...
دراسات استشرافية

مراحل تطور الدراسات المستقبلية

 يمكن تقسيم مراحل التطور لهذا الميدان المعرفي لثلاث مراحل:

أولا:مرحلة اليوتوبيا دون الدخول في مناقشة مستفيضة لمفهوم اليوتوبيا، يحسن بنا الإشارة إلى أن أحد قسمات الفكر الإنساني الممنهج هو تخيل بنيات أو أنساق اجتماعية قادرة على حل مشكلات الواقع المعاش دون أن يكون هناك مؤشرات كافية على إمكانية تحقق مثل هذه البنيات المتخيلة. فأفلاطون تخيل جمهورية فاضلة تقوم على العدالة واعتقد بإمكانيتها إذا كان قادتها من الفلاسفة والتزم أهلها بتقسيمات أفلاطون من حكّام وجند وغيرهم، بينما تخيل القديس أوغسطين صراعا بين مدينة الله المبنية على أساس الفضيلة ومدينة الإنسان المبنية على الغرور والشر، وافترض أن النصر سيكون حليف المدينة الأولى وعلى الناس أن يسعوا لتحقيقها، وتخيل فرانسيس بيكون “أطلنطا” الجديدة التي رأى فيها مجتمعا يقوم على أساس العظمة الإنسانية، واندفع توماس مور في تخيل مجتمع يقوم على أساس الملكية الجماعية وتختفي الملكيات الفردية ويخضع الكل لإرادة الجماعة، وزعم ماركس أن التطور الإنساني سيقودنا إلى مجتمع تختفي فيه الطبقات التي تمثل من وجهة نظره سبب الصراعات الإنسانية. ويقول العالم المستقبلي فرد بولاك إنّ أفكار هؤلاء الفلاسفة تعكس البنيات الاجتماعية التي انبثقت منها وهي مرتبطة برغبات الأفراد الذين كانوا يعيشون في هذه المجتمعات، لكن بعض الباحثين في الدراسات المستقبلية يقولون أن فكرة الحكومة العالمية التي روج لها الفكر اليوتوبي أو الفكر الذي وصف بهذا الوصف، لم تعد يوتوبية كما بدت عند طرحها، فكثير من مفكري العولمة المعاصرين يرون أن مثل هذه الحكومة قابلة للتحقق) (، كما أن الخيال العلمي الذي نراه على شاشات السينما أو التلفزيونات يدل على أن ثقة الإنسان بخياله وقدرته على تحقيق هذا الخيال يشكل دفعة للدراسات المستقبلية من حيث إدخال الخيال في الاحتمالات المختلفة عند دراسة ظاهرة معينة، وقد عبر العالم الروسي نيجفاكن عن ذلك باعتقاده بأن ما نتخيله أيا كان هو في نطاق الممكن(فالفرد الذي تخيل في غابر القرون قدرته على الانتقال من مكان لآخر بسرعة تحول خياله في العصر الحالي إلى واقع ملموس).

وقد دفع النقاش في هذه المسألة الباحثين في الدراسات المستقبلية إلى التمييز بين ثلاثة أبعاد للمسارات المختلفة للظاهرة موضوع الدراسة: أ-الممكن:possible:وهو ما يعني الاحتمال الذي يمكن أن تأخذه الظاهرة ويتوفر الواقع على مؤشرات كافية لتحققه. ب-المحتمل:probable:وهو احد احتمالات تطور الظاهرة لكن مؤشرات هذا الاحتمالات ليست كافية في الواقع. ج-المفضل:preferable:وهو الاحتمال الذي نرغب في أن تتطور الظاهرة نحوه ولكن المقومات الموضوعية لتحققه محدودة بقدر كبير. وقد أدخلت الدراسات اليوتوبية في نطاق الدراسات المستقبلية من باب النمط الثالث أي المفضل. ثانيا: مرحلة التخطيط شكل إنشاء الحكومة السوفيتية في عام 1921 للجنة أوكلت لها مهمة وضع خطة حكومية لتعميم الكهرباء على معظم مناطق الاتحاد السوفييتي خلال خمس سنوات نقطة تحول في نطاق الدراسات المستقبلية. فرغم الاستهجان الذي قوبلت به هذه الفكرة من حيث صعوبة الاقتناع بإمكانية التحكم في مسار الأحداث لخمس سنوات، إلا أن النجاح في إنجاز الخطة أثار فكرة التخطيط بعيد المدى، وكيفية توقع التغيرات والبحث في ميكانيزمات التكيف مع هذه التغيرات، مما فتح المجال أمام دراسة التغير والتكيف وكيفية التفاعل بينهما(وهو موضوع شائك ومرهق في نطاق الدراسة المستقبلية)، وتركت هذه الجوانب أثرها على الباحثين الغربيين، وتبلور ذلك بداية بظهور مجلة الغد (Tomorrow) في بريطانيا عام 1938، ومما لفت الانتباه في هذه المجلة تأكيدها على ضرورة إنشاء وزارة للمستقبل في بريطانيا، وقد أدت النتائج المأساوية للحرب العالمية الثانية إلى طغيان الإحساس بمستقبل اسود للعالم مما خلق حالة نفسية لا تشجع على الدراسة المستقبلية، لكن عددا من الفلاسفة وفي طليعتهم الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر(Gaston Berger) تحدى هذه النظرة وأنشأ عام 1957 المركز الدولي للاستشراف (Centre International de Prospective) بهدف تشجيع الباحثين على النظر إلى الغد بطريقة أكثر تفاؤلا، وتركزت جهود مركز بيرغر على جانبين:

1-التأكيد على عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية من ناحية والتطور التكنولوجي من ناحية ثانية، ومن هنا بدأ الربط بين بعدين هما الدراسات المستقبلية الخاصة بالتطورات التكنولوجية ثم الدراسات المستقبلية الخاصة بأثر التطورات التكنولوجية المشار لها على الظواهر الاجتماعية مع إبلاء الأبعاد السياسية أهمية واضحة. وقد أدت هذه المسالة إلى تحول كبير في مناهج البحث في الدراسات المستقبلية، فأصبح الربط بين التقني والاجتماعي والتفاعل بينهما من بين أسس الدراسات المستقبلية، وأصبحت تقنيات الدراسات المستقبلية تركز على كيفية إيجاد طرائق بحثية تربط بين التطور التقني والتطور الاجتماعي المستقبلي والذي تجلى بشكل كبير في بعض التقنيات المعروفة مثل تقنية دلقي(Delphi Technique) أو مصفوفة التأثير المتبادل(Cross Impact Matrix).

2-التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة وعلى الاتجاهات(Trends) وليس على الأحداث(Events)، وقد نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا(نسبة للولاية الأمريكية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية الذي يقوم على خمسة أبعاد:

-المستقبل المباشر:ويمتد لعامين -المستقبل القريب:ويمتد من عامين إلى خمسة.

-المستقبل المتوسط:ويمتد ما بين خمسة إلى عشرين عاما –

المستقبل البعيد:ومدته بين عشرين إلى خمسين عاما.

-المستقبل غير المنظور:أكثر من خمسين عاما.

على أن الدراسات المستقبلية عرفت نقلة نوعية في العام الذي أنشا فيه بيرغر مركزه من خلال الجهود التي شرع فيها العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل(Bertrand de Jouvenel) بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وتمكن من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة(Futuribles) الذي يؤكد فيه أن المستقبل ليس قدرا بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه”المفضل”، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي من خلال فكرة تعدد الاحتمالات.

وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ(The Art of Conjecture) نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية، حيث شرح فيه كيفية عمل ما اسماه هيئات التنبؤ (Forum Provisionnel) التي تقوم بعمليات إنجاز الدراسات المستقبلية لدولة معينة. وقد أكد جوفنيل على ثلاثة جوانب عند إنجاز الدراسة المستقبلية:

1-الاتجاهات السائدة لظاهرة معينة، وحدد كيفية رصد هذه الاتجاهات.

2-سرعة الاتجاهات:بمعنى قياس كمية التغير في ظاهرة معينة خلال زمن معين من ناحية والتسارع في هذا التغير، وهو الأمر الذي تطور في الدراسات المستقبلية باستخدام قوانين رياضية للتسارع ودمجها في التحليل.

