دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات استراتيجيةدراسات جيوسياسية

هل تنجح روسيا في إعادة نفوذها إلى منطقة آسيا الوسطى؟

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

شكَّلت الأحداث الأخيرة في كازاخستان جرس إنذار مهماً بالنسبة إلى النظام الروسي، بأن ثمة ضرورة مُلحَّة لتعزيز النفوذ في منطقة آسيا الوسطى، ورفع مستوى الانخراط بقدر أكبر خلال المرحلة المقبلة، تفادياً لتحوُّل تلك الدول إلى بؤرة أزمات يمكن أن يتم تصديرها إلى موسكو بسهولة، خاصةً في ظل تزايد الاختراق الخارجي لدول المنطقة، والقلق الروسي من الدفع نحو التأثير سلباً على الأمن القومي الروسي عبر ظهور الثورات الملونة في بعض دول آسيا الوسطى الخمس (أوزباكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان). ومن هنا كان التدخل الروسي عسكرياً في كازاخستان، جنباً إلى جنب مع الرغبة الحثيثة في إعادة الاستقرار السريع للدولة التي حصلت على استقلالها من الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. وفي ضوء هذا، سعت موسكو إلى توظيف أدوات مختلفة تساعدها على تحقيق النفوذ المأمول؛ وذلك بالتركيز بشكل أساسي على توظيف القوة الناعمة بدرجة أكبر بين دول المنطقة، وهو مسعى تواجهه عدة تحديات، بعضها داخلي يتعلق بالمشكلات الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها بعض تلك الدول، جنباً إلى جنب مع بروز معضلة تصاعد الاهتمام الدولي بخلق موطئ قدم في منطقة آسيا الوسطى.

أدوات موسكو

سعت روسيا، خلال السنوات القليلة الماضية، إلى تكريس نفوذها في منطقة آسيا الوسطى، عبر أدوات متنوعة تشمل القوة الناعمة، وتوظيف المساعدات جنباً إلى جنب مع توظيف دبلوماسية اللقاح، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– صياغة استراتيجية روسية في “آسيا الوسطى”: تتعامل روسيا بتوجس شديد مع تصاعد أي نفوذ دولي مضاد لها في منطقة آسيا الوسطى. وفي ضوء هذا، تمت صياغة استراتيجية روسية لتعزيز القوة الناعمة في هذه المنطقة الاستراتيجية بحلول عام 2022؛ وذلك بتوجيه من المجلس العام للوكالة الفيدرالية لشؤون دول الكومنولث والمغتربين والتعاون الإنساني الدولي، تحت إشراف وزارة الخارجية الروسية. وقد ارتكزت الاستراتيجية على إعادة النفوذ الروسي في المنطقة، التي لها مكانة استراتيجية مهمة، كما أن الروس يشكلون نسبة كبيرة في أغلب دول المنطقة، حتى إن كازاخستان على سبيل المثال، يٌشكّل الروس فيها نحو 19.3%، فيما يشكلون نسباً أقل في دول أخرى مثل قيرغيزستان؛ وذلك بنحو 5.5% من إجمالي السكان.

2– السعي إلى نشر اللغة الروسية في دول المنطقة: انطلاقاً من وجود عدد كبير من الروس في آسيا الوسطى، فإن موسكو تسعى إلى توظيف اللغة كأحد أدوات القوة الناعمة في المنطقة؛ وذلك من خلال تدشين مراكز لتعليم اللغة الروسية. ومن المخطط أن تفتح موسكو بعض مراكز تعليم اللغة في عدة مدن كازاخية، علاوة على نحو أربع مدن في طاجيكستان خلال العام الجاري.

3– توظيف “المساعدات الإنسانية” لتعزيز النفوذ: تمثل المساعدات الإنسانية أداة من الأدوات التي توظفها روسيا بدرجة كبيرة في آسيا الوسطى. وفي هذا الإطار، تأمل موسكو أن تعزز مكانتها بوصفها مُزوِّدًا لتلك المنطقة بالمساعدات الإنسانية، جنباً إلى جنب مع تقديم منح لبعض المشروعات الاجتماعية في بعض دول المنطقة؛ إذ يأتي المسعى الروسي من أجل قطع الطريق على دول أخرى تسعى إلى تعزيز نفوذها عبر المساعدات لدول منطقة آسيا الوسطى، مثلما تفعل الولايات المتحدة. وقد كشف نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو، في مايو 2021، أن روسيا الاتحادية قدَّمت خلال السنوات الأخيرة، مساعدات إلى دول آسيا الوسطى بقيمة إجمالية تبلغ نحو 4.2 مليار دولار أمريكي.

4– استخدام “دبلوماسية اللقاح” في المنطقة: تقوم موسكو، عبر صندوق الاستثمار المباشر الروسي، بقيادة كيريل ديميترييف، بتوظيف اللقاح الروسي كجزء من إدارة موسكو لمعركة إعادة نفوذها وقوتها الناعمة في منطقة آسيا الوسطى، وهو ما يعزز الصورة الذهنية الإيجابية لموسكو بطبيعة الحال، خاصةً أن روسيا تبني علاقات جيدة مع الإعلام والصحفيين المحليين في دول آسيا الوسطى، وهو ما يعكس الرغبة الروسية الحثيثة في تكريس نفوذها في المنطقة في المرحلة الحالية.

تحديات متباينة

تواجه التطلعات الروسية نحو تعزيز النفوذ والقوة الناعمة في منطقة آسيا الوسطى، تحديات مختلفة، بعضها داخلي مرتبط بالأوضاع في دول المنطقة، وبعضها خارجي مرتبط بتصاعد الاهتمام الدولي بمنطقة آسيا الوسطى؛ وذلك على النحو التالي:

1– تطلُّع مواطني المنطقة إلى أنظمة أكثر ديمقراطيةً: عكست الاضطرابات في كازاخستان حقيقة وجود عدم رضا شعبي في عموم آسيا الوسطى، وليس في كازاخستان فقط، وسط طموحات مشتركة بوصول حكام أفضل إلى السلطة، وهو ما يتعارض في واقع الأمر مع نفوذ “بوتين” في الإقليم، واهتمام روسيا باستقرار الأوضاع في الجوار؛ وذلك لأن كازاخستان لطالما اعتُبِرَت الدولة الأقوى والأكثر استقراراً والأنجح في آسيا الوسطى.

2– مواجهة دول المنطقة مشاكل اقتصادية ضخمة: تواجه دول المنطقة الخمس مشكلات اقتصادية ضخمة، وتتقاسم أنظمة هشة تستجيب للتحديات السياسية بشكل قاسٍ، في حين يعمد الحكام في المنطقة إلى تبرير قمع كل تيارات المعارضة بالحديث عن الاستقرار والنمو، ولكن في واقع الأمر فإن النماذج الاقتصادية في هذه الدول لم تتغير بالسرعة الكافية. ولاتزال اقتصاداتها تعاني من مشكلات هيكلية كبيرة رغم ما تملكه من موارد طبيعية ضخمة.

3– تصاعُد النفوذ الصيني في منطقة آسيا الوسطى: يُضاف إلى أسباب قلق “بوتين” إزاء اتجاهات الأحداث في كازاخستان وفي عموم آسيا الوسطى، مساعي قوى أخرى لمزاحمة روسيا نفوذها في الإقليم حتى مع الموقف المتشدد الذي يُبديه “بوتين” إزاء أي تدخل في شؤون دول الاتحاد السوفييتي السابق؛ فعلى سبيل المثال، تنامى نفوذ الصين في آسيا الوسطى على نحو ملحوظ، بعد أن قامت ببناء طرق وخطوط سكك حديدية تهدف إلى ربط الصين بأوروبا، في إطار مبادرة “الحزام والطريق”.

4– تزاحم الاختراق الخارجي لدول آسيا الوسطى: تحظى المنطقة باهتمام بعض القوى، ومنها تركيا التي لديها طموحات لإحياء زعامتها لمنطقة آسيا الوسطى؛ وذلك بالنظر إلى أن الكازاخستانية والقيرغيزية والتركمانية والأوزبكية كلها لغات مشتقة من التركية، وكذلك باعتبار أن الدول الخمس دول إسلامية. ومن جانب آخر، فإن الهند هي الأخرى لديها طموح في ترسيخ وجودها في آسيا الوسطى من خلال الشراكات الأمنية مع دول المنطقة، ومن أجل مجابهة التقدم الصيني. ومع ذلك، فإن موسكو لا تخشى التمدد الهندي، خاصةً في ظل التوافق بينهما على تحجيم الصين في المنطقة، حتى إن روسيا عرضت على الهند مساعدتها في دخول سوق الأسلحة في آسيا الوسطى أواخر العام الماضي.

وختاماً، تمثل منطقة آسيا الوسطى الحديقة الخلفية بالنسبة لروسيا. ومن ثم فإنها لن تسمح –بأي حال من الأحوال– بأن تتحول هذه المنطقة إلى مصدر تهديد لها، وهو ما يتضح مع عودة تلك المنطقة إلى صدارة أولويات السياسة الخارجية الروسية، مع العمل على تعزيز النفوذ عبر أدوات مختلفة يأتي على رأسها توظيف القوة الناعمة بأدوات متباينة، ومن جانب آخر، قد يؤدي ذلك الدور الروسي المتصاعد في منطقة آسيا الوسطى إلى احتمالية تراجع دور موسكو بشكل نسبي في مناطق أخرى، مثل منطقة الشرق الأوسط في المديَيْن المنظور والمتوسط.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى