعماري ومعها كنست فرنسا كل مظاهر السيادة التي تتبع بالضرورة وجود الأمة والدولة الجزائرية.
ثم إن الرجل قد تعلم في المدرسة الفرنسية والتي قد قامت بتشويه التاريخ الجزائري عن عمد وقصد وكلنا يعلم بأن الرجل ذو ثقافة فرنسية تعلم بأن وطنه هو فرنسا وأن الجزائر ما هي إلا أرض سائبة وامتداد طبيعي للوطن الأم –فرنسا- ولم تكن في يوم من الأيام دولة فهي تارة بيد الرومان وتارة بيد العرب وتارة بيد الإسبان فالأتراك وأخيرا جاء دور الفرنسيين لوضع أيديهم عليها ولا يمكن لطفل صغير نقوم بحشو دماغه بمثل هذه الأكاذيب والأباطيل أن ينسرب منها بسهولة ومما يزيد الأمر صعوبة هو أنه كان يعيش في ظل انعدام البديل وبصورة شبه كلية في حياته اليومية وهذا في ظل سياسة التجهيل التي اتبعها المستعمر الغاصب. ولذا فالرجل قد كان ضحية مغالطة وهو نفسه قد أقر وبصورة واضحة لا لبس فيها من أن تاريخ الجزائر قد تم تشويهه وتزويره وهذا ما نجده في كتابه ليل الاستعمار وهذا في معرض حديثه عن كتابة الدولة الاستعمارية لتاريخ المُـستَعْمَــرَة وهو يدعو صراحة إلى إعادة كتابة التاريخ الوطني الجزائري.
إن ما درسه عباس فرحات عن تاريخ الجزائر في المدرسة الفرنسية هو أن لا وجود للجزائر في التاريخ وإنما هي فقط أراضي يرثها سيد عن سيد سابق تم طرده منها وهي أراضي على الساحل البربري تؤول ملكيتها للمتغلب الأقوى فمن يد القرطاجيين إلى الرومان إلى الوندال فالبيزنطيين إلى الغزو العربي كما يسمونه كذبًا وتزويرًا للتاريخ إلى الإسبان إلى التركي بتعبير المدرسة الاستعمارية وخلفهم الفرنسيون ولا شيء اسمه الوطن الجزائري والذي لم يكن في الماضي لأن التضاريس حسبهم هي المسؤولة عن عجز المغرب على تكوين دولة دائمة وعلى التوصل إلى إقامة وحدة سياسية وهذا ما يذكره إميل فيليكس غوتيي 1864 – 1940 GAUTIER في كتابه ماضي شمال إفريقيا وبالمختصر فإن الجزائر عندهم “لم تكن أبدًا أمة ولا دولة في التاريخ” وهذا منذ العصور البربرية المبكرة والموغلة في الزمن وإلى غاية الحملة الفرنسية المشؤمة عليها في العام 1830 وأن سكان الجزائر بدائيون وفرنسا قد جاءت لنشر المدنية والحضارة بينهم ولذا فقد نفوا عن سكان المنطقة وأسلافهم كل شكل من أشكال المساهمة في الحضارة الإنسانية وإنما نحن فقط كنا منفعلين لا فاعلين وإنما الدور الأخير هو منوط فقط وعلى الدوام بالإغريق والرومان وورثتهم من الفرنسيين.
هنا يجب أن نقول بأن المدرسة الفرنسية في الجزائر المستعمرة كانت تتغذي من العقيدة ومن الأيديولوجيا الاستعمارية وهذه الأيديولوجيا لم تكن موضوعية في تناولها للمسألة الجزائرية ولا هي كانت تهدف إلى تدريس الحقيقة وإنما هي تنطلق من أحكام مسبقة سطرتها لذاتها لتبرر بها التواجد الاستعماري على أرض الجزائر وتمنحه شرعية ومصداقية تعطيه هي الأخرى حق الاستمرار في الزمن بالتالي فهي تزيف الحقيقة وفق ما يخدم مصالحها وهذا الوضع الشاذ والمشوه هو ما كان عباس فرحات ضحية له ومن جهة أخرى فتلك الأكاذيب كانت تهدف إلى القضاء على الأرضية الفكرية والتي تستند عليها المقاومة الجزائرية ومتى تم تحقيق النصر على منظومة القيم التي تـُـبقي جذوة المقاومة الجزائرية مشتعلة فقد تمكنت فرنسا من البقاء في الجزائر وإلى الأبد لأنها لن تجد من يهدد وجودها في الجزائر وهو نفس الهدف الذي تلتقي فيه المدرسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر مع سياسة التنصير والتي بدورها كانت تهدف إلى تثبيت الوجود الفرنسي في الجزائر وإلى الأبد وهذا عبر القضاء على البنيات الفكرية المنظرة والمحرضة والحاضنة للمقاومة وهذا ما نجده في قول بيجو robert bugeaut Tomas للأب بريمولت Premolot: “حاول يا أبت أن تجعلهم مسيحيين فإذا فعلت فلن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا علينا النار” وهنا تتحالف كل من المدرسة والكنيسة لخدمة المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر.
كما أن المدرسين في المدارس الفرنسية الكولونيالية قد كانوا يخضعون لتكوين خاص في مدراس تكوين المعلمين Ecoles de formation de maîtres وهذا طبعا في إطار ما يقدمه منظرو المدرسة الاستعمارية من نظريات حول الأهالي وحول الأهداف المرجوة من وراء تعليمهم وهؤلاء المعلمين كانوا ينطلقون من أفكار الثورة الفرنسية الداعية إلى العدالة والمساواة والأخوة بين مختلف الأمم والشعوب وفي مقابل هذا فقد شوهوا كل فكرة تنتمي لغير الحضارة الغربية وصنفوها في خانة الأفكار البربرية وهذه هي الأفكار التي تمكنت من عقل وروح عباس فرحات وتغلغلت فيه لدرجة أنها أصبحت عقيدة له وهي ما يسميها بفرنسا الجمهورية والتي يسعي وبكل قواه لتجسيدها على أرض الجزائر وبقي وفيا لها حتى بعد استعادة الجزائر لسيادتها المسلوبة.
كما وأنه قد تغذى من أفكار المدرسة الكولونيالية “الاستعمارية” والتي كان روادها غوتي Gauthier وبوسكي Bosquet وهؤلاء قد أنكروا وجود الدولة والأمة الجزائرية قبل الغزو الفرنسي لها حيث تقول الأدبيات الفرنسية الاستعمارية بأن “الجزائر حين وصل الفرنسيون لم تكن قطرًا مستقلًا” وهذا ما سنجد صدا له فيما كتبه عباس فرحات من نفي للأمة الجزائرية في العام 1936 كما أن الوطن الجزائري عندهم في العام 1830 “لا يشكل تاريخيًا واجتماعيًا أي شيئا” وهذه الفكرة هي أساس الخرافة القائلة بأن الجزائر هي أمة في طور التكوين والتي اعتنقتها النخبة الجزائرية وعلى رأسها فرحات عباس لا لشيء سوى لأن فرنسا هي من خلقتها ومنحت لها اسمها كما ادعى الجنرال كاتروGeorges Catroux في العام 1943 ونحن نقتبس هذا الكلام من كتاب الحركة الوطنية الجزائرية لأبي القاسم سعد الله الجزء الأول. أما الأمة الجزائرية فهي سراب ووهم حسبهم وهذا ما نجده كذلك عند الجنرال ديغول والذي يقول “منذ خلقت الدنيا لم يعرف التاريخ وحدة للشعب الجزائري وبالأحرى سيادة له” وكأن التاريخ عرفها لفرنسا ولشقيقاتها اللاتينيات وحتى وإن كان عباس فرحات لم يأخذها عن هؤلاء السادة شخصيًا فهو قد أخذها على يد تلامذتهم ممن تعلم على يديه لأن لكل مدرسة استمرارية في الزمن. وهذا الكلام هو ما تغذى به عقل عباس فرحات الطفل وأصبح له كمثل العقيدة بتعبير محمد حربي أما الوطنية الجزائرية والمقاومة الشرسة للغزو الفرنسي فلم يكونا في نظر المدرسة الكولونيالية ينبعان من الروح الوطنية وإنما من التعصب والذي بدوره يتغذى من الخرافات أما تاريخ الجزائر الوسيط فهو تاريخ يشوبه حسبهم الغموض والأمير عبد القادر عندهم “لم يكن بطل جنسية عربية في الجزائر لأنها لم توجد، ولم يكن سياسيًا مجددًا يهدف إلى إدخال الحضارة الأوربية على مواطنيه الذين كانوا نصف برابرة ولكنه كان مرابطًا طموحًا أراد أن يحل نفسه محل الأتراك. أما الشعب الجزائري فلا وجود له عندهم وإنما هو مجرد أهالي ورعايا للدولة الفرنسية وإن وجد شيء في الجزائر فهي أمة في طور التكوين.
نعم نحن أنصاف برابرة وفرنسا هي من جاءت لتحضيرنا وهذا هو الفخ الذي وقع فيه عباس فرحات وبقي سجينًا فيه طوال حياته تقريبًا. لأنه قد وقع ضحية للغزو الفكري الذي مارسته المدرسة الاستعمارية في الجزائر وجاء هذا الغزو خاصة من قبل المعلمين العلمانيين والذين تقبلهم المجتمع الجزائري لكونه قد أصبح مقتنعًا بضرورة تعليم أبنائه لمصلحتهم كما هو حال والد عباس فرحات فغرس هؤلاء المعلمين حب الوطن الفرنسي في عقول هؤلاء الأطفال الغضة والنتيجة هي تكوين أجيال ترى أن لا مستقبل للجزائر خارج المجموعة الفرنسية ذلك أن تعليم الجزائريين من قبل فرنسا لم يكن بريئًا أبدًا بل كان يهدف لكسب أنصار بينهم لمشروعها الاستعماري وتحقيق الاختراق بين صفوف أبناء الشعب الجزائري وهكذا فمن بعد أن قام الجيش بغزو الجزائر أفقيًا فقد جاء دور المدرسة لغزوها عموديًا ولتكمل المدرسة عمل الكتيبة العسكرية.
تلك الخرافات والأكاذيب التي كانت تروج لها المدرسة الاستعمارية قد تفطن لها عباس فرحات في مراحل متأخرة من حياته فها هو يقول في كتابه الشباب الجزائري “إنني أقوم بالعودة إلى الوراء أيضًا لأن الفرنسيين وبالخصوص أولئك الذين كانوا في الجزائر ما زالوا يعيشون وراء ستار من دخان الحقائق المقلوبة… لقد كنا نحن ضحايا أسطورة وكانوا هم من جهتهم ضحايا خداع طويل” وستار الدخان والحقائق المقلوبة والأسطورة يقصد بها عباس فرحات كل تلك الزيوف السابق ذكرها والتي روجت لها المدرسة الاستعمارية والمذكورة أعلاه أما كيف تمت عملية الخداع له ولزملائه من الشباب الجزائري فنجده في قوله “لقد علموهم طوال ما يزيد عن قرن أن الجزائر الولاية الفرنسية ليست إلا امتداد للمضلع السداسي الفرنسي وعندما دقت ساعة الحقيقية… شعروا أنهم ضحايا خيانة وحينئذ راحوا يقاتلون بشدة من أجل أن يستمر هذا الخيال المضلل…” وعباس فرحات نفسه قد كان ضحية لتلك الخيانة ولتك الأسطورة والتي غرسوها في عقله الباطن وأصبحت تبدو جزءًا من الحقيقة وهذا لفترة طويلة من الزمن غرسوها بقوة الحديد والنار وماذا يفعل صبي لا يمتلك أي نوع من الحصانة المعرفية ضد هذا الفكر المضلل. إن كثافة ذلك الستار من الدخان هو من حجب عن عقل عباس فرحات الصغير الحقيقة والنضال الجزائري المستميت والشجاع والأسطوري والذي توج بثورة نوفمبر المباركة هو من سوف يبدد خيوط ستار الدخان ذاك.
