دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات استراتيجيةدراسات اقتصادية

هل تستطيع ألمانيا التخلي عن إمدادات الغاز الروسية؟

تشهد ألمانيا جدلاً واسعاً بشأن مدى أخلاقية شراء الغاز الروسي في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، كما تُثار التخوفات حول عدم قدرة الاقتصاد الألماني على التكيف إذا قررت برلين التخلي عن الغاز الروسي كلياً. يأتي هذا على خلفية اشتراط روسيا دفع قيمة الغاز بالروبل الروسي بدلاً من اليورو. ولا تزال ألمانيا مترددة بين خيار الاستمرار في شراء الغاز الروسي، رغم عدم أخلاقيته وتكلفته العالية، وبين خيار التحرر من الغاز الروسي مع تحمُّل العواقب المترتبة على تلك الخطوة. غير أن الموقف ذاته بات يفرض على صانع القرار الألماني حتمية البحث عن بدائل مختلفة للطاقة، بما يقي الاقتصاد الألماني التداعيات السلبية المحتملة من جراء قطع إمداداتها من الغاز الروسي، سواء حدث ذلك تدريجياً أو على نحو مفاجئ وسريع.

ففي خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، تقف ألمانيا حائرة بين اعتبارات المصلحة وما تقتضيه الضرورة وبين أخلاقيات شراء الغاز الروسي، الذي يُعَد الاستمرار فيه بمنزلة تمويل للحرب ضد أوكرانيا، بما يدفع إلى إطالة أمدها. وتكمن صعوبة التحدي في اعتماد ألمانيا في ثلثي استهلاكها من الطاقة على الغاز الروسي. وبحسب بيانات صادرة عن البنك الدولي، فإن قيمة واردات ألمانيا من الغاز الروسي في عام 2021 وحده، قد بلغت نحو 80 مليار يورو. ومما يزيد من تعقد الموقف، قيام روسيا بمطالبة الدول “غير الصديقة”، ومنها ألمانيا، بأن تدفع مقابل الغاز بالروبل الروسي بدلاً من اليورو، وهو ما رفضه الاتحاد الأوروبي، فيما لم تحسم ألمانيا موقفها النهائي في قرار قطع صلتها بالغاز الروسي، خاصةً في ظل إقرار الحكومة الألمانية بخطورة التحرر السريع من الغاز الروسي من دون ضمان بدائل أخرى؛ لما في ذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد الألماني. وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، أُثير جدل واسع بين الاقتصاديين الألمان فيما بينهم ومع وزراء الحكومة الألمانية، حول العواقب المحتملة لحظر الطاقة الروسية على اقتصاد ألمانيا.

حُجج المتفائلين

يُصر بعض الاقتصاديين المستقلين، فضلاً عن عدد من السياسيين المعارضين، على أن عواقب حظر الغاز الروسي يمكن التحكم فيها واحتواؤها، مهما كانت كبيرة، استناداً إلى ما يلي:

1– وجود بدائل أخرى في السوق العالمية: يستند هذا الرأي إلى أن ثمة بدائل في السوق العالمية للطاقة من البلدان الأخرى المُصدِّرة للنفط والفحم، كافية لتعويض النقص من الطاقة إذا تم حظر الغاز الروسي كلياً، ومن ثم فلن يكون هناك مشكلة كبيرة أمام استبدال الواردات الروسية.

بيد أن التحدي الأكبر يتمثل في إيجاد بدائل قصيرة المدى للغاز الروسي؛ إذ تستطيع شبكة خطوط الأنابيب الحالية أن توفر نحو 15% فقط من إجمالي استهلاك الطاقة في ألمانيا، ومن ثم فإن محدودية قدرات المحطات لن تتيح الفرصة لاستبدال كامل الواردات الروسية على المدى القصير. أضف إلى ذلك، خضوع زيادة واردات خطوط الأنابيب من البلدان الأخرى لبعض القيود، كتعدد التزاماتها نحو مستوردين آخرين.

2– انخفاض واردات ألمانيا فعلياً من الغاز الروسي: في النصف الثاني من عام 2021 والأشهر الأولى من عام 2022، شهدت واردات ألمانيا من الغاز الروسي انخفاضاً فعلياً؛ حيث انخفضت حصة واردات الغاز الروسي من نحو 40% إلى 20–30%، متجاوزة بذلك الانخفاض في واردات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا من روسيا، رغم قدرة الاتحاد الأوروبي على تنويع واردات الغاز لديها بدرجة أكبر من ألمانيا.

ووفق “تقرير التقدم في أمن الطاقة” الصادر عن وزارة الشؤون الاقتصادية والعمل المناخي، في 25 مارس 2022، فإن ألمانيا يمكنها أن تتخلص جزئياً من النفط والفحم الروسيين بحلول نهاية العام الجاري، أو كلياً في غضون عامين، فيما توقع التقرير أن تُخفض الدولة وارداتها من الغاز الروسي إلى 10% بحلول منتصف عام 2024، وهو ما يعد خطة طامحة للغاية تُواجهها عقبات لوجستية معقدة.

3– القدرة على تحمُّل عواقب توقُّف الإمدادات الروسية: بحسب مجموعة من العلماء في الأكاديمية الوطنية الألمانية للعلوم ليوبولدينا، فإن تداعيات التوقف القصير الأجل لتوريد الغاز الروسي قد تكون كبيرة، لكن من الممكن التحكم فيها. واستند الباحثون في ذلك إلى أن من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا من جراء تلك الخطوة بنحو 0.5%، وهو ما يبدو تأثُراً ضئيلاً عند مقارنته بالانخفاض الذي شهده الناتج المحلي الإجمالي بنحو 4.5% في العام الأول لتفشي كوفيد–19، ورغم ذلك استطاع الاقتصاد الألماني الصمود.

السيناريو القاتم

يذهب هذا السيناريو إلى النظر في الآثار السلبية المحتملة لقطع ألمانيا إمدادات الغاز الروسي إليها، التي تتمثل فيما يأتي:

1– تراجُع مؤشرات الاقتصاد الكلي: تُجادل مجموعات الضغط الصناعية ومراكز الفكر القريبة منها أو من النقابات العمالية، بأن الحظر ستكون له انعكاساته السلبية على الاقتصاد الألماني، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر الجماعي والركود. وفي دراسة أجراها المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية، توقعت أن تواجه ألمانيا، نتيجة الاستغناء عن الغاز الروسي، انخفاضاً في الإنتاج وارتفاعاً إضافياً في التضخم الذي وصل بالفعل إلى 5.5% في فبراير الماضي 2022.

 ووفق دراسة نشرتها مؤسسة IMK – وهي مؤسسة فكرية قريبة من النقابات العمالية في ألمانيا، تدعم التقييم الحكومي القاتم لخطورة التخلي عن الغاز الروسي – فإن وقف واردات الطاقة من روسيا سيؤدي إلى ركود عميق، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 6%، بيد أن مقدار التداعيات على الاقتصاد الكلي سيتوقف على مدى قدرة ألمانيا على تعديل هيكل الإنتاج للتكيف مع المتغيرات الجديدة، ومدى إمكانية الاستعاضة عن الواردات من روسيا بواردات من موردين آخرين.

2– تضرر كبير لشركات المرافق: من المتوقع أن يتحمل قطاع المرافق في ألمانيا النصيب الأكبر من عبء أي مقاطعة للطاقة الروسية، وقد حذر ممثلوه من تداعيات اقتصادية واجتماعية ضخمة إذا تمت المقاطعة. فيما أكَّد ليونارد بيرنباوم الرئيس التنفيذي لشركة الخدمات العامة الألمانية العملاقة، “الأضرار الجسيمة” التي سيعاني منها الاقتصاد الألماني إذا تم حظر الغاز الروسي.

3– تأثُّر العديد من القطاعات الصناعية: حذرت عدة قطاعات صناعية تشتمل على اتحاد التعدين والكيماويات والطاقة ورابطة صناعة الصلب والجماعات التي تمثل قطاعات المعادن والكهرباء؛ من احتمالية حدوث خلل شديد في التصنيع وسلاسل التوريد؛ فإذا اضطرت ألمانيا إلى تقنين الغاز الروسي، فستكون الأولوية للأسر المعيشية وخدمات الطوارئ كالمستشفيات، وهذا من شأنه أن يُلحق الضرر بالمصنعين الذين يعتمدون على الغاز في الإنتاج بوجه خاص؛ ما يؤدي إلى ارتفاع في أسعار الطاقة وربما فقدان العديد من المصنعين وظائفهم.

تحدٍّ صعب

أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى انتباه الحكومة الألمانية إلى أهمية وضع سياسة للطاقة قصيرة إلى متوسطة المدى، والسعي إلى تعويض الغاز الروسي بإيجاد مصادر طاقة بديلة. وفيما يأتي نظرة على بعض الخيارات المتاحة أمام ألمانيا في هذا الصدد:

1– الاستعاضة عن واردات الغاز الروسي بدول أخرى: خلال الأيام القليلة الماضية، عمدت ألمانيا – ممثلة في وزير اقتصادها روبرت هابيك – إلى تنظيم زيارات إلى مُصدِّري الغاز الرئيسيين، وعلى رأسهم قطر والنرويج، لدعم إمدادات الطاقة المستقبلية. وبالرغم من عدم امتلاك ألمانيا محطات لاستقبال واردات الغاز الطبيعي المسال، الذي يعد البديل الرئيسي للغاز الطبيعي الروسي، فإن ذلك جاء بمنزلة تمهيد لخطة مستقبلية هدفها تنويع موردي الغاز إلى ألمانيا، وهو ما أكده هابيك خلال زيارته إلى الدوحة التي من المتوقع أن تضاعف إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال لألمانيا بحلول عام 2025. وبالتوازي، تُجري ألمانيا محادثات مع النرويج وكندا والولايات المتحدة، في إطار مساعي ألمانيا نحو تقليل تدفق الطاقة من روسيا إلى الصفر، وهو ما سيتطلب من ألمانيا كذلك تكثيف الجهود من أجل تسريع بناء محطات استقبال الغاز المسال، التي قد يستغرق بناؤها نحو ثلاث سنوات؛ من أجل تحقيق أهدافها على المدى المتوسط.

2– تسريع وتيرة التحول إلى مصادر الطاقة المستدامة: تحتاج ألمانيا في الوقت الراهن إلى التوسع الكبير في مصادر الطاقة المتجددة، وتقليل الاستهلاك من الطاقة في جميع القطاعات، والتنويع بزيادة الهيدروجين الأخضر حتى تتمكن من تخطي تحدي الطاقة. وبحسب “كلوديا كيمفرت” الخبيرة الاقتصادية الألمانية بمجالات أبحاث الطاقة، فإن ألمانيا تستطيع بحلول عام 2030 أن تحصل على كهرباء من الطاقة المتجددة بنسبة 100%، كما أن بإمكانها تحويل اقتصاد الطاقة بالكامل إلى مصادر متجددة بحلول عام 2035؛ وذلك انطلاقاً من امتلاك ألمانيا فعلياً، في شهور الصيف، القدرة على توليد نحو 40 إلى 50% من الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

3– توظيف الغاز الطبيعي المُسال كجسر مؤقت للمستقبل: يُعد الغاز الطبيعي المسال (LNG) أحد الخيارات الهامة المتاحة أمام ألمانيا كجزء من استراتيجية تنويع الطاقة. وعلى هذا الأساس، أعلنت ألمانيا عقب التدخل الروسي في أوكرانيا، عن خطط للمضي قدماً في بناء أول محطات شحن للغاز الطبيعي المسال، وأنها تعمل على تسريع العمل في محطتين للغاز الطبيعي المسال في الوقت الحالي، كخطة قصيرة المدى لتنويع إمداداتها من الغاز. وبالرغم من ذلك، فإن ثمة تحديات قد تعوق ذلك المسار؛ لعل أهمها عدم وجود محطة في ألمانيا قادرة على التعامل مع واردات الغاز الطبيعي المسال كما سبقت الإشارة، علاوة على عدم قدرة إمدادات الغاز الطبيعي المسال المتاحة، على تعويض واردات الغاز الروسي بالكامل، كما أنه بديل مكلف عن الغاز الطبيعي الروسي.

4– إعادة تنشيط المحطات النووية: يُعد خيار المحطات النووية مطروحاً إذا تعثرت الخيارات والبدائل الأخرى، غير أن الاضطرار إلى إعادة تنشيط المحطات النووية هو بمنزلة انتحار سياسي في برلين المناهضة لاستخدام الطاقة النووية في توليد الطاقة، باعتبارها خطوة ذات تداعيات كارثية. فقد كانت معارضة الأسلحة النووية هي الأساس الدافع نحو تأسيس حزب الخضر الألماني، الذي يتقلَّد اثنان من قادته السابقين حقائب وزارية في الحكومة الألمانية، وهما وزير الاقتصاد روبرت هابيك ووزيرة الخارجية أنالينا بربوك، المعارضان بقوة لفكرة تنشيط عمل المحطات النووية من جديد.

5– إمكانية التحول إلى الفحم مؤقتاً: يمثل التحول نحو الفحم بصورة مؤقتة خياراً هاماً قد يدفع الاقتصاد الألماني نحو التكيف – كمرحلة انتقالية – حتى تنتهي ألمانيا من إنشاء محطات الغاز الطبيعي المسال؛ إذ من الممكن لمرافق الكهرباء التي استحوذت على نحو 13% من استهلاك الغاز العام الماضي، أن تعتمد على محطات حرق الفحم، بيد أن هذا الخيار يعني تراجع مساعي ألمانيا نحو الانتقال الأخضر، بما يعرقل مسيرة أوروبا ودورها الرائد في إيجاد حلول لتغير المناخ، لكنه يظل واحداً من أهم البدائل على المدى القصير.

نهج عقلاني

إجمالاً، من المُرجَّح أن تتبع ألمانيا نهجاً عقلانياً فيما يتعلق بقرارها إزاء الحرب الأوكرانية؛ فربما تلجأ إلى تقليل الكميات المستوردة من الغاز الروسي تدريجياً؛ لضمان عدم حدوث ارتدادات عكسية على الاقتصاد الألماني. وبالتوازي، قد تعمل ألمانيا على الاستعانة بمصادر بديلة للطاقة، كالفحم والطاقة النووية – ولو مؤقتاً – تزامناً مع تسريع بناء محطات استقبال الغاز الطبيعي المسال وتوسيع شبكة موردي الغاز إليها، بما يتيح الفرصة للاقتصاد الألماني للتكيف والتحرر من الضغط الروسي بورقة الغاز.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى