منذ زمن غير بعيد بدأ السياسيون يتداولون مصطلحين جديدين هما (القوة الناعمة والقوة الصلبة). وازداد استخدامهما خاصة بعد الحراك السياسي والتغيرات في المنطقة
العربية، في ليبيا وتونس ومصر وبعض دول الخليج، وفي سورية وبلدان عربية أخرى، وبعد احتلال أفغانستان والعراق.
القوة الناعمة أو الليّنة، هي مصطلح سياسي حديث العهد، عرفه الفلاسفة والسياسيون القدماء بتعابير متعددة منها مثلاً (التأثير والإقناع والثقافة والنموذج).
ويرى ميشيل فوكو، أن القوة الناعمة تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين، تعتمد في ظهورها على القوة الخشنة أو الصلدة. وتقوم بأعمال تعجز القوة الصلدة عن القيام
بها. والقوة الناعمة ليست دعاية سياسية، بل هي سجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل الدولة وخارجها.
وتعني القوة الناعمة من وجهة نظر (جوزيف ناي)، القدرة في الحصول على ما نريد من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع.. وهي أحد مصادر التأثير.. وهي أيضاً الإغراء
والجذب. ويشير (ناي) إلى أن القوة الصلبة، تعني القوة المشتركة السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تعني الحرب، والتي تستخدم فيها
الجيوش. وتعني هذه القوة الدخول في مزالق خطرة، ونتائجها تكون في منتهى الخطورة على الدولة ذاتها، كما حدث مثلاً في الحرب العالمية الثانية، بين اليابان وألمانيا
النازية. وبيَّنت الدراسات للباحثين الاستراتيجيين والمفكرين، أن القوة الناعمة مصطلح يستخدم في نطاق نظريات العلاقات الدولية. ويشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة
السياسية، بهدف السيطرة على سلوك واهتمامات القوى السياسية الأخرى المستهدفة بوسائل ثقافية وأيديولوجية.
السؤال المطروح: ما مغزى القوة الناعمة، وماذا تشمل من أعمال مخططة ومنظمة؟
إن الغاية من القوة الناعمة هو تدمير الطاقة السياسية، بهدف الهيمنة والسيطرة على القدرات والمقومات السياسية لدى الآخر المستهدف، أي الغزو الثقافي والأيديولوجي،
وتحويل البلد إلى بلد مسيطر عليه، من دون أن تظهر هوية الفاعل الحقيقي. وهذا الفاعل الحقيقي أصبح معروفاً ومتداولاً في الساحة السياسية الدولية، وهو الولايات
المتحدة الأمريكية. وأفضل من عبَّر عن أماني الولايات المتحدة، وضرورة تمايز قوتها هو روبرت غايتس وزير الدفاع الأمريكي، الذي أضاء موقفه مؤكداً، أن رسالته
اليوم ليس حول موازنة الدفاع أو القوة العسكرية، بل تتعلَّق بكيفية مواجهة الولايات المتحدة للتحديات الدولية القادمة في العقود المقبلة. وافترضَ (غايتس) أن
على الولايات المتحدة أن تبتكر مظاهر أخرى لقوتها القومية، بهدف مواجهة التحديات الخارجية. ويعترف أنه جاء إلى وزارة الدفاع ليعزز استخدام القوة الناعمة، وكي
تصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة. أما جوزيف ناي المنظّر الأساسي لمفهوم القوة الناعمة، فطرح في مؤلفاته استراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة
في السياسة الدولية. ودرس ناي بدقة تكلفة حروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، فوجد أن وزن الولايات المتحدة الدولي لم يعد كما كان في السابق. وأن شعبية
بلده قد تدنَّت تدنياً حاداً في البلدان الإسلامية. وانطلق (ناي) من فكرة أن الناس قد عرفوا القوة الصلبة (المباشرة عسكرياً). والجبروت العسكري والاقتصادي للولايات
المتحدة. وأدركوا بالمقابل أن استخدام القوة المباشرة والتهديدات الصريحة من شأنه أن لا يحقق النتائج المرجوة، في حين أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي (القوة
الناعمة) سيجذب الآخرين ويرفع مستوى الإعجاب بالسياسة الأمريكية.
القوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد من دون إرغام! كما أنها العنصر الثابت في السياسة. ومن الناحية الإجرائية تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير
المباشرة، كاللعب بقواعد الخصم وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها الخصم. وفي مظهر الحرب الناعمة يتمظهر الاشتباك مع الخصم الخارجي بلون
محلي تماماً. ويرى (ليزلي جلب)، الباحث الاستراتيجي، في كتابه (قواعد القوة)، أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها. ويقترح
اتباع نهج الحس السليم كنتاج إبداعي يجمع بين استراتيجيات القوتين (الناعمة والصلبة). وركز في كتابه على:
* السعي لجعل الولايات المتحدة قادرة على استعادة ديناميتها الاقتصادية العالمية.
* تأكيد انتهاج مبدأ الدمج بين القوتين (الصلبة والناعمة)، لإعادة إنتاج موقع الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين.
* التحديد الواضح للتحديات والمخاطر التي تتهدد الولايات المتحدة، كالإرهاب والتهديدات الاقتصادية والمشكلات الصحية والبيئية.
* استخدام السبل الوقائية والتعامل مع المشكلات المتوقعة قبل حصولها.
* استخدام القوة في ظروف محددة، وأسلوب الإكراه في المواقف التي لا تحقق فيها القوة الصلبة النتائج المرجوة. وهناك من يمايز بين الأثر الإيجابي والأثر السلبي
للقوة الصلبة، على صورة الدولة على الصعيد الدولي، وذلك لتعزيز القوة الناعمة، كما هو الحال بالنسبة لتقديم المساعدات الإنسانية للدول الفقيرة، والقوة العسكرية
من خلال المشاركة في عمليات حفظ السلام.. وهذا هو الأثر الإيجابي. أما الأثر السلبي على الدولة فهو برأي هؤلاء، يكون بتقويض مصداقيتها، وبالتالي يشوّه صورتها
الدولية، حينما تستخدمها في عمل غير شرعي على الساحة الدولية. يقول (ناي):
(إذا أمكن الوصول إلى الأهداف بواسطة القوة الخشنة، من استعمال القوى الكبرى للقوة، إلاَّ أنه قد يشكّل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى
الثقافية.. لذا فإن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأمريكيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة..).
جدلية القوّة الصلبة والقوّة الناعمة في الهيمنة على الدول النائمة
بدأ مفهوم “القوة الناعمة” اليوم أكثر تداولاً في سياسة الدولة والعلاقات بين الدول، بل وحتّى بين الجماعات الأثنية ذات العلاقات المتوترة.
أول من استخدم هذا المفهوم هو السياسي وخبير العلاقات الدولية الأميركي “جوزيف. س. ناي” عميد مدرسة كيندي للدراسات الحومية بجامعة هارفرد، وقد شغل منصب رئيس المخابرات الوطني ومنصب وكيل وزير الدفاع في إدارة كلينتون.
في كتابه “مُلزمون بالقيادة الصادر عام 1990” بدأ يُطور مفهومه عن “القوة الناعمة”، وفي كتابه “مُفارقة القوة الأمريكية” الصادر عام 2001 كتب بتوسع عن هذا المفهوم، أما كتابه “القوة الناعمة” الصادر في عام 2004، وقد صدرت ترجمته العربية عن دار العبيكان في السعودية عام 2012، تر: محمد توفيق البجيرمي، الذي وثقّنا له في متن قراءتنا هذه لمفهوم “القوة الناعمة”.
كان الكتاب تتويجاً لرؤى جوزيف ناي وإيضاحاً لمعنى مفهوم “القوة الناعمة” وتمظهراته في الكشف عن إمكانات تطبيقه وتخليص أميركا من باهظ الأثمان التي صرفتها في حروبها التي استخدمت فيها “القوة الصلبة”.
تعني “القوة الناعمة” القدرة على الحصول على ما تُريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومُثله السياسية” (ص12) وهي المُقابل لـ “القوة الصلبة” و القوة الاقتصادية” التي يُمكن أن تُستخدم بوصفها من آليات السطو الغلبة للقوة الصلبة العسكرتارية، وفي الوقت نفسه يُمكن أن تُستخدم بطريقة مرنة عن طريق تنشيط مؤسسات العولمة الاقتصادية العابرة للقارات لخلق “الدولة المرنة” بعبارة سمير أمين، لخرق نُظم السيادة التقليدية في الدول النامية أو دول العالم الثالث (ص72)، وهناك مفهوم “القوة الذكية” وهي ليست صلبة ولا ناعمة، إنما هي مزيج بينهما، (ص16)، ولو ركزنا النظر في هذه المفاهيم لوجدناها تستخدم مفهوم القوة، وهذا المفهوم بأبسط تعريف له هو: “امتلاك القدرات على التأثير في أسلوب الآخرين لجعل الأشياء التي يرغب بها من يمتلك القوة تحدث”، (ص20)، وليس شرطاً أن نستخدم القسر والقسوة والحرب لتحقيق هذا التأثير، إنما يُمكن تحقيق كل ذلك عن طريق استخدام “القوة الناعمة”.
أهم مقومات وجود القوة الناعمة وفاعليتها هي:
أولاً: العمل على “الاختراق الثقافي” والعلمي للمجتمعات المُنغلقة على ثقافتها المحلية، والسعي للترويج فيها لثقافة ذات قيم عالمية، لأن المجتمعات ذات القيم المحدودة محلياً يقل فيها احتمال إنتاج التفاعل مع القوة الناعمة، (يُنظر: ص32)، وسيكون الإعلام والأفلام والموسيقى الغربية والتأثير الثقافي والأدبي، فضلاً عن العلمي، أدوات هذه القوة الناعمة، عبر إبهار شباب هذه المجتمعات دائمة التوتر والكره لمجتمعات الترف والغنى والصناعة، بتحويلها لجماعات مُتلقية ومُتأثرة ومُنجذبة لنتاج المجتمعات الأنكلوسكسونية. الأمر الذي يُساعد في وجود جماعات مؤيدة لنمط حياة أميركا وأوربا لتجعل من هذه الجماعات، جماعات ضاغطة على سياسة وتوجهات المجتمع الرافض للبيئة الثقافية والعلمية لتُحقّق ما لم تُحقّقه الدبابات والطائرات الحربية.
“فالدعاية السوفيتية والثقافية (مثلاً) والتي كانت تُديرها الدولة، لم تستطع أن تُضاهي في تأثيرها ثقافة أميركا الشعبية في الجاذبية، فجدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه في عام 1989” (ص83ـ84)، فقد حققت هذه القوة الناعمة مالم تُحققه القوة الصلبة بسنوات طويلة من المواجهة العسكرية المباشرة وغير المباشرة، رغم القيود الصارمة التي كانت تُمارسها الحكومة الروسية على المُنتجين الثقافي والاقتصادي الأميركيين، ولكن الأفلام استطاعت النفاذ، وحتى موسيقى “الروك آندرول” استطاعت كسب قلوب الكثير من شباب دول الإتحاد السوفييتي آنذاك، بل وحتّى بعض البلدان الإسلامية المنغلقة ثقافياً وسياسياً.
ثانياً: محاولة جذب أكبر عدد من الطلبة الراغبين في الدراسة في أميركا وأوربا وتقديم أكبر التسهيلات لهم وضمان سُبل التقدم والنجاح لهم، لأنهم سيكونوا رسل هذه الحضارة في مُجتمعاتهم، لأنهم مُرحب بهم، وأغلبهم سيكونون هم قادة هذه المُجتمعات، إذ يقول كولن باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق: “أن أُفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المُستقبل الذين تلقوا التعليم هنا في أميركا” (ص77).
