دراسات سوسيولوجية

قراءة في الاتجاهات و النظريات الأساسية في الأنثروبولوجيا

بقلم 4 مايو 2012

منذ أن استقرت الأنثروبولوجيا علما قائما بذاته برزت العديد من الاتجاهات تناول الأنثروبولوجيون انطلاقا منها مختلف الموضوعات الأنثروبولوجية و لقد كانت نظرية التطور في مجال البيولوجيا و التي أسس دعائهما ” تشارلز داروين” ملهما حقيقيا للأنثروبولوجيين الأوائل الذين تناولوا الثقافة و المجتمع بنظرة تطورية ، لكن أسس التفسير تعددت باتساع الدراسات في الحقل الأنثروبولوجي و بروز اتجاهات و نظريات اجتماعية لها القدرة على التحليل و التفسير ، ولعل أهم اتجاهات و نظريات دراسة الأنثروبولوجيا ما يلي :
1/ الاتجاه التطوري :
كان هذا الاتجاه قد احتضن نشأة الأنثروبولوجيا حين ظهورها كعلم خلال القرن الـ 19 م فكان الأنثربولوجيون يحاولون فهم كيفية نشأة و تطور المجتمعات و ثقافتها فحسب التطوريين يمثل تاريخ الانسانيىة و تاريخ الثقافة بما يضم من عادات و تقاليد و تنظيمات …. خطا متصاعدا كما أن البشرية تمر بمراحل خلال تطورها التاريخي فتتدرج من الأشكال البسيطة إلى الأشكال المعقدة إلى الأكثر تعقيدا ، و هذه السيرورة ملازمة لكل المجتمعات و الثقافات نتيجة الوحدة النفسية المشتركة بين البشر.
يرى لويس مورغان( 1818-1881 ) أن المجتمعات تمر بمراحل تطورية حيث كل مرحلة تشكل نمطا معينا طبقا لمراحل التطور التي تتمظهر في طبيعة العلاقات الاجتماعية و طبيعة النظم التي تميزها ، فكل المجتمعات عنده تخضع في تطورها لقانون واحد طالما أن تاريخ الجنس البشري و أصل الإنسانية واحد ، و عليه يصل مورغان إلى أن البشرية تطورت عبر ثلاث مراحل أساسية :
1- مرحلة التوحش ( الهمجية ) : و يقسمها إلى ثلاثة مراحل هي مرحلة التوحش الدنيا و مرحلة التوحش الوسطى و مرحلة التوحش العليا و يوضح مورغان أن هناك ارتقاء ثقافي خلال الانتقال عبر كل مرحلة في تقنيات العيش و النظم الاجتماعية .
2- مرحلة البربرية و تنقسم بدورها إلى ثلاث مراحل دنيا و وسطى و عليا .
3- مرحلة المدنية ( الحضارة) و هي التكي تتميز باختراع الكتابة و الحروف الهجائية و هي مازالت ممتدة إلى اليوم .
كما يعد إدوارد تايلور (1832-1917) واحدا من رواد هذا الاتجاه حيث اعتبر أن الثقافة عنصر مساعد لفهم التاريخ الإنساني طالما أنها ظاهرة تاريخية تميز الانسان دون غيره و يكتسبها بالتعلم من المحيط الذي يعيش فيه ، و بهذا المعنى تكون الثقافة هي حصيلة ما يكتسبه الفرد في المجتمع ، و من هذا المنطلق يرى تايلور أن ” دراسة الثقافة هو دراسة تاريخ تطور الفرد في المجتمع باعتبارها العملية التاريخية العقلية لتطور عادات الانسان و تقاليده من حالتها غير المعقدة إلى حالتها المعقدة فالأكثر تعقيدا ” ، كما يعتقد تايلور بتطور فكر الإنسان في مجال الاعتقاد ، ففي البدء بدأ الانسان بمحاولة التفكير في القرين الملازم لجسم الانسان و هو الروح ثم تدرج إلى وجود أرواح تسكن الطبيعة مثل الروح التكي تسكن جسد الانسان ، فقام بتأليه هذه الأرواح لكنه اهتدى أخيرا إلى فكرة الإله الواحد كمرحلة أخيرة تعبر عن منتهى تفكير الإنسان و يبدو أن مراحل التطور لم تكن حتمية ملزمة بالنسبة لتايلور كما كان الحال عند لويس مورغان في عده لمراحل التطور البشري ، و رغم تصنيف تايلور ضمن الاتجاه التطوري إلا ان آراءه لم تخل من القول بانتشار الثقافة فهي حسبه” مثل النباتات تتصف بالانتشار أكثر من كونها تتطور ، فالناس أخذوا من جيرانهم أكثر مما اخترعوا و اكتشفوا بأنفسهم ” .
كما كانت إسهامات جيمس فرايزر (1854-1941) في مجال التطور بتطرقه إلى تطور المجتمعات من خلال ثلاث محطات هي : السحر و الدين و العلم ….إلخ.
2/الاتجاه التاريخي : ويتزعمه العالم الألماني فرانز بواز ( 1858-1942) والذي كان رائدا لهذا الاتجاه في أمريكا وبفضله تم الانتقال من النظرة الخطية التطورية للتاريخ كما كانت عليه نظريات التطوريين إلى دراسة ثقافات محددة كثقافة العشائر و القبائل مع التأكيد على ضرورة دراسة هذه الثقافات في إطار منطقتها الإقليمية الثقافية ، و الهدف من ذلك هو معرفة أصول و تواريخ الثقافات و تحديد خصائصها و لكن الهدف الأسمى يتجلى أخيرا في المقارنة بين هذه التواريخ و التي تميز هذه الثقافات من أجل الوصول إلى القوانين العامة التي تحكم نموها و تطورها .
3- الاتجاه الانتشاري : يرى أصحاب هذا الاتجاه ان الاتصال بين الجماعات و الشعوب أدى إلى انتشار بعض السمات الثقافية ، فعملية الانتشار الثقافي تنطلق من مركز ثقافي إلى باقي المناطق كما أن الانتشار يتم أيضا من خلال انتقال السمات الثقافية من جماعة سابقة إلى جماعة لاحقة ، و تعتبر فكرة ” المنطقة الثقافية ” التي طورها “وسلر ” ( تلميذ بواز) أداة هامة في دراسة الثقافة و جوهرها تقسيم و تصنيف ثقافات العالم إلى مجموعات ثقافية بناء على تشابه العناصر الثقافية التي تكونها ، و المنطقة الثقافية إقليم يضم مجتمعات إنسانية متشابهة الثقافة ، و من أجل تحديد و تمييز منطقة عن أخرى يتم تتبع مدى انتشار العناصر الثقافية المميزة لتلك الثقافة ( طرق و أدوات الصيد ، طهي الطعام …..) مثلما فعل الأمريكي “سابير” الذي حاول تحديد مدى انتشار عناصر ” رقصة الشمس ” عند هنود السهول بأمريكا الشمالية ، و في أنجلترا برز من يقول بوجود مركز للثقافة تنطلق منه إلى باقي أنحاء العالم و خير مثال على هذا العلامة ” إليوت سميت” الذي رأى بأن مصر القديمة هي مركز كل الثقافات الحالية حيث انتشرت العناصر الثقافية من مصر إلى باقي أنحاء العالم ، فقد كانت نظرة سميت هذه مؤسسة على تشابه الآثار المختلفة في العالم مع الآثار التي اكتشفها عالم الآثار ” بتري” كنظم القرابة و فن التحنيط و عبادة الشمس ….إلخ .
4- الاتجاه التناسقي التكاملي : و مفاده ضرورة النظر إلى الثقافة ككل متكامل يجمع بين الأفكار و المشاعر من جهة و السلوك الظاهر من جهة ثانية ، و قد كان ” سابير ” من الممهدين لهذا الاتجاه من خلال نظرته للثقافة في صورة تفاعل الأفراد فيما بينهم و ما ينتج عن ذلك من معان و مشاعر مشتركة لذلك يعرف الثقافة بأنها كل متكامل من أنماط فكر و عواطف و أنماط عمل “، و تعد العالمة الأمريكية ” روت بندكت” واحدة من أهم الممثلين لهذا الاتجاه و يتجلى ذلك في قولها بأن الثقافة مثل الفرد لديها نمط متناسق من الفكر و العمل ، كما أنه لفهم الثقافة لابد من الأخذ في الاعتبار الاتجاهات العقلية و الشعورية السائدة فيها و القيم و الأهداف المشتركة بين أفراد المجتمع الذي تتم فيه دراسة الثقافة ، ففي دراستها لبعض القبائل الهندية في جنوب غرب أمريكا الشمالية وجدت بندكت اختلافا بين القبائل فمنها التي تركز على المظهر الخارجي للسلوك و تهتم بالطقوس و احترام العادات و التقاليد أطلقت عليها اسم ” ثقافات منبسطة ” و منها التي تتميز بالعدائية و تعطي للدافع النفسي الداخلي أهمية أكبر من العوامل الخارجية و أطلقت عليها اسم ” ثقافات منطوية ” و الوصول إلى فهم ثقافة ما لابد أن يأخذ في الاعتبار السلوك الظاهري في صوره المتكررة و مختلف الاتجاهات العقلية الشعورية في تناسقها و تكاملها .
5- الاتجاه البنائي الوظيفي : يعد البناء و الوظيفة من المفاهيم المحورية في تحليل المجتمع و في الأنثروبولوجيا الاجتماعية يشير مفهوم البناء الاجتماعي إلى ” مجموعة العناصر التي تقوم بينها علاقات تعبر عن كل العمليات القائمة بين هذه العناصر ” و قد كان لـ ” راد كليف براون” الدور الأكبر في بلورة هذا المفهوم فهو يشير عنده إلى” نوع من الترتيب بين الأجزاء التي تدخل في تركيب الكل وذلك لأن ثمة علاقات وروابط معينة بين الأجزاء التي تؤلف الكل وتجعل منه بنية متماسكة ” وتشير الأجزاء المشكلة للكل إلى مختلف النظم الاجتماعية كما تشير حسب براون إلى الأشخاص ( أب – أخ ..) باعتبار علاقاتهم الاجتماعية وليس الأفراد باعتبارهم كائنات بيولوجية ، ويدرس البناء الاجتماعي مرتبطا بالوظيفة ، فالوظيفة هي ” الدور الذي تؤديه الأجزاء (البناء الفرعي) داخل البناء الكلي للمجتمع” .
وقد اهتم مالينوفسكي بالوظيفة التي تؤديها الثقافة فهي حسبه تعمل على إشباع حاجات الأفراد في جميع النواحي ، كما أن النظم الاجتماعية المختلفة تؤدي وظائف مختلفة كل حسب طبيعته كالنظام الاقتصادي الذي يؤدي وظيفة توفير الحاجات الغذائية والنظام الديني الذي يؤدي وظيفة الضبط الاجتماعي …الخ ، وهذه الوظائف تؤدي مجتمعة إلى تحقيق الوظيفة العامة للبناء الكلي وهي المحافظة على بقائه واستمراره .
6- الاتجاه البنيوي الأنثروبولوجي : ويتزعم هذا الاتجاه العالم الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس ، وتحيل البنيوية إلى وجود بنيات تتحكم في العلاقات والظواهر الاجتماعية ولئن كانت أعمال ليفي ستروس منصبة على المجتمع وظواهره ( المجتمعات البسيطة وظواهرها كأنماط القرابة والأساطير …) فإنه استمد مفهوم البنية من حقل اللغة ومن أعمال فرديناند دي سوسير التي تركز على اللغة كنسق نحوي شكلي يتكون من بنيات (كلمات وجمل) وهذا التناسق هو الذي يحدد المعنى ، يستعير ليفي سروس من الألسنيين طريقتهم في دراسة اللغة ليطبقها على المجتمع فيقول في هذا السياق ” إننا نريد أن نتعلم من الألسنيين سر نجاحهم ، ألا يسعنا نحن أيضا أن نطبق على هذا الحقل الذي تدور فيه أبحاثنا ( القرابة – التنظيم الاجتماعي – الدين – الفلكلور- الفن ..) تلك المناهج الصارمة التي تبرهن الألسنية كل يوم على فعاليتها ” ، إذا حسب ليفي ستروس هناك بنيات أساسية تتحكم في سيرورة المجتمع ، فإذا كانت مختلف النظم والأجزاء المجتمعية بالنسبة للأنثروبولوجيين هي البنيات الأساسية المتحكمة في المجتمع فإن هذه البنيات حسب ليفي ستروس تخفي خلفها البنيات الحقيقية المتحكمة في الواقع الاجتماعي ، لكن البنية الأساسية حسبه والتي تتخفى خلف هذه البنيات هي بنية العقل الإنساني كبنية نهائية لا شعورية ، وإذا كان الضمير الجمعي عند دوركايم واللا شعور عند فرويد هو المتحكم في الظواهر الاجتماعية والانسانية فإن بنية العقل وتركيبته هي المتحكمة في مختلف أنماط التفكير ونظم القرابة والدين وغيرها لدى كلود ليفي ستروس.

يُبنى العلم على النظريات التي لا يتم التوصل إليها إلا بالصدفة والتجريب والتمعن والعمل على ربط الكثير من المعلومات ببعضها البعض، وإن كانت الكائنات الحية التي تعيش على وجه البسيطة مهمة للغاية فالإنسان يعد أهم تلك الكائنات الحية، ولهذا قام العلماء بدراسة الإنسان القديم ( البدائي ) وتتبع حياته منذ نزل آدم عليه السلام على الأرض وحتى اليوم، ولا شك ان هنالك الكثير  من النظريات التي وُضعت لتفسر مسيرة الإنسان على سطح الأرض، وسنستعرض عدداً من نظريات علم الأنثروبولوجيا خلال المقال.

نظريات علم الأنثروبولوجيا

يمكن التعرف على نظريات علم الأنثروبولوجيا مما يلي :-

النظرية التطورية :

  • لاقت هذه النظرية انتشاراً وتأييداً من قبل العديد من الأشخاص وهي تقول أن الإنسان انتقل من المرحلة الحيوانية بتصرفاته إلى المرحلة البدائية بشكل تدريجي.
  • يعتبر العالم مورغان واحداً من رواد هذه النظرية وداعميها فقد قال ونادى بأن فكر وعقل وتفكير الإنسان البدائي الأول مشابه جدا للإنسان الحالي المدني وذلك لأن الأدوات لم تكن متوافرة للأول فيما توافرت تلك الأدوات – بالتالي الظروف – للإنسان الحالي.
  • اعتمدت هذه النظرية على فكرة أن الإنسان ذكي منذ نشأته والأدلة على ذلك بسبب استخدامه للمعادن منذ زمن بعيد وتحويلها إلى أشياء مفيدة، بالإضافة إلى صنع رماح وسهام ونبال يصطاد بها ما يقتات به من حيوانات وطعام.

النظرية الإنتشارية :

  • يقول دعاة هذه النظرية بأن  التلاحم والترادف والتفاعل بين الشعوب المختلفة قام على الاحتكاك الثقافي الذي ساهم بانتشار المزايا والصفات الثقافية من جيل إلى آخر.
  • تسعى النظرية الإنتشارية الى كشف الحلقات المخفية التي تربط بين الشعوب، بشكل جغرافي وزمني في ذات الوقت مستندة إلى المبدأ التاريخي في ذات الوقت.
  • ظهرت العديد من المدارس الداعمة للنظرية الإنتشارية في ذلك الوقت التي لاقت رواجاً ويعد فريدريك راتزل واحداً من أكثر مؤيدي هذه النظرية فقد تبنى مدرسة رائدة لها مركزاً على أهمية التواصل وإقامة العلاقات بين الشعوب.
  • تطورت هذه النظرية مع الوقت لتشمل عديداً من الأبعاد ولهذا قام الكثير من الكتاب والمؤيدين بكتابة نظريات وشروحات مختلفة حولها.

النظرية الوظيفية :

  • تعتمد هذه النظرية على قواعد علم الإجتماع بشكل رئيسي، ليتبلور هذا الاتجاه لاحقا ويأخذ تفسيرات أكبر وبشكل أكثر وضوحا للإنسان.
  • ظهرت العديد من مصطلحات العلوم الطبيعية التي جمعت بين النظريات الإجتماعية والبناء الإنساني للأفكار في هذه النظرية المهمة والعميقة.

لويس هنري مورغان (1818-1881)
محام وعالم إنسان أمريكي اهتم في بداية حياته بدراسة أمريند الايروكيز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأمريكي الأصليين. حاول مورغان إعادة تركيب صورة المجتمعات الإنسانية وتصنيفها بغية التعرف على تاريخ المجتمع الأوروبي والمراحل التي مرَّ بها وصولاً إلى ما هو عليه في عصره. وقد تأثر مورغان بكتاب باخوفن “حق الأم” وبأبحاث لافيتو.

نشر مورغان في عام 1851 بحثاً بعنوان “عصبة الايروكيز” أبرز فيه النظام الأمومي السائد وسط الايروكيز. وكان اهتمام مورغان بنظم القرابة والنظم الاجتماعية والسياسية كبيراً مما دفعه للقيام برحلات واسعة بين الأمريند، وراسل المبشرين العاملين في جهات مختلفة من العالم مستفسراً عن أنظمة القرابة والتنظيمات الاجتماعية لدى الشعوب التي يبشرون بينها. كما وأطلع على كتاب هنري مين “القانون القديم” الذي نشر في عام 1861. نتيجة تلك الأبحاث والقراءات أصدر مورغان مؤلفة عن “أنظمة القرابة والمصاهرة في العائلة البشرية” في عام 1871 وألحقه في عام 1877 بمؤلفه “المجتمع القديم”.

نجح مورغان في إقامة البرهان، عموماً، على أنَّ علاقات القرابة تسيطر على تاريخ الإنسان البدائي، وعلى أنَّ لهذه العلاقات تاريخاً ومنطقاً. واكتشف مورغان أن أنظمة القرابة في المجتمعات البدائية طباقية وليست وصفية وأن نقطة ارتكازها تبادل النساء بين الجماعات، وان الزواج الخارجي (الاغترابي/الاكسوجامي) لا يتنافى والزواج اللحمي (الداخلي/ الاندوجامي) لأن الزواج الاغترابي بين العشائر هو تكملة الزواج اللحمي بين القبائل. ولقد أوضح مورغان أنَّ العشيرة هي الشكل السائد من أشكال التنظيم الاجتماعي لدى جميع الشعوب التي تجاوزت مرحلة التوحش. وميز مورغان شكلين من أشكال العشيرة، العشيرة التي تنتسب إلى الأم والعشيرة التي تنتسب إلى الأب، وقال بالأسبقية التاريخية والمنطقية لأنظمة قرابة الأم على أنظمة قرابة الأب متبنياً بذلك واحدة من فرضيات باخوفن.

انطلق مورغان في تحليله لأنظمة القرابة من واقعة لاحظها لدى الايروكيز الذين عاش معهم واطلع على حياتهم بشكل واسع. لقد كان نظام القرابة السائد لدى الايروكيز “متناقضاً مع علاقاتهم العائلية الفعلية”.. ففي الوقت الذي لم يكن فيه شك في حقيقة الأشخاص الذين كانوا آباءهم وأمهاتهم وبناتهم وإخوتهم يسميهم مورغان (بحسبانه أوروبي يعتمد النظام الوصفي للقرابة) أعمام وخالات … إلخ. وكان أبناء العم المتوازين يعدون عند الايروكيز أشقاء وشقيقات، وكان أبناء العم المتصالبون (أي المتحدرون من أخوات الأب ومن إخوة الأم) هم وحدهم الذين يسمون بأبناء العم. ولقد تولدت لدى مورغان القناعة، بعد استقصاء ومراجعة أكثر من 250 قائمة بمصطلحات القرابة عبر العالم بأسره، بأن التناقض المميز لنظام القرابة لدى الايروكيز موجود أيضاً في الهند وفي أمريكا الشمالية. ولتفسير هذه الظاهرة العامة افترض مورغان أن نظام القرابة يتطابق مع شكل عائلي منقرض يمكن إعادة بنائه فيما لو تم التوصل إلى فك لغز ذلك النظام. كان هذا التناقض تعبيراً عن السرعة المتفاوتة لتطور الأسرة، العنصر الحركي الفعال، ولتطور أنظمة القرابة، العنصر السالب المنفصل.

لقد خيل لمورغان، وهو يقيم مقارنة بين 250 من أنظمة القرابة وأشكال الأسرة التي قام بجمعها، أنه اكتشف في الأسرة الهاوائية (جزيرة هاواي) الشكل العائلي الذي يتطابق مع مصطلحات القرابة لدى الايروكيز، لكن لما كان نظام القرابة في هاواي لا يتطابق هو الآخر مع الشكل العائلي الهاوائي لم يكن هناك مفر من الرجوع تدريجياً إلى “شكل عائلي أكثر بدائية أيضاً، شكل لم يقم البرهان على وجوده في أي مكان، ولكن لابدَّ أن يكون قد وجد لأن نظام القرابة ما كان ليوجد دونه” وذلك على حد تعبير مورغان.

هذا الشكل البدائي الأصلي لا يمكن أن يكون، في رأى مورغان، غير حالة من “الاختلاط الجنسي” بين أعضاء “القطيع البدائي”. ففي هذه الحالة كان جميع الأخوة والأخوات، والآباء والأولاد أزواجاً وزوجات، ولم يكن للمحارم من وجود وشهدت المرحلة التالية ولادة تحريم الزواج بين الفروع والأصول، بينما بقى الأخوة والأخوات في كل جيل أزواجاً وزوجات. ولا بدَّ أن الأسرة كانت حينها “عصبية”. ورغم أن مورغان يرى بأنه حتى أكثر الشعوب بدائية لا تقدم أمثلة قاطعة على هذا النوع من الأسرة فإنه يقول: “لابدَّ أن تكون هذه الأسرة قد وجدت لأن تطور الأسرة اللاحق يفترضها جبراً ويرغمنا النظام الهاوائي على القبول بذلك”.

وكان التقدم الثاني حظر الزواج بين الأخوة والأخوات من نسل الأم، ثم بين الأخوة والأخوات من قرابة الحواشي. ويصبح الرجال في هذا الشكل من الأسرة أزواجاً مشتركين لزمرة من نساء لسن بأخوات لهم، وتصبح الأخوات بالمقابل الزوجات المشتركات لرجال ليسوا بإخوة لهن. هكذا يرى مورغان بأن هذا الشكل العائلي يفسر نظام القرابة لدى الايروكيز، وأن هذا النظام يتعايش مع شكل عائلي مغاير، “العائلة “القرينة” التي يكون فيها عدد محرمات الزواج أكبر أيضاً ويتخذ فيها الزوجان المزيد من الأهمية. وفي جميع الأشكال السابقة من الزواج الجماعي ما كان ممكناً تحديد عامود النسب عن غير طريق الأم. عندها اتخذ التنظيم الاجتماعي الذى كانت تتطابق معه العائلة “القرينة” شكل عشيرة، أي مجموع فروع أم واحدة حُرَّمَ عليهم من الآن فصاعدا الزواج فيما بينهم.

إن العشيرة في شكلها الأول ما كان يمكن أن تقوم إلا على عامود نسب الأم. وقد شكلت العشيرة، على حد تعبير مورغان، “قاعدة النظام الاجتماعي لغالبية الشعوب البربرية، إن لم نقل جميعها، ومنها ننتقل فوراً إلى المدنية في اليونان كما في روما”.

وقد حلت محل العشيرة التي تقوم على نسب الأم العشيرة التي تقوم على نسب الأب والتي لم تدرك كامل تطورها إلا في العالم القديم بعد أن أدى ظهور تربية الماشية إلى تغير أصاب علاقات الإنتاج وأشكال الملكية لصالح الرجال. وقد أدى تطور تربية الماشية ثم الزراعة إلى ولادة الأسرة الأبوية، وأدى تطور هذه الأخيرة إلى ولادة الأسرة الزوجية الحديثة.

ولقد تطور بدءاً من نظام العشائر التنظيم القبلي ثم إتحاد القبائل، وهذه أعلى نقطة أدركها، في رأى مورغان، الهنود الأمريكيون الأصليون الأكثر تطوراً: الإيروكيز والأزتيك والإنكا. والقبيلة، طبقاً لمورغان، هي جملة من عشائر لها أرضها ولهجتها الخاصة، ولها تصورات دينية وعبادات مشتركة. وهي تنتخب زعماءها، ويدير شئونها المشتركة مجلس القبيلة، وعلى رأسه زعيم أعلى محدود السلطات. وللشعب دوماً الحق للتدخل في المناقشات.

كان هذا التنظيم، في رأي مورغان، تنظيم “ديمقراطية عسكرية” ينطوي بحكم طابعه العسكري على أشكال استثنائية من السلطة موقوفة على القادة الحربيين، لكنه يتنافى في الوقت نفسه، بحكم طابعه الديمقراطي، مع وجود طبقات متصارعة ودولة. وعلى هذا يرى مورغان أن الممالك والإمبراطوريات والملوك والأمراء التي أكتشفها الأسبان في المكسيك لم تكن إلا من اختراع مخيلتهم وجهلهم وآرائهم الغربية المسبقة على نحو يتعارض تماماً مع كل المعارف العلمية المتراكمة عن بنية المجتمع العشائري لدى الهنود الأمريكيين.

وافترض مورغان عدداً من المراحل التطورية الاجتماعية ، وربط كل مرحلة من تلك المراحل بنمط معين طبقاً لمراحل التطور الثقافي، أي أن كل مرحلة تميزها علاقات ثقافية تتمظهر في أشكال من النظم بحيث تتوافق مع المراحل الفرعية. وافترض مورغان أن جميع المجتمعات الإنسانية تخضع في تطورها لقانون واحد طالما أن تاريخ الجنس البشري واحد “وحدة أصل الإنسانية وتوحد الحاجات الإنسانية على الدرجة نفسها من التطور وذلك حين تكون العلاقات الاجتماعية على الدرجة نفسها من المساواة”.

هكذا يرى مورغان أن الثقافة الإنسانية انتهجت في تطورها مساراً أُحادياً، أي أنها تنتقل عبر التاريخ وفق سلسلة متتابعة الحلقات، بمعنى وجود مراحل محددة وحتمية لا بدَّ أن تمر بها كل ثقافة من الحالات الدنيا إلى الحالات الراقية فالأكثر رقياً. وافترض مورغان وسعى إلى إيجاد علاقة عنصرين كبيرين في مرحلة ما قبل التاريخ هما: مرحلة التوحش ومرحلة البربرية وقسم كل مرحلة منها إلى مراحل فرعية دنيا ووسطي وعليا قبل الوصول إلى مرحلة المدنية. وبذلك استعاد التاريخ البدائي تلاحماً شاملاً وعمقاً .. تعدد الوجوه يبدو كالتالي:

1- مرحلة التوحش الدنيا: يرى فيها مورغان طفولة البشرية حيث عاش الإنسان في مرحلة أشبه بالحيوانية هائماً على وجهه متغذياً بجذور النباتات وبعض الثمار البرية … جامعاً وملتقطاً.

2- مرحلة التوحش الوسطى: مرحلة تقدم فيها الإنسان قليلاً عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه إلى اكتشاف النار واستخدامها في طهي الطعام وإضاءة الكهوف. نتج عن ذلك تعرف الإنسان على أنواع جديدة من الأطعمة بخاصة اللحوم والأسماك.

3- مرحلة التوحش العليا: اكتشف فيها الإنسان القوس والسهم مما ساعده على تغيير غذائه واقتصاده بشكل عام، أصبح الإنسان في هذه المرحلة صائداً للحيوانات يعتمد على لحومها، أي أن الإنسان بدأ في هذه المرحلة في تحقيق الانتقال من جامع للطعام وملتقط له إلى منتج لطعامه. ويفترض مورغان ارتباط هذا التقدم في الاقتصاد بتقدم مماثل في شكل التنظيم الاجتماعي والديني.

4- مرحلة البربرية الدنيا: تتميز بوصول الإنسان إلى إبداعات جديدة أهمها صناعة الفخار، وبخروج الإنسان من عزلته الضيقة وانتشاره في مناطق أكثر اتساعا، وبداية نشوء جماعات اجتماعية.

5- مرحلة البربرية الوسطى: تمكن فيها الإنسان إلى صهر المعادن وصناعة الأدوات والآلات المعدنية، وبداية اكتشاف الكتابة الصورية.

ويرى مورغان أنه وبعد اجتياز الست مراحل تلك توصل الإنسان إلى مرحلة المدنية التي تتميز باختراع الحروف الهجائية والكتابة، وهي المرحلة التي لا زالت ممتدة حتى الوقت الراهن.

ويؤكد مورغان على هذا التتابع المميز للتطور الثقافي ويراه ضرورياً لمطابقته مع الواقع. وحاول مورغان تطبيق تلك المراحل على بعض الثقافات الإنسانية المعاصرة له فرأى أن سكان أستراليا الأصليين يمكن أن يمثلوا مرحلة التوحش الوسطى، في حين يمثل البولينيزيون مرحلة المتوحش العليا، ويمثل الايروكيز ما بعد مرحلة البربرية العليا. أما الثقافة الأوروبية في عصره فتمثل المرحلة السابعة – المدنية. تبقى المرحلة الأولى – الوحشية الدنيا التى لم يجد لها مورغان من يمثلها.

وعارض مورغان المدنية بتاريخ الإنسان البدائي بأشكاله الوحشية والبربرية وشبه هذا التعارض بين المجتمعات اللا طبقية المنظمة تبعاً لعلاقات القرابة وبين المجتمعات الطبقية التي تهيمن عليها الدول والتي تقوم على أساس الملكية الخاصة والتبادل وتراكم الثروات.

وتصور مورغان مرحلة المدنية نفسها بحسبانها عصراً انتقاليا في تطور الإنسانية لا بدَّ أن يفضي، بحكم قوانين التطور، إلى “بعث الحرية والمساواة والإخاء كما عرفتها العشائر القديمة”.

ادوارد برنت تايلور (1832-1917)
عالم إنسان بريطاني أصبح أستاذاً لعلم الإنسان في جامعة أكسفورد منذ عام 1896 وظل بها حتى تقاعده في عام 1913. أسهم إسهاماً كبيراً في دراسة الثقافة وكان أحد رواد الاتجاه التطوري، وقال بالنظرية البيولوجية، وأسهم في تطوير الدراسات المقارنة للأديان.

يرى تايلور أن الثقافة تطورت من الشكل غير المعقد إلى الأشكال المعقدة مبدياً اتفاقه مع مورغان بشأن مراحل التتابع الثقافي من الوحشية إلى البربرية فالمدنية. وكان كتابه “أبحاث في التاريخ المبكر للبشرية وتطور المدنية” في عام 1869 والذي أعقبه كتابه”المجتمع البدائي” في عام 1871 قد انطلقا من وجهة نظر تطورية.

ويرجع الفضل إلى تايلور في ابتكار مصطلح الثقافة مفهوماً أنثروبولوجياً بحسبانه “كل ما يفهم من العلم والعقيدة، والفن والأخلاق، والتقاليد والأعراف، وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع”. وقد عُدَّ تعريف تايلور للثقافة في حينه أحد أهم التعريفات لكنه ومع تقدم المناهج العلمية وتوسع الأبحاث والدراسات الميدانية لم يعد هذا التعريف مناسباً. تبدو محدودية هذا التعريف في كونه اعتمد على الدراسات الاثنوغرافية الوصفية التي سجلها الرحالة ولم يتجاوز مجرد كونه سرداً وصفي لعناصر الثقافة ومحتواها.

عدَّ تايلور الثقافة عنصراً مساعداً لفهم تاريخ بني الإنسان طالما أن الثقافة ظاهرة تاريخية تميز بها الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى، ويكتسبها الإنسان بالتعلم من مجتمعه الذى يعيش فيه. بهذا الفهم يرى تايلور أن الثقافة تكون دوماً ثقافة جماعة – مجتمع. لكنه في الوقت نفسه لا يهمل دراسة العمليات العقلية للفرد بحسبان الثقافة حصيلة أعمال فردية كثيرة. هكذا يفترض تايلور أن دراسة الثقافة هي دراسة تاريخ تطور الفرد في المجتمع بحسبانها العملية التاريخية العقلية لتطور عادات الإنسان وتقاليده من حالتها غير المعقدة إلى حالتها المعقدة فالأكثر تعقيداً. لكن يلاحظ أن تايلور، خلافاً لمورغان، لا يصر على عد مراحل تطور الثقافة من الوحشية إلى البربرية فالمدنية بمثابة حتمية ملزمة محتفظاً في الوقت نفسه بمبدأ التقدم التطوري من الأدنى إلى الأعلى حقيقة وضعية.

وكان تايلور أول من درس طرق إشعال النار عند البدائيين، وطريقة الطهي بالحجارة الساخنة عند الجماعات التي لم تتعرف على صناعة الفخار. كما انه درس بعناية نظام الزواج الاغترابي المحلي، ونظام الزواج مع أنساب الأم (ابن الخال أو الخالة). وقد اتفق تايلور مع فرضية أدولف باستيان التي ترى في التفسيرات النفسانية للنمو الثقافي. ويقول تايلور أن الثقافة، مثلها مثل النباتات، تتصف بالانتشار أكثر من كونها تتطور، ويرى بأن الناس أخذوا من جيرانهم أكثر مما اخترعوا أو اكتشفوا بأنفسهم. ويرى بأن هناك عدداً من الاكتشافات التي نشأت في مكان واحد وانتشرت منه إلى أماكن أخرى: مثال ذلك الفخار الذى يرى بأنه انتشر في أمريكا من المكسيك، والقوس والسهم والشطرنج الذى نشأ في الهند وانتشر في العالم الجديد عبر المحيط الهادي إلى المكسيك.

تؤلف هذه الآراء تناقضاً في كتابات تايلور التطورية التي تنبع من اعتقاده بوحدة النفس البشرية والتي تصبح انعكاساتها متشابهة في الظروف المتماثلة في أي مكان. لكنه ورغم تجلي بعض مثل تلك الأقوال بشأن الانتشار الثقافي لبعض المظاهر فإن تايلور، بالنظر لمجمل أفكاره، تطوري النزعة، ومن دعاة التطور البسيط من الأسفل إلى الأعلى، من غير المعقد إلى المعقد، من اللا معقول إلى المعقول. ومع أنه أرخَّ للنظم الثقافية تاريخاً تطورياً فإنه اعترف في الوقت نفسه بوجود حالات من الركود والارتداد الثقافي دون أن يمثل ذلك تحولاً جذرياً في الصورة العامة للتطور من أسفل إلى أعلى. فالنظام الأمومي أقدم من النظام الأبوي، وطقوس الكوفادة مرحلة وسطية بين النظامين يختلط فيهما النظام الأمومي بالنظام الأبوي حيث تمثل طقوس الكوفادة “بقايا ثقافية” تشير إلى وجود الشكل السابق في أحشاء الشكل القائم.

وقدم تايلور، في مجال دراسة المعتقدات، مفهوم الأنيمية (الأرواحية) نظرية لتفسير الديانة وتطورها العالمي. فقد استنتج من دراسته الميدانية لقبائل الهنود الأمريكيين من شعب البويبلو بجنوب غربي الولايات المتحدة أن جميع العقائد الدينية ظهرت نتيجة للتفسير الخاطئ لبعض الظواهر التي يتعرض لها الإنسان مثل الأحلام والأمراض والنوم والموت. ويرى أن ظاهرة الأحلام وظاهرة الموت كان لهما الأثر الأكبر في توجيه الفكر الاعتقادي لدى الإنسان. فالأحلام هي التي أوحت للإنسان بفكرة الروح والجسد ذلك أن البدائي يتخيل نفسه متنقلاً من مكان إلى آخر وهو نائم، بل وقد يرى نفسه وهو يؤدي أعمالاً يعجز عن القيام بها وهو في حالة اليقظة. ومن ثم نشأت لديه اعتقادات بأن الروح تفارق الجسد أثناء النوم مبتعدة إلى عوالم أخرى ثم تعود مرتدة إليه عند اليقظة. ويعني عدم رجوع الروح إلى الجسد الموت. واكتشف تايلور أن تلك الأفكار ارتبطت بالطقوس والعادات كما ارتبطت أيضاً بعادة تقديم القرابين لأرواح الأجداد. ومن هنا طرح مصطلحه الأنيمية (الأرواحية) أي الاعتقاد بوجود الأرواح والآلهة والجن والشياطين وغيرها من الصور اللا منظورة التي عدها تايلور الأصل الثقافي للمعتقدات الدينية على اختلاف أنواعها والتى تطورت إلى فكرة الإله العالي في مرحلة المدنية.

وإذا كان علماء القرن الثامن عشر قد نظروا إلىالممارسات الطقوسية المرتبطة بالمعتقدات عند الأوروبين بحسبانها غيبيات، فإن تايلور قد نظر إليها بحسبانها شعائر ثقافية لابدَّ من فهمها انطلاقا من معناها الداخلي وبمقارنتها مع مجمل درجات التقدم. وقد عبر تايلور عن ذلك “أنه ليس لمرحلة قانون البقاء أية دلالة علمية، ذلك أن أكثر ما نسميه معتقدات غيبية إنما ينتمي لهذا القطاع بحيث يمكن إعطاء تفسير عقلي لها”. فإذا لم تكن الممارسات والشعائر ذات الطابع الغيبي شيئاً آخراً سوى بقايا مرحلة تطور سالفة، فعلينا أن نتساءل عما تعبر عنه هذه البقايا”.

يقول تايلور أن بعض الممارسات يجب أن تعد بقايا، أن لها سبباً علمياً، أو أنها تخدم، على الأقل ، شعائر لها صلتها بمكان نشأتها وزمانها، وهي إن بدت عبثية فذلك لاستعمالها في ظروف مجتمعية جديدة، بذلك تبدو كأنها فقدت معناها … بتفسير من هذا النوع، أى بالعودة إلى دلالة منسية، يمكن توضيح معظم الشعائر التي لا يمكن القول عنها سوى انها حماقات أو ممارسات نادرة.

لا يشك تايلور في تفوق هذا التحليل الوضعي الذى يؤدى إلى فهم حقيقي فبمساعدة هذه الطريقة يعاد اكتشاف “دلالات منسية” أو ضائعة كانت تعد إلى وقت طويل ممارسات غيبية لا معنى لها. فمع هذا التحليل الوضعي تحول الكهنة في المجتمعات البدائية/ طبقاً لتايلور، إلى سحرة يعلمون شيئاً ما، لكن علمهم هذا، رغم ما يبدو منه، لا يساوى في الواقع شيئاً. ومن ثم يكتب تايلور قائلاً: “إن السحر لا يعود في أصوله إلى الشعوذة والاحتيال، ولم يمارس في البداية من هذه المنطلقات. يتعلم الساحر مهنته في العادة بروح طيبة، ويحافظ على هذه الروحية في ممارسته لعلمه من البداية حتى النهاية. إنه مثل الخادع والمخدوع في آن واحد ، يضيف طاقة المؤمن إلى حيلة المنافق. وإذا كانت العلوم السرية قد وجدت منذ البداية من أجل الخداع، فإن بعض الأشياء العبثية قد تكفي لذلك، لكن ما نجده بالفعل هو بمثابة علم خاطئ تطور بشكل منهجي كامل. إنه عبارة عن فلسفة صادقة، لكنها خاطئة، طورها الذهن الإنساني بطريقة يمكننا إدراكها إلى حد كبير، وتعود في أصلها إلى تركيبة الإنسان الذهنية”.

تختفي في مثل هذا المفهوم القدرة العقلية الكامنة في كل فرد، كما تختفي إمكانية إدراك ممارساته ومعتقداته، حين لا ينتبه إلى لعبة الكهنة يسود بدلاً عن ذلك الزعم بصعوبة إدراك لغة البدائي أو فهم تصرفاته، كما ويسود الزعم بانغلاق مكانته الذهنية. بالمقابل، تعد ميزة الانغلاق هذه بالنسبة للنظرية الأنثروبولوجية المدخل والشرط لفهم “الخرافة” وتفسيرها..هكذا يوضح تايلور..”فمعنى الخرافة لا يمكن حصره بالحدود التي اقترحها منظرو القرن الثامن عشر والذين رأوا فيها مجرد دلالة خلقية ساذجة ومسطحة، أو علم سرى منظم لأن قوانين الخرافة ليست سوى قوانين اللغة وقوانين المخيلة وهى قوانين منطقية وتشكل نظاماً له دلالته”.

يرى تايلور بأن معنى الممارسات بالنسبة للبدائيين، كما هو الأمر بالنسبة لكهنتهم، ليست ناتجاً عن التأثير الذي تمارسه اللغة على العقل الإنساني. فقط في العلم الوضعي يصبح ممكناً فهم اللغة وعدها موصلة إليه. ومن ثم فإن النظرية الأنثروبولوجية هي الوحيدة، في رأى تايلور، القادرة على تقديم علم يتعلق بالمحتوى الذهني للخرافة، وعلى فهم الثقافات غير الغربية بشكل عام. إنها في الواقع ثمرة “التمحور التاريخي والمعرفي” الفريدة: “هنالك نوع من الحدود يجب أن تكون إلى جانبها من جهة التفاعل مع الخرافة ولنتخطاها من الجهة الثانية ليتسنى لنا فهمها. ومن حسن الحظ أننا إلى جانب هذه الحدود، وإنه يمكننا اجتيازها أيضاً بإرادتنا”، هكذا يصرح تايلور. والأمر بهذا القدر من الوضوح فإن تايلور يصل إلى أن النظرية الأنثروبولوجية هي الوحيدة “المعقلنة” من هذه الزاوية، لا الثقافة البدائية بحد ذاتها.

تذوب الثقافات البدائية في التحليل التايلوري، بحسبانها بقايا أو عقلنة ميتة، ومن ثم يجب أن تختفي من الممارسة ومن الحياة العملية. عليها أن تزول، وذلك كما يقول “بسبب ترابطها مع المراحل المتدنية من تاريخ العالم العقلي”.

النظرية التطورية الثقافوية

بعد هذا العرض لأفكار رائدين من رواد الاتجاه التطوري في الأنثروبولوجيا نحاول تحديد الخطوط العامة لهذه النظرية كما تضح من أطروحتهما. في المقام الأول يلاحظ أنه وبالنسبة لهذا الاتجاه لا يمكن فهم العقل الإنساني إلا من خلال ربطه بالعقل التاريخي. إن فهم الممارسة النظرية ممكن فقط من خلا ل التاريخ بحسبانه تاريخ بشر متجانسين تحتويهم دائرة واحدة عامة. أما التمايز فهو وليد ظرف تاريخي محدد. تمثل المجتمعات الإنسانية تواصلاً متجانساً مؤلفاً من طبقات تطورية وأقسام موازية. إن مفهوم درجات التطور التاريخي هو معيار أساسي بالنسبة للتطور الذى يسير بخط مستقيم. وطور البشر تبعاً لذلك، من خلال توحدهم ضمن مجال حياة معين وضمن شروط محددة، ومن خلال ما ينتج عن ذلك من ممارسات ومن اقتصاد، وحدة ثقافية ومجتمعية.

لقد رأى أنصار الاتجاه التطوري في التقدم ثمرة التكامل في الأدوات المادية وثمرة التعقيد في العلاقات خلال مراحل تطورية معقدة. يتمظهر التقدم من خلال الانتقال من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة البدائية ومن هذه إلى البربرية فالتمدن. وفي مرحلة الثورة الصناعية صار معيار التقدم يقاس بدرجة التطور التقني. إن مبدأ وحدة الجنس البشرى أساسه عالمية المعرفة التقنية كما عبر عن ذلك مورغان حيث كتب “نجد وحدة في فكر البدائيين البرابرة وإنسان المدنية. إنها هي نفسها ما ساعد البشر على ابتكار الأدوات نفسها والأواني ذاتها عندما يخضعون للعلاقات نفسها، وما يساعد أيضاً على اختراع المنشآت الاجتماعية نفسها وتطويرها انطلاقا من بدايات لا يمكن رؤيتها: من العصر الحجري والسهام التي التمعت صورتها في ذهن البدائي، إلى مزج المعادن، وفيه يتمثل ذكاء البربري، وأخيراً إلى تحريك القطار الحديدي، هذا هو انتصار المدن”.

هكذا يترك كل من النمو والتقدم بصماته على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وكان مورغان قد وصف ذلك في كتاباته كما يلي: “يتحدد الذكاء بالاختراع والاكتشاف”، و”تطور القانون الاجتماعي”، “وتطور مفهوم الأسرة”، و”تطور مفهوم الملكية”. بذلك يمكن عد كل وحدة، كل مجموعة إنسانية/ مجتمعاً بقدر ما تكون شروط حياة المجموعة المادية والذهنية. ويمكن وضعها في الدرجة الاجتماعية نفسها طالما أنها نتاج الطبقة نفسها. يتضح من ذلك أن مورغان عدَّ التطور بمثابة خط مستقيم. فالبدائية حالة سبقت البربرية التي سبقت بدورها المدنية، وهذا ما يجده مورغان عند البشريَّة بمجموعاتها المختلفة كلها. إن تاريخ الجنس البشرى قد عرف شكلاً موحداً في نشأته، وفي تجربته، وفي تقدمه (وهذا هو رأى تايلور أيضاً).

وبمكاننا رد التشكل نفسه الذي يشمل مراحل التمدن إلى المؤثرات والأسباب الأولية نفسها. أما مختلف درجات التشكل فهي بمثابة درجات التطور بحيث تكون كل دورة وليدة سابقتها وإسهاماً في تشكيل تاريخ المستقبل.

هكذا يجوز القول بأن آراء التطوريين تتلخص في أن تاريخ الإنسانية وتاريخ الثقافة يمثل خطاً متصاعداً من العادات والتقاليد والعقائد والتنظيمات والأدوات والآلات والأفكار. وأن البشرية مرت بمراحل ثقافية تتدرج من الأشكال غير المعقدة إلى الأشكال المعقدة فالأكثر تعقيداً، وأن هذا الخط المتصاعد من الأسفل إلى الأعلى متشابه في أجزاء العالم نتيجة الوحدة النفسية لبني الإنسان في كل مكان وزمان وهو ما جعل التطوريين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شغلتهم فكرة تطور الثقافة والمجتمع الإنساني عبر مراحل التبدل من حالة إلى حالة، أكثر مما شغلتهم فكرة اكتشاف القوانين الأساسية التى تحكم عملية تطور الثقافة.

إيجازاً نشير إلى أن مولد الأنثروبولوجيا مهنة ارتباطا باتجاهات نظرية محددة قد حدث في النصف الثاني للقرن التاسع عشر في جو فكرى سادت فيه الفروض والنظريات التطورية في مجال التاريخ الطبيعي للكائنات الحية وفي مجال المجتمعات الإنسانية على حد سواء، وذلك جنباً إلى جنب مع ازدياد السيطرة الغربية على شئون العالم. ولقد كان للإنجازات العظيمة التي أحرزتها العلوم الطبيعية أثرها في حث المشتغلين بالمسائل الاجتماعية والأخلاقية آنذاك، في أن يتبنوا تطبيق أساسيات المنهج العلمي في دراساتهم. فقد شغل بال المفكرين عامة، ومن بينهم الاجتماعيون وعلماء الأنثروبولوجيا بصفة خاصة، سؤالاً معيناً هو كيف نشأت ثقافات العالم وتطورت؟ وبالرغم من سيادة الفكر التطوري في إطار نشأة المجتمعات وتطورها (أي الثقافات) الإنسانية في خط واحد، إلا أنه كان هناك أيضاً إجابة أخرى لهذا التساؤل وذلك في إطار النظرية الانتشارية التي تمتد جذورها إلى مفكرين سابقين على القرن التاسع عشر.

الاتجاه الانتشاري

يفترض دعاة هذا الاتجاه أن الاتصال بين الشعوب المختلفة قد نتج عنه احتكاك ثقافي وعملية انتشار لبعض السمات الثقافية أو كلها وهو ما يفسر التباين الثقافي بين الشعوب. وينطلق دعاة هذا الاتجاه من الافتراض بأن عملية الانتشار تبدأ من مركز ثقافي محدد لتنتقل عبر الزمان إلى أجزاء العالم المختلفة عن طريق الاتصالات بين الشعوب.

وبما أن نظرية الانتشار الثقافي تسعى إلى الكشف عن حلقات لربط الثقافات معاً نتيجة تفاعلها جغرافياً وزمنيا فإنها تلتزم أيضاً بالمبدأ التاريخي في علاقات الثقافات بعضها بالبعض الآخر.

وقد ظهرت في أوروبا مدرستان للانتشار الثقافي. كان فريدريك راتزل رائداً للمدرسة الأولى وتبني منهجاً تاريخياً-جغرافياً بتأثير المدرسة الجغرافية الألمانية وركز على أهمية الاتصالات والعلاقات الثقافية بين الشعوب ودور تلك العلاقات في نمو الثقافة. وادعى راتزل بأن الزراعة اعتمدت إما على الفأس أو المحراث وهو ما يفسر الاختلافات بين الثقافات الزراعية. وتبعه في ذلك هان، المتخصص في الجغرافيا البشرية، وادعى الأخير بأن تدجين الحيوانات أعقب اكتشاف الزراعة المعتمدة على الفأس. ومع اعتراف هان بأن الزراعة المعتمدة على الفأس يمكن أن تكون قد ظهرت عدة مرات في أجزاء مختلفة من العالم إلا انه يؤكد على أن زراعة المحراث وتدجين الحيوانات واكتشاف عجلة الفخاري قد تمت كلها في الشرق الأدنى القديم ثم انتشرت منه إلى بقية أجزاء العالم. أما هاينرينج شورتز فقد أبرز فكرة وجود علاقات ثقافية بين العالم القديم (اندونيسيا وماليزيا) وبين العالم الجديد (الأمريكتين). وقد طور ليو فروبينيوس فكرة انتقال الثقافات عبر المحيطات بادعائه حدوث انتشار ثقافي من اندونيسيا إلى أفريقيا. فقد حاول في كتابه الذي نشره في عام 1898 بعنوان “أصل الثقافات الأفريقية” إثبات وجود دائرة ثقافية ماليزية زنجية في غرب أفريقيا فسرها بوصول نفوذ ثقافي اندونيسي في صورة موجة ثقافية إلى ساحل أفريقيا الشرقي، ومن ثمَّ عبورها إلى غرب أفريقيا حيث لا تزال بقايا تلك الموجة موجودة في حين أن بقاياها قد اندثرت في شرق أفريقيا نتيجة هجرات البانتو والحاميين اللاحقة. بهذا يكون ليو فروبينيوس أول من أدخل مفهوم “الدائرة الثقافية” في الاثنولوجيا وهو المفهوم الذي نال تطوره اللاحق في أعمال جرايبز فكرة أحادية منشأ الثقافة الإنسانية مفترضاً وجود عدة مراكز ثقافية أساسية في جهات مختلفة من العالم.. وبفعل التقاء الثقافات نشأت دوائر ثقافية وحدثت بعض عمليات الانصهار وبرزت تشكيلات مختلفة وهو الأمر الذي يفسر الاختلافات البادية في الثقافات الأساسية. وفي عام 1905 نشر جرايبز بحثه عن “الدوائر الثقافية والطبقات الثقافية في جزر المحيط الهادي” والذي استخدم فيه عدد لا يحصى من العناصر الثقافية التي ترتبط بعضها بالبعض الآخر لتؤلف دائرةً ثقافية. وباستخدام التتابع الزمني وانتشارها في أستراليا وجزر المحيط الهادي. وفي عام 1911 نشر جرايبز كتابه “منهج الاثنولوجيا” الذى رسم فيه الخطوط العامة لمدرسته الانتشارية.

أما فلهلم شميدت فقد نشر مع فيلهلم كوبرز خلاصة آراء مدرسة “فينا” وأكدا على وجود ثقافات أزلية تمثل أقدم أنواع المجموعات الثقافية المعاصرة. وكانت هذه الثقافات الأزلية (أقزام أفريقيا وآسيا والفيدا في سيريلانكا، والسينوى في الملايو، والكوبو في سومطرة) تمثل الدائرة الثقافية الأولى. وتمثلت الدائرة الثانية في الثقافات الرعوية في مناطق سيبيريا وأواسط آسيا (حيث دجن الساموييد في شمال سيبيريا الرنة، ودجن التركمان الحصان، ثم المجموعات التي دجنت الماشية والماعز … إلخ).

وتنطوي فكرة الدائرة الثقافية على نقطتين هما: وجود الدائرة الثقافية وكينونتها، والدائرة الثقافية بحسبانها منهجاً بحثياً اثنولوجياً. ويعرف شميدت الدائرة الثقافية بقوله: “إذا احتوت ثقافة كاملة على كل شيء: النواحي المادية والاقتصادية والاجتماعية والاعتيادية والدينية، فإننا نطلق عليها اسم الدائرة الثقافية لأنها متكاملة وتعود على نفسها مثل الدائرة. إنها تكفي نفسها بنفسها، ومن ثم تؤمن استقلال وجودها. وهى – أي الثقافة- في حالة إذا ما أهملت أو فشلت في إرضاء واحد أو أكثر من الاحتياجات الإنسانية الهامة تتيح حدوث تعويض من ثقافة أخرى. وكلما زاد عدد عناصر التعويض تقل هذه الثقافة عن أن تكون دائرة ثقافية (مستقلة). ويضيف شميدت بأن كل مفردات الثقافة متماسكة تماسكاً عضوياً وليست مجرد ارتباطات تلقائية، غالباً ما يسيطر واحد من مظاهر الثقافة في الدائرة على بقية المظاهر، ومن ثم تدمغ هذه المظاهر بصبغتها الخاصة ويسوق مثالاً النسب الأموي المرتبط بالجماعات الأموية النسب غالباً ما تعبد القمر، بينما إله السماء هو الإله المسيطر عند الرعاة وإله الشمس عند الجماعات الطوطمية الأبوية النسب.

وقد لخص كوبرز في بحثه الذى نشره عن “الانتشارية: الانتقال والتقبل” ضمن كتاب “الأنثروبولوجيا المعاصرة” الذى أشرف عليه توماس وطبع في عام 1956، أهم وجهات نظر المدرسة الانتشارية – النمساوية وقد ترجم محمد رياض تلك النقاط في كتابه “الإنسان : دراسة في النوع والحضارة”.

1- حيث أن الثقافة والإنسان (منذ نشأته) متزامنان فإن التاريخ في أوسع معانيه يشتمل على كل الفترة التى ظهر فيها الإنسان على الأرض حتى اليوم.

2- لا ينكر أي باحث – قديماً وحديثاً – أن الانتشار الثقافي، ودرجة انتقاله تقبله حقيقة واقعة.

3- إن الانتشارية مبدأ هام في الدراسات الاثنولوجية ودراسات ما قبل التاريخ. ونتيجة لنقص الوثائق المكتوبة فإن الأمر يحتاج إلى دراسات مقارنة للصفات الثقافية من أجل الحصول على العوامل المكانية والزمانية والسببية.

4- يجب أن يستخدم الانتشاريون مقياس الشكل والعدد المعروف عن المنهج التاريخي. ولا شك أن هذا المنهج لن يؤدى إلى تاريخ مماثل لما نجده في الكتابات التاريخية العلمية. يمثل العنصر الثقافي هنا دليلاً قائماً على الصلات، كما يزداد هذا الدليل قوة نتيجة لمدى ترابط العنصر الثقافي ببقية الثقافة. ولا يمكننا أن نهمل هذه الأدلة على إنها تمثل جزءاً من العملية التاريخية.

5- الانتشار الثقافي لا يمثل كل أحداث التاريخ، فدراسة العناصر الثقافية لا تحل محل الوثائق التاريخية لكنها تعطي إضافات هامة في هذا الاتجاه التاريخى. وفي حالة نقص الوثائق التاريخية، كما هو الحال عند دراسة ما قبل التاريخ والجماعات البدائية، يصبح من غير المعقول أن نمتنع عن تفسير الحقائق في الاثنولوجيا وعلم الآثار.

6- تقوم الدراسات الانتشارية على المتشابهات الثقافية، حتى في الحالات التى لا نستطيع فيها التأكد من وجود ارتباطات وهجرات بين المتشابهات الثقافية، فلا شك أن تأكيدنا بأن الظاهرتين المتشابهتين قد نشأتا نشأة مستقلة يصبح غير مقبول لأنه يفترض شيئاً أبعد تحققاً من الارتباطات السابقة. وعلى العموم يمكننا أن نترك الباب مفتوحاً دون اتخاذ قرار.

7- إن الانتشار والنقل والتقبل لا تسير كلها حسب قواعد معينة هناك دائماً فرص متعددة للقبول أو التعديل ، وهى فرصة الاختيار الحر عند غالبية الجماعات.

8- يترتب على ذلك أن كل حالة من حالات الانتشار الثقافي يجب أن تعالج قائمة بذاتها وحسب ظروفها.

والجدير بالذكر أن فكرة الدوائر الثقافية كانت في مجموعها وسيلة ومنهجاً أدق وأحسن من أفكار المدرسة الانتشارية الثانية التى تأسست في بريطانيا على يد عالم التشريح البريطاني اليوت سميث الذى كان مهتماً بالآثار والهياكل البشرية. وكان سميث وكذلك تلميذه بيري قد اعتقدا بأن الثقافة الإنسانية نشأت على ضفاف النيل وازدهرت في مصر القديمة منذ حوالي خمسة ألف سنة قبل الميلاد تقريباً. وعندما توافرت الظروف وبدأت الاتصالات بين الجماعات والشعوب انتقلت بعض مظاهر تلك الثقافة المصرية القديمة إلى بقية العالم. ففي كتابه “هجرة الحضارات” الذى نشره عام 1915 يؤكد سميث من خلال دراسته للمتشابهات الاثنوغرافية خارج مصر بأن مصر كانت مركزاً للثقافة ومنها انتقلت إلى عالم البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا والهند واندونيسيا وعالم المحيط الهادي والأمريكتين.

وفي عام 1923 نشر بيري كتابه ” أطفال الشمس” الذى حدد فيه عنصراً واحداً سيطر على مجمل الثقافة المصرية … الاعتقاد في ألوهية الملوك أبناء الشمس، وبالتالي عبادة الشمس. واهتم بيري بعدة عناصر ثقافية مصرية في توزيعها العالمي مثل التحنيط وبناء الأهرام والقيمة التي يعطيها المصريون القدماء للمعادن النفيسة بحسبانها قوة مانحة للحياة المديدة… إلخ.

أما في أمريكا فإن الاتجاه الانتشاري وجد تعبيراً له في كتابات فرانز بواس العالم الطبيعي الألماني الذي استهوته الأنثروبولوجيا بعد زيارة قام بها إلى جزيرة بافن في كندا في عام 1883. فقد أشار بواس إلى أنه من خلال دراسة الشكل والتوزيع الجغرافي لمصدر السمات الثقافية وهجرتها واستعارتها عن طريق الاتصال بين الشعوب، يمكن للباحث أن يستدل على كيفية نشأة السمات الثقافية وتطورها، وبالتالي يمكن الوصول إلى نظرية تتوفر فيها عناصر الصدق والبرهان لتفسير المجتمعات الإنسانية وتطور النظم الاجتماعية أو السمات الثقافية. وانطلاقا من هذا الفهم استخدم بواس مصطلح المناطق الثقافية الذى يشير إلى مجموعات من المناطق الجغرافية التي تتصف كل منها بنمط ثقافي معين غض النظر عن احتواء أي من هذه المناطق على شعوب أو جماعات. ويشير مفهوم المنطقة الثقافية إلى طرق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي تتميز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة نتيجة لدرجة معينة من الاتصال والتفاعل.

وفق هذا الإطار النظري سعت المدرسة الأمريكية بزعامة بواس إلى إنجاز الدراسة التاريخية الدقيقة للعناصر المختلفة لثقافة محددة وتحليل كل جزء أو عنصر من حيث مصدر نشأته وتطوره واستخدامه وتتبع عمليات هجرته أو استعارته بين الشعوب المختلفة. وكان من نتيجة هذا الاتجاه الانتشاري أن أخذ علماء الإنسان في النظر إلى الثقافات الإنسانية بحسبان أنها تؤلف كيانات مستقلة من حيث المنشأ والتطور ومن حيث ملامحها الرئيسة التى تميزها عن غيرها، وهو ما يضع الاتجاه الانتشاري على عكس الاتجاه التطوري الذى يرى أن الثقافات متشابهة وأن الاختلاف الوحيد بينها يكمن فقط في درجة تطورها التقني والاقتصادي. لقد زعزعت المدرسة الانتشارية إن لم يكن إشكالية الاتجاه التطوري فعلى الأقل طريقته. فالاتجاه الانتشاري قد ابتعد على الأقل عن الفهم الخطى للتاريخ، ومن ناحية ثانية جعل نظرية التاريخ لاحقة لتحليل التواريخ الجزئية لكل مجتمع بحسبانه كلاً مستقلاً، هكذا كتب بواس قائلاً “حين نوضح تاريخ ثقافة واحدة ونفهم مؤثرات المحيط والشروط النفسيَّة التى تنعكس فيها، نكون قد خطونا خطوة إلى الأمام . كذلك يمكننا أن نبحث في الأسباب المؤثرة أثناء تكونه، أو إبانة تطور تلك الثقافة . وهكذا، وبفهمنا لمقاطع النمو، يمكننا اكتشاف قوانين عامة. هذه الطريقة أكثر ضماناً من الطريقة المقارنة (التطورية). والتي غالباً ما تمارس، فبدل وضع فرضية تتناول نمطاً لتطور، يقدم التاريخ الفعلي قاعدة الاستنتاجات.

اعتقادنا أن جل الأنثروبولوجيا الثقافية كامن في هذا النص: مفهوم الثقافة، والتحليل الوصفي للمحيط المادي، والتفسير النفسي، والشك بالتاريخ. اهتم بواس في عبارته بالتساؤل عن المنهج الذى يتحكم بالعمل الأنثروبولوجي التقليدي. ومع ذلك فثمة نقد لمفهوم الطبقات، والشرائح. ونجد في كتاب لوفي “المجتمع البدائي” (1920) رفضاً كاملاً لمفاهيم مورغان الأساسية : تتابع ذو خط واحد لطبقات التطور، مفهوم نسق القرابة، مفهوم الأصل … إلخ. استخلص مالينوفيسكي وراد كليف بروان، كما سنرى، هذه النتائج في ما لها من أبعاد.

الاتجاه الوظيفي
يعد الاتجاه الوظيفي من الاتجاهات النظرية الأساسية في علم الإنسان وفي علم الاجتماع. أخذ هذا الاتجاه في التبلور منهجاً نظرياً لدراسة الثقافات الإنسانية في الوقت الذى نشأ فيه الاتجاه الانتشاري في كل من أوروبا وأمريكا كرد فعل على منطلقات الاتجاه التطوري. إلا أن فكرة الوظيفة قديمة وجدت تعبيراً لها في أعمال الفلاسفة والمفكرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. اقترن الاتجاه الوظيفي بصور ة أساسية بالأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا بأسماء مالينوفسكى ورادكليف بروان.

اقترنت الوظيفية بالاتجاه العضوي في العلوم الطبيعية عرف الاتجاه الوظيفي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بتركيزه على دراسة الثقافات الإنسانية كل على حدة وفق واقعها المكاني والزماني ذلك أن الوظيفية ليست دراسة متزامنة بقدر ما هي آنية. وفي ذلك اختلف الاتجاه الوظيفي عن الدراسات التاريخية النزعة المميزة لكل من الاتجاهين التطوري الانتشاري. وقد تجلى الاتجاه الذى صار يعرف باسم المماثلة العضوية بداية في أعمال الفلاسفة الأخلاقيين الاسكتلنديين من أمثال آدم سميث وديفيد هيوم وغيرهما من الذين رأوا في المجتمع نسقاً طبيعياً ينشأ من الطبيعة البشرية لا من العقد الاجتماعي. وقد استخدم مونتسكيو مفهوم النسق في كتابه “روح القوانين” بوضعه أسس النسق الاجتماعي الكلى بناءً على ارتباط أجزاء المجتمع ارتباطا وظيفياً. وأصبحت فكرة النسق الاجتماعي العامل القوى في إرساء دعائم علم الاجتماع المقارن والأنثروبولوجيا الاجتماعية. أصبح التحليل الوظيفي مدخلاً أساسياً في تحليلات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية للربط بين النظام الاجتماعي ووظيفته وبين خصائص سلوك الأفراد الذين يؤلفون ذلك النظام. يشتمل النسق الاجتماعي على عدد من النظم يقوم كل نظام بوظيفته المعينة بغية الحفاظ على سلامة النسق. وينظر الوظيفيون إلى المجتمعات البشرية أنساقاً اجتماعية تعتمد أجزاؤها بعضها على بعض ويدخل كل جزء منها في عدد من العلاقات الضرورية مع الأجزاء الأخرى. وقد ذهب هربرت سبنسر في موضوع المماثلة إلى أبعد من ذلك حيث شبه المجتمع من حيث البناء والوظيفة بالكائن الحي بحسبان أن المجتمع ينمو ويتطور تماماً كما ينمو الأول ويتطور.

واستخدم سبنسر إصطلاحات العلوم الطبيعية في تحليلاته البنائية الوظيفية للمجتمع والحياة الاجتماعية مثل الفسيولوجيا والمورفولوجيا والإيكولوجيا…إلخ. وأشار بوضوح إلى أن البناء يتألف من الأجزاء التى تدخل في تركيبه وفي عناصر جزئية لا حصر لعددها تؤدى دورها في عملية التساند بين جميع الأجزاء التى تدخل في تركيب البناء الكلى.

ويعد إميل دوركايم بحق حلقة الوصل بين الفكر الذى كان سائداً في القرن التاسع عشر والاتجاهات الجديدة للفكر الاجتماعي التى ظهرت في بداية القرن التاسع عشر والاتجاهات الجديدة للفكر الاجتماعي التى ظهرت في بداية القرن العشرين. اتخذ دوركايم موقفاً رافضاً للتفسيرات العضوية التى قال بها أنصار الاتجاه العضوي من أمثال هربرت سبنسر، مستبعداً إمكانية تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال المماثلة العضوية. وكان دوركايم يسعى إلى تحرير الظواهر الاجتماعية من محتوياتها النفسية وإلى تجريدها من أصولها البيولوجية بالتركيز على دراسة تلك الظواهر من وجهة نظر اجتماعية صرفة في حدود علم الاجتماع. يرى دوركايم أن الظاهرة الاجتماعية يجب أن تتمتع باستقلالها بحسبانها ظاهرة قائمة بذاتها، أي أنَّ لها وجودها المستقل عن الظواهر البيولوجية ولا يمكن لها ان تتأثر إلا اجتماعيا ولا تفسر إلا على أسس اجتماعية. وفي كتابه “تقسيم العمل” استخدم دوركايم الوظيفة بمعنيين اثنين: أولاً بالإشارة إلى نسق من الحركات الحيوية اللازمة لحياة الكائن العضوي، وثانياً بالإشارة إلى العلاقة التى تربط بين تلك الحركات الحيوية وبين حاجات الكائن العضوي (وظيفة التنفس، والهضم على سبيل المثال). استخدم دوركايم مفهوم الدور مرادفاً لمفهوم الوظيفة ذلك أنه حين يتحدث عن وظيفة الدين مثلاً فإنه يشير إلى الدور الذي يقوم به الدين في الحياة الاجتماعية. ويوصى دوركايم تلاميذه بكلمته: إذا كنت ترغب في دراسة ظاهرة اجتماعية فعليك أن تصل إلى السبب الذى أدى إلى الوظيفة التى تقوم بها الظاهرة.

برونيسلو مالينوفسكي (1884-1942)
تمثل إسهام مالينوفسكى في النظرية الوظيفية في طرحه لتوجيه نظري يقوم على فرضية مفادها أن جميع السمات الثقافية تشكل أجزاء مقيدة للمجتمع الذى توجد فيه، أي أن كل نمط ثقافي، وكل معتقد ديني، أو موقف من المواقف يمثل جزءاً من ثقافة المجتمع يؤدى وظيفة في تلك الثقافة. ويرى مالينوفسكي أن ثقافة أي مجتمع تنشأ وتتطور في إطار إشباع الاحتياجات البيولوجية للأفراد، وحصرها في التغذية، والإنجاب، والراحة البدنية، والأمان والاسترخاء، والحركة والنمو. ويرى مالينوفيسكى الثقافة بأنها “ذلك الكل من الأدوات وطبائع الجماعات الاجتماعية والأفكار الإنسانية والعقائد والعادات التى تؤلف في مجموعها الجهاز الذى يكون فيه الإنسان في وضع يفرض عليه أن يكيف نفسه مع هذا الجهاز الكلى لكي يحقق حاجاته الضرورية”. ويؤكد مالينوفسكى أن كل ثقافة هي كيان كلى وظيفي متكامل ويشبهها بالكائن الحي بحيث لا نستطيع فهم أي جزء من الثقافة إلا في ضوء علاقته بالكل، وأن الوظيفة التى يؤديها بعناصر الثقافة الأخرى، أي أن الثقافة تدرس كما هي موجودة بالفعل وليس من الضروري أن نبحث في تاريخ نشأتها وتطورها.

ويؤكد مالينوفسكى على الأسس البيولوجية التى تقوم عليها النظرية الأنثروبولوجية ذلك أن البشر في كل زمان ومكان عليهم أن يشبعوا حاجاتهم الضرورية التى تؤهلهم على البقاء، أي أن على البشر أن يشبعوا حاجاتهم الضرورية من غذاء وهواء، وعليهم أن يتناسلوا، وأن يزودوا أنفسهم بالراحة والصحة والأمن وغيرها من الحاجات الضرورية التى تحفظ للنوع البشرى البقاء والاستمرار، أي أن الإنسان ليس مثل بقية الحيوانات يعيش فقط على الدوافع الجسمية، وإنما على الدوافع الثقافية. ونرى في كل مجتمع أنواعاً من الاستجابات الثقافية لكل تلك الاحتياجات الضرورية ذلك أنه وفقاً لرأي مالينوفسكى “لا يمكن تعريف الوظيفة إلا بإشباع الحاجات عن طريق النشاط الذى يتعاون فيه الأفراد ويستخدمون الآلات ويستهلكون ما ينتجونه”.

يرى مالينوفسكى أن الاستجابات الثقافية للحاجات البيولوجية الضرورية هي التى فرضت على الإنسان عدداً من الضرورات الناتجة عن هذه الاحتياجات الضرورية التي تتمثل في:

أولاً: نتيجة للحاجة الضرورية للغذاء ظهرت استجابات ثقافية تتمثل في الحصول على الغذاء والذي يعرف بالتنظيم الاقتصادي أياً كان هذا التنظيم ساذجاً غير معقد أو معقداً أو شاملاً لعدد من القواعد المنظمة للنشاط الاقتصادي والمتمثلة في صنع الآلات والأدوات اللازمة لإنتاج الغذاء واستخدامها لأغراض أخرى مختلفة، إلى جانب ظواهر أخرى مصاحبة مثل ملكية الأرض وتقسيماتها وتوزيع الثروة بين أفراد المجتمع وتقسيم العمل وما إلى ذلك.

ثانياً: تظهر الضرورة الثانية، وهى ضرورة معيارية أي ثقافية، استجابة للاحتياج لتفسير الثقافة ذاتها بقصد الوصول إلى الوظيفة الأساسية للثقافة البشرية المتمثلة في عمليات التعاون والحياة المشتركة مع ما يتطلبه ذلك من مظاهر العمل المشترك بين أفراد المجتمع من أجل المصلحة العامة، وتظهر بفعل ذلك قواعد اجتماعية معينة.

ثالثاً: التنظيم السياسي الذى يحدد السلطات في أي مجتمع، ويرتبط في معظم المجتمعات بالتسلط والقهر، ويرمى إلى تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع فيما بينهم، وينظم علاقاتهم بغيرهم من المجتمعات، ويوفر لهم الحماية ضد الاعتداءات التى قد تقع عليهم من الخارج.

رابعاً: الضرورة التى تمثلها الطرق والوسائل التى ينتقل بها التراث الاجتماعي الثقافي من جيل إلى جيل، أي التربيَّة المسئولة عن إعداد أفراد المجتمع تربوياً وتزويدهم بالمعارف اللازمة التى تؤهلهم للقيام بأدوارهم المحددة في المجتمع، وهى تمثل القوانين المنظمة للسلوك الإنساني من جميع جوانبه.

ظهرت كتابات مالينوفسكى عن جماعات جزر تروبرياند بماليزيا فيما بين 1922-1935 وقد شكلت تلك الدراسات،كما يرى الكثيرون من العلماء، جل إنتاجه العلمي في الفترة التى أمضاها مدرساً بجامعة لندن، وقد شكلت معلوماته التى جمعها من جزر تروبرياند جوهر محاضراته ودروسه التى ألقاها في لندن بخاصة ما تعلق منها بخبرته في جمع تلك المعلومات وطريقته التي انتهجها في الدراسة الحقلية.

يلاحظ أن مالينوفسكى سعى لتحقيق بعض الغايات من خلال ما نشره، ويمكن أن يكون من بين تلك الغايات التأكيد على رأيه القائل بأن مظاهر الثقافة لا يمكن دراستها في ذاتها، أي بمعزل عن الغايات التى تسعى لتحقيقها، بمعنى أنه يجب على الباحث فهمها في حدود استخداماتها: فالقارب، على سبيل المثال، عند جماعات التروبرياند لا يُعد في حد ذاته أكثر من مجرد قطعة مادية، لكنه مصنوع لعدة أغراض. عند صناعته يواجه الناس بعدة صعوبات قد لا يمكن التغلب عليها إلا في حدود العمل التطوعي الجماعي، كما أن لكل خطوة من خطوات صناعة القارب طقوسها الخاصة بها وأن تلك الطقوس والاعتقادات لا تكمن في مجرد خطوات صناعة القارب وإنما حتى عند استخدامه في الإبحار، وفي مجابهة الأخطار، وفي نجاح التجارة وما إلى ذلك. ويلاحظ مالينوفسكى بفعل خبرته الدقيقة بقضايا منهج الأنثروبولوجيا الاجتماعية أنه يجب على الباحث ألا يعتمد كثيراً على العموميات، كما ويجب عليه ألا يعَّول كثيراً على شروح مخبره المرافق له في الدراسة الحقليَّة من أجل الوصول إلى فهم الحقيقة الاجتماعية وذلك لأن الناس دائماً يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً مغايراً. ويسدى مالينوفيسكى نصيحة لطلاب الأنثروبولوجيا الاجتماعية مفادها أن الإنسان البدائي الذى صُور لنا على أنه إنسان متوحش هو في الواقع إنسان مثلنا يتمتع بعقل ويستخدم هذا العقل مثلنا، على أن مالينوفسكى كان قد استخلص هذه المبادئ في دراساته التي قام بها في جزر تروبرياند حيث اكتشف حقيقة الإنسان البدائي وعقليته، وأن مسألة العقلانية هذه مهمة جداً عند مالينوفسكى إذ كتب في مقدمة كتابه “الجريمة والعادة في مجتمع متوحش” أن الباحث الأنثروبولوجي الحديث قد جبل على طريقة الوصول إلى بعض القواعد العامة في بعض المسائل مثل قضية ما إذا كان العقل البدائي يختلف عن عقولنا أو أنه مثل عقولنا، أو ما إذا كانت حياة الجماعات المتوحشة كلها مسيَّرة وبصورة دائمة بعالم الغيبيات أو بقوى ما وراء طبيعية أو على العكس من ذلك إلى غير ذلك من القضايا. على أن هذه المشكلات العقلانية العامة، أي القوى والقواعد العامة وغيرها يمكن أن تكون من وجهة نظر مالينوفسكى الأساس لنظرية عالمية للإنسان الاجتماعي.

يقدم مالينوفسكى في كتابه “أبطال المحيط الهادي الغربي” تحليلاً يجوز عده نموذجاً من نماذج الأنثروبولوجيا الحديثة وإن كانت بعض تفسيراته موضع اعتراض اليوم. يعرض مالينوفسكى تداخل عناصر ثقافة جماعات تروبرياند من خلال وصف النظام الاقتصادي للأسر الأموية حيث يلتمس الفرد أصله وقرابته عن طريق الأم وحيث لا يرتبط الابن بأبيه وإنما بخاله الذى هو عشيرته. الفرد من التروبرياند يعمل بجد واجتهاد في بستانه لكي يعول أخته وأولادها وليس زوجته وأولاده، وأن أكثر من 75% من إنتاجه يوزع على أقاربه من أمه. هنا يتضح تداخل النظام الاقتصادي بنظام القرابة في مجتمع التروبرياند كما يحلله مالينوفسكى من واقع حياتهم الاجتماعية. يسمح هذا النظام الاجتماعي للزعماء بتعدد الزوجات، ويفضل الزعماء الزواج بالنساء اللائي لهن إخوة أغنياء ليكون لهم عدد من الأصهار الأثرياء وبما أن النظام الأمومي في تروبرياياند يضع واجبات على الأخ نحو أخته فإن الزعيم يجد نفسه غارقاً في الثروة التى تقدم لزوجاته من أخواتهن. ما يتحصل عليه الزعيم من ثروة لا يخزنه، بخاصة السلع الغذائية، بل يقوم بتوزيعه في عدد من المناسبات والاحتفالات. أنه من خلال التزام الزعيم بالتوزيع المستمر للثروة في مثل تلك الاحتفالات فإنه يعنى بالمهام المناط بها زعيماً من جهة، ومن جهة ثانية فإن استمرار هذا الالتزام يعتمد على استمرار النظام القرابى.

يقدم تحليل مالينوفسكى للسلطات التى يمارسها الزعيم في قرية أوماركانا التى تهيمن على مقاطعة كيريوينا إشارة إلى أن القرية تمثل الوحدة السياسية الأساسية لمجتمع تروبرياند، ويمارس حتى أكثر الزعماء شأناً سلطتهم على قريتهم بصورة رئيسة، وعلى مقاطعتهم بصورة ثانوية. تستثمر المشاعة القروية بساتينها جماعياً وتشن الحرب، وتقيم الاحتفالات الدينية، وترسل البعثات التجارية. يبقى استقلالها الذاتي السياسي والاقتصادي على جانب كبير من الأهمية. يمارس زعيم القرية شيئاً من السلطة على المقاطعة، أي على مجموعة من القرى تنضم إلى قريته في الحرب وفي الاحتفالات الدينيَّة الكبيرة. يتوزع جميع الرجال من ذوى الرتب في شكل هرم يترأسه زعيم أوماركانا. هذا الزعيم هو سيد أقوى القوى السحريَّة التى تتحكم بالمطر والشمس. يتحلى الرجال ذوو الرتب بحلي مميزة، لكنهم يتميزون قبل كل شئ عن العوام بوجود محرمات (تابو) يتكاثر عددها كلما ارتقينا سلم الهرم. لا يتمتع الأشخاص من ذوى الرتب العالية والزعماء بأي سلطة قضائية أو تنفيذية على الأفراد من ذوى الرتب الدنيا في القرى غير المرتبطة بقريتهم. عندما يطلب زعيم من الزعماء من أفراد قريته أو مقاطعته أو من الأجانب بذل الخدمات فإنه يكون ملزماً بالتعويض عن هذه الخدمات. وكما أوضحنا فأن الزعيم يتحصل على الموارد الضرورية عن طريق تعدد الزوجات الذى هو امتياز الزعماء، وعن طريق الهبة التى يدين بها كل صهر لزوج أخته. الزعيم ذو الرتبة يتزوج واحدة من أخوات كل زعيم من زعماء قرى مقاطعته فيصبحون مدينين له بجزء من محاصيلهم وأشيائهم الثمينة. يستخدم الزعيم ذو الرتبة هذا الثراء في إقامة الاحتفالات الكبيرة، وبوجه عام في دمج عدد من القرى بـ “اقتصاد المقاطعة”. وبهذا فأن الزعيم هو الأداة لاقتصاد أوسع نطاقاً من اقتصاد القرية.

لا يتمتع الزعيم بأية قوة عامة لتسوية المنازعات التى تظل من اختصاص الأنساب. يتمتع الزعيم بسلاح أوحد هو السحر، ويكون خيرة السحرة تحت تصرفه. وعلى هذا لا يعرف مجتمع تروبرياند حكومة مركزية. إن مجتمع تروبرياند يجسد مثالاً لتسلسل هرمي وراثي يربط بين مختلف الأنساب والمشاعات القروية المحلية من دون أن يؤدى الوظيفة التي تؤديها بنية سياسية ظاهرة. أن سلطة الزعماء هي ركيزة العلاقات الاقتصادية والدينية التى تتخطى إطار المشاعات القروية الخصوصية من غير أن تدمج مع ذلك هذه المشاعات في شبكة اقتصادية واحتفالية واحدة تغطى الجزيرة بأسرها. ويتمتع الزعماء بأقوى السلطات السحرية التى ينبغي عليهم أن يضعوها في خدمة مشاعاتهم . ولهذا فأن إمتيازاتهم هى الوجه الآخر لواجباتهم والمكافأة على الخدمات الاستثنائية التى يبذلونها لمشاعاتهم على كافة المستويات وهمية كانت أم فعلية.

ويمثل مجتمع تروبرياند أشهر مثال على الأهمية والشكل اللذين قد تتلبسهما المبادلات في المجتمعات البدائية المجزأة. فعلاوة على تبادل القلائد والأساور، تتيح البعثات البحرية الكبيرة إمكانية التموين بالمواد الأولية الضرورية من حجارة للفؤوس وخيزران وصلصال وما إلى ذلك. لقد كانت شبكة توزيع الكولا تؤلف رابطة سياسية واسعة تربط بين مجتمعات مجزأة يتوجب عليها أن تكفل الانتظام لتجارة حيوية من دون مساعدة حكومة مركزية تحفظ السلام وتوطده. حاول مالينوفسكى لدى تحليل نظام شبكة توزيع الكولا توضيح النشاطات الاقتصادية ومزجها بالنظام الطقوسي المتمثل في السحر والشعوذة. تمارس جماعات تروبرياند الزراعة وبناء القوارب وصيد الأسماك من خلال أسلوب لتقسيم العمل بين الأفراد وفق أنواع النشاطات الاقتصادية الشئ الذى يدفعهم إلى تبادل السلع بين جزر تروبرياند المختلفة عن طريق شبكة توزيع الكولا. يحلل مالينوفسكى شبكة الكولا بحسبانها أنساق مركبة من الشعائر الدينية والطقوس والاحتفالات التى يتم فيها تبادل بعض المواد الطقوسية بين أفراد الجماعات التى تنتمى إلى شبكة كولا معينة.

ورغم النسق المركب لشبكة الكولا فإنها تمارس دوراً تجارياً ذلك أنه عندما يرغب أحد الأفراد في شبكة ما زيارة شريكه في جزيرة أخرى عليه أن يحمل معه منتجاته ومصنوعاته التى يرى ضرورة حملها معه. يحلل مالينوفسكى طقوس الاستقبال والاحتفالات الدينية التى يتم خلالها تبادل السلع وكذلك تقديم الهدايا بمدى رضا الإنسان المتحصل على الهديَّة. هكذا يفسر مالينوفسكى فلسفة جماعات تروبرياند من توزيع سلعهم من خلال تحليله لشبكة توزيع الكولا.

راد كليف بروان (1881-1955)
حاول رادكليف براون أن يطور الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى علم طبيعي يقوم على الدراسة العلمية المقارنة للأنساق الاجتماعية عند الشعوب البدائية. أسهم إسهاماً بناءً في دراسة البناء الاجتماعي وأنساق القرابة. يعد هو ومالينوفسكى المؤسسين لمدرسة الأنثروبولوجيا البريطانية الحديثة. ألف كتاب: “جزر الاندمان” (1922). وجمعت مقالاته العلمية ومحاضراته في ثلاثة كتب: “البنية والوظيفة في المجتمع البدائي” (1952)، “علم طبيعي للمجتمع” (1957)، “المنهج في الأنثروبولوجيا الاجتماعية” (1958).

من أهم الاتجاهات التي تأثر بها بروان وهيمنت على أفكاره مسألة المماثلة بين الكائنات الحية والحياة الاجتماعية، أي على أساس المشابهة بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية البيولوجية كما كان الحال عند إميل دور كايم. يرى بروان أن المجتمع مثله مثل الكائن الحي يتألف من أجزاء أو وحدات تتداخل وظيفياً وتعتمد على بعضها البعض، فمثلاً أنه كما تتعاضد أعضاء الكائن الحي للحفاظ على الكائن حياً تعمل نظم المجتمع وتقاليده بدورها على بقاء المجتمع واستمراره. يُعرِّف بروان الوظيفة بأنها الدور الذى يؤديه أي نشاط جزئي في النشاط الكلى الذى يكون هو جزء فيه. هكذا تكون وظيفة أي نظام اجتماعي كامنة في الدور الذي يؤديه في البنية الاجتماعية المكونة من أفراد يرتبطون ببعضهم في كلٍ واحدٍ متماسكٍ للعلاقات الاجتماعية المحددة، ووظيفة أية عادة اجتماعية هي الدور الذى تقوم به العادة المعينة في مجمل الحياة الاجتماعية على أساس أن هذه الحياة هي عماد النسق الاجتماعي الكلى. يعطى براون أهميَّة للحياة الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية طالما أن النسق الاجتماعي يؤلف، في رأيه، وحدة كيان ووظيفة، أي أنه ليس مجرد تجمع أو حشد وإنما هو كل متكامل مثله مثل الكائن العضوي.

رأينا كيف أن مالينوفسكى اهتم بمفهوم الثقافة وجعلها محوراً وأساساً لدراساته وتحليلاته الوظيفية. أما براون فيهتم بالمجتمع عاداً إياه نسقاً طبيعياً. اهتم براون من ثم بالأشخاص Persons عاداً إياهم وحدات بنيوية حيث أن هذه الوحدات تكوَّن الكل وتجعل منه بنيَّة، هذه الأهميَّة التى أولاها براون للأشخاص جعلته يفرق بينهم وبين الأفراد Individuals. الأشخاص أعضاء المجتمع يمكن أن يكون كل منهم مواطناً له مهنة معينة، أي أن الشخص عند براون يجسد مجموعة علاقات اجتماعية، في حين أن الفرد هو كائن بيولوجي بمعنى أنه يجسد مجموعة من العمليات الفسيولوجية والسلوكية ويقوم علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس بدراسته. أما الأشخاص فأن دراستهم تقع في نطاق البنية الاجتماعية ولا يمكن دراسة أية بنية اجتماعية ودونهم بحسبانهم وحدات البنية الرئيسة. لهذا فأن دراسة المجتمع عند براون بمعناها البنيوي تشير إلى الترابط الداخلي الذى يربط بين البنية الاجتماعية وبين صيرورة الحياة الاجتماعية. عليه فأن استخدام مفاهيم مثل صيرورة Process ، وبنية Structure ، ووظيفة Function ما هي إلا محاور بنى عليها براون نظريته في تفسير الأنساق الاجتماعية. تقوم فكرة الوظيفة بمعناها البنيوي عند براون على أساس أن البنية تؤلف مجموعة من العلاقات التى تربط بين تلك الوحدات البنيوية بدرجات متفاوتة. فالأسرة عند براون هي بمثابة وحدة بنيوية والعلاقات الأسرية القائمة بين أفرادها هي علاقات بنيوية تستحيل رؤيتها في عموميتها في أية لحظة لكننا نستطيع ملاحظتها. أن أهمَّ ما يميز تفسيرات براون وتحليلاته الوظيفية هو تركيزها على البنية الاجتماعية هو تركيزها على البنية الاجتماعية ووظيفتها وهو ما أدى إلى انبثاق اتجاه جديد في الأنثروبولوجيا صار يعرف بالاتجاه البنيوي الوظيفي.

اضطر رادكليف براون، في محاولته إعطاء الأنثروبولوجيا نقاءً جديداً ومنهجية، أن يذوب هذا العلم في النظرية العامة المتعلقة بالمجتمعات، أي في علم الاجتماع، وفي الوقت نفسه أعطى براون الأنثروبولوجيا تمايزاً معرفياً. وبما أن المجتمعات غير المعقدة (البدائية/غير المعقدة) نسبياً هي مادة موضوع دراسة الأنثروبولوجيا، فقد ارتأى براون إمكانية أخذ مفاهيم علم الاجتماع الأساسية (بنية، ووظيفة، ومجتمع الخ. كما أشرنا). هكذا تبدى لبراون بأنه يمكنه، انطلاقا من أجزاء طفيفة في علم الاجتماع، إثراء طريقته. الأمر كذلك يجوز القول بأن فكرة البنية الاجتماعية ظهرت في الأنثروبولوجيا مع التحليلات التى قدمها براون ومع تعريفه لمفهوم البنية.

الحق يقال فأن مفهوم البنية شابه قدر من الغموض لوروده بأشكال عديدة في أعمال الكثيرين من علماء الاجتماع. تعددت الآراء وتنوعت حول هذا المفهوم لدرجة استحالت معها فرصة الوصول إلى تعريف واحد شامل ومحدد يتفق حوله العلماء. ففي كتابه “البنية الاجتماعية” (1965) يرى موردوك أن مفهوم البنية الاجتماعية يدل على تماسك المؤسسات الاجتماعية إذ ليست تلك المؤسسات تجمعاً عشوائياً بل أن لها بنية. أحد أغراض هذا النوع من التحليل هو بالتحديد فهم تماسك المؤسسات الاجتماعية وإظهار تبعيتها المتبادلة، ولذلك فإنه يلاحظ استبعاد هذه الفكرة في شكل التحليل البنيوى الوظيفي. بصورة أعم غالباً ما ينال مفهوم البنية عند الوظيفيين والبنيويين تفسيراً قريباً من مفهوم النمط. في حالات يتم استخدام مفهوم البنية بمواجهة تعبيرات أخرى أو بالعلاقة معها إذ نجد أن غورفتش في مقال نشره بعنوان “مفهوم البنية الاجتماعية” (1955) يميز مثلاً المجموعات المبنية عن المجموعات المنظمة وهكذا فإنه يعتقد بإمكانية أن تكون الطبقات الاجتماعية “متبنية” دون أن تكون “منظمة”. ويواجه مفهوم البنية في ظروف أخرى بمفهوم المصادفة. كذلك فأن مفهوم البنية غالباً ما يشير إلى العناصر الثابتة لنظام معين مقابل عناصره المتغيرة … وهكذا تشير فكرة المفهوم إلى نموذج معين، إما إلى ثوابت النموذج، وإما إلى مجمل الثوابت والوظائف التى تربط المتغيرات فيما بينها، وإما أيضاً إلى مجمل الثوابت والوظائف. وفي حالات أخرى أيضاً يستعمل مفهوم البنية بشئ من التردد لتمييز الأساسي من الثانوي والجوهري من غير الجوهري والأصلي من المشتق … هكذا يرى مانهايم أن البنية الاجتماعية هي “نسيج القوى الاجتماعية في نشاطها المتبادل والذي تخرج منه مختلف نماذج الملاحظة والفكر”…في هذه الحالة فأن مفهوم البنية الاجتماعية يشير بصورة ضمنية إلى مجمل العناصر لنظام اجتماعي معين يخمن عالم الاجتماع أنه يسيطر عليها ويحدد الأخرى. بالنسبة لمانهايم يتعلق الأمر بالعناصر المادية (التى يشار إليها بغموض بعبارة “القوى الاجتماعية” التى تسمح بتفسير العناصر الفكرية، وهو ما يذكرنا بالتمييز الذى يقيمه ماركس بين البنية التحتية والبنية الفوقية. ويستعمل بعض علماء الاجتماع مفهوم البنية الاجتماعية بحسبانه مرادفاً “لنظام التدرج” وتعد متغيرات التدرج في هذه الحال أولية وحاسمة.

وقد رفض علماء الأنثروبولوجيا من أمثال كروبر وايفانز برتشارد وراد كليف بروان عد بعض فئات المتغيرات بصفتها حاسمة بحيث أصبح مفهوم البنية الاجتماعية عندهم مرادفاً بسيطاً لمفاهيم أخرى، مثل مفاهيم التنظيم الاجتماعي أو تنظيم العلاقات الاجتماعية. هكذا يمكن أن يظهر مفهوم البنية مترابطاً مع مفهوم النظام إذا اعتبرنا أن النظام هو مجمل “العناصر ذات التبعية المتبادلة”. ولكن يمكن أن يظهر كذلك وكأنه معَّرف ضمنياً أو صراحة بمواجهة مجموعة أخرى من المفاهيم أو من التصاق بها، في اتجاهات متنوعة جداً ربما يستطيع الوضع العام وحده أن يحددها.

على كل فقد اقترن مفهوم البنية عند أصحاب الاتجاه الوظيفي بالدراسات الحقليَّة المعمقة بخاصة تلك التى قام مالينوفسكى في جزر تروبرياند وكذلك راد كليف بروان في جزر الاندمان حيث ظهرت تبعاً لذلك تعريفات للبنية الاجتماعية بعيدة عن الارتباط بالوظيفة عند براون وآخرين وظهور اتجاه جديد يجمع بين البنية والوظيفة عرف بالاتجاه البنيوي الوظيفي.

يرى بروان أن مفهوم البنية يشير بالضرورة إلى وجود نوع من الترتيب بين الأجزاء التى تدخل في تركيب الكل وذلك لأن ثمة علاقات وروابط معينة بين الأجزاء التى تؤلف الكل وتجعل منه بنية متماسكة ومتمايزة. ومن ثم تكون الوحدات الجزئية التى تدخل في تكوين البنية الاجتماعية هم الأشخاص أعضاء المجتمع الذين يحتل كل منهم مركزاً معيناً في المجتمع ويؤدى دوراً معلوماً في الحياة الاجتماعية. وكما أشرنا سابقاً فأن هذه تشكل النقطة الأساسية في نظرية راد كليف بروان عن البنية الاجتماعية لأن الإنسان فرداً لا يعد جزءاً مكوناً للبنية التى تتألف من أشخاص هم أعضاء المجتمع لا من حيث أنهم أفراد.

الإنسان فرداً هو كائن بيولوجي يتكون من مجموعة كبيرة من وحدات وعمليات عضوية ونفسية وبالتالي مداراً لبحث البيولوجيا وعلم النفس. أما الإنسان شخصاً فهو مجموعة من العلاقات الاجتماعية تتحد طبقاً لمكانته الاجتماعية مواطناً، وزوجاً، وأباً، وعضواً في مجتمع الخ. من هنا يصبح الإنسان “الشخص” لا “الفرد” هو موضوع بحث الأنثروبولوجيا الاجتماعية التى تستمر باستمرار النظام الاجتماعي الذى ينظم أدوار الأشخاص ويشخص علاقاتهم بين بعضهم البعض ويحددها … هذا ما يفسر، في رأي براون، استمرار العشيرة، والقبيلة، والأمة بحسبانها تجسيداً لتنظيمات معينة من الأشخاص رغم التغير الذى يصيب الوحدات المؤلفة له من وقت إلى آخر . يقصد براون بالبنية الاجتماعية الآتي:

أولاً: الجماعات الاجتماعية الموجودة لفترة طويلة وكافية، وهى الأشكال المورفولوجية للمجتمع الإنساني والتي تمثل تجمع الأنساق في وحدات اجتماعية مختلفة الأحجام.

ثانياً: التباين القائم بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات، ويحدد ذلك التباين الأدوار الاجتماعية التى يقوم بها الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد، مثل اختلاف المركز الاجتماعي بين الرجال والنساء، وبين الشيوخ والشباب، وبين الشباب والأطفال، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين صاحب العمل والعمال.

ثالثاً: كل العلاقات الاجتماعية التى تقوم بين شخص وآخر من البنية التى تتكون من العلاقات الثنائية مثل العلاقات بين الأب وابنه، وابن الخال وابن أخته الخ. ويعد النظام القرابى في المجتمعات غير المعقدة أهم النظم الاجتماعية وهو الذى يحدد شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع.

وتتميز البنية الاجتماعية وفقاً لبروان بعدة خصائص:

1- البنية الواقعية التى هي مجموعة من العلاقات الواقعيَّة بين شخصين على الأقل، وقد تضم عدداً كبيراً من الأشخاص. ما يميز هذه العلاقات طابعها المتغير سواء بين الأشخاص أو الجماعات، بمعنى أنها غير ثابتة بفعل دخول أعضاء جدد في المجتمع عبر الولادة أو الهجرة إلى المجتمع، والهجرة من المجتمع، والوفيات. تشمل البنية الاجتماعية الواقعية أيضاً جميع العلاقات الاجتماعية الجزئية المتغيرة بين أعضاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية.

2- الصورة البنيوية التي تتميز بالثبات النسبي لفترة زمنية تطول أو تقصر وفق متغيرات معينة. وتتعرض الصورة البنيوية للتغير في حالات بصورة فجائية أو تدريجية … فالثورة أو الغزو الخارجي قد يؤديان إلى حدوث تغير فجائي عارم.

3- لا يمكن رؤية البنية الاجتماعية بصورة مباشرة، لكن يمكن للباحث ملاحظة البنية في صورة علاقات اجتماعية محسوسة بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات …. ثم أن دراسة البنية الاجتماعية شئ ودراسة العلاقات الاجتماعية شئ آخر. يستخدم بعض الأنثروبولوجيين مصطلح البنية الاجتماعية للإشارة إلى الجماعات الاجتماعية الثابتة فقط مثل الأمم، والقبائل، والعشائر…إلخ التى تحتفظ باستمراريتها وكياناتها بالرغم من التغيرات التى تتعرض لها عضويتها زيادة أو نقصاناً.

5- يدرس الباحث الأنثروبولوجي البنية الاجتماعية بهدف الوصول إلى نتائج موضوعية مستخدماً منهجاً شمولياً، أي دراسة تشمل جميع أجزاء البنية الاجتماعية وكافة مظاهرها ذلك أن عناصر البنية وأجزاءها تتفاعل ككل وعلى الباحث أن يكشف عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي تربط تلك العناصر والأجزاء. بمعنى آخر عليه أن يحدد عملية التأثيرات المتبادلة بين وحدات البنية الاجتماعية.

6- استمرار البنية الاجتماعية وبقائها فترة طويلة من الزمن، وهى خاصة تميز البنية وتؤهلها للقيام بوظيفتها الاجتماعية الأساسية المتمثلة في الحفاظ على تماسك المجتمع وبقائه، ويكون بقاء البنية بقاءً متجدداً لا جامداً، بمعنى أنه متغير وليس ساكن.

لقد أصبحت البنيوية الوظيفية دراسة لا لنمط الحياة بل لنمط وجود فعلى متخطية نزعة المركزة الاثنية التى ميزت الأنثروبولوجيا في النصف الأول للقرن التاسع عشر والتي لم تر في المجتمعات الأخرى إلا أنواعاً من الحياة التى تخطاها التطور.

وتعد البنيوية الوظيفية أن كل مجتمع، بحسبانه نظام مؤسسات وممارسات لها دلالتها، قادر على الاستمرار في حركته وتحولاته والقيام بوظيفته رغم التغيرات الظاهرة داخلياً وخارجياً على المستوى “الشخصي”، وقادر على الممارسات غير الهامة. فالمجتمع ليس مجرد ركام لا عضوي كما تصور أنثروبولوجيو النصف الأول من القرن التاسع عشر، بل هو “نظام” وظيفي من مؤسسات تلبى حاجات إنسانية أساسية. فالوظيفة الإنسانية والاجتماعية لهذه المؤسسات هي التى تعطيها شبه شرعيتها وديمومتها. وقد عبرت عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية لوسى ماير عن ذلك بقولها: “أن تفسير الثقافة الإنسانية بحسبانها آلية تضامن تهدف لتحقيق الحاجات الاجتماعية بحيث يرتبط كل عنصر فيها بالباقي ويظل مشروطاً به، يفرض ضرورة الاهتمام بجدية أكثر بالمؤسسات غير المعقدة للشعوب غير المتحضرة أكثر مما تم في الماضي، وطالما أننا نؤكد أن القبائل مازالت تعيش شروط البربرية غير المنتظمة،و هى شروط تعترف بقسوتها حتى القبائل، يصبح يسيراً علينا أن نتطلع إلى انتصار المدنية مع ما يلحق بها من حسنات، وأن تعد كل مقاومة حيوية مؤقتة سترتفع حين يتبنى السكان الأصليون مفهوماًُ أكثر عقلانية”.

الاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكي
أن يكون لكل مجتمع إنساني نظامه القيمي، والمستند إلى اختيار ثقافي مميز، وإلى خلفيات سماها كادرينر لاحقاً بالشخصية القاعدة، كل ذلك سمح للأنثروبولوجيا الأمريكية أن تتخطى في الفترة 1930-1950 الكثير من الغيوم التى شابت البنيوية الوظيفية البريطانية. نجحت منهجية الدراسات الأمريكية ولغتها في التوصل إلى خطاب جديد معادٍ للأيدولوجيا الاستعمارية ومتوافق مع مطالبة المجتمعات غير المعقدة الخاضعة للاستعمار بحقها في الوجود.

رأى الفريد كروبر (1876-1960) أن التاريخ لا يعنى قط دراسة تتابع الظواهر والأحداث في الزمن، كما فهمه الوظيفيون، وإنما يهدف في النهاية إلى إعطاء وصف متكامل لموضوع الدراسة، وبهذا يمكن استخدام التاريخ في دراسة الوقائع والأحداث الجارية في مجتمع معين، على أساس هذا التوسع في مفهوم التاريخ عند كروبر بحسبانه منهجاً يأخذ في الحسبان عنصري الزمان والمكان، تصبح الأنثروبولوجيا دراسة تاريخية في المقام الأول ويكون هدفها هو التمييز بين الأنماط الثقافية التى يمكن استخلاصها من الدراسة المقارنة للشعوب. لكن علماء أنثربولوجيا أمريكيون آخرون من أمثال روث بناديكت، ومرجريت ميد، وإدوارد سابير، ومكاردينر رأوا أن التاريخ وحده لا يكفي لتفسير الثقافة، ذلك لأن الثقافة مسألة معقدة تجمع، في اعتقادهم، بين التجربة المكتسبة عبر الزمن وخلال التاريخ وبين التجربة النفسية (السيكولوجية)، وأن أية سمة من السمات الثقافية تضم بذلك مزيجاً من النشاط النفسي والثقافي بالنسبة إلى بيئة معينة. نتج عن ذلك لجوء أولئك الأنثروبولوجيين إلى الاستعانة بمفاهيم علم النفس.

كانت دراسة روث بناديكت “أنماط الثقافة” الذى نشرته في عام 1934 بداية حقيقية لبلورة الاتجاه الثقافوى النسبي (ما يعرف في حالات بالاتجاه التاريخى النفسي) في دراسة الثقافات. ويبدو أن نزعة المقارنة التى ميزت دراستها لا يجوز بحال ردها إلى النزعة التى كان قد اقترحها راد كليف براون. لا شك أن الدراسات التى أجريت لأنماط المجتمعات التى تميزت بممارساتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية (الدوبو، والزونى ، والكواكيت من شعوب أمريكا الأصليين) إلى جانب التقصي عن الأنظمة الثقافية التى لا بدَّ منها والتي تعد نماذج قصوى عن طواعية الإنسان، هي التى مكنت روث بناديكت من تطوير نظريَّة “الصيغ الثقافية”. ترتكز كل ثقافة، في اعتقاد بناديكت، حول مبدأ أساسي يعطيها نمطاً أو تشكيلاً خاصاً بها يميزها عن غيرها من الثقافات. إن كل مجتمع لا يستعمل سوى جزء محدد من الصيغة الثقافية التي باستطاعة الإنسان استخدامها . وأجرت بناديكت دراسة مقارنة بين عدة ثقافات غير معقدة أوضحت من خلالها العلاقة القائمة بين “الصيغة الثقافية العامة ومظاهر الشخصية كما تنعكس لدى الأفراد في تلك المجتمعات”. وكما أشار أحمد أبو زيد فإنه في حين “بدأ مالينوفسكى نظرته للثقافة من الفرد عاداً الظواهر الثقافية مشتقات من الحاجات الفردية، بدأت روث بناديكت من الصيغ الثقافية عادة السلوك الفردي مجرد اتفاق وتواؤم مع التعاليم، والمثل ، والقيم، والاتجاهات الثقافية الموجودة بالفعل”. هكذا تمَّ طرح لا الفكرة ذات الخط الواحد وحسب، بل فكرة التطور أيضاً بمعناها التقليدي.

وهكذا تم إحلال فكرة الاختيار الثقافي بدلاً عن مفهوم الطبقة، أو التماهي أو التوازي في مسيرة كل مجتمع. الاختلاف ليس هو بغية الانتظام، أي التأخر وسط التطور الوحيد، بل أنه محصلة الاختيار والطرق المتباينة. وفقاً لهذا المنظور تنتمي كل مقاومة وتفقد دلالتها. هكذا لا يعود لأي مجتمع طموح أو عجرفة الحكم على الآخرين وتكتسب تخريجات غير متنافسة للممارسات والعقائد، وهى لا تختلف عن بعضها بعضاً، لأن خطاً معيناً يكون حاضراً هنا غائباً هناك، أو لأن خطاً آخراً موجود في منطقتين اثنتين، ولكن بأشكال مختلفة. إنها تختلف ككل في اتجاهات مختلفة. إنها تتقدم في طرق مختلفة بحثاً عن غايات مختلفة، وهذه الغايات والوسائل التى نجدها في مجتمع ما لا يمكن الحكم عليها بعبارات مجتمع آخر لأنه لا يمكن قياسها”.

لقد ساعدت شمولية معنى المؤسسات الإنسانية (القرابة والاقتصاد والسياسة) كل من راد كليف براون ومالينوفسكى على إرساء نظرية المقارنة. إلا أن الأمر بالنسبة لبناديكت يختلف ذلك أن المؤسسات ليس سوى إطار شكلي لكنه فارغ، ويكون من اليسر إظهار شموليتها حين نترك المعنى العيني والفعال الذى تمثله في ثقافة ما، أو من أجلها . ينطبق هذا بدوره على مفهوم “الوظيفة” بالمعنى الذى أدخله عليه كل من مالينوفسكى وبروان، وهو أمر يعود لتفسير المؤسسات لقيم خاصة ومميزة. إن “الاختيارات” مرتبطة بمجتمع معين، لا بحسبانها استجابة لحاجات أساسية كما يعتقد مالينوفسكى (شمولية الحاجة الجنسية تقابلها شمولية العائلة، والجوع تقابله المؤسسة الاقتصادية، وشمولية القلق تقابله المؤسسة الدينية).

يوجد نموذج ثان للاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكي يتمثل في مؤلفات ابرام كاردينر التي تطرح مفهوم الشخصية القاعدة الذى يشير إلى مجموعة الخصائص النفسية والسلوكية، التى تتطابق مع كل النظم والعناصر والسمات المؤلفة لأية ثقافة. يركز كاردينر على ما أسماه النظم الأولية المرتبطة بتربية الأطفال في سنواتهم الأولى، والتي تختلف من ثقافة إلى أخرى. يفترض كاردينر أنه نتيجة لاشتراك مجموعة من الناس في نوع معين من النشأة والتربية خلال مرحلة طفولتهم، تسود سمات شخصية مشتركة بينهم عندما يكبرون. ومن ثم ترتبط هذه الصفات بالتشكيل النهائي للثقافة السائدة بين هؤلاء الأفراد. ومع أنه لا يمكن للنمط أو التشكيل الثقافي السائد أن يزيد من وجود الفوارق الفردية و يقللها في نطاق الثقافة الواحدة إلا أن العلاقة بين الأنماط الثقافية والشخصية الفردية والتأثيرات المتبادلة بينها أمر لا يجوز إهماله. وعرض كاردنر في كتابه “التخوم النفسية للمجتمع” عدداً من أنماط الثقافة: ثقافة الكومانشى أو ثقافة شعوب الألور، بمواجهة الثقافة الغربية كما تجسدها مدينة أمريكية صغيرة. وقد اعتمد تفسير كاردنر إلى قيم أساسية، أو كما يقول كاردنر استنادا إلى “نظم إسقاط” الشخصية الأساسية التى تتمثل في كل ثقافة دون اللجوء إلى قيم أو مفاهيم خارجية، وذلك يعود، كما يقول “لامتلاك كل ثقافة تركيباً نفسياً فريداً، ولا وجود لثقافتين متشابهتين”.

لا يعنى ذلك، في رأى دعاة الاتجاه الثقافوى النسبي الأمريكيين، أن تكون الثقافات بمثابة “نجاح ثقافي” دوماً بالدرجة نفسها، ذلك أن بعضها يكون أكثر انسجاما وتكيفاً من بعضها الآخر. فالتكيف لا يقاس مباشرة بدرجات التقدم التقني أو “الثقافي” بل بالعكس قد يرى البعض أن الثقافة الغربية أقل تكيفاً من كثير من المجتمعات غير المعقدة، ثم أن التغير الذى نتج عن التناقص لا قيمة له في حد ذاته. فلكل ثقافة طريقتها في إدراك التغير ومعايشته … فهي إما أن تقبله بصمت، أو أنها ستحاول إعدامه. يمكن أن يستنتج من ذلك أن الفرض القسري لنمط تغير معين غالباً ما يؤدى إلى تشويهات في النظام الثقافي، وهى تشويهات قد تتحول إلى كبت على مستوى الأفراد أو إلى خلل نفسي وأمراض عقلية.

أما سابير فقد اقترح تمييزاً بين ثقافات “أصيلة” وثقافات “غير أصيلة” الأولى: “ثقافات منسجمة، متوازنة، وتعيش في تطابق كلى مع ذاتها”. أما الأخرى فتحيل الفرد إلى حالة من الصدأ، كما تولد الكبت والاغتراب. ومهما كانت فاعلية الصنف الثاني من الثقافات وقوتها التقنية بارزة، فهي لا تستطيع إخفاء “إخفاقها الثقافي”: ليس هناك من وهم أكبر سخرية وأكثر من الوهم الذي نتقاسمه جميعاً، والناجم عن امتداحنا التخصص والدقة التقنية المتنامية والكمال الذى أدخله العلم على تقنيتنا، بحيث يخال لنا الوصول إلى نتائج متشابهة فيما يتعلق بعمق ثقافتنا ومطابقتها وانسجامها كلياً مع حياتنا”.

يعود الفضل إلى هرسكوفيتز في اختراع مصطلح “نسبية الثقافة” إذ أنه قد تساءل “كيف يمكن إطلاق أحكام قيمة على هذه الثقافة أو تلك، أو على الثقافة غير المعقدة بشكل عام طالما أن هذه الأحكام مبنية على التجربة، وطالما أن كل فرد يفسر التجربة بحدود تناقضه الخاص؟. لا وجود لـ”تجربة” (حسية، أو فنية، أو دينية..إلخ) بذاتها، طالما أن كل تجربة هي نسبية بالنسبة لنسق المجتمع الثقافي، وطالما أن كل مجتمع هو نظام تجربة وأحكام.

ويعود الفضل إلى ميلفن هرسكوفيتز بالاشتراك مع رالف لنتون وروبرت ردفيلد في النظر للتناقض بحسبانه يشمل التغير الثقافي في تلك الظواهر التى تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر معها، مما يترتب عليه حدوث تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى هاتين الجماعتين أو فيهما معاً. هكذا فإن المفهوم العام للتناقض هو الطريقة التي تقبل بها ثقافة وافدة أو جديدة وتهضمها داخل محتواها بحيث تصبح هذه العناصر الجديدة أو الوافدة جزءاً لا يتجزأ من المضمون الثقافي العام. وبذلك فإن دراسة التناقض والتغير الاجتماعي هي عبارة عن دراسة عملية التغير والتقبل في الكثير من النظم والعناصر الثقافية، لكى تتلاءم العناصر الجديدة مع الكم الثقافي أو يتلاءم الكم الثقافي مع العناصر الجديدة، أو أن تحدث العمليتان معاً بدرجات مختلفة حسب قوة العناصر الجديدة وأهميتها في الثقافة ككل.

غض النظر عن أهداف دراسات التناقض فإنها قد ساعدت على إثراء كنز المعطيات الاثنولوجية في العالم، كما أسهمت في ظهور الكثير من الأفكار النظرية. كذلك أوضحت أن درجة التغير في مجال الثقافة المادية أسرع بكثير من مجالات الثقافة غير المادية. وفي الوقت نفسه أوضحت هذه الدراسات أن العناصر الثقافية الجديدة لا تجد تقبلاً متشابهاً في مجموعها عند الجماعات المختلفة وذلك بفضل تأثير المدى الواسع للاختيار عند المجتمعات الإنسانية.

التطورية الجديدة
يمثل الاتجاه التطوري، كما أوضحنا، أحد أقدم المحاولات وأكثرها انتشارا لتفسير تطور الثقافة. ونعنى بالاتجاه التطوري تلك الفلسفة الاجتماعية التى تمتد جذورها إلى منظري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أمثال فيكو، وسبنسر، والتي وجدت تطبيقاً لها في الأنثروبولوجيا على يديّ مورغان وتايلور. ولا شك أن مناهج الاتجاه التطوري ونظريته الأنثروبولوجية لم تظل جامدة منغلقة منذ بزوغها إذ تعرضت لتعديلات عديدة. وعلى الرغم من أن القليل من علماء الأنثروبولوجيا منْ يصنف نفسه تطورياً فإنه يلاحظ أن أفكار هذا الاتجاه تمثل عناصر ذات ثقل معلوم في كل المحاولات اللاحقة والحالية لتفسير تطور الثقافة.

بدأت عملية إحياء النظرية التطورية الأنثروبولوجية مجدداً في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين المنصرم على يديَّ ليسلى هوايت (1900-1975). وبرزت التعبيرات الأكثر تجلياً واتساعا للتطورية الجديدة في أعمال تلامذته بخاصة سيرفيس وسالينس. تأثر هوايت كثيراً بكتابات مورغان داعياً إلى عدم استخدام النظم الأوروبية أساساً لقياس التطور، وضرورة محكات أخرى يمكن قياسها وتقليل الأحكام التقديرية بشأنها. أكدَّ هوايت في كتابه “علم الثقافة” الذى نشره عام 1949 أنه من المهم ألا تقتصر النظرية التطورية على تعيين مراحل معينة لتسلسل نمو الثقافة وإنما لا بدَّ من إبراز العوامل التى تحدد هذا النمو وفي رأيه أن عامل “الطاقة” هو الذى يمثل المحك الرئيس لتقدم الشعوب. ويمكن تحديد أبرز العناصر الرئيسة للاتجاه التطوري الثقافوى الجديد التى عبر عنها ليسلى هوايت في النقاط التالية:

1- الالتزام بمبدأ الحتمية المادية.

2- الثقة في إمكانية صياغة قوانين ثقافية.

3- استخدام بعض مفاهيم نظريَّة التطور الداروينية.

يعتمد دعاة التطوريَّة الجديدة في تحليل تطور الثقافة على أشكال مختلفة من “التناظر الوظيفي العضوي”. إنهم ينظرون إلى المجتمعات الإنسانية، مثلها مثل كافة الكائنات البيولوجية ، بحسبانها منتجة للتنوع، لكنه التنوع الثقافي الذى يظل فاعلاً على مدى الأجيال وفق الكفاءة الديناميكية الحرارية التفاضلية للمجموعات الثقافية المتنافسة بعضها مع البعض الآخر. هنا يتضح بجلاء استخدام التطور وفقاً للمفاهيم الداروينية. كان داروين قد شرح في كتابه “أصل الأنواع” الصادر في عام 1859 مفهومه للتطور، وهو مفهوم يمكن اختزاله في الخمس النقاط التالية:

1- إن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الموارد.

2- تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً.

3- بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص أخرى ضرورية للبقاء.

4- تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق (وهذه فرضية خاطئة تقبلها داروين عن لامارك).

5- تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة.

كذلك يؤكد بعض التطوريين الجدد على جدوى تطبيق مفهوم “الارتقاء” على التاريخ الثقافي حيث يرى سيرفيس وسالينس أن “التطور يرادف الارتقاء: الأشكال الأعلى تنمو من الأشكال الأدنى وتقضى عليها”. كذلك نجد أنهما يقولان بإمكانية قياس الارتقاء موضوعياً عبر “المصطلحات الوظيفية والبنيوية التى تمَّ تمثُلها في التنظيم الأعلى”. وقد لخصا هذه العلاقة في ما أطلقا عليه تسمية “قانون السيادة الثقافية” الذى ينص على أن “النظام الثقافي الذى يستغل مصادر الطاقة المتوفرة في محيطه بكفاءة أعلى سيظهر قدرته على الانتشار في ذلك المحيط على حساب الأنظمة الأقل كفاءة … وأن النظام الثقافي يُظهر ميلاً للنشوء تحديداً في تلك البيئات التى تمكنه من تحقيق عائد طاقة أعلى لوحدة العمل أكثر من أية أنظمة بديلة أخرى”. وكان ليسلى هوايت قد افترض بأن الثقافات تتطور عندما تزداد كمية الطاقة التى تستخدمها، أى وبمعنى آخر فإن المضمون التقني في ثقافة ما يحدد الكيان الاجتماعي، واتجاهاته الأيديولوجية، فمثلاً نجد أنه في المجتمعات التى يستخدم أفرادها قدراً محدداً من الطاقة تنشأ عندهم نظم دينية وسياسية واقتصادية أقل تعقيداً من تلك التى تتكون في مجتمعات تكثر فيها وتتنوع استخدامات الطاقة والإمكانيات التقنية.

وجه نقد للاتجاه التطوري الجديد لإهماله المنجزات التى حققتها نظرية التطور البيولوجية الحديثة. وقد رأى البعض أن الاتجاه التطوري الجديد هو اتجاه لاماركى في جوهره وذلك من حيث أن التطوريين الجدد لا يعيرون سوى قليل اهتمام إلى الأصول الأولى للتنوع الثقافي، بل يقترحون أن التنوع هو في الأساس، تواتر احتياجات مدركة بالحواس، بوعي أو بدون وعى، وهو ما يعنى النظر إلى اتجاه التغير الثقافي كوظيفة للتنوع الأولى أكثر منه نتاجاً للاصطفاء الطبيعي. يكون الناس من منطلق مثل هذا الفهم في حالة سعى للتكيف أكثر من كونهم كائنات متكيفة. وقد أشار دنل وفينيك إلى أن “البيئة في التطور العلمي تكون فاعلة من خلال الاصطفاء الطبيعي أو من خلال التنوع غير محدد الاتجاه لإنتاج التوجه الظاهر للتغير في مستويات أعلى. لكنه ووفق الاتجاه التطوري الجديد فإن البيئة تتحكم مباشرة في خلق التنوع”.

هكذا يركز الاتجاه التطوري الجديد اهتمامه على صياغة تيبولوجيات أكثر من تركيزه على اختبار التنوع الإمبيريقى، وكذلك فإنه يهمل مفهوم الاصطفاء الطبيعي بافتراضه مساراً محدد الاتجاه للسجل التطوري. لكل ذلك أظهر الاتجاه التطوري الجديد عجزاً في إنتاج قوانين أو قواعد للتعاقب يمكن عن طريقها تفسير تطور الثقافة. لكنه رغم الإخفاقات فإن عناصر الاتجاه التطوري الجديد وجدت انعكاسا لها في المعالجات المطروحة لتطور الثقافة ونشوئها، بخاصة المعالجة الايكولوجية الثقافوية ونظيرتها المادية الثقافوية تحديداً في استخدام المعالجتين لمفهوم “التكيف” بديلاً لمفهوم “الاصطفاء الطبيعي”.

الاتجاه الثقافوي المادي
يكاد أن يكون أي تفسير معاصر للتطور الثقافي مدين بقدر كبير من عناصره للفكر الماركسي. ويلاحظ وجود ثلاث مدارس رئيسة في الأنثروبولوجيا المعاصرة تدعى كلها الارتواء من نبع الإيحاء الماركسي: المادية الثقافوية، والبنيوية الماركسية، والمادية الجدلية. وتؤلف المدارس الثلاثة في جماعها جزءاً كبيراً من البنية النظرية للتحليل المعاصر للتطور الثقافي وهو ما يفرض علينا تناولها بالشرح والتوضيح وبالتحليل. نرى أن نبدأ عرضها بتناول المعالجة المادية الثقافوية وذلك لأنها تشكل تبسيطاً للمعالجتين الأخرتين . ورغم الاختلافات العديدة في مجال المصطلحات والفرضيَّات والمنهج، فإنَّ الاتجاه المادي الثقافوى يتميز ببنية منطقية تعكس الكثير من أوجه الشبه بالبنية المنطقية للاتجاه الايكولوجي الثقافوى فالاتجاه الأخير يفسر التباين بين الثقافات المختلفة للشعوب في إطار التنوع البيئي كما يهتم بالكشف عن الكيفية التى تؤثر فيها الثقافة على تكيف الأفراد مع ما قد يحدث في البيئة من تغيرات جذرية. ولا تقتصر البيئة لدى دعاة الاتجاه الايكولوجي الثقافوى على المحيط المادي فقط وإنما تشتمل أيضاً على كل ما يحيط بالإنسان من كائنات حية، سواء من نوعه أو مختلفة عنه وتترابط جميعها في نسق متكامل، أطلقوا عليه مصطلح “النسق الايكولوجي” الذى أصبح مجالاً لدراساتهم المركزة. ويعطى الايكولوجيون الثقافويون أهمية خاصة لمناهج تصميم البحوث ووسائل جمع المادة، والاستعانة بمفاهيم العلوم ذات اللغة ومناهجها (مثل علم الأحياء، والتغذية، والطب والسكان، والعلوم الزراعية)، وذلك بقصد تشكيل تصور عن أنماط التفاعل بين البيئة والكائنات الحية. نتيجة ذلك أصبح هذا الاتجاه مشابهاً لنظرية التطور الحيوي الذى قد يفسر عمليَّة التكيف ولكنه يعجز عن التنبؤ أو تحديد منشأ التغير أو أسبابه. وبما أن معالجتنا للاتجاه المادي الثقافوى تنطبق أساسياتها على الاتجاه الايكولوجي الثقافوى فإننا سنكتفي بالتعرض لتحليل الأول فقط.

يفترض الاتجاه المادي الثقافوى كما يفسره أحد أكثر دعاته حماساً، مارفن هاريس “أن تكون الأسبقيَّة المنهجيَّة موجهة للبحث عن قوانين للتاريخ في علم الإنسان” ، وذلك على أرضية تناول منهجي ابستمولوجى منطقي وضعي، مع إدراك هاريس للنقد الموجه إلى بعض جوانب الوضعية المنطقية. وينحصر دين هاريس لهذه الابستمولوجيا المركبة في التركيز على “الأحداث، والوحدات، والعلاقات التى يمكن إدراكها عبر عمليات إمبيريقية منطقية واستقرائية استدلالية، وقابلة للقياس، وخاضعة للتجربة عن طريق ملاحظين مستقلين”.

ينتحل هاريس في تفسيره للتطور الثقافي تقسيم كارل ماركس الثلاثي للمجتمع الإنساني: القاعدة، والبنية، والبنية الفوقية. ويرى هاريس أنَّ كل تغير ثقافي وكل المجتمعات يمكن تحليلها من خلال أنماط الإنتاج (أي النظم الاقتصادية وتقنيات الإعاشة)، وأنماط إعادة الإنتاج (أي أنماط التزاوج وأساليب التحكم في السكان)، والاقتصاد السياسي (أي الطبقة والطائفة والحرب)، والبنية الفوقية (أي الفن والدين). تتمفصل تلك الوحدات في البنية التحتية لتكون أنماط الإنتاج وإعادة الإنتاج، والبنية التى تشمل الاقتصاد المنزلي والسياسي، والبنية الفوقية. ويرى هاريس أن الأساس الذى يربط تلك الوحدات هو أن أنماط الإنتاج وإعادة الإنتاج تعمل “محتماً احتماليا” للاقتصاد المنزلي وللاقتصاد السياسي الذين يعملان بدوريهما “محتماً احتماليا” للبنية الفوقية.

لا يشكل هذا المبدأ بالنسبة لهاريس وللماديين الثقافويين قانوناً وفق مفهوم قانون نيوتن، لكنه يشكل في الغالب إستراتيجية للبحث يمكنها أن توفر إمكانية للوصول إلى فهم يقوم على نواميس الطبيعة والمنطق مثل مبدأ الاصطفاء الطبيعي في نظرية داروين. ويقول هاريس أنه بترجمة هذا المبدأ بحسبانه إستراتيجية للبحث فإن “مبدأ الحتمية التقنية-البيئية هذا يفترض أن تكون الأولوية لدراسة الشروط المادية للحياة بالقدر نفسه الذى يفترض فيه مبدأ الاصطفاء الطبيعي أن تكون الأولوية لدراسة النجاح التفاضلي النهائي في إعادة الإنتاج”.

ومن ثم ينصب اهتمام هاريس في تفسيره للتطور الثقافي على رصد التغيرات وتفسيرها، أي التغيرات في أنماط الإنتاج وأنماط إعادة الإنتاج والتي يمكنها، وفق شروط معينة، أن تنتج تحولات في البنية والبنية التحتية. ويتم التعبير عن تلك التحولات، في رأى هاريس، عبر ظهور المجتمعات القائمة على أساس التراتب الطبقي والتي يكون فيها الاستحواذ غير المتساوي على الثروات والسلطة هو السمة المميزة، وعبر ظهور ديانات رسمية، واقتصاديات الاعتماد الدولي، والحروب المتكررة. ويصر هاريس على التأكيد بأنه لا يدعو إلى إنشاء ربط آلي أو ثابت وغير متغير بين كل من البنية التحتية والبنية الفوقية يمكن من خلاله التكهن بالظواهر الثقافية كما هو الحال في الميكانيكا الحرارية. ويتمسك هاريس بأن عناصر البنية والبنية التحتية بإمكانها أن تنجز، بل وتنجز بالفعل ، بعض مقاييس السببية المستقلة بحيث تبدو العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية في أي مجتمع – لأغراض التحليل – علاقة تغذية متبادلة (راجعة) يمكن ترجمتها وفق نظرية الأنظمة.

لدى تفسيره لنشوء الأشكال الأولى للتكوينات الزعامية القبلية (المشيخات) والدول يؤكد هاريس على التداخل يبن البيئات الطبيعية وإمكانيات بنى الإنسان على إعادة الإنتاج. ويلاحظ أن هاريس يحدد الأشكال الاجتماعية وفقاً للتركيبات المعيارية التطورية الثقافوية. ويرى هاريس بأن تواتر الأحداث والعلاقات التى تؤدى إلى إنتاج كل المجتمعات المعقدة المبكرة تبدو كالتالي:

أدت التحولات المناخية التى شهدها عصر البليستوسين المتأخر مع تزايد الكثافة السكانية وسط أفراد بنى الإنسان إلى استنزاف الموارد النباتية والحيوانية بحيث تُظهر نسبة التكلفة / الفائدة المرتبطة بنشاط الصيد وجمع الغذاء تحولاً لمصلحة النشاط المرتبط بالزراعة وتربية الحيوانات. أدت تلك الظروف الناشئة إلى “اصطفاء” الاقتصاديات الزراعية والتجمعات المستقرة بما مكن المجموعات التى خاضت التجارب لتبنى الاقتصاديات الزراعية واقتصاديات الرعي من التكيف وإنجاز عملية إعادة إنتاج نفسها على حساب مجموعات الصيد وجمع الغذاء المتنقلة وغير المستقرة.

ويستثنى هاريس البيرو وبعض المناطق الأخرى التى شهدت نشوء أنماط حياة مستقرة مع تزايد في الكثافة السكانية رغم عدم ظهور اقتصاديات زراعية. يرى هاريس أن الظهور اللاحق للثقافات المعقدة قد جاء نتاجاً لتلك المجتمعات الزراعية المبكرة التى نشأت في بيئات ايكولوجية واجتماعية سمحت بإنجاز نمو طبيعي تحول من خلاله فرد واحد إلى زعيم مسئول عن اتخاذ قرارات حيوية تتعلق بتكثيف الإنتاج، وإعادة توزيع الموارد، وإدارة شئون الحرب والتجارة. بمجرد ظهور هذا النوع من الفرد “الإداري” يندفع المجتمع، تحت ضغوط التنافس مع المجتمعات المجاورة، وتحت ضغط النمو السكاني إلى درجات أعلى فأعلى للإنتاج المكثف والتراتب الاجتماعي. يكتب هاريس ” تُظهر مثل تلك الأنظمة نزعة للتحرك من الأشكال المتساوقة لإعادة الإنتاج إلى أشكال غير متساوقة يحتفظ فيها الموزعون بالمزيد من المنتوج لفترات أطول فأطول … تتوقف الإسهامات في نسب إعادة التوزيع الاقتصادي تدريجياً عن أن تكون طبيعية … سريعاً ما تتحول إلى ضرائب في تلك اللحظة تصبح المشيخات على عتبة التحول إلى دول”.

ويطرح هاريس فرضية تقول بأن الكثير من الدول المبكرة استخدمت الحرب والتوسع العسكري أدواتاً رئيسة للتحكم في النمو السكاني إذ بمجرد أن تتكون الدول فإنها تستمر في النمو بسرعة طالما أن المجتمعات المجاورة الأقل تعقيداً لا تملك سوى واحد من خيارين: إما أن تستسلم أو أن تتطور في الاتجاه نفسه.

ويفسر هاريس المسارات التطورية المختلفة للدول المبكرة، إلى حد كبير، باللجوء إلى استخدام عناصر النمو الايكولوجي الزراعي مثل المقدرات الأعلى على تكثيف إنتاج الحبوب وتطوير إستراتيجيات الرعي في جنوب شبه الجزيرة العربية مقارنة بالمحاصيل الجذرية والخنازير البرية، بمعنى توضيح الحدود الايكولوجية لنشوء المجتمعات الزراعية المبكرة بدقة إذ أنه بمجرد الوصول إلى كثافة سكانية معينة يصبح لدى الناس حافز قوى إما لتكثيف المنتوج تجنباً للمجاعة، أو إلى الهجرة إلى مناطق ذات كثافة سكانية أقل نسبة لمحدودية إمكانياتها الزراعية، بالتالي إلى مستوى معيشي أدنى.

إذا انتزعنا بعض المصطلحات الماركسية الكامنة في تفسير هاريس للتطور الثقافي فإن تفسيره سيبدو مشابهاً للتحليلات المعُبر عنها في المعالجات الايكولوجية الثقافوية من حيث التركيز على المحتم التقني البيئي، وعلى أهمية الضغوط السكانية، وبوجه عام نظرة للتطور الثقافي كما انعكست في العديد من الحلول المتعاقبة لإشكالات الموارد المتناقصة والكثافة السكانية المتزايدة والتنافس. ومن ثم نرى أن الانتشار الواسع لمثل هذه الأفكار يفرض علينا إجراء مراجعة نقدية دقيقة لمنطق المادية الثقافوية والمعالجات اللصيقة الأخرى.

مثلاً فإن البينة الآثارية المتوفرة حالياً تتعارض مع بعض الاستنتاجات التى توصل إليها هاريس بشأن انقراض الصيد (الحيوانات الضخمة) في عصر البليستوسين. كذلك تشكك البعض من الباحثين في أهمية الضغوط السكانية بالنسبة لنشوء الثقافات المبكرة, إنَّ التفسيرات الوظيفية هي حجج تشير إلى وجود بعض عناصر / أو مركب عناصر في نظام بعينه تسهم في التنافس التكيفي لذلك النظام. من هذا المنطلق يفسر هاريس ظهور الزعماء في المجتمعات المعقدة المبكرة على ضوء المهام الإدارية التى يتم إنجازها من خلال هذه “الزعامة”. ويواجه هذا النوع من التفسير قدراً من المحدوديَّة التى تتمثل في مشكلة الغائية المتساوية إذ أنه وبالنسبة لكل إشكالية تكيفية تطرحها بيئة ثقافية أو أية بيئة أخرى غيرها فإنه يمكن تصور بدائل وظيفية محتملة حلاً لتلك الإشكالية. فلماذا، على سبيل المثال، لم تطبق المجتمعات الزراعيَّة المبكرة تحكماً سكانياً أكثر صرامة، أو أن تنشئ مؤسسات تعاونية أو ديمقراطية أو مساواتية للتعامل مع مشكلاتها بدلاُ عن إنتاج “حل” تمثل في الزعماء؟ يقدم الماديون الثقافويون عادة إجابة يعتمدون فيها على تحليل النزعات النفسية، أو على تحليل التكلفة / الفائدة بالنسبة للاحتمالات الممكنة المختلفة ليدللوا على أن الزعماء (أو أية عناصر أخرى) هي الأكثر كفاءة. إن هذا الدفع يحتوى، في تقديرنا، على ما أسماه ليونتين في نقده الذى وجهه إلى البيولوجيا الاجتماعية بالفكرة الخاطئة القائلة بأن “المتقدم لهذا الغرض بالذات هو الفاعلية المكتملة”.

يكون هذا “الخطأ المنطقي” أكثر وضوحاً عادة في العلوم البيولوجية في حالة العديد من التجارب التى يتم من خلالها عزل جانب من تاريخ حياة الكائن الحي بحسبان أن ذلك الجانب يؤلف إشكالية تستوجب حلاً. ومن ثم، وبطريقة نموذجية، يتم تحديد ما قد يكون حلاً أمثلاً للإشكالية عبر التحليل الهندسي في حالة محددات بيئية معينة. ويقاس الكائن الحي لتحديد مدى توافق السمة المعينة مع الحل الأمثل. في حالة النتيجة إيجاباً تصاغ حجة مقبولة توضيحاً لكون ظهور السمة إنما هو استجابة للإشكالية. أما في حالة النتيجة سلباً، أي بمعنى وجود تباين بين السمة من جانب والحل الأمثل من جانب ثان، فإنه يتم البحث عادة عن إشكالية ثانية … وثالثة سعياً لمعرفة ما إذا كان جزء من السمة يُظهر توافقاً مع إشكاليات عديدة، أو أن يكون، احتمالا، استجابة لمركب طاقة مختلف جداً. ويرى ليونتين، أنه في حالة توقر قدر من البراعة والمجهود الكافيين، سيكون ممكناً بهذه الطريقة مطابقة أية سمة لإشكالية تكيفية بحيث تكون النتيجة الحقيقية في نهاية المطاف عدم اختبار أي شئ.

يشكل هذا “الخطأ المنطقي” عنصراً مركباً في العديد من التحليلات المادية الثقافوية والايكولوجية الثقافوية. عادة ما يلجأ الايكولوجيون الثقافويون إلى وصف البيئات الطبيعية والثقافية القديمة لاستقراء الإشكاليات التكيفية التى يفترضون حلاً لها في الزعماء والحروب وما إلى ذلك.

الاتجاه البنيوي الماركسي
يقف البنيويون الماركسيون في مقدمة ركب الناقدين للاتجاهين المادي الثقافوى والإيكولوجى والثقافوى. تلجأ التفسيرات البنيوية الماركسية للتطور الثقافي إلى استعارة الكثير من المفاهيم التى أسسها كارل ماركس وفردريك إنجلز مثل مفهومي نمط الإنتاج والطبيعة الجدلية للتاريخ ويشمل مفهوم نمط الإنتاج بالنسبة لماركس كل من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. ويرى ماركس أنه على أساس قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تنشأ عناصر البنية وعناصر البنية الفوقية بحيث يصبح ممكناً تفسير التاريخ والتطور الثقافي من خلال تحليل أنماط الإنتاج المتبدلة. ومع أنَّ العديد من أنصار الاتجاهين المادي والثقافوى البنيوي الماركسي يظهرون قدراً من الاتفاق بشأن تعريف لقوى الإنتاج انطلاقا من مصطلحات تقنية بيئية أساسية (على سبيل المثال المناخ، والأنظمة الزراعية، والآليات … إلخ).

إلا أن القول بكون علاقات الإنتاج الاجتماعي وقوتها هي التى تحدد جوانب المجتمع الأخرى وتحتمها ظل إشكالية خلافية منذ فجر بزوغ التركيب الماركسي. بدون الخوض في خضم التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع المعقد والشائك نقول بأن معظم البنيويين الماركسيين يؤكدون على مقولة كون علاقات الإنتاج الاجتماعي هي التى تحتم شكل المجتمع ومحتواه وتاريخه. فعلى سبيل المثال يفسر فريدمان علاقات الإنتاج بحسبانها “تلك العلاقات التى تحتم الدورة الاقتصادية لعملية الإنتاج المادي في ظل شروط تقنية وإيكولوجية معينة في مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة”. ويعدد فريدمان نماذج الأشياء التي تحتمها علاقات الإنتاج الاجتماعي:

1- الاستفادة من البيئة في إطار الحدود التى تطرحها الإمكانيات التقنية.

2- تقسيم الأدوار في عملية الإنتاج، بمعنى من يقوم / ومن لا يقوم بالعمل الجسمانى.

3- أشكال الاستحواذ على الفائض الاجتماعي وأشكال توزيعه وكيفية استخدام الفائض الاقتصادي.

4- قيمة محسوبة اجتماعياً لنسبة الفائض والربح؟

هكذا يجادل فريدمان بأنه لا يمكن فهم أنماط التغير الاجتماعي وإدراكها بإرجاع الأدوار السببية الرئيسة إلى النمو السكاني وايكولوجيا الإنتاج الزراعي وغيرها من عناصر التقنية البيئية. وفي هذه النقطة تحديداً يتركز اعتراض فريدمان ونقده الموجه للمعالجات المادية الثقافوية والتحليلات الايكولوجية الثقافوية.

ويعبر سالينس عن الفكرة ذاتها من خلال محاولاته التأكيد على قوة عناصر البنية والبنية الفوقية على تحديد ظواهر البنية التحتية وذلك عبر اختبار المركبات “غير المنطقية إطلاقاً” في المجتمعات المعاصرة، ويتساءل عن الأسباب الكامنة وراء النظرية العاطفية لعلاقة الأمريكيين بالكلاب والخيول وتجنبهم أكل لحومها في الوقت الذى لا يوجد لديهم تحفظ تجاه أكل ملايين الأبقار . ويقول سالينس أن هذه الحقيقة قد تثبت عبث المحاولات الهادفة إلى تحليل الظواهر الثقافية وفق منظور يعزو أهمية قصوى للاقتصاد كما هو ملاحظ في المعالجات المادية الثقافوية والايكولوجية الثقافوية. ويرى سالينس “أن الظروف والجدوى المادية توجد بالنسبة للناس لا كحقيقة طبيعية وإنما كمركب ثقافي … الظروف الطبيعية لقابلية التطبيق (القوى الاصطفائية) تؤلف مجرد عوائق سلبية … حدود للإمكانيات الوظيفية التى تظل غير متجددة بالنسبة لجيل من الأشكال الثقافية المعنية”. لهذا السبب يفترض سالينس أنه لا يمكن تفسير استعمال لحم الخنزير في مالينبزيا، أو أكل لحوم البشر عند الازتيك، أو نشوء المشيخات الأولى في بلاد ما بين الرافدين انطلاقا من متغيرات ديموغرافية أو ايكولوجية أو اقتصادية..”لا يستطيع الفرد منا أن يقرأ مباشرة من الظروف المادية إلى النظام الثقافي كما يقرأ من السبب إلى النتيجة أو من المتغيرات التقنية البيئية لا تمارس تأثريا بل أن كل شئ يعتمد على الطريقة التى تتداخل بها تلك الخصائص ثقافياً لتعطي تنظيماً له معنى من خلال نمط للتنظيم الثقافي”. تحدد كل ثقافة تفاضلياً تلك الأشياء مثل “الصلة الوثيقة بين كافة الموارد الممكنة” وهى التى تحدد طريقة استخدام المورد وكثافة استغلاله وفق المنطق الثقافي الخاص بها.

وقد تمَّ التعبير عن مثل هذا الموقف، أي كون أنماط الإنتاج في أي مجتمع محدد تكون مركبة بصورة فريدة وفق المنطق الثقافي للمجتمعات التى توجد بها تلك الأنماط، في معظم التحليلات البنيوية الماركسية. هكذا نجد أن فريدمان يفترض أن نمط الإنتاج الواحد نفسه في المجتمعات المختلفة لا بدَّ وأن يتكيف مع بيئته الاجتماعية المعينة التى يؤدى فيها وظيفته. وبما أنَّ كل مجتمع يمكن أن يشكل خليطاً لأنماط إنتاج مختلفة تؤسس فيما بينها علاقات متنوعة داخل المجتمع، فإنه لا يمكن ظهور نمط إنتاج معين في “شكل نقى”. يسود في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية نمط إنتاج رأسمالي، لكن يلاحظ أن التركيبات الاجتماعية في تلك البلدان تقوم على أنماط إنتاج متضاربة في علاقاتها بعضها بالآخر.

يعتمد تحليل ماركس للتاريخ على الافتراض بأنَّ التاريخ هو صيرورة جدلية تشتمل على توترات متعاقبة للفرضية، ونفي الفرضية (الفرضية المضادة)، والتركيب الذى ينفي الفرضية المضادة لكنه يحمل سمات الفرضية والفرضية المضادة ويحافظ عليها لكن في مستوى أعلى. المثال الذى اهترأ لكثرة استخدامه هو مثال البذرة (الفرضية) التى تنشأ عنها النبتة (الفرضية المضادة) وعودة النبتة إلى بذرة، لكن هذه المرة ببذرات عديدة (التركيب). في كل المواد التاريخية العينية – أي في الواقع الفعلي – يمكن ملاحظة هذه الصيرورة الجدلية التى تكون نتيجتها المسار الصاعد للتاريخ. الجانب التطوري تم توضيحه في أعمال انجلز لكنه كان أكثر تجلياً في كتابات ماركس “في مرحلة معينة من تطورها تدخل قوى الإنتاج المادي للمجتمع في صراع مع علاقات الملكية التى كانت فاعلة في إطارها. من أشكال لتطور القوى المنتجة تتحول تلك العلاقات إلى قيود تكبلها. حينها يبدأ عصر الثورة الاجتماعية”. بالنسبة لماركس فإنَّ التطور الثقافي يحدث لا عبر تواتر مراحل مرتبة مسبقاً بل عبر انحلال المجتمعات عن طريق العملية الجدلية. لا يمكن لنمط الإنتاج المعين تبديل نفسه إلى نمط آخر طالما أنه يحتوى على تناقضات ستؤدى إلى فنائه.

ما هو، إذن، دور التحليل التاريخى؟ يرى أحد دعاة البنيوية الماركسية، وهو الأنثروبولوجي ليجروس، أن الدور يتمحور حول إنشاء نظريَّة لنمط إنتاج معين ومن ثم استخدماها لتحليل أوجه الشبه ومظاهر الاختلاف في المجتمعات المعاصرة والمنقرضة … “التطور العام من الممكن شرحه فقط في حالة التأكيد على المتطلبات الأساسية لكل نمط إنتاجي حيث أنه وللكشف عن جذور نمط إنتاج س لا بدَّ من الكشف عن / أو إعادة تركيب الشروط التاريخية التى ظهرت فيها متطلبات س سوياً في وقت متزامن”. ويرى لجروس أن مفهوم نمط الإنتاج وفق المحتوى الذى يستخدمه فيه ماركس يرتبط بالطبيعة الجدلية للتاريخ. ويمثل نمط الإنتاج في رأى ليجروس “معياراً متميزاً بالنسبة لعلم التاريخ، ويسمح لنا بتركيب تواتر تطوري، أي تعاقب لأنماط الإنتاج”.

الإتجاه المادي الجدلي

النموذج الثالث للمعالجات الماركسية لإشكالية التطور الثقافي يتمثل في الاتجاه المادي الجدلي. معظم الكتابات المتخصصة المعتمدة في تحليلاتها على منطق المادية الجدلية قد تشربت بالتفسير للماركسية اللينينية كما قدمه جوزيف ستالين. ينطلق هذا التفسير من مفهوم التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية بحسبانه معياراً موضوعياً للمقارنة بين الأنظمة الثقافية، وتشخيص تلك المرحلة من مراحل التطور التاريخى التى تجتازها. يبيح ذلك إمكانية الكشف عن الظواهر العامة للأنظمة الثقافية في هذه البلدان، كما يبيح في آن واحد تمييز الاختلافات السائدة بينها داخل نطاق التشكيلة نفسها، فكل تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية- الاقتصادية هي كيان ثقافي خاص له قوانينه الخاصة لنشوئه وتطوره وتحوله إلى تشكيلة أخرى. ومن المسائل التى تعود إلى بنية التشكيلة هي مسألة الترابط بين القاعدة والبناء الفوقي، بين الاقتصاد والسياسة. إن نمط الإنتاج المعين هو أساس كل تشكيلة من التشكيلات، فإذا حل محل هذا النمط نمط آخر للإنتاج فإن هذا يؤدى إلى حلول تشكيلة محل تشكيلة أخرى. وحينما يتغير مستوى نمط الإنتاج ودرجة تطوره تتغير تبعاً لذلك مراحل تطور التشكيلة نفسها، ولكن إلى جانب نمط الإنتاج السائد الذى يعين وجه التشكيلة المعينة ويظهرها، فمن المحتمل أن توجد هناك داخل التشكيلة، وهى موجودة فعلاً، أنماط خاصة من اقتصاد رواسب نمط الإنتاج القديم، أو سمات تشير إلى بوادر نمط الإنتاج الجديد.

ومن ثم تأتى القراءة التى قدمها ستالين في كتابه “المادية الجدلية والمادية التاريخية” لتقول بتعاقب خمس تشكيلات اجتماعية اقتصادية أساسية: النظام المشاعى البدائي، ونظام الرق، والنظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، وأخيراً النظام الشيوعي الذى تمثل الاشتراكية مرحلته الأولى. تعاقب التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية هذه هى مسيرة التطور التاريخى والمراحل الأساسية لتقدم الثقافة.

ومن ثم فإن كتابات دعاة الاتجاه المادي الجدلي تبدو بمثابة تمارين نمذجية (تيبولوجية) في معظمها يتم فيها الإسدال على انتماء هذا أو ذاك من المجتمعات المعروفة حالياً أو من واقع السجل الآثارى إلى أي من التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية المذكورة. وكثيراً ما يشير أصحاب الاتجاه المادي الجدلي إلى خطأ زملائهم غير الماركسيين أو الماركسيين غير الملتزمين بمنطق الاتجاه المادي الجدلي لاستخدامهم نماذج (تيبولوجيات) اجتماعية تقسم المجتمعات وفقاً، لما يراه الماديون الجدليون، خصائص ثانوية وتافهة. هذا في الوقت الذى يتبنى فيه الماديون الجدليون تفسيراً لنمذجتهم (تيبولوجياتهم) الخاصة وفق مصطلحات الجدل التاريخى. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن علماء الآثار الماديين الجدليين يختبرون، لدى معالجتهم لمجتمعات بلاد الرافدين القديمة، المعطيات بحثاً عن بينات تشير إلى أنماط الإنتاج، وتوزيع الفائض الاقتصادي، ودرجة الاستغلال الاقتصادي الخ. انه في حالة استثناء هذه المفاهيم فسنلاحظ أنَّ العديد من تلك التحليلات المادية الجدلية لا تيدو مختلفة كثيراً عن الدراسات الايكولوجية الثقافوية للمادة نفسها.

لقد أسهم علماء الآثار الماديون الجدليون ولا شك في إثراء التحليل الحديث للتطور الثقافي. إلا أن الموقف النظري العام لمعظم أعمالهم ينحصر في قناعتهم بأن الإجابة على الأسئلة الهامة الخاصة بإشكالية تطور الثقافة قد تم تقديمها ولم يتبق أمام البحث العلمي سوى التعرف على البينة التى تثبت صحة النظرية السياسية الماركسية اللينينية من واقع المعطيات الاثنوغرافية والآثارية.

أخيراً يمكن القول بإيجاز أن التحليلات والتفسيرات الوظيفية التى تقدمها المادية الثقافوية والإيكولوجيا الثقافوية تلجأ في معظمها إلى وصف غير مثبت للكيفية التى أدت بها المجتمعات القديمة وظائفها.

تؤكد معظم التحليلات التى قدمت لمنطق التحليل الوظيفي على حقيقة الدور المفيد الذى يمكن أن يقوم به بالنسبة لوصف المعطيات، ولاستحداث المزيد من البحث المفيد، لتوجيه الاهتمام إلى شكل مهم من البينات (علم النبات الإحاثى). لكنه من جانب آخر فإنه لا يمكن لهذا التحليل أن يقدم تفسيرات شاملة للأصول أو القوانين الثقافية التى يعتقد الكثيرون بأنها تؤلف هدف الأنثروبولوجيا الحديثة. ويبدو أن البنيويين الماركسيين والماديين الجدليين يشاطرون زملاءهم الماديين الثقافويين والإيكولوجيين الثقافويين هذا الفشل.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى