اصدارات الكتبدراسات تاريخية

مراجعة لكتاب ماهو التاريخ ؟ لإدوارد كار

يعد إدوارد كار واحدا من منظري التاريخ في الفكر الغربي المعاصر. ويحتل كتابه “ما هو التاريخ” مكانة معتبرة في نظرية التاريخ.. ففي هذا الكتاب يناقش إدوارد كار مجموعة من القضايا ذات الصلة بمشكلات الفكر التاريخي، وبالتاريخ كفكر.

إنه يحتوي على الفصول التالية:
1- المؤرخ وحقائقه،
2- المجتمع والفرد،
3- التاريخ والعلم، والأخلاق،
4- السببية في التاريخ،
5- التاريخ بوصفه تقدما،
6- الآفاق المتسعة”.
ويمكن أن يصنّف هذا الكتاب في إطار ما يدعى بـ””.
ويعني هذا المصطلح ليس كتابة تاريخ فرد، أو حادثة تاريخية، أو تاريخ شعب وأمه، أو التاريخ الكلي أي التاريخ الإنساني الشامل، وإنما يفهم النظر النقدي في الكتابات التاريخية على أساس فلسفي غالبا.
قبل عرض كتاب “ما هو التاريخ” لإدوارد كار أرى أنه من المفيد تقديم بعض التعريفات الخاصة بالمصطلحات التالية وذلك من أجل تدقيقها وتعميم الفائدة.
1- التاريخ: ففي كتابه “الكلمات المفاتيح” يعرّف الناقد البريطاني ريموند وليامز التاريخ بأنه مشتق من الكلمة اللاتينية HISTORIA ومن الكلمة اليونانية ISTORIA بأنه يضمن عدة معاني منها “البحث والتحري” و”نتائج البحث” و”رواية المعلومات” و”سرد الأحداث”. ويرى وليامز بأنه “من الضروري تمييز معنى مهم للتاريخ ويشمل معرفة الماضي المنظمة لكنه يتجاوزها”. وفضلا عن ذلك فإنه يشير إلى أن التاريخ يمكن أن يدل على العملية التي تشمل “الماضي والحاضر والمستقبل” أوعلى “تقدم أو تطور الحضارة”.
2- التاريخانية: يميز رايموند وليامز بأنه هناك ثلاثة معاني للتاريخانية ويوردها حسب هذا التسلسل:
“1- منهج دراسة يعتمد على حقائق الماضي ويتتبع سوابق الأحداث الحالية”.
“2- تأكيد معتمد على ظروف وسياقات تاريخية متقلبة يجب عن طريقها تفسير كل الأحداث المحددة”.
“3- معنى معاد فيه مهاجمة كل أنواع التفسير أو التنبؤ عن طريق ضرورة تاريخية، أو إكتشاف قوانين تطور تاريخي عامة”. أما الناقد التاريخي بول هاملتون في مقدمته لكتابه “التاريخانية” فيحدد تعريف التاريخية بقوله: “إن التاريخانية حركة نقدية تشدّد على الأهمية الأولية للسياق التاريخي لتأويل النصوص من كل نوع. إنها معنية أولا بموضعة أية عبارة – فلسفية، وتاريخية، وجمالية، وأيا كان – في سياقها التاريخي”. ومن أجل “سبر المدى الذي تعكس على نحو حتمي أي مسعى تاريخي، وإنحياز المرحلة التي كتب فيها. ولذلك فإن التاريخانية شكاكة في القصص التي يقولها الماضي عن نفسه من جهة، ومن جهة أخرى، فإنها شكاكة على حد سواء من تحزبها”.
3- التاريخانية الجديدة: في قاموس المفاهيم المفتاحية لنظرية الأدب يعرف كل من جوليات وولفري، وروث روبنز وكنيث ووماك هذا المصطلح بأنه يشير إلى المنهج النقدي الذي سيّس – وشدّد على – العلاقة البينية الحميمية بين الآداب، والثقافة والتاريخ” كما أن التاريخانية الجديدة تقرأ “التشكيلات النصية كتوسط معقد للتوظيفات الأيديولوجية والمعرفية والخطاب المنتجة للمعنى”.
كما أن “التاريخانية الجديدة قد عالجت مسألة النص والتاريخ، ليس كعلاقة النص مع السياق، أو الصورة الأمامية، أو الخلفية، ولكنها بالعكس فقد ألحت على فهم النص كلحظة امتياز بداخل شبكة الممارسات الخطابية والمادية” وفي الوقت ذاته فإن هؤلاء المؤلفين الثلاثة قد اتفقوا على أن القسم المشترك بين التاريخانيين وتحليلاتهم يتمثل في تركيزهم على “قراءة النص” وكيف ينتج النقد الاختراقي للايديولوجيات المسيطرة في الفترة التي أنتج فيها..”.
بعد شرح وتوضيح المصطلحات الثلاثة بقصد تسهيل عملية إدراك المناقشات المعاصرة حول مفهوم التاريخ فإن الوقت قد حان للعودة إلى كتاب إدوارد كار لعرض ولمناقشة بعض الأفكار البارزة فيه.
إن النقطة الأولى المحورية التي تشغل إدوارد كار تتمثل في العلاقة بين المؤرخ والحقائق “فالتاريخ يتكون من مجموعة كاملة من الحقائق المؤكدة التي تكون متوفرة للمؤرخ من خلال الوثائق والنقوش وما إلى ذلك،ويقوم المؤرخ بجمعها ويصطحبها إلى منزله حيث يقوم “بطبخها ومن ثم يقدمها بالأسلوب الذي يروق له”.
إذا كانت الوثائق وغيرها من المواد التي يجمعها المؤرخ بخصوص الموضوع التاريخي الذي يعالجه بالدرس والتحليل والتمحيص تمثل له ولديه ما يدعى بالحقيقة، فماهي إذن الحقيقة التاريخية، وهل يمكن اعتبار تلك الوثائق والمواد بمثابة الحقيقة عينها؟ ففي تقدير إدوارد كار فإن “هذه الحقائق المسماة بالحقائق الأساسية والتي تكون متماثلة بالنسبة لجميع المؤرخين تنتمي بصورة عامة إلى فئة المواد الخام للمؤرخ لا إلى التاريخ ذاته”. ثم ان وجود هذه الحقائق والمواد الخام بين أيدي هذا المؤرخ أو ذاك لا يضمن الاتفاق بين المؤرخين على تأويلها نفس التأويل لأن لكل مؤرخ وجهة نظره ودوافعه، وأن عملية قراءة وفحص تلك المواد الأولية يتوقف أحيانا على: “قرار مسبق يتخذه المؤرخ.
وبذلك نجد أن عملية اختيار وترتيب الحقائق لا يجعلها تتكلم عن نفسها وتعبر عن ذاتها”. وبالعكس وكما يرى إدوارد كار فإن الحقائق “تتكلم فقط عندما يطلب المؤرخ منها ذلك، فهو الذي يقرر نوع الحقائق التي ستعطي حق الكلام وسياق هذا الكلام”.
وفي الواقع، فإن إدوارد كار لا يناقش مصداقية الوثيقة ذاتها، أو الحقائق ذاتها، وإنما يناقش علاقة المؤرخ بالوثائق والحقائق التي يملكها بين يديه كمواد خام للدرس والتلحيل.
وهو بالتالي يفتح النقاش حول موضوعية كتابة التاريخ من عدمها أو نسبيتها. ومن هنا فإن إدوارد كار يلمّح إلى خطر “التقديس الأعمى” للحقائق، والوثائق، وخاصةإذا كانت من وضع الجهات التي لها مقاصد وغير محايدة إزاء حادثة، أو حالة تاريخية معينة وفي رأي إدوارد كار فإن للحقائق والوثائق أهمية وأنها “أشياء أساسية للمؤرخ”، ولكن المطلوب هو “تجنب أن تجعلها معبودا”. ثم إن الحقائق والوثائق ليست في حد ذاتها تاريخا، وإنما هي شهادة من نوع ما تشهد على جزء من اللحظة التاريخية وقد تكون هذه الشهادة مزيفة، ولذا ينبغي مقارنتها بشهادات أخرى في إطار السياق ذاته.
يؤكد إدوارد كار بأن مصطلح فلسفة التاريخ من وضع الفيلسوف فولتير، ولكن فولير لم يحتكر الإجابة عن سؤال “ما هو التاريخ”، ومعنى التاريخ، بل ومعاني التاريخ. وعليه فإن فلسفة التاريخ “لا تهتم بأي من الماضي في ذاته، أو بتفكير المؤرخ حول الماضي ذاته، وإنما بالأمرين معا في علاقتهما المتبادلة. وهكذا فإن التفلسف في التاريخ يرمي إلى إبراز “أن حقائق التاريخ لا تصل إلينا مطلقا بصورة بحتة لأنها لا توجد ولا يمكن أن توجد بصورة بحتة.
إنها دائما تنعكس من خلال ذهن المدوّن” ويعني هذا الفهم أن حقائق مرحلة معينة تخضع دائما للتكييف، والتعديل، وكذلك لحذف بعض عناصرها بسبب المصالح، أو بغية إخفاء ما لا يتلاءم مع الفاعلين في التاريخ. ومن هنا فإن إدوارد كار يقترح على المؤرخ “أن يحقق نوعا من الاتصال مع أذهان أولئك الذين يكتب عنهم” وذلك لتوفير حد أدنى من الموضوعية بعيدا عن الاستغراق في الذاتية”.
إن الاجابة عن سؤال ما هو التاريخ في ظل تحقق هذا الاتصال تكون كالتالي: “ما هو التاريخ؟ هو أنه عملية مستمرة من التفاعل بين المؤرخ ووقائعه وحوار سرمدي بين الماض والحاضر”.
وبالتالي فإن “التاريخ العظيم يكتب بالضبط عندما تكون رؤية المؤرخ للماضي نافذة في بصرها إلى مشاكل الحاضر” على حد تعبير إدوارد كار.

ولكي تتوفر شروط الموضوعية ولو في شكلها النسبي فإنه لابد لمن يقوم بنقد التاريخ ومؤرخه أن “يدرس المؤرخ” على نحو تزامني مع دراسته للتاريخ، وللتاريخ الذي كتبه ذلك المؤرخ. إن هذا النقاش الذي يمارسه إدوارد كار للموضوعية وللذاتية ودورهما في كتابة التاريخ يمكن أن يقود إلى القول بان التاريخ لا يخلو من نزعة الانتقائية.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى