مقاربات في تفسير ظاهرة الاستبداد

إعداد: د. عامر مصباح – أستاذ الدراسات الاستراتيجية والأمنية، جامعة الجزائر 3

مركز المجدد للبحوث والدراسات

مقدمة:

الاستبداد ظاهرة اجتماعية متولدة من التصرف الأناني البغيض للإنسان في الحياة الاجتماعية، ولعل أول من حذر من هذا الفساد الاجتماعي في الثقافة الإسلامية هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”. الاستعباد ليس مرادفاً للاستبداد ولكنه أثر له أو متغير تابع له، ينشأ في المجتمع كنتيجة لحالة القهر المادي الذي يولد مع مرور الزمن القابلية النفسية والاجتماعية لدى البشر لأن يكونوا تابعين للمستبد وراضين عن حياة العبودية، إلى درجة أنه كلما استبد المستبد صفّق له المستعبدون. وإذا كانت ظاهرة الاستبداد في أبرز تجلياتها وأقرب معانيها للذهن مرتبطة بالسياسة، إلا أن جذورها العميقة متأصلة في عالم الاجتماع، إذ أنها عبارة عن بذور سلوكية وأنماط للتفكير وأعراف وعادات تنتشر بين الناس، تتراكم ثم تنتظم ضمن أنساق معينة، تفرض منطقها في صورة جماعية على الأفراد والمجتمع، بحيث تصبح تعمل وفق خاصيات دوركايم في عمل أي ظاهرة اجتماعية أخرى (الظاهرة هي جمعية، إلزامية، إنسانية، تلقائية، ترابطية).[i] 

يمكن أن تأخذ ظاهرة الاستبداد شكل نسق التطبيع الاجتماعي أو العملية الاجتماعية المتفاعلة التي تُنقل عبرها أنماط الاستبداد من جيل إلى آخر، وهنا يندرج عنوان كتاب عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، و(طبائع) جمع (طبع) الذي يعني العادات السلوكية التي يتربى عليها الإنسان عبر عمليات التنشئة المقصودة وغير المقصودة، وتصبح ملازمة لسلوكه تؤثر عليه بطريقة نسقية عبر تأثير المنطق الجمعي في توجيه السلوك والتفكير، يتضمن هذا المنطق ما أسماه روبرت شيالديني “البرهان الاجتماعي”،[ii] الذي يقنع الناس بطبائع معينة على أنها صحيحة ويجب أن يلتزم بها الناس.

الحقيقة أن هذا المنطق يعمل فينا بطريقة خفية لأنه مألوف ونتعلمه عبر عمليات التنشئة الاجتماعية، والاتصال الاجتماعي، والعدوى الاجتماعية، وهذا ما سوف نناقشه في توضيح العلاقة بين أساليب التنشئة الاجتماعية وتعلم عادات الاستبداد. يتحدد الشكل الثاني لتمظهر الاستبداد في الخاصيات النفسية التي تنتج نفسها بشكل مكرر وبطريقة معقدة، إلى درجة أنها تصبح لها القدرة على صياغة منطقها النفسي في بديهية القابلية النفس-اجتماعية للاستبداد، التي هي عبارة عن ميل نفسي قبلي يحمله الناس ويعبرون عنه بأقوالهم ويجسدونه في طريقة حياتهم الاجتماعية، يتضمن القبول والرضا بالأسلوب المستبد الممارس عليهم وأنه الأنسب لهم ولا يبحثون عن بديل عنه؛ هكذا يتحول هو الآخر إلى نسق اجتماعي أو اتجاه نفسي (بتعبير علماء النفس الاجتماعي[iii]) يفرض نفسه على حياة الناس بواسطة تأثير ديناميكية العمومية والانتشار الجماهيري. الشكل الثالث للاستبداد هو التأثير عبر البنية السياسية، أكثر البنيات شيوعاً التي تجسد الاستبداد هي النظام السياسي الذي ترأسه حكومة مستبدة في شكل فرد أو جماعة.

يشتق هذا الشكل من الاستبداد قيمته التحليلية من الافتراض العام للنظرية البنيوية[iv] الذي يقضي بأن لا قيمة للجزء إلا في علاقته بالكل. الأرضية الأساسية لهذا المستوى من التحليل محددة في المقولة الشائعة في الثقافة الإسلامية “كما تكونوا يولى عليكم”، ومقولة عبد الرحمن الكواكبي “فالمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار”[v].

تشكل التمظهرات الثلاثة المشار إليها سابقاً، موضوعاً لثلاث مقاربات مستخلصة من تراث النظريات والدراسات الميدانية في علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية.

 أولاً: الاستبداد كعملية اجتماعية

نقصد بالاستبداد كعملية اجتماعية، نشأة وانتقال أسلوب وسلوك المستبد عبر عملية التنشئة الاجتماعية من جيل لآخر، ومن ثم لا يصبح مجرد سلوك عرضي أو موقف اجتماعي مؤقت، أو موقف سياسي مفروض بواسطة ظروف خاصة مؤقتة، وإنما هو عملية سوسيولوجية تجري في المستويات التحتية للتفاعلات الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة وغيرها من مؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ وهذا هو أخطر أنواع الاستبداد لأنه يملك قابلية كبيرة للبقاء كأسلوب حياة مستدام وقدرة عالية لتوليد نفسه عبر الانتقال من جيل لآخر. يقتضي تحليل هذا النوع من الاستبداد تركيز الانتباه على أنماط التنشئة الاجتماعية في الأسرة المولّدة لعقلية ونفسية وسلوك الاستبداد في المجتمع. في هذا الصدد، يضم تراث علم النفس الاجتماعي الكثير من الأساليب المسؤولة عن توليد وتكريس حالة الاستبداد في المجتمع، وهي جوهر موضوع هذه المقاربة.

يقضي الافتراض الأساسي الذي تقوم عليه هذه المقاربة بأن شخصية الفرد ومصيره المستقبلي يصنع في الأسرة بواسطة نوع أساليب التنشئة الاجتماعية الذي تتبناه في تربية الطفل. أشارت في هذا الصدد الكثير من نتائج الدراسات الميدانية إلى أن سلوك الأطفال ونمو شخصيتهم يتأثر إلى حد كبير بسلوك الآباء في الأسرة والأساليب التي يتبنونها في تربية أبنائهم؛ يكاد يصل هذا التأثير إلى أن ينصبغ سلوك الأطفال بمظاهر سلوك الآباء. فاستبداد الآباء في البيت وعدم السماح للطفل للتعبير عن ذاته، والحرية في التصرف، قد يؤدي إلى سلوكيات مضادة مثل جمود العقل، النمطية السلوكية، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية الاجتماعية.[vi] أورد في هذا السياق رشدي عبده حنين[vii] مجموعة من الدراسات حول تأثير المعاملة الوالدية على سلوك الطفل الاجتماعي، منها الدراسة التي أجرتها بومريند Baumrind على مجموعة من أطفال الحضانة؛ ووجدت أن الأطفال الذين يتميزون أكثر من غيرهم بالاعتماد على النفس وضبط النفس والرضا والرغبة في البحث، هم أولئك الذين يقوم آباؤهم بممارسة ضبط معتدل عليهم. في حين أن الأطفال الذين يتميزون نسبياً بعدم الثقة والانعزالية وعدم الرضا، فأولئك الذين كان آباؤهم يمارسون عليهم ضبطا شديداً، مع درجة عاطفية أقل وتقبل أقل، وكانوا على درجة كبيرة من الاغتراب والبعد عن أطفالهم.

قام الكاتب بمسح بحثي لعدد من الدراسات العربية حول أساليب التنشئة الاجتماعية المسؤولة عن توليد خاصية الاستبداد في المجتمعات العربية، وتوصل إلى إحصاء القائمة التالية:

1)أسلوب التقييد، الذي يشير إلى ميل الوالدين نحو تقييد سلوك الأبناء ضمن معايير ولوائح صارمة والضغط عليهم بواسطة الضبط الصارم وعدم إتاحة الفرصة لهم للتصرف في أي صغيرة أو كبيرة حتى يرجعوا إليهما، ولا يسمحان للطفل باتخاذ أي قرار حتى ولو كان متعلقاً بشخصيته، دون أن يبديا فيه رأيهما. يمكن أن يكون هذا الاتجاه ناتجاً عن حب الوالدين للطفل، أو ناتجاً عن الميل نحو إثبات الشخصية لدى الأبوين في الأسرة، والخوف من خروج الطفل عن طوعهما.

يتضمن هذا الأسلوب أيضا المراقبة الشديدة والحصار المستمر لسلوك الطفل، وهذا ما يؤدي بالأطفال إلى استعمال وسائل دنيئة في التعامل مع الآخرين، كاستعمال الغش والخديعة والكذب والجنوح إلى الاتكالية والسلبية وعدم القدرة على تحمّل المسؤولية وبلادة الحس والشعور وذوبان الشخصية وتهلهلها وفساد المزاج. في هذا الصدد، أجريت دراسة ميدانية[viii] على عينة مكونة من 28 طفلا، يخضعون لأسلوب التقييد في التنشئة الوالدية، فوجد أن الأطفال الذين يمارس عليهم آباؤهم تقييداً كبيرًا، يتميزون بالخجل والاضطراب، ويشعرون بالنقص وبأنهم ليسوا أكفاء، كما يظهرون نوعاً من الروح العدائية؛ كما بينت الدراسة أن التقييد اشتمل أيضاً على ميل الآباء نحو فرض الطاعة الكاملة على أبنائهم والتدخل في نشاطهم وإجبارهم على إتباع نمط سلوكي معين.

2)التسلط، الذي يعني تسلط الوالدين على شخصية الطفل بواسطة معاقبته على أخطائه مهما كانت صغيرة، أو التهديد المستمر بالعقاب، كما يسمح الآباء لأنفسهم بضرب الطفل إذا عصى الأوامر، أو لم يستجب لطلباتهم. أجريت في هذا الصدد دراسة ميدانية على مجموعتين من الأطفال تراوحت أعمارهم ما بين ستة وسبعة عشر سنة، تنتمي المجموعة الأولى إلى والدين متسامحين والثانية إلى والدين متسلطين؛ لوحظ بأن أطفال الآباء المتسلطين يتصفون بأنهم مؤدبون ويعتمد عليهم، وخاضعون، وخجلون، وحساسون، وكان لديهم صعوبة في التعبير عن ذواتهم، ويعانون من الشعور بالنقص، وغير آمنين، وتسيطر عليهم الحيرة، أكثر من أطفال المجموعة الأولى. ولوحظ أيضا أن الأطفال الذين جاؤوا من آباء متسامحين هم أكثر عصيانا، وعديمو المسؤولية ويتصفون بالعناد والتمرد على السلطة؛ في مقابل ذلك يتصفون بالثقة في أنفسهم، ولهم أصدقاء خارج الأسرة.[ix] 

كما أكدت دراسة أخرى على أن الآباء الذين يمارسون اتجاه التسلط في تنشئة أطفالهم، ينحدرون من أسر مورس عليهم نفس النمط من المعاملة، وتعرضوا خلالها إلى معاملة خشنة، كالعقاب المادي وفرض معايير السلوك التقليدي داخل الأسرة .[x] يمكن تعزيز المحتوى الاستدلالي بواسطة الدراسة التي قام بها كل من ليفين Leven  وليبيت Lippit   ووايت [xi]White على مجموعة من زمر الأطفال في السن العاشرة، التي تم خلالها تعريض زمر الأطفال لاتجاهين من التعامل: الاتجاه الأوتوقراطي التسلطي، والاتجاه الديمقراطي. أظهرت النتائج أن نسبة العداء في الزمرة التي تعرضت للاتجاه التسلطي كانت أكثر بـ30 مرة مقارنة بالمجموعة التي تعرضت للاتجاه الديمقراطي في المعاملة. في التجربة الثانية من الدراسة، لوحظ أن هناك استجابة مغايرة إزاء السلوك التسلطي لقائد المجموعة، بحيث أظهر الصبية نموذجاً غير عدائي تماماً متمثلاً في السلوك الجامد، كانعدام الابتسامة والنكات وعدم المبادرة في المشاركة في الكلام؛ كما لوحظ أنه عندما يغادر القائد الأوتوقراطي الغرفة، يكون هناك انفجار عدواني نتيجة الشعور بنوع من الحرية[xii].

3)الإهمال، الذي يشير إلى غياب الطفل من اهتمام أحد الوالدين أو كليهما، يظهر ذلك من خلال عدم السؤال عن الطفل ومعرفة حاجاته الاجتماعية، أو عدم الاهتمام به في المدرسة وتحصيله الدراسي، ولا يبالون بمرضه أو صحته، ويتعاملون بنفسية وكأن الطفل غير موجود في الأسرة. لهذا الأسلوب في التنشئة الوالدية أعراضه السيئة على سلوك الطفل، إذ أنه يشعره بالإحباط والفراغ العاطفي واهتزاز الثقة بالنفس، وتعرض شخصيته للاضطراب وعدم التكيف الاجتماعي وسوء التعامل مع الآخرين. كما يمكن أن تؤدي هذه المعاملة إلى إنتاج السلوك العدواني كانتقام من الواقع الذي يحيط به، إما داخل الأسرة في شكل كراهية الوالدين وعدم طاعتهما، وإما خارج الأسرة في شكل سلوك إجرامي والعصيان.

4)الرفض الاجتماعي، يشير هذا الأسلوب في التنشئة الاجتماعية إلى رفض أحد الوالدين للطفل، وإشعاره أنه غير مرغوب فيه وغير محبوب من أحدهما، وليس له قيمة في الأسرة، كما يعبر عن مدى كراهية أحد الوالدين للطفل وعدم قبول وجوده في الأسرة. يأخذ هذا الرفض الاجتماعي عدة صور مثل التركيز على نقائص الطفل، هجره، المقارنة السلبية بغيره، إشعاره بأن ميلاده غير مرغوب فيه، والبعد أو الغياب عن الطفل في معظم الأوقات.[xiii]

5)الإذعان، ينتشر هذا الأسلوب من التنشئة الاجتماعية بين جماعات الرفاق، والذي يعني قيام الفرد بتعديل أو تغيير اتجاهاته ومواقفه وآرائه لتنسجم مع تلك السائدة في الجماعة، وذلك جراء ضغطها الحقيقي أو المتخيل على أفرادها.[xiv] أجريت في هذا الصدد، دراسات كثيرة حول معرفة مدى تأثير الزملاء على الطفل ومسايرته لهم في الأحكام والسلوك الذي يقومون به. ففي إحدى الدراسات، تم عرض خط مستقيم أسود (وهو الخط القياسي) على أطفال، وثلاثة خطوط أخرى مختلفة الأطوال (خطوط مرجعية)، ثم طلب من كل واحد منهم على انفراد أن يحدد أي الخطوط الثلاثة يساوي في الطول الخط القياسي. عند تحليل الإجابات، وجد أن أغلبها كانت دقيقة تقريباً. ثم قام المجرّب بوضع طفل واحد في موقف آخر مع خمس من زملائه، اتفق معهم المجرب مسبقاً ـ دون أن يعرف الطفل ـ بأن يدلي كل منهم بالإجابة الخاطئة بصوت مرتفع؛ وعند القيام بالتجربة، تبين أن الطفل في معظم الإجابات أظهر ميلاً كبيراً نحو مسايرة الأغلبية، وإصدار أحكام غير دقيقة موضوعياً.[xv]

بالطبع هناك أساليب التنشئة الاجتماعية الإيجابية التي تقابل كل نموذج سلبي، لكن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها المقاربة محددة في أن ظاهرة الاستبداد مثل غيرها من الظواهر الاجتماعية هي متعلمة عبر العمليات السوسيولوجية التحتية مثل التنشئة الاجتماعية، الاتصال الاجتماعي، أو حتى التعلم الاجتماعي التلقائي عبر الملاحظة (كما أكد على ذلك ألبرت باندورا[xvi] عند صياغته لنظرية التعلم الاجتماعي)، يتعلم الناس نماذج الاستبداد وسلوك الاستعباد ضمن سياق اجتماعي معين، يتقمصونه في شخصيتهم ويألفونه في سلوكهم ويتعايشون معه في منطق تفكيرهم وتوقعاتهم الاجتماعية حول أسلوب الحياة والنظر إلى المستقبل. وفق هذا المنظور، الاستبداد ليس قدراً محتوماً ونظاماً مفروضاً، وإنما هو تطبيع اجتماعي[xvii] ممارس من قبل المؤسسات الاجتماعية، بدءً من الأسرة، إلى وسائل الإعلام ودور العبادة. بهذه الطريقة، يصبح الاستبداد خياراً عرفياً أو مقصوداً في التنشئة الاجتماعية، مألوفاً للنفس البشرية، ومبرراً بواسطة خاصية العمومية وشيوع أنماطه في الزمن وعبر الأغلبية الديمغرافية.

   ثانياً: الاستبداد كخاصيات نفسية

  تقوم هذه المقاربة على افتراضين أساسيين، الأول مقترح من قبل عبد الرحمن الكواكبي الملخص في تعريفه للاستبداد كخاصية فردية عندما قال: “الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال بالرأي وفي الحقوق المشتركة”.[xviii] يتحدد الافتراض الثاني في وجود علاقة وثيقة نسبياً بين انتشار/استمرار ظاهرة الاستبداد في المجتمعات العربية وخاصية القابلية النفس-اجتماعية للاستبداد من قبل الأفراد والجماعات كأسلوب حياة. بالنسبة للكواكبي، لا يكون الفرد مستبداً إلا إذا وجدت بيئة اجتماعية تساعده على ذلك أو تشجع على السلوك المستبد والاستئثار بالرأي وفرض الاتجاه الواحد في التفكير؛ بمعنى آخر، لا يكون الفرد مستبداً إلا إذا وجد من يمارس عليهم استبداده، أو كما شرح ذلك الكواكبي بنفسه عندما قال: “.. ويكفي هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسئول.. وأشد مراتب الاستبداد التي يُتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية”.[xix] وفق هذا المقتبس، أكثر عناصر البيئة الاجتماعية المساعدة على إنتاج الاستبداد الفردي هو الجيش الذي يوفر أدوات الإكراه المادي والإخضاع القهري لكل الإرادات ودمجها في إرادة الفرد الحاكم، والسلطة الدينية التي توفر التبريرات الدينية والفتاوى الفقهية حول أحقية الحاكم الفرد بالسمع والطاعة في كل الظروف، في مقابل تجريم أو تفسيق وحتى الرمي بالنفاق والكفر لمن يعارض سلطة أو سياسة الحاكم.

بسبب المحيط الاجتماعي والقابلية الجماعية للاستبداد ضمن سياق ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية وأخرى خارجية، تظهر نماذج من الشخصيات التي تعكس الصور المحتمل أن يتمظهر بواسطتها الاستبداد في العصر الحديث، سواء كانت هذه الشخصيات ورثت الحكم أو كانت منتخبة، وسواء كانت لها سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية، طالما أنها تجد مؤيديها وتتفاعل بواسطة خاصية القابلية المجتمعية للاستبداد. لقد أشار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر إلى بعض أنواع هذه الشخصيات التي تتحدى سلطة البيروقراطية في المجتمعات الحديثة، المحددة في نوعين: الزعامة الكاريزماتية والزعامة التقليدية، مقابل الزعامة القانونية التي تجسد المفهوم البيروقراطي للسلطة السياسية. تعتمد الزعامة الكاريزماتية على اعتقاد الأتباع بوجود قدرات خارقة في الزعيم، أما بالنسبة للزعامة التقليدية، فيرى فيبر أنها ترتكز في شرعيتها على “ما قد وُجد دائما” أو وجد من قبل، كتقليد يجب المحافظة عليه والالتزام به[xx].  في نفس السياق، قام جلاينيس بريكوال Glynis Breakwell[xxi] بتوسيع قائمة الشخصيات التي يمكن أن تحمل النزعة الاستبدادية في السياسة وعمليات صنع القرار، لتشمل العناصر التالية:

  • الشخصية القومية، التي تمجد السيطرة الصارمة لقومية معينة على القوميات الأخرى الفرعية أو أي كيانات أخرى؛ يمجد القوميون أمتهم ويبالغون في فضائلها، في مقابل ذلك يحطون من مزايا الآخرين. بسبب تطوير القوميين لأنانية مندمجة مع دولتهم، فإنهم يميلون للدفاع عن حقها في الاستعلاء والسيطرة على الآخرين وأولوية مصالحها.
  • الشخصية المشبعة بالروح العسكرية، تحدد الروح العسكرية في اتجاه الفرد نحو العدوانية والميل نحو استخدام القوة العسكرية بشكل مفرط؛ لذلك، ما هو مؤكد من قبل العديد من البحوث العلمية أن ميل الفرد نحو العدوانية هو سمة متعلمة، عبر عمليات التنشئة الاجتماعية[xxii] .
  • الشخصية المحافظة، التي تتضمن مجموعة من الخصائص النفس-اجتماعية المترابطة بدلاً من وجود فلسفة سياسة، تتحدد هذه الخصائص في العداء والريبة والقسوة والاندفاعية وعدم التسامح وعدم المرونة في الحكم والإدراك الحسي للأشياء؛ بالإضافة إلى الميل نحو التحكم في الآخرين.
  • الشخصية ذات جنون الارتياب، التي تعني وجود عصاب نفسي مضطرب يتميز بشدة الشك والخوف وعدم الثقة في الآخرين. يعتقد ذوو جنون الارتياب أن الناس يريدون باستمرار إلحاق الأذى بهم، ويتوقعون حدوث الأسوأ؛ يشكل كل ذلك مصدر قوة دافعة وراء سلوكهم المستبد.
  • المعتقِد المخلِص، يرتبط هذا النوع من الشخصية بالجمهور المتدين والجمهور السياسي أو الحركات الأيديولوجية، سواء كانوا مسيحيين مناضلين أو قوميين أو أيديولوجيين أو إرهابيين أو شيوعيين أو فاشيين.
  • المستبد الخالص، تعد النزعة الاستبدادية الخالصة كوكبة من الميول نحو التماثل والإخلاص للقيم المألوفة، وتندد بأولئك الذين يرفضون تلك القيم. كما يرغب المستبدون في الحصول والتحكم في السلطة؛ ويطيعون بشكل خاضع وبدون نقد القادة الذين يسيئون استخدام حقوق المساهمين معهم.
  • الشخصية الدوغماتية، تتميز الشخصية الدوغماتية بالانغلاق العقلي والالتزام بشكل نمطي بالاتجاهات الماضية والآراء السابقة ويرفضون تعديلها، برغم من وجود البرهان المعاكس لها؛ كما لا تقبل تكوين صور جديدة حول البيئة المحيطة بها، ولا تتسامح مع المعلومات الغامضة وغير المنسجمة مع أفكارهم. الخاصية النفسية التي تجمع بين كل هذه الأنواع من الشخصيات المستبدة بشكل مطلق أو مرن، هي وجود مجتمع أو أغلبية المجتمع تتميز بالقابلية النفس-اجتماعية للاستبداد والتحكم في طريقة تفكيرها، واتجاهاتها النفسية، وقولبة آرائها.   

ثالثا: الاستبداد كبنية اجتماعية-سياسية

        تنشأ ظاهرة الاستبداد في المستويات الدنيا للحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات ثم تتطور لتشكل نسقاً اجتماعياً، الذي ينبثق منه بنية سياسية تجسد وتمارس نمط الاستبداد في شكله المادي ورمزيته المعنوية وقراراته وسلوكياته السياسية؛ وذلك اشتقاقاً من القول المأثور في الثقافة الإسلامية “كما تكونوا يولى عليكم”، والافتراض المقترح من قبل الكواكبي “فالمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار”. [xxiii] يستمد هذا الافتراض قيمته التحليلية من الوقائع الإمبريقية للمجتمعات العربية خلال الستين سنة الماضية التي لم تستطع أن تتخلص من النمط الاستبدادي في الحكم، سواء في صورته الجمهورية أو الملكية، بسبب أنه لا توجد قاعدة مجتمعية ديمقراطية يقوم عليها نظام حكم ديمقراطي معافى من معظم أشكال ومظاهر الاستبداد؛ والأسوأ من ذلك، لا توجد فواعل مجتمعية وسياسية تمارس الديمقراطية على المستوى الفرعي (الأحزاب وجماعات المجتمع المدني) وعلى المستوى الكلي (الدولة).

يجب التأكيد في هذا الصدد على التفاوت بين المجتمعات العربية في سيطرة الاستبداد وشيوع مظاهر التسلط السياسي على المجتمع. فإذا كانت المجتمعات العربية في المغرب العربي تحقق بعض التقدم في التخلص من النمط التسلطي في الحكم، فإن نظيرتها في المشرق مازالت تعاني من النظرة الشمولية للحكم مثل المجتمعات الملكية في الخليج، والبعض الآخر عاد إلى مربع الصفر مثل مصر والجمهوريات العربية الأخرى؛ وبذلك سقطت نظرية إيمانويل كانط[xxiv] حول فكرة السلم الديمقراطي في البيئة العربية المعاصرة منذ الحصول على الاستقلال الوطني إلى أيامنا هذه.

إن انهيار نظرية السلم الديمقراطية المطروحة في تراث الليبرالية الجديد[xxv][xxvi] يؤكد جوهرياً أهمية تحليل ظاهرة الاستبداد كعملية سوسيولوجية متفاعلة اتصالياً عبر الأجيال، وكبنية سياسية مهيكلة في الإدراك، نمط القيادة، عادات التسيير وحتى التوقعات الاجتماعية؛ وهذا جوهر الأفكار التي ناقشها الكواكبي.  لا ينشأ الاستبداد البنيوي من فراغ، وإنما تنتقل الأعراف والذهنيات والإدراكات المستبدة من المجتمع إلى طريقة الحكم وبناء المؤسسات وتوزيع السلطات وتحديد المسؤوليات عبر الهرميات البيروقراطية والسياسية وحتى الجماعات السياسية والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية؛ بحيث تسيطر نظرة الاتجاه الواحد والتفكير الأحادي على أسلوب الحكم، الأكثر خطورة من ذلك احتكار عملية صناعة القرار في يد شخص واحد الذي يتصور أنه المنقذ أو أنه له الشرعية التاريخية أو العرقية أو الثقافية أو  العرفية في الانفراد بسلطة وحق اتخاذ القرار بالنيابة عن الآخرين. 

تجدر الإشارة في هذا الصدد، أنه في الحالة العربية، لم تسقط فقط أفكار أنصار نظرية السلم الديمقراطي،[xxvii] وإنما الاستبداد المتوطن في كل ركن من النظام السياسي قد أسقط كل الأفكار المطروحة من قبل أنصار النظرية العقلانية،[xxviii] والنظرية الاستراتيجية،[xxix] و غيرها من النظريات المقترحة لتفسير وتوجيه عملية صناعة القرار في مؤسسات ودوائر النظام السياسي الوطني في معظم الدول العربية.

يقضي المنطق الشائع للاستبداد في الحالة العربية أن كل من هو خارج الحكم أو بالأحرى خارج شخصية الحاكم، إما رعايا يجب أن يخضعوا لإرادة السلطة السياسية أو خونة وعملاء ومخربين يريدون تدمير الدولة، أو إرهابيون يجب أن يلاحقوا أمنياً ليسجنوا أو يقتلوا. المفارقة المثيرة للاهتمام أنه بعد مضي أكثر من قرن من الزمن على وصف عبد الرحمن الكواكبي لظاهرة الاستبداد في المجتمعات العربية، مازالت الكثير منها تعيش نفس الحالة وتمارس الاستبداد بنفس الطريقة (وبأكثر مأساوية في حالة السعودية ومصر في الوقت الراهن)، وكأنه قانون عام يحكم المجتمعات في كل مكان وزمان؛ لقد بيّن الكواكبي ديناميكية عمل الحكومة المستبدة بقوله: “الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية ولا عقاب محقَّقَين”.[xxx] أو “[الاستبداد] هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم”.[xxxi] مازالت بعض الحكومات العربية تتصرف بطريقة علنية أو سرية في شؤون مواطنيها بمشيئتها دون خوف من رقابة أو متابعة أو مساءلة، وهذه هي الذروة التي يمكن أن تصل إليها النزعة البنيوية للاستبداد (مثلاً الطريقة التي تم بها اغتيال وتقطيع جثة الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول يوم 2 أكتوبر 2018)؛ أو كما وصفها الكواكبي بقوله: “الاستبداد في اصطلاح السياسيين هو: تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وقد تَطرق مزايدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة (استبداد) كلمات: استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم”.[xxxii]

من ناحية أخرى، يمكن أن يتمظهر الاستبداد البنيوي في شكل مقنن أو تعسفي، يتعلق النوع الأول بوضع القوانين واللوائح التي تسوّغ للصوت المنفرد أن يسمع وحده، والتفكير في الاتجاه الواحد الذي يسقط من أعلى هرم السلطة إلى عامة الشعب، في مقابل ذلك تجرّم بأقسى العقوبات كل مخالف أو كل من يريد التفكير أو التصرف أو يدعو إلى ذلك خارج الإطار المقنن للسياسة والسلوك، وحتى مجرد إثارة التفكير؛ وهذا هو شأن النظم الجمهورية والملكية العربية قبل الموجة الثالثة للديمقراطية (وفق تسمية صامويل هانتغتون) التي وصلت إلى العالم العربي خلال تسعينيات القرن العشرين.

أحسن الأمثلة في هذا الصدد النظام البعثي في سوريا والعراق، والنظام الجمهوري في الجزائر (فترة حكم هواري بومدين) وتونس، والنظام الملكي في الخليج عدا الكويت. أما النوع الثاني، فهو النموذج الذي انتشر بعد تسعينيات القرن العشرين ومازال مستمراً إلى اليوم، بحيث أن العديد من النظم الملكية والجمهورية أحدثت الكثير من التغييرات في القوانين التي ألغت الأحادية السياسية وفتحت المجال أمام تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، لكنها تعسفت في تطبيقها أو استغلالها لتبقى نفس القوى الحاكمة في السلطة بأي طريقة والتي سماها صامويل هانتغتون “بالقوى المحافظة”،[xxxiii] التي لازالت تقاوم أي تغيير ينهي حالة الاستبداد المتوطن في البنيات السياسية وتقاليد صناعة القرار، و يجسد في مقابل ذلك التعددية السياسية العميقة في نظام الحكم وعملية صناعة القرار السياسي.

أخذت عملية مقاومة التغيير المحفزة بواسطة النزعة المحافظة على النمط المستبد في الحكم وإدارة شؤون السياسة عدة أشكال، مثل افتعال أزمات الأمن المجتمعي لفرض السطوة الأمنية والحد من الحريات السياسية، وخلق الإرهاب وإعلان الحرب عليه من أجل إقصاء الأحزاب ذات الاتجاه السياسي الإسلامي من الساحة السياسية تماماً (حالة مصر، السعودية، البحرين، والإمارات العربية المتحدة)؛ أو الاستخدام المفرط للقوة العسكرية ضد كل القوى السياسية التي تبحث عن التغيير، الذي فجّر في كثير من الحالات حروباً أهلية مريعة (حالة سوريا واليمن وليبيا).

يمكن بيان نمط الاستبداد التعسفي بواسطة الحالة السورية التي يسمح دستورها بتشكيل الأحزاب السياسية، في نفس الوقت هناك سطوة أمنية ضد كل المعارضين لسيطرة حزب البعث الاشتراكي على السلطة والشعب والثروة وكل الأنشطة المجتمعية المدنية والسياسية؛ ومن ثم، ليس هناك تفكير أو ممارسة سياسية خارج سقف حزب البعث الحاكم. ليس هذا فحسب، وإنما داخل النظام السياسي السوري نفسه، تشكل الطائفة العلوية -التي تنتمي إليها الأسرة الرئاسية الحاكمة- الفاعل الأكثر سيطرة على المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ويسيطر شيوخ حزب البعث على الأنشطة التجارية والاجتماعية والسياسية في المستويات الدنيا من النظام السياسي؛ إنها وضعية تجسد وصف الكواكبي عندما قال: “وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً، لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد، وإنما قد يعدله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتفاق [الاستبداد عبر البنية] أضر من استبداد الفرد”.[xxxiv]

شكلت الحالة السورية ذروة الاستبداد التعسفي خاصة في فترة ما بعد وفاة حافظ الأسد، وهناك حالات أخرى أقل منها صرامة منتشرة في البلدان العربية كتلك التي منحت بعض المشاركة للمعارضة في المؤسسات المنتخبة وتشكيل الحكومة، لكن احتفظت القوى المحافظة بجوهر السلطة مثل الاحتفاظ بتعيين رئاسة الحكومة، الوزارات الحيوية كالدفاع والخارجية والداخلية والمالية. يندرج تحت هذه الفئة الكثير من الحالات العربية مثل المغرب، الجزائر، الأردن، تونس، والسودان؛ تنظّم هذه الدول من الناحية الشكلية الانتخابات بشكل دوري، لكن تحتفظ القوى المحافظة بمراكز الثقل السياسي في البلاد، وإذا ما قورنت بباقي الدول العربية، نجد أنها تأتي في مقدمة الدول العربية التي حققت نجاحاً معيناً في تقليص دائرة سيطرة الاستبداد الصارم واستبداله بما يمكن تسميته “بالاستبداد المرن”، وهي قريبة من التحرر تماماً من النمط الاستبدادي نحو النمط الديمقراطي.

يعني الاستبداد المرن قبول القوى المحافظة (في الجيش والمنظمات الاستخبارية والتجارة الخارجية) مشاركة بعض الأطراف التجديدية في السلطة والحياة السياسية العامة -مثل تشكيل الأحزاب والإعلام والمؤسسات المنتخبة-، لكن دون أن تتنازل عن مراكز ثقل النظام السياسي التقليدية المشار إليها سابقاً. وفق النظرة التفاؤلية، يمكن اعتبار الاستبداد المرن مرحلة وسطى تفصل الحالة الاستبدادية عن نظيرتها الديمقراطية، وصولاً إلى النظام السياسي الديمقراطي المستقر الذي يستوعب كل التناقضات والتباينات والتنوعات السياسية والاجتماعية والثقافية، ويعمّق مفاهيم الثقافة الديمقراطية[xxxv] مثل مفهوم المواطنة، العقد الاجتماعي، الحرية السياسية العامة، المشاركة السياسية، وغيرها من الشروط المطلوبة في ترسيخ مبدأ الحق في الوجود لكل رعايا الدولة كمواطنين شرعيين. وفق منظور أنصار نظرية العلاقات المدنية-العسكرية،[xxxvi] هذا هو المسار الذي اتبعته الكثير من حالات الإصلاح الديمقراطي عبر العالم منذ الثورة البرتغالية عام 1974 وصولاً إلى الحالة التركية عام 2002.

باختصار، يجب التأكيد في هذا الفصل على فكرة أن ديمومة الاستبداد في صياغة المخرجات السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية وأنماط التفكير، ناتجة عن تأثيرات نسقية (البنيات السياسية والاجتماعية) وعمليات سوسيولوجية (التنشئة الاجتماعية وما شابه ذلك)، المسؤولة عن توليد خاصياته الرئيسية عبر الزمن، وأصبح كل ذلك معززاً بواسطة القابلية المجتمعية للاستبداد.

خاتمة

الاستبداد ظاهرة اجتماعية/سياسية متكررة في سلوك الأمم، لأنها ناتجة عن عمليات التنشئة الاجتماعية والبنيات السياسية المختلفة، التي تصوغ بواسطتها البنيات الاجتماعية المختلفة السلوك، والإدراك، والتفاعلات، وحتى العادات الاجتماعية اليومية وطريقة التفكير إزاء الحياة والخيارات الشخصية والجماعية. التأكيد على فكرة العلاقة بين التعلم الاجتماعي واستمرار ظاهرة الاستبداد، لا يعني أنه قدر سياسي ونفسي لا يمكن للإنسان أن يتخلص من آثاره السلبية، وإنما هذا الافتراض موجه نحو التأكيد على فكرة أنه ظاهرة سلوكية تنشأ وتنتشر وتستمر عبر المجتمع بواسطة التعلم بالملاحظة، ويتم التخلص منها أو على الأقل التقليص من دائرتها بواسطة أيضا التعلم. القاعدة النظرية لهذه النتيجة الاستدلالية مؤسسة معرفياً على الافتراضات العامة المطروحة من قبل أنصار نظرية التعلم الاجتماعي،[xxxvii] والتي تقضي بأننا نتعلم الكثير من الأشياء بواسطة الملاحظة، والاستخراج الحركي للسلوك، وعمليات التعزيز بواسطة المحيط الاجتماعي، والبنيات الاجتماعية والسياسية، والإعلامية/الثقافية القائمة، بالإضافة إلى عادات التفكير والتصورات الاجتماعية. يبدأ الاستبداد من نمط التنشئة الاجتماعية السائد في المجتمع، يترسخ كخاصيات شخصية وميول نفسية وانفعالية، ثم يتبلور كبنية سياسية تؤطر التفاعل العام للمجتمع والأفراد ضمن الهرميات البيروقراطية والاجتماعية والإعلامية/الثقافية على حد سواء.

[i]  فهمي سليم الغزوي وآخرون، (المدخل إلى علم الاجتماع (،عمان: دار الشروق، 1992)، ص. 22.

[ii] روبرت شيالديني،  التأثير: وسائل الإقناع،   تر. سعد جلال (القاهرة: دار الفكر العربي، 1988)، ص ص. 37 -40.

         [iii]Dagmar Stahberg and Dieter Frey, «Attitudes: Structure, Measurement and Functions, » In Introduction to Social Psychology, 2nd ed. Ed. Miles Hewstrone, Wolfgang Stroebe, and Geoffrey M. Stephenson (Ney York: Bleckwell Publishers, 1996), pp. 215 -18.

[iv]       على عبد الرزاق جلبي، الاتجاهات السياسية في نظرية علم الاجتماع (د. م.: دار المعرفة الجامعية، 1991)، ص. 143.

[v]    عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تق. سعيد بن محمد السناري، مر. طه عبد الرؤوف سعد، ط.1 (دمشق، القاهرة: دار الكتاب العربي، 2012)، ص. 113.

[vi] علي أحمد عامر، “فهم الآباء أنفسهم وفهم أبناءهم،” العربي، 120 (1996): 84.

[vii] رشدي عبده حنين، بحوث ودراسات في المراهقة (مصر: دار المطبوعات الجديدة، 1983)، ص.11.

[viii] محمود مهدي الأستانبولي، كيف نربي أطفالنابيروت: المكتب الإسلامي، 1988، ص: 37.

[ix] عماد الدين إسماعيل ومحمد أحمد غالي، في علم النفس النمائي: الإطار النظري لدراسة النمو (الكويت: دار القلم، 1981)، ص: 284.

[x] محمد خالد الطحان، “مقياس الاتجاهات الوالدية في التنشئة كما يدركها الأبناء،” المجلة العربية للبحوث التربوية.المجلد: 03، العدد: 01(1983): 70.

[xi] غي بالماد ، مناهج التربية. ترجمة: جوزف عبود كبة،  بيروت: دار منشورات عويدات، ص: 40. دون ذكر تاريخ النشر.

[xii] نفس المرجع السابق، ص: 43.

[xiii] عما الدين إسماعيل ومحمد احمد غالي، مرجع سبق ذكره، ص: 287.

[xiv] لندال .دافيد ، مدخل علم النفس، تر. سيد الطواب وآخرون، مر. وتق. فؤاد أبو الخطب (نيويورك: دار ماكجروهيل للنشر، 1980)، ص. 758.

[xv] جون كونجر ويول موسن وجيروم كيجان، سيكولوجية الطفولة والمراهقة، تر. أحمد عبد العزيز سلامة وجابر عبد الحميد جابر (القاهرة: دار النهضة العربية، 1970)، ص. 469.

[xvi]         Larry A. Hjelle & Daniel J. Ziegler, Personality Theories : Basic Assumptions, Research, and Applications, 3rd ed. (New York: McGraw-Hill International Editions, 1992), pp. 373-84.

[xvii]    لهذا السبب أطلق عبد الرحمن الكواكبي مصطلح “طبائع الاستبداد” قبل أكثر من قرن من الزمن، لتشخيص الظاهرة في المجتمعات العربية آنذاك؛ طبائع جمع طبع.

[xviii]   عبد الرحمن الكواكبي، مرجع سبق ذكره، ص. 106.

[xix]       عبد الرحمن الكواكبي، مرجع سبق ذكره، ص. 106.

[xx]       ريتشارد كليز ومايكل تومبسون وأرون ويلدفسكي، نظرية الثقافة، تر. علي سيد الصاوي، مر. وت. الفاروق زكي يونس (الكويت: مطابع الرسالة، 1997)، ص. 269.

        [xxi] Glynis Breakwell, Coping With Threatened Identies (Londo, New York: Methuen & Co., 1986), pp. 109- 36.

       [xxii] Robert A. Baron and Donn Byrne, Social Psychology: Understanding Human Interaction, 4th ed. (Boston, London, Sydney, Toronto: Allyn and Bacon, INC., 1984), pp. 321-56.   

      [xxiii] عبد الرحمن الكواكبي، مرجع سبق ذكره، ص. 113.

        [xxiv] Immanuel Kant, “Morality, Politics, and Perpetual Peace,” In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 553-61.

[xxv]

      [xxvi] Michael W. Doyle, “Liberalism and World Politics,” In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 262-85.  

      [xxvii] Paul K.Huth and Todd L.Allee, The democratic peace and territorial conflict in the twentieth century (United Kingdom: The Pitt Building, Trumpington, 2004), pp. 277- 98.

      [xxviii] Anthony G. McGrew & M. J. Wilson, « Rational Decision Making, » In Decision Making: Approaches and Analysis, ed. Anthony G. McGrew & M. J. Wilson (Great Britain: Manchester University Press, 1982), pp. 49- 51.

     [xxix] Zeev Maoz, National Choices and International Process (Cambridge, New York, Port Chester, Melbourne, Sydney: Cambridge University Press, 1990) pp. 499 –503.

[xxx]    عبد الرحمن الكواكبي، مرجع سبق ذكره، ص. 106.

[xxxi]     نفس المرجع السابق، ص. 244.

[xxxii]    نفس المرجع السابق ، ص. 105.

[xxxiii]     صامويل هانتغتون، الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، تر. عبد الوهاب علوب (الكويت: دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، د. ت.)، ص. 355.

         [xxxiv]    عبد الرحمن الكواكبي، مرجع سبق ذكره، ص. 106.

      [xxxv] Andrew Linklater, « Globalization and the Transformation of Political Community, » In The Globalization of World Politics : An Introduction to International Relations, ed. John Baylis and Steve Smith, 2nd (New York: Oxford University Press, 2001), p.  621-26.

    [xxxvi]Toshi Yoshihara, « Defense Reforms, Civil-Military Relations, and the Defense of Taiwan, » in Global Politics Of Defense Reform, ed. Thomas Bruneau and Harold Trinkunas (United States of America: Palgrave Macmillan, 2008), pp. 24061.

      [xxxvii] جورج إم غازدا وريموند جي كورسيني، نظريات التعلم: دراسة مقارنة، 2 أج.، تر. علي حسين حجاج، مر. عطية محمود هنا (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1986)، ص ص. 207-15. 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button