عباس فرحات كان يعيش مشتتًا بين عالمين عالم أصوله وجذوره وشعبه ومجتمعه الذي أصبح حطاما وذكريات غابرة وبين عالم فرنسي واقع ومهين يختطف القلوب قبل الأبصار فرنسا فيه هي شعلة الحضارة ومركزها بالنسبة له ولو إلى حين أي إلى سنة 1942 تاريخ الإنزال الإنجلو أمريكي وما يؤكد على تبعثره بين عالمين هو زواجه الثاني من فرنسية أي أن الرجل ومن خلال زوجته يكون قد ارتبط بالعالم الفرنسي الذي يريده ويدافع عنه للأسباب السابقة الذكر وفي نفس الوقت بقي متعلقًا بشعبه وهذا من خلال الدفاع عنه وعن هويته وحقوقه وهذا ما نجده في اعترافاته المتعددة والتي لا يمكن الاستشهاد بها كلها في هذا المقال نظرا لغزارتها فهو يقول بأن “ثقافتنا لم تفصلنا عن شعبنا بل بقي فكرنا دائمًا عالقًا لاصقًا بأولئك الذين بقوا وراء القافلة “من كتابه ليل الاستعمار كما يقول في نفس المرجع “إنني أنتمي إلى طبقة فلاحية، وأن منصب والدي وإخوتي كان عرضيًا، عشت وتربيت في أوساط الفلاحين الجبليين قضيت طفولتي في وسط هؤلاء البسطاء، أقوياء وكرماء، فمن الصعوبة أن أتخلى عنهم” وقضية هؤلاء هي من أدخلته في المعترك السياسي فهو يقول “إن مأساة بلادي هي التي أدخلتني في وحل السياسية، لو أن فرنسا وجدت حلًا معتدلًا لمشاكلنا، لكنت من المحتمل أن أقوم بالعمل الفلاحي، ولكن كيف نستطيع أن نعيش واليأس واللاعدل أصبحا مشهدًا يوميًا في بلدي” والهدف من نضاله واضح وهو يتمثل في “ترقية هؤلاء الفلاحين فهو الهدف الأسمى لكل سياسية محترمة حلمي الوحيـد كان أن أرى الفلاح ينام في سريره بعد أن يأكل جيدًا ويقرأ جريدته”. ولذا فالرجل يتمتع بحس أخلاقي نبيل يشكر عليه ويضعه في موضع تقدير واحترام مهما اختلفنا أو اتفقنا مع أفكاره.
الأدوات التي اتخذها فرحات عباس كوسيلة لنّضال النظام الاستعماري
إن عباس فرحات وكما يخبرنا المؤرخ محمد العربي الزبيري في كتابه تاريخ الجزائر المعاصر الجزء الأول قد كان رجلًا واقعيًا وينطلق من الواقع ولذلك فهو يعرف جيدًا بأن الرأي العام الفرنسي غير مهيئ لتقبل فكرة العمل المسلح ضد فرنسا ولذلك فقد اتجه صوب أسلوب مهادن للاستعمار في نضاله يعتمد على ضرورة تحقيق المساواة التامة بين جميع سكان الجزائر وعلى التربية والتعليم للجزائريين مع الأخذ بالتكنولوجيا الحديثة من قبلهم وللتوسع أكثر في هذه النقطة راجع محمد العربي الزبيري المرجع المذكور أعلاه ج 1 ص 107. وهو يعلم أيضًا أنه وفي فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي لم يكن المجتمع الفرنسي مهيئًا ومستعدًا لقبول فكرة استقلال الجزائر وتصفية الإمبراطورية الفرنسية وعليه فما العمل في مثل هذه الظروف هل نترك الشعب يعاني في ثالوثه الرهيب أم نسير في الطريق الوحيد والممكن أذاك والمتمثل في التعايش مع النظام الاستعماري المرفوض ولو إلى حين. ولأجل ما سبق نراه يطالب بالمساواة التامة بين الجزائريين والفرنسيين مع ضرورة إلغاء جميع القوانين الاستثنائية كقانون الأهالي والمحاكم الرادعة والمساواة في الضرائب. والرجل قد ناضل لأجل تعليم الجزائريين إيمانًا منه بأن التعليم سيجعل الضعفاء أو أولئك الذين تخلفوا عن القافلة على حد تعبيره يلتحقون بها لكون التعليم سيجعلهم ينهضون بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي وهذا النهوض سيفرض على الكولون احترام الجزائريين أو الأهالي كما يسمونهم لأن الجار لن يعامل جاره باحترام ما لم يفرض عليه هذا الأخير احترامه وهذا الكلام نقتبسه من كتابه الشباب الجزائري.
كما أن الرجل قد ناضل بقوة وبشراسة لصالح سياسة الإدماج وهذا في بداية مشواره السياسي وفكرة الإدماج هذه ليست فكرة مبتكرة من عباس فرحات وإنما يمكن تتبع أصولها في برامج أوائل الغزاة وعلى رأسهم الدوق دي روفيقو Général Savary, Duc de Rovigo والذي صرح في العام 1832 من “أن هدفنا هو أن تحل الفرنسية محل العربية بنشرها بين الأهالي عن طريق السلطة والإدارة” ثم ها هو الماريشال بيجو والذي قال في 1840 “بعد أن أخضعنا العرب يجب علينا نشر حضارتنا وقوانيننا في الأوساط الأهلي البربري”. ولكن الفرنسيين والذين أتوا من بعدهم لم يكونوا لا راغبين في هذه السياسة ولا هم قد كانوا متحمسين لها بل ناصبوها ومن البداية العداء وحاربوها بكل ما امتلكوا من قوة وأدوات لكونهم كانوا يخافون من مزاحمة الجزائريين لهم على خيرات البلاد ومن منافستهم لهم في حكمها.
وفكرة الإدماج الجماعي للجزائريين في فرنسا والتي طالب بها فرحات عباس قد كانت وعلى الدوام أحد أبرز مطالب برنامجه هذه الفكرة أيضا لم تكن مبتكرة منه هو شخصيًا ففضلًا على ما سبق فإن هناك من الفرنسيين أنفسهم وفي أواخر القرن التاسع عشر من سعى في هذا الاتجاه وعلى رأسهم النائبان ميشولان Michelinوكوتي Coty واللذان طالبا في العام 1887 بضرورة منح الجنسية الفرنسية وبصورة جماعية للجزائريين وجاء بعدهم عدد لا بأس به من الساسة والذين ساروا في هذا الطريق من أمثال ألبان روزي Alban Rosie وجورج ليون George Lyon وما عجز هؤلاء عن تحقيقه تبناه فرحات عباس وحاول إكمال المسيرة ولكنه هو وهم قد اصطدموا بصخرة الكولون والتي أجهضت هذه المشاريع العادلة وهذه المطالب المشروعة في حينها.
كما أن عباس فرحات يتخذ من سياسة ألمانيا في مقاطعتي الألزاس alsace واللورين lorraine نموذجًا يمكن تحقيقه في الجزائر أيضًا فكما نجحت ألمانيا في ألمنة هاتين المقاطعتين يمكن لفرنسا أيضًا فرنسة الجزائر والجزائريين وهذا عن طريق الدمج الكلي لهما فيها خاصة وأنه يري بأن الدين الإسلامي ليس ضد التجنس وليس ضد التعليم الفرنسي المدني التقني وهو هنا يستشهد بالمقدس قرآنا كان أم سنة نبوية شريفة وهو هنا أيضًا يعول كثيرًا على عنصر الثقافة في تحقيق هذا الهدف وهذا ما نجده في قوله “لأن ألمانيا بثقافتها قامت بغزو روح الألزاسيين واللوريين عن طريق المدرسة ولغتها، وذلك إتمامًا لغزو الأرض، وبالتالي تمكنت من ضم الأرض والإنسان إليها، وأصبحا جزءًا من إمبراطوريتها بدون تمييز بين جميع سكانها الذين تعتبرهم كلهم ألمان لهم نفس الحقوق والواجبات” وهذا الكرم نقتبسه من رسالة عز الدين معزة فرحات عباس ودوره في الحركة الوطنية ومرحلة الاستقلال.
وما شجع كذلك الرجل على تبنى مثل هذه الأفكار هو أنه قد وجد أصواتًا فرنسية عالية ومنددة بسياسة فرنسا الاستعمارية بالجزائر وهي تدعو صراحة إلى ضرورة تغييرها وإلى ضرورة تعليم الجزائريين اللغة الفرنسية بهدف تحقيق الإدماج الكلي للجزائر فبعد إدماج الأرض لا بد من إدماج الشعب ولقد وجد عباس فرحات سندًا قويًا في هذه الأطروحات وأرضية يقف ويتكأ عليها وهي أطروحات كانت موجودة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر كما مر أعلاه واستمرت في التواجد خلال القرن العشرين وهذا ما نجده في كتاب الجزائر المئوية فصاحبه يدعو الفرنسيين إلى ضرورة الإسراع في “فتح أبواب المساعدة الطبية الواسعة والمنظمة، وفتح المدارس في كل مكان، وخاصة مدارس البنات، وأن لا نفكر في التأخر، لنضع برنامجًا من أجل تحقيق اندماج كامل للأهالي، وذلك لبناء جيل المستقبل”. أما مناداته بأن تكون الجزائر إقليمًا فرنسيًا فهي مجرد وسيلة لا غاية وسيلة لغرض تحقيق تحرر الإنسان الجزائري المسلم من القهر والظلم والقوانين الاستثنائية ونحن نقتبس دومًا من نفس المرجع المذكور أعلاه كما أن الهدف من سياسة الإدماج عنده واضحة ففرحات عباس مؤمن بالمبادئ والقيم الثقافية التي حملتها الثورة الفرنسية في العام 1789 وسعى إلى إيجاد وطن جزائري داخل الكيان الفرنسي، فكانت تنازعه ثنائية فكرية، أهلي مسلم وحداثي جمهوري، فبقدر ما كان يصبوا إلى الاندماج في الإطار الفرنسي، كان حرصه شديد على التعلق بوسطه الفلاحي ويحمل همومه ويتألم لحرمانه من أبسط الحقوق وهذا الكلام نقتبسه من عباس محمد الصغیر فرحات عباس من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية وهذا لكونه قد كان يدرك مدى حاجته لقوة الجماهير الشعبية كما يدرك أنه بحاجة ماسة إلى الشعب الجزائري وهذا لتحقيق أهدافه والمتمثلة في القضاء على النظام الاستعماري وهذا ما نجده في قوله والمقتبس من نفس المرجع “إن إلحاق الهزيمة بنظام قوي مثل النظام الكولونيالي وقصد تحويله وتحطيمه يتطلب الأمر أكثر من تجمع للمنتخبين، يجب توفير حركة شعبية تتكون من كل الجماهير، وهذا لن يتحقق إلا في إطار حزب” كما أنه قد كان مرتبطًا وبصورة أسطورية بشعبه لدرجة أن الواحد منا يحتار في أية مقولة له سيستشهد بها وهذا لتعدد وكثرة كتاباته حول ما يشعر به تجاهه فها هو في إحداها يقول “إنني من سلالة فلاحية… وقضيت طفولتي كلها وسط مجتمع وضيع وساذج وكريم فتعذرت علي مفارقته وإن تعاطفي مع أولئك الفلاحين ليس عاطفيًا فحسب بل هو حيويًا يجري في دمي وعروقي” وهذا الكلام نجده في كتابه ليل الاستعمار ولأجل كل ما سبق فعباس فرحات لم يحدث أبدًا قطيعة مع شعبه ولم يكن يتبرأ منه أو يزدريه أو أنه يزدري ويحتقر حضارته وثقافته فها هو يخبرنا بأن الجزائريين وتحت ضغط الحاجة أو لملائمة اللباس الأوروبي لعملهم فإنهم يرتدونه ولكنهم يبقون دومًا على غطاء الرأس المحلي كنوع من تأييد جنسهم وعقيدتهم وعباس فرحات ذاته كان يرتدي غطاء الرأس وهو دليل كاف على أن الرجل كان وطنيًا ومن الدرجة الأولى ولم يتخل في يوم من الأيام عن عقيدته ولا عن حضارة وهوية شعبه. كما يخبرنا أيضًا في كتابه الشباب الجزائري بأنه حتى وإن كانت الأغلبية تعامل كالبهائم فإن ذلك لم يجعلها تستسلم وهو جزء من تلك الأغلبية إذن فالرجل قد كان شجاعا وناضل لأجل أن يسترجع حقوق شعبه وفق ما يراه صالحًا وممكنًا من مشاريع.
وعباس فرحات وفي كتاباته يخبرنا بأسباب نضاله لأجل سياسة الإدماج فهو يقول في كتابه ليل الاستعمار ما يلي “لنفهم لماذا جيلي، والذي سبقه ركضوا وراء فرنسا الجمهورية الليبرالية، ضد فرنسا المحتلة الظالمة اعتقدنا بأننا نحتاج فقط لإنارة الأولى لتضع حدا للمآسي التي خلقتها فرنسا المحتلة” نعم لقد كان يعتقد بأنه وبواسطة القوانين الفرنسية والتعليم والمدرسة يمكن خلق جزائر جديدة. كما كان يظن بأن ما سبق ذكره كفيل بالقضاء على طرح الجنس الأعلى والجنس الأدنى وعلى الإقطاعية وأن يحقق التطور والرقي لشعبه ويحقق المساواة بين جميع سكان الجزائر بغض النظر عن جنسهم ودينهم ولغتهم وعباس فرحات هو واحد من النخب الجزائرية والتي كانت وكما يخبرنا محفوظ قداش وذلك خلال العشرينات من القرن المنصرم “تفكر داخل الإطار الفرنسي، بما في ذلك فيدرالية المنتخبين، وجمعية العلماء المسلمين. وقد عرفت هذه النخب بولائها ورغبتها في التطور ضمن القوانين الفرنسية فكانوا يسعون لتمتين العلاقات بالأوروبيين من أجل خير الأمة”.
يمكن القول بأن برامج عباس فرحات قد كانت تتغذي من المدرسة الفرنسية فهو حين يطالب بفتح باب التعليم أمام الجزائريين فهو يتماهي ويستكمل مشروع جانمير Janumeir هذا الفرنسي الذي كان يؤمن بضرورة تعليم الجزائريين ولذلك فتح باب التعليم الموجه لهم ولئن كانت الظروف في بداية القرن العشرين لم تسمح لهذا المشروع بأن يستمر في الزمن ويستكمل مسيرته فإن عباس فرحات يري كذلك في التعليم الأوروبي للشباب المسلم مخرجًا للجزائريين من التخلف هذا التخلف الذي هو نفي استقلال الشعوب ومقبرة حرياتها كما يقول عباس فرحات ولذا وجب تعليم الجزائريين خاصة وأن هؤلاء قد اقتنعوا بالفرق الموجود بين التعليم المدني الفرنسي وبين التعليم الذي يقدمه المبشرون وبالتالي فالرجل يري في التعليم خير وسيلة لاسترداد ما سلب من الجزائريين من حرية واستقلال وطوق نجاة لخروجهم من حالي البؤس والشقاء اللتين نفي فيهما الجزائريين وبالقوة كما أن التعليم عند الرجل يمنع الاستبداد ويحرر الإنسان منه وبعد تحرير الإنسان تأتي مرحلة إنشاء المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والتي بدورها ستنهض بالإنسان وتحقق له إنسانيته بعيدا عن وضعية البهائم التي أنزل المستعمر الفرد الجزائري إليها. وفكرة تعليم الجزائريين والتي تبناها فرحات عباس نجد أصولها وجذورها في مشروع جول فيري لتعليم الأهالي وهذا حينما أقر إجبارية التعليم لكل سكان الجزائر إلا أن الكولون استثنوا الجزائريين من هذا المشروع وصادروه لحساب أبنائهم وأبناء عملائهم من الجزائريين.
وقد يتساءل بعضنا ولما عباس فرحات قد توجه صوب هذه الأساليب السلمية بغية القضاء على النظام الاستعماري الجواب نجده فيما يخبرنا به هو نفسه في كتابه ليل الاستعمار وهذا حينما يقول بأن الاحتلال قد عم كل القطر الجزائري وهذا عندما بدأ الرجل نضاله السياسي واستطاع أن يقضي على كل المقاومات المسلحة “ووضع الجزائريين كان مأساويًا، لم تكن لهم القوة للدفاع عن أنفسهم واسترداد حقوقهم، كانوا يتألمون، ويموتون تحت عبء الاحتلال”. وعليه فما دامت المقاومة العسكرية مستحيلة لاستحالة هزيمة هذا النظام عسكريًا نظرًا لتغوله وأمام حالة الجزائريين المستعجلة فلم يكن أمام الرجل من خيار سوى محاربة العدو وبأدواته ذاتها ريثما تتبدل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية لصالح المغلوبين.
وعباس فرحات يطلق على نضاله هذا الثورة بالقانون وهي ثورة فاشلة لأن الاستعمار لا يفهم سوى لغة القوة وما زاد فرحات عباس إيمانًا بما سماه الثورة بالقانون هو الوضع المخزي والمحرج للكولون هؤلاء الذين تعاونوا مع حكومة فيشي الموالية للألمان مما جعل عباس فرحات يعتقد بأنهم في وضع ضعيف خاصة وأن الحكم في فرنسا الأم قد آل إلى أعدائهم أي لمن قاوموا الاحتلال النازي لفرنسا وعليه فهو قد كان يعتقد بأن فرنسا الحرة ومعها الشعب الفرنسي والذي قد ذاق ويلات الاحتلال النازي لن يخذلاه وسوف يلبيان للشعب الجزائري مطالبه العادلة ولكن أما علم فرحات عباس بأن فرنسا الحرة والتي راهن عليها هي نفسها حكومة ديغول وهذا الأخير يعتبر موقفه من الجزائر هو عين الموقف للحكومات الفرنسية المتعاقبة وهذا منذ 1830 وإلى غاية نهاية ح ع 2 ومعه السواد الأعظم من الشعب الفرنسي والثورة بالقانون تلك كانت ستؤدي بالجزائر إلى وضعية جديدة مفادها أن “لا إدماجًا لا سيدًا جديدًا ولا انفصالًا بل غايتنا هي إبراز شعب فتي يتكون تكوينًا ديمقراطيًا واجتماعيًا… غايتنا هي إنشاء دولة فتية تقود خطاها الديمقراطية الفرنسية” وبهذا فالجزائر ستتحرر من نظام السيطرة الاستعمارية وتندمج في الديمقراطية العالمية.
وعباس فرحات وإلى غاية 1956 قد كان أسير ما لقنه له أساتذته في المدرسة الفرنسية فكان وكما يخبرنا هو في كتابه ليل الاستعمار أسير سلطان شيطانه فهو قد كان يضن بأن الجزائر على أهبة ثورة تماثل ثورة 1789 تلك التي حدثت في فرنسا لتطابق وضع القطرين فإقطاعيي فرنسا ما قبل الثورة تمثلوا أمامه في الكولون أصحاب الضياع الواسعة ومعهم أعوانهم من الجزائريين كالقياد والبشاغاوات ولكن هذه الفترة من حياة الرجل قد أطلق عليها فيما بعد تسمية عهد الأوهام لأن فرنسا الجمهورية كانت تعلم مدى قسوة النظام الاستعماري ولكنها لم تفعل شيئًا لإصلاحه فضلًا عن إنهائه ولهذا فقد خاب أمل الرجل فيها وطلقها في مرحلة لاحقة من حياته كما أن الرجل كان يضن بأن الجزائر سوف تنال حقوقها كما نالتها بولندا والمجر ودول البلقان وهنا يمكن القول بأن عباس فرحات قد كانت خافية عليه الخلفية التي تقف وراء تكوين تلك الدول والمتمثلة في كون كل من فرنسا وبريطانيا أرادتا تكوين حزام من الدول لمحاصرة ألمانيا من الشرق والاتحاد السوفياتي من الغرب ومنعهما من التوسع وبالقوة خدمة لمصالحهما وما كانت الجزائر تدخل ضمن دائرة تلك المصالح ولو علم فرحات عباس بتلك الخلفية لما سار في ذلك الطريق مطلقًا وكان يجب عليه أن يعرف ومن البداية بأن الاستعمار الفرنسي لا يفهم إلا لغة القوة ولكن ما كان يدفعه إلى السير في طريق الإدماج هو حنقه على النظام الاستعماري وتلهفه وحماسه الشديدين لتغيير أوضاع شعبه والذي قد أصبح لا فرق بينه وبين البهائم وهذا كما يصفه في كتابه ليل الاستعمار وكذلك لرغبته في تطهير الأرض من المعمر الخناس كما يصفه هو.
وعباس فرحان كان وبقي يؤمن بأنه من المفيد للجزائر أن تتعايش فوقها الكتلتان بسلام لأن هذا فيه خيرها وثراؤها وهو يخبرنا بأنه لو حدثت مصالحة حقيقية بين الكتلتين لما كانت حرب الجزائر لتحدث ولكنه يحمل النظام الاستعماري كل نتائج ما حدث ولذلك فهو قد كان يرى بأنه قد كان من الممكن أن تستقل الجزائر عن فرنسا كما تنفصل الثمرة الناضجة عن الشجرة وهذا في إطار الجزائر الجزائرية والتي كان يؤمن بها جزائر لكل الأعراق والمجموعات اللغوية والدينية جزائر مختلفة عن جزائر ما قبل 1946 ولا يمكن هنا أن نقول بأن عباس فرحات قد كان يتمنى بأن يكون للتاريخ مجرى آخر غير الذي قد كان، مجرى تحدث فيه المصالحة الحقيقية بين الجزائريين والأوروبيين وإن كان الواحد منا يقرأ هذا بين السطور التي كتبها ولكن طالما أن الرجل لم يعلن هذا الأمر صراحة فليس من حق أي إنسان أن يُقَـوِلـَهُ شيئا لم يقله خاصة وأنه كان قد تبنى طرح الاستقلال التام عن فرنسا بعد العام 1956 وإن كان يأمل أن لا يغادر الكولون الجزائر بعد الاستقلال لحاجة الأخيرة لهم في عملية إعادة الإعمار والبناء ولا حتى جبهة التحرير الوطني قد كانت تنوي طردهم أصلا.
كما أنه قد كان يعول كثيرًا على الثورة الاجتماعية الناعمة والمسالمة في استرجاع حقوق الجزائريين عبر حكام فرنسا في باريس وليس عبر المستوطنين في الجزائر وهذا لأن النخب الجزائرية على عهده قد كانت ضعيفة لأنها هي الأخرى تستند إلى شعب معوز وضعيف ولذا فلم يبق أمامه أي عباس فرحات سوى القانون الفرنسي كسلاح يدافع به عن نفسه وعن الشعب الجزائري وكان يضن أنه وبهذا الأسلوب سيهزم أنصار المعمرين ومن يُـنَـظّـرْ لهم سياساتهم في الجزائر من علماء قانون وعلماء نفس واجتماع فهو يريد أن تهزم فرنسا حقوق الإنسان والحرية فرنسا الاستعمارية وتكون الجزائر بلد للجميع أي كما يقول الفيدرالية في إطار احترام الجنسيات على نموذج الكومنولث البريطاني كما أن تفسير سبب اتجاهه صوب هذا النوع من الثورات الناعمة من أن الرجل ذا طبيعة مسالمة ولذلك فقد كان يبحث عن حل توافقي تراعي فيه مصلحة الطرفين الجزائريين والمعمرين وربما هذا الميل إلى المسالمة جاء من كون الرجل يستند إلى خلفية علمية وثقافية فذة جعلته يقترب من الرجال المصلحين أكثر من قربه من الرجال الثوريين. كما لا يجب أن ننسى سببًا آخرًا جعله يسير في هذا المسلك وهذا باعترافه هو شخصيًا فهو يخبرنا بأنه يعرف التاريخ الدموي للاستعمار وذكريات الحزن والدموع والدماء النازفة طوال القرن الـ 19 لا تزال حية وماثلة أمام العيان وهو لا يريد أن تعود تلك الأيام السوداء وعليه وخوفًا منه على شعبه وفي ظل عدم توازن القوى بينه وبين المحتل فإن أي ثورة فهي بمثابة سوق الشعب إلى المسلخ وإلى المجازر الجماعية كما هو الحال في 08 ماي 1945.
كما أن عباس فرحات أراد أن يحتج على الاستعمار وبأدواته ويدينه بها بهدف وضعه أمام الأمر الواقع ولتوضيح هذه النقطة فإننا نقتبس هذه الفقرة من كتاب عز الدين معزة فرحات عباس ودوره في الحركة الوطنية ومرحلة الاستقلال والتي جاء فيها “كيف يمكن للاحتلال أن يواجه رجلًا مثل فرحات عباس كونه في مدارسه، حاملًا لمبادئ الثورة الفرنسية، ومتشبعًا بثقافتها، يكره العنف والظلم، أي أنه يحارب الفرنسيين بفكرهم الذي يفتخرون به، يجادلهم ويناقشهم من خلال تاريخهم السياسي، وفلسفتهم الاجتماعية التي كانوا يفتخرون بها في كتبهم، وخطبهم، وجرائدهم، فالاحتلال إدعى أنه جاء لتحضير شعب همجي يسكن في الجهة الأخرى من البحر، فقتله أحيانًا ضروري في نظره لتخويف الآخرين وإذلالهم ، لأن هذا الشعب رفع السلاح ضده. فما العمل إذًا مع من يرفع مبادئ فرنسا الليبرالية، وينادي بتطبيقها على كل سكان الجزائر بدون تمييز، لا في الجنس ولا في الدين؟ هل يقال عنه أنه متوحش؟ تلك إشكالية واجهتها إدارة الاحتلال”.
ولنفهم أكثر ما سبق نقول بأن عباس فرحات قد كان يفرق بين فرنسا الاستعمارية وبين ثقافتها فهو يخبرنا بأن هوشي منه وفي آخر أيامه كان يطالب بأن يسمعوه أغاني موريس شوفالي Maurice Chevalier ولذا يمكن للفرد أن يكون العدو اللدود لفرنسا الاستعمارية ويبقي الصديق المخلص لثقافتها ونحن نعتقد بأن عباس فرحات قد كان يعتنق هذا المبدأ وهو يتحدث عن ذاته انطلاقًا من هوشي منه ونحن هنا لا نقدم استنتاجات أو قراءات شخصية وإنما نحن ننقل وبأمانة ما قاله الرجل فهو يخبرنا بأنه قد بقي وفيًا للثقافة الفرنسية وهذا لعدة اعتبارات منها أنها منحته حسًا رفيعًا وبها حارب إقطاعيات المال في الجزائر هذا الكلام نجده في كتابه الشباب الجزائري ولذا يمكن القول وبكل اطمئنان بأن الرجل من جهة قد كان يعادي فرنسا الاستعمارية ولذلك فهو يطالب بضرورة تصفية الاستعمار والذي ما هو إلا استعباد جماعي للشعوب ومن جهة أخرى فهو يطالب بجمهورية مستقلة مترابطة بروابط فيدرالية مع جمهورية فرنسية جديدة مناوئة للاستعمار ونحن هنا ننقل من كتابه ليل الاستعمار لأن الرجل كان يفرق بين فرنسا الاستعمار والتي كانت هي المنتصرة وإلى غاية نهاية الحرب العالمية الثانية وبين فرنسا شعلة الحضارة كما يصفها وفرنسا الثورة والجمهورية وحقوق الإنسان وهي من يجب أن تقوم على أنقاض فرنسا الاستعمارية وهذا هو الإطار الذي كان الرجل يناضل فيه ولأجله وهذه هي نقطة الاختلاف بينه وبين المحافظين ودعاة الاستقلال خصوصًا ولذلك فقد كان هناك توافق وانسجام نفسي بين عباس فرحات من جهة وبين الثقافة الفرنسية من جهة أخرى ومعتقده هذا هو من سيجعله يتصادم مع الرئيس الأسبق السيد أحمد بن بلة والذي يقال بأنه قد كان مقربًا من القاهرة وتوجهه قومي عربي ثم سيجعله يتصادم مرة أخرى الرئيس هوارى بومدين نظرًا لتوجهات الأخير الاشتراكية في حين عباس فرحات كانت توجهاته ليبرالية.
كما أن الرجل وفي كل مراحل نضاله قد كان يأمل في مؤازرة بعض الأصوات المعتدلة لمشروعه وهذا ما يخبرنا به محمد حربي في كتابه الثورة الجزائرية سنوات المخاض وكمثال على هؤلاء نجد محافظ الشرطة في برج بوعريريج والذي قال: طال الزمان أو قصر يجب أن نشركهم في إدارة شؤون البلاد ولهذا فقد كانت مشاريع فرحات عباس كلها إدماجية إصلاحية وإلى العام 1946 ولكنه ومن بعد أن تجاوز الزمن المطالب الإدماجية فقد تبنى فكرة الأمة في طور التكوين والتي استقاها من الفرنسيين أنفسهم حيث كان من بينهم عقلاء وقفوا ضد النظام الاستعماري مثلما هو السيد شارل جيد رئيس الاتحاد الفرنسي الأهلي والذي طالب في العام 1913 بضرورة تكوين أمة جزائرية مكونة من المجموعتين الجزائرية والفرنسية وهذا الكلام نقتبسه من كتاب أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية وهكذا ينتقل عباس فرحات من المطالبة بالإدماج إلى المطالبة بجمهورية جزائرية متحدة فيدراليا مع فرنسا.
ولنفهم عباس فرحات أكثر علينا أن نعرف الخلفية العقائدية التي تحركه فسلوك الإنسان ما هو إلا ترجمة لتك البنية الفكرية التي يعتنقها فها هو يوقع مثلا مقالاته والتي كان يكتبها في مرحلة الشباب باسم كمال أبو سراج، الشطر الأول كمال اقتبسه من مصطفي كمال أتاتورك والشطر الثاني هو اسم لأشهر عائلة في مملكة غرناطة بنو الأحمر وعليه فالرجل كان يعيش بين عالمين العالم الفرنسي بأنواره الساحرة وببنيته الفكرية المتينة وعالم شعبه التعيس وكما هي خطة مصطفي كمال أتاتورك قد قطعت صلتها بماضي تركيا العثماني واتخذت من نموذج الدولة الغربية منهجا لها لبناء دولة قوية كاليابان وفرنسا مثلا ورأى فيها الدواء الشافي لكل علل وأمراض تركيا فكذلك فرحات عباس فقد رأي أنه ومن الممكن تحقيق نفس الهدف للشعب الجزائري إن هو اتخذ من مثال الطبقات البورجوازية الفرنسية خاصة مثالا له في كفاحها ضد الطبقات الرجعية والإقطاعية والتي انتصرت عليها ونفس الأمر في الجزائر حيث توجد إقطاعية الكولون وكذلك الأمر كان في تركيا الرجعية حسب كمال أتاتورك طبعًا رجعية وإقطاعية الأتراك العثمانيين وعليه فعمليًا ليس هناك فرق بين الشعبين فالشعب الجزائري محتل من الخارج والشعب التركي محتل من الداخل وكما وضع كما أتاتورك حدا للحواجز التي كانت تفصل مختلف طبقات المجتمع التركي فكذلك أراد هو القضاء على كل الحواجز المصطنعة والتي تحول دون تعايش وتآخي مختلف سكان الجزائر ودون تحقيق العدالة والمساواة بينهم وهذا هو الإطار الذي قد كان يتحرك فيه عباس فرحات فلئن كان للعلماء مثلًا مرجعيتهم الدينية المشرقية وللشيوعيين مرجعيتهم السوفياتية فللرجل مرجعيته الليبرالية الغربية المتعايشة مع هوية الشعب الجزائري ولبعده الحضاري العربي البربري الإسلامي والتي لم يتنكر لهما عباس فرحات مطلقا ومرجعيته هذه كانت وسيلة للنضال ولم تكن أبدا وسيلة أيديولوجية لمحاربة مقومات الشخصية الوطنية الجزائرية وفي كتابه ليل الاستعمار يعطينا فرحات عباس سبب تبنيه لفكر عصر الأنوار وهذا ما نجده في قوله “لنفهم لماذا جيلي، والذي سبقه ركضوا وراء فرنسا الجمهورية الليبرالية، ضد فرنسا المحتلة الظالمة اعتقدنا بأننا نحتاج فقط لإنارة الأولى لتضع حدا للمآسي التي خلقتها فرنسا المحتلة”. ولكنه فشل في تحقيق هدفه هذا والسبب نجده في قوله “الرأسمالية والاحتلال شيء واحد مرتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، الأول فاعل في باريس، والآخر فاعل في الجزائر، ولا يمكننا أن نكافح ضد ذلك، دون أن نهاجم الآخر” من كتاب ليل الاستعمار.
ومن بعد كل ما سبق نصل إلى محطة انضمامه إلى الثورة الجزائرية المجيدة هذا الانضمام الذي قد أثار الكثير من الجدل وإن كان الرائج والمتعارف عليه بين عموم من يعرف الرجل أو يسمع به من أنه قد انضم إلى الثورة الجزائرية نتيجة لعامل الخوف من جبهة التحرير الوطني وهذا خاصة من بعد مقتل ابن أخيه علاوة عباس.
بداية نقول بأن الحقيقة التي لا يمكن أبدًا القفز عليها هي أن عباس فرحات قد كان موقفه رافضًا للثورة الجزائرية في السنتين الأولتين منها ذلك أنه كان يري فيها عملًا انتحاريًا يمكن أن ينتهي كما انتهت به حوادث 08 ماي 1945 وهو هنا لا يدرك أن وضعية ومكانة فرنسا الاستعمارية قد تغيرت إقليميًا ودوليًا ونحن هنا لا نورد مجرد استنتاجات بل نحن نرتكز على ما جاء في كتاب محمد حربي الثورة الجزائرية سنوات المخاض فهو يخبرنا بأن البورجوازية المسلمة في المدن قد تعودت وألفت النظام الاستعماري إلى درجة أنها لم تعد تدرك هشاشته وهذه القراءة الخاطئة لِـمَا هي عليه فرنسا في العام 1954 هي من دفعت به إلى معادة الثورة في أعوامها الأولى بل نراه ومن خلال زياراته لباريس أو في لقاءاته المختلفة مع المسؤولين الفرنسيين في الجزائر يترجاهم ويطلب منهم تطبيق حزمة من الإصلاحات اللازمة قبل فوات الأوان ولكنهم خيبوا أماله لكونهم أصبحوا على اقتناع تام بأن زمن الإصلاحات قد ولى ولم يبق أمامهم سوى خيار الحرب وهم هنا يكذبون لأنهم يعتقدون بأنهم سيحققون نصرًا عسكريًا في الجزائر يمسحون به عار هزيمتهم في ديان بيان فو ويفرضون به شروطهم إذا ما اضطروا يومًا ما للتفاوض مع الثوار الذين لم يعترف الجانب الفرنسي بهم بعد.
وهناك من يفسر موقفه السابق بأنه نتيجة لجبنه وخوفه من فرنسا الاستعمارية وهذا حكم قاس على الرجل ونراه غير موضوعي ذلك أن رده على الحاكم العام الفرنسي للجزائر إيف لاكوست وقال له: سيدي الحاكم الشجعان في الجبل والجبناء أمامك لهي حجة غير كافية لإدانة الرجل كما أن هذا الكلام ليس اعترافًا منه بالجبن وإنما علينا قراءته قراءة أخرى لوضعه في سياقه التاريخي فالرجل ونظرًا لهضمه لفكر عصر الأنوار قد أصبح مسالمًا وهذا ليس عيبًا أبدًا خاصة وإنه مثقف ومن العيار الثقيل مما جعله يمتلك نظرة مستقبلية متبصرة ثم إن الرجل ينطلق من الواقع فهو يعرف تاريخ فرنسا الهمجي والدموي في الجزائر والرجل في ذمته وحسبه طبعًا شعب كامل لا يمكن المغامرة به فهو يعرف ما يمكن أن تفعل فرنسا الاستعمارية. كما أن الظروف الدولية كانت هي الأخرى عنصرًا هامًا في صياغة تحركاته فالرجل قبل 1939 كان يعيش في ظل فرنسا استعمارية متغطرسة لا تراعي حرمة للدماء فكَـيَّــفَ مشروعه وفق هذا الواقع ولكنه ومع تبدل الظروف الدولية مع الحرب العالمية الثانية ونزول الحلفاء بالجزائر لم تبق فرنسا هي اللاعب الوحيد وعليه فهنا خرج من مطلب الإدماج كحل كان يراه لتحقيق حق المواطنة الكاملة للجزائريين لصالح دولة متحدة لجميع الأعراق مع فرنسا ولكن الظروف والواقع سيتغيران مع بروز الكتلة الشرقية واندحار فرنسا في الهند الصينية وتعاظم الحركات التحررية وبالتالي فقد أصبح من الممكن عمليًا تحقيق الاستقلال للجزائر وفي نفس الوقت فشل مشروعه الإدماجي الذي قـُـبِـر ومعه مشروع الاتحاد الفيدرالي كما أن الرجل قد شعر بخيانة فرنسا عصر الأنوار له نظرا للتحالف الوثيق بين سلطات باريس وسلطات الكولون في الجزائر كما أنه اقتنع باستحالة دعم فرنسا البروليتاريا لمشاريعه وهنا نقصد فرنسا غير الرسمية وفرنسا الثورية وهذا ما يخبرنا به في كتابه ليل الاستعمار حيث يقول “بالعكس ما كنت أعتقده لمدة طويلة أن وجود البروليتاريا الثورية، والليبراليين بفرنسا سوف يدعم مطالبنا، لقد خيبت آمالنا”. وهنا لم يُبق الاستعمار ومعه فرنسا الجمهورية للرجل من خيار ثالث سوى الالتحاق بالعمل الثوري المسلح كخيار استراتيجي لاسترجاع السيادة الجزائرية المسلوبة وما يترتب عنها من حقوق طبيعية للوطن ومن عليه.
كما يمكن تفسير موقفه المعادي للثورة في بداياتها إلى تكوين الرجل فهو قد كان ضد العنف وأي كان مصدره وهذا ما يصرح به في كتابه ليل الاستعمار فهو يقول فيه “أكره العنف، وأكره الظلم أكثر، وأنبذ الأقلية المسيطرة، في الجزائر الظلم هو السائد، وجذوره عميقة، فمن العبث أن نحمل المسؤولية لهؤلاء المحتلين السيئين، ونبعد الفرنسيين الآخرين، إنهما متكاملان، المحتلون هم نتيجة ثمار نظام سيئ”.
انتهاء الارتباط الفرنسي
يمكن القول بأن انضمام الرجل إلى الثورة التحريرية الكبرى قد جاء وهذا من بعد أن أحدث قطيعة كاملة مع معتقداته السياسية السابقة والتي عول عليها قبل العام 1956 فحتى الأصوات المعتدلة في فرنسا قد خذلته ولذا فها هو يصرح بأن “صفحة من حياتي قد طويت، وانتهت لغة الحوار بين الفرنسيين والمسلمين، ولم يبق إلا الجهاد مع إخواننا في جبهة التحرير الوطني من أجل شرف وطننا” ولهذا فالرجل قد طلق أفكاره الإدماجية والفيدرالية وبصورة نهائية وهذا ما جاء في كتاب عز الدين معزة المذكور أعلاه وهذا في معرض تعليق عباس فرحان على المفاوضات مع فرنسا فها هو يقول “إن مطالب المجاهدين في الجبال كثيرة، فهؤلاء عانوا كثيرًا، أتريدون مني أن أخدعهم؟ وأجري مفاوضات بدون ضمانات كافية، لكي يقولوا علي هناك: انتهى عباس العجوز، ها هو قد عاد إلى أفكاره الأولى، وهي الوفاق مع فرنسا بأي ثمن”.
نعم إن الرجل قد تغير وبصورة جذرية على الأقل في المجال السياسي فحتى نصائحه للنظام الاستعماري لم يعرها هذا الأخير أدنى اهتمام فعباس فرحات ومن خلال دراسته للتاريخ الروماني في الجزائر واستنتاجه بأنه قد فشل وأفلس وانهار في الأخير وهذا على عكس الفتح الإسلامي والذي يراه ناجحًا ولذا فقد نصح فرنسا الاستعمارية بضرورة تقليد العرب لا الرومان وما دامت فرنسا لم تستمع لنصيحته فهذا جعله يبتعد عنها لصالح النموذج الآخر نموذج الثورة لأنه لا يمكن له أن يبقي يسير خلف نموذج ظالم وفاشل وهذا الكلام يخبرنا به هو ذاته في كتابه الشباب الجزائري. إن فشل كل مظاهر سياسة الإدماج والمقترحة من الجانبين الجزائري والفرنسي وعلى رأسها إصلاحات 1919 ومشروع بلوم فيوليت 1936 ومن قبرها هم الكولون دومًا والذين يفتخرون بوقاحة وبصلافة من أنهم استطاعوا قبر إصلاحات بلوم فيوليت وهذا ما يخبرنا به أبو القاسم سعد الله في كتابه الحركة الوطنیة الجزائریة حيث جاء فيه “كان مصير المشروعين الفشل، نتيجة تحرك المعمرين وضغطهم الممارس على الإدارة رافضين أي تغيير للواقع القائم، هذا الواقع الذي جعل منهم سادة في الجزائر… “ولهذا فهم لم يتركوا أمام عباس فرحات من منفذ لإنقاذ شعبه سوى الالتحاق بالثورة وبالثوار. والحق يقال بأن الرجل قد حاول عبثا إقناع فرنسي الجزائر بعدالة مطالبه ومشروعية تطلعاته إلى الانضمام إلى العائلة الفرنسية وهذا كما جاء في كتابه ليل الاستعمار وفي كتاب أبو القاسم سعد الله السابق الذكر ولكنه فشل فلم يجد من مخرج سوى الانضمام للتيار الاستقلالي بزعامة جبهة التحرير الوطني وليصبح بذلك أحد ابرز رجالاتها.
كما أن المؤرخ محمد حربي يخبرنا بأن الشباب الجزائري يئس من فرنسا ومنهم فرحات عباس -ونحن هنا وصلنا إلى محطة الثورة الجزائرية أين لم يعد عباس فرحات شابًا- وعلى الرغم من سقوطهم أي الشباب الجزائري في أحابيل الاستعمار إلى حد التشكيك في تاريخ بلادهم إلا أن هذا لم يجردهم من صفة الانتماء إلى شق المنهزمين وبالرغم من رفعهم لمبادئ ثورة 1789 إلا أنه كان من المستحيل التوفيق بينها وبين القهر والتعسف والميز العنصري؟ فهذا التناقض سيرتد والكلام دومًا لمحمد حربي ضد الاستعمار وسيكشف القناع عن وجهه الحقيقي. وهو نفس العامل الذي سيسرع عملية تغير قناعات عباس فرحات مع صدمته في فرنسا الجهورية وفرنسا الطبقات الكادحة وفرنسا المقاومة وهذا ما نجده في قوله من أنه ولمدة طويلة كان يعتقد “أن وجود البروليتاريا الثورية، والليبراليين بفرنسا سوف يدعم مطالبنا، لقد خيبت آمالنا”. ولهذا فانضمامه للثورة ليس بالأمر المستغرب أبدًا.
هناك من يتساءل كيف استطاع فرحات عباس أن يحل حزبه “الاتحاد الشعبي الجزائري” في أقل من 24 ساعة ويلتحق بالجيش الفرنسي ليدافع عن فرنسا وهذا عقب اندلاع ح ع 2 في حين أنه بقي يفكر عامًا ونصف العام حتى التحق بالثورة الجزائرية وتفسير هذا نجده في ما يخبرنا به الرجل نفسه فهو يقول بأنه قد تطوع في الحرب ليدافع عن القيم الديمقراطية والجمهورية التي يؤمن بها وتلك الأفكار أصبحت لتلك النخبة المتفرنسة ومنهم عباس فرحان بمثابة الدين وهذا الكلام نقتبسه من كتاب محمد حربي الثورة الجزائرية سنوات المخاض وعليه فلم يكن من السهل عليه أن يتخلى عن قناعاته بسهولة والهجرة صوب جبهة التحرير الوطني وعقيدتها الاستقلالية فمن طبع الإنسان التمسك بعقائده حتى ولو اقتنع بخطئها وعدم صدقيدتها ومن الصعب عليه التنازل عنها بسهولة فهو كان لا يؤمن بالعمل العسكري كحل للقضية الجزائرية وإنما الحل يراه في أسلوب البروليتاريا الأوروبية ضد همجية الرأسمالية الجبارة والكلام الأخير ننقله دوما من كتاب محمد حربي المذكور أعلاه.
إن مسألة قتل ابن أخيه عباس علاوة عباس في قسنطينة على إثر هجومات 20 أوت 1955 قد تجاوزها عباس فرحات حيث اعترفت قيادات الثورة سواء في القاهرة أو الجزائر وعلى رأسهم عبان رمضان والذي أقر له وجه لوجه بذلك الخطأ وعليه فهو قد تجاوز أصلًا تلك الحادثة وأصحاب هذا الطرح يزيفون الحقائق ويظهرون للقارئ كأنه كان متخفيا وتحت الحماية الفرنسية خوفًا من اغتيال الثورة له وهو كلام ينافى الواقع فالرجل كان يزوره قادة الثورة في بيته قبل انضمامه لها وقدم لعبان رمضان مبلغ 2 مليون فرنك فرنسي وهو مبلغ ليس بالهين في تلك الفترة ومعه حقيبة أدوية. وكذلك الحال في فرنسا فالرجل كان على اتصال مباشر بالثورة وهذه الأخيرة ليست من مصلحتها أصلًا خسارة عباس فرحان لأن انضمامه لها سيعطي لها شرعية كبرى وسوف يوسع قاعدتها وقاعدة المتعاطفين معها داخليًا وخارجيًا فالرجل وزنه ليس بالقليل وهذا ما تحقق لها فعلًا ومن يروج لهذا الطرح فهو ليس على دراية كافية بالمسار النضالي للرجل قبل انضمامه للثورة.
ولو كان الخوف هو من جعله يلتحق بجبهة التحرير الوطني وبالثورة الجزائرية أو أن قتل ابن أخيه من قبل الثورة هو العامل الحاسم في التحاقه بها فهذا ظلم للرجل فمن هُـدِّدَ أكثر من قبل الثورة الجزائرية أعباس فرحات أم الباشاغا بوعلام والذي فقد 17 فردًا من أفرد أسرته ومع ذلك لم يلتحق بالثورة الجزائرية وبقي أسيرًا لأفكاره الخاطئة والتي مفادها أنه لا يمكن هزم فرنسا عسكريًا أبدًا مع رغبته في أن يكون فرنسيا. في حين أن عباس فرحات كانت تحركه عوامل أخرى جعلته يهاجر صوب معسكر الثورة وهي إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه فالرجل قد أصبح على اقتناع تام باستحالة إصلاح أو تغيير الأوضاع في الجزائر المستعمرة لكونها نتاج نظام سياسي سيء يجب القضاء عليه وإحلال محله نظامًا بديلًا له. نظام ديمقراطي ليبرالي يراعي الحقوق الأساسية للإنسان وبالتالي فهو قد اقتنع بأن لا حل للمعضلة الجزائرية إلا بالعنف الثوري النظيف لأنه يستحيل شفاء هؤلاء الغزاة من الفكر الاستعماري في حين يمكن شفاء مريض من مرض السرطان وهذا كما جاء في كتابه ليل الاستعمار خاصة وأنه قد راهن على أن “السلام والإخاء، هما المستقبل الذي يجمع الجزائريين المسلمين، والأوروبيين المحتلين وهذا كما جاء في كتابه الشباب الجزائري ولكن الكولون كانوا وعلى الدوام يجهضون كل محاولة في هذا الاتجاه. وعليه فبقدر ما كان عباس فرحات يبتعد عن المجموعة الفرنسية في الجزائر بقدر ما كان يقترب من التيارات الوطنية الجزائرية فهو يشترك مع كلا الطرفين في أرضية مشتركة تقلصت وانكمشت تلك التي تجمعه بالجزائر الفرنسية لحساب تلك التي تجمعه مع الجزائر الجزائرية خاصة وأنه لا مشكلة له مع أهداف التيارات الوطنية والإصلاحية الجزائرية والتي انصهرت كلها تقريبا في جبهة التحرير الوطني فلما يأس الرجل من الجزائر الفرنسية كان سهلا عليه الارتباط بالجزائر الجزائرية والانضمام إليها والتي يلتقي معها في جل الأهداف كوضع حد للنظام الاستعماري كأولوية الأولويات ثم إخراج الشعب الجزائري من بؤسه المفروض عليه وهو الذي ربط مصيره به حتى أنه رفض التجنيس -مع أن كل الشروط متوفرة فيه- ولكن ومن دون شعبه البائس فهو لا يريده وكان له ما أراده وهذا عقب انضمامه إلى الثورة التحريرية المباركة.
كما أن الرجل قد اعتذر وتخلي عن مقولاته السابقة ومن دون أي ضغط أو إكراه وكان يمكن أن يستقر في فرنسا مع زوجته الفرنسية أو يرحل مع المحتل بعد استعادة السيادة الوطنية المغتصبة. كما أنه لو تراجع عن معتقداته بعد الاستقلال لقلنا بأنه قد غير جلده تماشيًا مع ظروف المرحلة لكونه انتهازيًا ولكنه كان ضحية مغالطة مفادها أن الجزائر امتداد جغرافي طبيعي لفرنسا. وهنا علينا أن نفرق بين عباس فرحات التلميذ والطفل الصغير المنبهر بأضواء فرنسا الاستعمارية وعباس فرحات الشاب ثم الكهل الناضج المتعقل فالشيخ الحكيم فها هو يعلنها صراحة بأنه قد كان مخطئًا في العام 1936 وهذا حينما نفي وجود الوطن الجزائري ولذلك فها هو يتوب ويتراجع عن هذه الخطيئة وهذا عندما يقول “إن الوطن الجزائري الذي لم أجده سنة 1936 في أوساط العامة من المسلمين وجدته اليوم” ولذلك فقد أسس إتحاد الشعب الجزائري واسم هذا الحزب هو ترجمة حرفية لقناعات الرجل الجديدة ولهذا فهو قد بدأ وبصورة تدريجية يتخلص من قناعاته السابقة لصالح قناعات جديدة ستتوج بالانضمام إلي الثورة التحريرية المباركة وبالتالي فحصر سبب انضمامه للثورة التحريرية المجيدة في خوفه منها لهو قول مضلل وغير مقبول وهو يعبر عن جهل أصحابه بتاريخ الرجل النضالي الممتد لأكثر من 30 سنة قبل الثورة أو هو بغية تحقيق أهداف مغرضة كما هو الحال مع ديغول فيما بعد والذي حاول الحط من قيمة الرجل بقوله “لم أتكلم بلغة عدوي، ولم أتزوج بعدوتي، ولم أبحث عن تاريخ أجدادي في المقابر”.
إننا نجد بأن الرجل ومع الزمن بدأ وبقدر ما يبتعد عن أطروحة الإدماج بقدر ما أصبح يقترب من الجزائر الجزائرية والحركة الوطنية الجزائرية ليصل إلى آخر محطة ألا وهي الطلاق التام بينه وبين مقولة الإدماج لصالح فكرة الاستقلال التام والذين يلومون عباس فرحات على حماسه لفكرة الإدماج يقفزون على الواقع فالرجل وبشهادته هو وجيله قد كانوا ضحايا أسطورة وسحاب من الدخان المظلل ومن المستحيل أن ما غرسه الاستعمار طوال قرن من الزمن يمحى في لمح البصر فلسنا في زمن المعجزات. ومن جهة أخرى فإن تعنت الكولون ووقوفهم في وجه أدني الإصلاحات التي يمكن أن تقدم للجزائريين قد كان هو الديناميت الذي سيفجر سياسة عباس فرحات الإدماجية ويجعله يهاجر وبصورة نهائية وبلا رجعة لصالح ضفة المطالب الاستقلالية وهذا ما نجده في قوله في كتاب ليل الاستعمار من أن “الطريقة التي ترتكزون عليها ستؤدي بدون شك إلى زوال الأمل وسينتج عنها الطلاق، وعلى الحكومة الفرنسية أن تكون مسؤولة أمام التاريخ”. وما زاد من تسريع وتيرة إجراءات الطلاق بينه وبين فرنسا هو خيبة أمله وخروجه صفر اليدين من الحرب العالمية الثانية بل إن نتائجها قد كانت عكس ما أمل من إنهاء للنظام الاستعماري وزادت مجازر 08 ماي 1945 من تعميق الهوة بين الطرفين في ظل وجود الكولون الضعاف سياسيًا والمنحطين أخلاقيًا بتعبيره هو شخصيا فكان انضمامه للثورة التحريرية أمر مفروغًا منه وهو مسألة وقت لا أكثر.
ولذلك لا يجب أن نتجه صوب التفسير الأسهل لسلوكيات الرجل فهو لم يكن خائفًا على نفسه بل كان مرعوبا مما يمكن أن يفعله الاستعمار الفرنسي بشعبه خصوصًا وأن ذكريات القرن التاسع عشر المليئة الدماء والجروح النازفة قرن الأحزان كان من نصيب الجزائريين وهذا كما جاء في كتابه الشباب الجزائري فهو يقول “إن القرن الذي مات كان قرن الدموع والدماء ونحن الأهالي بالخصوص من بكى ومن نزف وعليه فإننا ندفنها بلا أسف ولا فرح” ولذلك فهو لا يريد أن تمر أيام جديدة عصيبة على شعبه كتلك الأيام وهو الرجل المثقف وذو الإحساس المرهف والمصقول بفعل فلسفة عصر الأنوار والتي من يعتنقها لا بد أن يكون إلا على شاكلة عباس فرحات ولذلك فهو قد أراد أن يعيد لشعبه الحرية المسلوبة ويسترد له حقوقه المصادرة وبأقل الخسائر الممكنة ولذلك فقد كافح وناضل قرابة الثلاثين عاما لأجل تحقيق تلك الأهداف. ولكن فرنسا الاستعمارية قد خيبت آماله فزيادة على التقتيل الهمجي والوحشي لشعبه مع غطرسة الكولون فها هي تقطع أي طريق سلمي أمامه وأمام الشعب الجزائري وذلك عبر تزوير الانتخابات ومنها انتخابات 1948 ثم انتخابات جوان 1951 فلم يبقي للرجل من طريق يسلكه سوى الانضمام للثورة التحريرية الكبرى. وهذا ما نجده في قوله “إن تنازلت باريس أمام الأوليغارشيات المالية، وأظهرت ضعفها ووهنها بخصوص وعد فرنسا واحترام القانون الفرنسي وتطبيقه، فانه لن يبقى أمام الجزائريين سوى الاختيار بين السجن أو الجيل” وهذا الكلام نقتبس من كتابه ليل الاستعمار وبالفعل فقد صعد الجزائريون إلى الجبل لأن كل الطرق قد سُـدّتْ أمامهم ونحن كلنا نعرف تلك التصريحات الرعناء والتي أطلقها مسئولو فرنسا الرسمية عشية اندلاع ثورة أول نوفمبر ولعل أبرزها ما صرح به فرانسوا ميتران وزير الداخلية حيث قال بأن المفاوضات الوحيدة هي الحرب فماذا بقي للرجل غير الانضمام إلى الحرب والتي فرضوها عليه فرضًا.
كما أنه ليس من حقنا أن نبنى استنتاجاتنا اعتمادًا على قراءتنا الذاتية للرجل وإنما الرجل كَـتَـبَ بما فيه الكفاية وبشكل صريح لنعرف مواقفه وكيف تطورت ولا داعي لكي نبني مجدنا الشخصي فهذا ليس من النبالة في شيء على حساب الرجل فعملنا هذا وشاية ونميمة ودعاية مغرضة وحديث مقاهي حتى ولو ألبسناه لباس العلمية وعليه فليس من حق من يختلفون مع الرجل عقائديًا من اشتراكيين وشيوعيين وممن ينتمون إلى الإسلام السياسي أن يقيموا للرجل محاكمات وبأثر رجعي معتمدين مرحلة ما من حياته دون النظر إلى مسيرته ككل وكأن الرجل ما زال يعيش بيننا وينادي بضرورة تطبيق برنامجه. ولذلك وجب علينا إحياء ماضيه لنقطع عليه الطريق هذا هو عين العبث لأن برنامج الرجل قد طواه التاريخ وإلى الأبد وهو لا يهم اليوم إلا الدراسات الأكاديمية المتخصصة. ومهما انتقدنا الرجل ومهما عددنا سلبياته فلا يمكن لأي أحد منا أن يطعن في ولائه لوطنه ولشعبه ولدينه وللغته العربية هذه الأخيرة والتي لم يكن يحسنها لفرض اللغة الفرنسية عليه فرضًا من قبل النظام الاستعماري والذي كان عباس فرحات عدوا له وفي نفس مستوى عداء مصالي الحاج والعلماء وإن اختلفوا في كيفية التعاطي معه وفي الآلية التي يجب اتخاذها للقضاء عليه.
وهناك تيار آخر كما لو أن أصحابه لا يحلو لهم إلا النبش في القمامة كما يقال وكأن هناك ثأر بينهم وبين الرجل فمنهم مثلًا من يدعي بأنه كان له قدرة عجيبة على التلون وبالتالي فهو كالحرباء يغير لونه وجلده حسب الظرف والطلب والحاجة وهذا طعن صريح في وطنية الرجل وفي شخصه فهو حسبهم رجل انتهازي يركب الموجة ليحقق مصالحه وهي نظرة قاصرة سببها عدم الاطلاع الكافي على قناعات الرجل وأسلوبه في النضال فتلك الاتهامات أي الانتهازية والتلون المصلحي يرفضها عباس فرحات ويمقتها ويحتقرها ويزدري أصحابها وهذا ما نجده في معرض حديثه في كتابه ليل الاستعمار عن المعمر موريل ومن معه ممن شكلوا اللواء الفاشي في الجزائر على عهد حكومة فيشي ثم سرعان ما قلبوا لها ظهر المجن بعد نزول الحلفاء بالجزائر في نوفمبر 1942، كما أن الرجل كان يحتقر الجبن والخوف وهذا ما يظهر جليًا عند حديثه عن بني وي وي والذين يصفهم بالإذناب المارقين الذين استحوذ عليهم الخوف والجبن ألا يعلم عباس فرحات بأنه ومتى انتهج أسلوبهم ذاك كان سقوطه الحر وأن في هذا الأسلوب انتحاره هو وتياره وعليه فمصلحته تفرض عليه أن لا يكون من ذلك الصنف.
إن الرجل وإلى غاية 1954 كان يأمل في أن تلبى فرنسا الجمهورية مطالب الجزائريين العادلة فها هو في العام السابق الذكر يخبرنا بأنه وأثناء زيارته لباريس قد التقى بالجنرال جوان وتفهم هذا الأخير مطلب قيام جمهورية جزائرية ولكنه أخبره بأنه ولكي ترى النور فلا بد من أن يوافق عليها الكولون وهكذا وصل الرجل من جديد إلى طريق مسدود ورجع إلى أول مربع مرة أخرى وما كان له أن يتقبل هذا العبث الغير منتهي وهنا تأكد الرجل من استحالة قيام الجمهورية الجزائرية من دون عنف ثوري نظيف وفي مقابل أهداف فرحات عباس هذه فإننا نجد برنامج مضاد للكولون وفيه يكفرون بالمبادئ التي يناضل في إطارها الرجل كالديمقراطية والانتخابات والتي هم يريدونها متى خدمت مصالحهم وفقط لا تلك التي يتساوون فيها مع 07 ملايين من الراطون هؤلاء الكولون الذين يتفاخرون بانتهاكهم للقانون وبتمييع للمطالب المشروعة للجزائريين فمطلب المساواة عندهم قد تحقق من خلال التمثيل النيابي وهذا كذب واستخفاف بنضال الجزائريين واحتقار لهم وأي مساواة هذه والتي يتساوى فيها 10 ملايين جزائري بكمشه من الكولون وأي مساواة هذه في برلمان يقوم على الفصل العنصري في غرفتين وأي مساواة في ظل تلك الترسانة من القوانين الاستثنائية ؟ وكيف التعامل مع نظام استعماري لا يخضع إلا للعنف ولا يستسلم إلا للقوة كما يخبرنا بذلك في كتابه ليل الاستعمار.
وها هو الرجل يستفيق من أحلام الشباب كما يقول تلك الأحلام التي ارتطمت بصخرة الحقائق المرة أين فولتير Voltaire ومونتيسكيو Montesquieu وديدور Diodore أين مبادئ ثورة 1789؟ وأين؟, وأين؟، لقد كنس الجميع النظام الاستعماري وداس القانون ليحافظ على مصالحه ولهذا فقد اقتنع الرجل بأنه من العبث أن نكون نحن حزبًا تقدميًا يحترم القوانين التي كانوا هم أول من داسها. ولذا وحسبه دوما فالجزائر قد كانت تقف فوق فوهة بركان وأن ساعة القيام بعمل إيجابي قد دقت. ذلك أن الرجل لم تعد له ثقة في رشد الفكر الفرنسي نفسه ذلك الفكر الذي أصبح في نظره عاجزًا ومفلسًا مما أدى إلى تدابر الجزائر وفرنسا منذ العام 1948 وطبعا عباس فرحات مرتبط وبصورة عضوية بشعبه وحيثما كان الأخير فسوف ينحاز له وللجزائر وما دام شعبه قد انحاز إلى صف الثورة التحريرية فقد انضم هو الآخر إليها بسبب كل ما تقدم ذكره وبهذا كان الطلاق البائن بينه وبين فرنسا.
فهو يخبرنا في تصديره الخاص بكتابه الشباب الجزائري بما يلي “إن ما بين زمن شبابنا الأول والزمن الذي نعيش فيه اليوم عالم قد انهار وآخر مختلف قد برز أمام أعيننا لقد كسح التاريخ المخططات الكئيبة لأوروبا الاستعمارية…”، والرجل في الفترة ما بين الحربين قد كان مكبلًا بسطوة ذلك النظام القائم وبتلك المخططات الاستعمارية الكئيبة والتي لم يكن هناك صوت يعلو على صوتها ولذا وكنتيجة لعجزه التام عن مواجهتهما فقد تكيف مع هذا الواقع ولذلك فهو قد كان يرغب في أن يحصل من المستعمر الغاصب على إصلاحات عميقة كفيلة بعلاج حالة اليأس لدى شعبه والكلام الأخير لعباس فرحات. وعليه لا يمكن قراءته بأدوات حقبة ما بعد الاستقلال أي ما بعد 1962 وخصوصًا من قبل ما سيعرف بالإسلام السياسي الخانق على الرجل والمعادي له وهو تيار معاق ذهنيًا وفكريًا ومفلس أيديولوجيًا وثقافيًا ولا من قبل ممن يجرون وراء أوهام وطوباويات ماركس بل يجب قراءته وفق معطيات عصره ونحن هنا لا ندافع عن الرجل فتاريخه هو خير مدافع عنه ولكننا ضد النظرة القاصرة أو النظرة الغائية والمغرضة للأمور بهدف تحقيق مكاسب ذاتية وآنية عبر الإساءة للآخرين فهذا منهج غير أخلاقي يعبر ويخبر عن إفلاس صاحبه وعن عهر سياسي وفكري فهو ليس لديه ما يعرضه على الناس من مشاريع فيغطي هذا العجز بانتقاص وشتم الآخرين والتعريض بهم وعليه فنحن نقول بأنه لمن الظلم له عندما نقرأه قراءة خاطئة تخرجه عن سياقه الطبيعي فها هو الرجل يتفهم في تقديم كتابه الشباب الجزائري تلك التهم التي تكال إليه ويرد عليها ردا نراه موضوعيًا لمن يريد الاطلاع على الموضوع أكثر.
لعل تفسير هذا نجده فيما يخبرنا به الفقرة التالية “إن مدلول التاريخ الجزائري منذ الاستقلال، ترك البعض يشككون في معظم المثقفين الجزائريين، الذين تلقوا تكوينهم في المدارس الفرنسية وجامعاتها حيث اتهمهم الجزائريون المعربون بأنهم كانوا خطرين ومنافقين لأنهم قاموا بتغطية حقد فرنسا على الجزائريين، إنه اتهام خادع لجأ إليه هؤلاء الأتقياء الذين يشبهون الجزويت، أصحاب النظرة الضيقة… كان ذلك مستبعدًا لدى معظم الطلبة المتخرجين من الجامعات الفرنسية… لم يحمل هؤلاء الشباب الجزائري الإحساس بأنهم فرنسيون إلا للضرورة من أجل الدفاع عن الحقوق والمساواة”. ونحن نقتبس هذا الكلام من كتاب عز الدين معزة المذكور أعلاه.
كما أننا وبأحكامنا السابقة نظلم عباس فرحات وننسب له تهما هو بريء منها ولنا المثال التالي جمعية العلماء المسلمين اهتمت بتعليم الجزائريين ولذا فقد أولت في مشروعها الإصلاحي أهمية كبرى للجانب التعليمي لماذا لأن التعليم هو من سوف يحرر الفرد من سيطرة الخرافات والشعوذة ومن قبول الاستعباد والرضوخ له وهذا لعدم معرفة الفرد لحقوقه وواجباته والتعليم هو الرهان الوحيد الذي كان سينهض بالشعب الجزائري ويخرجه مما يعاني منه من بؤس ومن حياة لا فرق بينها وبين حياة البهائم بتعبير عباس فرحات نفسه وعليه فلا مكان في الجزائر لغالب ومغلوب ولا لسيد وعبد أو لخماس وهذا في ظل وجود التعليم وتلك الأهداف التي سطرتها جمعية العلماء المسلمين والسابقة الذكر هي نفسها التي سطرها وناضل لأجلها عباس فرحات وراهن على عنصر التعليم في تحقيقها ولكن الاختلاف بينه وبين العلماء هو أن الشيخ ابن باديس قد كان اتجاهه عربي إسلامي في حين اتجاه عباس فرحات قد كان ليبرالي مفرنس ولكن في الحقيقة فإنه لا يوجد حد فاصل بينهما في هذا الأمر ولكن الاستنتاج المظلل هو من دفع صوب هذه النظرة الخاطئة للرجل فالجمعية لا تتخذ موقفًا معاديًا من العلوم المدنية الحديثة ولا عباس فرحات يتخذ موقفًا معاديًا من حضارة الشعب الجزائري ودينه ولغته العربية والدليل أنه وضمن برنامجه يطالب دومًا بأن تكون العربية لغة رسمية ولغة للتدريس في الجزائر جنبًا إلى جنب مع اللغة الفرنسية وهذا ما نجده في بيان الشعب الجزائري لشهر فيفري 1943 والذي كان قائمًا على صياغته ومن أبرز مطالبه الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية بجانب اللغة الفرنسية وهو نفس مطلب الجمعية ومصالي الحاج فلماذا التجني فقط على فرحات عباس والكل يلتقي في أرضية مشتركة واحدة مفادها ضرورة احترام حضارة وهوية الشعب الجزائري مع ضرورة الأخذ بالمعارف الحديثة .
هذا التوجه من عباس فرحات كان ينظر إليه من قبل المحافظين على أنه انحراف خطير وخيانة وتلويث للموروث الحضاري للشعب الجزائري لأن هذا الأخير هو آخر طوق نجاة له وآخر خط وحصن دفاع يمكن به وعبره أن يسترجع هويته التي كاد الاستعمار أن يمحوها ومعها يسترجع سيادته التي صودرت منه وما يتبعها من حقوق مشروعة سلبت واغتصب هي الأخرى منه بالقوة ونحن هنا نتحدث عن جزئية من مشروع فرحات عباس وليس عن مشروعه ككل خاصة وأن هذه الفترة تمثل حقبة انبعاث الحركة الوطنية الجزائرية وما صاحبها من مشاريع متناقضة أحيانا نظر للاختلاف الجوهري في منابعها فهذا مرجعيته إسلامية والآخر ماركسية والآخر ليبرالية علمانية فمن الطبيعي أن يحدث مثل هذا التراشق ومثل تلك المعارك بين كل تلك الاتجاهات المختلفة والرجل قد كان ينطلق من فلسفة عصر الأنوار ومن الواقع المعاش في الفترة ما بين الحربين وقبل العام 1956، ولذلك فقد كانت أهدافه وكما يخبرنا أبو القاسم سعد الله في تقديمه لكتاب الشباب الجزائري هي تكوين دولة قوية على غرار اليابان وفرنسا وربما المعطيات التي توفرت له كانت غائبة عن زعماء بعض التيارات الأخرى وربما هذه المنطلقات هي سبب سوء فهمنا للرجل، ولئن كانت حقا هذه هي أهدافه فأنى أن يفقهها أن يعتنقها بعض خصومه وهم من يتطلع إلى الماضي إلى دولة دينية غلى غرار دول العصور الوسطي والعهود العثمانية وحتى مفهومهم لما يصبون له ونتيجة لسياسة التجهيل فهو مفهوم مشوه وطوباوي جاء كرد فعل على الواقع المعاش المزري والمر، في حين هو كان يتطلع إلى دولة المستقبل دولة حديثة ليبرالية وعصرية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان يكون فكر الثورة الفرنسية وفكر عصر الأنوار هما ركائزها مع احترام هوية الشعب الجزائري وحضارته.
تلك المعتقدات والتي بموجبها قد كان ينكر وجود الأمة والوطن الجزائري حتى أنه بحث عنه في المقابر وسأل عنه الأموات والأحياء ولكنه لم يجده وكان هذا طبعا في العام 1936 ولكن الرجل قد تاب قبل موته من هذا التجديف في حق الوطن فها هو يقول بأن “الوطن الجزائري الذي لم أجده سنة 1936 في أوساط العامة من المسلمين، وجدته اليوم”، صحيح أنه قد وجده وبصورة متأخرة نسبيا ولمنه في الأخير قد وجده. كما أن الرجل قد تاب من مقولة الجزائر الفرنسية وهذا ما نجده في كتابه ليل الاستعمار وأصبح يعتبرها كفرًا بالمنطق السليم حيث يقول بأن الكولون قد اغتصبوا ثروات بلاد عربية أي الجزائر وهي الصورة الناطقة لما يسمونه بالجزائر الفرنسية هذه العبارة التي أصبح يعتبرها من المفتريات الملفقة، وهو يتعجب كيف أصبح الجزائريون جزء من الشعب الفرنسي وهم عرب ومتى مارسوا حبة خردل من السيادة الفرنسية؟.
أما النظام الاستعماري فالرجل كان يعادينه وهذا منذ أن فتح عينيه عليه ويعتبره شظايا دنسة من ماضي قذر ونحن هنا نقتبس دومًا من كتابه ليل الاستعمار. ولماذا غير الرجل موقفه من الوجود الفرنسي في الجزائر هذا ما نجده في اعترافه وإقراره في آخر أيامه أي في العام 1981 من أنه قد “كان واهمًا في هذه الفترة، لقد أدرك بأن الاحتلال لا يقوم إلا على السيطرة والاستغلال تلك قاعدته وركيزته الأساسية، وأن الطبقة الحاكمة في فرنسا كانت متفقة مع ساسة المحتلين في الجزائر”، هذا ما جاء في كتابه الشباب الجزائري والذي لا يزال موجودًا بين أيدينا ويمكن الرجوع له متى شئنا.
كما أن الرجل قد كان ضحية لكل من اختلف معهم ففضلًا عن أبناء جلدته فها هم الكولون وكما يخبرنا هو في كتابه ليل الاستعمار قد كانوا يتهمونه بالمكر وبقلة الإيمان بما يدافع عنه ولكن أقوال الرجل تدحض هذا الهراء. إن الرجل في كتابه ليل الاستعمار ليخبرنا بأن المواطن الجزائري العربي والبربري لهو وارث لحارة رائعة وللغة قيمة ولتقاليد محترمة أما الإسلام فيقول عنه في كتابه الشباب المسلم بأنه “وطن روحي بلا حدود يوجهنا من المهد… وعليه فقد بقيت مسلمًا وجزائريًا بكل شعيرات روحي” ولولا الخوف من الإطناب لأتينا على كل ما قاله من كلام يمتدح فيه هوية ولغة وميراث شعبه.
نحن نضمن بأن الكل قد كان يخاف من الرجل الأعداء والأصدقاء على حد سواء ولذا فهو قد نال من التشهير والتجريح والسب والشتم والطعن أكثر مما يجب حتى بدت الهجمة عليه وكأنها عملية تصفية حسابات ومعارك لا تزال جارية بين معسكرات فكرية وعقائدية ومصالح اقتصادية وسياسية وأداتها عباس فرحات أما يكفيه وصف المفكر الكبير مالك بن نبي له بالمهرج وتصنيفه ضمن فئة الدراويش ومع الطرقية حتى أنه أنزله من درجة المثقف إلى درجة المتثيقف وهنا نحن نقول كفى هجوما عليه فالرجل قد أقرَّ وأعترف بأنه قد كان مخطئا ليس مرة واحدة وإنما عدة مرات وماذا كنا نفعل لو كان بعضنا مكانه لما كنا تفوهنا بكلمة واحدة أمام وحوش بشرية تسمى المعمرين وهي قطع حقيقية من الجحيم. كما أنه قد تاب من خطيئة وكبيرة الجزائر الفرنسية ومن سياسة الإدماج ومع هذا فلا زلنا نحاسبه على نضاله في حقبة الشباب ونتغاضى عمدا عن نضاله في حقبة الكهولة والشيخوخة وهو الذي زار العالم كله تقريبًا إبان الثورة التحريرية المباركة وحقق لها انتصارات سياسية أشبه بالمعجزات ألا يشفع له كل هذا؟ كما أننا نرى بأنه من الظلم اختزال فرحات عباس في مقولة تحتمل عدة قراءات قالها الرجل في ظروف خاصة ولا تتجاوزها لغيرها أبدًا.
يمكن القول بأن عباس فرحات في مرحلة ما من حياته النضالية كان يتمنى ويأمل في أن تستمر الجزائر الفرنسية في الوجود مقامة على أسس الثورة الفرنسية الكبرى جزائر فرنسية لكل سكانها ولكن فرنسا الاستعمارية هي من أجهضت حلمه هذا ودفعته إلى الانضمام إلى جزائر الثورة الكبرى .
لذلك فهو قد ناضل من أجل هدف مستحيل التحقيق على أرض الواقع وهنا نقصد مطلب الإدماج هذا المطلب الذي كان الفرنسيون أنفسهم يرفضونه وهذا ما يذكره هو نفسه في كتابه ليل الاستعمار وهذا حينما يتحدث عن العائق الذي يراه الفرنسيون يحول بينهم وبين جعل الجزائر فرنسية ألا وهو صعوبة إدماج العنصر العربي أو إبادته. والعنصر الجزائري كان يرفض سياسة الإدماج أيضًا وخير من عبر عن هذا الموقف هو الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه ولذلك فقد وصل عباس فرحات إلى طريق مسدود وهذا خاصة في ظل رفض الكولون لأي نوع من أنواع الحكم يمكن للأهالي أن يشاركوا فيه فما كان على الرجل مرغمًا إلا الانضمام إلى معسكر دعاة الاستقلال.
بعد الثورة
بعد أن اندلعت الثورة الجزائرية في 1 نوفمبر 1954، كتب فرحات عباس في صحيفة الجمهورية العدد 46 بتاريخ 12 نوفمبر 1954: “إن موقفنا واضح ومن دون أي التباس. إننا سنبقي مقتنعين بأن العنف لا يساوي شيئا”. ولكنه ما لبث أن غير موقفه تمامًا، إذ قام في أبريل 1956 بحل حزبه وانضم إلى صفوف حزب جبهة التحرير الوطني وكان قبل ذلك قد توجه إلى القاهرة ليلتقي بقادة الثورة ومن بينهم أحمد بن بلة، وفي صائفة 1956 قام بجولة دعائية للثورة الجزائرية في أقطار أمريكا اللاتينية كما زار عدة عواصم عالمية أخرى، من بينها بيكين وموسكو عام 1960. بعد مؤتمر الصومام عين عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وقاد وفد الجزائر في مؤتمر طنجة المنعقد بين 27 و30 أفريل 1958 الذي حضرته القيادات المغاربية، ثم عين رئيسا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر 1958 واستمر على رأسها إلى أوت 1961 ليحل محله بن يوسف بن خدة، بعد أن اشتدت خلافاته مع القيادة العامة لجيش التحرير. وبعد حصول الجزائر على استقلالها في 5 جويلية 1962. انتظمت يوم 26 سبتمبر انتخابات المجلس الوطني، نجح فيها فرحات عباس، وانتخب رئيسًا للمجلس غير أنه ما لبث أن قدم استقالته في 13 سبتمبر 1963 نتيجة خلافه مع بن بلة حول السياسة المتبعة، فرفت من جبهة التحرير الوطني وسجن بأدرار بالجنوب الجزائري ولم يطلق سراحه إلا في شهر ماي 1965، استقال فرحات عباس من رئاسة “الجمعية الوطنية الجزائرية” سنة في 14 أكتوبر 1963 تعبيرا عن معارضته لمشروع الدستور الذي اعدته جبهة التحرير الوطني.
انسحب من الحياة السياسية. لكنه ما لبث أن أمضى في مارس 1976 على “نداء إلى الشعب الجزائري” منددًا بالحكم الفردي وبالميثاق الوطني الذي صاغه هواري بومدين. وضع تحت الإقامة الجبرية إلى 13 جوان 1978.
يبقى أن “بومدين تعامل مع فرحات عباس من منطلق ضرورة الدولة والنظام، ولو بقي إلى هذا الوقت لغير موقفه، لأن عباس شخصية من العيار الثقيل، وهو رمز من رموز الكفاح السياسي ضد الاستعمار في التاريخ الحديث للجزائر، ومفكر ومثقف”، يقول أستاذ التاريخ، عبد القادر بن داود. “مرت سنوات من سوء الفهم بين فرحات عباس والسلطة في الجزائر، إلى أن جاء الرئيس الشاذلي بن جديد وقلده وسام المقاومة في أكتوبر 1984، سنة قبل وفاته يوم 23 ديسمبر 1985”.