تقنين مفهوم الأمن القومي

حول تقنين مفهوم الأمن القومي

خلاصة:

– الأمن القومي العربي وموضعه من نظرية الأمن في التقاليد المعاصرة.

– مفهوم الأمن القومي في التقاليد العربية، متابعة تاريخية.

– عناصر القوة والضعف في الوجود الاستراتيجي العربي.

– الامتداد الإقليمي للمنطقة العربية وخصائصه.

– طول الشواطئ العربية وعبء الدفاع البحري عن الحدود الإقليمية.

– منطقة وادي النيل وحالة التبعية بصدد موارد المياه.

– كثافة الكتل الديموجرافية المحيطة بالمنطقة العربية.

– سياسة شد الأطراف والتماسك في الجسد العربي.

– تقنين مبادئ الأمن القومي العربي.

– الأمن القومي العربي وصراع الإرادات العربية حول الوطن العربي.

 

– الأمن القومي العربي وموضعه من نظرية الأمن في التقاليد المعاصرة

 أن مفهوم الأمن القومي ورغم أنه لا يزال يعبر عن أحد أبعاد السياسة الإقليمية للدولة إلا أنه قد خضع لتطور حقيقي من حيث أبعاده وحدوده. مما لا شك فيه أن التقدم التكنولوجي الرهيب كان لا بد وأن يؤثر في تطور المفهوم. كذلك قد رأينا من جانب آخر كيف أن الممارسات المعاصرة انتهت بتوسيع دائرة تطبيق المفهوم بحيث لم تعد الدولة العملاقة الكبرى تربط المفهوم فقط بإقليمها بالمعنى الواسع بحيث جعلت من مفهم الحدود مرادفا تقريبا لكلمة النفوذ. مما لا شك فيه أن هذه إساءة لاستخدام المفهوم لكنها حقيقة قائمة يجب أن نتعامل معها.

على أن الناحية الأخرى التي يجب أن تكون موضع اهتمام الفقه العربي بصفة خاصة هي الربط بين مفهوم الأمن القومي وإرادة الدولة القومية. المفهوم تاريخيا برز تعبيرا عن تكامل الإرادة القومية حيث الإقليم يصير وعاء الشعب وكلاهما علامة وحدود للإرادة القومية السياسة بحيث تصير الإرادة قومية لأنها تتحدث باسم الشعب وتمرح في جنبات الإقليم الذي هو حدود الإرادة لذلك الشعب. ومن ثم إن لم توجد الدولة أي الإرادة القومية فلا موضع للحديث عن أمن قومي. والدولة هي التعبير القانوني عن الشعب. بحيث أن كل شعب له دولة ودولة واحدة مستقلة التي لا تتعد ذات الإرادة المطلقة وصاحبة السيادة على جميع أجزاء الإقليم القومي لتلك الدولة الواحدة. ومن ثم فطالما أن الشعب العربي لم يكتمل بعد في شكل دولة واحدة قومية فكيف الحديث عن أمن قومي عربي؟ تساؤل أطلقه من يمثل مفهوم الطائفية – وبصفة خاصة موارنة لبنان بخبثهم المعروف. فهم يزعمون أنه لا يوجد أمن قومي عربي لأنه لا توجد دولة عربية واحدة. وهم يرفضون الحديث عن العروبة  Arabisme ويفضلون كلمة Arabité بل ولم يتردد علماء منهم أن يعلنوا ذلك بصراحة مطلقة في ندوات دوليت نذكر منها على سبيل المثال – وفي حضورنا- ندوة التعاون الدولي بين دول البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا في شتاء العام الماضي. فأين من هذا الحقيقة العلمية؟

قبل أن ننطلق في تحليل مفهوم الأمن القومي العربي علينا أن نذكر بملاحظتين: (الأولى) وهي الفارق الجوهري بين وجود المفهوم من جانب ووضع إطار من الجزاءات التأديبية الجماعية والفردية لعدم احترام المبادئ التي يفرضها المفهوم من جانب آخر.

هناك حقيقة يجب أن نسلم بها: فرض احترم مفهوم الأمن القومي يرتبط بالإرادة القومية النظامية لأنها هي وحدها القادرة على أن تسأل الآخرين لو حدث اعتداء من جانبهم على مبادئ الأمن القومي وما تفرضه هذه المبادئ من قواعد سلوكية. ولكن الوصول إلى تلك النتيجة من أنه أن لم توجد دولة واحدة مرتبطة بمفهوم الأمن فلا موضع للحديث عن أمن قومي هو نوع من السذاجة الفكرية.

(أ) إذا كان الأمن القومي يرتبط بالإقليم القومي فليس للدفاع عن الإقليم في ذاته وإنما للدفاع عن الكيان القومي أي الشعب أو الأمة التي ترتبط بذلك الإقليم. الأمن هو حالة نفسية ترتبط بمعنويات المواطن والجماعة التي هي وحدها محور الأمن. ومن ثم حيث توجد جماعة قومية، حتى وهي لم تنصهر بعد في شكل دولة واحدة لتعبر عن ذاتها من خلال إرادة دولية واحدة فإن مفهوم الأمن القومي له موضعه.

(ب) بل إنه حيث يصير أكثر إلحاحا لأن احتمالات الاعتداء والاغتصاب الإقليمي من الآخرين أكثر أغراء. عدم وجود الدولة أو الأداة الحكومية القادرة على الدفاع ولو من خلال الهجوم المفاجئ الوقائي في عالم تسوده قوانين الغابة لا بد وأن يغري الخصوم والأعداء بل والأصدقاء لأنه ليس أدعى للإغراء من ضعف الفريسة. هل قصة الاسكندرونة في حاجة إلى كثير من التفاصيل؟

(جـ) ولماذا نذهب بعيدا؟ ألا تتحدث أوروبا عن أمن أوروبي؟ وهل أوروبا دولة واحدة؟ أم إنها لا تزال تضم العديد من الكيانات السياسية؟ بل أن من الصعب الحديث عن شعب أوروبي واحد بحيث يمكن القول بأن الأمن الأوروبي ليس إلا أمنا إقليميا يتستر خلف مفهوم الأمن الأوروبي.

كيف فرض الأمن الأوروبي نفسه على السياسة المعاصرة؟

العودة إلى تحليل هذا المفهوم يبرز بوضوح مدى الاستهتار بالمصالح العربية وذلك مرده الحقيقي عدم وضوح الرؤية من جانب القيادات العربية من جانب وعدم تكامل الفقه السياسي العربي إزاء متغيرات الحياة الدولية المعاصرة من جانب آخر.الأمن الأوروبي أثير بصدد مشكلتين: الأولى عندما حدث انتشار النفوذ السوفيتي في المنطقة العربية وبصفة خاصة في أفريقيا الشمالية. في صباح الثلاثاء الموافق 14 فبراير عام 1970 فوجئ العالم بتقرير بعنوان “أوروبا ومشكلة الأمن الدولي في البحر المتوسط”. الذي يعنينا من هذا التقرير هو الخلط المتعمد بين الأمن الإقليمي لحوض البحر المتوسط حيث يترابط الأمن الأوروبي بالأمن العربي وما يسميه التقرير بالأمن القومي الأوروبي. فالتقرير يعلن بأن الأمن القومي لأوروبا ابتداء من جبل طارق حتى قبرص لا يمكن أن يتحقق إذا كانت المنطقة الجنوبية أي حوض البحر المتوسط الجنوبي تسيطر عليها قوى معادية أو قوى دخيلة على البحر الأبيض المتوسط.على أنه أمر له دلالة بصدد أولئك الذين يشككون في إمكانية الحديث عن أمن قومي عربي. إن هذا التقرير يؤكد أيضا إنه لا موضع للحديث عن أمن قومي عربي إذا كانت هذه البلاد العربية تواجه بسياسة أوروبية تتغلب عليها عوامل السيطرة والانتقام. وينتهي التقرير بتأكيد أن الأمن والاستقلال لشاطئ البحر المتوسط هو حقيقة كاملة. على أن المناسبة الثانية للحديث عن الأمن الأوروبي ترتبط بالمشكلة البترولية. لقد أضحى يتردد على كل لسان في القيادات الأوروبية وبصفة خاصة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا أن تدفق البترول العربي وخضوعه لمبدأ العرض والطلب هو أحد عناصر الأمن القومي الأوروبي. فبأي حق مثل هذا الحديث؟ ولكن أليس من الغريب أن يسلم الفقه الأوروبي بوجود أمن قومي عربي بينما بعض مفكري لبنان بل والذين يعملون لحساب بعض مراكز البحوث العربية يشككون فذلك؟

(د) على أن الأمن القومي العربي يملك أداته. فجامعة الدول العربية هي تنظيم سياسي قومي. لقد طرحنا في غير هذا الموضوع ضرورة التمييز بين المنظمات الإقليمية المرفقية وتلك التي يجب أن نصفها بالتنظيمات الإقليمية القومية. الأولى هي تلك التي تربط مجموعة من الدول تنتمي إلى إقليم واحد ولكن تدور حول تنظيم المرافق الإقليمية. ولعل النموذج الواضح لذلك هو التنظيم الإقليمي المعروف في جنوب شرق آسيا.ولكن هناك إلى جانب ذلك تنظيمات إقليمية هي تعبير عن وحدة قومية. إنها ترتبط بمجتمع قومي لم يستطع بعد أن يخلق أداته القومية الواحدة ومن ثم يصير التنظيم الإقليمي بمثابة خطوة وسيطة بين الفرقة والوحدة. ولعل النموذج الوحيد المعبر حقيقة عن هذا المفهوم هو جامعة الدول العربية. وقد يقترب من هذا النموذج السوق الأوروبية المشتركة وكذلك منظمة دول أمريكا اللاتينية. الخلاصة أن جامعة الدول العربية هي تعبير نظامي عن الدولة العربية الواحدة ولوفي مرحلة التكوين لأنها تقوم على أساس الانتماء العربي والسعي نحو خلق الإرادة العربية الواحدة وليس الهدف منها إدارة المرافق الإقليمية، إن هذه تدخل ضمن أهداف منظمات أخرى مستقلة عن جامعة الدول العربية. فهل لا نستطيع رغم ذلك الحديث عن أمن قومي عربي؟

الملحوظة الثانية والتي يجب أن نطرحها منذ البداية تدور حول تسييس المفاهيم العلمية. مما لا شك في أن علم السياسة يملك أيضا مفاهيمه الوضعية الثابتة وليس من حق أي مدع أن يحيل تلك المفاهيم إلى ستار مصطنع يستطيع من خلاله أن ينال من المدركات الثابتة. لقد رأينا في غير هذا الموضع أن هذه هي سياسة الاستعمار الجديد.

الانطلاق من قيم لا موضع للتشكيك في صحتها للوصول إلى جوهر الجسد السياسي وعقب فترة تريث واستعداد القيام بعملية تضخيم للقيم الزراعة الجديدة بحيث تطغي على القيمة العليا القومية فإذا بهذه تتدهور إلى مستوى القيم الفرعية التابعة وهكذا تستطيع هذه العملية تحقيق حالة شلل كاملة في كل ما له صلة بالبعد المعنوي للوجود السياسي. وهكذا يصير الجسد السياسي وقد فقد قدرته على التماسك حيث مفاصله قد أصابها نوع من التحلل أو التيبس، وإحدى أدوات الاستعمار الجديد هي هذه الأبواق التي دون وعي منها حقيقي بخطورة ما تؤديه ترقص على نغم الاستعمار الجديد تارة باسم التنمية وتارة أخرى باسم الاشتراكية.

لا نريد أن نتجاوز الموضوع الذي حددناه ولكننا نريد أن نلفت النظر إلى خطورة عدم تكامل فقه سياسي عربي بخصوص هذا الموضوع الذي نطرحه. فالغموض حوله هو وحده الذي يسمح لهؤلاء بوعي أو بحسن نية أن يمارسوا حركاتهم البهلوانية دون أن يستطيع غير المتخصص وذلك دون الحديث عن رجل الشارع أن يكشف المستور وأن يبرز حقيقة النوايا.

والواقع أن هذه الملحوظة الثانية تطرح تساؤلين أساسيين:

السؤال الأول: ما هي وظيفة الأمن القومي؟

السؤال الثاني: وما هي جزاءات الإخلال بمفهوم الأمن القومي؟

الناحية الأولى تقودنا إلى تقاليد نظرية الأمن القومي في المجتمعات المتقدمة. لقد رأينا في موضع آخر كيف أن هذه التقاليد نبتت وترعرعت في الفقه الأوروبي القاري. لم تشعر بحاجتها إليها السياسة البريطانية بحكم وظروف خصائص موضعها الجغرافي. كذلك فإن السياسة الأمريكية لم تكتشف هذه التقاليد وتتعامل معها إلا منذ فترة قصيرة. وذلك رغم أن الفقه المتداول يغلب عليه الطابع الأمريكي. ولعل هذا يفسر مرة أخرى مدى أهمية هذه التقاليد وخطورة وظيفة هذا المفهوم. إن نظرية الأمن القومي التي تكون في التقاليد المعاصرة أحد الأبواب الثابتة لنظرية القيم السياسية تسمح بتحقيق هدفين أساسيين: أولهما رضوح حدود الحركة القومية في لحظات الخطر والضرورة. فالأمن القومي يعني في جوهره مجموعة من القواعد حيث تجاوزها لا بد وأن يقابل بطريقة مباشرة بإجراء عنيف لحماية الكيان الذاتي. وهو بهذا المعنى يرتب مجموعة من القيم القومية بطريقة متصاعدة تسمح بتحديد الهام فالأقل أهمية فالأكثر أهمية ومن ثم لا موضع للتردد حيث تتعين التضحية بإحدى هذا القيم. ومن ثم فلا موضع لغموض أو اجتهاد. إن الوعي الجماعي هو وحده القادر على إعادة تشكيل تلك القيم. والوعي الجماعي يصير قائده المنظر السياسي الذي وحده يستطيع بقدرة معينة على أن يتجاوب ويعبر عن الضمير القومي من جانب وعن حقيقة التطور العام الذي يحيط بالمجتمع القومي من جانب آخر. إنه بمثابة الفقيه في تقاليدنا الشرعية حيث يتولى استخلاص القواعد السلوكية عن المبادئ القرآنية. ترى لو كان هذا المفهوم واضحا كانت قد حدثت مأساة كامب ديفيد؟ وترى لو أن هذا المفهوم محدد المقاطع في إدراكنا القومي كنا قد عاصرنا التناقض الغريب إزاء الحرب العراقية الإيرانية والذي نعيشه في هذه اللحظة؟ وهكذا يصير الجزاء هو الوجه الآخر للعملة الوحدة. إن الزعيم أو القائد الذي يخرج على تقاليد الأمن القومي يجب أن يحاكم أمام شعبه بل وبتهمة الخيانة العظمى. ولكن متى تقدر لنا تلك التقاليد؟

والخلاصة أن مفهوم الأمن القومي مرتبط وجودا وعدما بتكامل المجتمع القومي. فرض الجزاء على عدم احترام قواعد الأمن القومي يمثل مرتبة أكثر تقدما: تفترض التكامل النظامي والإرادة القومية المتجانسة ذات الفاعلية في الداخل والقدرة الحركية في الخارج.

 

– مفهوم الأمن القومي في التقاليد العربية، متابعة تاريخية:

من الطبيعي قبل أن نحاول صياغة المفهوم أن نطرح هذا التساؤل: هل القيادات العربية في تاريخها الطويل ومنذ أن استطاعت أن تخلق إمبراطورية كبرى اكتشفت هذا المفهوم بشكل أو بآخر ومن ثم قبلت واحترمت دلالاته؟ لقد سبق أن رأينا كيف أن يندر وجود نموذج سياسي لدولة لم تشعر أن أحد واجباتها هو حماية الأمن والطمأنينة للمجتمع السياسي الذي تمثله وتتحدث باسمه. كذلك سبق ورأينا أن تحول هذا المبدأ إلى مفهوم استراتيجي حركي في علاقة الدولة القومية بإقليمها الطبيعي وجعل ذلك المفهوم أساسا لسياسة استفزازية أو عدوانية إنما يعود إلى التقاليد الأوروبية، فأين من كل ذلك تقاليد المنطقة العربية؟ مما لا شك فيه أن الدراسة الجادة للتصور الاستراتيجي العربي وبصفة خاصة خلال فترة الحكم الأموي لم يقدر لها بعد أن تتكامل ولا تزال في حاجة إلى المؤرخ العملاق القادر على أن يتصدى لها. ولكن رغم ذلك فإن بعض الحقائق المتناثرة تصلح لأن تكون نسيجا يسمح لنا بمقدمة تاريخية لهذا الموضوع ما طرحناه:

(أ) استقراء تاريخ مصر قبل الغزو العربي الإسلامي وخلال فترة الحكم الفرعوني تطرح أول صورة واضحة لمعنى الأمن القومي. حكام مصر فهموا ضعف إمكانيات الدفاع عن الحدود الشرقية لمنطقة الدلتا. منطقة الدلتا تحيط بها أراضي صحراوية لا تعرف أي عوائق طبيعية للدفاع وتمتد حتى جنوب الشام. وخيرات مصر الحقيقية توجد في منطقة الدلتا دخول منطقة الدلتا يعني تخريبا حقيقيا لقنوات الري ومسالك الاتصال المائي. وهكذا تبلور مبدأ واضح في سياسة كبار ملوك الفراعنة أساسه أن أي قوى مجاورة وتوجد على حدود مصر الشرقية ترفض الانصياع للإرادة المصرية يجب أن تستأصل وبلا رحمة. وهكذا تحتمس ورمسيس كان يخرج كلاهما بقواته سنويا ليقضي على أي تجمع وعلى أية قوات ذات وزن معين في شمال الشام. بل يصل في حروبه الدورية حتى جبال طرطوس في جنوب الأناضول.

مرد ذلك أن مصر ما كانت تستطيع الدفاع عن حدودها ابتداء من سيناء الخبرة اللاحقة تثبت أن مصر لم تنتصر ولو في حرب واحدة شنت عليها في داخل سيناء. فلنتذكر أحمس وعقب الفتح الإسلامي “طومان باي”. بل العودة إلى قصة التعامل بين حوض وادي النيل والمنطقة المحيطة به تثبت أن الملكة زينوبيا بدورها فهمت المبدأ الذي سوف نعود فنراه مع بداية الفتح الإسلامي المرتبط بالتلاحم المباشر بين أرض الشام وأرض مصر من الناحية الاستراتيجية.

(ب) وهذا يقودنا إلى مبدأ أخر برز واضحا في سياسة الرسول (ص). سبق وذكرنا أن تطور الفكر الاستراتيجي العربي لم يخضع بعد للدراسة المتأنية العميقة والموثقة. إلا أن متابعة الأوضاع المرتبطة بنشر الدعوة الإسلامية وأيضا منذ بداية تلك الدعوة تؤكد مبدأ آخر فهمته القيادات العربية بصورة واضحة يدور حول أن فكرة التقوقع الإقليمي لا بد وأن تنتهي بالاستئصال القومي. تاريخ الصراع الفكري خلال القرن السابق على الدعوة الإسلامية وما ارتبط بذلك من غزو أجنبي لمنطقة شبه الجزيرة العربية لا يزال بدوره في حاجة إلى الدراسة التاريخية. إلا إنه مما لا شك فيه أن سياسة الرسول (ص) من جاء من بعده وقبل الدولة الأموية أي الدولة الإمبراطورية هو الذي يفسر سياسة نشر الدعوة. لو ظلت الدعوة الإسلامية متقوقعة في شبه الجزيرة العربية محصورة بين إمبراطورية كسرى من جانب والروم من جانب آخر لانتهت تلك الدعوة بالاستئصال. نشر الدعوة الإسلامية والاتجاه نحو الشرق من جانب والشمال من جانب آخر والغرب من جانب ثالث إنما ينبع أيضا من مفهوم استراتيجي تعود مصادره إلى الخبرة التي عرفتها شبه الجزيرة العربية خلال القرون الستة السابقة على الدعوة المحمدية.

(جـ) العلاقة بين مصر والشام من حيث الاستقرار السياسي هي علاقة عضوية ودائمة. معنى ذلك إنه إن لم تتحكم في تلك المنطقة التي تشمل كلا من مصر والشام قوة واحدة متجانسة فلا بد وأن تنتهي تلك القوة بأن تستأصل. التجانس ليس فقط لصالح مصر أو لصالح الشام وإنما هو نتيجة ضرورية ولازمة لصالح كلا الإقليمين. عمرو بن العاص كان أو من فهم ودافع عن هذه الحقيقة الاستراتيجية. وهو في هذا إنما انتفع بالمفاهيم التي قدمتها له من قبل ذلك الملكة زينوبيا. عندما خشى عمر بن الخطاب مغبة الإقدام على غزو مصر والدولة الإسلامية لا تزال ناشئة لم تستقر بعد لا في الشرق ولا في الغرب أجابه عمرو بن العاص ببعد نظر وحنكة قيادية: إذا كان عمر بن الخطاب يريد أن يحمي الوجود الإسلامي في الشام، فعليه أن يحمي جناحه الأيسر في مصر وإلا انتهى بأن فرضت عليه العودة إلى شبه الجزيرة ومن ثم فعليه إما أن يضم مصر وإما أن ينسحب من أرض الشام. هذا المفهوم الذي صاغه عمرو بن العاص في النصف الأول من القرن الأول الهجري هو الذي عاد مرة أخرى ليسيطر على جميع تقاليد التعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط سواء فترة الحروب الصليبية أو في القرن التاسع عشر.

        (د) والواقع أن مفهوم الآمن القومي في منطقة الشرق الأوسط اختلط بمفهوم الوظيفة الإقليمية لمصر.من الطبيعي أنه عقب أن استوعبت منطقة وادي النيل في الإمبراطورية الإسلامية أن ينصهر مفهوم الأمن القومي المصري في إطار الدولة الكبرى. ولكن عقب سقوط بغداد أمام هولاكو وما ارتبط بذلك من تفتت في المنطقة العربية وبصفة خاصة خلال فترة الخليفة المستعصم انتقلت القيادات الفكرية إلى القاهرة. لم تنتقل إلى دمشق حيث المخاطر لا تزال قائمة وحيث احتمالات أن تخضع أرض الشام لما خضعت له أرض بغداد قائمة. ومنذ ذلك التاريخ بدأ تطور معين يدور حول مفهومين متلازمين: قيادة فكرية لمصر من جانب ثم ترابط بين مصر والشام والحجاز أيضا من جانب آخر. هذه الفترة هي التي تستطيع أن نبدأ بها تاريخ بروز وظيفة مصر الإقليمية التي سوف يقدر لها أن تكتمل في صورة واضحة ومقننة خلال الحروب الصليبية. ولنتذكر أن الحملة الصليبية على مصر والتي انتهت بالإخفاق لم يكن مردها إلى فهم الملك الفرنسي أنه لن يستطيع أن يحمي تواجده في الشام إلى إذا ضرب القوة المصرية في وادي النيل. التطورات اللاحقة جميعها لم تفعل سوى أن تؤكد المفهوم وإن كانت قد وسعت من بعض عناصره خلال حكم على بك الكبير ورغم فشله ثم خلال حكم محمد علي حيث اتسع مفهوم الترابط الاستراتيجي ليشمل كلا من اليمن والسودان. مما لا شك فيه أن تطور وسائل الاتصال ساعد على ذلك ولكن يجب أن نعترف أن بعد نظر حاكم مصر على وجه الخصوص هو عنصر أساسي في اكتمال تلك النظرة الشاملة. ويكفي أن نتذكر مقارنة موجزة بين فترة حكم هارون الرشيد وفترة حكم محمد علي بالنسبة للسودان. فخلال حكم هارون الرشيد كانت توجد في السودان دولة قبطية لم يفكر الخلفية العباسي في أن يضع حدا لوجودها رغم أنه كانت تحيط به قوى ثلاث تناصبه العداء ومن منطلق تصورات دينية واحدة: بيزنطه في الشمال الشرقي. الدولة الكاثوليكية في الشمال الغربي، ثم الدولة القبطية في الجنوب، على عكس ذلك فإن محمد علي فهم أن الوظيفة الإقليمية لمصر في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن تنفصل عن التحكم في القسم الجنوبي من وادي النيل.

(هـ) من النواحي الأخرى التي تطرح علامات استفهام بصدد الأمن القومي للمنطقة العربية من خلال المتابعة التاريخية هو حول العلاقة بين شمال البحر المتوسط وجنوبه.

العودة إلى التاريخ الاستراتيجي للتعامل مع المنطقة قبل الإسلام يسمح لنا بأن نلحظ كيف أن حركات الغزو كانت تأتي دائما من الشمال نحو الجنوب وكيف ترسب القناعة في القيادات الكبرى بأن التحكم في الشاطئ الشمالي يفترض الاستيلاء على الشاطئ الجنوبي.

النظرة الثابتة محورها أن البحر المتوسط يربط ولا يفرق، يوحد ولا يفصل. الإسكندر الأكبر عندما أراد إنشاء إمبراطوريته العالمية اتجه أولا إلى مصر. الإمبراطورية الرومانية لم تتحول إلى الدولة العالمية إلا عقب غزو مصر. هذه العلاقة بين الشمال والجنوب لم تبرز عقب ذلك واضحة إلا في ذهن القيادة العثمانية وبصفة خاصة خلال القرنين السادس والسابع عشر عندما أعلن خلفاء القسطنطينية عن إرادتهم في الوصول إلى أسبانيا عبر سهول النمسا. وهنا نلحظ ذلك الفارق الشديد بين استراتيجية الدولة العربية واستراتيجية الخلافة العثمانية. الدولة العربية وقفت عند حدود الأناضول ولم تفكر جديا في تعدى ذلك رغم الإنذار المبكر الذي وجهه خالد بن الوليد ورغم إننا لا بد وأن نتساءل عن مدى حكمة عمر بن الخطاب في عزل القائد العربي الذي كان يخطط كما تثبت النصوص لتوجيه ضرباته إلى آسيا الصغرى، نجد الدولة العثمانية لم تترك جميع أجزاء منطقة البلقان دون أن تضمها إلى حدود نفوذها السياسي. أيضا يرتبط بنفس ذلك التصور تقاعس القيادات العربية في الأندلس عن القيام بعملية غزو حقيقية لسهول وسط فرنسا. جميع الفتوحات في منطقة جنوب أوروبا إذا استثنينا الدولة الأندلسية لم تكون سوى نتيجة جهود فردية جزئية ولم تخطط لضم تلك المنطقة أو الاستقرار في الأجزاء التي استطاع القراصنة أن يضعوا فيها أقدامهم.

والواقع أن مرد ذلك الاختلال في النظرة الاستراتيجية هو أن الدولة العباسية كان تتجه إلى أواسط أكثر من اتجاهها إلى البحر المتوسط كنتيجة طبيعية لسيطرة المفاهيم الفارسية، على العكس من ذلك فإن الدولة العثمانية وهي أوروبية من حيث الموقع انتفعت بصورة أكثر وضوحا وكمالا بالخبرة الاستراتيجية التي سبق وصاغها قياصرة روما.

السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه التساؤلات لا يزال دون إجابة محددة: هل عرفت تقاليدنا المحلية مفهوم الأمن القومي بمعنى أو بآخر؟ العرض السابق يسمح بالإجابة بوضوح بأن تلك التقاليد لمست معنى الضرورة الاستراتيجية للدفاع عن المنطقة من منطلق مبادئ واضحة أساسها الفهم الواعي بدرجة أو بأخرى لحقيقة علاقة الترابط بين أجزاء الوطن العربي. مما لا شك فيه أن مفهوم الاستفزازية والتعدي باسم الأمن القومي أو ما في حكمه لم تعرفه تقاليد المنطقة. وليس أدل على ذلك من نموذج هارون الرشيد الذي سبق وطرحنا بعض ملامحه، كذلك يتعين علينا ونحن بصدد هذه التساؤلات أن نتذكر أيضا كيف أن هذا المفهوم لا بد وأن يتطور اليوم مع خصائص التقدم التكنولوجي من جانب والتطور الحضاري من جانب آخر. الخبرة التاريخية هي دلالة تنبع من أن الخصائص الإقليمية والجيوبوليتيكية واحدة لم تتغير ولكن علينا ونحن بصدد تحليل أوضاع تلك المنطقة أن ندخل في الاعتبار كل ما له صلة بالواقع المعاصر وكيف أن هذا الواقع يقدم نموذجا متميزا لم تعرفه المنطقة من قبل: فلنتذكر الوجود الإسرائيلي كأحد عناصر هذا الواقع الجديد.

 

– عناصر القوة والضعف في الوجود الاستراتيجي العربي:

سبق أن رأينا أن تحليل أبعاد الأمن القومي لا بد وأن ينبع من الدراسة العميقة للأوضاع الاستراتيجية. ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون نقطة البداية في البناء الفكري لمفهوم الأمن القومي العربي أو المناقشة العميقة لخصائص المنطقة العربية بقصد اكتشاف موقع القوة لاستغلالها ومواضع الضعف لشلها. نكرر مرة أخرى مفهوم الأمن القومي هو عملية تطويع سياسية لعناصر الضعف الاستراتيجي للوضع الإقليمي لدولة معينة.

على أن فهم عناصر الضعف لا يمكن أن ينفصل عن إبراز مواضع القوة: سؤالين كلاهما يتلازم مع الآخر.

(أ) ما هي مواقع القوة في المنطقة العربية؟

المنطقة العربية بمعنى ذلك الاتساع الممتد من الخليج العربي والعراق شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا والتي تحدها شمالا تركيا والبحر المتوسط وجنوبا الصحراء الكبرى الممتدة من موريتانيا حيث تنفرج الدائرة العربية لتشمل وسط حوض النيل والصومال وأرتيريا وتوابعها. تتميز بأربعة عناصر من حيث القوة الاستراتيجية ذات وزن دولي لم يستطع بعد الفكر العربي أن يفهم أبعادها الحقيقية. قبل أن نحدد هذه العناصر علينا أن نلاحظ أن هذه المنطقة لا يربطها أساس سوى اللغة والحضارة العربية. البعض يدفع بمفهوم الدي الإسلامي ولكن ونحن نتحدث لغة الواقع السياسي ونطرح مفهوم الأمن القومي العربي يجب أن نضع عنصر الدين في موقعه الحقيقي، فالدين الإسلامي في هذه المنطقة هو عنصر من عناصر الحضارة العربية. والمنطقة العربية تعرف أجزاء عربية غير مسلمة ولنتذكر على سبيل المثال لبنان بل وهي تعرف كذلك أجزاء غير عربية ولكنها مسلمة كمنطقة الأكراد. بل ويمكن القول أن بعض أجزاء هذه المنطقة العربية لا هي عربية ولا هي مسلمة كجنوب السودان ولا يمكن إدراجها في الجسد العربي إلا من منطلق مبدأ الأمن القومي.

(ب) [أ] ما هي عناصر القوة؟

أولا- التحكم في جميع العلاقات الدائمة بين القارات الثلاثة القديمة.

ثانيا- التحكم في مداخل البحر المتوسط.

ثالثا- القدرة على أن تكون منطقة جذب للشعوب المحيطة.

رابعا- القدرة على أن تنال كلتا الدولتين الأعظم في مواقع قاتلة.

العنصر الأول مرده الامتداد الجغرافي من جانب وموضع ذلك الامتداد من جانب آخر فهي تحيط بأفريقيا في شكل قوس يمنع القارة السوداء من الاتصال المباشر مع أوروبا وإلى حد معين مع آسيا. القارة السوداء في حاجة إلى أن تمر عبر الأراضي العربية أو إلى جوار الأراضي العربية لو أرادت الاتصال بأوروبا أو بآسيا. كذلك فإن أوروبا لا تستطيع أن تصل إلى جنوب وشرق آسيا إلا عبر الأراضي العربية ساء عن طريق قناة السويس أو الخليج العربي. إقفال قناة السويس عقب حرب الأيام الستة أدى إلى إفلاس أغلب شركات الملاحة اليونانية وقاد إلى الفوضى التي لا تزال تسيطر على النظام الاجتماعي في إيطاليا وقد فهمت فرنسا تلك الحقيقة عندما أصرت على استمرار احتلال الجزائر وعندما أحالت استقلال الجزائر إلى علاقات اقتصادية من نوع معين. ما ينطبق على أوروبا هو صحيح أيضا بالنسبة لجنوب شرق آسيا. تبدو هذه الناحية واضحة صريحة بصدد كل ما له صلة بالتجارة الدولية عبر البحار من جانب والنقل الجوي من جانب آخر. حركة خطف الطائرات التي قادتها المقاومة الفلسطينية في لحظة معينة خلقت الذعر في جميع الأوساط الاقتصادية المسئولة في دول أوروبا الغربية.

التحكم في مداخل البحر الأبيض المتوسط لمتغير آخر لمصالح الإرادة العربية. مداخل البحر الأبيض المتوسط أساسا اثنين ونستطيع أن نضيف إليهما مدخل ثالث ولو من قبيل التجاوز: قناة السويس التي تقود إلى المحيط الهندي وجبل طارق الذي يخلق حلقة الوصل مع المحيط الأطلسي. ونستطيع أن نضيف الدردنيل رغم إنه ينتهي ببحر مقفل هو امتداد للبحر الأبيض المتوسط ذاته وجزء منه أي البحر الأسود.

الأول والثاني تحف بهما الأراضي العربية. المدخل الشمالي ورغم إنه كما سبق أن ذكرنا داخلي ومحدود الأهمية إلا بالنسبة للاتحاد السوفيتي أيضا يكاد يقع في أرض عربية حيث أن تركيا ولو بمعنى معين تعبر عن نوع من التجانس مع المنطقة العربية من الممكن أن يعتبر مصدرا لتحالف أو على الأقل أن يخضع لتنسيق معين لو قدر للإرادة العربية الحنكة السياسية اللازمة.

العنصر الثالث [الثاني] يبرز من مراجعة واستقراء القوى المحيطة بالمنطقة العربية. على طول الحدود العربية الإقليمية لا توجد سوى قوميات محدودة الكثافة السكانية وإلى حد معين المستوى الحضاري. في وسط أفريقيا قبائل متفرقة إذا استثنينا الحبشة التي تكاد تعيش في وسط محيط من العداوة. في أقصى الشرق إيران التي بدورها لا تمثل قومية واحدة ثم تركيا في الشمال. هذه القوميات لو قورنت بالكثافة العربية بدت كيانات ضعيفة مهلهلة. وهي لذلك سلاح ذو حدين: بقدر كونها مصادر خطر على المنطقة العربية كأدوات جاذبة لشد الأطراف في حالة ضعف أو تفتت الإرادة العربية بقدر كونها في لحظات قوة المنطقة العربية تعتبر أسيرة وتابعة للإرادة العربية. والواقع أن المنطقة العربية بحكم خصائصها في لحظة التماسك قادرة على أن تمثل قوة جذب رهيبة لم تمارس اليوم إمكانياتها الحقيقية:

أولا: هي قوة جاذبة للعالم الآسيوي عبر العراق وبصفة عامة عبر منطقة الخليج العربي.

ثانيا- وهي قوة جاذبة للعالم الإسلامي الأفريقي عبر دول أفريقيا العربية حيث تستطيع ليبيا والجزائر والمغرب اختراق الصحراء الوصول إلى قلب أفريقيا والامتداد حتى المحيط الأطلسي وغرب أفريقيا الوسطى.

ثالثا- وهي قوة جاذبة للعالم الإسلامي الأفريقي في شرق أفريقيا عبر السودان بل وقادرة في المستقبل القريب على أن تصهر في بوتقتها الحبشة التي بدأت اليوم لأول مرة في تاريخها تؤكد أن أربعين في المائة من سكانها يدينون بالإسلام. ولا يجوز لنا أن ننسى كيف أن منطقة الخليج قادرة بدورها أن تقوم بحركة كماشة قوية تكمل المقدرة العربية القادمة من أفريقيا بل والتاريخ يؤكد ذلك. ولنتذكر إمبراطورية عمان في لحظة معينة من التاريخ الوسيط.

رابعا- وهي قوة جذب لجميع دول البحر المتوسط الأوروبي حول وحدة المصالح في وسط العالم القديم.

خامسا- كذلك فإن قوتها الجاذبة لو أمكن توظيفها من مطلق العنصر التركي الإسلامي قادرة على أن تمتد حتى الحدود الغربية للصين. علينا أن نتذكر أن هناك قرابة خمسين مليونا البعض يرفعها إلى ثمانين مليونا من ذوي الأصل التركي المنتشرة في داخل الاتحاد السوفيتي بل وفي بعض أجزاء الصين المتاخمة للجمهوريات الإسلامية الروسية.

العنصر الأخير الذي يضفي على المنطقة العربية قوة لم تدركها القيادات في تلك المنطقة بعد هو مدى خطورة تلك المنطقة على الأمن الإقليمي لكلتا الدولتين الأعظم. أقرب المناطق للنيل من الاتحاد السوفيتي هو ذلك الشريط الممتد من شرق تركيا حتى شمال إيران. لم تهزم الدولة الروسية في تاريخها وتخضع لغزو حقيقي إلا من تلك المنطقة. والجدار الذي يحمي تلك المنطقة هو المستطيل الممتد من الخليج العربي حتى البحر الأحمر. كذلك فإن هذه المنطقة تمثل الخنجر الحقيقي القادر أيضا على أن ينال من الولايات المتحدة. أن أقرب المناطق في العالم القديم إلى العالم الجديد هو منطقة موريتانيا التي تستطيع منها القوى المعادية أن تصل إلى شمال أمريكا الجنوبية حيث الانتشار نحو المقتل الحقيقي للولايات المتحدة، حول البحر الكاريبي يصير مسألة عدة وثبات حتى لو اقتصر العدو الغازي على السلاح التقليدي.

(ب) ما هي مواقع الضعف في الجسد العربي؟

الجسد العربي كأي جسد سياسي آخر يملك من عناصر الضعف بقدر ما يملك من عناصر القوة. وبقدر ما يستطيع الكيان استغلال عناصر القوة لتدعيم ونشر سيادته وبصفة خاصة في النطاق الإقليمي في لحظات الوحدة والتماسك بقدر ما تهيئ عناصر الضعف في لحظات عدم التماسك الفرقة مواقع قاتلة تجعل لا فقط وجود الجسد العربي ذاته كحقيقة سياسية موضع الشك والتساؤل بل أنها تمكن الخصوم من اختراق ذلك الجسد من مواقع الضعف وإحالته إلى كيان مهلهل لا قيمة له لا فاعلية لإرادته.

فلنطرح أولا عناصر الضعف لنستطيع من خلال معالجتها أن نحيلها إلى بناء فكري للحركة وللتعامل باسم مفهوم الأمن القومي العربي.

أليس هذا المفهوم ستارا يغلف الحركة لتخطي مواقع الضعف القاتلة في الكيان الإقليمي.

نستطيع أن نمركز حول خمسة عناصر أساسية تنبع جميعها من الطبيعة الإقليمية للكيان العربي نواحي الضعف التي تتداخل فيها أيضا خصائص الحقيقة الديمجرافية للوطن العربي بمجموعة التراكمات التاريخية التي ترسبت في المنطقة وحول المنطقة.

أولا- الامتداد الإقليمي للمنطقة العربية وما يفرضه من مخاطر.

ثانيا- السواحل العربية وعبء الدفاع عن البحار الإقليمية.

ثالثا- منطقة وادي النيل والتبعية لموارد المياه.

        رابعا- الكتل الديموجرافية المحيطة بالمنطقة العربية.

خامسا- سياسة شد الأطراف والتماسك في الجسد العربي.

نتابع هذه العناصر الخمسة بشيء من التفصيل قبل أن نرتب النتائج ونصوغ المبادئ.

– الامتداد الإقليمي للمنطقة العربية وخصائصه:

هذا الامتداد يتميز أولا بأنه أفقي دون أن يرتبط به أي عمق استراتيجي حقيقي بمعنى أن الامتداد الأفقي لا يوازيه أي امتداد رأسي. كذلك فهو امتداد مخيف من حيث اتساعه لأنه يبدأ من قلب آسيا وينتهي في أقصى الحدود الغربية لأفريقيا الشمالية. لو نظرنا إلى الخريطة العربية لوجدناها تمتد من حدود إيران حتى المحيط الأطلسي. بهذا المعنى فإن الامتداد الأفقي يكاد يكون مماثلا لطول أوروبا مرة ونصف مرة أي إنه يصل إلى عشرة آلاف ميل دون أن يقابله أي امتداد رأسي بنفس الوزن إذا استثنينا الخط الممتد من الإسكندرونة شمالا حتى باب المندب جنوبا.

أغلب أجزاء المنطقة العربية وبصفة خاصة في القارة الأفريقية لو استثنينا حوض وادي النيل نجدها تمثل شريطا ضيقا يمكن اختراقه في أي جزء منه وبسهولة. يضاعف من المخاطر المترتبة على طبيعة هذا الامتداد عدة عامل أخرى جانبية.

        1- العامل الأول ينبع من طبيعة البحر الأحمر الذي ينساب في وسط الجسد ليخلق القطيعة بين شبه الجزيرة العربية وكتلة حوض وادي النيل: ثم تأتي قناة السويس لتشطر الكيان العربي إلى قسمين قسم أفريقي وآخر آسيوي.

        2- العامل الثاني وهو الامتدادات المحيطة بالمنطقة في الشمال والجنوب. في الشمال بحر من الماء أي البحر الأبيض المتوسط وفي الجنوب بحر من الرمال أي الصحراء الكبرى. البحار وكذلك الصحاري هي سلاح ذو حدين: فهي جدار للدفاع في لحظة القوة ولكنها أيضا قاعدة للهجوم من الطرف المعادي في لحظة الضعف. من المعلوم أن أسهل أنواع الاعتداء تأتي من البحار. والتقدم التكنولوجي الرهيب أحال الصحاري إلى وعاء يشبه ما تعودته الإنسانية بصدد الوظيفة الهجومية للمناطق البحرية.

البحار التي تحيط بالمنطقة كذلك تتميز بأنها لا تملك عقبات طبيعية للدفاع. هذا الأمر واضح في شمال أفريقيا وبصفة خاصة لو قورنت تلك المنطقة بسواحل جنوب أوروبا. بينما الأخيرة تمتلئ بالخلجان حيث الشواطئ تتميز بالالتواء والتعرج، كذلك تحيط بها الجبال والعقبات المختلفة نجد شمال أفريقيا لا تملك سوى شواطئ مفتوحة لا تعرف أي موانع حقيقية إزاء الغزو من الخارج بل وحتى الجزر التي تصير بمثابة مقدمة للإنذار المبكر لا وجد لها. ولعل هذا يفسر كيف أن التاريخ لم يعرف في هذه المنطقة غزوا جاء من الجنوب نحو الشمال إلا من قبيل الاستثناء ومن مواقع تكاد فيها الشواطئ تلتحم أضف إلى هذا أنه باء بالفشل، ونقصد بذلك الاستثناء الغزو العربي لأسبانيا. على العكس من ذلك نماذج الغزو من الشمال إلى الجنوب لا حصر لها. منذ الاسكندر الأكبر لم تخلو فترة زمنية دن نموذج لحملات غزو للمنطقة العربية: عقب الاسكندر جاء قيصر ثم تتالت الحروب الصليبية ولم تنته الحروب الصليبية حتى برز نابليون وأعقبه هتلر وذلك دون الحديث بصفة عامة عن الاستعمار الغربي الأوربي. بل أن روسيا القيصرية حاولت وضع أقداحها في المنطقة في عهد على بك الكبير ولم توقفها سوى الدول الأوروبية وقصر نظر نفس القيادة الروسية.

من الجنوب نحو الشمال نجد مجموعة استثناءات انتهت بالفشل بل ولا قيمة لها: هانيبال في إيطاليا ثم محمد علي في اليونان جميعها لم تترك بصماتها الحقيقية بأي معنى من المعاني. استئصال الوجود العربي من صقلية ليس إلا نموذجا واضحا لتأكيد هذه الحقيقة وذلك دون الحديث عن الاستئصال الكلي والشامل أيضا للدولة العربية في الأندلس.

اليوم أضحت الصحراء الممتدة في أفريقيا وكذلك في شبه الجزيرة تمثل بدورها خنجرا موجها إلى قلب الأمن العربي وليس ذلك فقط بسبب التقدم الحديث في وسائل القتال بل علينا أن نتذكر كيف أن اختفاء أي كثافة سكانية في تلك المنطقة وحولها لا بد أن يسهل من عملية الكر والفر ومن ثم يجعل منها هدفا سهل المنال لأي قوة غازية قادمة من خارج المنطقة بل أن التسرب الفردي يصير بدوره أمرا يمثل خطورة معينة على المدى البعيد.

– طول الشواطئ العربية وعبء الدفاع البحري عن الحدود الإقليمية:

يرتبط بالامتداد الإقليمي طول الشواطئ المحيطة والمتداخلة في قلب المنطقة العربية. لا توجد منطقة في العالم تماثل هذه المنطقة من حيث نسبة طول السواحل إلى عدد السكان. فالسواحل العربية مفتوحة جميعها وهي صالحة للملاحة طيلة العام ولا تحيط بها ما سبق وذكرنا أي تضاريس أو مواقع طبيعية للدفاع. لا توجد في العالم نسبة تماثل نسبة السواحل العربية بمعنى العلاقة بين طول السواحل بالكيلومتر أو الميل وعدد سكان المنطقة. ويكفي أن نتذكر الغزو الإيطالي لليبيا أو الفرنسي لشمال أفريقيا أو الإنجليزي لمصر. جميعها نماذج تعبر عن مدى تشجع طبيعة الشواطئ العربية على غزو المنطقة من القوى الخارجية.

تزداد خطورة هذه الحقيقة عندما نتذكر أن المنطقة العربية ليست لها تقاليد الغزو البحري. العودة إلى الاستراتيجية العربية كما صاغتها المفاهيم والمدركات الإسلامية خلال العصر العباسي الأول يثبت اختفاء مفهوم الأداة البحرية كعنصر أساسي من عناصر القدرة القتالية. العربي بطبيعته ليس كالياباني أو الإنجليزي يعيش في البحار وعلى البحار

هذه الحقيقة لم تختلف أيضا في الشعوب التي تنتمي إلى المنطقة والتي وجدت لها تقاليد السيطرة والغزو ولو بشكل معين. الدولة الفرعونية لم تملك أسطولا حقيقيا. وذلك إذا استثنينا بعض الأجزاء المحدودة من حيث الكم والكيف في تاريخ المنطقة كلبنان وتونس. تبدو هذه الحقيقة واضحة في منطقة الخليج العربي بما في ذلك الشواطئ الجنوبية لشبه الجزيرة العربية.

– منطقة وادي النيل وحالة التبعية بصدد موارد المياه:

حوض وادي النيل يطرح من جانب آخر مشاكل خطيرة من حيث الضعف الاستراتيجي: سبق أن رأينا كيف أن الدلتا التي تمثل مصادر الثروة الحقيقية في تلك المنطقة يصعب الدفاع عنها حيث أنها أرض مفتوحة من الشمال والشرق عندما استطاعت القوى الإنجليزية أن تتسلل عبر قناة السويس أثناء الثورة العربية فإن جميع المعلقين اعتبروا أن مصر قد دخلت نهائيا مرحلة الاحتلال. وادي النيل الذي تعيش عليه نصف الكثافة السكانية للمنطقة والذي تعيش عليه نصف الكثافة السكانية للمنطقة والذي يمثل العمق الاستراتيجي الوحيد في الوطن العربي يعاني من جانب آخر حيث أن مصادر مياهه تقع في أرض غير عربية بل في أرض من الممكن أن تتحول بسهولة سواء بسبب طبيعتها الديمجرافية أو علاقاتها الخارجية لتمثل الأرض المعادية لكل ما له صلة بوادي النيل العربي.

مصر توصف بأنها هبة النيل ولكن مياه النيل التي تعيش عليها مصر تقع في الحبشة وأوغندا. الأولى قبطية والثانية سوداء وثنية. الأولى تناصب مصر الإسلامية العداوة وهي أكثر ترابطا مع الكنيسة الكاثوليكية وتنظر إلى التكتل العربي بخوف ورهبة. والثانية لا تزال تعيش في دائرة النفوذ الانجلوسكوني وسوف تظل إلى فترة غير قصيرة وهي تحن إلى الوحدة السوداء في وسط أفريقيا، وحدة بدورها لا يمكن أن تنظر إلى الإرادة العربية الإسلامية إلا بشك وعدم ثقة. أحد مصادر القلق الذي سيطر على حكام مصر دائما قبل إنشاء السد العالي هو هذه الحقيقة. إذا كان إنشاء السد العالي قد خفف من حدة هذا الوضع الاستراتيجي إلا أن التضخم السكاني في مصر والنتائج السيئة للسد العالي سوف تبرز في القريب العاجل هذه المخاطر في صورة أكثر وضوحا وأشد خطورة.

مما لا شك فيه أنه يخفف من ذلك المد الإسلامي في وسط أفريقيا ولكن على هذا المد أن يمنع من حقيقة المخاطر الجيبوليتيكية، أضف إلى ذلك أن التقدم العلمي أبرز مخاطر من نوع جديد ما كان يستطيع أحد أن يتصور احتمالاتها حتى وقت قريب. فنهر الكونغو تفصله عن وادي النيل سلسلة من الجبال لو أمكن تفجير بعض أجزائها لا ستطاع نهو الكونغو سحب مياه نهر النيل. بل والبعض يتحدث عن مشروعات تدرس بهذا المعنى بين زائير وإسرائيل. فهل تقف مصر من مثل هذه المخاطر موقف الصمت والترقب أم تقوم بحركة التفاف واعية؟ وأليس التضامن والقدرة العربية مع استغلال النفوذ الإسلامي هو المنطلق الحقيقي لمثل هذا التحرك؟

سؤال آخر يطرح بدوره مفهوم الأمن القومي العربي من أوسع أبوابه.

– كثافة الكتل الديموجرافية المحيطة بالمنطقة العربية:

كذلك فإن إحاطة الجسد العربي بأطراف تمثل كتلا ديموجرافية معادية لا بد وأن يخلق عناصر أخرى للقلق ولعدم الطمأنينة.

لقد سبق أن رأينا أن هذا العنصر سلاح ذو حدين. فهو عنصر من عناصر القوة في الجسد العربي ولكنه قد ينقلب أيضا فإذا به عنصر من عناصر الضعف.

القوة عندما يكون الجسد العربي متماسكا متكتلا حول إرادة واحدة منصهرا في بوتقة آمال واحدة يسير في اتجاه واحد كقبضة واحدة تصفع بلا تردد. ولكن عندما تحدث الفرقة وتتعدد الولاءات فإن هذا العنصر يصير مقتلا خطيرا للجسد العربي. في حالة تهالك الإرادة العربية ترتفع الأذناب. مرد ذلك أن الكثافة العربية متمركزة في قلب المنطقة حول مصر لتقل تدريجيا كلما ابتعدنا عن حوض وادي النيل وذلك في نفس الوقت الذي يحيط به في الأطراف كتل ديمجرافية غير عربية وذات وزن معين. الضعف في الجسد العربي يغري تلك الأطراف على حدود الإقليم بمحاولة جذب الأجزاء الخارجية للوطن العربي أي أطرافه.

حدث هذا في الإسكندرية في الشمال وفي منطقة عربستان في الشرق وهو يحدث اليوم في منطقة الخليج العربي في شواطئه الغربية من جنوب العراق حتى المحيط الهندي وهو يحدث أيضا في جنوب السودان وهو قد يحدث في الغد القريب في منطقة موريتانيا. بل ولا يوجد ما يمنع من إمكانية تصور حدوثه سواء بالنسبة لجنوب ليبيا أو للمناطق الصحراوية الممتدة في جنوب الجزائر.

– سياسة شد الأطراف والتماسك في الجسد العربي:

ويشجع على هذه العمليات الجاذبة والتي استخدمتها السياسة البريطانية خلال قرابة قرنين من الزمان والتي تستخدمها اليوم السياسة الأمريكية بأسلوب مختلف ولكن منطلق نفس المبادئ في التعامل مع المنطقة بما يمكن أن نسميه “سياسة شد الأطراف” من خلال مساندة الحبشة وتركيا وإيران وزرع إسرائيل في قلب المنطقة ما يمكن أن نسميه بالتناقضات العربية. بل وسوف نرى في موضع آخر كيف أن التصور الاستراتيجي الإسرائيلي سوف يعتمد في الأعوام القادمة على توظيف هذا المبدأ لصالح أهدافه التوسعية في المنطقة.

الاتساع الإقليمي خلق تناقضا في المصالح تبعا لموقع الانتماء من ذلك الإقليم. عندما أقفلت قناة السويس في عام 1967 هللت ليبيا والجزائر بينما أفلست الصومال وأرتيريا دون الحديث عما أصاب مصر ولم تشعر بأي أثر لذلك الموقف الجديد جميع دول الخليج. هذا التناقض في المصالح يدعم منه ورغم أنه قد يبدو لأول وهلة عديم الصلبة بتقاليد التسامح الديني التي وضع أصولها نظام القيم الإسلامية. التسامح سلاح في يد القوى يزيد من مثاليته ولكنه سلاح مصوب إلى قلب الضعيف يحطم من تماسكه. تقاليد التسامح الديني خلقت تنوعا في الطوائف والأقليات الأمر الذي مكن هذه السياسة من أن تجد منطلقات لها من الواقع الداخلي إذ علمت على تشجيع الخلافات المحلية واستغلالها وتوظيفها لصالح هذه السياسة. ذلك أن التسامح الديني مكن من خلق أقليات على الحدود القومية هي أقرب إلى تلك الكتل الجاذبة من حيث الإدراك والممارسات الدينية فضلا عن نوع من الارتباط التاريخي حيث هذه الكتل كانت في لحظة معينة جزءا من الإمبراطورية الكبرى تنطوي تحت لوائها وتخضع لإرادتها قبل التفجر الذي قاد إلى الانفصام ومن ثم إلى التباين بين عروبة إسلامية وإسلام غير عربي. تنقاضات مصلحية ليست رداء الولاء الطائفي فكان لا بد وان تخلق التربة الصالحة للصيد في الماء العكر.

والخلاصة أن الوضع الإقليمي للمنطقة العربية فرض ثلاثة مخاطر كل منها تمثل مقتلا حقيقيا يقف عقبة ضد التماسك العربي:

(أ) إمكانية الانشطار:

ليس فقط بسبب إسرائيل بل وكذلك فإن تلك الإمكانية يمكن أن تتحقق في أي جزء من أجزاء شمال أفريقيا.

(ب) إمكانية الجذب الخارجي:

الأكراد في أقصى الشمال الشرقي والاسكندرونة في أقصى الشمال الغربي ليست سوى بعض نماذج تقابلها مواقع أخرى تمتد على طول جميع حدود المنطقة العربية الجنوبية.

(جـ) ثم إمكانية التحكم في الوجود الديمجرافي، وبصفة خاصة في مناطق عدم الكثافة من خلال تسلل القوى الأجنبية. إسرائيل حول شبه جزيرة سيناء، المحاولات الفرنسية في منطقة قسطنطينة معروفة بل وهناك من يتحدث عن مشروعات إيطالية لا تزال قيد الدرس في منطقة الجبل الأخضر بليبيا. ولماذا نذهب بعيدا أليس الواقع العربي في منطقة الخليج يهدد بإنفجار مماثل؟

هذه مواقع الضعف والسؤال هو كيف نشل تلك المواقع لنجيط الجسد العربي بإطار فكري يخلق نوعا من القيم السياسية التي تسمح له بتخطي هذه العناصر القاتلة وخلق إطار للحركة كفيل بالحماية الذاتية؟

 

– تقنين مبادئ الأمن القومي العربي:

لو أردنا أن نحيل تلك المجموعة من عناصر الضعف إلى لغة سياسية يتكون من منطقها ما نستطيع أن نسميه تقنينا لمبادئ الأمن القومي العربي لوجدنا أن خمسة مبادئ أساسية يجب أن تترابط فيما بينها لتمثل فلسفة الحركة العربية:

أولا: البحر الأبيض المتوسط يجب أن يظل بعيدا عن الصراع بين قوى التوازن الكبرى في الأسرة الدولية. القوتين الأمريكية والروسية وبصفة خاصة أساطيل هاتين القوتين يجب أن تنسحب من البحر الأبيض المتوسط.

اتفاقيات الدردنيل تسمح بذلك بالنسبة للأسطول الروسي. الأسطول الأمريكي تواجده في البحر المتوسط تواجد غير مشروع. دخول القوى الكبرى إلى تلك المنطقة لا يؤدي فقط إلى تهديد مباشر للأمن والسلام وإنما يعني وضع الشواطئ العربية موضع التهديد المباشر العضوي والعسكري سبق أن ذكرن كيف أن طبيعة تكوين الشواطئ العربية الممتدة لتشمل جميع الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط تسمح باكتشاف أن تلك الشواطئ منفتحة غير قابلة للدفاع عن نفسها لا تحميها كدرع واقية أية مرتفعات. كذلك فإن الحياة الجماعية في العالم العربي تقع برمتها على الشواطئ بل وعلى جزء من هذه الشواطئ. الدفاع عن الشواطئ العربية ليس فقط أمرا شاقا بل أن الإرادة العربية لم تملكه في أي لحظة من تاريخا، مخاطر هذا التواجد ليست فقط عسكرية. إن تلوث مياه الحبر المتوسط أضحى مشكلة حقيقية حتى أن أصواتا عديدة أوروبية علت تتساءل ورغم أن الشواطئ الأوروبية أكثر طولا وأكثر تحملا لمخاطر التلوث. وقد ارتبط بذلك انقراض حقيقي في الثروة السمكية. وهنا نلحظ كيف أن إخراج القوى الأمريكية والروسية من البحر المتوسط هو أيضا في صالح الدول الأوروبية وبصفة خاصة دول السوق المشتركة. مبدأ تحييد البحر المتوسط بالمعنى السياسي أي بمعنى تفريغه من القوى التي لا تنتمي إلى هذا البحر أضحى حديث الساعة من جانب القيادات الأوروبية. وهو أيضا في صالح الأمن القومي العربي. فلماذا لم تتبن هذا المبدأ السياسة العربية حتى اليوم؟ إنه ليس فقط في صالح الأمن القومي العربي بل هو أداة حقيقية لخلق الشلل في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي. فالسياسة الإسرائيلية التي مارستها القيادات العبرية بعناد منذ بداية الستينات والتي توجها مناحم بيجين بنجاح منذ وصوله إلى الحكم وبصفة خاصة عقب التحالف مع ريجان أساسها جذب القوى الأمريكية إلى المنطقة. والقوى الأمريكية تمرح في البحر الأبيض بلا حياء.

فلنتذكر ما حدث في حرب أكتوبر وما حدث عقب ذلك عام 1982 قرب الشواطئ الليبية.

إن من صالح الإرادة العربة وفلسفة ومنطق الأمن القومي العربي إلا يحدث أي تواجد غير إقليمي في جميع أجزاء البحر المتوسط. إن هذا لا يقتصر على مشاكل الدفاع الإقليمي بل يتعدى ذلك إلى تحجيم إسرائيل وإعطائها وزنها الحقيقي. ولا يجوز أن يخدعنا بهذا الخصوص ما طرحه مناحم بيجين أثناء زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية ميتران لإسرائيل على البحث عن البديل.

ثانيا: البحر الأحمر وكذلك الخليج العربي من جانب آخر يجب أن ينظر إليهما على أنهما فقط بحيرات عربية ويجب أن تنظم أوضاعهما الإقليمية وعملية الدفاع عنها على هذا الأساس. أي وجود غير عربي في هذه المناطق يجب أن يمنع بحزم وقوة. البحر الأحمر والخليج العربي يمثل كلاهما حرية ممتدة في وسط الجسد العربي، حرية قابلة لأن تكون منطلقا لتفتيت الكيان العربي ولفرض التجزئة على الامتداد الإقليمي للجسد العربي. البحر الأحمر سبق وأن رأينا كيف أنه من خلال خليجي السويس والعقبة سمح بشطر العالم العربي إلى قسمين بل في الأوضاع المعاصرة عقب إنشاء إسرائيل وكما أثبتت ذلك حرب الأيام الستة فإن تلك العملية أضحت سهلة ومتيسرة. الخليج العربي قادر من خلال تصور مختلف على أن يحدث نفس النتيجة وبدرجات ليست أقل خطورة من البحر الأحمر. الوثبة من شمال الخليج في اتجاه الغرب أو بالعكس قادرة على أن تشطر المشرق العربي شرق قناة السويس بدوره إلى قسمين. التطورات المعاصرة للاستراتيجيات الكبرى تثبت أن التلاحم بين الخليج العربي والبحر الأحمر أضحى حقيقة ثابتة. رغم أن هذا التلاحم قديم ورغم أنه لم يبرز بصورة واضحة في أي مرحلة من مراحل تطور منطقة الشرق الأوسط إلا أن طبيعة الصراع بين العملاقين أدى إلى أن يجعل ذلك الشريط الممتد من وسط المحيط الهندي إلى قلب أوروبا مسرحا واحدا للكر والفر بين موسكو وواشنطن. إن رقعة شطرنج تتحكم في مصير الإنسانية. أضعف أجزاء الحلف الإطلنطي تقع في أقصى الشرق الجنوبي وأضعف اجزاء الاتحاد السوفيتي تتمركز حول الحدود الممتدة من تركيا حتى أفغانستان. والحائط الذي يحمي هذا الشريط الممتد هو المنطقة المائية المحيطة بشبه الجزيرة العربية حيث الذراع الأيمن هو الخليج والذراع الأيسر هو البحر الأحمر. لنترك جانبا الامتيازات الاستراتيجية التي قد توافرت للولايات المتحدة من سيطرتها على المنطقة وبصفة خاصة تلك المتعلقة بالغواصات النووية القادرة من جنوب الخليج العربي على أن تصل إلى جنوب الاتحاد السوفيتي وسهوله الممتدة على حدوده الغربية مع أوروبا الشرقية في وقت واحد. كذلك فهي تستطيع أن تنال نفس الأهداف بل وأن تصل إلى جميع أجزاء أوروبا الشرقية من نفس مواقع القذف الهجومية في البحر الأحمر وحيث عمق المياه يسمح للغواصات الذرية بحرية حركة لا تتوفر لها في منطقة الخليج العربي. ولكن الذي يعنينا أن نذكر به هو أنه ليس من صالح الأمن القومي العربي استخدام سواء منطقة البحر الأحمر أو منطقة الخليج أساسا لحركات هجومية من الجانب الأمريكي لأن هذا إنما يعني تعريض المنطقة العربية لحرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.

والذي نعلمه أيضا أن هناك تخطيطا سوفيتيا يسمح لموسكو بأن تحتل العراق وشبه الجزيرة العربية في فترة من ثلاثة أيام إلى أسبوع وبالسلاح التقليدي. لمصلحة من جعل هذه المنطقة محورا لصدام محتمل بين القوتين الأعظم؟

ثالثا: وهذا يقودنا إلى المبدأ الثالث الذي هو محور الأمن القومي العربي. يجب على الإرادة العربية أن تمنع أي تدخل قادر على خلق التجزئة أو عدم الاستمرارية الإقليمية. لقد سبق وذكرنا كيف أن أكبر مخاطر القارة العربية هي أنها في اتساعها المكاني لا تعبر عن كثافة سكانية متواصلة ومترابطة بحث أن أي قوى لو استطاعت أن تستغل هذا الامتداد العربي وبصفة خاصة في مواضع عدم الكثافة السكانية بالتواجد في أي جزء من أجزائه والانتشار التدريجي على شكل بقعة الزيت. قادرة على أن تفرض التجزئة بل وأن تجعل من تلك التجزئة حالة دائمة. بعد نظر السياسة البريطانية في خلق إسرائيل بجوار شبه جزيرة سيناء يعود إلى الربع الثاني من القرن التاسع عشر. محمد على أقلق جميع القيادات الأوروبية هي الخوف أو القلق أو على الأقل الشك في كل ما يأتي من هذه البقعة من العالم. إنها لا تنسى الرعب الذي عاشته أوروبا خلال فترة الفتوحات الإسلامية ثم الفتوحات العثمانية. والواقع أن ما حدث في مصر خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر لم يكن عملية إيقاظ للعالم الأوروبي لخلق الوعي بحقيقة المخاطر التي يمكن أن تترتب على الوحدة العربية. العودة  إلى خطابات نابليون ويومياته في سانت هيلانه تفصح بوضوح عن هذه الحقائق. بالمرستون وضع الأصول الأولى للسياسة البريطانية في المنطقة من خلال التصور بإنشاء دولة تصير بمثابة الشوكة في جانب مصر بحيث تضرب مصر في أي لحظة لتمنع القوى الكامنة في داخلها من التفجر وتخلق الفرقة بين المشرق العربي والمغرب العربي. الأعوام اللاحقة لم تفعل سوى أن تؤكد بعد نظر السياسة البريطانية.

الجولة الأولى في الصراع العربي الإسرائيلي أثبتت بدورها بعد نظر القيادة الإسرائيلية عندما دفعت بقواتها للوصول إلى خليج العقبة ولو على حساب ترك القدس في اليد العربية. تعاليم بن جوريون وتوجيهاته إلى ديان خلال تلك الفترة إنما تعبر عن حكمة حقيقية يجب أن نعترف بمدى عمقها. خلق التجزئة العضوية في الأمد البعيد لا بد وأن يخلق التجزئة السياسية والحضارية بترسيب معالم الفرقة العضوية لا بد وأن يمنع من تكامل الإرادة العربية بإمكانياتها الحقيقية. إلا نعاصر اليوم نموذجا لهذا التصور؟ أن خطورة الوجود الصيهوني في المنطقة إنه لأول مرة في تاريخ المجتمع العربي أحدث الانفصام المكاني والعضوي وهو أم لم تحدثه أي حرب صليبية رغم كل ما استطاعت أن تحققه من انتصارات. وهكذا نستطيع أن نصل من هذا التحليل إلى نتيجة واضحة يجب أن يكون أحد أهداف السياسة العربية ولو من خلال تنازلات معينة في جنوب لبنان. ومعنى ذلك أن أحد أهداف السياسة العربية يجب أن تظل دائما انتزاع صحراء النقب من الكيان الصهيوني في ذاته لموضعها من التطور العام في منطقة الشرق الأوسط.

رابعا: المبدأ الرابع ينبع من خصائص البحر الصحراوي الذي يحيط بالعروبة الأفريقية. لقد سبق ورأينا كيف أن التطور المعاصر الذي نعيشه واتساع مفهوم الأمن القومي الإقليمي بحكم التقدم المذهل في وسائل الاتصال والتطور العام في أساليب القتال الذي عرفته الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية وبصفة خاصة كما برز في حركات الكر والفر مع روميل في شمال أفريقيا، كان لا بد وأن يقودنا إلى صياغة هذا المبدأ. نستطيع أن نقننه بالصياغة التالية: على الإرادة العربية أن تمنع قيام أي حزام معاد للمصالح العربية جنوب الصحراء. هذا المفهوم عرفته مصر في تقاليد أمنها المحلي باسم حماية منابع وادي النيل. التعبير الفكري عن نفس المبدأ من منطلق المصالح العربية يدور حول أن جنوب الصحراء يجب ألا يحتوى على قوة متجانسة غير صديقة. قيام حزام معاد للعالم العربي يعلن خلق تهديد دائم قادر على أن يحقق ما سبق ورأينا خطورته من جانب الوجود الأجنبي في حوض البحر الأبيض المتوسط. لقد سبق وذكرنا كيف أن القارة العربية في الشمال الأفريقي ابتداء من الاسكندرونة وحتى طنجة تمثل شريطا رفيعا يمثل نفس الخصائص. متسع مائي في الشمال وبحر صحراوي في الجنوب. أي عدو قوي في أي من الجانبين قادر على الاختراق السريع. الغزو من الصحراء لم يعد يمثل أية عقبة حقيقية. على أن المخاطر التي يجب أن تعد نفسها لمواجهتها المنطقة العربية لا تنبع بهذا الخصوص فقط من الطبيعة الجغرافية. الرأسمالية الأمريكية والحضارة الغربية تعودت أن تكون استفزازية لا تنتظر أن تؤخذ على غرة. سبق ورأينا هذا المعنى في نفس الصياغة الفكرية لمفهوم الأمن القومي. والعالم الغربي الأوروبي والأمريكي يعلم أن مستقبله في القرن الواحد والعشرين يتوقف على ثروات وسط أفريقيا وهو إذ يجد هذه المنطقة تمثل امتدادا طبيعيا للغزو الإسلامي ومن ثم للنفوذ العربي لا بد وأن يسعى لخلق الأداة القادرة على منع الإرادة العربية من أن تستغل الإمكانيات التي تتيحها تلك المنطقة.

وهكذا برزت في التقاليد الفرنسية المعاصرة فكرة إنشاء دولة بربرية تمتد من النوبة حتى صحراء موريتانيا. إنها تصير بمثابة حزام يمنع الوجود العربي من التسلسل عبر البحر الصحراوي الذي يمتد في جنوب المنطقة العربية. على العالم العربي أن يدرك ذلك وأن يفهم كيف أنه من صالحه أن يدعم أي سياسة عربية تسير في خط ثابت في مواجهة السياسات الأوروبية في جنوب الصحراء. الرئيس القذافي فهم ذلك وبسياسة قد لا تكون مثالية حاول في خطوات لم تكن كاملة التوفيق أن يطوق ذلك النفوذ ولكن يجب أن ترتفع هذه الحركة لتكون أحد عناصر الأمن القومي العربي. بل أن مثل هذه السياسة قادرة على تطويق الخطر الذي سبق وذكرنا بعض ملامحه بخصوص احتمالات سحب مياه النيل عن طريق الكونغو.

خامسا: أخطر المبادئ التي يجب أن يتضمنها بناء مفهوم الأمن القومي العربي يدور حول قاعدة التماسك بين عناصر منطقة القلب. لقد سبق أن ذكرنا كيف أن الواقع الديموجرافي والجغرافي يجعل قلب المنطقة العربية بمثابة دائرة تضم وتحوي الكثافة السكانية تدور حول الخط الممتد من بغداد حتى القاهرة وأم القرى. هذه الدائرة تستند إلى أذرع ثلاث: الأولاى تمتد في شبه الجزيرة العربية والثانية في وسط أفريقيا والثالثة تمتد لتحتضن شمال أفريقيا. مبدأ التماسك يفرض أن العلاقات بين العواصم الأربع يجب أن يخضع لمبدأ التضامن المطلق مهما كانت الخلافات. بغداد هي المنطقة المتقدمة في المواجهة مع آسيا المتربصة للمنطقة العربية. أم القرى تمثل العاصمة الروحية للقوة الإسلامية الجاذبة. دمشق تواجه آسيا الأوروبية وتحمل عبء التعامل اليقظ مع العدو الصهيوني. القاهرة حيث القيادة الإقليمية بفضل الكثافة الديموجرافية والفاعلية المهنية والقدرة القتالية. التماسك بين هذه العواصم الأربع يجب أن يمثل هدفا ثابتا ومحورا أساسيا للسياسة القومية العربية وأن تترسب في المدركات القيادية. إن أي خلاف بين هذه العواصم يجب إلا يتعدى عدم الاتفاق في داخل الأسرة الواحدة ولا يجوز بأي معنى من المعاني أن يكون هذا الخلاف مناسبة لنشر الغسيل القذر بل حيث تنقلب التعاملات إلى مواجهة مع الخارج فإن العواصم الأربع يجب أن تقف كل منها لتساند الأخرى. إن الاختراق الحقيقي لهذه الإرادة هو خلق الفرقة بين هذه العواصم. والغريب إننا لو عدنا إلى تاريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم لما وجدنا في أي مرحلة من تطور المنطقة العربية تكتلا وتماسكا حقيقيا بين هذه العواصم على القيادات العربية أن تعرف بأن أي فرقة بين هذه العواصم هي فقط لخدمة القوى المتربصة بمصير ومصالح هذا الوطن.

– الأمن القومي العربي وصراع الإرادات الدولية حول الوطن العربي:

ليكتمل هذا الإطار العام لتحليل مفهوم الأمن القومي العربي يجب أن نحدد عناصر الاستراتيجية التي تتبعها القوى الدولية في التعامل مع هذا المفهوم. قبل أن نتطرق لهذا الموضوع فلنتذكر أننا نقتصر فقط على أبعاده العامة حيث أن تناول ذلك بالتفصيل ليس هذا موضعه لأنه كذلك يفترض تحليل السياسة الدولية في منطقة الشرق الوسط ومنذ قدر للقوى الكبرى أن تسعى للاستحواذ على المنطقة بشكل أو بآخر. كذلك علينا أن نضيف أنه من الطبيعي أن يوجد صراع دائم بين الأمن القومي العربي وكل مصالح ترتبط بالمنطقة ولا تنبع من إرادة المنطقة. وهذا ما يعبر عنه الفقه الدولي من أن كل تأمين لعناصر أمن دولة معينة لا بد وأن يعنى انتقاصا أو تقلصا لعناصر أمن دولة أخرى. وهذا ما يعبر عنه بقانون الغابة في نطاق التعامل الدولي. حقيقة أخرى علينا أن نفهمها جيدا إذا أردنا أن نحقق لواقعنا السياسي حدا أدنى من التماسك والاستقرار.

نستطيع أن نميز في أساليب التعامل الدولي مع المنطقة العربية لتحطيم إرادتها وبعثرة مفهومها للأمن القومي ومنعه من التماسك ثلاثة أنواع من الأساليب. كل منها يتجه إلى مستوى معين من مستويات التفتيت في الجسد العربي.

أول هذه المستويات وأكثرها خطورة هو المستوى الإقليمي. تقاليده تعود إلى فترة الاستعمار الأوروبي وبصفة خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ثم تأتي مجموعة أخرى نستطيع أن نسميها بأساليب التعامل الداخلي تبرز واضحة في بداية القرن العشرين وتظل تتسع وتنتشر من حيث فاعليتها ثالثة لتصير في عالمنا المعاصر المحور الحقيقي للتعامل مع المنطقة. وتأتي مجموعة ثالثة لتكمل هذه المجموعة الأخيرة وتسيطر خلال الأعوام العشرة الأخيرة على منطق التعامل مع المنطقة وهي الأدوات الدولية.

نتابع هذه الأساليب المختلفة بكثير من الإيجاز:

(أ) أول هذه الأدوات تنبع من الواقع الإقليمي. لقد سبق أن تعرضنا لبعض هذه الأدوات ولكن فهم أسلوب التطويع للإرادة العربية لا يمكن أن يكون واضحا إذا لم يتم رصد لجميع هذه الأدوات في إطار واحد وتحديد حقيقة العلاقات المتداخلة بينها.

أولا: إنشاء إسرائيل.

ثانيا: اتباع سياسة شد الأطراف.

ثالثا: خلق حالة الشلل في وظيفة مصر الإقليمية.

رابعا: إذابة القومية العربية في المفهوم الإسلامي.

خامسا: خلق دولة البربر الكبرى.

الأداة الأولى سبق وأبرزنا كيف أن التفكير الجدي من جانب القوى الدولية في إنشائها يعود إلى الربع الثاني من القرن التاسع عشر أثناء حكم بالمرستون. تأجيل ذلك كان طبيعيا عقب أن احتلت بريطانيا منطقة وادي النيل. خروج بريطانيا من مصر كان إيذانا بالتفكير الجدي في المشروع بل وتنفيذه. وما كان يمكن لساسة واشنطون إلا أن يستغلوا هذه الأداة الثمينة. فإسرائيل أداة لتهديد أي قوة عربية في منطقة القلب. وهي قد جزأت الجسد العربي وهي قادرة على أن تحدث المزيد من الاضطرابات لا فقط في المنطقة المحيطة بها وبل وفي جميع أجزاء الوطن العربي. إن المتتبع لتطور مفهوم الأمن الإسرائيلي وبصفة خاصة عندما يتعرض المنظرون الصهيونيون لتصور وظيفة إسرائيل في الأعوام القادمة لا بد وأن يصيبه الذهول من كيفية قناعة قياداتها بأن تصل بفاعليتها إلى جميع أجزاء القسم العربي من المحيط الهندي. يجب أن ينظر إلى إنشاء إسرائيل على أنه مرحلة من مراحل التدخل الأجنبي في المنطقة ومنذ بداية الحروب الصليبية. مبدأ شد الأطراف يأتي فيكمل وظيفة إسرائيل. فإذا كانت هذه تشل القلب فإن القوى الجاذبة الجانبية تشد القوى المتواجدة خارج دائرة القلب وهكذا تمنع المساندة. نموذج الحرب العراقية الإيرانية في أقصى الشرق ثم حرب الصحراء في أقصى الغرب واحتمالات الصدام في جنوب السودان نماذج واضحة لتأكيد هذا المفهوم. ومن يدري فقد تتقدم الحبشة بأسرع مما نتصور لتكمل هذا الإطار؟

خلق حالة اشلل في وظيفة مصر الإقليمية أداة أخرى تعود إلى بداية القرن التاسع عشر على الأقل. الانكفاء الداخلي في مصر عقب الاستعمار البريطاني هو أكبر صفعة أصابت التطور القومي العربي في العصور الحديثة. إذابة العروبة في مفهوم أكثر اتساعا يسمح بافقاد المفهوم لفاعلية الحقيقة يبرز خلال الأعوام الأخيرة في صورة واضحة لا تسمح بالتردد في فهم حقيقة الأهداف الكامنة من السياسة الأمريكية خلف تشجيع بعض الحركات الإسلامية مستغلة في هذا السذاجة التي ينطوي عليها الكثير من القيادات التي تسيطر على تحرك الجماهير من هذا المنطلق الديني. خلق دولة البربر الكبرى بدوره مفهوم ليس جديد سبق أن صاغته السياسة الفرنسية ولكنها لم تستطع تنفيذه والسبب في ذلك يعود إلى أن الصحراء ليست بها مدينة واحدة تصلح لأن تكون عاصمة لتلك الدولة المزعومة. ولكن في الفترة الأخيرة بدأت نغمة عجيبة تتردد في بعض الأوساط حول أن المجتمع القومي في صعيد مصر ينتمي بدوره إلى دولة البربر. وهكذا تصير السودان مؤهلة لأن تصير عاصمة للدولة الجديدة. هذه الدولة سوف تسمح لأن تقيم حائطا ضد الإسلام العربي في الشمال والإسلام الأفريقي في الجنوب وتصير بمثابة حزام يلتف حول الشاطئ العربي للبحر المتوسط فضلا عن أنه يفصل مصر عن مصادر مياهها الطبيعية بل ويمهد لتجزئة مصر ذاتها الأمر الذي لم يحدث خلال ستين قرنا من الأحداث المتعاقبة.

(ب) الأدوات الداخلية ليست أقل خطورة ورغم أنها بدورها تعود إلى عصور طويلة من المعاناة حيث استغلت القوى الأجنبية نواحي الضعف في الجسد العربي إلا أنها لم تتكامل في إطار واحد متماسك إلا مع نظرية الاستعمار الجديد. إن العودة إلى سياسة الخلفاء العباسيين مع أهل الذمة وبصفة خاصة منذ فترة حكم الخليفة المتوكل العباسي يلحظ كيف تحولت سياسة التسامح في فترة معينة إلى نوع من التعصب كنتيجة لخيانة وقعت من هؤلاء لصالح الدولة البيزنطية.والواقع أن أضعاف الخصم من الداخل ليس أسلوبا جديدا. نظرية الاستعمار الجديد أكملت عناصر هذا التطور لتقدم لنا نظرية متكاملة في أساليب تفتيت الإرادة القومية.

العناصر عديدة:

أولا: تشجيع القومية.

ثانيا: تدعيم مفهوم الولاء الطائفي.

ثالثا: مساندة الزعامات الضعيفة المهلهلة ورفعها إلى مواقع السلطة.

رابعا: خلق طبقات منتفعة طفيلية.

خامسا: استخدام جميع أساليب التسهيم السياسي.

مجموعة هذه العناصر تقود إلى نتيجتين متكاملتين: أولاهما الشعور بالتبعية نحو الإرادة الغازية، وثانيتهما الابتعاد عن التكامل مع الإرادة القومية. النماذج التي تعيشها المنطقة العربية بهذا المعنى عديدة لا حصر لها. بل ويمكن القول أن جميع أجزاء المنطقة وبدرجات مختلفة قد وقعت في هذا المأزق. ليست مصر وحدها ولا منطقة الخليج العربي فقط بل حتى الدول التي تزعم بأنها تمثل الخط اليساري المتقدم في المنطقة تركت نفسها بلا وعي تسقط في هذا الفخ وتصير أسيرة لهذا التطور الإنعزالي.

(جـ) الأدوات الدولية تكمل هذا الإطار العام من الصراع ضد تكامل مفهوم الأمن القومي العربي. ورغم أن هذه الأدوات لم تبرز بعد واضحة من حيث آثارها إلا أنها حية ملموسة لكل من يتابع حقائق التعامل الدولي.

أولا: نشر الكراهية ضد العالم العربي.

ثانيا: تدعيم الترابط الدولي ضد المصالح العربية.

ثالثا: تفجير منظمة الأوبك.

مما لا شك فيه أن بعض هذه الأدوات لا تتجه فقط إلى التماسك العربي بل أنها تعني أيضا دول العالم الثالث. ولكن العملية دائما واحدة. فالأداة الأولى قادت حملة عنيفة من جانب الشعوب السوداء ضد الدول العربية البترولية بدعوى أن ارتفاع سعر البترول قد قاد إلى إفلاسها. وهذا غير صحيح لأن تطور سعر البترول أقل من أي سلعة أخرى في السوق الدولية بما في سعر القمح. كذلك فإن تدعيم الترابط الدولي ضد المصالح العربية ظهر واضحا في جولات الحوار العربي الأوروبي وبصفة خاصة في كل ما له صلة بالتصنيع للمنطقة العربية بما في ذلك تكرير البترول، ولا نزال نتساءل: كيف نتصور المنطقة العربية تصدر أكثر من 60% من البترول الخام الدولي وهي تستورد قرابة نصف البترول المكرر الذي يحتاجه السوق العربية؟ أما عن تفجير منظمة الأوبك فهو ظاهرة ليست موضع تعليق نعاصرها في لحظة كتابة هذه الأسطر وقد سبق ونبهنا الأذهان إلى احتمالاتها منذ أكثر من عشرة أعوام ولكن دون مستمع.

هذه الأدوات المختلفة تكون نسيجا متكاملا من التعامل. ورغم أننا لم نفصل في عناصره لأن هذا ليس موضع هذا التحليل إلا أن علينا أن نلاحظ أمرين:

الأول: وهو أن تنفيذ هذه الأدوات لا يفترض أن يتم من جانب فقط إحدى الدولتين الأعظم. فمبدأ الأدوار كما طرحناه في غير هذا الموضوع أضحى قاعة أساسية من مبادئ تنفيذ السياسة الخارجية. وقد برعت في ذلك ليس فقط السياسة الأمريكية بل وكذلك ولو بدرجة أقل السياسة السوفيتية. وإذا كانت الأولى هي التي تعنينا أساسا فلنتذكر من الأدوات التي تلجأ إليها لتنفيذ مخططاتها أغلب دول أوروبا الغربية ودون استثناء حتى إيطاليا استخدمتها وكالة المخابرات الأمريكية في جمع المعلومات خلال فترة وجود عبد الناصر. كذلك فإن الشركات المتقدمة الجنسية تمثل أداة أخرى حاسمة وخطيرة وبصفة خاصة حيث أن الشركات البترولية الكبرى تكاد جميعها تنطوي تحت هذه المجموعة من أدوات التعامل الدولي.

الثاني: ويتعلق بإسرائيل. فإذا كانت إسرائيل هي أداة أساسية من أدوات القوى الكبرى لمنع مفهوم الأمن القومي العربي من التكامل فإن هذا لا يعنى أن إسرائيل بدورها لها أهدافها المستقلة. وهي مؤقتا تتفق مع مصالح الولايات المتحدة. ولكن هذا لا يمنع من أنها تملك نظرتها المستقلة ومصالحها المتميزة  والتي تدور حول مبدأ واحد: تحويل المنطقة إلى دويلات وكيانات جزئية لا قيمة لها في النطاق الدولي.

ولكن هذا موضع آخر في حاجة إلى دراسة على حدة.

– صياغة مفهوم الأمن القومي العربي- خلاصة:

والخلاصة أن مفهوم الأمن القومي العربي في حاجة إلى صياغة وأن هذه الصياغة أضحت ملحة لأن التطور الذي تعيشه المنطقة العربية بين موجتين من محاولة مد النفوذ وتوظيف المنطقة لصالح الدول الكبرى تفرض على القيادات العربية نوعا من الوعي والإدراك بحقيقة المخاطر التي يتعين على تلك المنطقة أن تعد نفسها لمواجهتها.

الحجج التي كانت تساق في بعض الأحيان لتبرير تقاعس الفكر السياسي عن تقنين ذلك المفهوم لم يعد لها موضع. فالربط بين مفهوم الأمن القومي والدولة القائمة والمتكاملة لم يعد له موضع ومشاكل الأمن القومي العربي تتعقد لأسباب عديدة لعل أهمها تدخل الإرادات الأجنبية في تشكيل المنطق القيادي وفي توجيه القيادات العربية بلا وعي.لقد أثبتت الأحداث التي نعيشها أن المنطق العربي منطق ساذج وأن السياسة العربية ليست إلا تعبيرا عن تلك السذاجة. اختلاف المدركات السياسة التي قادت إلى الفرقة التي تعيشها المنطقة العربية إلى حد العداوة كان يجب أن يكن ناقوسا يقرع في الأذهان ليذكر الفكر العربي بواجبه في ذلك الصدد. التناقضات العربية ساعدت من تدعيم وتفجير هذا الواقع المحزن.

هذه المحاولة التي قدمناها ليست إلا مجموعة تأملات. إنها لا تزال في حاجة إلى الصقل المستمر وهي لا يمكن أن تكون كاملة إلا لو قدر لها الفريق القادر على أن يتعامل مع جميع هذه المشاكل من منطلق بجمع بين الاعتبارات العسكرية والمنطق السياسي بحيث نستطيع أن نحيل المفاهيم إلى مقاطع حركية مقننة ومن ثم إلى خطة واضحة ومحددة العناصر لبناء سياسة عربية واحدة متكاملة. ولا يكفي تقديم التصور بل لا بد من ترسي القناعة بذلك التصور، ولعل هذه أخطر الواجبات التي يتعين علينا أن نتصدى لها بفاعلية وبعد نظر.

كذلك فقد تركنا جانبا كل ما له صلة بموضع مصر كدولة قائد وما يرتبط بذلك من تقنين لمبادئ الأمن القومي العربي. رغم أننا سوف نعود إلى تفصيل بعض النواحي التي تثيرها العلاقة بين الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي إلا أننا وعن عمد قد تركنا جانبا كل ما له صلة بخصائص ومتغيرات ونتائج الوظيفة القيادية لمصر. السبب في ذلك يعود أساسا إلى أن مصر ولعدة أعوام لن تستطيع أن تؤدي هذه الوظيفة. إن الوظيفة القيادية هي فاعلية أولا وقدرة ثانيا وقناعة ثالثا. مصر لم تعد تملك لا الفاعلية ولا القدرة: لقد أضحت دولة فقيرة في عالم غني وقد قيدت نفسها بمعاهدة جعلت منها أسيرة لنفوذ أجنبي لا تملك الفكاك منها إلا بقيادة مستعدة للمغامرة. والشعب المصري في هذه اللحظة لم يعد يملك تلك القناعة بأن عليه أن يؤدي وظيفته القيادية، وحتى تملك مصر تلك العناصر الثلاثة فليس هناك موضع لإثارة هذا الموضوع. رغم ذلك فلنتذكر أن أحد عناصر الأمن القومي العربي ليس فقط التماسك حول منطقة القلب ولكن أيضا الثقة في الدولة القائد وإعطائها الحق في تحمل المسئولية كاملة. ليس هناك التزام دون حق. التلازم بين الحق والالتزام قاعدة مطلقة. حقوق لمصر على الدول العربية. والتزامات على مصر نحو الشعوب العربية. علينا أن نعترف أن فترة العشرين عاما الماضية لم تقتصر على أن تفقد مصر قدرتها وصلابتها بل أنها أيضا أحدثت القطيعة بين الشعب المصري والشعوب العربية. وعلى الشعوب العربية وليس فقد القيادات العربية أن تؤدي دورا خطيرا في الأعوام القادمة بأن تقدم لشعب مصر ما يعيد تلك الثقة إلى موضعها. يزيد من تضخيم ذلك الواقع الذي نعيشه متغيران أساسيان: اختفاء القيادة الحقيقية من جانب ثم ما حدث من تعريب لمصر بمعنى نزول بالقيادة المصرية إلى مستوى المهاترة والتبذل الذي هو أحد تقاليد القيادات العربية.

الدكتور حامد ربيع

أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة (سابقا)

رئيس قسم الدراسات السياسية والقومية بمعهد الدراسات العربية ببغداد

أستاذ خارجي بجامعات الخرطوم ودمشق وروما وباريس

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button