نظرية العلاقات الدولية

هل تمثل الحرب في أوكرانيا نقطة تحول في النظام الدولي؟

تدلل تفاعلات الحرب الدائرة في أوكرانيا على الطبيعة المعقدة للنظام الدولي الذي تتقاطع فيه قضايا لم تُحسَم منذ حقبة مضت، مع تطلعات الأطراف الفاعلة إلى موقع ومكانة في نظام جديد لا يزال قيد التشكيل. ومع أن التعقيد صفة للنظام الدولي في كل العصور، فقد وصل إلى درجة تكاد تكون غير مسبوقة في المرحلة الحالية من العلاقات الدولية؛ فبالإضافة إلى ما تشهده من تحولات في موازين القوة بين أطرافه الرئيسية، هناك كثافة وتنوع في أنماط التفاعل، ودرجة كبيرة من الاعتماد المتبادل فيما بينها؛ ما يجعل كل الخيارات صعبة؛ فاستمرار الاعتمادية المتبادلة يمثل نقطة ضعف، في حين أن فك هذا الارتباط يترتب عليه تكاليف باهظة. من جانب آخر، أصبح للفاعلين من غير الدول، مثل الشركات العالمية الكبرى، حضور أكبر على الساحة الدولية، كما أصبح نمط الإنتاج الذي يعتمد على سلاسل إمداد عابرة للحدود والقارات، محدداً أساسياً للسياسات الخارجية. اتسع أيضاً مجال التفاعل في الفضاء الافتراضي، ليشمل التجارة والتواصل والإعلام، والتبادل لعملات رقمية لا تخضع لسيطرة الدول ولا لرقابة البنوك؛ ما يقتضي البحث عن صيغ جديدة لإدارة هذه الفضاء، تتنازع على تحديدها شركات التكنولوجيا من جانب، والدول من جانب آخر.

تدفع هذه الحالة المراقبين إلى محاولة تلمُّس ملامح نظام عالمي جديد، يكون محوره توازناً جديداً للقوى بين أطرافه الرئيسية. وتذهب نظريات التحول في النظام الدولي إلى أن الصدمات غير المتوقعة في مثل هذه المراحل، يكون لها في بعض الأحيان تأثير كبير، بحيث تمثل نقطة فاصلة بين انهيار نظام وبزوغ آخر؛ لذلك اهتم المحللون بتأثير حرب أوكرانيا على النظام الدولي، وعلى توازنات القوة فيه. ورغم أن الحرب في أوكرانيا لم تبلغ مداها بعد، ويظل الاحتمال قائماً بحدوث تطورات لها تأثير جذري، عسكرياً أو سياسياً، فإنه يمكن الدفع –لو ظلت الحرب في إطارها الحالي– بأن المواجهات في أوكرانيا لن تمثل نقطة تحول جذري في شكل النظام الدولي أو في توازنات القوة فيه. ومن المُتوقَّع أن تؤدي الحرب إلى تكتل غربي أقوى على الساحة الأوروبية، وألا تحقق مكاسب لروسيا على المستوى الاستراتيجي، لكن دعم حلفاء روسيا في آسيا (الصين والهند) سوف يمنع من تحول ميزان القوة تحولاً جذريّاً ضدها، وإن أضعفتها العقوبات سياسيّاً واقتصاديّاً. وربما سوف تكون شركات السلاح هي الفائز الرئيسي؛ بسبب حالة التوتر الملموس التي خلقتها الحرب في أوروبا ومناطق أخرى، خوفاً من أن يصبح التدخل العسكري الروسي نموذجاً يتكرر.

 الجغرافيا مقابل العولمة

ارتكز جوهر الخطاب الروسي عن دوافع هذا التحرك العسكري على منطق الجغرافيا السياسية فيما يتعلق بتأثير الوضع في أوكرانيا على الأمن القومي الروسي، ولا يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. ورغم اعتراض الرئيس الروسي بوتين الصريح، الذي عبَّر عنه في خطاب شهير أمام مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، على تصرف الولايات المتحدة بوصفها قطباً دولياً وحيداً، واعتراضه على ما رأى أنه تجاهل لمكانة روسيا وقوتها، فلا يبدو أنه عازم على مواجهة فعلية معها في الوقت الحالي، بل يمكن القول إن التدخل الحالي في أوكرانيا يأتي متسقاً مع سياسة روسية تاريخية اعتمدتها في عصور الإمبراطورية وعهد الاتحاد السوفييتي، تعتمد على وجود مناطق جغرافية “عازلة” على تخومها، تمثل حاجزاً أمام الخطر القادم من الغرب؛ حيث السهول المنبسطة في دول شرق أوروبا تتيح التقدم السريع للجيوش بلا عوائق طبيعية.

ورغم ظهور أوكرانيا دولةً مستقلةً بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي، فإن أهميتها للأمن الروسي، لعدة اعتبارات، لا تزال قائمة. وكان من المفترض التوصل إلى صيغة بشأن وضع أوكرانيا تكون مقبولة لكل الأطراف بعد انتهاء الحرب الباردة، خاصةً أن الجانب الروسي فهم أنه لديه ضمانات بعدم تمدد حلف الناتو في جواره بعد أن تم حل حلف وارسو، وأن الجانب الأوكراني فهم أنه حصل على ضمانات تحفظ استقلال دولته وسلامة أراضيها، بعد أن تخلَّى عن أسلحته النووية. والواقع أن المؤرخين لهذه الفترة يذكرون أنه قد تم بالفعل تطوير صيغة للتعاون الأمني مع دول شرق أوروبا في ذلك الوقت، كانت مقبولة من جميع الأطراف، حتى روسيا، ولا تتضمَّن انضمام هذه الدول إلى حلف الناتو.

لكن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت بيل كليبتون، أصر على التخلي عنها وضم بعض دول شرق أوروبا إلى الحلف؛ لأن ذلك كان سيدعم شعبيته سياسياً داخل الولايات المتحدة. وبينما لم يتم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، مع وعد بالنظر في ذلك مستقبلاً، فإن وضعها ظل “معلقاً”، بلا صيغة واضحة تأخذ في الاعتبار الهواجس الروسية والتطلعات الأوكرانية، وتضمن الاستقرار في شرق أوروبا؛ لذلك كان من المتوقع لدى المتخصصين أن تندلع هذه الأزمة آجلاً أم عاجلاً، مع إصرار الغرب على تجاهل التصريحات الروسية المتكررة بشأنها.

التدخل العسكري “الكلاسيكي” في أوكرانيا حدث، من وجهة نظر روسيا، في إطار تصحيح أوضاع في الجوار المباشر تمس أمنها القومي، رفضت القوى الفاعلة الأخرى على هذه الساحة الجغرافية التوصل إلى تفاهم مُرْضٍ بشأنها. والواقع على الأرض لا يشي باستعداد روسيا للدخول في مواجهة عسكرية تمتد إلى خارج أوكرانيا؛ إذ تشير التحليلات العسكرية إلى أن روسيا كانت، فيما يبدو، تنتظر حسماً عسكرياً سريعاً، ولم تعول على مقاومة تطيل أمد المواجهات، فلم تحشد حتى حجم القوات التي تتطلبها السيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية، وبالأحرى، فإن حجم هذا الحشد لا يشير إلى الاستعداد لمواجهة أكبر.

من جانبه، اختار الغرب أن يستخدم سلاح العقوبات، وأن يوظف الاعتماد المتبادل الذي خلقته حالة العولمة، من سيطرة للدولار على المعاملات المصرفية عالميّاً، واعتماد روسيا على استيراد منتجات تكنولوجية غربية الصنع، مثل قطع غيار الطائرات، ليرفع كلفة الحرب عليها، بدلاً من مواجهتها عسكريّاً. وقد أشارت قيادات الناتو مراراً، قبل الحرب وأثناءها، إلى أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، وعلى ذلك فلا التزام على الحلف بالدفاع عنها، ولن يدخل في مواجهة عسكرية ضد القوات الروسية بسببها، وإن كانت هناك تعهدات غربية بمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها. وفي هذا الإطار، ترفض الولايات المتحدة مطالب أوكرانيا بأن تفرض قوات الناتو منطقة حظر طيران فوق أراضيها، كما ترفض تزويدها بالطائرات؛ لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مواجهات بين قوات الناتو وروسيا، حرصاً على عدم الانجرار إلى مواجهة غير مطلوبة وغير محسوبة. ولكن في المقابل، تُكرر القيادات الغربية أن هناك التزاماً بالدفاع عن دول أعضاء في الحلف مُجاوِرة لمنطقة الصراع، مثل دول البلطيق وبولندا مثلاً، ولو تحركت القوات الروسية في هذا الاتجاه، سيتغيَّر الموقف جذرياً.

تداعيات أوروبية

في هذا الإطار، من المُستبعَد أن تؤدي هذه الحرب إلى مواجهة شاملة تؤدي إلى انهيار نظام الأمن الإقليمي على القارة الأوروبية، كما حدث إبان الحرب العالمية الأولى مثلاً. لقد جر اغتيال ولي عهد النمسا في 1914 القوى الأوروبية، عبر سلسلة من التحالفات والتحالفات المضادة، إلى مواجهة شاملة أدت إلى انهيار النظام الدولي برمته، رغم إصرار كل القيادات، أثناء انزلاقها إلى الحرب، أنها غير راغبة فيها ولا عازمة عليها. وبينما يظل ذلك احتمالاً قائماً، فإن الاحتمال الأكثر ترجيحاً، في ظل المعطيات الحالية، أن الحرب ستولد حالة من الاستقطاب الشديد بين الغرب وروسيا، شبَّهها بعض المحللين بسقوط ستار حديدي جديد يقسم القارة.

ستواجه روسيا كتلة أشد تماسكاً واستنفاراً في الغرب؛ حيث إن حربها على أوكرانيا أعادت التلاحم إلى صيغة التحالف عبر الأطلسي، الذي أصيب بالترهل والوهن في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، كما أعادت الحياة إلى حلف الناتو الذي كان الرئيس الفرنسي “ماكرون” قد وصفه مؤخراً بأنه في حالة “موت سريري”، وربما كانت المفاجأة الكبرى التماسك والقدرة على الفعل الذي أبداه الاتحاد الأوروبي، الذي استطاع إدارة الاختلاف في المصالح بين دوله، والخروج برؤية وموقف موحد تجاه روسيا. من جانب آخر، رفعت الحرب حالة التوجس بين دول شرق أوروبا؛ حيث أسرعت جورجيا ومولدوفا، إضافة إلى أوكرانيا، إلى تقديم طلبات للانضمام السريع إلى الاتحاد الأوروبي.

وتصدَّرت قضية الانضمام إلى حلف الناتو مرة أخرى النقاش في السويد والنرويج، مع تصاعد في عدد المؤيدين لهذه الخطوة كما أشارت استطلاعات الرأي. وعمد وزير خارجية الولايات المتحدة إلى إجراء زيارات خاطفة إلى دول البلطيق الأعضاء في حلف الناتو؛ لطمأنتها بأن الحلف ملتزم بحماية أمنها. وتسود قناعة لدى هذه الدول أن روسيا، استناداً إلى خبرتهم التاريخية معها، لن تقف عند حدود أوكرانيا، وأنها ستعمد –على أقل تقدير– إلى حصار دول البلطيق، وقطع الطريق بينها وبين القارة الأوروبية، من خلال سيطرة روسيا على أراضي بيلاروسيا بناءً على الاتفاق الأخير معها. وستصبح دول البلطيق في هذه الحالة “رهينة”، في وضع مشابه لبرلين الغربية أثناء الحرب الباردة.

ومع ارتفاع التوجس من روسيا، وانهيار الثقة بأنها ستحترم أمن وسلامة جيرانها في أوروبا؛ فقد أدت الحرب إلى انهيار السياسة التي اتبعتها الدول الأوروبية تجاه روسيا منذ نهاية الحرب الباردة، والتي اعتمدت على العلاقات الاقتصادية والتجارية، والمصالح المشتركة لدرء خطر مواجهات جديدة. وقد كانت ألمانيا أهم رواد هذه السياسة؛ حيث كانت المستشارة الألمانية السابقة ميركل تحبذ دائماً مواصلة التفاعل مع روسيا رغم الخلافات، كما رفعت الاعتماد على روسيا في مجال أمن الطاقة، بإلغائها استخدام الطاقة النووية، وتدشين مشروعات نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا مباشرةً؛ لذلك كان التغير الألماني مفاجئاً، ودالّاً على مدى التغير في الموقف الأوروبي من روسيا؛ فقد أعلن المستشار الألماني “شولتز” بسرعة بعد اندلاع الحرب عن تجميد مشروع نقل الغاز مع روسيا، ثم أعلن بعد ذلك بأيام قليلة عن تخصيص مبالغ إضافية للإنفاق العسكري، وأن ألمانيا وأوروبا بوجه عام، عليها رفع قدراتها واستعدادها العسكري لحماية الأمن والسلام في القارة.

ستترك الحرب روسيا أيضاً أمام تحديات مستقبلية فيما يتعلق بعلاقتها بأوكرانيا؛ فبينما يمكنها –بفضل تفوقها العسكري– أن تملي شروطها على القيادات الأوكرانية، فإن الحرب ستخلف آثاراً عميقة، على رأسها أن المقاومة الأوكرانية القوية دللت –بما لا يدع مجالاً للشك– على تمسك الشعب الأوكراني بهويته، وبحقوق المواطنة في دولة حرة مستقلة ذات سيادة، بما يتضمَّن اختيار قياداته السياسية. وعلى ذلك، فلن يكون هناك استقرار على المدى الطويل لأي صيغة لا تأخذ كل ذلك في الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، كلما طالت الحرب، وتصاعدت الخسائر البشرية والمادية، كان التوصل إلى صيغة تضمن الاستقرار في العلاقات وتكون قابلة للاستمرار، أصعب. ومن غير المُتوقَّع أن تتحمل روسيا، مثلاً، تكلفة إعادة الإعمار. ومن ثم فإن أوكرانيا ستنجذب أكثر إلى الغرب بعد الحرب بحثاً عن الدعم.

وسينعكس ذلك كله على علاقة روسيا بدول الجوار في آسيا الوسطى، التي إن لم تعلن اعتراضها على التدخل الروسي في أوكرانيا، فإنها أيضاً لم تدعمه. وكان لافتاً أن كازاخستان –بحسب تقارير صحفية– رفضت طلباً روسيّاً بأن ترسل قوات تشارك في الحرب. فمثل كل الدول الصغيرة المجاورة لقوى عظمى، تتوجَّس هذه الدول من تمدد روسي يهددها. ورغم أن لروسيا علاقات قوية بالأنظمة الحاكمة في هذه الدول، فإن الأجيال الجديدة من شعوبها ليس لديها روابط وثيقة بروسيا، ولديها مطالب اقتصادية وسياسية تنفجر من حين إلى آخر في شكل احتجاجات شعبية، كما حدث مؤخراً في كازاخستان، وفي بيلاروسيا الحليف الوثيق ناحية الغرب. يعني كل ذلك أن روسيا تحتاج إلى تطوير مقاربات جديدة لعلاقات مستقرة على المدى البعيد مع دول الجوار لحماية أمنها القومي.

الحلفاء في آسيا

على الرغم من امتدادها الأوراسي الكبير –أي في المساحة الممتدة بين أوروبا غرباً وآسيا في الشرق والجنوب– كانت روسيا دوماً مهتمة بالظهور كقوة أوروبية؛ فعاصمتها أقرب إلى الغرب الأوروبي. وبحسب الدراسات التاريخية، فإن النخبة الحاكمة الروسية كانت دوماً “غربية الهوى”. وفي العصر الحالي، يهوى القادرون من الروس السفر غرباً، كما يمتلك الأثرياء أصولاً وبيوتاً ويخوتاً فاخرة في الحواضر الأوروبية؛ ما جعلهم هدفاً سهلاً للعقوبات. ولذلك فإن هناك بُعداً رمزيّاً للقطيعة الثقافية والحضارية مع أوروبا، التي سوف تترتب على امتداد أمد هذه العقوبات بمختلف أشكالها. لكنَّ لروسيا بدائل اقتصادية وسياسية في آسيا، على رأسها تحالفها مع الصين. ومن المنتظر أن تستوعب الصين جزءاً كبيراً من صادرات روسيا التي كانت تتجه إلى أوروبا، وأن تحل منتجاتها محل الكثير مما تستورده من الغرب. وبينما من المنتظر أن يتجذر هذا التحالف ويصبح أكثر قوة في المستقبل القريب، فإن أبعاده لا تزال غير واضحة.

لم تنتقد الصين التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا، وأبدت تفهمها لدوافعه، لكنها في الوقت نفسه لم تدعمه صراحةً، ولم تستخدم حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الذي يدين هذا التدخل، بل امتنعت عن التصويت. وبينما تمنع السلطات الإعلام الرسمي الصيني من وصف ما يحدث في أوكرانيا بأنه حرب، فقد استخدم الرئيس الصيني هذا التعبير في حواره مع المستشار الألماني “شولتز” والرئيس الفرنسي “ماكرون” حول الوضع في أوكرانيا، كما أكد ضرورة وقف التصعيد العسكري والخسائر البشرية، ودعم كل الجهود للتوصل إلى تسوية عبر الحوار. وحيث يظل من غير المعروف ما إذا كانت الصين تبذل جهوداً في هذا الصدد خلف الكواليس، فالظاهر علناً أن الصين –وأنظار العالم تتجه إليها لتلعب دوراً رئيسيّاً– لم تتقدم لذلك.

ويمكن التكهُّن بأن هذه ليست اللحظة التي يتمنَّاها الرئيس شي لتصدُّر المشهد الدولي؛ فهو لا يريد إضعاف تحالفه مع روسيا في مواجهة الغرب الذي يستعد لمحاصرته وعرقلة صعوده، لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن ترتبط صورة الصين بدعم خرق صريح لمبدأ احترام سيادة الدول، الذي تتمسَّك به الصين بقوة. وحساب المكاسب والخسائر دقيق؛ فالعقوبات ستجعل روسيا أكثر اعتماداً على الصين؛ ما يرتِّب مكاسب اقتصادية وربما استراتيجية، لكن لو تم حصار روسيا بدرجة كبيرة في المحافل الدولية، فستقل فائدة التحالف معها بالنسبة إلى الصين.

وإلى أن ترفع دول أوروبا قدراتها العسكرية، ستضطر الولايات المتحدة إلى توجيه جزء أكبر من قواتها إلى أوروبا؛ ما يعوق مرة أخرى تحويل اهتمامها إلى آسيا؛ لذلك فإن التماسك الغربي في مواجهة روسيا على الساحة الأوروبية، لن يزيد قدرة الولايات المتحدة على مواجهة الصين هناك. وسياسيّاً، لم تنجح الولايات المتحدة في توظيف تحالفها الرباعي الجديد مع الهند واليابان وأستراليا ضد روسيا. وقد أخذت الهند موقفاً مستقلّاً عن حلفائها الجدد؛ لاعتبارات عديدة؛ أهمها علاقاتها التاريخية بروسيا، واعتمادها الكبير عليها في مجال التسليح. ورغم أن الهند تتوافق مع التحالف الرباعي في الرغبة في احتواء الصعود الصيني، فإن موقفها من روسيا قد يُضعِف الثقة بين أطرافه. وبينما تقف كل من الصين والهند في آسيا خارج المعسكر المناهض لروسيا، فإن توازن القوى عالميّاً لن يختل جَذريّاً ضدها، كما أن التحالف الغربي المُتجدِّد لن يُرجِّح في المستقبل القريب كفَّة الولايات المتحدة في مواجهة الصين.

وختاماً، فإنه في ظل التشابك التجاري والاقتصادي، كان للحرب في أوكرانيا تأثير كبير على توافر المواد الغذائية، وارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية؛ ما سيكون له تأثيرات كبيرة على الاستقرار والأمن الإنساني في دول كثيرة حول العالم، إلى درجة يصعب التكهن بتداعياتها، كما أن من الصعب تحديد التأثير الكامل للعقوبات على روسيا، من حيث تأثيرها على الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والاستقرار السياسي. ومن المؤكد أن روسيا ستتأثر، وأن العقوبات ستُضعف اقتصادها، وبالتبعية قدرتها على الفعل خارج أراضيها، لكن من المُستبعَد أن تؤدي إلى انهيار مماثل لما صاحب انهيار الاتحاد السوفييتي مثلاً؛ لأن النظام الروسي أعد عُدَّته لمواجهة تداعياتها. سوف ترفع تداعيات الحرب من حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار عالميّاً، وستزيد أعباء كل الدول في مواجهتها، لكن تظل الخسائر الإنسانية والمادية، وما يعانيه الشعب الأوكراني من دمار، وفقدان للأهل والديار، هي الأعلى والأكثر إيلاماً، وربما الأطول أثراً.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى