كتاب “دروب القوة العظمى: الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية” للباحث كرار أنور البديري
يرجّح المؤلف تبنّي ترامب لاستراتيجية الموازن عبر البحار، لتفادي أخطاء إدارتي بوش الإبن وأوباما المتناقضتين، وذلك عبر الجمع بين أدوات القوّة الأميركية – الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية – من أجل تحقيق نتيجة ناجحة.
قد يبدو الحديث عن استراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية في العالم مكرّراً، في ضوء الكتابات الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع، وفي مراحل عديدة من تطوّر الصراعات الدولية والإقليمية، والتي كان للولايات المتحدة الدور الأبرز أو الأخطر فيها.
لكن، وبحسب مؤلّف هذا الكتاب، فإن دراسته حول (الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية) تكاد تكون الأولى على المستوى العربي، التي تهدف إلى تقديم إطار منهجي يمكن الاسترشاد به لتحليل استراتيجيات القوى الكبرى؛ وبما يساعد الباحثين والخبراء والسياسيين في فهم (الاستراتيجية الكبرى) وعملية بنائها والأسس التي تقوم عليها، ويمكّنهم من فهم ديناميكية الولايات المتحدة في السياسة الدولية المعاصرة.
يضم الباب الأول (الاستراتيجية الكبرى: مقدّمة نظرية وتطبيقية)، فصولاً عدة، عالج فيها المؤلّف أسس صياغة هذه الاستراتيجية، وكيفية صنع الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، مع عرض أنموذج تطبيقي في صياغتها، عبر ما سمّاه (استراتيجية الاحتواء).
أما الباب الثاني، المعنوّن (بين النظرية والممارسة: الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية)، فعالج في فصلين، الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة، بين النظرية والتطبيق، في عهدي الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما، مع خاتمة تأمّل في الاستراتيجية الأميركية الكبرى في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
في الفصل الأول (أسس صياغة الاستراتيجية الكبرى)، يتحدّث المؤلّف عن معنى الاستراتيجية، التي يعرّفها كارل فون كلاوزفيتز بأنها «فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب»؛ في حين يرى ليدل هارت أن الاستراتيجية هي «فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية».
وراهناً، يمكن فهم الاستراتيجية على أنها فن وعلم تطوير واستخدام وتوظيف القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والتكنولوجية والسيكولوجية والعسكرية للدولة بصورة منسجمة مع توجهات السياسة المعتمدة، لخلق تأثيرات ومجموعة أوضاع تحمي المصالح الوطنية للدولة.
أما الاستراتيجية الكبرى، فتُفهم في إطار الغرض الرئيس للدولة؛ أي توجيه الغاية من استخدام القوّة العسكرية. يقول هارت إن الاستراتيجية الكبرى هي السياسة التي تقود سير الحرب، بُغية الحصول على الهدف السياسي لها. وبعبارة أخرى، هي تمثّل أوسع تخطيط للحرب وإدارتها، بحيث تشتمل على أدوات قوّة الدولة كافة، العسكرية وغير العسكرية، وبحيث تتكيف بطريقة تلبّي فيها الأهداف السياسية للدولة، وتأخذ في اعتبارها كيف ستؤثّر الأعمال الحربية في السلم الذي سيعقبها.
ويضيف المؤلّف أن الاستراتيجية الكبرى تُصاغ عبر الخطوات الآتية:
1 – تقييم البيئة الاستراتيجية، والتي تتّسم بسمات عدّة: التقلّب، والتوجّس، والتعقيد، والغموض. ومن أجل إيجاد عنصر التفاعل بين الاستراتيجية والبيئة الاستراتيجية، على الخبير الاستراتيجي أن يفهم طبيعة البيئة التي ستطبّق فيها الاستراتيجية.
2 – تحديد المصالح (الغايات السياسية العليا) في الاستراتيجية الكبرى، والتي تكمن أهميتها في تسويغ عمل رجل السياسة، وتقديم معيار للحكم تُقاس عليه الأهداف.
3 – تحديد مستوى أهمية المصالح (تحديد الأولوية بين الغايات) في الاستراتيجية الكبرى، بما يتيح لصنّاع القرار الفرصة للتمييز بين ما هو حيوي وبين ما هو مهم، وبين ما هو هامشي.
4 – تقييم التهديدات والفرص عند صياغة الاستراتيجية الكبرى، من خلال تقييم التهديدات التي تعترض سبيل الدولة في الوصول إلى مصالحها وتحقيق أهدافها في السياسة الدولية؛ وتقييم الفرص التي تقدّم الدعم للدولة، وتسهّل عملية وصولها إلى مصالحها.
5 – تحديد الأهداف (أو وضع الأهداف) في الاستراتيجية الكبرى، من خلال الأخذ بعين الاعتبار أمرين أساسيين:
الأول، دور الأهداف في حماية المصالح من التهديدات؛ والثاني، دورها في الإفادة من الفرص المتوافرة للدولة بُغية دفع مصالحها إلى الأمام.
ويختم المؤلّف هذا الفصل، بتعداد أنواع الأدوات في الاستراتيجية الكبرى، وهي تشمل:
1 – الأدوات السياسية (الدبلوماسية بكلّ تعبيراتها)؛ والتنظيم الدولي (بكلّ إجراءاته المتعلّقة بالأمم المتحدة) والقانون الدولي (ويتضمّن الالتزام أو فرض الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات)؛ والتحالفات.
2 – الأدوات الإعلامية والمعلوماتية، وتشمل التصريحات والبيانات الصحافية، والدبلوماسية الشعبية، والدعاية أو الدبلوماسية العامة (القوّة الناعمة) التي تنقسم إلى فئتين: الأولى تضمّ الإعلام الخاص بالسياسات، والثانية تضمّ التواصل الثقافي بما في ذلك البرامج الإعلامية والثقافية.
3 – الأدوات الاقتصادية، وتشمل:
-المساعدات الخارجية، بشقّيها العسكري والاقتصادي.
-التجارة والسياسة المالية.
-العقوبات الاقتصادية.
4 – الأدوات العسكرية: وتشمل الاستخدام الحربي وغير الحربي للقوّة العسكرية.
وتتمثّل المهمة الأخيرة في اختيار الأدوات في الاستراتيجية الكبرى، وذلك من خلال أربع مقاربات، وهي: الإقناع، والتعاون، والقسر والإكراه، والقوّة؛ مع إشارة المؤلّف إلى أن كلّ مقاربة من هذه المقاربات تختلف أدواتها عن الأخرى.
صنع الاستراتيجية الأميركية الكبرى
(صنع الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية – مراحل الصياغة وأسس البناء)، هو عنوان الفصل الثاني، وفيه يعدّد المؤلّف المصادر الفكرية المؤثّرة في صياغة هذه الاستراتيجية، في ضوء الأطروحات الفكرية التي تقوم عليها المدرستان الواقعية والمثالية؛ إذ تشكّل هاتان المدرستان عناصر الثقافة الاستراتيجية الأميركية، وهي بذلك توفّر مبادئ فلسفية يسترشد بها المفكّرون الاستراتيجيون وصنّاع القرار عند وضعهم للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية.
ويقدّم المؤلّف بعض الفروقات بين أتباع المدرستين الواقعية والمثالية، مثل النظرة إلى الطبيعة البشرية (عدوانية وتسعى إلى السلطة في رأي الواقعيين، وخاطئة لكنها قابلة للسير نحو الكمال في رأي المثاليين)؛ وكذلك اختلافهما في النظرة إلى النظام الدولي (فوضى وصراع لا بدّ منهما في رأي الواقعيين، وقابل للإصلاح في رأي المثاليين)، والنظرة إلى السياسة ورجل السياسة، وإلى المنظمات الدولية، والأهداف الرئيسة التي تحكم حركة الولايات المتحدة على مستوى العالم.
ومن ثمّ يشرح المؤلّف مناهج التفكير الاستراتيجي المؤثّرة في صياغة الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية، وأبرزها: النهج القائم على أولوية المصالح القومية للبلاد، والذي يعتبر أن الولايات المتحدة غير ملزمة بتعزيز القيم العالمية؛ وهناك النهج القائم على القضايا الدولية، والذي يرى أنصاره أن ضمان الأمن القومي الأميركي يكون عبر صيانة وتعزيز الأمن الدولي، من خلال معالجة المصادر التي تعزّز من تفاقم حالات الصراع والمعاناة الإنسانية.
أما المؤيدون للنهج القائم على المبادئ (القيم)، فيقولون إن الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة يجب أن تُصاغ أو تُبنى من خلال مبادئ محدّدة تستند إلى القيم الأميركية، والأيديولوجيا السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، كنشر الرأسمالية وتوسيع نطاق الأسواق الحرّة في العالم، ودعم «إسرائيل»؛ والتدخل ضدّ الإبادة الجماعية.
