دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةدراسات سياسية

كيف تحولت البرازيل للديمقراطيه: سيولة الأوضاع في الإقليم كعامل مساعد للتحول الديمقراطي

سببان رئيسان ناقشناهما في البحثين السابقان سهلا تحول البرازيل للديمقراطيه:

١- تدهور الأوضاع الاقتصاديه تحت الحكم العسكري. أدت سياسات الجيش البرازيلي في الاستدانه (ذات سياسات السيسي) لتدهور اقتصاد البرازيلي عندما انهارت اسعار المواد الاوليه التي تصدرها البرازيل في أوائل الثمانينات و حل في ذات الوقت موعد سداد الديون. هذا يدفع كل الطبقات بالذات الفقيره للسخط و يولد جموع راغبه في التغيير. كان من ارهاصات ذلك هجوم الطبقات الفقيره لاحتلال الاراضي المجاوره العشوائيات و عجز الدوله عن المواجهه. مصدر ١.

٢- توحد اطياف كبيره من القيادات السياسيه تحت مطلب بسيط و سهل و هو انتخاب رئيس البرازيلي انتخاب مباشر. توحد في ذلك المعارضه المحبه للجيش و كذلك المعارضه اليساريه الممثله لنقابات العمال و التي حدث انقلاب ١٩٦٤ ضدها. حتي رجال الاعمال و الكنيسه الكاثوليكيه و هم كبار مؤيدي الانقلاب رأوا ان بقاء الجيش في الحكم يدمر مصالحهم المستقبليه. هذا يشبه في مصر توحد الإسلاميين (شبيه اليسار في البرازيل) مع التيار الليبرالي (شبيه اليمين في البرازيل) ضد حكم العسكر. و شرحنا ان هذا التوحد وراء مطلب إنهاء حكم العسكر هو ضروري للتحول الديمقراطي في مصر. بدون ظهير سياسي ذي مطلب محدد يستطيع الشعب ان يدعمه و يستطيع العالم ان يفهمه لن تنجح ثوره في مصر. العامل الاقتصادي فقط يصنع هوجه لكن لا يصنع ثوره لها مطالب و أهداف. غير ذلك وهم. مصدر ٢.

العاملان الاقتصادي و السياسي هنا عوامل داخليه. لكن هناك عاملان آخران مساعدان خارجيان و هما السيوله الإقليميه و الوضع الدولي. و بعض من القراء يقول “احنا ما لنا و مال العالم” او “طول ما انتم همكم العالم او الغرب مش حتفلحوا”. و هذا قصر نظر غريب. فمن الغريب ان يقول بعض المصريين ان الغرب يتدخل في مصر و عندما نقول اذا يجب علينا ان نتواصل معه و نعمل علي تحييده يقال لنا “مالكم و مال الغرب!”

ان تدخل الدول الأقوي في الدول الأخري الأضعف هي حقيقه. تستطيع ان تكرهها و لكنها مثل قوانين الفيزيا. قد تكره الجاذبيه و لكم السؤال ماذا تفعل؟ الاجابه ان عليك ان تفهمها و تتواصل معها و تتعامل معها لتحييد تأثيرها عليك حتي تستطيع ان تنتصر. و الا تكون مثل النعامه تدفن رأسها في الرمال.

سنتعرض اليوم للسيوله الاقليميه. و هي عامل مساعد جدا لحدوث ثوره او تحول ديمقراطي.

البدايه في البرتغال

—————

الروابط بين امريكا اللاتينيه و الدول الام (اسبانيا و البرتغال) هي روابط تاريخيه معقده. في منتصف السبعينات بدأ التحول الديمقراطي في كلي من اسبانيا و البرتغال و في سرعه كبيره في الحالتين. و العجيب ان العامل الاقتصادي الذي سرع التحول الديمقراطي في البرتغال و اسبانيا و هو ارتفاع سعر البترول و المواد الاوليه في السبعينات هو ذاته الذي افاد حكام البرازيل العسكريين و بطأ التحول الديمقراطي فيها حتي الثمانينات!

رزحت البرتغال تحت حكم عسكري لفتره طويله و كان آخرهم الجنرال الجنرال مارسيلو كايتلنو. وقتها كانت البرتغال في حروب ضد حركات التحرر في أنجولا و موزمبيق (دائماً ما يكون الحكم العسكري ضد حركات التحرر في العالم. لذلك النظام المصري مثلا ضد الثوره السوريه). قرر كايتانو ان يعطي ضباط الصف و الجنود الذين حاربوا في المستعمرات ترقيات استثنائيه لرتب الجنود. اثار ذلك تذمر الضباط (و دائماً ما يحدث ذلك في الديكتاتوريات العسكريه التي يعتاد فيها البعض مثل الجيش و الشرطه و القضاء في مصر علي امتيازات معينه و لا يريدون ان ينازعهم فيها احد).

في ذات الوقت عام ١٩٧٣ نشر الجنرال أنتونيو دي سبينولا و هو حاكم مستعمره غينيا البرتغالية كتاب اسمه “البرتغال و المستقبل” و تحدث فيه عن فتح الحريات و التحرر الاقتصادي. و اثار الكتاب لغطا كبيرا في البرتغال لانها كانت اول مره ينشر جنرال عال المستوي كتابا يتحدث فيه عن الحريات. الجنرال دي سبينولا كان مؤيدا للحكم العسكري و هو من داخل النظام و لذلك كان رأيه هو حريات مقننه تحت الحكم العسكري و ليس تحول ديمقراطي كامل. لكن آراؤه اثارت شباب من ضباط الجيش البرتغالي الذين قاموا بانقلاب عسكري ضد حكم كايتان في ٢٥ ابريل ١٩٧٤ و وضعوا دي سبينولا علي رأس الانقلاب.

(لذلك نقول ان العامل الاقتصادي عامل مهم جدا و هو ربما ابو عوامل التحول الديمقراطي لانه يفرض علي النخبه العسكريه و المدنيه ان تختلف مع بعضها. فبعضهم يري وجوب فتح الحريات حتي لا تنفجر الامور و اخرون يرون العكس مثلما حدث بين سبانيولا و كايتان في البرتغال).

كان انقلاب ابريل ١٩٧٤ هو الشراره. حيث نزل ملايين اللرتغاليون للشوارع مطالبين بالحريات و التقدم فيما اطلق عليه “ثوره القرنفل” (مصدر ٣). اذهل ذلك حتي هؤلاء اللذين قاموا بالانقلاب العسكري و لم يكن هناك بد من اجراء انتخابات حره لأول مره في البرتغال في ٢٥ ابريل ١٩٧٥ بعد عام من الانقلاب

lessons_from_world_how_brazil_became_democratic_country3_2

ثم انتقلت الشراره الي اسبانيا

—————————

في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٥ و بعد شهور من اجراء انتخابات حره في البرتغال توفي ديكتاتور اسبانيا الجنرال فرانكو. قام الجنرال فرانكو منذ ١٩٦٩ باعداد خليفته الملك خَوَان كارلوس و عندما توفي فرانكو اصبح خوان كارلوس ملك اسبانيا و راس الدوله. أبدي خَوَان كارلوس رغبته في التحول الديمقراطي لإسبانيا في خطابه امام الكورتيز (برلمان اسبانيا).

(كان الكورتيز ملئ بأناس وضعهم فرانكو بيده و اطلق عليهم الفرانكويين. و كانوا شديدي العداء للديمقراطيه. و لكن أبقي فرانكو عليهم و ابقي علي الكورتيز حتي يضمن الاستمرارية في النظام الإسباني. بالعكس اقسم خَوَان كارلوس الولاء للنظام الذي وضعه فرانكو بالرغم انه كان يريد تدمير هذا النظام تماماً و لكن اراد ان يفعل ذلك بشكل منظم. و ربما لا يصلح هذا في مصر بسبب عمق الفساد فيها و لكنه يفسر لماذا ذكرنا في السابق ان استمراريه وجود مجلس للشعب في مصر ضروريه للإبقاء علي التقاليد الديمقراطيه حيه).

اختار كارلوس السيد ادولفو سواريز ليصبح رئيس وزرا اسبانيا الذي كان من أذكي الشخصيات السياسيه فيها و رشحه له فرنانديز ميراندا رئيس البرلمان و ثعلب السياسه الاسبانيه.

(احد اخطاء د مرسي ان رئيس وزرائه الدكتور هشام قنديل لم يكن شخصا سياسيا بل موظف جيد. و د هشام قنديل شخصيه ممتازه فعلا و عمل بجديه و نشاط دون شك. و لكن مصر كانت تحتاج لشخص سياسي من نوع ادولفو سواريز. كذلك الخطأ الثاني التساهل في حل البرلمان لان هذا علم الجيش ان اختيار الشعب يمكن التساهل فيه. و هو ما اراد الملك خَوَان كارلوس تجنبه. كلها دروس للمستقبل. )

قام ادولفو سواريز باقرار قانون تعديل النظام السياسي في اسبانيا و تمريره في برلمان فرانكو بمساعده فرناندو ميراندا. و حتي يؤمن الامر من انقلاب الجيش طرح سواريز التعديلات في استفتاء شعبي و بذلك حقن تلك القوانين التي فتحت الباب للتعدديه السياسيه.

(كانت هذه الأخري احد اهم اخطاء التعامل السياسي في الثوره المصريه. كان مهم جدا ان يقوم مجلس الشعب المصري المنتخب بتحصين نفسه بعمل قانون لتعديل الحياه السياسيه في مصر و طرحه للاستفتاء كتعديل علي دستور ١٩٧١ كي يحصن القانون و التعديل الدستوري و يمنع احتمالات الانقلاب ثم يقوم المجلس بفتح باب الترشيح لانتخابات الرئيس و حل المحكمه الدستوريه العليا. و كان هذا اهم من الجدال حول تسليم السلطه للرئيس و اهم من رفع الاذان في المجلس، الذي لم يزد الاسلام و لا المسلمين في شيئ. كلها دروس علي العموم)

lessons_from_world_how_brazil_became_democratic_country3_3

ماذا كان الوضع في البرازيل وقتها؟

————————-

كان الحكم العسكري في البرازيل في وقتها في أوج قوته. بالعكس كانوا يسخرون من الفوضي في البرتغال و اسبانيا. و هاجر الي البرازيل مؤيدو الجنرال كايتان هروبا من التحول الديمقراطي في البرتغال!

(يذكرك ذلك باحسن من سوريا و العراق. لذاك ننصح الجميع ان يفهموا ان حركات الشعوب تأخذ سنين و ليس شهورا).

و كان سبب ذلك تمتع البرازيل بنمو اقتصادي عالي نتيجه لارتفاع اسعار المواد الاوليه التي تصدرها البرازيل في السبعينات، و هو ذات السبب الذي ادي للثوره في البرتغال مثلا.

لكن مع قدوم الثمانينات و انهيار اسعار البترول بدأ اقتصاد اسبانيا و البرتغال يحقق المعجزه الاقتصاديه التي نراها اليوم فيما تراجع اقتصاد البرازيل كما شرحنا في الحلقه الاولي.

كذلك انهزمت الأرجنتين جاره البرازيل في حرب الفرلكلاند امام بريطانيا بالرغم ان الأرجنتين ربما اكثر غني في الموارد من الجزر البريطانيه. و كانت كذلك الأرجنتين تحت حكم الجنرالات.

هناك نقاش أكاديمي دائر حول اهميه التحول الديمقراطي في البرتغال و اسبانيا و تاثيره في البرازيل (مصدر ٤).

لكن دون شك فأنه و ان لم يكن عامل أساسي فهو دون شك عامل مساعد. حيث يري المواطن البرازيلي بعينه ان اسبانيا الفقيره و البرتغال الأفقر مقارنه بالبرازيل طبعا يتحركان اقتصاديا بينما يتراجع هو، في ذات الوقت اللذان ينفتحان علي الحريات و يتم قمعه هو.

الوضع في مصر:

—————

الحقيقه انه لم تحدث ثوره في تاريخ مصر الحديث دون سيوله الأوضاع في الإقليم. ثوره ١٩١٩ كانت نتيجه سقوط الامبراطورية العثمانيه و نشأه دول جديده في الإقليم مثل الاْردن و العراق مثلا مما أوضح للمصريين ان التغيير ممكن.

كذلك ثوره ١٩٥١-١٩٥٢ (و نحن نري ان انقلاب ١٩٥٢ أجهض ثوره الشعب المصري في ١٩٥١ – نحن ننسي ان تعبير مليونيه ميدان التحرير ظهر في مظاهرات ١٩٥١- و التي كانت ستقود في الأغلب لتولي ابن الملك و حدوث درجه عاليه من الانفتاح و الحريات في مصر في تطور مشابه للملكيات الاوروبيه) كانت نتيجه هزيمه مصر في حرب ١٩٤٨ و حدوث حاله سيوله عاليه في الإقليم نتيجه صعود اسرائيل الذي هز كل العروش في المنطقه و عراها امام شعوبها.

و ثوره يناير ٢٠١١ ما كانت لتحدث لولا ثوره الياسمين في تونس و إظهار الشعب التونسي ان ابن علي يمكن يسقط، اذا لم لا يسقط مبارك بذات الشكل.

اذا حتي اذا اختلف الأكاديميون في اهميه التحول الديمقراطي في البرتغال علي البرازيل، فنحن نري انه عامل مساعد شديد الاهميه في مصر.

فالشعب المصري بطبعه محافظ و لن يتحرك مره اخري في ثوره الا بتحقق العامل الثالث و هو حدوث سيوله سياسيه ضخمه في الإقليم.

استشراف المستقبل

—————–

تخيل مثلا لو سقط نظام بشار في دمشق و أضحت سوريا دوله ديمقراطيه و انهزم تحالف الامارات/روسيا/مصر/أيران في دمشق؟ سيفتح هذا المجال لتحول سياسي ضخم في مصر.

نجاح التجربه الديمقراطيه التونسيه ايضا مهم لانه يعطي المواطن المصري الأمل.

ماذا لو سقط عرش ال سعود؟ او سقط عرش ال نهيان في ابي ظبي و تحولت تلك الدول الي نصير للديمقراطيه عوضا عن عدو لها؟

كل هذه تحولات سياسيه تودي لسيوله في الإقليم تساعد علي التغيير في مصر و تؤازر العامل الاقتصادي و السياسي المحلي في مصر.

في الحلقه القادمه و الأخيره نتعرف علي تاثير التغيرات الدوليه خارج الإقليم (مثل تردي الاتحاد السوفيتي و قرب انهزام الشيوعيه في الثمانينات) علي التحول الديمقراطي في البرازيل و اسقاط ذلك علي مصر.

المصادر:

———

١- الحلقه ١ من التحول الديمقراطي في البرازيل:

https://jawdablog.org/2015/12/13/lessons_from_world_how_brazil_became_democratic_country/

٢- الحلقه ٢ من التحول الديمقراطي في البرازيل:

https://www.facebook.com/jawda.org/posts/957954840941396

٣- ثوره القرنفل في البرتغال:

The Carnation Revolution – A Peaceful Coup in Portugal

٤- تاثير أيبيريا و تحولها الديمقراطي علي البرازيل:

http://countrystudies.us/spain/90.htm

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى