في ظل عالم متشعب الأركان، وشديد التعقيد في صيرورات حركته السياسية، والتي باتت ترتبط بكل مفاصل حياة المجتمعات، من أمن واقتصاد وغير ذلك، فإن هناك أهمية متزايدة ظهرت لعدد من فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي تمثل مفاتيح مهمة للتعامل مع هذا التعقيد والتشعب.
ومن بين أبرز هذه العلوم، علوم المستقبليات، وعلوم إدارة الأزمات، في المجالات المختلفة، في الإدارة، وفي السياسة والاقتصاد، وفي مختلف المجالات الأخرى التي تتعلق بحياة المجتمعات الإنسانية ومسارات تقدمها وتخلفها.
الكتاب
وبين أيدينا كتاب بعنوان “إدارة الأزمات السياسية وإستراتيجيات القضاء على الأزمات السياسية الدولية”، للباحث والأكاديمي المتخصص في العلوم الإستراتيجية والإدارية، الدكتور محمد سرور الحريري، يتناول مجموعة من العناوين ذات الأهمية فيما يخص عملية إدارة الأزمات السياسية وطرق وإستراتيجيات القضاء على الأزمات السياسية على المستوى الدولي.
وينقسم المنطق العام لتناول الكتاب، لهذا الموضوع، إلى قسمَيْن؛ الأول نظري ويركز على المصطلحات المرتبطة بهذا الأمر، مثل أهداف وخصائص ووظائف إدارة الأزمات السياسية، من وجهة نظر العلوم الإدارية. والثاني تطبيقي، يتناول كيفية إيجاد الحلول المناسبة لكل الأزمات السياسية والمشكلات على المستوى الدولي التي تواجهها الدول والحكومات.
ويركز في هذا الإطار، على كيفية قيام رئيس الدولة أو الحكومة والمسؤولين السياسيين بإيجاد حلول سريعة ومناسبة وفق معايير الكفاءة والفاعلية، وتحت الضغوط المختلفة التي قد يواجهونها، وذلك لمحاصرة الأزمات التي تواجهها الدولة، ومعالجة المشكلات القائمة والحالية، والتخلص منها.
والكتاب يتكون من ثلاثة أبواب، الأول عبارة عن مدخل تعريفي بإدارة الأزمات السياسية: تناول موضوع الكتاب، إدارة الأزمات السياسية، وسبب اختياره، والمنهج العلمي المتبع في كتابته، وأهميته.
وفيه يؤكد المؤلف أن التعقيد والتشابك الحالي في المصالح الدولية، وكذلك التقدم العلمي والتقني الكبير في العالم، أدى إلى ظهور مشكلات من نوع جديد أدت إلى ضرورة أن يقوم صناع القرار والمسؤولون السياسيون بالإجابة عن عدد من الأسئلة ذات الأهمية القصوى في عالمنا المعاصر، ومن بينها: ما الدولة؟ وما الحكومة؟ وما قدراتها؟ وما الواقع الأمني والاقتصادي والسياسي القائم في هذه الدولة؟ وكذلك ماهية المشكلات المستجدة، والبدائل المختلفة للتعامل معها.
وضرب أمثلة على هذه المشكلات، مثل الديون الحكومية لدى مؤسسات التمويل الدولية، وأزمات القضاء والمحاكم، وأزمة الغلاء وارتفاع الأسعار الأساسية، وأزمة عجز الموازنة العامة للدول، وأزمة التضخم، والأزمات التي تضرب قطاعات العمل الإستراتيجي الأخرى، مثل الصحافة والإعلام.
قواعد إدارة الأزمات السياسية
الباب الثاني، كان بعنوان “قواعد إدارة الأزمات السياسية”، وجاء في سبعة فصول، تناولت خصائص إدارة الأزمات السياسية، وأهدافها ووظائفها، ومجالات تطبيق إدارة الأزمات السياسية، ومشكلاتها، والنتائج الإيجابية لها، بالإضافة إلى بعض المصطلحات العلمية الخاصة بإدارة الأزمات السياسية؛ حيث أدرج مسردًا بمائة وعشرة مصطلحات ذات صلة، ومعانيها باللغة الإنجليزية، مثل: أزمة، ومحنة، وضرورة، وكارثة، وعجز.
وتُعرَّف الأزمة على أنها تعني “تهديدًا خطرًا متوقعًا أو غير متوقع لأهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات الأفراد والمنظمات والدول والتي تحد من عملية اتخاذ القرار”. أما إدارة الأزمات فهي المحافظة على الأصول والممتلكات، الخاصة بالكيان الذي يتعرض للأزمة، سواء أكان دولة أو شركة، أو ما شابه، وكذلك المحافظة على الأفراد والعاملين بها ضد المخاطر المختلفة.
وتتطلب عملية إدارة الأزمة، عددًا من الأمور، من بينها أن يكون هناك إدراك بأن هناك أزمة، ومهمة فريق الأزمة بالأساس تتمحور حول عدد من المهام، من بينها:
– التنبؤ بالأزمات والمشكلات المختلفة، ووضع بدائل لها.
– وضع خطط مستقبلية متكاملة للتعامل مع الأزمات السياسية والسيادية.
– توجيه النصح والإرشاد للمسؤولين المختلفين، كل في مجاله.
وتتوقف كفاءة فريق العمل القائم على إدارة الأزمات، على عدد من الأمور، من بينها إدراك حقيقة الأزمة وتوصيفها بشكل دقيق، ومعرفة أسبابها، والإمكانات المطلوبة لمعالجتها، والمتاح منها، والوقت المطلوب لمعالجتها.
وهناك عدد من المجالات التي يجب من خلالها تطبيق إدارة الأزمات السياسية، ومن بينها المؤسسات الأمنية، والوزارات السيادية والجهات الدبلوماسية والشركات والبنوك الحكومية.
ومن بين المشكلات التي تواجه صناع القرار ومتخذيه، وفرق إدارة الأزمات، ندرة المعلومات والمصادر المكتوبة في مجالات العلوم الإدارية والإستراتيجية المختلفة التي تُعنى بهذه المسألة، وقلة الأقسام العلمية ذات الصلة في الجامعات والأكاديميات المختلفة، وقلة وجود متخصصين في علوم السياسة والإدارة.
وينعكس نجاح عملية إدارة الأزمة داخل الدولة في العديد من المظاهر، من بينها تحسين فرص تطبيق القانون، ووقف هدر الجهود المبذولة في اتجاه خاطئ، وتوفير الموارد البشرية والمادية، وكذلك الوقت، وتوجيهها في اتجاه آخر، أكثر استفادة.
“ينعكس نجاح عملية إدارة الأزمة داخل الدولة في العديد من المظاهر، من بينها تحسين فرص تطبيق القانون، ووقف هدر الجهود المبذولة في اتجاه خاطئ، وتوفير الموارد”
وهناك عدد من الضرورات التي تفرض إدراك أهمية إدارة الأزمات من جانب صناع القرارات داخل الدول والحكومات، ومن بينها أن الأزمات تؤدي إلى العديد من العواقب الوخيمة على الدولة والمجتمع، بما في ذلك إحداث أجواء سلبية وحالة من الخوف والهلع في أوساط المواطنين، وقد تهدد المصالح الحيوية للدولة، وهو ما يؤدي إلى تعطيل تقدم المجتمع والدولة ككل.
ويميز الكاتب في هذا الإطار بين المشكلة والأزمة، فالمشكلة أخف وطأة في مجالها الزمني وفي تأثيراتها، فإذا ما زادت عن مستوًى زمني معين، وكذلك درجة من درجات التأثير السلبي؛ فإنها تتحول إلى أزمة أكثر عمقًا وتأثيرًا، وغالبًا ما تكون المشكلة قابلة للحل بشكل أسهل من الأزمات، خصوصًا الأزمات المزمنة التي تصعب معالجتها.
فصل إستراتيجي لإدارة الأزمات السياسية
الباب الثالث “مدخل إستراتيجي لإدارة الأزمات السياسية”، جاء في عشرة فصول، تناولت تعريفات إدارة الأزمات السياسية، ومرتكزاتها وكيفية التعامل معها، والمناهج المختلفة في هذا الإطار.
كما تناولت أنواع الإدارات المختلفة وعلاقتها بإدارة الأزمات السياسية، مثل: إدارة العمليات، وإدارة الدولة، والإدارة بالأهداف، وما يعرف بالإدارة الموقفية، أي إدارة المواقف الطارئة، والإدارة الإستراتيجية، وكيفية إدارة الهيئات السياسية.
ومن بين ما ركز عليه المؤلف في هذا الباب المناهج المختلفة للتعامل مع الأزمات، وقسمها إلى اتجاهَيْن: الأول سلبي، يعتمد إما على إنكار وجود الأزمة، وتجاهل التعامل معها أصلاً، أو على الضغط عليها، ومحاصرة كافة المنافذ التي تؤدي إليها، وعزلها عن العوامل التي أدت إليها، أو تشكيل لجنة خاصة للتعامل معها، بشكل يؤدي إلى تضييع وقت طويل في التعامل معها، بما قد يؤدي إلى تفاقمها.
المنهج الإيجابي في التعامل مع الأزمات
المنهج الثاني هو المنهج الإيجابي في التعامل مع الأزمة، ومن بين الطرق المستخدمة فيه، الاهتمام بالجوانب السياسية والاجتماعية في الدولة ومعالجتها، وتشجيع المشاركة السياسية والمجتمعية، وتفتيت الجوانب السلبية للأزمة، وتشكيل فرق عمل مخلصة تعمل على إيجاد حلول ناجحة للأزمات التي تواجه الدولة، بشكل فني ومخلص.
كذلك من طرق المنهج الإيجابي في التعامل مع الأزمة، محاولة امتصاصها، وتغليب مصالح المواطنين، والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والثقافية للمجتمع وتطويرها، بحيث يكون المجتمع عاملاً مساعدًا على معالجة الأزمات.
ويحدد الكاتب سبعين نوعًا من أنواع الإدارات التي يجب على الدول والحكومات الإلمام بها وتنميتها، من أجل تحسين قدرتها على التعامل مع مشكلاتها، ومن بينها: إدارة الأعمال الدولية، وإدارة نظم المعلومات الإدارية، وإدارة المعرفة، وإدارة الأفراد، وإدارة الإنتاج، وإدارة العملية التعليمية، والإدارة العامة، أو إدارة المؤسسات الحكومية، وصولاً إلى إدارة الدولة نفسها.
“الدولة مؤسسة سياسية وقانونية تحكم مجموعة كبيرة من السكان، بصفة دائمة داخل إقليم معين، وقد تكون دولة بسيطة أو مركبة”
ما الدولة؟
ويعرج الكاتب في هذا الباب إلى تعريف الدولة، لتوضيح المفاهيم التي يتناولها، فهناك عدد من المقومات الأساسية التي يجب توافرها في أي كيان سياسي لكي يحمل اسم “دولة”، وهي: السكان والأرض التي يعيشون عليها بمواردها، وسيادة واستقلال الدولة، والحكومة والنظام.
وفي نهاية هذا الباب والكتاب كله، أفرد فصلاً كاملاً، هو الفصل العاشر من الباب الثالث، تناول فيه أشكال وأنواع الاتفاقيات والمعاهدات الإقليمية والدولية، التي تتضمن تعاونًا بين عدد من دول العالم المختلفة، سواء بشكل عام على مستوى العالم، مثل منظمة التجارة العالمية، أو على مستوى إقليم بعينه، مثل اتفاقية منظمة التكامل لدول أميركا اللاتينية، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون لدول جنوب شرق آسيا، وغيرها.