بعد ذلك، يعرض الباحث للمصالح القومية الأميركية التي تقوم عليها «الاستراتيجية الكبرى»، وفقاً لأولويتها أو أهميتها، وهي:
أ – المصالح الحيوية الأميركية؛ وتشمل منع وردع والحدّ من خطر الأسلحة النووية والبيولوجية، ومنع ظهور نوع من الهيمنة العدائية في أوروبا وآسيا؛ وكذلك منع ظهور قوى كبرى عدائية أو دولة فاشلة على حدود الولايات المتحدة، والتأكد من سلامة واستقرار الأنظمة العالمية الكبرى (التجارة الحرّة، والأسواق المالية، وامتدادات الطاقة، والبيئة)، ومنع أي انهيار كارثي لها؛ إضافة إلى ضمان بقاء حلفاء أميركا، وتعاونهم النشط معها في تشكيل نظام دولي يمكّنهم من الازدهار؛ وأخيراً، إقامة علاقات مثمرة بما يتفق والمصالح القومية الأميركية مع الدول التي يمكن أن تصبح خصوماً استراتيجيين للولايات المتحدة، كالصين وروسيا الاتحادية. ومن ثم يصنّف المؤلّف، نقلاً عن تقرير لجنة «المصالح الوطنية الأميركية»، المصالح القومية الأميركية المهمة للغاية، فالمصالح المهمة، فالمصالح الأميركية الثانوية، بحسب المناطق والدول ذات الأهمية الجيوسياسية للولايات المتحدة.
في القسم الرابع من الفصل الثاني، يحلّل المؤلّف دور التهديدات في صياغة الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية، (صناعة العدو)، لأنه «حينما يغيب العدو وتنخفض التهديدات تكون الضغوط الداخلية أكثر حدّة، حتى لو كانت الفرص كثيرة..». ويتوقّف عند أهمية صناعة العدو في الفكر الاستراتيجي الأميركي، وكذلك دور التهديدات في صياغة الاستراتيجية الأميركية.
وفي ختام الفصل، يقرأ المؤلّف في العوامل المؤثّرة أو الدافعة لصناعة العدو أو التهديد، مثل طبيعة نظام الحكم إذ أن إثارة التهديد في الأنظمة الديمقراطية أكثر استخداماً مما هي عليه في الأنظمة الاستبدادية؛ وهناك أيضاً تأثير مهم للطبيعة الجغرافية للدولة، بحيث يُثار التهديد والمبالغة فيه تجاه بلدٍ معادٍ بعيد جغرافياً لإحداث التأثير الشعبي المطلوب تجاهه.
تؤدّي «حروب الاختيار» دوراً بالغاً في عملية صناعة العدو والمبالغة في خطره؛ وهو أمرٌ له صلة وثيقة بطموحات صنّاع القرار، الذين يلجأون إلى اختلاق التهديد والمبالغة في الخطر الذي يشكّله العدو على الدولة، وذلك لحمل الشعب على تأييد الحرب.
وكمثال ساطع وقريب، عندما اعتقد الشعب الأميركي بحجج إدارة جورج دبليو بوش في أن العراق يشكّل تهديداً خطيراً على الأمن القومي نتيجة لحيازته أسلحة الدمار الشامل، وارتباطه بالإرهابيين، قدّم الأميركيون الدعم الكامل للغزو الأميركي للعراق في العام 2003.
استراتيجية الاحتواء
(استراتيجية الاحتواء: أنموذج تطبيقي في صياغة الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية)، هو عنوان الفصل الثالث من الكتاب، وفيه يحلّل المؤلّف الاستراتيجية «العبقرية» الناجحة، والتي صمّمت لمواجهة النفوذ السوفياتي في العالم، حتى تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991. يقول الباحث إن استراتيجية الاحتواء كانت محاولة أميركية لتفادي عواقب الصفقة الخاسرة التي عقدها الرئيس فرانكلين روزفلت آنذاك مع جوزيف ستالين عشية الحرب العالمية الثانية، للاستفادة من جهود الاتحاد السوفياتي لهزيمة كلّ من ألمانيا واليابان.
إن أول من صاغ فكرة استراتيجية الاحتواء هو الدبلوماسي جورج كينان، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية في موسكو وقتئذ. وقد رأى كينان أن الصراع الأميركي الغربي مع الاتحاد السوفياتي هو صراع سياسي أيديولوجي في المقام الأول وليس صراعاً عسكرياً، لأنه يستند إلى الاعتقاد بالشرّ الأصيل في الرأسمالية وحتمية انهيارها.
وفي ختام مقالة له سمِّيت بـ”البرقية الطويلة”، يؤكد كينان على أهمية وجود عدو عظيم قبالة الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق أمنها. ولقد لقيت أفكار كينان رواجاً سريعاً، إذ تبنّاها الرئيس هاري ترومان. وفي سياق ستة أشهر، قادت هذه الأفكار إلى نشوء ثلاث قوى صاغت العالم:
1 – مبدأ ترومان: وهو التزام أميركي بالردّ العسكري على أيّ عدوان أو تطاول يهدّد مصالح وأمن الولايات المتحدة الأميركية وسلامتها وحلفاءها.
2 – خطة مارشال أو مشروع مارشال: والتي تبنّاها ترومان، وأعلن عنها وزير الخارجية جورج مارشال في 4 حزيران/يونيو 1947، وهي تتلخص في وجوب مساعدة الولايات المتحدة لأوروبا الغربية قبل أن ينهار اقتصادها وتصبح هدفاً سهلاً للسوفيات.
3 – شنّ العمليات السرية الخفيّة: من أجل احتواء السوفيات، أذن ترومان لمجلس الأمن القومي، بإنشاء جهاز سرّي لوكالة الاستخبارات الأميركية لشنّ عمليات «سريّة خفيّة»، بما في ذلك الحرب السياسية والاقتصادية والنفسية لمواجهة السوفيات في جميع أنحاء العالم. وهو الجهاز الذي دعا كينان إلى إنشائه في العام 1947.
في القسم الثاني من الفصل، يكشف المؤلّف أن بول نيتز، الذي حلّ محل كينان كمدير لهيئة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية في العام 1950، هو من صاغ استراتيجية الاحتواء كوثيقة مكتوبة لتوجيه مؤسسات السياسة الخارجية الأميركية في إطارها.
ومن أبرز الاختلافات في الوثيقة التي أعدّها نيتز، عن أفكار كينان، توسعتها لمجال الدفاع العسكري ليشمل المناطق خارج الحدود الأميركية؛ كما أصبحت الأداة العسكرية إحدى الأدوات الأساسية لتنفيذ الاستراتيجية الجديدة، وذلك بسبب توسيع مجال الدفاع الأميركي ليشمل البلدان خارج الحدود الأميركية. كما عارضت وثيقة نيتز العمل الدبلوماسي مع الاتحاد السوفياتي لتعديل سلوكه وفق مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، لاعتقاد نيتز أن الدبلوماسية لن تعمل حتى يتم تغيير النظام السوفياتي.
وفي القسم الثالث، تحلّل وثيقة نيتز (الرسمية) استراتيجية الاحتواء، من خلال تحليل البيئة الدولية (بيئة النظام الدولي وحالة توزّع القوى فيه)، وتحديد المصالح القومية الأميركية (الأمن الطبيعي والدفاع عن الحياة والحرية الأميركية والحفاظ على القيم)؛ فضلاً عن نشر الحرية «إبراز القيم ونشرها إلى الخارج». وكذلك، ارتكزت استراتيجية الاحتواء على تحديد وتقييم التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية (قوّة الاتحاد السوفياتي وحربه المختلفة الأشكال لإضعاف الموقع العالمي للولايات المتحدة، وهيمنة الاتحاد السوفياتي على أوراسيا، وتراجع قدرة الولايات المتحدة – في حالتي السلم والحرب – على مواجهة الأخطار التي تهدّد أمنها أو تعيق تحقيق أهدافها).
أيضاً، هناك عملية تحديد الأهداف التي حدّدتها استراتيجية الاحتواء، والتي جاءت في الوثيقة المرفقة بها، والتي تمحورت حول بلوغ المصالح الأميركية في البيئة الدولية وحمايتها من التهديدات وتوظيف الفرص المتاحة للوصول إليها. ويتبع عملية تحديد الأهداف تحديد الوسائل اللازمة لتحقيقها، والتي أكدت على أولوية «القوّة الناعمة» (حسب ما يُصطلح عليه اليوم)، لأن استخدام القوّة العسكرية في زمن الردع النووي بات ينطوي على مخاطر كارثية، ما جعل مسألة اللجوء إلى الحرب خياراً غير عقلاني البتة.
وفي آخر ركائز استراتيجية الاحتواء، تتحدث الوثيقة عن تحديد مسارات العمل (اختيار السياسات ومناقشة المبرّرات)، والتي شملت: مواصلة السياسات الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي (السابق)، أو العزلة، أو اللجوء إلى الحرب، أو البناء السريع للقوّة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم الحر، لردع الاتحاد السوفياتي.
الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية
في الباب الثاني (بين النظرية والممارسة: الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية)، وفي الفصل الرابع من الكتاب، يحلّل الكاتب الاستراتيجيات الأربع للولايات المتحدة، والتي حدّدت السلوك السياسي الخارجي الأميركي منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى الوقت الحاضر؛ وهي تقدّم الرؤية لصنّاع القرار حول ماهيّة الدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم.
وهذه الاستراتيجيات هي:
1 – استراتيجية الموازن عبر البحار (الدفاع عن المصالح والأراضي الأميركية في أضيق نطاق).
2 – استراتيجية المشاركة الانتقائية (دفع العالم نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيز الأسواق الحرّة، إضافة إلى حماية أمن ومصالح الولايات المتحدة).
3 – استراتيجية أولوية الهيمنة (السعي نحو التفوّق)، بهدف الحفاظ على السلام والازدهار داخل الولايات المتحدة.
4 – استراتيجية الأمن التعاوني، والتي تركّز على السلام العالمي بوصفه مصلحة قومية أميركية، وتوسّع المصالح الأميركية لتشمل العالم بأسره.
أما في الفصل الخامس، والأخير، فيقدّم المؤلّف نماذج تطبيقية مقارنة للاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الأميركية في عهدي الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما، من خلال تحليله للبيئة الاستراتيجية وتحديده للمصالح القومية الأميركية في ضوء الفرص والتهديدات، وصولاً إلى تحديد الأهداف واختيار الأدوات المناسبة لتحقيقها.
لقد تحدّدت السياسة الخارجية في إدارة بوش باستراتيجية أولوية الهيمنة، عن طريق السعي نحو إبراز القوّة الأميركية، واستخدام القوّة العسكرية بصورة وقائية، مع التشديد على الجانب الأحادي في إدارة تفاعلات النظام الدولي.
أما السياسة الخارجية في إدارة أوباما، فتحدّدت باستراتيجية الأمن التعاوني، والتأكيد على الشراكة والتعاون مع القوى الكبرى؛ ومن ثم أخذ يميل في بداية ولايته الثانية نحو المزاوجة بين استراتيجية الأمن التعاوني واستراتيجية المشاركة الانتقائية، ولاسيما عندما أعادت بلاده توجيه مواردها نحو آسيا الباسفيك على حساب الشرق الأوسط لمواجهة صعود الصين.
وفي مقاربته المقارنة هذه، يقدّم الكاتب نماذج تطبيقية لاستراتيجيتي بوش وأوباما، شملت (لدى الأول) استخدام القوّة العسكرية الأميركية ضدّ أفغانستان والعراق، واستخدام العقوبات الاقتصادية لتغيير سلوكيات الدول المناهضة للولايات المتحدة الأميركية، وجهود إدارة بوش لنشر وتصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط، وسلوك هذه الإدارة تجاه روسيا والصين (لاحتوائها).
فيما اشتملت نماذج استراتيجية أوباما التطبيقية على تعامل إدارته تجاه قضايا منع الانتشار النووي/ البرنامج النووي الإيراني نموذجاً (رفع العقوبات في مقابل اتفاق شامل)، وإعادة تعريف أوباما للحرب على الإرهاب (إحياء القوّة الناعمة)، واستراتيجية القيادة من الخلف، كمنهج تطبيقي في مكافحة إدارة أوباما للإرهاب، بموازاة تعزيزها للديمقراطية في الشرق الأوسط؛ وصولاً إلى كيفية تعاملها مع صعود الصين وروسيا الاتحادية.
وعوضاً عن الخاتمة، قدّم المؤلّف تأملاً في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، حيث رجّح تبنّي ترامب لاستراتيجية الموازن عبر البحار، لتفادي «أخطاء» إدارتي بوش الابن وأوباما المتناقضتين، عبر الجمع بين أدوات القوّة الأميركية – الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية – من أجل تحقيق نتيجة ناجحة، كما عبّر ترامب في خطابه الرئاسي (21/8/2017)؛ وذلك من خلال موازنة الالتزامات الأمنية الأميركية في الخارج، واستمرار أميركا بسياسات الردع، والإشراف الدولي على توازنات القوى؛ وهذا سيجعل الولايات المتحدة أقل عرضة للتورط في مخاطر الصراعات الدولية، ويساعدها على التفرغ لسدّ فجواتها الداخلية وتعظيم موارد قوّتها الذاتية.