ثالثاً: العمل على نشر الوعي بالديموقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان كما جاءت بلائحة حقوق الإنسان، وهذا الأمر سيُسهل من إيجاد سبل للتفاهم مع هذه الجماعات، لأنها الأقرب لنمط الحياة الأميركية الفكري والثقافي، و”محاولة إنشاء هيكل من القواعد الدولية يتماشى مع الطبيعة الليبرالية والديمقراطية للنظم الاقتصادية” في الدول الأنكلوسكسونية (ص31).
رابعاً: استخدام الثورة المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الأنترنت لكسب عقول الكثير من شباب مجتمعات الرفض والممانعة. (ص59)، ففي الصين الماوية قد تسربت الأخبار الأميركية عن طريق الأنترنت، وغيرها من وسائل الإعلام، فقد أُعجب الكثير من الصينيين بالثقافة الشعبية الأميركية (ص87).
خامساً: استخدام التجارة بوصفها إحدى الطُرق التي تنتقل بها الثقافة فتنتشر.
أما مُعوقات تطبيق “القوة الناعمة” فهي سياسة الحكومة ذات التأثير الدولي، لأن الحكومات عادة، لا تستخدم “القوة الناعمة” في التعامل مع مجتمعات الرفض والممانعة بقدر ميلها لاستخدام القوة الصلبة، ولكن ما يخدم هذه الدولة هو مؤسسات المجتمع المدني الاقتصادية والثقافية والشعبية والعلمية، التي لها تأثيرها الفعّال في تقبل المجتمعات الأنكلوسكسونية ورفض سياستها الخارجية، فالكثير من الجاذبية للقوة الناعمة أنتجتها “هوليود” والجامعات، والمؤسسات الثقافية والعولمية غير المرتبطة بالحكومة الكولنيالية ولا بسياستها الرعناء. وكان الأجدر بالولايات المُتحدة الأميركية البحث عن مؤيدين لسياستها في المُجتمع الدولي عن طريق سياسة الجذب والقوة الناعمة، لا عن طريق سياسة التخويف والقوة الصلبة وإرغام الرافضين لسياستها باستخدام وسائل القسر والضغط الاقتصادي. (يُنظر: ص110).
إن ما يُميّز أطروحات جوزيف ناي في تبنّيه لمفهوم “القوة الناعمة” هو مقدار ما أحدثته “القوة الصلبة” من دمار في البنية التحتية والمجتمعية للدول التي تعرضت لحروب “الدولة المارقة” بعبارة جومسكي.
تعرض جوزيف ناي، لدور الإرهاب وقدّمه في مواجهة المدّ الشيوعي بدعم من أميركا بما يُسميه “دمقرطة التكنولوجيا” (ص49)، التي “وضعت وسائل تدمير جديدة في أيدي المُتطرفين من الجماعات والأفراد” (ص48) بعد أن كانت هذه الطاقات التدميرية محصورةً في أيدي الحكومات والجيوش المُتقدمة بالدرجة الأولى، فصار هناك فرد يُهدّد أُمماً، كما حصل مع (أسامة إبن لادن) وقد تساوقت “دمقرطة التكنولوجيا” هذه مع أيديولوجيا العنف الموروث من ماضي هذه الجماعات ذات التصور الأحادي للحقيقة.
استخدم الإتحاد السوفييتي القوة الناعمة، حينما كانت رؤيته الماركسية في الدفاع عن حقوق البروليتاريا والطبقات الفقيرة كأداة جذب لتعاون شعوب العالم الثالث وتفاعله مع رؤيته القائمة على ضرورة بناء اقتصاد مُقيّد تُسيطر عليه الدولة لضمان توزيع المدخولات بالتساوي بين أفراد المجتمع ممن هم من أصحاب وسائل الإنتاج أو العاملين فيها، ولكن هذه الفاعلية في استخدام القوة الناعمة على المستوى الفكري، بدأت في الفتور حينما ماسها مع مُعترك السلطة والممارسة الحياتية الاجتماعية والعقائدية (يُنظر: ص114).
وقد استخدم الأوربيون سياسة القوة الناعمة في المصالح العامة العالمية، وإن كان في بعض ممارسات حكوماتها انصياع لسياسة أميركا المارقة، ولكنهم على الرغم من هذه الهفوات، إلًا أنهم ما زالوا في السياسة الخارجية يمتلكون كثيراً من الحصافة الدبلوماسية والتعاون الثقافي الذي يشفع لهم ويغفر عند كثير من الدول الضعيفة بعض من تهاونها مع سياسة الحكومة الأميركية المارقة، عبر محاولات فرنسا وبريطانيا “عبر خلق ميزان قوى مُتعدد الأطراف” (ص126).
في آسيا كان لـ”النمور الآسيوية” دورها في تنشيط الوعي بمفهوم القوة الناعمة، فكانت اليابان من أولى هذه الدول التي شجّعت النمو التكنولوجي والعلمي مع المحافظة على التراث القومي، وسعيها لتطوير الإنتاج المحلي عبر تمكنها من السيطرة على التكنولوجيا والتنمية الإنمائية والعلمية والثقافية، الكامنة في تفوقها في إنتاج برامج الأطفال الإلكترونية أو الكارتونية وتصديرها لثقافتها الشعبية في الموسيقى واليوغا اليابانية.
يختتم جوزيف نايم كتابه، بنصيحة للولايات المُتحدة الأميركية بالانفتاح على ثقافات الشعوب المُتباينة والمُختلفة والرافضة لسياسة أميركا الخارجية، وفتح الآفاق الدبلوماسية وتجاوز الفكرة الوهمية القائلة بـ “إمبراطورية أميركا” التي تبنّاها بعض المفكرين الأميركيين ومؤيديهم، بل وحتى ناقدي سياستها، لأن “الإمبراطورية ليست سوى استعارة”…”ليست الولايات المُتحدة مُهيمنة ولا إمبراطورية” (ص200ـ201).
إن دعوة جوزيف ناي لتوسيع استخدام سياسة القوة الناعمة، لا يعني تخلّي أميركا عن السيف كما يقول، “فستظل مُحتاجة إليه بين الحين والآخر في الصراع ضد الإرهاب وفي جهودها لزيادة الاستقرار، فالحفاظ على قوتنا الصلبة جوهري للأمن، ولكننا لن ننجح بالسيف وحده” (ص2011).
هي نهاية لكاتب تليق به بكونه سياسيا أميركياً عاش في ظل حروب متواصلة، من فيتنام إلى أفغانستان والحرب الباردة وسقوط جدار برلين، وعاصفة الصحراء، ليختم بقوله: “ليست الأمم المُتحدة هي المصدر الوحيد للشرعية” (ص212)، ليشير لنا بأن الكثير من قرارات أميركا التي تبنتّها خارجاً أو بالضدّ من الأمم المُتحدة هي صحيحة، وإن لم تحظ بقبولها (!!).
ولربما سيُصدّر لنا الإسلاميون هذا المفهوم، أي مفهوم “القوة الناعمة” بوصفه مفهوماً قد أنتجته الثقافة الإسلامية ولم يعيه المسلمون، لأن جذوره متأصلة في دعوة الإسلام حينما خاطب المخالفين بقوله “وجادلهم بالتي هي أحسن” أو حينما بعث النبي رُسلاً لحاكم الروم هرقل وكسرى إمبراطور الفرس، ليهديهما لسبيل النجاة أملاً (!!)، أو ربما سنرى في دعوة الرسول للمسلمين في مصالحة المُشركين وفق قوله “فإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم” (الأنفال/61)، (!!) ولربما يكون مفهوم جوزيف ناي عن “القوة الناعمة” كمفهوم الاشتراكية ومفهوم الديمقراطية، حينما نظروا له كثير من الإسلاميين على أنه من نتاج الفكر الإسلامي، كما هو الحال مع أغلب النظريات العلمية التي نظروا لها المتأسلمون فثبت خطؤها، فسكتوا، ولم يعلموا أن توظيف النص لصالح تحولات ظرفية زمانية ومكانية طارئة إنما ينال من عصمة النص المقدس.