دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينية

أميركا والعالم ـ سياسات وتحولات

Table of Contents

التنافس الصيني الأمريكي على القارة الأفريقية

في غمرة التحذيرات من عودة المشهد الدولي إلى حالة الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، تتوالى مؤشرات ترجح أن تشكّل القارة الأفريقية رقعة أساسية للصراع، خصوصًا بين واشنطن وبكين.

وفي نسخة تحاكي أحداث النصف الثاني من القرن العشرين في أوروبا، تتوقع تقارير بأن يؤول التنافس المحموم على النفوذ بين الجانبين إلى استقطاب في القارة السمراء، ينتهي بتمزيقها بين معسكر شرقي يحسب على الصين، وغربي يحسب على الولايات المتحدة.

وبالرغم من ضعف النفوذ الأمريكي في المنطقة، اقتصاديًا مقارنة بالصين، وسياسيًا وعسكريًا مقارنة بفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، فإن واشنطن لا تُخفي اهتمامها بتدارك هذا الوضع، فالقارة تضم أكبر تجمع للدول النامية في العالم، ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والنمو السكاني الأسرع عالميًا، والثروات الهائلة، والحكومات المفتقرة لأدوات فرض الأمن والاستقرار وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية.

ومما يزيد من أهمية القارة في هذه المرحلة، حاجة الصين الملحة لتنويع مصادر واردات الطاقة، وهي التي احتلت عام 2016، صدارة قائمة مستوردي النفط عالميًا، لأول مرة في تاريخها، بعد تخلي الولايات المتحدة عن ذلك الموقع، إضافة إلى حاجة بكين لأسواق جديدة لمنتجاتها، تساهم من خلالها في تنويع شركائها التجاريين.[1]

فرضية البحث:

– إلى متى ستبقى القارة الأفريقية موضوع تنافس دولي؟

-متى تستفيق القارة من سباتها وتنهض لتطور نفسها، وتستفيد من خيراتها؟

– أليست القارة الأفريقية بحاجة لوضع أسس تنمية ذاتية، بعيدة عن مخاطر استغلال الجهات الخارجية ومطامعها المتجددّة؟

مقدمة:

أخذ التنافس الدولي على القارة الأفريقية بعدا استراتيجيا مهما في السنوات الأخيرة، لكونها قارة تحتل موقعا استراتيجيا أو أنها تضم مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية وأنها ثاني أكبر القارات وتتوفر على ثروات مهمة. وابرز المتنافسين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بالإضافة إلى فرنسا طبعا،

لا شك أن التغيير الحاصل في السياسة الخارجية الصينية اتجاه أفريقيا، وسعيها الدؤوب للحصول على النفط و المواد الخام، وفتح أسواق إفريقية جديدة يقلق كثيرا الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الغربية، فالتقارير و الدراسات التي أعدتها مراكز الأبحاث الغربية تعكس هذا القلق، لا سيما وأن التحرك الصيني الجديد في أفريقيا أخذ ينحي جانبا عوامل السياسية والإيديولوجيا، وذلك مقابل هيمنة الاقتصاد والمصالح النفعية البحثة، فالصين باتت تفكر بمنطق براجماتي مصلحي صرف، فهي تهتم بقضايا التجارة و الاستثمار و الوصول إلى مصادر النفط و المواد الخام، أكثر من اهتمامها الإيديولوجي بقضايا مثل :”الصين الواحدة” أو ” التضامن مع العالم النامي”، و يلاحظ المحللون أن تزايد الاهتمام الصيني بأفريقيا، قد ارتبط بعملية إعادة تقويم دور أفريقيا في الاستراتيجية الأمريكية الكبرى بعد أحداث 11 شتنبر2001، فقد بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى أفريقيا من خلال ثنائية موقعها في استراتيجية الحرب على الإرهاب، وثروتها النفطية والمعدنية التي تؤهلها لتكون بديلا مريحا لنفط الشرق الأوسط، وعليه فإن الحديث عن وجود شراكة استراتيجية، سواء أكانت أمريكية أو أوروبية أو صينية مع أفريقيا، إنما هو حديث لا يخلو من أبعاد سياسية وإيديولوجية، ولكنه بالتأكيد يرتكز على دعائم مصلحية و اقتصادية تصب لا محالة في قنوات الطرف القوي في هذه العلاقة.[2]

فإلى أي حد يصل هذا التنافس؟ وما هو تقييمه؟

وإلى متى ستبقى القارة الأفريقية موضوع تنافس دولي؟

إشكالية البحث: “ما السر وراء التنافس المحموم الصيني -الأمريكي على أفريقيا؟ وما هو تقييم هذا التنافس؟ “ثم إلى متى ستبقى القارة الأفريقية موضوع تسابق دولي؟

أهمية البحث:

التنافس الدولي على أفريقيا يحتاج إلى مراجعة شاملة خصوصا أنها أخذت تكتسب بعدا استراتيجيا متزايدا في السنوات الماضية، وخصوصا بعد الحرب الباردة؛ إنها ليست مجرد قارة تحتل موقعا استراتيجيا، أو أنها تحتوي على مضائق مهمة (مضيق جبل طارق، مضيق باب المندب) ورئيسية في طرق الملاحة بالنسبة للتجارة العالمية، وأنها ثاني اكبر القارات من حيث المساحة التي تبلغ 30 مليون كلم، تشكل ما نسبة قرابة الـ (20%) من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، تضم أفريقيا حوالي 800 مليون نسمة تمثل ما قرابة (15%) من مجمل سكان الكرة الأرضية، وفيها ثلاثة وخمسين دولة مستقلة.

كل هذه المقومات جعلتها محط تنافس دولي وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وأن محور التنافس احتدم خاصة بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، والنظم السياسية الأفريقية الموالية للمنظومة السوفيتية.

المطلب الأول: الاهتمام الأمريكي بأفريقيا:

1: ثروات القارة:

تعتبر القارة الأفريقية التي ينمو اقتصادها بمعدل 5.8 في المائة سنوياً، من القارات التي حباها الله ثروات طبيعية هائلة، إذ تملك حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يشكل حوالي 12 بالـمائة من الاحتياطي العالمي، وتتركز الثروة النفطية في دول نيجيريا والجزائر، ومصر وأنجولا، وليبيا والسودان، وغينيا الاستوائية والكونغو، والجابون وجنوب أفريقيا، كما تبلغ احتياطاتها من الغاز الطبيعي حوالي 10 في المائة من إجمالي الاحتياطي العالمي، حيث تملك حوالي 500 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي.

كما تحتوي القارة الأفريقية على موارد طبيعية وأولية ضخمة أخرى، حيث تنتج حوالي 90 في المائة من البلاتين المنتج في العالم، و40 في المائة من إنتاج الألماس، وتحوز 50 في المائة من احتياطي الذهب، و30 في المائة من اليورانيوم الهام في الصناعات النووية، وتنتج 27 في المائة من إجمالي كمية الكوبالت المنتجة، أما خام الحديد فتقوم القارة بإنتاج ما نسبته 9 في المائة من إجمالي إنتاجه حول العالم.

وتعتبر الزراعة أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في القارة السمراء، لتنوع المناخ وكثرة الأنهار، حيث يعمل ثلثا سكانها بالزراعة تقريباً، التي تساهم بحوالي 20-60 في المائة من إجمالي الناتج القومي لكل دولة من دولها، إضافة إلى كونها أحد أكبر مصادر المنتجات الزراعية مثل البن والقطن والكاكاو.

كما تتميز أفريقيا بوجود الكثير من الغابات التي تنتج منها الأخشاب بكميات كبيرة؛ علاوة على الثروة السمكية، ويساعد قطاعها على توفير دخل لحوالي 10 ملايين أفريقي يعمل بمهنة صيد الأسماك، فيما تبلغ قيمة الأسماك التي يتم تصديرها 2.7 مليار دولار أمريكي [3]

2: مسارات العلاقات الأمريكية الأفريقية:

إن النمط العام الذى يميز السياسة الأمريكية اتجاه أفريقيا قبل بداية الحرب الباردة، اتسم بالعزلة وكف الأيدي عن التدخل في الشؤون الداخلية للقارة، ويكفي أن نشير إلى الوقوف الأمريكي الصامت اتجاه مؤتمر برلين عامي 1884 – 1885، والذي تم بمقتضاه تقسيم أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية، ويبدو أن عدم الرغبة أو حتى عدم الخبرة هي التي وقفت وراء هذه السياسة الأفريقية للولايات المتحدة، وعليه، فقد واجهت هذه السياسة معضلة حقيقية مع بداية فترة الحرب الباردة في أواخر الأربعينات، وربما أكد هذا المعنى “جورج ما جهى” مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى والشؤون الأفريقية بقوله: إننا لسنا في موقع يمكننا من ممارسة المسؤولية بشكل مباشر اتجاه أفريقيا، إننا نفتقد الرغبة لتحمل المسئوليات التي يقوم بها الآخرون، وعلى أي، حال فإن المبادئ التي نؤمن بها والالتزامات الحاكمة لحركتنا، فضلا عن عدم خبرتنا أسهمت جميعها في عدم تحملنا لهذه المهام.

ويمكن القول بشكل عام أن الدبلوماسية الأمريكية تجاه أفريقيا في ذلك الوقت، واجهت مشكلات أساسية: أولها: أنها كانت بشكل مباشر، وثانيها: أنها كانت تؤمن بالدور المحوري للقوى الأوروبية في مستعمراتها الأفريقية السابقة، وثالثها: اعتقد كثير من الأمريكيين أن ممارسة التمييز العنصري داخل الولايات المتحدة ذاتها، أدى إلى ردة فعل غاضب بين صفوف المثقفين الأفارقة.

على أن رياح التحرر الوطني التي هبت على أفريقيا منذ الخمسينات، دفعت بالولايات المتحدة إلى إعادة النظر في سياساتها السابقة اتجاه أفريقيا، وبالفعل أرسل الرئيس “أيزنهاور” في عام 1957 نائبه “ريتشارد نيكسون” إلى أفريقيا حيث زار ثمانية دول دفعة وحدة، من أجل تحليل الأوضاع المتغيرة والمتسارعة التي شهدتها القارة في ذلك الوقت، وقد أكد نيكسون في تقريره على أهمية الاستقلال والتحرر الوطني بالنسبة للأفارقة، وطالب أيضا بضرورة أن تعترف كافة إدارات الحكومة الأمريكية بالأهمية المتزايدة لأفريقيا بالنسبة لمصالحها، واقترح “نيكسون” أن يتم تعيين مساعد مستقل لوزير الخارجية للشؤون الأفريقية، وأن يتم على صعيد آخر توجيه الاستثمارات الأمريكية إلى أفريقيا، والكف عن ممارسة التمييز العنصري حتى تكسب ود وتأييد الأفارقة.

بيد أنه يمكن القول أن “نيكسون” رغم اعترافه باستمرار الدور الأوروبي المهيمن في أفريقيا وضرورة التشاور والتنسيق مع القوى الأوروبية، فإنه أكد على ضرورة صنع سياسة أمريكية مستقلة اتجاه أفريقيا، واتساقا مع هذا التصور الجديد، ظهرت خلال عقد الخمسينات مجموعة من المنظمات الأهلية الأمريكية المهتمة بأفريقيا، مثل اللجنة الأمريكية الخاصة بأفريقيا، والمعهد الأمريكي الأفريقي، ومجلس الشؤون الأفريقية.

وأيا كان الأمر، فإن اعتبارات الحرب الباردة، وسعى الولايات المتحدة إلى احتواء المد الشيوعي في أفريقيا، قد استحوذت جميعها على اهتمامات صانع القرار الأمريكي، فالرئيس “كيندي” الذي أبدى تعاطفا ملحوظا مع القوى الوطنية المناهضة للاستعمار في أفريقيا البرتغالية، وقف مكتوف اليدين بسبب الاهتمام الأمريكي بقواعد حلف الناتو في المنطقة، وعلى صعيد آخر، فإنه بالرغم من تزايد السخط الدولي على نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، فإن الرئيس “ريجان” لم يستطع أن يواجه حكومة بريتوريا العنصرية بسبب خشيته من تزايد النفوذ الشيوعي في المنطقة، بل إن الولايات المتحدة استمرت في تأييدها لكافة التنظيمات والقوى التي نظر إليها على أنها تناضل من أجل الحرية مثل مقاتلي جبهة “يونيتا” في أنجولا.

على أن التقارب الأمريكي السوفيتي الذى بدأت خطواته الأولى عام 1984 باجتماع كل من “ريجان” و”جروميكو” كان يعني في إحدى دلالاته، أن الحرب الباردة قد أفل نجمها وأوشكت على الانحسار، يعنى ذلك أن التطورات التي شهدها النظام الدولي قد مهدت الطريق أمام الإدارة الأمريكية، لإعادة النظر في سياستها اتجاه أفريقيا[4]، وتحقق ذلك جليا في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي لم يكتف بسياسة الاحتواء، بل استشعر المصالح الحيوية التي يمكن أن تستغلها الإدارة الأمريكية للاستفادة من القارة الأفريقية، ففي خطاب له في “أكرا” عاصمة غانا عام 1998 قال كلينتون: “إن الغاية المرجوة من هذه الرحلة هي: أن نتمكن سويا من وضع الأمور في نصابها، حتى يدرك أحفادنا بعد مائة عام من الآن أننا قد وضعنا أسس النهضة الأفريقية الحديثة، وإذا كانت الطيور تظل تعمل بدأب جيئة وذهابا، كي تبنى أعشاشها، فإننا نعمل كذلك على مساعدتكم في بناء أفريقيا الجديدة”.

عمل كلنتون بعد هذا الخطاب على إعادة توجيه السياسة الأمريكية، من خلال التركيز على دبلوماسية التجارة كأداة للاختراق، ونجح في ذلك إلى حد كبير، أراد الرئيس الأمريكي “جورج بوش” صاحب فكرة “النظام العالمي الجديد” أن يستمر على هذا النهج، فوقع مع الدول الأفريقية اتفاقية “أغوا” (The African Growth and Opportunity Act “AGOA”) عام 2000، وهي اتفاقية تجارية تسهل التبادل التجاري بين القارتين، ويعفي حوالي 7000 من منتجات 39 دولة أفريقية، بما في ذلك المنسوجات والسيارات والفاكهة والنبيذ من رسوم دخول أسواق الولايات المتحدة، وفي ظل إدارة “أوباما” مد الكونغرس الأمريكي هذا القانون إلى عام 2025 بعد انتهاء صلاحيته عام 2015، انشغلت الإدارة الأمريكية في فترة الرئيس الأمريكي “جورج بوش” بالحرب على الإرهاب، ما فسح المجال للصين وبقية الدول مثل فرنسا لتوسيع نفوذهم في أفريقيا على حساب أمريكا.

جاء الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” ليتبنى سياسة التوسع في أفريقيا و منافسة الصين، فأعلن عن تعهدات لشركات أميركية بالاستثمار في أفريقيا بقيمته 14 مليار دولار، ويعتبر ذلك مواصلة لمبادرات أميركية بدأتها إدارته سنة 2013، ودعا بعد ذلك إلى قمة أمريكية إفريقية، هي الأولى من نوعها في أغسطس 2014 بمشاركة 50 دولة إفريقية، تحت عنوان: “الاستثمار في الجيل القادم”، كانت القمة محاولة لتحويل الاهتمام الأميركي من مجرد النظر إلى القارة الأفريقية على أنها منطقة حروب، بل تتمتع بفرص اقتصادية واستثمارية هائلة أغفلتها الولايات المتحدة لمدة طويلة، فمنذ عهد “أوباما” بدأت تتبلور لدى الإدارة الأمريكية، السياسة الاستخراجية الشاملة في أفريقيا، من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

فبموجب قانون “النمو و الفرص” (AGOA) ارتفع مجموع صادرات الولايات المتحدة إلى أفريقيا 22% أي إلى 10.3 مليار دولار، وارتفع إجمالي واردات الولايات المتحدة من أفريقيا بنسبة 40% أي إلى 50.3 مليار دولار، كما ازداد اعتماد الولايات المتحدة على أفريقيا في الحصول على مصادر الطاقة، ليصبح مسألة استراتيجية، فلا يخفى أن نحو 15% من البترول الذى تحتاج إليه الولايات المتحدة يأتي من وسط وغرب أفريقيا، وهذا ما أكده “والتر كانيستنر” مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية حين قال في 2002: “إن النفط الأفريقي أصبح مصلحة استراتيجية قومية لأمريكا”، ومن جانب آخر، عززت أمريكا وجودها العسكري في القارة بإنشاء قواعد عسكرية في أكثر من دولة بدعوى محاربة الإرهاب، بينما هي لحماية المصالح الأمريكية، كما أعطت أمريكا الأولوية في مساعداتها المالية للدول التي تنجز تقدما في احترام القيم الديموقراطية حسب المعايير الأمريكية.[5]

3: مُنعطف العلاقات الأمريكية الأفريقية في ظل إدارة ترامب:

في الاستراتيجية التي طال انتظارها وكشفت عنها إدارة “ترامب” في منتصف ديسمبر 2018، أشار “جون بولتون”، مستشار الأمن القومي، إلى أن السياسة الجديدة للولايات المتحدة تهدف إلى تحدي ممارسات الصين وروسيا الساعية إلى الحصول على “ميزة تنافسية” في أفريقيا، ومواصلة النهج الأميركي المتمثل في المبادرات العسكرية والتجارية وتقديم المعونة، وذلك لتطوير شراكات اقتصادية وسياسية وأمنية في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

وبالتالي، تلتزم إدارة “ترامب” بشكل صريح بمتابعة البرامج التي تعزز مصالح الولايات المتحدة، وتؤكد على رغبتها في منافسة بكين وموسكو في مغامراتهما داخل أفريقيا.

ويمكن تلخيص هذه السياسة الجديدة بأنها ثلاثية الأجزاء، وفق تصريحات “بولتون”، وذلك كالتالي:

أولًا: تطوير العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأفريقيا لصالح الطرفين، الأميركي والإفريقي، ليزدهر الشركاء في أفريقيا ويسيطروا على مصائرهم، وهذا بخلاف الصين التي قال “بولتين”: أنها تعمل بالرشاوى والاتفاقات الغامضة، والاستخدام الاستراتيجي للديون لإبقاء الدول في أفريقيا أسيرة لرغبات ومطالب بكين؛ فديون زامبيا ارتفعت إلى نسبة مخيفة، بينما رهنت جيبوتي الواقعة في منطقة استراتيجية بالقرن الإفريقي ميناء حاوياتها الخاصة لدى الصين.

ثانيًا: يجب لأية استراتيجية أميركية سليمة اتجاه أفريقيا أن تعالج التهديد الخطير المتمثل في “الإرهاب” والصراع العنيف، حيث تنشط “الجماعات الإرهابية” في القارة الأفريقية وتخطط لهجمات ضد المواطنين والأهداف الأميركية.

ثالثًا وأخيرًا: تحديد الأولويات في المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة، والتوقف عن دعم بعثات حفظ السلام الأممية غير الناجحة والبعثات التي لا تخضع للمساءلة، وذلك لضمان استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين بفعالية وكفاءة، لكن هذه النقطة لا علاقة لها بأفريقيا؛ لأنها مشكلة المانحين والدول التي تتدخل بمساهماتها في الشؤون الداخلية لهذه البلدان.[6]

المطلب الثاني: الاهتمام الصيني بأفريقيا:

1: استراتيجية الصين في أفريقيا:

تقوم العلاقات الصينية الأفريقية على مبادئ السياسة الخارجية الصينية اتجاه الدول النامية، ووفقًا لسياسة الصين اتجاه أفريقيا الصادرة عام 2006، فإن الصين ستمد روابط الصداقة والمنفعة المتبادلة مع أفريقيا، بما في ذلك دعم الثقة والتعاون الاقتصادي والثقافي، وتقوم أهداف السياسة الخارجية الصينية اتجاه أفريقيا على عدة مبادئ هي:

1- حسن النية، والصداقة.

2- المنفعة المتبادلة، والتعاون المشترك.

3- دعم التبادل المشترك، وتعزيز مبدأ المعاملة بالمثل.

4- التقاسم العادل لعوائد التنمية.

ورغم أن مبادئ السياسة الخارجية الصينية اتجاه أفريقيا واضحة، لكنه لا يزال هناك شك حول ما تريده الصين من أفريقيا، فعلى سبيل المثال، إذا اتخذنا مبدأ عدم التدخل، وهو أحد أهم المبادئ الخمس للتعايش السلمي الذي تقوم عليه السياسة الخارجية في تعاملاتها، وهناك أمثلة كثيرة توضح مبدأ عدم التدخل الذي تتبناه الصين في القارة الأفريقية، مثل تعاطيها مع السودان وزيمبابوي؛ حيث حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من القوى الدولية، ممارسة ضغوط على الجانب الصيني للالتزام بالعقوبات المفروضة على النظام السياسي في الخرطوم، نتيجة سوء الأوضاع الإنسانية في إقليم دارفور، ولكن الصين رفضت هذه التوجيهات، وعللت ذلك بأنه من الأفضل المساعدة في التطوير المستمر لهذه الدول بدلًا من إهمالها، ولذلك فإن التزام الصين بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأفريقية، والعمل على عقد الشراكات التي تقوم على التعاون والاحترام المتبادل كان موضع ترحيب من القادة الأفارقة.[7]

إن إدراك الصين لأهمية القارة الأفريقية، ينبعُ من منطلقات اقتصادية بحتة، باعتبار أنها تعد من أكبر الأسواق الواعدة والصاعدة في العالم، حيث تسعى إلى تعزيز نفوذها وتواجدها في مناطق تعتبرها “نقاط خنق استراتيجية”، ولمزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب المتواجدين في الساحة الأفريقية منذ أمد، علمًا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية انشغلت عن أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي بقضايا سياسية، ليس أقلها الثورات في شرق أوروبا وروسيا، فإن أفريقيا وعلى لسان كثير من المحللين، كانت تحتل مقعدًا خلفيًا في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، مما ألحق الضرر بسمعتها في أفريقيا، وبعد عام 2000، عاد اهتمام أمريكا بأفريقيا، والسبب في المقام الأول الموارد، وثانيًا التنافس مع الصين التي وضعت ثقلها في المنطقة بعد العام 2000.

إن القادة الأفارقة وثقوا بالصين وأولوها مصداقية عالية، لأنها لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب الثروات وبيع البشر، وتدمير البلدان كما فعل المستعمر الغربي، ومن ناحية أخرى فهي لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة أفريقية، وتعرض المنح والمساعدات دون شروط مسبقة، وبالمنطق الاقتصادي فهي تعقد صفقات تجارية، حيث تشتري النفط والمواد الخام مقابل تطوير البنية التحتية المتهالكة أو غير الموجودة أصلًا.

ومن حيث اتهام الصين أنها مستعمرٌ اقتصادي جاء لامتصاص ثروات البلاد لا أكثر، للرئيس الكيني “أوهورو كينياتا” رأي آخر، حيث يقول “إن الشراكة الصينية الأفريقية تصب في مصلحة الجانبين وفكرة أن الصين تهتم فقط بالموارد الطبيعية لأفريقيا هي فكرة مغلوطة، ماذا كان يفعل المستعمرون؟ كانوا ينهبون، وها هي الصين تعمل معنا لإخراج البلدان من الفقر إنها ليست مستعمرًا بل شريك”.[8]

2: أبعاد الدور الصيني في أفريقيا:

البعد الاقتصادي:

نشأت العلاقات الصينية-الأفريقية مع بداية الخمسينات بتمويل الأولى بناء خط سكة حديدية لنقل النحاس الخام من زامبيا لتنزانيا، ثم استمرت بعد ذلك بشكل تصاعدي وصولًا لأواخر التسعينيات، وهو عقد شكّل نقطة محورية في نموها.

القارة الأفريقية مكونة من 54 دولة تمثل أكبر سوق واعدة في العالم، إذ يزيد عدد سكانها على مليار ومائة مليون نسمة، وتبلغ مساحتها 30 مليون كيلومتر مربع، وتشكل 20% من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية، وتحتاج القارة إلى بناء كل شيء فيها، لذلك باتت القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، ومن بينها الصين، تنظر إليها على أنها الملاذ الوحيد في العالم للإبقاء على نمو اقتصادها، حيث لم تعد الأسواق في قارات العالم الأخرى قادرة على تحفيز الاقتصاد العالمي بسبب تشبعها بالاستثمارات، وبلوغ معدل الاستهلاك أقصى حدوده.

في المقابل تعتبر القارة الأفريقية التي ينمو اقتصادها بمعدل 8ر5% سنويا، من البلاد التي حباها الله ثروات طبيعية هائلة، إذ تملك حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يشكل حوالي 12% من الاحتياطي العالمي، كما تبلغ احتياطاتها من الغاز الطبيعي حوالي 10% من إجمالي الاحتياطي العالمي، حيث تملك حوالي 500 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي.

كما تحتوي القارة الأفريقية على موارد طبيعية وأولية ضخمة أخرى، حيث تنتج حوالي 90% من البلاتين المنتج في العالم، و40% من إنتاج الماس، وتحوز على 50% من احتياطي الذهب، و30% من اليورانيوم المستعمل في الصناعات النووية، وتنتج 27% من إجمالي كمية الكوبالت المنتجة، وتنتج 9% من خام الحديد من إجمالي إنتاجه حول العالم.

وتعتبر الزراعة أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في القارة السمراء، لتنوع المناخ وكثرة الأنهار، حيث يعمل ثلثا سكانها بالزراعة تقريبا، التي تساهم بحوالي 20%- 60% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة من دولها، إضافة إلى كونها أحد أكبر مصادر المنتجات الزراعية مثل البن والقطن والكاكاو.

كما تتميز أفريقيا بوجود الكثير من الغابات التي تنتَج منها الأخشاب بكميات كبيرة؛ علاوة على الثروة السمكية، ويساعد قطاعها على توفير الدخول لحوالي 10 ملايين أفريقي يعملون بمهنة صيد الأسماك، فيما تبلغ قيمة الأسماك التي تصدرها أفريقيا 7ر2 مليار دولار أمريكي.

أما عن دخول الصين إلى أفريقيا، فقد اعتمدت الصين لدخول القارة السمراء على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة، دون التدخل في شؤون الآخرين، ويتجلى ذلك في القروض الميسرة، والاستثمارات دون شروط، إضافة للمساعدات الجزيلة، فقد أنشأت الصين في أفريقيا 3300 كيلومتر من الطرق، و30 مستشفى، و50 مدرسة، و100 محطة لتوليد الطاقة، في أكثر من 40 دولة أفريقية، وبعثت التجار والأطباء، فأرسلت ما يقارب 1600 طبيب إلى المناطق الريفية الأفريقية.

وفي أكتوبر عام 2000 بادرت الصين إلى إنشاء منتدى التعاون الصيني- الأفريقي، لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والبلدان الأفريقية في القطاعين العام والخاص، وهو ما أسهم في ترسيخ التعاون في أفريقيا، ووضع العلاقات الاقتصادية الصينية- الأفريقية في مسار سريع.

وأطلقت مشروعا ضخما للمنح الدراسية، وصل بمقتضاه عدد الطلبة الأفارقة في الجامعات الصينية إلى حوالي 12 ألف طالب يدرسون على نفقة الصين.[9]

ومنذ عام 2000 أصبحت الصين المنافس والشريك الذي يلي الولايات المتحدة وفرنسا في القارة الأفريقية، لما تتمتع به من قوة اقتصادية هائلة، جعلتها تقوم بهذا الدور بفاعلية واقتدار، وفي أكتوبر 2000 بادرت الصين إلى إنشاء منتدى التعاون الصيني-الأفريقي(F.O.C.A.C)، لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والبلدان الأفريقية في القطاعين العمومي والخاص، وقد أصبح مؤخراً يضم في عضويته أكثر من 45 دولة أفريقية، وهو ما أسهم في ترسيخ التغلغل الصيني في أفريقيا، ووضع العلاقات الاقتصادية الصينية-الأفريقية في مسار سريع، حيث نمت التجارة الثنائية بين الصين وأفريقيا من 10.6 مليارات دولار في عام 2000 إلى 222 مليار دولار في عام 2014، و من المنتظر أن يناهز 400 مليار دولار بحلول 2020.

وفي عام 2012 صادق المنتدى الخامس للتعاون الأفريقي الصيني في بكين على خطة عمل للفترة ما بين 2013-2015، تقضي بحصول الدول الأفريقية على قروض مالية ميسرة من الصين بـ20 ملياراً من الدولارات لتطوير البنى التحتية، الزراعية والصناعية، لتحقيق التنمية الذاتية والتنمية المستدامة، ويقدر عدد الشركات الصينية أو فروعها بأكثر من 2000 شركة،(كان عددها 700 عام 2005، كلها نشطة في مجال الزراعة والتعدين والبناء والتعمير، وقطاعي التجارة والاستثمار، ومعالجة منتجات الموارد والتصنيع، والدعم اللوجستي التجاري؛ هذا بالإضافة إلى العمال والخبراء الصينيين، إلى جانب تدريب 30 ألف فرد من الدول الأفريقية في مختلف المجالات،.[10]

وقد برزت الصين على مدى العقد الماضي كلاعب مؤثر في أفريقيا، وانطلاقا من مستوى منخفض، زادت صادرات السلع الأفريقية إلى الصين بأكثر من 60 مرة بين عامي 1998 و 2010، مقارنة بزيادة خمسة أضعاف وثلاث مرات للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التوالي، ونتيجة لذلك، زادت حصة الصين من صادرات أفريقيا من 1% إلى حوالي 15 % خلال عقد واحد فقط، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي شهد انخفاض حصته من صادرات أفريقيا من 36% إلى 23%، إلا أن حصة الولايات المتحدة ارتفعت قليلاً.

كما ارتفعت الاستثمارات الصينية في أفريقيا لتصل إلى 5.5 مليار دولار في عام 2008، بعد أن كانت 70 مليون دولار فقط في عام 2003، ولكن منذ عام 2005، لم تمثل الصين في المتوسط ​​سوى 5 % فقط من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية إلى القارة، أصغر من استثمار كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تمثل معا أكثر من 30 % من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية في أفريقيا.

إلا أن إجمالي الاستثمارات الصينية في أفريقيا أعلى، على الأرجح مما تحدده الأرقام الرسمية، حيث أن الاستثمار الصيني يشمل شركات مملوكة للدولة، تستخدم مجموعة من أدوات التمويل، مثل ائتمانات التصدير، التي لا تدرج في أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر، كما أصبحت الصين مصدرا رئيسيا للمساعدات الخارجية لأفريقيا، مكملة لأنشطتها التجارية و الاستثمارية، و قد تصاعدت معدلات قروضها الميسرة لأفريقيا من إجمالي تراكمي قدره 800 مليون دولار في عام 2005، إلى التزام بقيمة 10 مليارات دولار بين عامي 2009 و 2012، وعلى النقيض، فإن الإقراض السنوي للبنك الدولي إلى أفريقيا بلغ متوسط ​​قيمة 4.5 مليار دولار سنوياً منذ عام 2006، وقد شكّلت نظرية “تتبع التنين” التي تبنتها الكثير من الشركات العالمية خاصة من الدول النامية والاقتصادات الصاعدة، حافزًا لهذه الشركات بزيادة استثماراتها في أفريقيا؛ فقد ساد اعتقاد بأنه حيث توجد الصين فإن ذلك يعني الاستقرار والأمان في الاستثمار، فارتفعت بذلك الاستثمارات العالمية المباشرة من 90 مليار دولار إلى 880 مليار دولار، وأصبح الاستثمار الخارجي المورد الأساسي للتنمية الأفريقية.

وانطلاقا من هذه المعطيات ومن واقع نمو الاقتصاد الصيني السريع والمتزايد، لم يكن هناك شك في حاجة الصين إلى أفريقيا ومواردها، ولاسيما النفط والمواد الأوليّة[11]،

بين من يعتبر العملاق الصيني الآسيوي الشريك المحب للسلام في القارة الأفريقية، والمنقذ الوحيد للأزمات الاقتصادية التي تعانى منها، ومن يحذر من تعاظم نفوذ التنين الصيني الذى يعكس مؤشرات نحو استعمار جديد وطموحات إمبريالية واسعة في المنطقة، أصبحت فكرة تنامى الدور الصيني في القارة الأفريقية حقيقة لا يمكن الاختلاف عليها.[12]

تعتمد الصين في التغلغل في أفريقيا على التغيير الناعم طبقا لاستراتيجية صاغها المفكر الهندي (برهما تشيلاني)، والتي تقوم على أن التحركات الصينية خفيفة وبطيئة ولا تشكل استفزازا، ولا شك أن هذه السياسة تدفع الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي وعسكري عالمي أكبر من نفوذها الحالي، وقد اكتست الصين بالثوب الأفريقي لتقديم نفسها كنموذج فريد مقرب من النمط الأفريقي، حيث تعتمد على العمالة البشرية، والاستناد إلى تشجيع شركائها التجاريين الأفريقيين، لتطوير اقتصادهم والاستثمار في البنى التحتية والمؤسسات الاجتماعية[13].

فالصين تعتمد في سياسة «التغيير الناعم» هذه للتغلغل في أفريقيا – ضمن مسلسل «التداعي على أفريقيا» من قبل قوى دولية كثيرة – على حقيقة أنها لم تكن يوماً دولة احتلال لأفريقيا؛ بعكس الغرب الذي ينظر له الأفارقة بوصفه محتلاً، ووجوده في أفريقيا يستهدف سلب ثرواتهم.

كما تعتمد الصين على رفض التدخّل في الشؤون الداخلية للأمم الأفريقية، وهو ما يزيد من احترام الزعماء والنخب الأفريقية للنظام الصيني، كما تعتمد على كونها حليفاً لأفريقيا، وعلى تقديم خدمات وقروض ومشاريع صناعية وتنموية، ولا شك أن هذه السياسة تدفع الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي وعسكري عالمي أكبر من نفوذها الحالي.

فمصطلح «القوّة الناعمة» وفقاً لـ «جوزيف ناي»: يعني قدرة الدولة A على إقناع الأمم الأخرى بتبنّي الأهداف نفسها التي تتبنّاها الدولة A بشكل يسوده الترغيب وليس الترهيب، وهذه القوة الناعمة تتضمن: الثقافة، القيم السياسية، السياسات الخارجية، والجاذبية الاقتصادية، كمكوّنات ضرورية من القوّة الوطنية.

وقد لعبت الصين على كل جوانب هذه القوة الناعمة في تقديم نفسها، كنموذج اقتصادي محبوب يقترب من النمط الإفريقي، حيث تشغيل العمالة البشرية بصورة أكبر من الآلة، والاستناد إلى مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وتشجيع شركائها التجاريين الإفريقيين لتطوير اقتصادهم، من خلال التجارة والاستثمار في البناء التحتي والمؤسسات الاجتماعية؛ دون فرض شروط سياسية أو إصلاحات اقتصادية[14].

الصين تريد من أفريقيا شريكا دوليا يعتمد عليه، وتحتاج الموارد الأولية المتوفرة في أفريقيا وفي مقدمتها النفط، وتريد مجالا أرحب لاستثمار فوائضها المالية الضخمة، وأسواقا لكثير من منتجاتها، ولكن الصين لا تريد كما فعلت القوى الاستعمارية الغابرة، أن يكون لها وجود يحمل أي صفة استعمارية، ولا تسعى إلى فرض نفوذها وتوجهاتها ومبادئها، ونظمها الاجتماعية أو السياسية، أو الثقافية في أفريقيا، الصين تريد علاقة تحقق الربح المشترك، ولهذا فإن المحاولات الغربية والادعاءات بأن الصين تمارس استعمارا جديدا في أفريقيا، لم تفلح في أن تجد من يسمع لها في أفريقيا، إن الشعوب الأفريقية التي ذاقت مرارة الاستعباد والاستعمار واستنزاف مواردها، صارت من الوعي والفطنة، بحيث يمكنها أن تميز بين من يأتيها رافعا شعارات براقة ويضمر أهدافا خفية، ومن يأتيها طالبا المشاركة في ثمار التنمية.[15]

إن هذا التعاون الصيني الأفريقي بكل أبعاده وتداعياته، لا بد وان يصب في النهاية في خانه نظام التبادل التجاري، ونظام الدفع وتحقيق التوازن التجاري بين الدول، أي الانتفال من حالة العجز المزمن في الميزان التجاري، وضعف ميزان المدفوعات، الى حالة من التوازن في حركة السلع والخدمات، والذي هو أساس توقف الدول الأفريقية عن الإمعان في المديونية الخارجية، وبالتالي إعادة تأهيل الهياكل الاقتصادية والمالية، بما يحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المتوخاة، فنجاح التعاون الصيني الأفريقي، هو نجاح في أن تشكل القارة الأفريقية، قيمة مضافة نوعية، اقتصادية فتنتقل من دائرة تلقي المساعدات، الى دائرة استقطاب الاستثمارات وخلق قواعد إنتاج مهمة، تدفع بالاقتصاد الإفريقي لان يدخل بقوة في دائرة السوق الدولي والتنافسية. [16]

كانت الحكومات الأفريقية على اختلاف أنواعها وألوانها، تستسيغ بكين صاحبة الأموال التي لا تتدخل في الشؤون المحلية، وتحتفي بها على أنها المنقذ البديل من الغرب وتدخلاته، لكن الدول الأفريقية ضاقت ذرعاً بالأجانب الذين يضعون اليد على مصادرها الطبيعية، وبدأت تجابه الشركات النفطية الصينية وتعيد النظر في شروط العقود الموقعة معها، وحين تلاحظ أن الصينيين يحتالون عليها أو يسيطرون على آبار نفطية مهمة، تتوقف عن مجاراتهم وتقاوم هيمنتهم من غير أن تهاب إغضاب أكبر شركائها التجاريين،« فالنفط هو كل ما نملك، وإذا تنازلنا عن مواردنا الطبيعية فقدنا الأمل في تدبر أمورنا على وجه أحسن، وعلينا أن نكافح لنحصل على عائدات عادلة لقاء النفط، فإذا دفع الشاري سعراً عادلاً وسعنا مساعدة شعبنا”: يقول “فوماكوي غادو”، وزير النفط النيجري.[17]

البعد العسكري والأمني:

لقد بدأ التعاون العسكري بين الصين ودولة جيبوتي مع بداية عام 2015، مع إنشاء القاعدة العسكرية في جيبوتي، وذلك للاستعانة بها في إمداد القوات البحرية التي تشارك في مهام حفظ السلام والإغاثة، قبالة سواحل اليمن والصومال، وتستخدم أيضًا لدعم عمليات مكافحة القرصنة والتي تقلل من مخاطر التجارة البحرية، والتي كانت تتعرض للتهديد مِن قِبَل القراصنة الصوماليين، وتُعَدُّ هذه القاعدة العسكرية الأولى للصين خارج حدودها، وقد تم اختيار دولة جيبوتي نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز، والتي تطل على مضيق باب المندب مدخل قناة السويس، وذلك لكي تتمكن الصين من نقل الموارد والثروات الطبيعية من إثيوبيا إلى الصين، عن طريق هذه القاعدة العسكرية.[18]

إن إقامة الصين قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي يشكل قطيعةً استراتيجية في تموضعها في أفريقيا، وهي أول قاعدة عسكرية للصين في العالم، دُشّنت رسمياً في العام 2017، وقد صُممت هذه القاعدة لدعم المهمات البحرية للقوات الصينية في المحيط الهندي وفي الشرق الأوسط، ومحاربة القرصنة والإرهاب، ولدعم عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة، لكنها صُممت أيضاً لإجلاء رعايا صينيين من بلدٍ أو بلدان إفريقية قد تعرف اضطراباتٍ مرتفعة الحدّة، خصوصا مع تنامي العمالة الصينية في الدول الأفريقية، وتعد إقامة القاعدة الصينية في جيبوتي رسالةً ذات مغازٍ استراتيجية قوية بالنسبة لأميركا وفرنسا، لامتلاكهما قاعدتيْن عسكريتيْن في البلد نفسه، القاعدة الفرنسية الأقدم، زاد هذا الإنزال البحري الصيني في جيبوتي من الهاجس الصيني في الغرب.[19]

ومن خلال الجانب الصيني أشار تقرير أعده معهد “ستوكهولم” الدولي لأبحاث السلام، أن هناك ارتفاعًا في مبيعات الأسلحة الصينية في الدول الأفريقية بنسبة 55% منذ عام 2013 وحتى عام 2018، حيث تم بيع 24 دبابة لتنزانيا، و30 لتشاد، وسلمت مجموعة “نورت تشينا” الصناعية حوالي 100 من أنظمة الصواريخ الموجهة إلى الحكومة في جنوب السودان في يوليو2014، وقد شاركت الصين بأكثر من 2400جندي صيني في سبع بعثات لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة عبر القارة، في مالي وجنوب السودان والصحراء المغربية والكونغو وغيرها…

كذلك توجد علاقات عسكرية بين الصين وليبريا، منها تقديم المساعدات والتدريب والدعم اللوجستي، وتقنية الهندسة البشرية؛ حيث إنه صرح الكولونيل “تشانج جان” بأنه منذ ديسمبر2003 وحتى مارس 2017 تم إرسال 10آلاف جندي من أفراد حفظ السلام الصينيين إلى ليبريا، كما أوضح أنه خلال الـ13 سنة أنجز مهندسو حفظ السلام الصينيين مسح الطرق وإصلاح 7500 كيلو متر وتشييد 69 جسرًا.

وأيضًا من أوجه التعاون العسكري بين الصين والقارة السمراء، مشاركة دولة الصين في عمليات حفظ السلام، حيث تعد من أكثر دول العالم مشاركة في عمليات حفظ السلام في أفريقيا، ففي عام 2015 انتشرت قوات حفظ السلام الصينية في جنوب السودان، وذلك بسبب وجود استثمارات ضخمة للصين في مجال النفط في هذا البلد الإفريقي الوليد، وفي عام 2013 تم انتشار قوات حفظ السلام الصينية تحت لواء منظمة الأمم المتحدة في دولة مالي، وفي عام 2015 عقب الهجوم الإرهابي على مالي، أعلن وزير خارجية الصين “وانغ يي” عن تعزير التعاون مع القارة السمراء في مجال مكافحة التطرف والإرهاب، وأكد وزير الخارجية الصيني أن الصين ستستمر في دعم الدول الأفريقية دون وجود رغبة في أي مقابل أو شروط.

ومؤخرًا في المنتدى الصيني والإفريقي الأول للدفاع والأمن، والذي شارك فيه ممثلون من الصين والدول الأفريقية والاتحاد الإفريقي، أكد الوزير “ويي فنج” أن الإنجازات الناتجة عن التعاون بين الجانبين سوف تساعد في تطوير الشراكة الاستراتيجية والتعاونية الشاملة بين الصين وأفريقيا، مما يؤكد على أهمية العلاقات العسكرية بين الصين والقارة السمراء.[20]

وفي مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، أشار السفير الأميركي السابق في كل من الصومال وبوركينا فاسو، دافيد شين، إلى التوسّع العسكري الصيني في أفريقيا، مشيراً إلى أنّ 25 % من الأسلحة التقليدية الموجودة في القارة السمراء صينية الصنع، مقابل 3 إلى 5 % خلال ستينيات القرن الماضي.[21]

البعد السيــــــاســــــــي:

تنامي الدور الاقتصادي للصين واتساع رقعة مصالحها في المنطقة، أدى إلى تنامي دورها السياسي، وتعيين مبعوث صيني خاص للشؤون الأفريقية، وانخراط بكين في قضايا القارة ونزاعاتها، (كالتوسط في الأزمة السودانية بين الخرطوم وجوبا، أو التوسط الحالي في أزمة جنوب السودان بين أطراف الصراع)، وكذلك انخراط الصين في قوات حفظ السلام الدولية المرابطة في مناطق النزاع والتوتر في دول القارة، لتصل مساهمتها إلى نحو أربعة آلاف جندي، لتصبح أكبر دولة في العالم من حيث المساهمة بقوات حفظ السلام، علمًا بأن بكين كانت ترفض بل تعارض من حيث المبدأ فكرة القوات الدولية بمجملها، وتعتبرها تدخلًا في الشؤون الداخلية للدول.[22]

المطلب الثالث: الاصطدام الصيني الأمريكي في أفريقيا:

1: ملامح التصادم بين الصين وأمريكا:

وجدت الصين في أفريقيا مساحة للمناورة السياسية، في ظل مزاحمة أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وأفرزت المساعي الصينية علاقات رسمية مع 19 دولة إفريقية، مقابل 41 مستقلة مع نهاية الستينات، وإذا تحقق للصين دخول مجلس الأمن ضمن المقاعد الخمس الدائمة عام 1971، فلم يكن ذلك إلا بفضل الأصدقاء الأفارقة ممن مثلوا 26 صوتًا من بين 76 في الجمعية العامة الأممية، وفي مقابل الدعم السياسي والدبلوماسي الذي قدمته للصين، تمت مكافأتها بمساعدات اقتصادية شملت عدة دول في غرب ووسط أفريقيا، ومع نهاية الحرب الباردة دشنت الصين عهدًا جديدًا في ملف علاقاتها مع أفريقيا، انتقلت من الدعم القوي للاتجاهات الأيديولوجية، إلى منهج براجماتي يعطي الأولوية للتجارة والاستثمارات طيلة العقدين الماضيين، ومع توسع الاقتصاد الصيني بمعدل نمو سنوي قوي انعكس على ازدياد الطلب على الطاقة، والحاجة المتزايدة للموارد، مقابل عدم قدرة الإنتاج المحلي للموارد من الوفاء بالطلب المتزايد عليها، فكان لا مفر من توجيه الأنظار إلى الخارج للبحث عن مصادر بديلة، في عام 2004 باتت الصين أكبر مستهلك للنفط في العالم، ومن المتوقع أن يزداد استهلاكها للنفط والغاز من33 بالمائة حاليًا إلى 66 بالمائة بحلول عام 2020،أمام قصور الإنتاج الآسيوي من النفط والغاز على النمو بالسرعة الكافية لتلبية الاحتياجات الصينية، ووجدت الصين في الساحل وغرب أفريقيا، البديل لتنويع مصادر تمويلها بالطاقة من جهة، وإبقائها بمنأى عن النزاعات والصراعات من جهة ثانية[23].

يتزايد الدور الذي تلعبه الصين في مختلف المجالات في القارة الأفريقية؛ حيث أعطت بكين الأهمية لعلاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع الدول الأفريقية، على أساس أيديولوجية “التضامن بين دول العالم النامي”، فتوسَّع نفوذ الصين منذ عام 2001م، وركزت طموحها الكبير في القارة على الساحة الاقتصادية، ووضعت نصب عينها الموارد الطبيعية الغنية في أفريقيا، التي تستفيد منها لتغذية نموِّها الاقتصادي المحلي.

إنَّ نَهْجَ الصين اتجاه أفريقيا يُمَثِّل تحديًا رئيسًا لـ”المصالح الأمريكية”، التي دائمًا ما يلخِّصها المسئولون الأمريكيون في “تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد، والتنمية المستدامة في أفريقيا”، وذلك لأنَّ التمويل الصيني يتدفق إلى أفريقيا دون “قيود”، الأمر الذي جعل بكين بديلاً سهلاً عن “المساعدة الإنمائية المشروطة” من الغرب والمؤسسات المالية متعدِّدة الأطراف، مما يقلِّل من جهد الغرب للتحكم في الدول الأفريقية ومؤسساتها، على أساس مزاعم تشجيع التنمية المستدامة والنظم الديمقراطية طويلة الأجل.

في تقدير مسؤولين أمريكيين وتقارير مستقلة صادرة عن مراكز بحوث أمريكية عديدة، يؤثر التدخل الصيني في أفريقيا بشكل كبير على المصالح الاستراتيجية الأمريكية..، ويمتد هذا التأثير إلى العديد من القضايا الاستراتيجية الملحة، حيث يقوم ما يقرب من 6500 جندي أمريكي بتدريب القوات المحلية في أفريقيا، وأداء مجموعة من مهام مكافحة الإرهاب، بهدف ضمان أمن الولايات المتحدة في ظل حالة عدم الاستقرار في المنطقة، ومما يعقّد الأمور بالنسبة للولايات المتحدة، حرص الصين على الحفاظ على وجود بحري في غرب المحيط الهندي، بدعوى حماية سفنها التجارية من القرصنة، ومشاركتها المتنامية في بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام في أفريقيا.[24]

إن استشعار واشنطن الخطر الصيني المتصاعد، كان لا بد له أن يولد سياسات أمريكية معادية، تمثلت في محاولة غلق الممرات البرية والبحرية للتزود بالطاقة (البترول والغاز الطبيعي) في وجه الصين، مع دعم استقلال التايوان عن الصين، ومحاولة إبرام اتفاقيات عسكرية معها، والوقوف لجانب اليابان في الجزر المتنازع عليها مع بكين، علما أن واشنطن تتوفر في نفس المنطقة على عشرات القواعد العسكرية، التي تهدد الأمن القومي الصيني وأبرزها قاعدة “باغرام” في أفغانستان.

وفي خضم هذا المناخ من التوتر وانعدام الثقة في العلاقات الصينية الأمريكية، تعمد الصين إلى عدم الانزلاق نحو المواجهة الفردية التي لن تصب في مصلحتها، خصوصا وأنها تتوفر على أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، وترى أن خير وسيلة لمجابهة الولايات المتحدة هو الاندماج في منظمات تعاون إقليمية ودولية، أبرزها “منظمة شنغهاي” و “مجموعة بريكس”.[25]

وبالنسبة للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (USAFRICOM)، فإنَّ الموقف الأكثر إثارةً للقلق هو الوضع في جيبوتي؛ حيث موطن معسكر “ليمونير”، الذي يُعتبر هو الجهاز العسكري الوحيد الدائم للولايات المتحدة في القارة الأفريقية ومركز العمليات الأمريكية لمكافحة الإرهاب.

وبالإضافة إلى القوة العسكرية للصين في أفريقيا، بما في ذلك قوات حفظ السلام التي يبلغ قوامها 2500 جندي، فإنَّ المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الصين للدول الأفريقية، والوعود بالتنمية لنَيْل دعم دول مثل جيبوتي، وضمِّها إلى دائرة نفوذها تصيب الأمريكيين بالهستيريا.

ففي إثيوبيا، كانت القطارات الأنيقة التي تجوب الشوارع المزدحمة في أديس أبابا، على طول السكك الحديدية الخفيفة الجديدة في المدينة؛ من المشاريع المهمة التي أسَّستها وموّلتها الصين، كما أن مقر الاتحاد الإفريقي الفضّي الشاهق بُنِي أيضًا مِن قِبَل الصين.. وكذلك نظام الطريق الدائري الجديد حول المدينة، وخط السكة الحديد الجديد الذي يربط بين إثيوبيا وجيبوتي.

“الصينيون يبنون المرافق هناك (في جيبوتي)، هم يبنون مركزًا للتسوق”، وبنوا ملعبًا لكرة القدم؛ هكذا يقول قائد القوات الأمريكية في أفريقيا، “توماس والدهاوزر” للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي، وأضاف: “لقد بنوا البنية التحتية للاتصالات في جيبوتي”.

“عندما نتحدث عن النفوذ والوصول، فهذا مثال كلاسيكي،” يتابع الجنرال؛ فـ”لن نستطيع أبدًا صرف أموال هائلة كالتي يصرفها الصينيون (في أفريقيا).”[26]

تعتبر الشيوعية المذهب السياسي للصين، والذي جعل منها العدو المنافس الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية من أجل التوازن الاستراتيجي، كما أن الاختلاف بين الأيديولوجيتين الشيوعية الصينية، والأمريكية الرأسمالية حول مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، والثقافة والإعلام والعدال، أدى إلى اتساع الهوة بين الدولتين، وعمق الخلافات والمواجهات.

وتشير الحقائق والأحداث التاريخية، إلى حتمية التصادم بين القوة الصينية والقوة الأمريكية، حيث أن القوة الصينية النامية تواجه القوة الأمريكية الموجودة أصلاً، في مجال السياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية، والمتخصصون في الشؤون الصينية الأمريكية، والمهتمون بالعلاقات بين الدولتين، يؤكدون دائماً أن حتمية التصادم بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية أمر واقع لا محالة، حيث أن الحروب تقوم على مبدأ الصراع بين عقيدتين مختلفتين، وعلى استراتيجية المصالح المختلفة، والمتقاربة لكل من الدولتين المتواجهتين.

إن الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على أيديولوجيتها السياسية المهيمنة على العالم، بإرغام الدول الأخرى على تبني نظامها السياسي الرأسمالي، بالرغم من أن هذه السياسة ذات منهجية الهيمنة وسيطرة القطب الواحد، قد أوجدت الكثير من الخصوم والأعداء للولايات المتحدة الأمريكية، والقلق والخوف لدول العالم.

وقد أثّر ذلك في علاقتها بالصين التي زاد تخوفها من السياسة الأمريكية المهيمنة، التي دعمت تايوان وزودتها بالأسلحة الفتاكة، مما زاد من حدة الصراع بين الدولتين، كما أن العلاقات واتفاقيات التعاون بمنطقة جنوب شرق آسيا، مثل وجود أساطيل كوريا الجنوبية الدائمة بالمنطقة، والتي تعتبرها الصين تهديداً لها، فالتوسع الأمريكي قرب الحدود الصينية، لا يطمئن الصين بل يزيد من مخاوفها، وينظر الخبراء والاستراتيجيون إلى المواجهة الصينية الأمريكية برؤية صراع الحضارات، وأن حتمية الصدام قائمة بين الدولتين العظيمتين ولا مناص منها. [27]

2: تقييم التنافس:

كشف التدافع الصيني في الساحة الأفريقية، ومزاحمته للتواجد الأمريكي، عن الكثير من جوانب الصدام والتعارض الصامت بين الولايات المتحدة والصين، وفي تحليل للانتشار الصيني المتمحور في الجانب الاقتصادي والسياسي بعيدا عن العسكرة، توصلت العديد من مراكز الفكر الأمريكي إلى أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في هذا التنافس، وأهم عناصر هذا التفوق في:

  • رقعة ومساحة الانتشار في أفريقيا، أكثر من 35 دولة إفريقية تتواجد فيها الصين وشركاتها ورعاياها من أهمها: أنجولا وجمهورية الكونجو الديمقراطية، وفي نيجيريا وفي غينيا بيساو، وفي الكاميرون وتوجو، والجزائر وفي موريتانيا، والقرن الإفريقي.
  • الاستثمارات الصينية في أفريقيا تجاوزت 60 مليار دولارا، بينما الاستثمارات الأمريكية تشكل 15 إلى 20% من هذا المبلغ، معظمها في الجزائر وفي خليج غينيا.
  • الصين تركز في انتشارها على عدة مجالات:

ـــــــــ الثروة وخاصة النفط، التنقيب والإنتاج في: السودان وفي أنجولا، وفي تشاد وفي غرب أفريقيا وفي موريتانيا،

ـــــــــ التبادل التجاري وخاصة تصدير المنتجات الصينية الرخيصة، واستيراد المواد الخام الحديد الخام والطاقة.

وعن أسباب تفوق الصين على الولايات المتحدة في التنافس على الفضاء الإفريقي يقول:

الخبير في الشؤون الأفريقية الدكتور علاء سالم: “إن أسباب الانحسار الأمريكي أمام تمدد الصين يعود إلى عدة أسباب جوهرية:

1- الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصاد الأمريكي، وضمور هذا الاقتصاد حتى وضع الولايات المتحدة في مركز الدولة العظمى، التي أصابتها الشيخوخة والهزال أمام ديناميكية الاقتصاد الصيني،

الولايات المتحدة تعد أكبر مدين للصين بعد إقراضها 500 مليار دولار، عندما تعرض الاقتصاد الأمريكي لأزمة كبيرة في عام 2009.

تجليات هذا الاهتزاز في المركز الاقتصادي للولايات المتحدة كثيرة: تقليص الميزانية بسبب العجز الكبير، وتدهور قيمة الدولار.

تعاظم دور الصين في أسواق النفط وخاصة في دول الخليج وفي أفريقيا، حيث أبرمت علاقات شراكة شاملة في مناطق النفط الرئيسية في العالم، وعلى الأخص أفريقيا في شرقها وغربها، مما جعلها في مركز متميز في سباق الطاقة العالمي، هذا ما عزز من احتمال حدوث صدام وبينها وبين الغرب، وعلى الأخص الولايات المتحدة.

2- إيلاء العسكرة في علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأفريقية الاهتمام الأول، الدول الأفريقية تحتاج إلى المساعدات وإلى التنمية وليس إلى العسكرة، قيادة عسكرية متخصصة (أفريكوم)، وتعاون أمني وقواعد عسكرية تنتشر في شرق أفريقيا جيبوتي، وكينا وإثيوبيا، ثم تشاد ونيجيريا، وخليج غينيا والمغرب وموريتانيا والنيجر.

وفي الوقت الذي تستبعد الصين عنصر العسكرة في علاقاتها، ولا تنشر قواعد أو عسكريين، فإن الولايات المتحدة تنشر بضعة آلاف من الجنود والأساطيل، والأسراب الجوية في جيبوتي وفي كينيا، وفي المحيط الهندي والبحر الأحمر، وفي غرب أفريقيا وشمالها.

3– استراتيجية التوتر الدائم الأمريكية، من أهم مضمونات الاستراتيجية الكونية الأمريكية، خلق وإبقاء التوترات وبؤرها في آسيا وأفريقيا، و في أمريكا اللاتينية، أي التوتر الدائم.

وبسبب هذه الاستراتيجية القائمة على العسكرة وخلق وإدامة بؤر التوتر، لا تجد في أفريقيا غير القواعد العسكرية والعسكريين الأمريكيين، أما بالنسبة للصين فنجد العامل، والمهندس في ورش البناء الطرق والمباني وأجهزة الحفر للتنقيب عن الثروات، وكذلك السلعة الصينية وهي في متناول أيدي المجتمع.

4- الصين دولة صاعدة في النظام الدولي وستصبح القوة القطبية الثانية في مواجهة الولايات المتحدة، وهذا ما يقلق الولايات المتحدة بل هو من أشد بواعث القلق في واشنطن.”

دوائر متعددة في واشنطن ترى في أن الصين تعمل بكل الوسائل وما لديها من إمكانيات لإزاحة الولايات المتحدة عن مكانتها الدولية، وتحذر من سلوكها المستقبلي في الجنوح نحو الصراع مع الولايات المتحدة أكثر من التعاون.

موضوع الصراع بين الصين والولايات المتحدة اكتسب المزيد من المصداقية في الآونة الأخيرة، على ضوء أزمة كوريا الشمالية النووية، الدوائر الأمريكية خلصت إلى أن التهديد الكوري الشمالي لم يكن ليبلغ هذه الحدة لولا الدعم الصيني.[28]

خاتمة

تعد القارة الأفريقية سوق المستقبل، وقد سبق أن ترك الأمريكيون الأسواق الأفريقية لزمن طويل للمنافسين القادمين من أوروبا وآسيا، أما الصين فقد اتبعت سياسة تقوم على مبدأ الصداقة والمساواة مع الدول الأفريقية لخدمة أهدافها الاقتصادية حتى أصبحت الشريك الأكبر للقارة، وهناك قلق أمريكي من ظهور دور سياسي/عسكري صيني يعوق أدوار الجيش الأمريكي في القارة السمراء، بسبب مشاركة الجيش الشعبي الصيني في عمليات حفظ السلام في القارة الأفريقية، وقد بات واضحًا أن الولايات المتحدة تسعى من خلال المنتديات الاقتصادية المشتركة مع الدولة الأفريقية القائمة، إلى استحداث آليات لكي تلحق بالقوى الصناعية الأخرى التي ضاعفت حجم تجارتها واستثماراتها في القارة الأفريقية وعلى رأسها الصين، وتعتقد الولايات المتحدة أن تشجيع القطاع الخاص الأمريكي للاستثمار في أفريقيا، يحفز الصين على الالتزام بقيم الشفافية والحكم الرشيد في علاقاتها الأفريقية، وخدمة العلاقات الاقتصادية المشتركة بين الولايات المتحدة والصين في القارة.[29]


الهامش

[1]– محمد عابد: “عسكرة أمريكية في الغرب الإفريقي لمواجهة الزحف الصيني” موقع:

– بتاريخ:5 يناير 2018.www.aa.com.tr

[2]– الدكتور: رافع على المدني:” الدبلوماسية الناعمة في السياسة الصينية اتجاه أفريقيا، العلاقات الصينية السودانية نموذجا:2000-2010، دار الجنان للتوزيع والنشر- عمان – الأردن -يناير 2016

[3]– عبد الكريم حمودي: “الصين تغزو أفريقيا اقتصاديا”: “موقع الخليج أونلاين – بتاريخ:23/05/2015.”

-www.alkhaleejonline.net

[4]:- حمدي عبد الرحمان :” السياسة الأمريكية ا تجاه أفريقيا من العزلة إلى الشراكة” الموقع: “بوابة أفريقيا الإخبارية”

-بتاريخ:25 دجنبر 2013.-www.afrigatenews.net

[5]– محمد بشير جوب:” العلاقات الأمريكية الأفريقية بعد تصريحات ترامب المسيئة …ما هي المسارات والخيارات؟

بتاريخ: 18 يناير2018- www.qiraatafrican.com

[6] – حكيم نجم الدين: باحث نيجيري مختص بالقضايا التعليمية ومهتم بالشؤون الأفريقية، “استراتيجية ترامب في أفريقيا: تقويض القوة الصينية واستمرارية السياسات القديمة”، موقع الجزيرة: http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/01/190122084024340.html

[7]– جمال لضام – ترجمة محمود جمال عبد العال “الصين وأفريقيا التعاون الاستراتيجي”، المركز العربي للبحوث والدراسات”

– الثلاثاء 28 غشت 2018 – www.acrseg.org-الموقع:

[8]– www.noonpost.com- “توجه الصين نحو أفريقيا: خيار استراتيجي أم استعمار اقتصادي؟”-

الموقع: نون بوست – بتاريخ:7 دجنبر 2015.

[9]

-www.chinatoday.com.cn – د عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق-:” الصين- أفريقيا و التنمية الناعمة” موقع :الصين اليوم :- بتاريخ : 29 غشت 2018

[10]عبد الكريم حمودي:” الصين تغزو أفريقيا اقتصاديا” موقع الخليج أونلاين “-

www.alkhaleejonline.net /23 ماي 2015.

[11]– وصال الورفيلي: “تعاظم الدور الصيني في أفريقيا: الدوافع والتحديات”، مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية-

– بتاريخ: 31 غشت 2018. www.csds-center.com الموقع:

[12]-المركز المصري للدراسات والمعلومات- l: – منة الله حريري “النفوذ الصيني في أفريقيا- الوجه الناعم –للاستعمار.

صحيفة: “المصري اليوم” بتاريخ: السبت 11ماي 2013-عدد:3254

www.https://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?Article

[13]– وصال الورفيلي: “تعاظم الدور الصيني في أفريقيا: الدوافع والتحديات”، مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية-

– بتاريخ: 3 غشت 2018. www.csds-center.com الموقع:

[14]– محمد جمال عرفة: “الصين والتغير الناعم في أفريقيا.. “العولمة البديلة” مركز” الروابط” للبحوث والدراسات الاستراتيجية-

– بتاريخ:29 أكتوبر 2014.www.rawabetcenter.com– الموقع:

[15]– حسين إسماعيل – خبير في الشؤون الصينية-“قمة بيكين 2018 لمنتدى التعاون الصيني – الإفريقي “جريدة الأهرام المصرية”–

الأحد 22 من ذي الحجة 1439ه موافق ل: 2 شتنبر 2018- السنة: 143 العدد:48117.

[16]– محمد مثقال عصفور” منتدى التعاون الصيني الإفريقي” جريدة “الرأي” بتاريخ: الأربعاء 5/9/2018.

[17]-آدام نوسيتر: مراسل، عن “نيويورك تايمز” الأميركية، 17/9/2013، إعداد: منال نحاس: جريدة: ” الحياة اللندنية”بتاريخ:23 أكتوبر 2013-

[18]– رانيا نادي محمد حسين:” التوغل الصيني في القارة السمراء..” – المجالات- الدوافع- سيناريوهات مستقبلية”-

بتاريخ: 18/10/2018.www.qiraatafrican.comالموقع

[19]-عبد النور بن عنتر: “الصين وأفريقيا و صراع النفوذ و المصالح- العربي الجديد:

بتاريخ: 8 شتنبر2018.www.alaraby.co.uk الموقع :

[20]– رانيا نادي محمد حسين:” التوغل الصيني في القارة السمراء..” – المجالات – الدوافع- سيناريوهات مستقبلية”-

بتاريخ: 18/10/2018.www.qiraatafrican.comالموقع :

[21]الصين في أفريقيا…من التوسع الاقتصادي إلى النفوذ السياسي.”– العربي الجديد “

بتاريخ: 30 يوليوز 2015.www.alaraby.co.uk. الموقع:

[22]– كمال الدين شيخ محمد عرب: “أبعاد الاهتمام الصيني بشرق أفريقيا”

موقع: ” قراءات أفريقية” بتاريخ :23/01/2017.

[23]– دعاء عويضة: “بين أمريكا والصين وفرنسا …من سيربح حرب النفوذ بأفريقيا؟

-بتاريخ:05/09/2018 – https://blogs.aljazeera.net/blogs/2018/9/5/%D8% الموقع:

[24]– عزت سعد: “صراع النفوذ في أفريقيا ما بين الصين وأمريكا” يومية:” المصري اليوم” بتاريخ: الاثنين 05/11/2019.

[25]– سامي السلامي:” الصراع الصيني الأمريكي: الحرب الهادئة” صحيفة “رأي اليوم”بتاريخ:11 شتنبر 2014.”

[26]أ- حكيم نجم الدين “التنافس على أفريقيا.. النفوذ الصيني – الروسي – الأمريكي “الموقع:” قراءات إفريقية”-

بتاريخ: 11 مارس 2019.www.qiraatafrican.com/

[27]– أ شفيعة حداد أستاذة مساعدة- أ- كلية الحقوق – باتنة – الجزائر. “الحضور الصيني في أفريقيا وحتمية الصراع مع الولايات المتحدة.

– التنافس في السودان نموذجا- الموقع : www.revues.univ-ouargla.dz- عدد”10- 2014.

[28]– تقرير خاص:” الولايات المتحدة والصين في إ فريقيا تنافس وتزاحم”- –

http://strategy.unblog.fr/2013/04/25/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D الموقع”

[29]– وليد الطيب: باحث من السودان “التنافس الصيني الأمريكي على أفريقيا” دورية: “رؤية تركية” دجنبر 2015/ السنة:4/العدد:4:

 

vote/تقييم
الصفحة السابقة 1 2 3

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى