دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

هل تسفر زيارة “ماكرون” للولايات المتحدة عن رأب صدع العلاقات المشتركة؟

من المرتقب أن يستضيف الرئيس الأمريكي “جو بايدن” نظيره الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في زيارة رسمية تبدأ يوم 29 نوفمبر الجاري. ومن المتوقع أن تناقش هذه الزيارة عدداً من القضايا والتحديات العالمية ذات الاهتمام المشترك، خاصةً مع ضخامة الوفد الوزاري والنيابي، وكذلك وفد رجال الأعمال الذي يرافق “ماكرون” على نحوٍ يعكس الأهمية التي تُوليها باريس لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، والآمال المعلقة على تلك الزيارة.

ملفات الزيارة

من المتوقع أن يكون على أجندة زيارة “ماكرون” للولايات المتحدة ملفات عديدة تهم البلدين. وتتضح هذه الملفات عبر ما يلي:

1- تبعات قانون مكافحة التضخم الأمريكي على أوروبا: تهدف فرنسا إلى التفاوض على بعض الإعفاءات من الرسوم والقيود الواردة في قانون مكافحة التضخم الأمريكي، جنباً إلى جنب مع النظر في سبل حماية المصالح الاقتصادية الأوروبية. وما يدلل على ذلك مرافقة وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي “برونو لومير” للرئيس الفرنسي؛ إذ يهدف قانون خفض التضخم، الذي دخل حيز التنفيذ بصورة فعلية في شهر أغسطس الماضي، إلى خفض تكاليف معيشة المواطنين من خلال الدعم المالي المقدم لهم، بالتوازي مع ضخ استثمارات ضخمة في مجال السيارات الكهربائية والبطاريات ومشروعات الطاقة المتجددة، على أن يخصص الجانب الأكبر من الإعانات للمنتجات المصنعة في الولايات المتحدة، وهو ما يعني على سبيل المثال دعم شركة “تسلا” الأمريكية وتفضيلها على شركة “بي إم دبليو” الألمانية، وهو ما يؤثر في مجمله في عدد من الصناعات الأوروبية.

2- توحيد الموقف بشأن تطورات الحرب في أوكرانيا: تهدف الولايات المتحدة إلى الحفاظ على موقف أوروبي موحد تجاه الحرب الروسية–الأوكرانية، لا سيما في أعقاب استعادة كييف مدينة خيرسون. وفي هذا الإطار، ذهبت بعض التحليلات إلى حتمية تنظيم الصفوف الأوروبية لمساعدة كييف في القتال من ناحية، وتجنب التصعيد مع روسيا من ناحية ثانية، ومناقشة الجهود الدبلوماسية المستقبلية لإنهاء الحرب من ناحية ثالثة. وتُدرك واشنطن تزايد أهمية تواصل “ماكرون” مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، لا سيما أن الهزيمة العسكرية للجيش الروسي قد تؤدي إلى تصعيد نووي، فضلاً عن أن استمرار أوكرانيا في القتال قد يُسفر عن خلافات عميقة مع مختلف الدول الأوروبية، ومن ثم سيكون هذا الملف حاضراً بقوة خلال زيارة “ماكرون”.

3- بحث سبل تعزيز تعاون البلدين في مجال الطاقة: من المرجح أن تحتل قضايا الطاقة مكانة بارزة في محادثات “بايدن” و”ماكرون”؛ إذ تأمل فرنسا تعزيز التعاون في مجال الطاقة النووية في ظل رغبتها في بناء المزيد من المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، ومجابهة مشكلة التقادم الفني في المصانع الفرنسية، وتجنب انقطاع التيار الكهربائي في أوروبا. وفي هذا السياق، سارعت شركة المرافق الفرنسية إلى استقطاب مئات العمال المتخصصين، وبخاصة من شركة ويستن هاوس الأمريكية لصناعة المفاعلات النووية. كما ينوي “ماكرون” السفر إلى ولاية لويزيانا لمناقشة قضايا الطاقة، خاصةً مع امتلاك شركة النفط الفرنسية العملاقة “توتال” الفرنسية محطة كبيرة للغاز الطبيعي المسال في الولاية المطلة على خليج المكسيك.

4- التنسيق بشأن كيفية احتواء التهديدات الصينية: توقعت بعض التحليلات أن تُظهر الولايات المتحدة وفرنسا قدراً من الوحدة في مواجهة التهديدات الصينية المشتركة على الرغم من إشارة “ماكرون” سلفاً إلى زيارته المرتقبة إلى بكين في مطلع العام القادم؛ حيث يعني هذا الأمر أن الصين قد تتحول إلى ورقة مساومة للتفاوض مع واشنطن، وهو ما سيزيد الضغط على الأخيرة على نحوٍ يحقق المصالح الفرنسية. وأشارت تحليلات أخرى إلى أن أهمية الصين في زيارة “ماكرون” إلى الولايات المتحدة ترجع إلى سعي الأخيرة إلى مزيد من الدعم الأوروبي لتقييد بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصةً في ظل امتلاك فرنسا بعض الأراضي في تلك المنطقة. وقد أشارت تحليلات ثالثة إلى أن الضغط الأوروبي على الصين قد يدفعها لمطالبة روسيا بوقف الحرب.

مصالح متضررة

ثمة مجموعة من الدلالات لزيارة “ماكرون” المرتقبة للولايات المتحدة، يمكن استعراض أبرزها عبر ما يلي:

1- الرغبة في إعادة تنسيق العلاقات الأوروبية–الأمريكية: يرى البعض أن زيارة “ماكرون” للولايات المتحدة تاريخية لكونها أول زيارته للولايات المتحدة في ظل رئاسة “بايدن”، وإن سبقتها أخرى في عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب” في أبريل 2018. وبهذه الزيارة سيصبح “ماكرون” أول رئيس فرنسي في الجمهورية الخامسة يقوم بزيارتين رسميتين إلى الولايات المتحدة. وتبعاً لوكالة “رويترز”، فإن أهمية تلك الزيارة ترجع إلى هدفها المتمثل في تسليط الضوء على الصداقة الفرنسية–الأمريكية لا على المنافسة الاقتصادية بين جانبي الأطلسي. وفي السياق نفسه، ووفقاً للرئاسة الفرنسية، فإن تلك الزيارة تتطلع إلى الشراكة وإعادة تنسيق العلاقات الأوروبية–الأمريكية في ظل تعدد الأهداف المشتركة لا سيما الأزمة الأوكرانية.

2- تضرر الصناعات الأوروبية نتيجة الحرب الأوكرانية: ترى فرنسا – ويشاركها في ذلك بعض الدول الأوروبية – أن الدعم الذي أقره الكونجرس للصناعات الأمريكية يقوض الصناعات الأوروبية التي تعاني من تبعات ارتفاع أسعار الطاقة الناجمة من جراء الحرب الروسية–الأوكرانية؛ ما قد يجر الجانبين إلى حرب تجارية جديدة؛ لذا قد تطالب فرنسا ببعض الإعفاءات من بعض الرسوم والقيود التي تفرضها الإدارة الأمريكية، وقد ينصرف الأمر إلى استجابة أوروبية منسقة وموحدة تجاه الولايات المتحدة. وقد تجلت الحرب التجارية على سبيل المثال في حالة المنافسة الحادة بين شركتي “إيرباص” و”بوينج”، وكذلك في حالة الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة “ترامب” على الصلب والألومنيوم.

3- تزايد احتمالات إقرار قانون شراء المنتجات الأوروبية: قد تسفر السياسات الأمريكية عن إقرار قانون شراء المنتجات الأوروبية في مواجهة المنافسة العالمية ودعم التصنيع الأوروبي؛ وذلك على الرغم من الصعوبات التي ستعترض التنافس الأوروبي مع الولايات المتحدة، وبخاصة مع تخصيص ما يتراوح بين 350 و400 مليار دولار في تشريع خفض التضخم الأمريكي. وتتزايد أهمية هذا القانون مع فقدان سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، وهو ما يعني استحالة إلغاء القانون الأمريكي بعد إقراره بالفعل وبدء سريانه، ومن ثم تدور أغلب التحليلات حول إعفاءات واستثناءات أوروبية على شاكلة تلك التي تتمتع بها المكسيك وكندا.

4- انزعاج الأوروبيين من سياسات الطاقة الأمريكية: وفقاً لصحيفة إيكونوميست، تتزايد أهمية النظر في ملف الطاقة بين الجانبين الفرنسي والأمريكي في ظل سخط الأوروبيين من أسعار الغاز الأمريكي، فيما تصفه الغالبية العظمى من التحليلات بالاختبار “الذي يمكنه تهديد أقدم الأصدقاء”، وهو ما تتزايد أهميته بالنظر إلى تأثره المباشر بتداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية التي يأمل الجانبان التوصل إلى تفاهمات مشتركة بشأنها.

عودة الدفء

ختاماً، على الرغم من تعدد الملفات المطروحة على أجندة زيارة “ماكرون” المرتقبة إلى الولايات المتحدة، فإن التحدي الأكبر أمام فرنسا يتمثل في مواجهة خطة الاستثمار الأمريكية الهائلة لمكافحة التضخم؛ لما لها من آثار سلبية كبرى تطال المنافسة التجارية؛ إذ تندرج تلك الزيارة تحت مظلة تعزيز العلاقات الثنائية، بيد أن أغلب المحللين يدفعون بكونها محاولة لعودة الدفء إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين في أعقاب الفتور الذي شهدته إثر صفقة الغواصات الفرنسية–الأسترالية.

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى