الموقف العربي من ” صفقة القرن” : تكتيك الرفض وإستراتيجية القبول

.
وليد عبد الحي

القبول العربي بصفقة القرن يتوارى خلف ” جعجعة ” لغوية لا يترافق معها أي سلوك عملي يحيل الرفض اللفظي الى مقولات قابلة للتصديق، ففي الغرف المغلقة واللقاءات السرية يتم ترتيب القبول وخطوات التنفيذ، ويُسمح للطرف العربي في اطار هذه اللقاءات ببعض الجعجعة لتخدير الشارع العربي دون ان يرافق الجعجعة أي ” طحن”، فالمجتمع العربي يعفو عن “المغتصب” إذا قبل الزواج من الضحية…انه صناعة الواقع لإكراه الآخر على القبول.
إن مؤشرات القبول العملي بالصفقة تتضح جلية في استمرار الاستيطان ، واستعدادات بارغواي وغواتيمالا ورومانيا وتصريحات الرئيس التشيكي والهندوراسي والفلبيني والجنوب سوداني لنقل سفاراتهم الى القدس المحتلة ، وتصويت جزر المارشال ونورو وبلايو وتوغو الى جانب الموقف الامريكي في الامم المتحدة لنقل السفارة الى القدس.. يضاف لذلك موجة التطبيع المتلاحقة بين الدول العربية واسرائيل من زيارات رسمية وسياحية ولقاءات ” أكاديمية ” وصولا لاجراء تدريبات عسكرية مشتركة ؟ ناهيك عن لقاءات سرية تجسيدا لنمط دبلوماسي ساد العالم العربي منذ قيام اسرائيل قبل سبعين سنة تقريبا.
ومنذ مجيء سلطة اوسلو وعملية ” صهر الاقتصاد الفلسطيني ” في المنظومة الاقتصادية الاسرائيلية والتي تتزايد وبطريقة ممنهجة جعلت 92 % من تجارة الضفة الغربية هي من خلال المؤسسات التجارية الاسرائيلية( مقابل 6% مع العرب و 2% مع بقية دول العالم) ، ناهيك عن ارتفاع عدد العاملين الفلسطينيين من 40 الف عامل عام 2003 الى 130 الف عام 2017 يعملون في المنشآت الاسرائيلية، وتشير دراسة ل( Institute for Global Change) ان حجم التجارة الاسرائيلية مع دول مجلس التعاون الخليجي يصل الى حوالي مليار دولار عبر طرف ثالث هو الاردن او تركيا او بعض دول الاتحاد الاوروبي،وتشكل الصادرات الاسرائيلية للدول العربية ما يوازي 10% من الصادرات الاسرائيلية، وتقف تركيا (الرافضة لصفقة القرن) على راس الشركاء التجاريين لاسرائيل بحوالي 4.3 مليار دولار ، كما أن تحويلات العاملين المصريين في اسرائيل تقارب 200 مليون دولار سنويا، وهو ما يعني ان حجم التجارة الاسرائيلية مع ” الرافضين لصفقة القرن” في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يصل الى حوالي 10 مليار دولار.
والتساؤل المنطقي بعد ذلك هو هل ذهاب الدول العربية الى البحرين منفصل عن كل ما سبقت الاشارة له ام انه تكريس لواقع يجعل عملية الرفض ” اللفظي ” لصفقة القرن هي قبول بتشكيل الواقع الشرق اوسطي لنصل لنقطة الحوار حول التنفيذ والذي ستأخذ فيه اسرائيل ما تريد ثم تتنصل من المطلوب منها رغم محدوديته التامة كما حدث في كل الاتفاقيات السابقة، وعندها سيقول الدبلوماسيون العرب ، ماذا نفعل وموازين القوى ليست لصالحنا..ولكن ألستم انتم من هيأ الواقع لهذا الميزان المختل؟ 
أن تاريخ الدبلوماسية العربية منذ اتفاقيات الهدنة عام 1949 مرورا بلاءات الخرطوم الشهيرة والاستمناء السياسي الذي رافق حرب أكتوبر ومبادرة بيروت مضافا لها معاهدات التسوية تؤكد ان اسرائيل لا تعير أدنى اهتمام بما نقول ( فكما يقول رفائيل باتياي في كتابه ” العقل العربي” بان العرب يعتقدون شيئا ويقولون شيئا ثانيا ويفعلون شيئا ثالثا”، ويؤكده الباحث الياباني كاتاكورا في كتابه ” اليابان والشرق الاوسط” من ان العرب لا يرون ضرورة لتوافق العمل مع القول ، فبعض الرفض العربي لصفقة القرن هو توطئة للقبول بها، فحرب اكتوبر عام 1973 مهدت للاعتراف باسرائيل، والتناحر في المبادرة العربية في بيروت على بند اللاجئين كان تمهيدا لتهميشه ، ثم بدأ الانتقال الى توجيه الاهتمام العربي بمواجهة ايران وتهميش الموضوع الفلسطيني تدريجيا سياسيا واعلاميا الى حد ادراج المقاومة الفلسطينية في قوائم الارهاب، ثم بدأ تنفيذ ما يهم اسرائيل فقط وسقط كل ما يطالب به العرب رغم هامشيته.
فوق ذلك ، ما معنى رفض سلطة التنسيق الامني الفلسطينية للصفقة؟ فهي التي تكشف لنا عن التوسع الاستيطاني يوميا حيث لا تسيطر السلطة الا على 14% من الضفة الغربية وبشكل غير مباشر، وهذه السلطة هي التي تمنع أي شكل من أشكال المقاومة للاحتلال، وهي التي تقطع رواتب من يقاوم او يستشهد او يعتقل، وهي التي تربط عودتها لغزة بخلع اسنان المقاومة فيها، وهي التي تجعل من المدن الفلسطينية نقاط الجذب للريف الفلسطيني لتسهيل التوسع الاستيطاني في مناطق الريف…الخ، وهي التي ترفض الانتخابات الرئاسية لتحديد مدى مشروعيتها التي انتهت منذ عشر سنوات تقريبا، وهي التي وعدت بكشف من قتل عرفات (خلال ايام) ولم تفعل ، وهي التي وعدت بالذهاب للمحاكم الدولية ولم تفعل وهي التي اتخذ مجلسها المركزي قرارا بوقف التنسيق الامني ولم تنفذه….الخ ، اليس هذا قبول فعلي رغم الرفض اللفظي؟
نعم نسمع جعجعة عربية وفلسطينية ولا نرى طحنا…انهم كدول عربية-في الغالب- وكسلطة تنسيق أمني ، يقبلون بالصفقة، فهم مساهمون في تهيئة الواقع فعليا للقبول اللاحق، وما لاءات الخرطوم بعيدة…فلا تقل لي ولكن دعني أرى، التفاوض في معناه الحقيقي هو فن توظيف متغيرات القوة للحصول على اكبر قدر من المكاسب او اقل قدر من الخسائر، فإذا تخلى المفاوض عن ” متغيرات القوة” فقد كل أدوات التأثير، فنحن لسنا في سوق عكاظ لتحديد من ” ابلغ الشعراء”..بل نحن- في الحياة الدولية- في حلبة مصارعة تعتمد القوة ودراسة نقاط القوة والضعف في الطرف الآخر وتوظيفها، ويكفي أن نتأمل التفاوض الأمريكي الإيراني( في الميدان أولا قبل طاولة المفاوضات، تتخلى امريكا عن الاتفاق النووي فتواجهها ايران بدعم حلفائها، تفرض أمريكا حصارا على نفط ايران، تبدأ عمليات ارباك نقله في بحر عمان او من مضيق هرمز،…الخ) وهكذا…
مقابل المشهد السابق ، على قطاع غزة- كنقطة الرفض الفعلي لصفقة القرن- ان يستعد لمزيد من الحصار السياسي والاقتصادي الى حد الخنق التام ، ومزيد من عمليات الاستنزاف العسكري كلما لاحت فرصة مواتية لإسرائيل،ومزيد من سعي سلطة التنسيق الامني للعمل على تجفيف المياه من حول اسماك المقاومة بالتخريب الداخلي، والهجوم الاعلامي، وزرع الفتنة بين الفصائل في قطاع غزة، لأن كل ما سبق يندرج في اطار الدبلوماسية العربية لتهيئة المسرح لإعلان القبول بالصفقة..
لقد تم اعداد نص المسرحية، وتمت صياغة السيناريو، وتحدد دور كل ممثل ، واعدت الموسيقى التصويرية، ونحن الآن في مرحلة “الديكور”..الا إذا ” انفجر المسرح”…ربما.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button