3-العلاقة بين الظواهر:وتعني توفر إطار نظري يقوم على إدراك التفاعل المتبادل بين الظواهر مهما بدت غير مترابطة، ورفض المنهج التجزيئي(Reductionism) والتركيز على المنهج “الكلي” (Holism)(وهو المنهج الذي يعني أن الكل أكبر من مجموع أجزائه)، وقد تنبهت المؤسسة العسكرية الأمريكية لجدوى الدراسات المستقبلية، وركزت على توظيفه لصالح الأمن القومي، وكانت القوات الجوية الأمريكية هي الأكثر اهتماما بهذا الموضوع، ولعبت مؤسسة راند(Rand) من خلال جهود عالم الرياضيات الأمريكي أولاف هلمر(Olaf Helmer) دورا بارزا لا سيما في التوسع في استخدام تقنية دلقي التي أشرت لها سابقا، وكان للعالم الأمريكي هيرمان كان(Herman Kahn)الدور الريادي في تطوير تقنية السيناريو التي تقوم على فكرة محددة هي:إذا -فإن(If-Then) وهي من أكثر التقنيات رواجا لكن القلة من الباحثين يتعامل معها بالعلمية التي افترضها كان.

وإلى جانب فرنسا والولايات المتحدة، برزت جهود علماء أوروبيين مثل الهولندي فرد بولاك الذي أصدر كتابا معروفا لدى باحثي الدراسات المستقبلية هو(The Image of the Future)عام 1961 ثم كتابه الهام(Prognostics)عام 1971، مما ترك أثرا على الحكومة الهولندية تمثل في تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية عام 1974، على غرار تلك التي سبق وأنشأتها الحكومة السويدية عام 1973 بمبادرة من رئيس الوزراء أولاف بالمه تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء. وشرعت بريطانيا عبر جامعة ساسكس(Sussex)بتأسيس وحدة للدراسات المستقبلية تركزت جهودها على تطوير التكامل المنهجي(Interdisciplinary) ونقد النماذج الدولية. أما الدول الاشتراكية(سابقا) فقد تركزت جهودها في مجال الدراسات المستقبلية على المتغيرات المادية لا سيما الاقتصادية والتكنولوجية منها وأثرهما على مستقبل الظاهرة الاجتماعية، ولم تعر الدراسات المستقبلية الاشتراكية الأبعاد الفردية أو الجوانب المعنوية أهمية تذكر(معلوم أن فرويد ومدرسة التحليل النفسي بقي ممنوعا في الجامعات السوفييتية حتى الستينات من القرن الماضي). وقد ساهمت أكاديمية العلوم السوفييتية بفروعها المتعددة في مجال التطوير النظري للدراسات المستقبلية لا سيما في مجال ما عرف بالندوات المستقبلية التي نشطت بشكل ملحوظ منذ عام 1967 من خلال ندوة كييف ولينينغراد، وبرز العالم السوفييتي إيغور لادا(Igor Bestuzhev Lada) في هذا المجال.

وتتميز المدرسة السوفييتية في الدراسات المستقبلية بالآتي 1-التخصص: أي تركيز الندوات الدورية على موضوع بعينه، فندوة لينينغراد الدورية ركزت على أثر ظاهرة التحضر(Urbanization) على الاستقرار السياسي، بينما اقتصرت جهود ندوة كييف على تأثير التكنولوجيا على الاستقرار السياسي، وتخصصت ندوة فيلينيس على التنبؤات الإقليمية حيث يتم التركيز على إقليم معين ثم تحدد الأولويات التي يجب ألأخذ بها في الإقليم من خلال الربط بين الإمكانيات المتاحة وسلسلة البدائل المتوفرة لإنجاز خطة ما. 2-الربط بين نتائج الدراسات في مختلف القطاعات(وهو ما كان يعوز المدرسة الأمريكية في بداياتها)، ونتج عن ذلك ظهور تقنية المصفوفة التي أشرت لها سابقا وتقنية دولاب المستقبلات(Futures Wheel) التي تربط بين الظاهرة والنتائج غير المباشرة وغير المتوقعة لها. أما في الدول النامية، فقد كان للدول الفرنكوفونية السبق في هذا المجال بحكم التأثر بالجهود الفرنسية، كما أن بعض دول أمريكا اللاتينية لا سيما الأرجنتين والمكسيك عرفت محاولات في هذا المجال.

وربما كان العالم العربي آخر الآخذين بهذا الموضوع، فلم تدخل مادة الدراسات المستقبلية كموضوع أكاديمي في الجامعات العربية إلا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولكنها بدأت في الانتشار فيما بعد، وإن كان يغلب عليها الدراسات الانطباعية والفقيرة في توظيف التقنيات العلمية المعتمدة في هذا المجال. ثالثا:مرحلة النماذج العالمية يلاحظ على المرحلة السابقة في تطور الدراسات المستقبلية أنها تركزت على المستقبل وقد نظر له من زاوية دولة معينة أو إقليم معين، إلا أن تطورا معينا نقل الدراسات المستقبلية من مستوى الدولة الواحدة أو الإقليم الواحد إلى مستوى العالم ككل، فأصبح التركيز على مستقبل المجتمع الدولي أو النظام الدولي أو موضوعات ذات شأن دولي كأسلحة الدمار الشامل أو الإرهاب أو التدخل الإنساني أو البيئة..وهي موضوعات لا تنحصر في إطار دولة أو إقليم. وربما كان لنادي روما السبق في هذا المجال، فقد عقد اجتماع ضم رجال الأعمال الإيطالي أوريليو بيشي والمدير العلمي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكسندر كنغ عام 1967، وتبين للطرفين أن هناك مشكلات تهدد المجتمع الدولي مثل الزيادة السكانية واستنزاف الموارد الطبيعية والفقر..الخ، وان المؤسسات الدولية عاجزة عن التصدي لهذه المشكلات. واستنادا إلى هذه الأفكار عقد أول اجتماع في روما عام 1968 وضم ثلاثين عالما من عشر دول، وأطلق على هذا الاجتماع اسم نادي روما. ركزت دراسات نادي روما على الربط بين ظاهرة الاعتماد المتبادل المتزايدة بين المجتمعات وبين تطوير تقنيات الدراسات المستقبلية لمعرفة الاحتمالات المختلفة للظواهر العالمية، وقد كان للتقرير الأول لنادي روما صدى كبير لا سيما نتيجة النظرة التشاؤمية لمستقبل العالم التي طغت على التقرير وتنبأت بالكارثة الدولية. وتبع نادي روما جهود أكاديمية أخرى تركز على المستوى العالمي مثل نموذج ليونتيف وباريولوتشي..الخ. وتقوم أسس الدراسة المستقبلية في النماذج العالمية على

1-تحديد المتغيرات التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء النظام الدولي في حالة توازن، ولعل أهم الأفكار التي برزت في هذا الجانب هي أفكار العالم المعروف بروغوجين (Progogine) عن فلسفة عدم الاستقرار(Philosophy of Instability) والتي كان لها أكبر الأثر على مفهوم النظام في الدراسات المستقبلية.

2-تحديد ميكانيزمات التكيف المتوفرة للنظام الدولي لمواجهة التغيرات المحتملة مثل دراسة مساحات الأراضي الزراعية لمواجهة الزيادة السكانية أو العلاقة المستقبلية بين سباق التسلح والفقر.

3-تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات.

4-تحديد المسوغات القانونية التي تبرر التدخل من القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي.

5-اعتبار عملية التغير هي القاعدة.

واستنادا لهذه الأسس أخذ الجانب المنهجي في الدراسات المستقبلية في إطار النماذج العالمية الخطوات التالية:

1- التقسيم الجغرافي للعالم، حيث يقوم النموذج على تقسيم العالم إلى عدد معين يختلف من نموذج لآخر، ويتم التقسيم على أساس معيارين هما التجاور الجغرافي وتقاليد التفاعل التاريخية.

2- تحديد عدد من القطاعات(السياسية والتكنولوجية والاقتصادية..الخ) واعتبار هذه القطاعات نظما تطوي بداخلها نظما فرعية(تقسيم الاقتصادي إلى فروعه المعروفة)

3- دراسة التفاعل بين القطاعات والاقاليم على أساس التأثير المتبادل بينهما، وتتم الدراسة في هذا الجانب على أساس التأثير الوظيفي بين القطاعات في الأقاليم والأساس الجغرافي من خلال تأثير كل إقليم على الأقاليم الأخرى.

4- تحديد اتجاهات التفاعل لتحديد الاحتمالات المستقبلية عبر استخدام تقنيات الدراسات المستقبلية. ومن غير الممكن تناول النماذج العالمية دون التوقف عند أحد اهم علماء هذا الميدان والذي صنفته الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية كأهم عالم في هذا المجال وهو العالم الأمريكي بكمنستر فولر(Buckminister Fuller)، ويعد فولر من ابرز رواد المدرسة المعيارية في الدراسات المستقبلية لا سيما تركيزه على احتمال تحقيق السلم الدولي، ولعل نموذجه الذي أطلق عليه اسم اللعبة العالمية(Great Logistic Game) يستحق منا تلخيصا له.

بنى فولر قبة تعادل مساحتها مساحة ملعب كرة السلة ورسم عليها خريطة للعالم أبرز فيها كل التضاريس وربطها بالحاسوب الذي يضم قاعدة معلومات ضخمة عن الموارد العالمية والاتجاهات الإنسانية والاحتياجات والمشكلات الدولية..الخ، ووضع هدفا لكل باحث يتمثل في محاولة وضع افضل معادلة لتحقيق أفضل النتائج في ضوء المعطيات المتوفرة، فعلى سبيل المثال لو كانت دالة النموذج هي تقليص الحروب فإن المعادلة يجب أن تحقق استخدام الموارد المتاحة فقط لتحقيق هذه الدالة في أقصر فترة ممكنة(وبديهي أن ذلك يحتاج دراية واسعة في التحليل الرياضي).

أهداف الدراسات المستقبلية
1- يمكن أن نقول بصفة عامة أن غاية الدراسة المستقبلية هو توفير إطار زمنى طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم . ومن ثم العمل ، لا على هدى الماضى ، ولا بأسلوب ” من اليد إلى الفم ” وتدبير أمور المعاش يوماً بيوم ،بل العمل وفق نظرة طويلة المدى وبأفق زمنى طويل نسبياً . فهذا أمر تمليه سرعة التغير وتزايد التعقد وتنامى ” اللايقينى ” فى كل ما يحيط بنا ، وذلك فضلاً عن اعتبارات متصلة بالتنمية والخروج من التخلف.
2- تساعدنا في استطلاع النتائج والتداعيات على المسارات المستقبلية، فإن ما تتيحه الدراسات المستقبلية من إضفاء طابع مستقبلى طويل المدى على تفكيرنا ، إنما هو علامة مهمة من علامات النضج العقلى والرشادة فى اتخاذ القرارات . ذلك أن ما نتخذه من قرارات اليوم ، وما نقوم به من تصرفات فى الحاضر سوف يؤثر بصورة أو بأخرى على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا من بعدنا . وإذا أردنا لهذا المستقبل أن يكون مقبولاً من وجهة نظرنا ، فعلينا أن نتخذ قراراتنا اليوم آخذين فى الاعتبار النتائج والتداعيات المحتملة لهذه القرارات على مدى زمنى طويل ، وليس فقط على المدى القصير أو المتوسط. فإذا كانت النتائج والتداعيات تسهم فى تشكيل المستقبل المرغوب فيه ، فبها، وإذا لم تكن تسهم فى ذلك ، فإننا نسعى لتعديل هذه القرارات حتى تأتى نتائجها وتداعياتها متوافقة مع المستقبل الذى نريده.
3- فالدراسات المستقبلية تساعدنا على التحكم فى المستقبل ، وجعله أفضل وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة ، من أهمها ما يلى:
أ- اكتشاف المشكلات قبل وقوعها ، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها.وبذلك تؤدى الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر ، والاستعداد المبكر للمستقبل ، والتأهل للتحكم فيه ، أو على الأقل للمشاركة فى صنعه.
ب- إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا ، وبخاصة ما هو كامن منها ، والذى يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية . وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبوا إليه من تنمية شاملة سريعة ومتواصلة . ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه.
ج- بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها . وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص ، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدى إليه من تداعيات ، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج . ويترتب على ذلك المساعدة فى توفير قاعدة معرفية يمكن للناس أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى ضوئها ، وذلك بدلاً من الاكتفاء – كما هو حاصل حالياً – بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التى تختلط فيها الأسباب بالنتائج ، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعى من ما هو ذاتى.
4- الدراسات المستقبلية تسهم فى ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من بابين : الباب الأول هو باب توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخطط وصانع القرار ، أى توفير معلومات حول البدائل الممكنة وتداعيات كل منها عبر الزمن ، ونتائج كل منها عند نقطة زمنية محددة فى المستقبل . والباب الثانى هو باب ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات بشأن الخطط والسياسات من حوار وطنى على مستوى النخب وعلى مستوى الجماهير بقصد بلورة القضايا وبيان الاختيارات الممكنة ، وما ينطوى عليه كل اختيار من مزايا أو منافع ومن أعباء أو تضحيات . إذ تؤمن التنبؤات المشروطة التى تقدمها الدراسات المستقبلية فرصاً أوسع للاتفاق أو للاختلاف على أسس واضحة . كما أنها تمكن من المساعدة فى حسم بعض أوجه الخلاف من خلال إعادة صياغة ” الشروط الابتدائية ” لبعض أو كل البدائل محل النقاش ، وإعادة التحليل والحسابات فى ضوء الشروط المعدلة ، ومن ثم الدخول فى دورات نقاش متتابعة لتقريب وجهات النظر والتراضى على اختيار محدد.
5- إن الغاية الأساسية للدراسات المستقبلية هي الوصول إلى المعادلة التنبؤية من خلال التحكم بالمتغيرات المحيطة بالحالة أو المشكلة المراد دراستها ومعالجتها من قبل الباحث المستقبلي وذلك من خلال التحكم بالعلاقة بين تلك المتغيرات

الخلاصة

يمكن القول إنّ تطور الدراسات المستقبلية سار باتجاهين: 1-اتجاه المؤسسات ومراكز الابحاث والدوريات العلمية في هذا الجانب، نحو دراسات مستقبلية ذات توجه عالمي أكثر منها اقليمي أو لدول معينة، وذات طابع شمولي أكثر منها التخصص في قطاع معين دون غيره، ويتضح ذلك في أن في أوروبا حاليا 124 هيئة تعمل في مجال الدراسات المستقبلية. لكن الملفت للنظر في هذا الجانب أن 67% من الدراسات المستقبلية تقوم بها الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات العسكرية، كما أن 97% من هذا الانفاق على الدراسات المستقبلية يتم في الدول المتطورة.

2-الاتجاه المنهجي في الدراسات المستقبلية:إذا افترضنا أن دراسة العالم الفرنسي كوندورسيه والتي عنوانها(Sketch for a Historical Picture of the Progress of the Human Mind)عام 1793 أول محاولة للنظر في الدراسات المستقبلية على أسس منهجية علمية فإن تطور الدراسات المستقبلية في هذا الجانب مرت بالمراحل التالية: 1- تغليب منهج الإسقاط والحدس والمنظور التجزيئي في المرحلة الأولى.

2- تطوير المناهج الكمية والاستقرائية مثل المصفوفات الرياضية والدواليب والسيناريوهات ونظرية الاحتمالات والثلاثيات والمسافة واللعب والمحاكاة..الخ من التقنيات.

3- بدأت المرحلة الثالثة بالميل التدريجي نحو المنظور الكليّ على اساس ان الكل أكبر من مجموع أجزائه، وترتب على ذلك سلسلة من النتائج:

أ- التحول من مفهوم القوة على اساس الكم لى القوة على اساس النتيجة المترتبة عليها

ب- التحول بمفهوم ميزان القوى على اساس الثقل المعادل الذي عبر عنه جنتز في القرن التاسع عشر إلى مفهوم الترابط

ج- التحول التدريجي للنظر للعلاقات الدولية من علاقات دولية صفرية إلى علاقات دولية غير صفرية مع كل ما يترتب على هذا التحول من نتائج.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى