قضايا فلسفية

مفهوم التحديث أو ( الحداثة ) و استعماله في محيط المجتمعات النامية

يرتبط نشوء مشروع التحديث التاريخي في الولايات المتحدة و استقراره كفرع جديد للتاريخ البرجوازي, ارتباطا وثيقا بفشل مشروع نظريات التحديث الأولى للبلدان النامية, و بفشل استراتيجية التطور الأمريكية المبنية عليها, فمقولات نظريات التحديث الأولى الأساسية – كأول نموذج تحديث – تظهر بشكل واضح مركزيتها الاثنولوجية الأمريكية و العنصرية و الداروينية الاجتماعية, و تركز على انتقال النماذج الاجتماعية ” الغربية ” الى البلدان النامية, بالاضافة الى المقارنة المتحجرة ببناء مفاهيم ذات ثنائية, و المطابقة بين التحديث و التصنيع الرأسمالي, لقد تبين أن ثنائية ” التقليدية / الحداثة ” غير مناسبة لأنها تتجاهل موضوع الاهتمام الحقيقي, و هو عملية التحديث, و تصف درجات وسطى ” انتقالية ” بمعنى أنها ” لم تعد تقليدية ” و ليست بعد حديثة, و لم تدرك بشكل مناسب الأشكال المتداخلة و الذاتية اِلاّ على أساس الاختلاف عن النموذج المعياري, لقد تمكن التفكير القائم على الثنائية أن يشرح الاختلافات بين المجتمعات المتطورة و غير المتطورة, لكنه لم يتمكن من شرح شروط التطور, كذلك تبين أن نظريات التحديث الأولى و نماذجها, و استراتيجية التطور الامريكية المبنية عليها, وسائل غير مناسبة لاستراتيجية التطور الاستعمارية الجديدة, لأنها تركت شمولية البنية الاجتماعية في البلدان النامية و تعقيد عمليات تطورها جانبا.
و يصدق هذا الكلام على مشروع التحديث الاقتصادي-السوسيولوجي ” الاصلاحي ” في الستينات, رغم أنه نوّع الآلية الاقتصادية الاجتماعية السائدة و حاول بمساعدة اتجاهات و مراحل التطور و أنماطها أن يدرك أبعاد العمليات في البلدان النامية, لقد ظهرت هوة واسعة بين النظرية و التطبيق في مشروع التحديث, عندما تحوّلت النظريات الى نماذج تطور عالمية, ذات مستوى تجريدي عالٍ, و اقتصر البحث على تعداد مفهرس لأنواع و نظم اجتماعية تقليدية و انتقالية و حديثة, و على جمع أحداث و معلومات و جرد عمليات, و قد تمّ ذلك بعدد غير محدّد أساسا من أبحاث الحالة, فلم يجر تحليل عمليات اجتماعية كاملة, و اِنما اقتصر على وصف ظواهر محيطة عارضة ( مثلا : الديمغرافية و ميزانية الدولة .. الخ ).
و تكمن مشكلة مشروع التحديث ” الاصلاحي ” في أن نظريات التحديث هي تركيب أفكار سوسيولوجية تجريدية و عامة دون أي محتوى من ناحية, و من ناحية أخرى, فاِنّ أبحاث التحديث تقتصر على الذاتية و التجريبية, لقد انقسمت وظيفة مشروع التحديث الأيديولوجية و المعرفية دون أن تتوصل كلّ منهما الى نتائج مقنعة, من أجل الاستراتيجية الاستعمارية الجديدة, و انقطعت الروابط بين النظرية و الأبحاث التجريبية, و لم تتمكن نظريات التحديث الموجهة الى مفاهيم تطوّر عامّة حول التحول الاجتماعي, مِن أن تؤدّي مهِمّتها كبديل عقائدي بدلا عن طريق التطور اللارأسمالي أو حتى الاشتراكي, و لم تستطع أن تساهم في صنع القرار الهام و التنبؤ بنتائجه السياسية, و كانت استجابة منظري التحديث و باحثيه لهذا مختلفة, حيث قام عدد منهم – و هم علماء الاجتماع و السياسة – بتكرار المواقف القديمة المتصلّبة, و انتاج ألفاظ رنانة مطلقة, لا يتجاوز فراغها الا بعدها – بضمّ الباء- عن الواقعية, فلقد أدّى هذا الوضع الى هوة واسعة بين الواقع في البلدان النامية و نظريات التحديث و أبحاثها, و انتهى الطريق الى مأرق.
لقد أكّدت نظريات التحديث الأولى في مضمونها التنموي على ” التغريب – Westernization ” أو ” الأوربة ” الذي لقي معارضة شديدة من مجتمعات البلدان النامية, مما أدى الى سقوطه, و في العقد السادس من القرن عشرين, و نتيجة الظروف الجديدة, و سعي شعوب البلدان النامية للمحافظة على شخصيتها و هويتها و استقلالها, استبدال مفهوم ” التغريب ” بمفهوم “التحديث” الذي ظهر و كأنه مفهوم ” فنّي” محايد, و منذ السبعينيات و بعد اتضاح جوهره, و الوظيفة الرئيسة التي أنِيطت به, في اطار استراتيجية تطور الامبريالية, أصبح يطلق على ” التحديث ” اسم ” نقل التكنولوجية “.
اِن تغيّر المفاهيم من مرحلة الى أخرى لم يغير من مضمون تلك المفاهيم, بل بقيت واحدة و اِن اختلفت التّسميات, فالنظريات الّتي طرحت و مشاريع التطور التي بنيت عليها تستند الى المنطلقات التالية :
1 – التخلف ما هو الا مجرّد تأخر زمني و أن مسار التقدم الفريد هو مسار الحضارة الغربية, و على الشعوب أن تسلك ذلك المسار, مما يفرض على شعوبنا – المسكينة – ضرورة محاكاة النموذج الرأسمالي, و نقله, و الاعتماد عليه, فتتأبد تبعيتنا له.
2 – التنمية عملية تدريجية – Continuum – و متواصلة و ذات أطوار و مراحل, و لكنّها باستمرار – في النهاية – تتجه نحو هدف موحّد, فالبلدان النامية في مسيرتها التنموية تتجه نحو غاية محدّدة و نمط مستقبلي هو الرأسمالية الصناعية الحديثة, و أن البلدان النامية في مرحلة تاريخية متأخرة عن تطوّر المجتمعات الرأسمالية, و هي مرحلة طبيعية ( … ) تشبه المرحلة التاريخية الّتي مرّت بها المجتمعات الأوروربية, و بالتالي .. فاِنّ مصاعب و مشاكل البلدان النامية تشبه تلك المصاعب و المشاكل الّتي واجهت الدول الأوروبية في مسيرتها التنموية منذ أواسط القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر.
3 – اِمكانية اختزال ظاهرة الحضارة الغربية, و اكتساب ثمراتها المادية الى أمر واحد هو الآلة, و ما يتّصل بها من تكنولوجيا و أدوات مادية, و في هذا خلط واضح بين الحضارة و مظاهرها المادية.
4 – التنمية حصيلة طبيعية لانتشار المفاهيم و القيم المادية و التنظيمية و الثقافية من الدول الرأسمالية الصناعية الى المجتمعات التقليدية, حيث تنتقل العناصر الثقافية من عواصم الدول المتقدمة الى عواصم الدول النامية, و بعد ذلك الى عواصمها الاقليمية, و أخيرا تسود في كلّ مناطق البلدان, و يجري التركيز على اِبراز تأثير التكنولوجيا و السلع الاستهلاكية و الأفكار و القيم الغربية, على افتراض أن التكنولوجية و الثقافية المرتبطة بالتصنيع تشكّلان نسقا اجتماعيا معينا, و اِن نقل التكنولوجيا و الصناعة قد أدّى الى تغيّر المعتقدات و الثقافة و البناء الاجتماعي في البلدان النامية, لتصبح في نهاية الأمر كالمجتمعات المتقدّمة .. فالدول الغربية هي الرّائدة في الحداثة, و هي تجسيد المعايير القياسية لكلّ ما هو حديث و عصري لجميع دول العالم, ليس فقط في مجالات الانتاج الاقتصادي و انما أيضا في النّظم السياسية و الاجتماعية, فبدت و كأنها اليوم قناعات و مبادئ عالمية, و انتشار هذه المبادئ لا يتحقّق الا من خلال ” المساعدات ” الاقتصادية و الثقافية و السياسية المباشرة و -الغير مباشرة- الّتي تقدّمها الدّول الرّأسمالية للدول النامية, فالمساعدات الخارجية يمكن أن تخلق تدريجيا في المجتمعات التقليدية التكنولوجيا و الديمقراطية و نمط الانتاج الرّأسمالي, بحيث يبدو الانتسار و كأنه عملية اقتصادية و سياسية محايدة – و هو ليس كذلك – اِنّه الاستعمار الجديد المزخْرف بزينة المظاهر الخلاّبة.
5 – المركزية الأوروبية – Eurocentrism – الّتي ترى أن المجتمعات الأوروبية السباقة على طريق التطور, تمثل النموذج الذي يجب أن يحتذى من قبل الدول النامية, و أن حضارة الغرب الرأسمالي تشكل صورة التقدم الوحيدة و المثلى الّتي تصبو اليها الشعوب, لأن الحضارة تعني عندهم الحضارة الغربية -فقط-, الحضارة التي تحمل رسالة الى دول العالم, و اِن مستقبل تلك الدّول يتمثّل في اتباع النظم السياسية و الاقتصادية القائمة في أوروبا الغربية و أمريكا .. فنمط الانتاج الرأسمالي و العلمانية الليبرالية البرلمانية هي الأكثر ملاءمة للطبيعة البشرية – كما يزعمون – فالتاريخ و الواقع يشهد أنها سبب دمار الحضارة البشرية و خروجها من الانسانية الى الحيوانية, فما عداها – عندهم – يشكل انحرافا و خروجا على العقلانية, فالتصنيع و المدنية و نشر الثقافة العلمانية و تحقيق المشاركة السياسية كما هو في الغرب, وسيلة البلدان “المتخلّفة” اذا أرادت اللحاق بالدول المتقدّمة.. اِذن .. النموذج الغربي هو النموذج – الدستوري – العالمي الوحيد, و هنا يظهر التمركز الأوروبي و الأمريكي حول الذات – الواقع العربي – بأجلى صوره.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى