الصراع في حوض النيل والقرن الإفريقي: الصراع الاثيوبي – الاريتري

تشير الأحداث التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي (السودان ـ إريتريا ـ إثيوبيا) إلى استمرار سلسلة الانشقاقات والخلافات التي عانت منها دول المنطقة داخلياً وإقليمياً عبر تاريخها، وهو ما جعل التنافس والصراع السمة الغالبة على شبكة العلاقات الداخلية والإقليمية لدول هذه المنطقة.

ففي الآونة الأخيرة شهدت المنطقة العديد من التطورات التي تمس علاقات الجوار الجغرافي والحدود والموانئ وخطوط أنابيب البترول. ولذا تحاول هذه الدراسة بلورة بعض القضايا والإشكاليات الخاصة بالصراع في منطقة القرن الإفريقي وانعكاساته على المصالح الحيوية العربية فيها من خلال المحاور التالية:

أولاً: مدخل تمهيدي: الموقع وأهمية دراسة الصراع.

ثانياً: طبيعة وأبعاد الصراع في القرن الإفريقي.

ثالثاً: الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي.

* أولاً: مدخل تمهيدي: الموقع وأهمية دراسة الصراع:

القرن الإفريقي هو ذلك الرأس النائي من اليابسة الناطح البحر على شكل قرن يشق الماء شطرين: الشمالي منه هو البحر الأحمر والجنوبي منه هو المحيط الهندي. وعليه فإن القرن الإفريقي من الناحية الجغرافية يشمل إثيوبيا والصومال وجيبوتي. بيد أن بعض الجغرافيين قد وسع الرقعة التي يشملها هذا القرن لتضم كينيا والسودان. بل الأكثر من ذلك أنه في عام 1981م قام وزير الدولة الفرنسي للشؤون الخارجية آنذاك، (أوليفيه ستيرن)، بتوجيه الدعوة إلى كل من السعودية واليمن إضافة إلى دول القرن الإفريقي لحضور مؤتمر إقليمي يهدف إلى حل مشكلات المنطقة. يعني ذلك أن الدلالة السياسية لمصطلح القرن الإفريقي تتعدى حدود الدلالة الجغرافية حتى في معناها الواسع. وربما يعزى ذلك ولو جزئياً إلى أن هذه المنطقة تقع داخل الإقليم الذي أضحى يعرف باسم «قوس الأزمة» والذي يضم القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج(1).

وقد شهدت منطقة القرن الإفريقي ولا تزال صراعات مريرة وصلت إلى حد الحروب والصدامات المسلحة لمدة قاربت العقدين. وبرز واضحاً في هذا الصراع تفاعل كل من المؤثرات المحلية والداخلية والمؤثرات التي تطرحها قوى فاعلة خارجية.

ويمكن القول منذ البداية إن دراسة الصراع في هذه المنطقة أمر على جانب كبير من الأهمية لعدد من الاعتبارات من أبرزها:

1 – الموقع الاستراتيجي الهام لهذه المنطقة جعل منها محل أطماع الدول القومية في مختلف عصور التاريخ؛ فالقرن الإفريقي يحاذي الممرات البحرية الاستراتيجية في كل من البحر الأحمر والمحيط الهندي. ومنذ افتتاح قناة السويس عام 1869م ازدادت القيمة الاستراتيجية للأراضي المطلة على البحر الأحمر، وهو الأمر الذي يؤدي بالتبعية إلى زيادة إمكانية التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للإقليم(1).

2 – اتسام صراعات القرن بطبيعة بالغة التعقيد نابعة من تعدد أبعاد ومستويات الصراع في المنطقة، وهو ما يبدو واضحاً في أن الخلافات الحدودية بين دول المنطقة تختزل في داخلها صراعات ضارية بين قوميات متناحرة في إثيوبيا والصومال وكينيا. كما تتداخل أيضاً في هذا الصراع أبعاد حضارية ودينية وعرقية واقتصادية. أما التعدد في مستويات الصراع فيبدو واضحــاً أن المنطقــة شــهدت أشــكالاً شتى من الصراعات تراوحت ما بين الحروب النظامية واسعة النطاق والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية. وتجدر الإشارة إلى أن نتاج ذلك كله أن تصبح هذه الصراعات هادياً للسياسات الداخلية، وتؤدي إلى خلق نوع من المشكلات المحلية والإقليمية تستعصــي بطبيعتهـــا علــى اســـــتراتيجيات إدارة الأزمـــات المعتـادة(2).

3 – ورثت منطقة القرن الإفريقي عدداً من القضايا التي ترجع جذورها إلى مرحلة ما قبل الاستقلال ومن ذلك:

أ – الدولة الإمبراطورية الإثيوبية التي قامت أساساً على التوسع، وضمت أقواماً من أمم مختلفة يتحدثون لغات مختلفة وذوي سبل عيش اقتصادية مختلفة.

ب – تركة من التدخل الخارجي والتغلغل الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ ركزت الأطراف الخارجية الفاعلة على إثيوبيا باعتبارها قوة إقليمية كبيرة في المنطقة(3).

وعليه فإن دراسة ديناميات الصراعات في هذه المنطقة أمر على جانب كبير من الأهمية لما لها من مردودات مباشرة وغير مباشرة على الأمن القومي العربي بصفة عامة، والأمن الوطني المصري بصفة خاصة. فلا يخفى أن تفهم مختلف أبعاد الصراع في المنطقة وجوانبه يمكننا من التفاعل معه والتأثير بدلاً من أن تقف موقف المتلقي لتياراته وتأثيراته، ومن ثم تكون حركتنا مجرد ردود أفعال.

* ثانياً: طبيعة وأبعاد الصراع في القرن الإفريقي:

1 – الصراع في حوض النيل:

تتميز العلاقات المائية بين دول حوض نهر النيل بالاستقرار النسبي نتيجة للعديد من الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة بينها كاتفاقية عام 1959م بين مصر والسودان التي تنظم استفادة كل منهما من مياه النهر. كما تعقد دول الحوض العديد من الاجتماعات بهدف عقد اتفاقيات تعاون لاستغلال مياه النهر وتنمية موارده المائية، كالاجتماع الذي عقد عام 1986م تحت إشراف برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، وحضره ممثلو دول الحوض، وصادقوا فيه على عدد من الاتفاقيات.

إلا أن الأمر لا يخلو من بعض التوتر بين دول حوض النيل حول مياه النهر؛ فإثيوبيا التي تتحكم بحوالي 85% من مياه النهر تمثل مصدر الخطر الأساسي لدول الحوض وخاصة السودان ومصر الواقعتين أسفل الحوض(4).

وحيث إن قضية المياه من القضايا الحيوية التي تشغل دول حوض النيل، فدائماً ما تسعى مصر إلى ضمان حقها التاريخي في المياه. غير أن قلق مصر على حصتها من مياه النيل أخذ يتزايد في السنوات الأخيرة بسبب سياسات التنمية الزراعية والصناعية التي تتطلع إليها اليوم دول المنبع، والتي تتطلب بناء سدود على البحيرات ذاتها، وعلى بعض روافد النهر، مما يهدد بتخفيض حصص المياه المكتسبة لمصر والسودان.

ونظراً إلى أهمية هذه القضية بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، يكون من المفيد عرض أهم المشروعات التي تخطط لها دول حوض النيل منذ سنوات، والتي وردت في دراسة قيمة قامت بها المجالس القومية المتخصصة في هذا العام(5).

* بالنسبة إلى دول البحيرات العظمى تشرع تنزانيا ورواندا وبوروندي في إقامة مشروعات عدة للري وتوليد الطاقة على نهر كاجيرا على بحيرة فيكتوريا.

* بالنسبة إلى بحيرة تانا وحوض النيل الأزرق فقد شرعت إثيوبيا في تنفيذ 33 مشروعاً للري ولتوليد الكهرباء حول حوض النيل الأزرق، وهناك مشروعات أخرى ما زالت قيد التنفيذ، منها إنشاء محطة لتوليد الكهرباء على بحيرة تانا، وإنشاء سد على نهر فيشا لزراعة قصب السكر. كما تقوم المجموعة الاقتصادية الأوروبية بمشروعات عدة لتوفير مياه الري للمنطقة المحيطة ببحيرة تانا ولتوليد الكهرباء من البحيرة الواقعة جنوب غرب إثيوبيا، كما تقوم روسيا ببناء سد صغير على نهر البارو لري عشرة آلاف هكتار. هذا، وقد أكد وزير الري المصري مؤخراً وجود اتفاق بين إسرائيل وإثيوبيا على إقامة سد لتوليد الكهرباء. وفي 9/6/1996م وافق البرلمان الإثيوبي على مشروع قرار تقدمت به الحكومة بإنشاء خزانين: الأول: على النيل الأزرق للاستفادة منه لأغراض زراعية وإنتاج الطاقة الكهربائية، والثاني: على نهر دايوسن. وسوف يمول هذين المشروعين البنك الدولي وجهات أخرى. وجدير بالملاحظة أن البنك الدولي قد وافق على تمويل المشروعين الإثيوبيين الأخيرين من دون اشتراط حصول إثيوبيا على موافقة باقي دول حوض النيل كما هو معمول به ارتكازاً على نظرية القانون الدولي في الاستفادة المشتركة للدول المشاطئة للأنهار الدولية. وتعتبر موافقة البنك الدولي بالشكل الذي تمت عليه سابقة خطيرة على مصالح دولتي المصب: مصر والسودان(1).

وعادة ما استخدمت مياه النيل كمادة للصراع السياسي وخاصة في اتجاه مصر من قبل إثيوبيا بشكل رئيسي والسودان في بعض الأحيان. فهناك قضية السدود الإثيوبية التي تطرح بين الحين والآخر ومطالبتها بسحب امتيازات الحق التاريخي التي تتمتع بها مصر، ومحاولات الإيحاء بالقدرة على التأثير في حصة مصر من المياه، وموقفها الرافض للاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959م، وهو الأمر الذي يطرح مسألة جدية التلويح أو المخاطر التي تحوم بحصة مصر من النهر. أما بالنسبة للسودان فموقفها يتلخص في استخدامها لورقة المياه كورقة ضغط على مصر؛ ولذا لا يتم الإعلان عنها إلا في فترات التوتر وآخرها ما حدث من خلال اتفاقها مع إثيوبيــا عام 1993م الخاص بالتعاون المشــترك في اســتخدام ميـاه النيـل(2).

فإثيوبيا تبدو من دون باقي دول الحوض الأكثر رغبة في تغيير الواقع القائم وتحديه؛ حيث لا تعطى هذه الدول أولوية حاسمة لحقوقها من مياه النيل كما تفعل إثيوبيا على اختلاف أنظمتها السياسية. فلا شك أن الدور البريطاني وسياساته تجاه مياه النيل وارتباط مصر بهذه السياسة قد أفرز الكثير من التعقيدات والحساسيات التي وجدت سبيلها إلى جملة التفاعلات السياسية في منطقة حوض النيل؛ بحيث لم يشكل قيام ثورة يوليو 1952م بداية مرحلة جديدة، بقدر ما تأثر بتاريخ تلك العلاقات وما أفرزته من حساسيات وخاصة بالنسبة لإثيوبيا، كما كان لإقدام مصر على اتخاذ قرار بناء السد العالي دون استشارة دول المنبع أثره الواضح في إقرار العديد من التعقيدات والهواجس التي وجدت سبيلها في الظهور مرة أخرى مع توقيع مصر والسودان لاتفاقية 1959م؛ وهذا ما سعت معه إثيوبيا لاتخاذ مجموعة من الإجراءات المقابلة التي يأتي في مقدمتها عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة تقدم بمقتضاها الخبرة بعمل دراسة شاملة عن نهر النيل في إثيوبيا لبحث إمكانية إقامة السدود والزراعة وتوليد الطاقة، كما سعت إلى تطوير علاقتها مع إسرائيل بقبول استقدام قنصل عام لإسرائيل في أديس أبابا عام 1956م، لتدخل العلاقات الثنائية منحى جديداً تستخدم فيه ورقة المياه كأداة ضغط وتوتر متبادل على الرغم من أن بناء السد لم يكن ليؤثر في قدرة إثيوبيا على استخدام مواردها من المياه ولا على مشروعاتها التي لم تكتمل بسبب قصور إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية(3).

أما بالنسبة للسودان، فتتلخص جملة اعتراضات بعض قطاعات السودانيين حول قانونية وشرعية اتفاقية 1959م، وأن الاتفاقية التي أبرمت في عهد الحكم العسكري (حكومة إبراهيم عبود) قد افتقرت إلى التفويض الشعبي، وأنها غير عادلة سواء بالنسبة للحصة التي حصل عليها السودان من المياه، أو بالنسبة للتعويض المالي نتيجة غمر أراض عزيزة وغالية من أرض السودان (حلفا)(4).

أما عن الموقف المصري من هذه القضية فيمكن تلخيصه في اتجاهين رئيسيين:

الاتجاه الأول: ويمثله بعض المسؤولين في وزارة الخارجية:

يؤمن هذا الاتجاه أن مصر لا تتفاوض على حقوقها في مياه النيل، وأنها تتمسك بالمعاهدات الدولية التي أبرمت في هذا الخصوص، بغض النظر عن موقف بقية الأطراف المعنية من هذه المعاهدات التي ترغب بالفعل في تغييرها بحجة أنها عقدت في عهد الاستعمار، ولذلك لا تلزم الدول الإفريقية الآن.

ومن أهم الاتفاقيات التي توضح حقوق مصر في مياه النيل:

* اتفاقية مياه النيل عام 1929م المبرمة بين مصر والسودان (في عهد الاحتلال الثنائي) والتي تنص على ضرورة المراعاة الكاملة لمصالح مصر المائية وعدم الإضرار بحقوقها الطبيعية في مياه النيل.

* اتفاقية مياه النيل عام 1959م بين مصر والسودان.

الاتجاه الثاني: وتمثله وزارة الري المصرية:

يؤمن هذا الاتجاه من حيث المبدأ بأن النيل يمثل مجالاً خصباً للتعاون بين دول الحوض، وأن هناك كثيراً من الإمكانيات غير المستغلة حتى الآن والتي يمكن أن تكفي الجميع. ومن ثم يجب ألا يكون هناك وجه للخلاف. ولكي يتم هذا التعاون المنشود لا بد من أن يتسم الحوار بالموضوعية والأخذ في الاعتبار احتياجات كل الأطراف. ويعترف هذا الاتجاه بحق كل دولة في السعي لتحقيق التنمية على أرضها لحل مشاكلها الآنية والمستقبلية، شريطة عدم الإضرار بالحقوق الأساسية لأية دولة من دول الحوض، وخصوصاً دولتي المصب اللتين تعانيان دائماً قلة الأمطار.

ويطرح هذا الاتجاه التعاون في إنشاء المشاريع التنموية بين دول الحــوض كبديل مـن الخلافات والصـراعات بينهمــا علـى المياه(1).

وبشكل عام يمكن القول بأن ضعف اقتصاديات معظم دول حوض النيل يجعلها غير قادرة على القيام بكثير من المشروعات المائية التي تخطط لها. كما أن الوضع الأمني غير المستقر في معظمها يؤثر على تنفيذ هذه المشروعات، وعلى ذلك يقل احتمال حدوث صراع حاد بينها.

2 – الصراع الإريتري ـ الإثيوبي:

رغم العلاقات المتينة والروابط المتعددة بين إريتريا وإثيوبيا، فقد انفجر الموقف بينهما عسكرياً في مايو 1998م، على خلفية حدود مشتركة وبطريقة لم تكن متوقعة جعلت من الصراع في منطقة القرن الإفريقي ينقل نقلة نوعية من الصراع العرقي والديني إلى صراع دول وطنية ذات خطط واستراتيجيات قومية. مما مثل مفاجأة للمجتمع الدولي؛ ليس فقط لأن الحرب جاءت متعارضة مع توجهات النظام العالمي الذي تضاءل خلاله اندلاع الحروب النظامية الواسعة(2)، وإنما لكون قائدي النظامين في البلدين: آسياس أفورقي ومليس زيناوي ينتميان إلى نفس المجموعة العرقية (التيجراي) كما أن زيناوي يعود إلى أصول إريترية من جهة الأم، فضلاً عن ذلك فهما رفيقا سلاح؛ فقد خاضا الحرب معاً ضد نظام منجستو في إثيوبيا الذي تم القضاء عليه عام 1991م (3)، مما ساهم في إرساء أسس علاقة قوية بينهما ساعدت على حصول إريتريا على استقلالها عن إثيوبيا عام 1993م(4). منذ ذلك اليوم وقع البلدان على عدة اتفاقيات للتعاون في مختلف المجالات. ويرى بعض المراقبين أن بداية التراكمات تعود إلى مرحلة ما قبل استقلال إريتريا؛ ففي غمرة الانتصارات على عدوهم المشترك منجستو ترك الطرفان العديد من القضايا والأمور المشتركة بين الدولتين دون حسهم. وفي ذلك الحين لم يتصور أحد أن هذه القضايا المعلقة كانت بمثابة قنبلة موقوتة سرعان ما تفجرت وأشعلت الحرب بين البلدين(5).

والمتتبع لمسار العلاقات الإثيوبية – الإريترية، سيجدها لم تخل خلال السنوات الخمس السابقة على الحرب من خلافات عديدة منها الخلاف الحدودي الذي تعود جذوره إلى فترة استقلال إريتريا عام 1993م؛ حيث كان الجانبان قد اختلفا بشأن السيادة على عدد من المناطق الحدودية وهي: زالامبيا، يوري، ويام مي، وشيراو، ومثلث برجا – الحميرة، وعفر، وبعض ولاية تيجراي وأبيجي وأنداكيدا ولبتينا وأردى ماتيوس(6). ويتمحور الموقف القانوني للبلدين في رؤية مشتركة لمبدأ يقضي بضرورة الاعتراف بالحدود المتوارثة عن الدول الاستعمارية وعدم تغييرها، ولن تختلف الدولتان حول أي الاتفاقيات التاريخية التي يجب الأخذ بها.

ونتيجة لهذه التراكمات بدأ النزاع الحدودي يظهر في أغسطس 1997م، عندما بدأت إثيوبيا في ممارسة بعض مظاهر السيادة على الأقاليم المتنازع عليها، بنشر بعض الخرائط التي تظهر تبعية إقليمي بادمي، وزالامبيا لها (7)؛ مما أفضى إلى قيام إريتريا يوم 6/5/1998م، باقتحام الحدود المشتركة وتوغلت داخل الأراضي المتنازع عليها. وبهذا تكون إريتريا قد بادرت باحتلال الأراضي المتنازع عليها بالقوة العسكرية، وتحقيق النصر على إثيوبيا في هذه الجولة. ثم انفجر القتال بين الجانبين خلال شهر فبراير 1999م مرة ثانية، ودار القتال في ثلاث مناطق هي: بادمى التي شهدت العمليات العسكرية في مايو 1998م، ومنطقة تسورنا، وزالامبيا ومنطقة يوري جنوب غرب ميناء عصب. واستطاعت القوات الإثيوبية تحقيق بعض الانتصارات غير الحاسمة، وهو ما أجبر إريتريا على الموافقة على خطة السلام التي أعدتها منظمة الوحدة الإفريقية، مما ساعد على إيقاف القتال مؤقتاً بين الطرفين(1). والجدير بالذكر أن الجولة الأولى والثانية من الحرب لم تساعدا في تسهيل عملية التسوية؛ بل على العكس استمر التباعد في المواقف بين الجانبين، وبدا واضحاً أنهما يستعدان لجولة ثالثة فاصلة. وهذا ما حدث؛ حيث اندلعت مواجهة جديدة خلال شهر مايو 2000م، والتي كانت أكثر شراسة، واستطاعت إثيوبيا التي امتلكت المبادأة في هذه الجولة تحقيق انتصارات حاسمة على القوات الإريترية(2).

فلم تكتف إثيوبيا باسترداد المناطق التي احتلتها القوات الإريترية عام 1998م، فحسب بل إنها توغلت داخل الأراضي الإريترية.

ومن الملاحظ أن الحرب الإريترية الإثيوبية وخاصة في جولتها الثالثة، أنها الحرب الأكثر عنفاً ودموية في الصراعات الإفريقية؛ ففي التاريخ الحديث لإفريقيا لم يحدث أبداً أن تصاعد أي صراع بين دولتين إلى هذه الدرجة من العنف.

3 – الحرب الأهلية في السودان:

ظلت الأزمة السودانية بملامحها وأبعادها المستجدة الأكثر حدة وتعقيداً منذ الاستقلال تراوح مكانها عام 1997م وسط مؤشرات تدل على عدم إمكان حسمها عسكرياً أو حلها سياسياً. فلا يبدو أن الخيار العسكري يمكن أن يؤدي إلى نتائج حاسمة في ظل موازين القوى القائمة. كما أن الحل السياسي يواجه مشكلات كبيرة في ظل المواقف المعلنة. ولذلك تواصلت أعراض هذه الأزمة التي تجمع المشكلات الرئيسية التي واجهت السودان منذ استقلاله. وهي مشكلات عدم استقرار نظام الحكم واستمرار الحرب الأهلية، فضلاً عن تصاعد وتوتر العلاقات الخارجية، كما تعقدت الأوضاع المحيطة بالنظام السوداني، واستخدمت الأدوات العسكرية والدبلوماســية بأساليب جديدة، فـي ظـل محـددات تشـير إلى أن أياً منهــا لن يكـون حاســماً في إيجاد حــل قــريب للصــراع الدائر(3).

وترجع الأزمة السودانية إلى عدد من الأسباب التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1 – أن التطورات التي شهدتها السودان منذ وقوع الانقلاب العسكري الأخير عام 1989م وقيام نظام سياسي عسكري يستند إلى قواعد الجبهة القومية تشير إلى انكسار في الحلقة المفرغة التي أفرزت دورات الحكم في الدولة؛ فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتمتع فيها حكم عسكري في السودان بقاعدة تأييد مدنية صلبة نسبياً. لكن قدرة النظام على إعادة صياغة الخريطة السودانية المعقدة أخذت تتآكل مع الوقت، خاصة في ظل عدم المرونة التي اتسم بها واستخدام العنف المكشوف ضد العناصر المعارضة(4).

2 – وصول الفجوة بين النظام الحاكم والمعارضة الجنوبية المسلحة إلى أوسع مدى لها في عام 1997م منذ الاستقلال، وذلك بسبب التوجهات الأيديولوجية للنخبة الحاكمة. فقد ارتكزت سياسة النظام تجاه الجنوب على أن مسألة نشر الإسلام في تلك المناطق «قضية جهاد» وأدى ذلك إلى اعتقاد المعارضة الجنوبية استحالةَ الوصول لحل وسط بشأن تلك المشكلة(5).

3 – انفجار التوترات السياسية المتزامنة بين السودان ودول الجوار الرئيسية. فالسودان من الدول التي تمثل تفاعلاتها مع دول الجوار المجال الرئيسي لسياستها الخارجية، بحكم تعدد تلك الدول، والتصاق الكتل الجنوبية، ويؤدي وجود أسباب للتوتر معهما إلى عدم توازن سياسته الخارجية.

4 – تصاعد درجة الاهتمام والتدخل في الشؤون الداخلية السودانية(6):

وفي هذا الإطار التقت العوامل السابقة لتشكل ملامح أزمة ممتدة ذات طابع حاد تفجرت خلالها كل المشكلات السودانية، على نحو أدى إلى تفاعلات مكثفة أفرزت تحولات درامية في سلوك جميع الأطراف المعنية بالمسألة السودانية، والقوى الإقليمية الرئيسية، وتبلور توجه رئيسي للتعامل مع المشكلة وهو تبني المعارضة السودانية خيار العمل المسلح.

ولكن في عام 1999م فإن ثمة «فرصة» للحل السياسي، حيث شهد هذا العام:

أ – توقيع «اتفاق سلام» في إبريل بين الحكومة السودانية، وستة فصائل جنوبية منشقة على حركة جون جارنج.

ب – قبول النظام السوداني مبادئ إعلان «ايغاد» الصادر عام 1994م، الذي أكد على التعددية السياسية، وتقرير المصير للجنوب، وفصل الدين عن الدولة بوصفه «أساساً للنقاش والمفاوضات».

ولكن سرعان ما بدأت المشكلة المرتبطة بالحل السلمي عندما قبلت الحكومة شقاً واحداً رئيسياً في إطار الحل وهو الشق الخاص بالجنوب، ولم يصدر عنها ما يشير إلى قبول التعددية السياسية الكاملة بالمفهوم الذي تطرحه المعارضة الموحدة(1).

ولكن فجأة، وبعد مرور 20 سنة من الصراع، و 18 جولة غير ناجحة من المفاوضات، و33 يوماً من التفاوض في الجولة الأخيرة توصل وفدا كل من الحكومة السودانية وحركة التمرد في جنوب السودان (حركة جون جارنج) إلى بروتوكول ماشكوس ـ نسبة إلى المدينة الكينية التي احتضنت الاتفاق ـ الذي يعتبر أول اتفاق من نوعه يضع مبادئ عامة ومحددة للتفاوض عليها مستقبلاً بشأن الجنوب. وصف الاتفاق بأنه «اختراق» في العلاقات بين الطرفين اللذين أسفرت حربهما عن مقتل ما لا يقل عن مليونين، ونزوح 4 ملايين سوداني من مدنهم، وإيقاف تنمية السودان تماماً رغم موارده الهائلة.

فهو ليس اتفاقاً نهائياً، ولكنه أقرب ما يكون إلى «إطار للتفاهم» أو «أرضية مشتركة»، وفي يوم 18/7/2002م أعرب «جون رانفورث» مبعوث الرئاسة الأمريكية عن ضرورة وقف حرب جنوب السودان حتى يمكن أن يفتح الباب أمام السودان ليصبح دولة نفطية كبرى في إفريقيا(2).

* ثالثاً: الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي:

1 – مفهوم الأمن القومي العربي:

بعبارة موجزة: يمكن أن نعرِّف الأمن القومي بأنه سلامة حدود الدولة ومصالحها وقيمها وثقافتها من المخاطر المحدقة بها. وقد تكون هذه المخاطر خارجية آتية من دول الجوار أو الدول الكبرى، أو قد تكون داخلية كأن يهدد النظام الشرعي للدولة أو أمن المواطن في الداخل نتيجة لفقدان أحد مقومات الأمن.

وتتمثل هذه المقومات في عوامل ثلاثة: القوة العسكرية، والتنمية الاقتصادية، والاستقرار السياسي.

فإذا كان المقصود هو عدة دول مرتبطة بنظام إقليمي محدد كالدول العربية، تزداد على هذه العوامل دعامة أخرى رئيسية ألا وهي ضرورة وجود حد أدنى من الاتفاق على تحديد مصادر التهديد الرئيسية داخلياً وخارجياً، مما يوجب رسم استراتيجية موحدة للدفاع عن هذا الكيان الإقليمي. ويتبع ذلك ضرورة توافر الإرادة السياسية الموحدة وجهاز صنع القرار على المستوى القومي. فإذا انتقلنا إلى مفهوم الأمن القومي العربي وجدنا أنه محصلة لمجموع أمن الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.

فالعلاقات العربية – العربية الآن تمر بمحنة حقيقية لعل أخطر سماتها التمزق والتشتت في السياسات والأهداف، بحيث أصبح من أصعب الأمور على المهتمين بالشؤون العربية رسم خطة واضحة لحماية الأمن العربي، بل أكثر من هذا وضع مفهوم موحد ومتفق عليه بين جميع الأطراف، لما يطلق عليه الأمن القومي العربي(3).

فإذا قارنا بين المقومات العامة للأمن التي سبق ذكرها سلفاً، وبين الوضع الراهن في الدول العربية وجدنا الآتي:

1 – القوة العسكرية: دُمِّر جزء هام من القوة العربية حيث دمر العراق. أما القوتان الأخريان المصرية والسورية فقد انضمتا إلى المحور العربي، وبذلك لا يمكن أن نتكلم اليوم عن قوة عسكرية عربية مستقلة.

2 – التنمية الاقتصادية: تعتبر التنمية الاقتصادية متعثرة في أغلب الدول العربية؛ حيث إنها تعتمد غالباً على القروض وليس على تنمية الإنتاج.

3 – الاستقرار السياسي: من الصعوبة بمكان الحديث عن الاستقرار السياسي في الدول العربية اليوم؛ حيث تتهددها مخاطر داخلية وخارجية.

4 – الاتفاق على مصادر التهديد: ليس هناك أي اتفاق بين الدول العربية في هذا الشأن.

5 – ونتيجة لكل هذه السلبيات لا يوجد تنسيق في صنع القرارات العربية، ومن ثم لا يمكن الحديث عن جهاز موحد عربي لصنع القرار.

ومن هنا يجب النظر إلى مسألة الأمن العربي من خلال مناظير عدة بدلاً من منظور واحد غير ذي موضوع. وبما أن المنطقة الخاصة للدراسة هي القرن الإفريقي فسيكون تأثير ما يحدث فيها واقعاً على بعض الدول العربية فقط، وعلى وجه الخصوص دول الخليج ومصر واليمن.

بقلم محمد عاشور – مركز الحضارة للدراسات السياسية.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button