دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

إستراتيجيات بناء المستوطنات في إسرائيل

بقلم مصطفى أمين

مبدأ السطو على أرض الغير ، وطرد أصحابها، وتوطين أولئك القادمين من الشتات، هي فكرة لها أساسها الأيديولوجي وبعدها الإستراتيجي، والذي يتجسد في مفهوم “,”الاستيطان“,”.

ومن الأهمية الإشارة إلى أن إسرائيل سارعت في وضع الخطط بهدف إقامة العديد من المستوطنات، وقد جمعت الحركة الصهيونية منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر بين تفسير النصوص التوراتية والصلة التاريخية بما يسمونه “,”أرض الأجداد“,” وبين مفهوم الدولة القومية الحديثة.

فلا يمكن قراءة موضوع المستوطنات بمعزل عن النظرية أو الإطار الفكري الذي أسس لها وساعدها على الوجود قبل أن تتحول إلى آلية عملية على الأرض.

وتنص الفكرة العقائدية للصهيونية –بحسب أدبياتها المعلنة صراحة- على استعادة الأرض التي أُخرِج منها اليهود، وإعادة بناء الهيكل؛ تنفيذًا لأوامر الله وتطبيقًا لمسار الحتمية الدينية التاريخية التي تضعها أدبيات وتفاسير النصوص الدينية ذات الصلة بنهاية العالم.

وتحاول هذه الدراسة التعرف على الأفكار اليهودية التي دعت إلى وطن قومي لليهود في فلسطين كبداية للدولة اليهودية، وكيف تطورت هذه الدعوات إلى خطوات عملية، من خلال إقامة مستوطنات فعلية على أرض فلسطين، وتطور إنشاء وبناء هذه المستوطنات منذ عام 1987، إلى أن استطاعت أن تتحول إلى كتل استيطانية شكلت الكيان الجغرافي الذي أقيمت عليه الدولة الإسرائيلية عام 1948.

وفي هذا السياق تقدم هذه الدراسة شرحًا للوقائع القائمة على الأرض من خلال العناصر التالية:

· أولًا: الإطار الفكري لدعوات التوطن اليهودي بفلسطين .

· ثانيًا: مستوطنات المرحلة الأولى (من 1839م إلى 1900م):

Ø الفترة الأولى (من 1839م إلى 1881م).

Ø الفترة الثانية (من 1881م إلى 1900م).

· ثالثًا: مستوطنات المرحلة الثانية: (من 1901م إلى 1948م)

Ø الفترة الأولى (من 1901م إلى 1917م).

Ø الفترة الثانية (من 1918م إلى 1936م).

Ø الفترة الثالثة (من 1937م إلى 1948م).

· رابعًا: مستوطنات المرحلة الثالثة: (من 1948م إلى 1967م)

Ø الفترة الأولى (من 1948م إلى 1967م)

Ø الفترة الثانية (من 1968م إلى 1980م)

Ø الفترة الثالثة (من 1981م إلى 1994م)

Ø الفترة الرابعة (من 1995م إلى 2007م)

· نشأة وتطــور المستوطنات

تمثل ظاهرة الاستيطان البشري أحد أهم الظواهر البشرية على الإطلاق؛ فهي التي تحدد علاقة الإنسان مع البيئة المحيطة، وطبيعة سلوكه الإنساني على مدار تاريخه.

و الاستيطان اليهودي داخل الأراضي العربية المحتلة يعد أحد أهم النماذج البشرية للاستيطان؛ وذلك لطبيعته ال إ حلاليين القائمة على احتلال الأرض، وترسيخ الوجود المهاجر عليها، ثم الاستيلاء عليها بدعاوى متعددة .

وقد استطاع هذا الاستيطان اليهودي المهاجر أن يخلق وجودًا واقعيًّا على الأراضي العربية، ترتب عليه العديد من الأشكال، كان أكثرها تميزًا “,”المستوطنة“,”؛ باعتبارها الحالة الأميز والظاهرة الأولى للاستيطان اليهودي ككل، وهذا ما جعلها نموذج مختلفًا عن أشكال التوطن الأخرى، بحكم مجموعة من العوامل ارتبطت بالنشأة والتكوين والاعتبارات الفكرية والسياسية .

هذا، ويعد المرتكز الأساسي للدراسة هو المستوطنات داخل حدود الدولة الإسرائيلية الآن، والتي أعلنت في 14 مايو عام 1948م؛ وذلك باعتبارها ناتجة عن ظاهرة الاستيطان اليهودي ككل. ولم يتطرق الباحث إلى المستوطنات في الضفة الغربية أو مستوطنات غزة قبل إخلائها؛ باعتبارها خارج نطاق الدراسة، بالإضافة إلى أن الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، والفلسطيني الإسرائيلي بشكل خاص، لم يُحدّد بعد نطاقهما الجغرافي، وعدم شرعية وجود هذه المستوطنات في الضفة ومن قبلها غزة .

وقد تم التركيز داخل هذه الدراسة على المستوطنات داخل إسرائيل، وإفرادها عن الاستيطان اليهودي، ودراستها كجزء من المنظومة العامة للاستيطان اليهودي، ومعرفة مدى قوتها وفاعليتها داخل المنظومة الاستيطانية في إسرائيل، من خلال دراسة بحثية متخصصة حددت إطارها الجغرافية التي نشأت فيها، وكيف تطورت، والإمكانيات الجغرافية التي تتمتع بها داخل الدولة الإسرائيلية؛ باعتبارها جزءًا من جغرافية الدولة المخططة مسبقًا وبشكل متكامل، معتمدة على إستراتيجية دقيقة في التوزيع، ومتفاعلة مع مجموعة من المؤثرات الطبيعية والبشرية التي حددت توزيعها داخل الدولة، ومرتكزة على مجموعة من الأنماط الفكرية التي شكلت أنواعها وفقًا لمخطط إسراتيجي حَدّد مسبقًا العديد من أشكالها؛ لاعتبارات أقرب إلى العسكرية والسياسية منها إلى الجغرافية والمدنية .

هذا، ويشكل الاستيطان اليهودي في فلسطين التاريخية أحد أهم الموضوعات التي حظيت بالعديد من الكتابات من جانب المفكرين والباحثين العرب، ولكن لم يتجه أي من هؤلاء الباحثين أو المفكرين إلى الدراسة العلمية المتخصصة حول المستوطنة كظاهرة استطاعت أن تخلق من كيانها الصغير منظومة جغرافية عمرانية، استطاعت أن تتمدد وتنتشر، بفعل العديد من المؤثرات السياسية والاقتصادية والفكرية؛ لتشكل بمجموعة نطاقاتها حدود الدولة الإسرائيلية، وتخلق كيانًا جديدًا في داخل المنطقة العربية .

· أولًا: الإطار الفكري لدعوات التوطن اليهودي بفلسطين:

نهدف هنا إلى التعرف على الأفكار اليهودية التي دعت إلى وطن قومي لليهود في فلسطين كبداية للدولة اليهودية، وكيف تطورت هذه الدعوات إلى خطوات عملية، من خلال إقامة مستوطنات فعلية على أرض فلسطين وتطور إنشاء وبناء هذه المستوطنات منذ عام 1987م، إلى أن استطاعت أن تتحول إلى كتل استيطانية شكلت الكيان الجغرافي الذي أقيمت عليها الدولة الإسرائيلية عام 1948م .

وترصد الدراسة الفترات التاريخية التي تمت فيها أعداد المستوطنات، وخطط إقامتها، والطرق التي اعتمدت عليها المؤسسات الصهيونية قبل قيام الدولة وبعدها؛ لمعرفة كيف انتهت هذه الخطط إلى ما عليه دولة إسرائيل الآن .

أولاً: الإطار الفكري لدعوات التوطن اليهودي بفلسطين :

يمثل الإطار الفكري للتوطن اليهودي في فلسطين العديد من الدعوات التي تبناها بعض اليهود للعودة إلى فلسطين وإقامة المستوطنات بها؛ لتكون النواة والبداية الأولى للدولة اليهودية الجديدة، وقد استندت معظم هذه الدعوات إلى حجج دينية أو اقتصادية أو استعمارية لإعادة اليهود إلى فلسطين .

ولكنها كانت في مجملها مجرد دعوات فردية، ولم تستند إلى دوافع قوية لتجسدها على أرض الواقع وتجعل منها واقعًا ملموسًا على أرض فلسطين، ولم تكتمل هذه الدعوات بالتطبيق إلا عقب المؤتمر الصهيوني الأول وتبني اليهود لقيام دولة يهودية في فلسطين، وفيما يلي استعراض بعض هذه الدعوات وأصولها في الفكر اليهودي والفكر الغربي، والتي ارتبط المفهوم الروحي والديني للعودة إلى فلسطين في الفكر الديني اليهودي بالعودة الروحية إلى القدس: نبع التوحيد، وذكرى جهاد الأنبياء من بني إسرائيل، وأرض المجد لشعب إسرائيل. وتجسدت العودة المادية عندهم في الإرادة الإلهية حتى يظهر المسيح المخلص، ولكن اليهودية الصهيونية هي التي أحيت العودة المادية لدى الشعب اليهودي؛ وذلك بالتوطن في فلسطين، واسترداد السيادة على أرض الوطن القديم وأرضه الموعودة، وعبروا عن ذلك برغباتهم وأفكارهم في العودة إلى أرض أجدادهم، من خلال التنظيمات الاستيطانية، وتفعيل آليات العمل الاستيطاني من خلال إقامة المستوطنات .

ولكن بقيت فكرة استعادة الشعب اليهودي لأرض وطنه القديم فكرة قديمة منذ عهد الشتات، ولم تدخل عليها أي إجراءات فعلية لإعادة هذا الشعب إلى أرضه التي يدعيها، وقد بذلت عدة محاولات في العصور الوسطى للعودة مرة أخرى، بعضها كان واقعيًّا، والبعض الآخر كان مجرد إسراف في الخيال؛ لتحقيق فكرة عودة الشعب المطرود إلى أرضه. (1)

وتعود أول دعوة للعودة على أساس اقتصادي إلى القرن السادس عشر؛ حيث دعا شخص يسمى (جوزيف ناس) للحصول على موافقة السلطان العثماني بالسماح لمجموعة يهودية بجباية ضرائب المنطقة الواقعة قرب بحيرة طبرية لمدة عشر سنوات عن طريق الالتزام، وهو نظام كان سائدًا في عهد الدولة العثمانية، وقد حصل على موافقة السلطان العثماني، إلا أن سلوك هذه الجماعة اليهودية المالي أثار حفيظة المواطنين العرب؛ مما دعا السلطة العثمانية إلى طردهم من هذه المنطقة، وقد منح السلطانُ العثماني “,”جوزيف ناس“,” بعض حقوق السيادة في نفس المنطقة، وسعى هو لإقامة مشروع لصناعة النسيج؛ ليعمل به الحرفيون اليهود، إلا أنه باء بالفشل لأسباب اقتصادية. (2)

وتمثل هذه المحاولة البداية الأولى للتوطن اليهودي في فلسطين، ولكنها لم تمثل مشروعًا سياسيًّا لتكوين كيان سياسي لهم داخل فلسطين .

وقد دعا نابليون بونابرت -حين غزا مصر عام 1798م- عندما أصدر بيانًا يحث فيه اليهود في آسيا وإفريقيا لمساعدته في إعادة بناء دولتهم القديمة، واستعادة مجدهم التاريخي في فلسطين. وقد عاود نابليون نداءه أثناء محاصرته لمدينة عكا عام 1899م، حيث خاطب اليهود: “,”يا ورثة فلسطين الشرعيين“,”، ودعاهم للسيطرة على فلسطين؛ من أجل بناء أمتهم، ولكي يصبحوا سادة فلسطين الحقيقيين. (3)

وأيًّا كانت أهداف نابليون بونابرت من هذا النداء؛ فإنه يعد مجرد شكل من أشكال الاحتيال السياسي؛ لكسب مودة اليهود، ولمساعدته في تحقيق أهداف حملته على الشام، ومع الأخذ في الاعتبار أن هذه النداءات لم تلق أي اهتمام من يهود الشرق والغرب أو حتى يهود فرنسا أنفسهم .

وظهرت دعوة جديدة لتوطن اليهود في فلسطين وإقامة مستوطنات بها، وتواكبت مع أفكار البرجوازيين والرأسماليين، الذين عبروا عن مصالح الاستعمار الغربي، وتجسدت في دعوة الحاخام “,”يهودا القالعي“,” (1798م- 1878م)، والتي أطلقها عام 1834م، وهي فكرة أن اليهود كانوا أمة واحدة، وجعلها هدفًا قوميًّا؛ ليوحي لليهود الفقراء بذلك، ويجذبهم للهجرة إلى فلسطين، وأكد على الفوائد المالية الكبيرة، التي بالإمكان تحقيقها باستعمار فلسطين وإقامة مستوطنات يهودية عليها. (4)

ثم أظهرت دعوة الحاخام “,”كاليش“,” (يهودي بولندي) خلاص اليهود عن طريق الهجرة والاستيطان في فلسطين؛ وذلك في رسالة وجهها إلى عائلة روتشيلد في برلين، طالبهم بحشد طاقات اليهود والعودة للحياة على أرض الأجداد، والتضحية بكل شيء من أجل العودة إلى أرض الأجداد، وقد أعاد كاليش دعوته عام 1862م في كتابه (البحث عن صهيون)، الذي مجد فيه الاستيطان الزراعي في فلسطين، ودعا اليهود لعدم الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، ووجوب استيلائهم على فلسطين والاستيطان فيها، وإقامة مستوطنات زراعية بـها . (5)

وقد ارتبطت فكرة توطين اليهود في فلسطين بالدعوات الاستعمارية الغربية، واعتبرتها جزءًا مكملًا لهذه الدعوات، ولا انفصال بين كل من الدعوة لتوطين اليهود في فلسطين وبين استعمارهم لها كجزء من الاستعمار الغربي لمنطقة الشرق الأوسط .

ومن أقدم الدعوات المرتبطة بالاستعمار الغربي، والتي تمثل أول دعوة علنية من هذا النوع، هي التي نادى بها السير “,”هنري فنش“,” عام 1616م، والتي دعا فيها لإنشاء وطن قومي لليهود وتوطينهم في فلسطين . (6) وذلك في كتابه، الذي نشره في نفس العام تحت عنوان “,”نداء اليهود“,”، واعتبرها -أي الدولة المزعومة- نواة لإمبراطورية عالمية واسعة الأرجاء. (7)

وفي عام 1862م دعا “,”موسى هيس“,” (1812م- 1875م) إلى توطين اليهود في فلسطين وتأسيس دولة يهودية بها، تعتمد على التحالف الفرنسي اليهودي في المنطقة العربية .

ودعا موسى هيس إلى إنشاء جمعية للاستيطان اليهودي، تكون مهمتها جمع الأموال اللازمة لبناء المستوطنات، وجلب المستوطنين من شتى أنحاء العالم، ويتولى الإشراف عليها أثرياء اليهود، وتكون الملكية فيها جماعية للشعب اليهودي . (8)

وذكر أن هذه الدولة اليهودية هي التي سوف تحقق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلفة في آسيا وإفريقيا، وأن ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية على رقعة ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط (9) .

وقد تدعمت الرغبة لدى اليهود بإقامة مستوطناتهم في فلسطين في أغسطس عام 1840م، وذلك من خلال ما كتبه اللورد شافتسبري إلى اللورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا آنذاك، يطالبه فيها بأن تتبنى بريطانيا عملية إعادة اليهود وتوطينهم في فلسطين .

وقد تبنى اللورد بالمرستون هذا الطلب، وبعث برسالة إلى سفير بريطانيا في تركيا بتاريخ 11/ 8/ 1840م، بخصوص إعادة توطين اليهود في فلسطين، وأوضح فيها الشعور القوي لدى اليهود للعودة إلى فلسطين وإقامة مستوطنات بها، وأن ذلك سوف يضمن العديد من الفوائد لسكان فلسطين، وأن مباركة السلطان العثماني لهذا الأمر سوف يوطد من صلات الصداقة بين اليهود في أوروبا والدولة العثمانية، ويخدم مصالحها . (10)

ويعد السير “,”موسى مونتفيوري“,” -الشخصية البريطانية اليهودية البارزة- أحد أهم الشخصيات اليهودية التي بذلت جهدًا كبيرًا لتوطين اليهود في فلسطين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد زار فلسطين سبع مرات بين عامي 1827م وحتى 1874م، حيث كان في سن التسعين. وقد دفع بريطانيا إلى تبني قضية اليهود في كافة أنحاء الدولة العثمانية وتوطين اليهود في فلسطين.

ويعد مونتفيوري من الرأسماليين اليهود الذين جذبتهم الامتيازات الاستعمارية إلى فلسطين بهدف الاستغلال الاقتصادي؛ مما دعم موقفهم تجاه الرغبة الدفينة لديهم في توطين فلسطين، والذي دفع إنجلترا إلى إرسال بعثة علمية تقوم بدراسة فلسطين؛ لدراسة فرصة استيطان اليهود بها، وكان ذلك في عام 1871م، وقد قامت هذه البعثة بعملية مسح شامل لكل أراضي فلسطين من “,”دان“,” في أقصى شمالها وحتى بئر سبع في أقصى جنوبها، وأقرت بإمكانية توطين اليهود في فلسطين .

وفي عام 1880م طرح “,”لورانس أوليفنت“,” –البريطاني- مشروعًا للاستيطان اليهودي في منطقة واسعة ذات استقلال ذاتي ضمن محمية بريطانية في منطقة سوريا الجنوبية، وقد حظي مشروعه بموافقة بريطانية، وانعكست أفكاره من خلال رد عملي من قبل رجل المال والأعمال اليهودي “,”أدموند روتشيلد“,” الذي تعاون مع جماعة “,”أحباء صهيون“,” على تنفيذ الاستيطان الإقليمي في فلسطين ومنطقة الجولان. (11)

وقد دعم التوطن اليهودي في فلسطين “,”ليون بنسكر“,” اليهودي الروسي، وقد وضع أفكارًا حول عودة اليهود إلى أراضيهم، وإن لم يكن قد حددها في فلسطين في البداية، ولكنه حددها في فلسطين بعد ذلك، بعد أن تخلى عن أفكاره القديمة، الخاصة بتوطين اليهود في أي أرض، وقد التفت حوله جمعيات محبي صهيون، وكانت هذه الجماعة تقوم على دعم النشاط الاستيطاني، وتوطين اليهود في فلسطين؛ عن طريق تشجيع الهجرة، وتقديم المعونة المالية للمستوطنين .

وقد تولى “,”ليوبنسكر“,” رئاسة جماعة “,”محبي صهيون“,”، وقامت الجماعة بدور هام في تنسيق أعمال بناء المستوطنات في فلسطين، وقرر مؤتمر استيطان أراضي فلسطين وإقامة مستوطنات عليها من خلال مزارعين يهود، وقد قاموا بتهجير حوالي 25 ألف يهودي روسي إلى فلسطين .

ومثَّل هذا حلًا قائمًا على الحنين العاطفي والشعور الديني من قبل يهودي الحركة إلى إقامة مستوطنات في فلسطين، وبذلك بدأت فكرة الوطن القومي تنتقل من حيز الفكرة إلى حيز الواقع . (12)

وقد وجدت اليهودية قائدها العالمي عام 1894م في شخص تيودور هرتزل (1860– 1904م)، وهو من يهود فيينا، ونشأ داخل بيئة يهودية مندمجة مع المجتمع الغربي .

وقد وضع تيودور هرتزل طريقة للتوطن في فلسطين وإقامة مستوطنات بها، اعتمدت على ما يلي:

1. شـراء الأراضي :

اقتراح جمعية لليهود تكتسب الشرعية الدولية، وتقوم هذه الجمعية بعمليات الشراء بالطريقة المركزية، وبمساحات كبيرة، ثم تقوم بتمليك هذه الأراضي لليهود وللموظفين بها بأثمان رخيصة، بالإضافة إلى أن المضاربة على هذه الأراضي، وعمليات البيع والشراء، تحقق أرباحًا ضخمة للشركة سوف تمنح للمستوطنين الأوائل.

2. المباني ومساكن المستوطنين :

ستكون المباني على شكل مجموعات منفصلة بعضها عن بعض، مزودة بحدائق صغيرة، وسيشعر المستوطنون بالارتياح في مجموعات منازلهم غير المتلاصقة، وسوف يكون في استطاعتهم رؤية المعبد من مسافات طويلة، بالإضافة إلى وجود مدارس للأطفال تدار بطريقة حديثة، بالإضافة إلى أماكن التسلية .

3. العمـــــال :

سيكون دور المستوطنين من العمال بناء المساكن من الأخشاب، وسيكون العمل بين المستوطنين بطريقة تعاونية في بناء البيوت، ثم تنتقل الملكية بصفة دائمة، وستكون أجور المستوطنين أجورًا عينية من خلال ما ستوفره الشركة لهم من سبل العيش المختلفة .

4. احتــلال الأرض :

وضع تيودور ثلاث مهام أساسية بعد الاستيلاء على الأرض وإقامة المستوطنات بها، من خلال البحث العلمي الدقيق لجميع الثروات الطبيعية، وتنظيم إدارة مركزية صارمة، وتوزيع الأراضي على المستوطنين .

وبهذه الطريقة كان واثقًا بأنه بذلك يستطيع احتلال الأرض وإقامة مستوطنات بها، ثم إقامة الدولة بأسلوب لم يعرفه التاريخ حتى الآن، وبإمكانات نجاح لم يحدث مثلها من قبل . (13)

من خلال العرض السابق يتضح لنا :

1) ارتباط هذه الدعوات بالفكر الاستعماري الذي كان سائدًا عند الدول الاستعمارية في الغرب، ورؤية هذه الدول بأن التوطن اليهودي في فلسطين سوف يخدم مصالحهم الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط؛ وبالتالي يجب عليهم أن يدعموا هذا التوطن بكافة الأشكال والصور.

2) أن الدعوات اليهودية للتوطن في فلسطين ارتبطت بموروث ديني لدى اليهود، لكنها لم تتجسد في شكل إطار فعلي وإحلال مادي إلا في فترات متأخرة، وخاصة في البدايات الأولى من النصف الثاني من القرن التاسع عشر .

3) ارتباط معظم هذه الدعوات بتعاطف بعض أصحاب السلطة في الدول الاستعمارية، ولا تعد تعبيرًا عن مواقف رسمية لهذه الدول إلا في فترات متأخرة من التوطن اليهودي في فلسطين، وذلك وفقًا لاعتبارات سياسية .

4) أن الإطار العملي والتطبيقي لتوطن اليهود في فلسطين، وتشكيل هذا التوطن للدولة القادمة، لم يتبلور إلا عندما أعلن هرتزل أن فلسطين هي الوطن القادم لليهود .

5) أن الارتباط بالتوطن من جانب اليهود لفلسطين ارتباط قديم، وأن رغبتهم في العودة إليها هي رغبة نابعة من موروثات دينية، لا تزال تؤكد على العودة لها، على الرغم من أن هناك أطروحات خلال فترة هذه الدعوات لتوطينهم في أماكن أخرى، ولكن بقي الهدف النهائي لليهود هو العودة إلى فلسطين .

6) أن استعراض بعض هذه الدعوات ما هو إلا تقديم للإطار الفكري لدعوات التوطن اليهودي وإحلالهم في فلسطين، وهو في غاية الأهمية لمعرفة الفكر التوطني لدى اليهود تجاه فلسطين، وخاصة في فترة القرون: السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وهذا ينقلنا إلى المراحل الأساسية لنشأة وتطور المستوطنات .

ثانيًا: مستوطنات المرحلة الأولى

تمثل هذه المرحلة البدايات الأولى لإنشاء مستوطنات يهودية على أرض فلسطين، وقد تعددت التسميات التي أطلقت على هذه المرحلة، فقد أطلق عليها بعض الباحثين عملية “,”الاستيطان المنعزل“,”، والبعض الآخر أطلق عليها “,”الاستيطان المتسلل“,”. وبالنظر إلى هذه التسميات نجد أن تسمية “,”الاستيطان المنعزل“,” تعود إلى المستوطنات المنعزلة حول مدن القدس وصفد، وتعود التسمية الثانية إلى أن معظم الهجرات قامت على تسلل عناصر يهودية مرتبطة بالهجرة وإقامتها مستوطنات من العناصر اليهودية المتسللة إلى فلسطين، ومعظمهم من المهاجرين من شرق أوربا وروسيا .

ويرى الباحث أن كلتا التسميتين لا تعبران بشكل واضح عن المستوطنات في تلك المرحلة؛ لأن المستوطنات خلال تلك المرحلة لم تكن منعزلة بالشكل الذي يحكم عليها بالانعزال، وتسميتها بذلك الاسم تسمية قاصرة؛ حيث إنها كانت منتشرة وفقًا لخطط محددة من الرأسماليين اليهود للاستغلال الاقتصادي الأمثل، وكانت في مواقع مرتبطة إلى حد كبير بالمدن التي كانت بجوارها مثل القدس ويافا وصفد .

أما التسمية الخاصة بالاستيطان المتسلل فإنها تعد تسمية قاصرة أيضًا؛ لأن العديد من العناصر اليهودية أو المستوطنين لم يكونوا من اليهود المتسللين، بل كان بعضهم ممن هاجر بشكل شرعي وتصاريح من الدولة العثمانية، والبعض الآخر كان من العناصر اليهودية التي خضعت للامتيازات الأجنبية التي أعطتها الدولة العثمانية لرعاياها الأجانب والمقيمين، ومنهم العناصر اليهودية. ولذلك فإن دراسة هذه المرحلة تحت مسمى “,”الانعزال“,” أو “,”التسلل“,” تعد قصورًا في تحديد مسمى المرحلة باعتبار أن الاستغلال الاقتصادي هو الهدف الأساسي لإقامة هذه المستوطنات .

وتنقسم هذه المرحلة إلى فترتين :

§ الفترة الأولى: (من عام 1839م إلى عام 1881م)

§ الفترة الثانية: (من عام 1881م إلى عام 1900م)

(1) الفترة الأولى ( من عام 1839 إلى عام 1881م):

ظلت فلسطين تضم -بجانب سكانها العرب والمسلمين- طوائف وفئات يهودية شكلت على طول تاريخها أقلية عددية إذا قورنت بالعرب، وقد عاشت الجماعات اليهودية كجزء من المجتمع العربي القائم، ولم يكن يميزهم عن غيرهم سوى ديانتهم اليهودية، وقد كان عدد اليهود في فلسطين حتى عام 1835م حوالي 10000 عشرة آلاف نسمة، أقام أغلبهم في أربع مدن مقدسة لدى اليهود هي القدس (حوالي 4500)، و1500 يهودي في الخليل وصفد . (14)

وقد مثل هذا العدد مجموعة من اليهود المتدينين المقيمين بالمدن، ويعملون في أعمال التجارة والصناعة، ولكن البداية الأولى للتوطن الزراعي وبناء مستوطنات في فلسطين بدأت منذ عام 1839م. (15)

وتمثل هذه الفترة البداية الفعلية والعملية لإعادة اليهود وإقامة مستوطنات تكون في البداية زراعية، وإذا قمنا بتحليل مضمون ما ذكره “,”موسى مونتفيوري“,” تتضح لنا عدة أمور هامة:

1. أن الهدف الأساسي لإقامة هذه المستوطنات في فلسطين كان هدفًا اقتصاديًّا بحتًا تدعمه رغبة دفينة لدى مونتفيوري في إعادة توطين اليهود في فلسطين .

2. أن المبررات الاقتصادية لدى مونتفيوري كانت قوية، لدرجة أنه جمع معلومات عن الأرض التي يرغب في شرائها، ومستوى إنتاجها، وطبيعة النباتات والزراعات بها، بالإضافة إلى تأكيده على وجود آبار للمياه في هذه المنطقة؛ مما يساعد بالتالي على إقامة مستوطنات زراعية تتوافر لها كافة الإمكانيات الاقتصادية .

3. أن الاستغلال الاقتصادي والعائد المادي والاقتصادي كان من أهم سمات رغبة مونتفيوري في شراء هذه الأرض، وهذا يتضح من خلال شروطه الخاصة بنسبة الربح مع الوالي محمد علي، ومدة استغلال الأرض، ومدى سلطته على الأرض .

4. التصور المبدئي لدى مونتفيوري: أنه بشرائه هذه المساحات من الأرض داخل فلسطين، قد تكون البداية الأولى لتوطين اليهود الأوربيين بها وإقامة مستوطنات بشكل أكبر على المدى البعيد، وإعادة إحياء للوجود اليهودي في فلسطين، والذي انقطع منذ أسلاف غابرة ولم يعد له وجود فعلي في فلسطين .

5. يقين مونفيوري باستحالة قيام كيان يهودي استيطاني في أوروبا، وأن الفرصة مهيأة لهذا الكيان الاستيطاني على أرض فلسطين من خلال هذه الفكرة وإقامة المستوطنات فيها، وتمثل هذه المحاولة من جانب موسى مونتفيوري أول محاولة لإقامة مستوطنات في أجزاء من فلسطين، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب انحسار نفوذ محمد علي عن فلسطين وعدم إتمام مونتفيوري لهذا العرض .

ولكن موسى مونتفيوري عاود عام 1849م المحاولة واستطاع بضغوط بريطانية أن يحصل من السلطان العثماني على فرمان يسمح لليهود بشراء أراضي في القدس .

وبعد ثلاث سنوات استطاع موسى مونتفيوري شراء قطعة أرض في القدس، وأقام عليها أول مساكن في فلسطين لليهود، ونادى بتشجيع إقامة المستوطنات في فلسطين، وفي عام 1860م اشترى اثنان من الممولين اليهود قطعتين من الأراضي في فلسطين، الأولى قرب أرض قالونيا، والثانية حول بحيرة طبرية .

ثم تدخل الاتحاد الإسرائيلي العالمي (الإلياس)؛ بالحصول على موافقة السلطان العثماني لاستئجار 2600 دونم من قرية يازور قرب يافا؛ لإقامة مدرسة (مكفية إسرائيل الزراعية)، التي تم افتتاحها عام 1870م؛ لتدريب سكان المدينة من اليهود على الأعمال الزراعية؛ بقصد تحويلهم إلى فلاحين.

ولم تمض بضع سنوات حتى أثمرت هذه الاتجاهات، وسارع بعض اليهود في القدس وصفد -في عام 1878م- إلى إنشاء مستوطنتين يهوديتين، هما (بتاح تكفا) على ضفاف نهر يرقون في السهل الساحلي، ومستوطنة (الجاعونة)، التي حملت فيما بعد اسم “,”روش بناة“,” عند أطراف وادي الحولة، ولكن المحاولتين انتهيتا إلى الفشل، وهجرت القريتان بعد مدة وجيزة؛ بسبب نقص الأموال وقلة الخبرة الزراعية، فلم يعد إليهما النشاط إلا مع بداية الفترة الثانية. (17)

وقد تميزت الفترة الأولى بعدة مميزات:

1) أنها كانت البداية الأولى لتوطين اليهود وإقامة مستوطنات زراعية لهم في فلسطين.

2) اعتمادها على الدعم الاقتصادي، وخاصة من الرأسماليين اليهود، وخاصة منتفيوري.

3) كانت تمثل البعث الأول للعمل اليدوي اليهودي وزراعة الأرض.

4) عدم التقنين العلمي في العمل اليهودي، ونقص الخبرة الزراعية لدى يهود هذه الفترة.

ويتضح من خلال هذا العرض عدة ملامح أساسية تميز الاستيطان اليهودي في فلسطين في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وتتمثل فيما يلي :

1. أن نشأة الجماعات اليهودية في فلسطين بدأت بهجرات متفرقة، إما لأغراض دينية مثل مجيء رجال الدين للتعبد، أو هربًا من الاضطهاد الذي أقامه اليهود في أوروبا .

2. استغلال اليهود تحسن الظروف السياسية، مثل الامتيازات التي منحتها لهم الدولة العثمانية كرعايا أجانب، والظروف الاقتصادية، ومساعي البارون روتشيلد ومونتفيوري، واجتماعية وحالة التسامح الإسلامي مع أصحاب الديانات الأخرى. وزاد عددهم في عام 1845م إلى 11.800 ألف يهودي، توطن معظمهم في المدن، مثل القدس وصفد وطبريا والخليل .

3. بعد بداية النشاط الاستيطاني، القائم على الزراعة وإقامة المستوطنات، زاد عددهم إلى 24 ألف يهودي عام 1882م، وهو بدايات الفترة الثانية في التوطن اليهودي .

4. عدم مشاركة اليهود المستوطنين في الإنتاج الاقتصادي لمنطقة الاستيطان الجديدة التي وفدوا إليها، وإن كانت هناك بعض المحاولات منهم للإنتاج داخل هذه المستوطنات وخاصة “,”بتاح تكفا“,”، التي أسسها مجموعة من اليهود القاطنين في القدس عام 1878م على قرية ملبس العربية، ولكن محاولاتهم للإنتاج اليهودي المستقل لم تنجح، وسرعان ما هجرت مستوطنة “,”بتاح تكفا“,” ولم تعمر .

وعاش اليهود المستوطنون على الصدقات التي ترسل لهم من بلادهم الأصلية؛ باعتبار أن مساعدتهم واجب ديني، وموَّل هذه المساعدات الخيرية نظام (الحالوقة)، أو التوزيع، وشمل الجزء الأكبر من الجماعات اليهودية في فلسطين . وقد بدأ نظام (الحالوقة) في القرن الخامس عشر بتكوين جماعة تحت هذا الاسم، ثم تلتها جمعيات مشابهة توزع الهبات على اليهود الذين يجمع بينهم الانتماء إلى بلد واحد. وكان يسافر مبعوثون يقومون بالطواف في بلادهم الأصلية لجمع التبرعات، ووصلت أول بعثة منهم إلى أمريكا في عام 1759م ثم تزايدت بعد ذلك الهبات التي يقدمها اليهود الأمريكيون.

5. لم يشكل المستوطنون الأوائل مجموعة متجانسة، وإنما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وثقافاتهم، وانضموا إلى مجموعات متمايزة، لكل مجموعة منهم نظامها الخاص الذي حافظت عليه، واستبقت وحافظت على لغة موطنها الأصلي؛ ولذلك فقد غلبت على هذه الجماعات اليهودية والمستوطنين اليهود مجموعتان مختلفتان تميزتا بتباين الأصل والثقافة والمذهب الديني وهما: مجموعة اليهود (الإشكينازيم) ولغتهم اليديش . و مجموعة اليهود (السفرديم) ولغتهم اللادينو .

6. حافظ المستوطنون اليهود في فلسطين على علاقاتهم مع بلدانهم الأصلية، وعندما تزايد النفوذ الأوربي في الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، بسطت الدول الاوربية حمايتها على اليهود باعتبارهم رعايا أوروبيين، وذلك عن طريق قناصلها لدى الدولة العثمانية .

7. تأثر اليهود المستوطنون بالطابع الغربي في الملابس، وشكل المنازل، ونوع الأثاث، وأخذوا ببعض عادات العرب، وتأثروا بمظاهر الحياة العربية داخل أقليتهم السكانية . وإن بدأ هذا التأثر يقل تدريجيًّا مع بداية المرحلة الثانية. (18)

8. تمثل هذه الفترة مرحلة هامة في إنشاء المستوطنات اليهودية الأولى، حيث إنها شكلت مجموعة من الأسس التي استمرت مع المستوطنين القادمين في المراحل التالية، وشكلت على أساسها الشكل العام للاستيطان، ومن أهم هذه الأسس :

(أ‌) الارتباط الاقتصادي بالخارج، والذي استمر في المرحلة الأولى إلى كافة المراحل التالية.

(ب‌) الاختلاف في نوع المستوطنين، وعدم تجانسهم، وتكوينهم لجماعات متميزة؛ والذي حدد فيما بعد أنواع بعض المستوطنات، بل وطبيعة اليهود بها .

(ج‌) انحسار التأثير العربي على المستوطنين اليهود بعد هذه المرحلة، واستمرار عدم إدراك العرب لطبيعة المخطط اليهودي للاستيطان في فلسطين .

(2) الفترة الثانية: (1881 – 1900م)

ارتبطت هذه المرحلة بموجة الهجرة اليهودية، التي ارتبطت بمشاركة بعض اليهود الفوضويين عام 1881م باغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني، وما صاحب هذا الاغتيال من عداء لليهود في كافة أنحاء روسيا القيصرية ودول أوروبا الشرقية، واستغلال موجة العداء هذه من قبل الجمعيات اليهودية التي كانت منتشرة في روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية لتهجير يهود روسيا بأعداد كبيرة إلى فلسطين. (19)

وقد جرى نشاط مكثف لبناء العديد من المستوطنات خلال هذه المرحلة بالجهود الفردية والجماعية، وقد مثل العنصر الروسي العنصر الأساسي خلال هذه المرحلة، ولعبت جماعة (بيلو) الدور الأساسي في تهجير اليهود الروس إلى فلسطين، وإقامة المستوطنات لهم، ووصلت أول طلائع المستوطنين اليهود عام 1882م، وكانت تضم المتحمسين من الطلبة، التي كانت لديهم الرغبة القوية في إحياء الوطن القومي لليهود في فلسطين من خلال مجموعة المستوطنات التي قاموا بإنشائها .

وقامت جماعة “,”أحباء صهيون“,” بتوطينهم في فلسطين، وقامت بإنشاء عدة مستوطنات زراعية بها، وقد تسلل إلى فلسطين من خلال حركة محبي صهيون أعداد كبيرة من اليهود. (20)

وقد كانت هذه المستوطنات تشبه إلى حد كبير القرى الزراعية في أوروبا، والتي كانت على شكل مزارع على طول الشوارع داخل كل مستوطنة، وتم تقسيم هذه المزارع إلى وحدات زراعية تخصصت في محصول معين في الوقت الذي بلغ فيه عدد المنازل بها ما بين 150 و200 منزلاً، مع قليل من الخدمات كمدرسة، ومستشفى صغيرة. (21)

وقد هاجر في هذه المرحلة عدد من يهود اليمن بعد انتشار شائعات عن شراء البارون روتشيلد أراضي واسعة في فلسطين، وقيامه بتوزيعها على اليهود لإقامة مستوطنات زراعية عليها.

وبعد أن فُرض على اليهود قيود صارمة في عهد القيصر الروسي إسكندر الثالث، وفدت أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين، وقد تمكن المستوطنون اليهود من إقامة عدد من المستوطنات الزراعية؛ وأدى وصول هؤلاء اليهود إلى بعث الحياة مرة أخرى في مستوطنة “,”بتاح تكفا“,” و“,”روش بناة“,”، وإلى إنشاء مستوطنات جديدة، هي: “,”زخرون يعقوب“,” على جبل الكرمل، و“,”رشون لزيون“,” و“,”عين قارة“,”، و“,”تيس تسيوناه“,” في وادي جنين، ولكن هذه المستوطنات واجهت نفس الصعوبات التي واجهها المستوطنون في المرحلة السابقة، ولم يستطيعوا الاستقرار في الريف، وكادوا يهجرون هذه المستوطنات كما فعل بعض المستوطنين الأوائل. (22)

وقد أقام اليهود هذه المستوطنات وغيرها بأساليب التحايل، مستغلين ضعف الأنظمة والقوانين العثمانية، واتخذوا بعض أساليب الرشوة مع الموظفين الأتراك، إلى حد مكنهم من الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي وإقامة مستوطنات عليها؛ وبذلك أسس المستوطنون مستوطنات “,”رشولزيون“,”، و“,”زخرون يعقوف“,” و“,”روش بناة“,” عام 1882م، وأسسوا عام 1883م “,”يسودهمعلاة بتشلومو“,”، ومستوطنة “,”جديرا“,” عام 1884م. (23)

وقد لعبت المساعدات اليهودية من أثرياء اليهود دورًا كبيرًا في دعم المستوطنات اليهودية، وجاءت بالتحديد من البارون “,”إدموند دي روتشيلد“,”، الذي خصص إعانة شهرية لكل أسرة من المستوطنين، وساعد على استنباط وسائل جديدة للفلاحة تتناسب مع ظروف البيئة، واستقدام الخبراء من فرنسا؛ ليعلّموا المستوطنين أصول الفلاحة. (24) وقام بتشكيل عدة لجان من خبراء الاقتصاد والزراعة والتربة لدراسة الأوضاع، وأخذت الأموال اليهودية تتدفق على المستوطنين، وتمكنوا من إحياء مشاريعهم وتوسيعها، وشراء أراضٍ جديدة، وبناء مستوطنات جديدة عليها؛ لجلب المزيد من المهاجرين اليهود، وأدخلوا بعض الصناعات داخل المستوطنات التي تعتمد على منتجات زراعية .

هذا بالإضافة إلى الدعم الكبير من جانب الجمعيات اليهودية، وعلى رأسها جماعة أحباء صهيون. وقد تنبهت السلطات العثمانية لخطر بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين؛ فقامت بمنع استيطان اليهود بفلسطين في شهر إبريل عام 1882م، ولكن جماعة أحباء صهيون لم تعبأ بقرار المنع، واستمرت في أساليبها لإقامة المستوطنات .

وقد عرفت رسميًّا بهذا الاسم عام 1887م، وانبعث حماس الجماعة من جديد عندما قامت السلطات العثمانية عام 1890م برفع الحظر عن إقامة مستوطنات لليهود في فلسطين. وقد انعقد مؤتمر الجماعة في أوديسيا عام 1890م، وألّفت لجنة للإشراف على الهجرة وعمليات شراء الأرض، وإقامة مستوطنات جديدة حول مدينة يافا، وتم تشجيع العديد من أعضاء الجماعة على الهجرة إلى فلسطين والمضاربة بأسعار الأرض؛ مما أثار حفيظة العرب، فقامت الحكومة العثمانية بإغلاق المكتب التنفيذي للجماعة في يافا عام 1891م، وتكبد المغامرون اليهود خسائر فادحة، واقتصر نشاط الجماعة على تقديم مساعدات إلى المستوطنين، وإقامة مستوطنات جديدة، ومساعدة المستوطنات القائمة. (25)

وقد استطاع المستوطنون في أواخر هذه المرحلة أن يثبّتوا أقدامهم في الأراضي الفلسطينية، وأنشأ هؤلاء المستوطنون في أواخر عام 1898م 22 مستوطنة، منها 19 مستوطنة زراعية بلغت مساحتها 275.000 ألف دونم، يعيش بها 4983 مهاجر يهودي، وقد اهتم المستوطنون في هذه المرحلة بتطوير زراعة العنب وتصنيعه، وأنشأوا في مستوطنة “,”زخرون يعقوف“,” مركزًا لصناعة النبيذ، ولا يزال من أكبر مراكز النبيذ في إسرائيل الآن، وبلغت تكاليف إقامة هذا المركز الملايين من الفرنكات الذهبية. (26)

وعلى الرغم من إنشاء العديد من المستوطنات التي تحولت فيما بعد إلى مدن مثل الخضيرة ومطولاة وبتاح تكفا، فإن هذه المرحلة لم تؤد إلى تغير حاسم في جغرافية التوطين اليهودي في فلسطين؛ فقد بدأ المستوطنون الوافدون في الاستقرار في المدن، وخاصة يافا، وبدأ هؤلاء المستوطنون يعودون إلى سجيتهم اليهودية الأصلية؛ فشرعوا يضاربون في الأرض بدلاً من الاشتغال بالحرف الإنتاجية، وبخاصة الزراعة، وأدى هذا إلى عرقلة النشاط الاستيطاني، وأثار الدولة العثمانية ضدهم، ومنعتهم للمرة الثانية من تملك الأرض وإنشاء مستوطنات جديدة. (27)

وتتمثل مستوطنات هذه الفترة فيما يلي:

بتاح تكفا – مكفية بسرائيل – سيجرا – روش بنـاة – زخرون يعقوف – رشون لتيسون- نس تسيوناة – يسو همعلاة – جديراة – مشمر هيردون – يهـود – جفعت عداة – يفنيئل – رحفوت – بئير طوفياة – حدراة (الخضيرة) – عقرون – موتسا – هارطوف – منحمياة – مطولاة – كفارتابور – كفارسابا – عين زيتيم – مذكرت بتياة – بتشلومو – مئير سفياة – عتليت – طنطورة. (28)

وانتهت هذه الفترة عام 1900م عقب عقد مؤتمر بازل، وتبلور الفكر الصهيوني في شكل مرحلة جديدة من بناء المستوطنات مع نهاية عام 1900م، وقد تميزت هذه الفترة بعدة سمات أساسية، هي :

1. عدم تبلور خطط العمل اليهودي بالشكل الكامل؛ ولذلك فقد تعثرت تجربة الرواد الزراعية، والمتمثلة في المستوطنين الأوائل من اليهود، ونتج هذا التعثر بشكل أساسي عن الأسباب الآتية :

– نقص الخبرة الزراعية عند المستوطنين الأوائل .

– أن معظم هؤلاء المستوطنين جاءوا من بيئات حضرية، ومن سكان المدن الروسية وأوروبا الشرقية .

– الجهل بأسلوب الزراعة في فلسطين بما يتلاءم مع ظروف التربة والمناخ .

– اعتماد هذه المستوطنات على دعم الرأسماليين اليهود، أمثال مونتيفوري، ورونشيلد، الذي لم يمثل لهم إلا مجرد عمل استعماري يمكن من خلاله الحصول على أرباح وفوائد اقتصادية وسياسية، بعضها فوري، وبعضها على المدى الطويل. بمعنى أنه لم يحقق لهم مشروعًا استيطانيًّا متكاملاً يدر لهم دخلاً اقتصاديًّا كبيرًا أو مشروعًا سياسيًّا لبناء دولة يهودية على الأقل على المدى القريب .

2. تميزت هذه المرحلة بالحيازات الزراعية الكبيرة نسبيًّا، فقد بلغ مجموع مساحة الأراضي التي امتلكها روتشيلد، والمتمثلة في 19 مستوطنة، مساحة قدرها (107.000) ألف دونم، وهي مساحة كبيرة نسبيًّا إذا قورنت بحجم المساحات الأرضية التي كان يملكها العرب في فلسطين باستثناء أصحاب الملكيات والحيازات الكبيرة، بالإضافة إلى اعتماد الزراعة في المستوطنات على أسلوب الاستغلال الفردي على نمط المزرعة العربية، واعتمدت الفلسفة الزراعية لدى دي روتشيلد على تمليك المهاجر المستوطن قطعة أرض زراعية كحافز فردي؛ لبث روح العمل والثقافة، وتحقيق مستوى اقتصادي مرتفع، ولخلق نوع من العلاقة الوثيقة بين المستوطن والأرض. (29)

وفي كلتا الفترتين كانت المستوطنات اليهودية عبارة عن مراكز تجمعات يهودية فردية، تميزت بانغلاقها على نفسها، وعدم اتصالها بالسكان العرب، إلا من حيث استخدام العمال، وإن تميزت الفترة الثانية عن الفترة الأولى بعدم استخدام العمال العرب في زراعة المستوطنات، بينما كان العنصر المميز للفترة الأولى استخدام العمال العرب في زراعة المستوطنات، وقد أثرت أعداد المهاجرين اليهود على أعداد المستوطنات؛ فلم تتعد هذه المستوطنات 28 مستوطنة خلال الفترتين، ودعم موقف هذه المستوطنات القوة البشرية الكبيرة القادمة من روسيا وشرق أوروبا، وهناك اختلاف جوهري بين الفترتين في تطور المستوطنات اليهودية، من حيث:

1) أن المستوطنات الأولى في الفترة الأولى لم تكن ذات دوافع استيطانية؛ وذلك لأن نسبة كبيرة ممن أقاموا فيها كانوا من يهود فلسطين، ولم تكن لهم دوافع استعمارية، وإنما كانت دوافعهم دينية .

2) أن المستوطنات في الفترة الثانية كانت ذات دوافع استعمارية، تقوم في الأساس على الاستيلاء على الأرض، وإثبات توطن يهودي بها .

3) أنه في كلتا الفترتين لم يكن لدى المستوطنين اليهود دراية بزراعة المستوطنات واستغلال الأرض، ولكن مع اختلاف الطريقة الاستغلالية للأرض. ففي الفترة الأولى اعتمد اليهود أصحاب المستوطنات على الأيدي العاملة العربية في استغلال الأرض. أما الفترة الثانية فقد اعتمدوا على أنفسهم في الزراعة، وإن أخفقوا في البداية، إلا أنهم استمروا مع مرور الوقت .

4) في الفترة الأولى لم تتلق المستوطنات الدعم المطلوب والكافي لاستمرارها، بينما في الفترة الثانية تلقت هذه المستوطنات الدعم الكافي والمطلوب؛ مما أدى إلى استمرارها، بل وإعادة إنشاء المستوطنات التي هجرت في الفترة الأولى .

العشوائية في الفترة الأولى، واعتمادها على الجهود الفردية بدون تنظيم، بينما في الفترة الثانية كانت بداية للتنظيم المتقن، الذي استمد وجوده من المؤسسات اليهودية العالمية التي مثل تداخلها بداية التنظيم المخطط لإنشاء المستوطنات في فلسطين.

ثالثًا: مستوطنات المرحلة الثانية من (1901م: 1948م)

تمثل هذه المرحلة أهم مراحل إنشاء المستوطنات؛ وذلك لارتباطها ببداية انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد في 29 أغسطس 1897م، والذي أقر في أحد أهم قراراتــه اتباع الوسائل العلمية الفعالة لإنشاء المستوطنات الزراعية لتأوي عمال الزراعة والصناعة من اليهود .

وتم في خلال هذه المرحلة تبلور الفكر الصهيوني حول المواقع المراد إقامة مستوطنات بها، وتم تحديد مواقعها بدقة بعد أن اتخذت عملية إنشاء المستوطنات، والاستيطان بشكل عام، التنظيم المؤسسي الذي افتقرت إليه المرحلة الأولي .

وسوف يتم تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاث فترات رئيسة :

(1) الفترة الأولى: امتدت من عام 1901م إلى عام 1917م.

(2) الفترة الثانية: امتدت من عام 1918م إلى عام 1936م.

(3) الفترة الثالثة: امتدت من عام 1937م إلى عام 1948م .

الفترة الأولى: امتدت من عام 1901م إلى عام 1917م :

أدى عدم نجاح اليهود في تحقيق النجاح المأمول في إنشاء المستوطنات خلال المرحلة الأولى، من جانب المشرفين على عملية إنشاء المستوطنات من قبل الرأسمالين اليهود، أمثال دي روتشيلد ومونتفيوري، إلى توجيه انتقادات عنيفة لهم من قبل تيودور هرتزل، وأعرب عن ذلك بالنقد العنيف لمساعي دي روتشيلد ووصفه بأنه استيطان غير سياسي، وأن إقامته لهذه المستوطنات الزراعية بدون التنظيم الكافي لن يخلق نواة يهودية، وإنما هو مجرد توطيد لجماعات يهودية وسط مجتمع غريب، وأنه غير سياسي في دوافعه وأغراضه، ولا يحل مشكلة اليهود (31) .

ولقد وصف (دافيد بن جوريون) المهاجرين الأوائل بأنهم كانت تنقصهم الثقافة السياسية، والفكرة الواضحة، حول إقامتهم لهذه المستوطنات الزراعية .

وتعد هذه الفترة هي التي أحدثت التغير الجذري في الإستراتيجية الصهيونية نحو إقامة المستوطنات، وحدث ذلك التغير في اعتمادها على قرارات مؤتمر بازل الذي عقــد في 29/ 8/ 1897م، وهو المؤتمر الصهيوني الأول، حيث قررت الحركة الصهيونية التخلي عن الاستيطان المفتقد إلى التقنين والتنظيم الكافي، الذي يدعمه الممولون اليهود لأهداف دينية واقتصادية، والأخذ ببرنامج استيطاني متكامل له أهدافه الواضحة والمحددة التي تحظى بتأييد اليهود، وذلك بعد أن لمست الحركة الصهيونية عدم تحقيق النجاح المنشود خلال مرحلة تأسيس المستوطنات الأولى منذ بدايتها حتى عام انعقاد المؤتمر؛ وذلك لعدة أسباب :

1. انعدام التنسيق بين جمعيات الاستيطان المحدودة داخل فلسطين .

2. أن معظم مؤسسات الاستيطان قامت بجهود فردية، ولم تحقق الاكتفاء الذاتي المنشود للمستوطنات اليهودية. (32)

3. اعتمادها على أفراد معينين، قد يؤدي تخليهم عن المشروع الاستيطاني إلى انهيار عملية إنشاء المستوطنات نفسها؛ وبالتالي انهيار الحلم الصهيوني في إقامة كيان استيطاني تقوم عليه الدولة فيما بعد .

ولذلك فقد عملت الحركة الصهيونية على إيجاد المؤسسات والأدوات التي كان الهدف منها هو إنشاء أكبر عدد من المستوطنات وانتشارها على مستوى الكيان الجغرافي المطلوب لإعلان الدولة عليه، وفي نفس الوقت تراعي عدم تعرض هذه المرحلة للصعوبات التي حدثت في المرحلة الأولي .

وبذلك أصبح هدف إنشاء المستوطنات اليهودية هو نفس أهداف الحركة الصهيونية، والتي تمثلت فيما يلي:

1) تشجيع استيطان العمال الزراعيين والصناعيين اليهود .

2) أن تتم عملية بناء المستوطنات اليهودية من خلال مؤسسات ومكاتب تابعة للحركة الصهيونية في كافة أنحاء فلسطين .

3) إثبات الوجود اليهودي في فلسطين، من خلال عمليات التسلل والهجرة المنظمة وإنشاء المستوطنات لهؤلاء المستوطنين .

4) وقد ارتكزت الحركة الصهيونية على ثلاث ركائز أساسية لإقامة المستوطنات في فلسطين، هي نفس الركائز التي قام عليها الاستيطان بكافة صوره، وتمثلت هذه الركائز فيما يلي:

– التنظيم: والهدف منه هو إنشاء جهاز تنظيمي يشرف على عملية بناء المستوطنات وتنظيمها داخل فلسطين، ويتمثل هذا الجهاز في المنظمة الصهيونية العالمية .

– مؤسسات تنفيذ عمليات الاستيطان : ويقصد بها إنشاء مؤسسات فاعلة تقوم بتنفيذ عملية بناء المستوطنات على الأرض بعد الحصول عليها عن طريق الشراء .

– المفاوضات: ويقصد بها بذل الجهود السياسية مع الدول المستعمرة بالمنطقة من قبل الزعماء اليهود؛ للحصول على تصريح لهم بإنشاء الدولة بعد إثبات عملية التوطين اليهودي، وإيجاد الذريعة للمطالبة بها، من خلال إنشاء المستوطنات وانتشارها في المنطقة المراد إعلان الدولة عليها. (33)

وقد استجاب البارون دي روتشيلد، وقام بالخطوة العملية التي تمثل بداية هذه المرحلة عام 1900م، عندما تنازل عن المستوطنات التسع عشرة التي يملكها إلى جمعية الاستيطان اليهودي المعروفة اختصارًا باسم ( بيكا)، والتي أسسها البارون مورس دي هرش عام 1891م برأسمال قدره 250 مليون فرنك ذهبي، وكان الهدف الأساسي، هو إنشاء مستوطنات زراعية تتمتع بالاستقلال الذاتي.

وفي إطار منظمة البيكا، وتحت مظلة الحركة الصهيونية العالمية، بدأت مؤسسة البيكا في شراء الأرض وتنظيم عملية بناء المستوطنات، وفي عام 1901م بدأت في شراء أراضٍ جديدة؛ لبناء مستوطنات جديدة عليها، حيث أنشئت “,”كفار تابور“,” في منطقة بحيرة طبرية عام 1901م، و“,”يفنتيل“,” في الجليل عام 1901م، وفي عام 1903م أقيمت مستوطنة بالقرب من عتليت في السهل الساحلي وأقيم في نفس العام مستوطنة “,”كفار سابا“,” .

وقد لعبت مؤسسات أخرى بجانب البيكا دورًا أساسيًّا في تدعيم إقامة المستوطنات، ومن أهمها صندوق الائتمان اليهودي للمستعمرات ولجنة الاستعمار اللتين أنشئتا عام 1898م، والصندوق القومي لليهود الذي أنشئ عام 1901م. (34)

وقامت هذه المؤسسات بالدور الأساسي في عملية تمويل واقتناء الأراضي الزراعية وتوطين المستوطنين بها. (35)

وخلال هذه الفترة وصلت أعداد المستوطنين إلى حوالي 40 ألف يهودي، وكان معظمهم من روسيا القيصرية، وكان الدافع الأساسي وراء هجرتهم إلى فلسطين الاضطرابات المعادية لليهود، وخاصة مذابح “,”كيشيف“,”، وشعور اليهود في الشتات بأنه لا إمكانية لحل المشكلة اليهودية في الشتات؛ ولذلك هاجر كثير منهم إلى فلسطين يحدوهم الأمل في إقامة وطن قومي لليهود، وقد مثلت هذه الموجه الدعم الأساسي للمستوطنات اليهودية في فلسطين، وقد حمل هؤلاء المستوطنون عدة سمات أساسية، هي التي كونت شكل ونوع المستوطنات الجديدة، التي تميزت بعدة سمات أساسية، تمثلت فيما يلي :

1) أنها كانت مكونة من مجموعات منظمة من الشباب اليهودي في روسيا وبولندا، الذين يحملون الأفكار الاشتراكية التي ترمي إلى إقامة مجتمع اشتراكي على النمط الأوروبي، وطبقوا ذلك في إنشاء العديد من المؤسسات التي من أهمها مستوطنات “,”الكيبوتز“,” الجماعية .

2) أحدث هذا الفكر الاشتراكي النوعين الأساسيين من المستوطنات، وهي المستوطنات الزراعية الجماعية (الكيبوتز)، والمستوطنات شبه الجماعية (الموشاف)، وتتميز بصغر الحجم إذا قورنت بالمستوطنات التي أنشئت في المرحلة الأولى، والتخفيف من الإدارة البيروقراطية، ومنح حرية أكبر للمستوطنين .

3) رفعت هذه الموجة من أفكار العمل الجسدي والارتباط بالأرض، ودعمت ذلك داخل المستوطنات، وعملت على زيادة حماس المستوطنين وإقبالهم على الأعمال الشاقة داخل المستوطنات، كما قامت بإنشاء مستوطنات في أماكن يصعب المعيشة فيها، ومنها المناطق الجبلية والمرتفعات في الشمال .

4) ضمت هذه الموجة من المستوطنين الزعماء الصهيونيين البارزين، الذين لعبوا دورًا هامًّا في إقامة الدولة الصهيونية، مثل دافيد بن جوريون واسحق بن زفي، وليفي أشكول .

5) إدخال المستوطنين القادمين اللغة العبرية في كافة المستوطنات، وإصرارهم على تعليمها المستوطنين القادمين من روسيا وشرق أوروبا .

ثم قامت المنظمة اليهودية بالإشراف على إنشاء المستوطنات الزراعية ابتداء من عام 1908م، فأنشأت في نفس العام فرعًا لها في فلسطين، كان يقدم خدماته إلى المستوطنين اليهود ويساعدهم في إنشاء المستوطنات مع التركيز على إنشاء المستوطنات ذات المساحات الصغيرة وتنوع المحاصيل، وأسس عام 1908م شركة فلسطين لتنمية الأراضي، وقد مكنت هذه الجهود من إقامة 47 مستوطنة حتى عام 1914م (36) والتي تمثلت في المستوطنات الآتية :

دجانيا (أ) – كينرت (أ) – كينرت – مجدال – جن شموئل – بن شمن – كركور – كفار حينم – متسفاة – كفار ملل – بئير يعقوف – حولداة – نحلت يهوداة – كفار اورياه – روحاماة – رامات جان .

وعلى الرغم من المحاولات الكبيرة التي قام بها المستوطنون اليهود للاستغناء عن العمالة العربية داخل المستوطنات، فإن قلة الإنتاج من قبل المستوطنين الأوروبيين ذوي الخبرة القليلة بالزراعة، أدت إلى استمرار العمالة العربية بالعمل في هذه المستوطنات. (37)

ومع بداية الحرب العالمية الأولى وحتى نهايتها لم يكن في فلسطين سوى 47 مستوطنة يهودية، أقيم منها بدعم من المنظمة الصهيونية 14 مستوطنة، وبإشراف من مكتب فلسطين، ولم تقم أي مستوطنات أثناء الحرب إلا ثلاث مستوطنات هي: “,”ايليت هشهر“,” في السهل الساحلي، و“,”كفار جلعادي“,” و“,”تل حاي“,” في سهل الحولة .

من العرض السابق يتضح لنا ما يلي :

1) تركز المستوطنات خلال تلك الفترة في منطقة السهل الساحلي التي بلغ عددها 25 مستوطنة امتدت حتي جنوب حيفا؛ وذلك لاعتبارات متعلقة بوجود مساحات خالية من الأراضي وابتعادها عن مناطق التجمعات العربية، بالإضافة إلى قربها من المستوطنات الأولى .

2) بداية الانتشار شمالاً من خلال مستوطنات متولاة وتل حي وكفار جلعادي، والتي شكلت أقصى امتداد للمستوطنات شمالاً، وهذا ما تم التأكيد عليه بضرورة التوسع في الانتشار شمالاً .

3) الاتجاه نحو إقامة مستوطنات جديدة في سهل الحولة وطبرية؛ وذلك لخلق تواجد استيطاني جديد داخل هذه المناطق، تمهيدًا للاتصال بمستوطنات السهل الساحلي من خلال مرج ابن عامر .

4) بداية التوجه نحو منطقة القدس كمصدر إلهام روحي لليهود، وإنشاء 4 مستوطنات بها تمهيدًا للتركز فيها .

5) خلو النقب من المستوطنات؛ حيث لم يكن تم وضعه في الإستراتيجية الصهيونية بعد؛ نظرًا لظروفه الطبيعية الوعرة .

هذا، وقد بلغ عدد اليهود في عام 1914م مع بداية الحرب حوالي 85 ألف يهودي، أقام منهم في المستوطنات 12 ألفًا، وكان يهود اليمن يمثلون 8% من اليهود في فلسطين، ولم تجذب المستوطنات اليهودية من الأوربيين إلا 6 آلاف يهودي فقط، ولم يتجاوز عددهم أكثر من 7 آلاف في أحسن الأحوال، وتركز باقي اليهود الأوربيين في المدن، وخاصة مدينة تل أبيب، التي ساعد على إقامتها الصندوق القومي اليهودي عام 1909م. (38)

من خلال العرض السابق يتضح لنا أن هذه الفترة تميزت بعدة سمات أساسية :

1. التحول في الفكر اليهودي في إنشاء المستوطنات عن المرحلة السابقة، عن طريق الاستيلاء على الأراضي وإقامة مستوطنات والاستقرار للاستمرار بها، وتحول المستوطن اليهودي من مستوطن مستغل إلى مستوطن مرتبط بالأرض يعمل بها دون الاستعانة بالأيدي العاملة العربية، وإن واجهته العديد من الصعوبات، ولكنه بفضل المؤسسات الصهيونية والدعم المستمر منها استطاع أن يحسن ظروفه داخل المستوطنة ويرتبط بالأرض الجديدة .

2. وجود تخطيط مركز ومنظم لإنشاء المستوطنات التي تتلاءم مع أهداف الحركة الصهيونية، وقد بدأت هذه الخطط المنظمة مع موجة الهجرة الثانية، والتي حملت إلى فلسطين المثقفين اليهود من الرواد. ولتحقيق هذا المخطط كان البنك اليهودي للمستعمرات يشتري الأرض من الأموال التي يجمعها الصندوق القومي لليهود، ثم يقوم الصندوق بتأجيرها إلى المهاجرين اليهود، مع تطبيق “,”نظرية العمل العبري“,”، أي بدون الاستعانة باليد العاملة العربية، والفصل بين المستوطن اليهودي والعربي؛ تمهيدًا للاستيلاء النهائي على الأرض، ولتسهيل عملية بناء المستوطنات وفق هذا المخطط أنشئت ما بين عامي 1907م و1908م عدة مؤسسات محلية، منها شركة إنماء أراضي فلسطين وصندوق التعمير، وقد توالى بعد ذلك إنشاء مستوطنات الموشاف 1908م والكيبوتز .

3. استمرار طابع إنشاء المستوطنات الفردية في فلسطين على الرغم من ظهور الموشاف والكيبوتز؛ ففي نهاية عام 1914م كان الصندوق القومي اليهودي يمتلك 3.9% فقط من مجموع الأراضي الزراعية التي يمتلكها اليهود، والتي تبلغ مساحتها 420.6 ألف دونم، كما أن العاملين من المستوطنين اليهود في الموشاف والكيبوتز لم تتعد نسبتهم 5% من مجموع السكان اليهود العاملين في الزراعة. (39)

4. ومع بداية الفترة الثانية عام 1918م، وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى دخلت عملية إنشاء المستوطنات مرحلة جديدة من تاريخها في فلسطين، وتغيرت السمات والملامح العامة للمستوطنات داخل فلسطين من حيث شكل التخطيط والإطار الفكري للسياسة الصهيونية، وأصبحت المستوطنات جزءًا من الخطة الاستيطانية العامة، التي تهدف في الأساس إلى تكريس الوجود اليهودي بالتوطن الفعلي في القرى والمدن، وإنشاء العديد منها لكي يتحدد عليها شكل الدولة القادمة، التي قامت في الأساس على شكل التوزيع الجغرافي لهذه المستوطنات داخل فلسطين التاريخية .

2- الفترة الثانية: ( 1918م – 1936م)

وبدأت هذه الفترة عقب إعلان وعد بلفور مباشرة، وبالتحديد في مارس 1918م، عندما أرسلت بريطانيا بموافقة الحلفاء على إرسال لجنة صهيونية يرأسها حاييم وايزمان إلى فلسطين لتنسيق الاتصال والتعاون بين السلطة العسكرية البريطانية والمجتمع اليهودي في فلسطين، ولوضع أسس بناء الوطن القومي لليهود، والعمل على تدعيم وضع المستوطنات اليهودية هناك. (40)

وتعد فترة الانتداب البريطاني على فلسطين الفترة الأهم والأخطر للصهيونية الاستيطانية، حيث دعَّم الهجرةَ اليهودية مرسومٌ يسمح بالهجرة في عام 1921م من قبل سلطات الانتداب البريطاني، وتأسيس قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية التي حلت مكان “,”مكتب فلسطين“,”، وتنامى الوجود السياسي للحركة الصهيونية، وتوسعت الأنشطة الاستيطانية من خلال بناء المستوطنات، وامتدت المشاريع الاستيطانية خلال هذه الفترة لتشمل مرتفعات كريات غنيم، وعطرون في منطقة القدس. (41)

وقد تميزت هذه الفترة بعدة سمات أساسية منذ بدايتها، تمثلت فيما يلي :

1. تبلور الشخصية الصهيونية الاستيطانية على أرض فلسطين، ووضوح أهدافها في بناء المستوطنات، واعتمادها على مؤسسات منظمة لتحقيق أهدافها في نشر شبكة واسعة من المستوطنات اليهودية .

2. الدور الإيجابي الذي لعبته سلطات الانتداب البريطاني في دعم الاستيطان الصهيوني داخل أراضي فلسطين، والحماية المباشرة للمستوطنين اليهود (42) ، وخاصة بعد أحداث عام 1920م، ومهاجمة العرب عدد من المستوطنات التي أقيمت في منطقة الجليل الأعلى، وخاصة مستوطني تل حاي، وكفار جلعادي، ومقابلة السلطات البريطانية لهذه المقاومة العربية بكل عنف. (43)

3. النمو السريع والزيادة الكبيرة في أعداد المستوطنات من نوعي الكيبوتز الجماعية والموشافا التعاونية، على حساب المستوطنات المستقلة الفردية .

وقد قامت لجنة حاييم وايزمان بدراسة أوضاع الأراضي في فلسطين، وأعدت تقريرًا قدمته إلى مؤتمر الصلح، تطالبه فيه بوضع برنامج متكامل للنهضة الزراعية في فلسطين؛ لخدمة المستوطنات الزراعية اليهودية .

وقد أسفر التقرير عن سلسلة من القوانين والإجراءات التي اتخذها المندوب السامي البريطاني، وتهدف مباشرة إلى تشجيع إنشاء المستوطنات اليهودية في فلسطين، وتحديد حجم الملكية العربية وزيادة الضرائب على الأملاك .

ومن أهم القوانين التي خدمت بشكل مباشر عملية إنشاء وتطوير المستوطنات اليهودية داخل فلسطين :

1) قانون الهجرة عام 1920م، وتم إجراء عدة تعديلات به فيما بين عامي 1921م و1925م، وكان من شأنه فتح فلسطين أمام تيار الهجرة اليهودية التي تمثل بالتالي أعدادًا جديدة من المستوطنين، بالإضافة إلى الموجودين داخل المستوطنات اليهودية، وهذا ما فتح المجال أمام المؤسسات الصهيونية لتوسيع عملية بناء المستوطنات؛ لاستيعاب المستوطنين الجدد، والاستيلاء على الأراضي اللازمة لإقامة هذه المستوطنات.

2) قانون انتقال الأراضي عام 1920م، الذي يسمح بتسهيل أعمال البيع والشراء؛ مما يعني زيادة الأراضي التي سوف يقوم اليهود بشرائها لإقامة مستوطنات عليها، وذلك مع الأخذ في الاعتبار الحالة المتردية للفلاحين العرب في أراضيهم، وأن غالبية المساحات الكبيرة كانت لعائلات غير فلسطينية .

3) قانون المساحة عام 1920م، الذي يسهل أعمال البيع والشراء، خاصة شراء الأراضي بواسطة المؤسسات والمنظمات الصهيونية التي تملك الأموال الهائلة، والمدعومة من الخارج برأسمال يهودي غربي.

4) قانون الأراضي الموات عام 1921م، الذي يلغي القانون العثماني الخاص بالسماح للفلاح بأن يضم إلى أرضه الأراضي البور، وهذا ما سمح للعصابات الصهيونية بالاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي البور. (44)

وتمكن اليهود من خلال هذه القوانين من شراء مساحات كبيرة من الأراضي، بلغت أواخر عام 1922م 594 ألف دونم، مقارنة بـ420.600 دونم كانت في حوزتهم عام 1914م، ووقعت معظم هـذه الأراضي في منطقة القـدس منها 2200 دونم ضمت إلى مستوطنة قريات عناقيم، و5000 دونم بالقرب من مستوطنة كفار سابا أقيمت عليها مستوطنة رعناناة، و19000 دونم أقيم عليها مستوطنة ياجور، و16000 دونم أقيمت عليها مستوطنة هرتزليا .

كما شهدت هذه الفترة استيلاء اليهود على 120.000 دونم في أراضي مرج ابن عامر؛ لتصل بذلك مستوطنات طبرية بمستوطنات السهل الساحلي. (45)

وهاجر خلال تلك الفترة 277 ألف يهودي إلى فلسطين من عام 1919م حتى عام 1936م، وكان مهاجرو هذه الفترة من يهود قارة أوروبا؛ حيث بلغت نسبتهم 80% خلال الموجه الأولى والثانية من هذه الفترة، وبلغت 91% خلال الموجه الصغيرة من عام 1932م 1936م. (46)

وقد مثلت هذه الأعداد المستوطنين اليهود الذين أقاموا المستوطنات اليهودية، وإن كانت هناك نسبة كبيرة قد سكنت في المدن وليس في المستوطنات اليهودية .

وقد أدت هذه الموجات المتتالية من المستوطنين إلى زيادة أعداد المستوطنات اليهودية بشكل كبير، ففي عام 1922م زاد عدد المستوطنات ليصبح 39 مستوطنة، قفزت عام 1927م إلى 72 مستوطنة، وفي عام 1931م إلى 88 مستوطنة، بلغت عام 1936م 163 مستوطنة، وقد انتشرت هذه المستوطنات على مساحات كبيرة في سهل مرج ابن عامر وغور الأردن، وقد زادت أعدادها بالسهل والغور، حتى وصل إلى 15 مستوطنة عام 1922م بعد أن كانت 6 مستوطنات عام 1914م، ثم وصلت إلى 17 مستوطنة عام 1927م، ثم 35 مستوطنة عام 1936م. وزادت المستوطنات في الجليل الأعلى والأسفل، فبعد أن كانت مستوطنة واحدة عام 1882م زادت إلى 3 مستوطنات عام 1890م، ثم إلى 7 عام 1900م، ارتفعت إلى 12 عام 1920م، ثم إلى 17 عام 1922م، زادت إلى 23 عام 1936م. ثم بدأ الاهتمام بالمناطق الجبلية، خاصة في مرتفعات القدس التي أقيم بها مستوطنتان، زادتا إلى 4 مستوطنات عام 1922، ثم زادت إلى 7 مستوطنات عام 1927، زادت إلى 9 مستوطنات عام 1935م. (47)

من خلال العرض السابق يتضح لنا :

1. استحواذ السهل الساحلي على أكبر عدد من المستوطنات المقامة خلال تلك الفترة، والتي وصلت إلى 75% من عدد المستوطنات، إذا قورنت بمستوطنات مناطق الجليل ومرج ابن عامر والمناطق الجبلية .

2. امتداد المستوطنات نحو الشمال لتشكل منطقة اتصال بين مستوطنات السهل الساحلي ووادي طبرية والحولة .

3. الاتساع في مناطق جديدة استيطانيًّا، خاصة في وادي بيسان، وإلى الشمال من حيفا وعكا.

4. ظلت المناطق الجبلية والنقب تعاني من قلة المستوطنات، وهذا ما لفت الأنظار لهما خلال الفترات التالية.

ومن أهم المستوطنات التي أقيمت خلال تلك الفترة :

دجانيا (ب) – بلفورية – بيت ألفا – جفـع – جنيجر – حفتسي باة – عين حارود (أ) – عين حارود (ب) – كفار جدعون – ماعوز حاييم – مزراع – نهـلال – ياجور – بنيامياه – تلمي إلعازر – قربت عناقيم – رامات هشارون – رعنناة.

وقد تميزت تلك المرحلة بالسمات الآتية:

– تركز معظم المستوطنات في منطقة السهل الساحلي في مرج بني عامر وساحل يافا .

– اختلاف عناصر المستوطنين خلال فترة العشرينيات، والذين كان معظمهم من أحد أصحاب الطبقة الوسطي .

– تركز معظم المستوطنين في المدن الرئيسة مثل حيفا ويافا وتل أبيب، وانخفاض التركز في المستوطنات .

– شكلت المستوطنات التي أقيمت خلال تلك الفترة النواة الأولى لإطار الكيان السياسي الذي قامت عليه الدولة الإسرائيلية فيما بعد .

– ظهور نوع جديد من المستوطنات، وهي الموشافيم شيتوفي، وهي مستوطنات الطبقة الوسطى التي تأسست منذ عشرينيات هذه الفترة، وتميزت بالزراعة الحرة، ولكنها لم تلق النجاح المنشود. (48)

3- الفترة الثالثة: (1937م – 1948م)

تمثل هذه الفترة الحقبة الأخيرة من بناء المستوطنات داخل فلسطين، التي استمر وجودها داخل إطارها الجغرافي طوال الفترات السابقة ككيان جغرافي يحمل اسم فلسطين، وكانت جميع عمليات الاستيطان وبناء المستوطنات والتوطن اليهودي مجرد فرض أمر واقع من جانب اليهود والجماعات اليهودية، ولكن هذه المرحلة مثلت الفترة الأخيرة لهذا الإطار الجغرافي، واستطاعت الجماعات اليهودية ومؤسساتها أن تحول هذا التوطن المتناثر في بدايته وفقًا لأهداف اقتصادية، والمنظم في فترات تالية وفقًا لاعتبارات سياسية وإستراتيجية، إلى تحديد الإطار الجغرافي الذي تشكلت عليه حدود الدولة الإسرائيلية، التي أعلنت في 14 مايو 1948م .

وقد تميزت هذه الفترة بمجموعة من السمات الأساسية في التوجه نحو إقامة مستوطنات في مناطق جغرافية جديدة، مع خضوعها لاعتبارات سياسية وإستراتيجية للحفاظ على هذا الإطار الجغرافي الجديد.. وتمثلت فيما يلي :

(أ‌) ظهور نوع جديد من المستوطنات وهي حوما ومجدال (السور والبرج).

(ب‌) البدء في التوجه نحو الجنوب ( النقب)

(ج‌) ارتباط المستوطنات بنظرية الأمن الإسرائيلية.

(أ‌) مستوطنات حوما ومجدال (السور والبرج):

أطلق هذا الاسم على عملية إقامة 52 مستوطنة يهودية محصنة في فلسطين خلال ثورة 1936م و1939م، وخاصة في مناطق الحدود البعيدة عن مراكز المستوطنات اليهودية في منطقة السهل الساحلي والقطاع الشمالي .

وقد بدأ المستوطنون اليهود والمؤسسات اليهودية في البدء بحملة استيطانية واسعة لإقامة مجموعة من المستوطنات داخل مناطق المنع التي صدرت بموجب الكتاب الأبيض؛ وذلك لترسيخ الوجود اليهودي في مناطق جديدة لكي توسع من شكل الدولة المقترحة دوليًّا، وبعد أن أصبحت القضية في حيز التقسيم الدولي للأراضي التي يملكها اليهود والتي يملكها العرب .

وقد تطلب ذلك السرعة في إقامة هذه المستوطنات؛ وعليه فقد أقيمت المستوطنات ضمن عمليات سريعة في ساعات الليل وطيلة يوم واحد، وأشرفت منظمة الهاجاناه على إقامة هذه المستوطنات التي بلغ عددها 52 مستوطنة خلال ثورتي 1936م إلى 1939م

وبدأت عملية بناء هذه المستوطنات بتحديد إقامة مستوطنة كفار حطين قرب طبرية في 7/12/1936م، وتل عمال في 7/12/1936م في نفس اليوم، وقد اشترك في هذه العملية جميع التيارات الاستيطانية من الكيبوتس القطري حتي منظمة بيتار، بالإضافة إلى الصندوق القومي اليهودي، ودوائر الاستيطان في الوكالة اليهودية والمركز الزراعي التابع للهستدروت، ومؤسسات وهيئات ومؤسسات عبرية مختلفة، ساهمت جميعًا في توسيع حدود الاستيطان اليهودي عن طريق هذه العملية، التي سميت باسم حوما ومجدال (السور والبرج). (49)
يتضح لنا :

1) التقارب الزمني بين إنشاء هذا العدد الكبير من المستوطنات، والبالغ 53 مستوطنة، في فترة زمنية لم تتجاوز ثلاث سنوات، وهذا ما يؤكد على خضوعها لسياسة محددة هدفها توسيع الحدود الاستيطانية داخل مناطق جديدة، خاصة في الجليل وأجزاء من شمال فلسطين وجنوب السهل الساحلي .

2) الكثافة العددية الواضحة في عدد هذه المستوطنات، والتوازن في عمليات تأسيسها على مدار أعوام 1937، 1938، 1939م .

3) يعد عام 1936م أقل هذه الأعوام في إقامة المستوطنات؛ وذلك باعتبار أن عمليات الإنشاء قد تمت في الشهر الأخير منه، وبلغت ثلاث مستوطنات في ثلاثة أيام .

4) التوازن في إنشاء المستوطنات من نوع السور والبرج خلال عامي 1937، 1938م، حيث أنشئت 16 مستوطنة في كلٍّ منهما، زادت إلى 18 مستوطنة في عام 1939م .

5) اعتُبر إنشاء هذه المستوطنات هي الرد العملي على الكتاب الأبيض، الذي أكد على الحد من الهجرة والاستيلاء على الأراضي من جانب اليهود، بل ووضعت هذه المستوطنات إستراتيجية جديدة في سرعة الاستيلاء على الأرض وفرض وجود المستوطنات كأمر واقع .

6) نتج عن إنشاء هذه المستوطنات ضرورة جلب مهاجرين للإقامة بها، وهو ما ترتب عليه موجات جديدة من الهجرة السرية لمهاجرين يهود .

7) تعد إنشاء هذه المستوطنات أكبر عملية عصيان ضد سلطات الانتداب البريطاني التي طالما ساعدت في إنشاء المستوطنات وجلب المهاجرين إليها .

8) أضافت هذه المستوطنات رقمًا جديدًا وكبيرًا إلى المستوطنات المقامة في فلسطين لتزيد عن 230 مستوطنة ويتعدى سكانها 97 ألف مستوطن .

وقد تم التركيز خلال هذه الفترة على الأهداف السياسية في عمليات شراء الأراضي، وإقامة مستوطنات عليها، حيث تم شراء 6000 دونم في أراضي قرية سمخ العربية، بالإضافة إلى 10.400 دونم على الحدود الشمالية بالقرب من مستوطنة حفيقاة، وتم التركيز على منطقة سهل بيسان، الذي بلغت مساحات المستوطنات به 53.548 دونم. (50)

وخلال تلك الفترة تم تأسيس نوع جديد من المستوطنات هدفه تأمين دخول المهاجرين السريين، وعرفت باسم (مستوطنات البحارة)، التي أقام بها مجموعة من الصيادين اليهود على طول ساحل البحر المتوسط؛ وذلك لتهريب اليهود خلسة فيما عرف بعملية غزو البحر، وتم نقل العديد منهم إلى مجموعة من المستوطنات حول مدينة حيفا؛ للتغلب على الأغلبية العربية بها. (51)

وكانت ظروف الحرب العالمية الثانية مواتية لبناء مستوطنات جديدة وتوسيع انتشارها داخل كافة المناطق في فلسطين، وذلك بمساعدة سلطات الانتداب البريطاني؛ رغبة في تجنيد أعداد من سكان المستوطنات في الجيش البريطاني، واستخدام منتجاتها في تزويد الجيش البريطاني بالمؤن. (52)

استمرت الجهود اليهودية في صراعها ضد الكتاب الأبيض واستغلال قانون الأراضي، الصادر عام 1940م للحد من امتلاك اليهود لأراضي فلسطين؛ في محاولة لخلق وجود استيطاني في مناطق جديدة والمناطق الموجود بها مستوطنات يهودية، ونجح اليهود في إنشاء 135 مستوطنة على مجمل أراضي بلغت مساحتها 400000 دونم حتى قيام الدولة عام 1948م، وتمثلت في 30 مستوطنة في منطقة الجليل، وهي: بيت هليل – متسوباة – شتاريشوف – سدية نحمياة – كفار سالد – جفعون رايد – كفار بلوم – تحاليم – رميم – عبرون – شامير – بيريه – شيفر – حوكوك – لهفوت هبشان – مسجاف عام – عين زيتيم – عميعاد – رجبا – نيئوت مود خلي – يحيعام – مشمار هيردين – معين باروخ – الوموت – رمات تسفر – جازيت – بيت كيشت – مخمياة – كفار كيش – دبيرت.

بالإضافة إلى 6 مستوطنات في مرتفعات الضفة والسهل الساحلي، وهي: كفار عصيون – جينرر – مسؤوت يتسحاف – عين حوريم – نفية ايلون – ريدليم. و13 مستوطنة في السهل الساحلي الجنوبي، وهي: دوروت – يبنية – جات – جيفرعام – بينروت بتسحات – نير عام – يد مردخاي – ينتساتنيم – روحمة – حيفنس – حاييم – حنسور – جال أون – كدمة. و2 في وادي بيسان، هما: أبو كا وعين هنتسيف، و17 مستوطنة في سهل الشاوروتا ومرتفعات منشة، وهي: رمات هشوفيط معنيت – ابين اسحاق – بيت يتسحق – سروت يام – جليل يام – بيت هليفي – همعبيل – مكمورت – بنيه – درور – كفار موناشي – مشمبرت بحرة – يكوم – بتية صهيون – حيرب ليئات – هعوجين. (53)

وقد أكدت مستوطنات حوما ومجدال، وباقي المستوطنات التي أنشئت خلال تلك الفترة، على حقيقة هامة، وهي التوجه السياسي الواضح في التوسع على أي أرض يمكن شراؤها أو الاستيلاء عليها؛ لتوسيع حدود المنطقة الاستيطانية، والتمدد في مناطق جديدة؛ تمهيدًا لرسم حدود المنطقة المراد إقامة الدولة عليها، وهذا ما نقل التوجه نحو منطقة جديدة، وهي (النقب).

(ب) البدء في التوجه نحو الجنوب ( النقب)

مرت حركة الاستيطان بالنقب خلال تلك الفترة بالأوضاع السياسية لحركة الاستيطان الصهيونية، والتي أرسى قواعدها مؤتمر بلتيمور الذي انعقد عام 1942م، والذي أكد فيه على ضرورة التمركز نحو الجنوب ومحاولة الاستيلاء على الأراضي بالنقب وإنشاء مستوطنات جديدة بها، وهذا ما حدث بإنشاء مستوطنات جيفولوت – بيت ايشل – رفيفنيم. (54)

وقد بلور دافيد بن جوريون نظريته السياسية – الإستراتيجية نحو استيطان النقب من منطلق اعتبارها جسرًا بين الدولة اليهودية والقارات الثلاث (آسيا – إفريقيا – أوربا)، بالإضافة إلى ضرب المحاولات البريطانية وفقًا لمشروع موريسون – جرايدي عام 1946م لتقسيم فلسطين، الذي اقترحته لجنة بيل، والتي تبقي القدس والنقب تحت المسئولية البريطانية، وهذا ما رفضه اليهود، وتجسد عمليًّا في إنشاء وتجديد مستوطنة حتسور، وإنشاء 11 مستوطنة مساء يوم 6/10/1946 وهي: جال اون – كدماة – اوريم – باري حتسريم – كفار دروم – مشمار هانقب – نيطيم – نيريم – تكوما – شوبال. (55)

وأعقب ذلك هجوم مسلح للفرق اليهودية على المناطق العربية في شمال النقب وغربه، وطرد القبائل العربية منها، وإقامة مستوطنات جديدة، ليصل العدد إلى 18 مستوطنة. (56)

ووصل عدد المستوطنين بها عام 1948م إلى 3600 مستوطن، معظمهم من سكان الكيبوتز المتسللين من المستوطنات الشمالية والمهاجرين غير الشرعيين. (57)

(ج) ارتباط المستوطنات بنظرية الأمن الإسرائيلي :

تعد هذه الفترة هي بداية ارتباط أمن المستوطنات بأمن الدولة الإسرائيلية التي لم تكن قد أعلنت بعد، وإن كانت قد شكلت حدودها في أذهان اليهود والمؤسسات الاستيطانية، وقد قامت هذه النظرية على عدم إنشاء أي مستوطنة قبل تأمينها وحاميتها، خاصة مع الهجمات العربية التي حدثت على مستوطنتي تل حاي وتل جلعادي، وارتكزت هذه النظرية على فكرة التمركز والانتشار من خلال إنشاء شبكة من المستوطنات المتقاربة على شكل تجمعات تمتد بين الشاطئ بالسهل الساحلي والأودية، ومناطق المرتفعات، مع مراعاة التأمين الدفاعي لها ووجود قدرات للاكتفاء الذاتي من خلال التنمية الزراعية، بالإضافة إلى قرب كل مستوطنة من الطرق الرئيسية وربطها بها بطرق قريبة .

وقد أخذت هذه التجمعات شكل حرف (N) ، واستخدام كل منطقة استيطانية كقاعدة داخل الإقليم الجغرافي للتوسع على أساسها فيما بعد .

وقد كان للأمن العامل الحاسم في اختيار مواقع المستوطنات وإنشائها طوال تلك الفترة وما قبلها؛ من خلال اختيار المواقع بعيدًا عن التجمعات العربية وإشرافها على مناطق إستراتيجية وتجهيزها بوسائل حماية متنوعة؛ خوفًا من قيام هجوم عربي محتمل، حتى لا تتكرر مرة أخرى واقعة تل حاي وكفار جلعادي. (58)

ومن أهم المستوطنات التي أقيمت خلال تلك الفترة هي :

معلية هاباشان – سدي نحمياة – عامير – بيت هليل – بارود – مليكاة – رامات نفتالي – دفنــاة – ألوموت – شامر – شعر ياشوف – كفار بلوم – كفار سولد – لهفوت هباشان – محنيم – مسجاف عام – دان – أشدوت يعقوف – بيت – يتسحاف – جفعتون – بيتانيا – بيت قتست – جيشر – نؤوت مردخاي – عميعاد دوثن – معين باروخ – بيت جان – كفار كش – كفار ناتان – هاؤون – اشزب – رجباة – سعر – شعرها علياة – مشمر هيام – ألوفي ابا – بيت لحم هجليت – رامون منتسة – رامون – راشافيم – شلوحوت – شيمرون – عين هنانسف – يزرعل – عين كرمل – حاجور .

ومن خلال العرض السابق يتضح لنا :

1) التوجه الاستيطاني المخطط خلال تلك الفترة للتركز في مناطق محددة لتوسيع إطار الدولة اليهودية القادمة .

2) ظهور أنواع جديدة من المستوطنات أقرب إلى المعسكرات منها إلى المستوطنات السكانية.

3) ارتباط مستوطنات هذه الفترة بالأمن اليهودي والحفاظ على الأراضي التي تم السيطرة عليها .

ومن خلال العرض السابق للمرحلة الثانية من الاستيطان اليهودي في فلسطين يتضح لنا عدة نتائج هامة :

1. عدم تبلور الفكر الاستيطاني اليهودي في بداية تلك المرحلة حول إستراتيجية محددة في إقامة المستوطنات، وظل الاستغلال الاقتصادي هو الأغلب حتى بداية الحرب العالمية الأولى.

2. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى أخذ الاستيطان اليهودي في الزيادة المطردة في عدد المستوطنات، حيث بلغ أعلى مستوياته قبيل قيام الدولة؛ وذلك بسبب التوجه السياسي المخطط في تكوين وطن قومي لليهود في فلسطين .

3. التنوع في أنماط المستوطنات خلال تلك المرحلة؛ وذلك لاختلاف الأفكار الوافدة مع المهاجرين وتأثيرها على شكل وطبيعة كل مستوطنة، ومن أهم هذه الأفكار: المبادئ الاشتراكية التي جاءت مع مهاجري شرق أوربا وروسيا، بالإضافة إلى الأفكار البرجوازية القادمة مع مهاجري الطبقة الوسطى من أوربا الغربية .

4. شكل أمن المستوطنات خلال تلك المرحلة أحد العناصر الهامة لزيادة أعدادها مع شعور اليهود المهاجرين بأن وجودهم أصبح يمثل استفزازًا وتهديدًا للعرب المقيمين في فلسطين، الذين لم يدركوا خطورة هذه المستوطنات إلا متأخرًا.

5. يعد عام 1948م هو المرحلة النهائية لإقامة المستوطنات بكافة أنواعها داخل فلسطين؛ وذلك باعتباره العام الذي أعلنت فيه الدولة الإسرائيلية، وأصبحت جميع المستوطنات المقامة بعد ذلك داخلها، وبذلك انتهت مرحلة التوطن اليهودي داخل أراضي فلسطين التاريخية بتجسيد وجوده واقتطاعه 77% من أراضي فلسطين التاريخية؛ لتصبح إسرائيل هي تجسيد الأمر الواقع؛ من خلال الاستيلاء على الأرض، وإقامة مستوطنات عليها، لتكون نواة الدولة، التي استقرت في شكل حدودها السياسية على هذه المستوطنات، وأعلنت عليها دولة إسرائيل؛ لتصبح إسرائيل هي دولة المستوطنة، أو الدولة المستوطنة -إذا جاز التعبير .

رابعًا: مستوطنات المرحلة الثالثة (1948 – 2007م):

تمثل هذه المرحلة الحلقة الأولى من حلقات التوطن اليهودي داخل الدولة الإسرائيلية عقب إعلانها في 15 مايو 1948م، وهو التوطن الذي بدأ في إنشاء مستوطنات جديدة بدون أي صعوبات أو معوقات كما في المراحل السابقة، قائمًا على مساحات هائلة من الأراضي، التي أصبحت -بحكم القوانين الإسرائيلية- أراضي بوار ومهجورة، بعد أن طرد اليهود منها سكانها العرب الأصليين .

وبدأت عمليات إنشاء المستوطنات تخضع لاعتبارات ومعايير جديدة قائمة على التخطيط وحسن إدارة الموارد الأرضية المتاحة والتوزيع على مناطق جغرافية ذات أهمية اقتصادية وسياسية وأمنية، بعد أن توطد استقرار الدولة عقب هزيمة الجيوش العربية عام 1948م. ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى أربعة فترات رئيسية :

1. الفترة الأولى (1948 – 1967م).

2. الفترة الثانية (1968 – 1980م).

3. الفترة الثالثة (1981 – 1994م).

4. الفترة الرابعة (1995 – 2007م).

§ الفترة الأولى: ( 1948 – 1967م)

وتبدأ هذه الفترة عقب انتهاء حرب 1948م وقيام دولة إسرائيل، والتي ترتبت عليها عملية هجرة وتهجير واسعة للغالبية من الشعب الفلسطيني، والتي شملت أوضاعًا جديدة، شملت المئات من القرى وعشرات المدن ومئات الآلاف من الدونمات التي تركها اللاجئون العرب، وفي المقابل ترك الآلالف من المجندين في صفوف الهاجناه والبالماخ وحداتهم العسكرية، وبدأت بذلك عملية توطين واسعة، شملت المساكن العربية في مدن حيفا ويافا والرملة واللد وعسقلان وبئر سبع وطبرية وبيسان وعكا والقدس، وبقية القرى العربية ( ) . وقد بدأت الحكومة الإسرائيلية في مواجهة مشكلة توطين هؤلاء المجندين بالإضافة إلى إيجاد أماكن لإقامة الآلاف من المهاجرين اليهود الجدد الذين ذهب جزء منهم إلى المستوطنات المقامة التي عانت من نقص الوحدات السكانية. (59)

ولذلك فقد قامت إسرائيل ببناء 39 مستوطنة في الفترة من عام 1948م -عقب إعلان دولة إسرائيل- إلى نهاية العام، مع الاستمرار في توطين اليهود المهاجرين في القرى والمنازل العربية التي تركها أهلها، وخلال الفترة من عام 1949م إلى 1950م، أقامت إسرائيل 210 مستوطنة في مرتفعات القدس والجليل والنقب، بالإضافة إلى مجموعة المستوطنات التي أقيمت على السهل الساحلي. (60)

وقد حظي النقب باهتمام كبير من عام 1949؛ حيث أقيم به 27 مستوطنة جميعها في نوع الكيبوتز، فيما عدا جيفوليم وجيلات، وتم مد شبكة من أنابيب المياه من منطقة نير عام في الشمال الشرقي من قطاع غزة؛ لإمداد المستوطنات الجديدة بالمياه، وتم توزيعها في مناطق أودية النقب ووادي عربة؛ وذلك لتوفير الاستقرار والأمن لها، خاصة وأن إقامتها كانت إلى حد كبير بعيدة عن مناطق التكتلات الاستيطانية الكبيرة. (61)

ومع نهاية عام 1953م وصل عدد المستوطنات إلى 345 مستوطنة و251 موشاف، و96 كيبوتز استوطن بها 20 ألف عائلة على مساحة 1.150.000 دونم. وفي أعقاب قيام الدولة الإسرائيلية. قامت إسرائيل بإنشاء مجموعة من المستوطنات في مناطق مختلفة؛ وذلك بهدف سد الثغرات الأمنية على الحدود، الناتجة عن سيطرة القوات الإسرائيلية على مساحات كبيرة من الأرض التي أخليت من العرب، ولكي تكون هذه المستوطنات نقاط دفاع ضد الهجمات العربية المتوقعة وعمليات التسلسل عبر الحدود عملت السلطات الإسرائيلية على تعمير المستوطنات التي دمرت أثناء الحرب وقامت بإقامة مجموعة من المستوطنات في المناطق النائية بهدف توطين اليهود في هذه المناطق .

وقد رافق عمليات بناء المستوطنات في هذه المرحلة تخطيط واسع النطاق لإيجاد مقومات الاستيطان الداعمة له، ومنها إقامة شبكة من مشروعات المياه لتوفير المياه للمستوطنات الجديدة، وكان من أهمها مشروع العوجا وقناة المياه القطرية، وكذلك شبكة من الطرق الحدودية لتأمين الاتصال بين هذه المستوطنات ومناطق التجمع الكبيرة في المدن. (62)

وعقب تنفيذ المشروعات المائية ازدادت معدلات بناء المستوطنات في سنوات 1954- 1955م، خاصة في منطقة لاخيش، ومن عام 1956 إلى 1967م انخفض عدد المستوطنات خلال 12 عام إلى 64 مستوطنة، منها 13 مستوطنة خلال عام 1956، و9 مستوطنات خلال عام 1957م، و11 مستوطنة خلال عام 1958م؛ مما يعني أن السنوات التسع التي سبقت عام 1967م أنشئ بها 31 مستوطنة فقط بمعدل 3.5 مستوطنة سنويًّا، وهو معدل يظهر انخفاضًا واضحًا لم يظهر في الفترات السابقة خلال مراحل إنشاء المستوطنات اليهودية. (63)

ويرجع ذلك للأسباب الآتية :

1) تناقص عمليات الهجرة اليهودية خلال تلك الفترة وبالتحديد من عام 1960م – 1967م.

2) انهماك السلطات الإسرائيلية في هذه المرحلة في استيعاب وتوطين موجات الهجرة السابقة وإقامة مستوطنات جديدة لهم على حسب الإمكانيات المتاحة لديها .

3) التركيز من جانب السلطات على التوطين الحضري والمدني وإنشاء ما عرف باسم مدن التطوير وذلك للتوجه الإسرائيلي نحو الاقتصاد الصناعي بدلاً من التطوير الزراعي والمستوطنات الزراعية (64)

ومن أهم المستوطنات التي أقيمت خلال هذه الفترة:

دلتون – دوش – البلغيط – ساسا – كفار شماي – سفسوفاة – علماة – جونن – نيرعام – كفارهناسي – ميرون – روفين – مرجاليوت – جاروت – شـفر – سدة اليعزر – هجوم فريم – يرؤون – يفتاح – أربيل – الموت – يورياة كفارب عشوداة – يورياة نفة عوقيد – بيت قاتسير – تسمح – سدة إيلان – كفار زيتيم – لافي – متسفاة – ميوراة – متي عز – معجان – احيهود – بارود عليت – بنست – بني عمر – بيت هعمق – تساهل – تسورنل – جعتون – جورن – جيشر هزيف – تاروم – ناعوز – تسلافون – تسوفاة – جاريم – جفعت شاؤول – عمينا داف – نجـم – نسن هاريم – يشعي – سوتيفاة – عاجور – قاشتل – كفار زخرياة – ماعوز تسيون – محـياة – مسلات نسيون – مطاع – مقوبيتار – مناحات – نتف هالامداة – يوفال – أشموراة – شرور – عين هامفراتز – برازون – افيطل – رفاياة – مجدال هاعمق – ميطاف – بيروقاة – جفعت تيلي – سدة تيسحاق – كفار تسفي – مؤور – يمن أور – أورعقيفا – جني تكفاة – نفة افراييم – بهن – أحوزت نفتالي – بيرياة – بقعيم – ههداشا – أديريم – أرانيم – تل يوسف – جازيت – جفت شموئيل – ريخاسيم – مليلوت – بيت حنتياة – نير يافة – متسر – حورشيم – أميريم – نوتيرا – دوفف – كفار حسيديم – نير الياهو – كرم بني زمراة – كورازم – سجف – يودفـات – مفراتزايلان – ديدورا – ميكورون – جروفيت – ربات – أشلاج – عين حتسفاة – قريت بنيامين. (65)

2) ) الفترة الثانية: (1967م – 1980م):

أحدثت حرب يونيه عام 1967م وسقوط مساحات كبيرة من الأراضي العربية إلى حدوث نوع من الخلل لمشاريع بناء المستوطنات داخل إسرائيل مع اندفاع العديد من المستوطنين إلى الاستيطان في الأراضي العربية التي احتلت عام 1967م، وهكذا وجهت جهود أقل نحو استيطان مناطق الجليل والنقب بعد أن كانت هاتان المنطقتان تحتلان المرتبة الأولى في بناء المستوطنات(66)

ولكن السلطات الإسرائيلية تابعت اهتمامها ببناء مستوطنات داخل إسرائيل، ولكن ليس بنفس الجهد الذي قامت به في الأراضي المحتلة عام 1967م وذلك للأسباب الآتية :

1- ضرورة بناء العديد من المستوطنات اليهودية داخل الأراضي المحتلة عام 1967م، وذلك لأهداف سياسية وعسكرية وأمنية مما أدى إلى عدم الاهتمام بالمستوطنات الجديدة داخل إسرائيل أو بنائها .

2- ابتعاد خطوط وقف إطلاق النار عن المناطق الحدودية القديمة القريبة من المستوطنات داخل إسرائيل وبالتالي أدى ذلك إلى افتقاد البعد والأهمية الأمنية لها وانتقالها إلى خطوط أبعد مما استلزم نقل الثقل الاستيطاني لهذه المناطق الجديدة .

3- الأهمية الاقتصادية للأراضي الجديدة إذا قورنت بالأراضي التي تتطلب إقامة مستوطنات في النقب والتي تستلزم عملية إقامة مستوطنات بها إلى تكاليف كبيرة كما أنه ليس لها أهمية اقتصادية مثل المستوطنات الجديدة في الضفة أو الجولان(67)

ولقد كان النقب على رأس اهتمامات إسرائيل حيث قامت ببناء مستوطنتي ناحال في وادي عربة هما بئر تسوفر في بئر سبع وكتورا في النقب الجنوبي، وقد تم تحويل مستوطنة نؤوت هكيكار إلى مستوطنة موشاف في عام 1968م، وتم إنشاء مستوطنة الوميم في النقب الشمالي(68)

ولم يغب الجليل عن اهتمام السلطات الإسرائيلية، فقد أقيمت به مستوطنات زرعيت وكفار روزنوالد في الجليل الاعلى على مقربة من الحدود الشمالية، بالإضافة إلى مستوطنة شتولا على مرتفعات أداميت في الجليل الغربي، وأقام بها ثلاثون عائلة يهودية، بالإضافة إلى مستوطنة حسون في المنطقة الواقعة بين الجليل الأعلى والأسفل على ارتفاع 550 م أقيم بها 75 وحدة سكنية، ومستوطنة نارية في الجانب الغربي من جبل الجرمق، وأقيمت مستوطنة جديدة بالقرب من مصب نهر الأردن عند بحيرة طبرية ومستوطنة معالة جلبوع وكان مركزاً للناحال في مقابلة الحدود السورية وتحول إلى كيبوتز .

وفي السهل الساحلي أقيمت مستوطنة راموت مايير قرب رحفوت، ومستوطنة نفة إيلان بين القدس ويافا، بالإضافة إلى كفار عقب(69)

هذا وقد بلغ عدد المستوطنات التي أقيمت في منطقة الجليل خلال تلك الفترة 12 مستوطنة، و4 مستوطنات في سهول طبرية والحولة، و9 مستوطنات في وادي عربة، و5 مستوطنات في النقب، و8 مستوطنات في باقي المناطق في إسرائيل، 2 في منحدرات القدس، و2 في لاخيش، 4 في سهول الخضيرة(70)

ومن أهم المستوطنات التي أقيمت خلال تلك الفترة :

حسون – نسورناتان – شئولا – بئير تسوفر – زرعيت – بيسروبيت – كتورا – رامون مائير – كفار عقب – نفة إيلات – ياعـد – منوف – سـكينا – كورنيت – بيت ريمون – عمكا – كاحل – لبنيم – ربيد – تفوحوت موساد – كفر حنا ينا – كدريم – كالبنت – توبال – سلمون – هرريت – شرتسيم – مخمتايم – المناطر – موراز – كوتام – جرنيت هجلي – باريوحاي – كفيردت – كينسور – حزون(71)

ومن خلال العرض السابق يتضح لنا :

1- انخفاض الاهتمام بإقامة المستوطنات في المناطق الثلاثة الرئيسية التي مثلت محور الاستيطان منذ إعلان الدولة وهي ( الجليل – النقب – وادي عربة ) وذلك للاتجاه نحو إقامة مستوطنات جديدة في الأراضي المحتلة عام 1967م .

2- شكلت منطقة الجليل أعلى المناطق في إقامة المستوطنات خلال تلك الفترة وذلك للأهمية التي حظيت بها لإقامة مستوطنات ذات مواقع استراتيجية للتأمين والحماية بالقرب من الحدود الشمالية .

3- شكل وادي عربة منطقة اهتمام جديدة لتأمين الحدود الأردنية ومحاولة استغلاله اقتصادياً .

4- بقيت مرتفعات النقب أقل المناطق اهتماماً وخاصة بعد تراجع موقعها مع احتلال سيناء

3) الفترة الثالثة ( 1981 – 1994م ) :

تعد الفترة الثالثة أحد الفترات الفارقة في تاريخ الاستيطان الإسرائيلي منذ بدايته، فقد دشنت هذه الفترة الارتداد البطئ نحو الاهتمام بإقامة المستوطنات في المناطق الإسرائيلية ومحاولة تلافي الضغوط الخارجية من أجل إيقاف الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة خاصة أنه في نهاية السبعينات بدأت الأصوات تتعالى داخل إسرائيل بعد التأكد من إمكانية إخلاء مستوطنات سيناء مطالبة بتركيز الاستيطان في منطقة الجليل التي شهدت عمليات استيطانية واسعة مهددة أوضاع السكان العرب فيه .

ويمكن تقسيم الجليل إلى ثلاث قطاعات :

1- الجليل الجنوبي: ويشكل العرب 42% واليهود 58% من مجموع السكان

2- الجليل الأوسط : ويشكل العرب 36% واليهود 64% من مجموع السكان .

3- الجليل الشمالي: ويشكل العرب 22% واليهود 78% في مجموع السكان .

وقد دفع ذلك الحكومة الإسرائيلية إلى دفع الاستيطان في هذه المنطقة لإحداث عملية التحول الديموغرافي لصالح المستوطنات اليهودية وإجبار السكان العرب على بيع أراضيهم لإقامة مستوطنات جديدة عليها من أجل اليهود الوافدين إلى إسرائيل(72)

وقد اقترحت عدة مشروعات خلال تلك الفترة تهدف إلى إقامة مستوطنات في عدة مناطق داخل إسرائيل وعلى رأسها الجليل والنقب .

واعتبر رعنان فايتس(*) أن الخطر الحقيقي يكمن في منطقة الجليل والنقب معتبراً الجليل خطراً حقيقياً باعتباره جزءاً مكملاً للدولة، على الرغم من الكثافة العربية به ومساهمته البالغة نحو 1.5 مليون دونم، وبالتـالي يحتاج إلى تكثيف التواجد اليهودي بإقـامة المستوطنات به .

ودعا إلى إقامة 50 مستوطنة جديدة يقطن بها 6000 مستوطن من العمالة اليهودية بالإضافة إلى توفير فرص العمل المباشرة وغير المباشرة لـ 12 ألف عائلة تضم 55 ألف نسمة(73)

وقد أقيمت بالفعل حتي عام 1989م 46 مستوطنة توزعت في المنطقة الشمالية والجليل والنقب، وهي كالتالي : 34 مستوطنة في سهول الشارونا، والسهل الساحلي 4 مستوطنات، وفي الجنوب في النقب 7 مستوطنات .

وعلي الرغم من ذلك نجد أن السياسة الإسرائيلية لازالت تفضل إقامة المستوطنات في الضفة الغربية على باقي المناطق، فقد أقامت بالتوازي مع هذه الفترة في الضفة الغربية وقطاع غزة 68 مستوطنة، 5 مستوطنات في قطاع غزة(74)

وقد تم التركيز على وادي عربة بإقامة 4 مستوطنات جديدة به ومحاولة تركيز المستوطنات في النقب الغربي الجنوبي، وقد مثلت منطقة المثلث الواقعة بين قطاع غزة وبئر السبع وخلوصة والتي تبلغ مساحتها 1 مليون دونم أهمية كبيرة في التوجه الاستيطاني وذلك لتكون هذه المستوطنات معرقلاً لأي هجوم مصري متوقع وكذلك فقد أقيم بها حتى عام 1989م 12 مستوطنة تركزت معظمها إلى الجنوب من غزة قرب الحدود المصرية .

ومن أهم المستوطنات التي أقيمت في تلك الفترة :

حتسيبة تسوريم – يهود بيت – كمون – كاليليوت – عتصيون – اشيرت – جبعات غورب – متسبيه كتسير – يوفليم – ربيد – نتيف هعسرة – رقفت

هذا وقد تميزت هذه الفترة بعدة سمات تمثلت فيما يلي :

1- التوجه مرة أخرى إلى إقامة المستوطنات داخل الدولة، وخاصة في مناطق النقب والجليل، وذلك بعد انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء وتوقع انسحاب في مناطق أخرى وهذا ما حدث بالفعل في غزة .

2- اتجاه السياسة الإسرائيلية إلى تركيز المستوطنات كحائط دفاعي إلى الجنوب من غزة ضد أي هجوم مصري محتمل أو منع تسلل عناصر إلى داخل إسرائيل .

3- ظل النقب والجليل يحتل الصدارة في إعداد المستوطنات المقامة به على طول تلك الفترة وذلك للاعتبارات الديموغرافية للسكان العرب في الجليل والمساحات الكبيرة الغالبة على السكان في الجنوب بالنقب .

4- أصبحت السمة العامة لدى السياسة الإسرائيلية فيما يخص إقامة المستوطنات هي الانتشار شمالاً وجنوباً وإن تفاوت الأمر من منطقة إلى أخرى وتراجع اليشوف القديم كمركز جذب للمستوطنات .

4) الفترة الرابعة (1995 – 2007م ) :

وقد شهدت تلك الفترة حملات موسعة لتشجيع العائلات اليهودية في إسرائيل على الإقامة في مناطق النقب لتوسيع تهويده على الرغم من أن النقب يتم إقامة المستوطنات به وفقاً للخارطة الهيكلية العامة لإسرائيل المعروفة باسم ( تاما 35 )(*)، وتمت هذه العملية من خلال مساهمة العديد من الجهات الحكومية بالإضافة إلى مؤسسة خاصة في عمليات التوطين به .

ويقوم على عمليات إقامة المستوطنات داخل إسرائيل وبالتحديدي في الجليل والنقب منذ بداية هذه الفترة جمعية خاصة تطلق على نفسها اسم ( أور ) وتعد أكثر الجمعيات تأثيراً في مجال التخطيط والبناء الاستيطاني في إسرائيل، والجهة التي تسيطر على عمليات الاستيطان في النقب والجليل بالتعاون مع الدوائر الحكومية الإسرائيلية والدوائر الصهيونية العالمية كالوكالة اليهودية ودائرة أراضي إسرائيل .

وقد أنشأت هذه الحركة عام 1999م مستوطنة سنسانا في سفوح جبال الجليل، وقد أقام بها أعضاء من الحركة بالإضافة إلى مجموعة من الشباب المتزوجين من مدن رمات جان وبتاح تكفا وجعفوت والقدس وبلغ عدد سكانها حوالي 250 شخص، ومعظم البيوت متنقلة بالإضافة إلى بعض الفيلات في هذه المستوطنة لاستيعاب 2200 شخص .

وفي عام 2001م أقيمت مستوطنة ميرحاف بالقرب من مستوطنة سدة بوقـر وبلدة يروحام في النقب ويزيد عدد سكانها عن 130 شخصاً بالإضافة إلى مستوطنة بئر ميلكا في النقب وعدد سكانها يزيد على 35 فرداً وأقيمت عليها 50 وحدة سكنية للإقامة المتصلة، وفي عام 2003م أقيمت منسبة عيرونه في منطقة المثلث الشمالي في منطقة عيرون وأقامت عام 2004م مستوطنة جفاعوت بار وبلغ عدد سكانها 100 مستوطن بالإضافة إلى مستوطنة خسروب، ويقيم بها 70 شخصاً من المتدينين اليهود، ومعدة بوحدات سكنية 110 مستوطن .

وفي عام 2007م تم إنشاء مستوطنة جفعات بار في النقب وفقاً لخطة إنشاء مستوطنات بالنقب تمول من صندوق JNF الأمريكي بمبلغ600 مليون دولار لتنشيط الاستيطان في النقب والجليل، وساهمت حركة أور في توطين العديد من المستوطنين التي تم إخلاؤهم من غزة عام 2005م في مستوطنات بالنقب والجليل وإقامة بؤر استيطانية لهم على شكل بيوت متحركة(75)

من خلال العرض السابق لمراحل نشأة وتطور المستوطنات يتضح لنا :

1- شكلت دعوات التوطن اليهودي في فلسطين بداية التمهيد لإنشاء المستوطنات في فلسطين التاريخية وإن كانت لم تنتقل إلى الواقع العملي إلا بأيدي الرأسماليين اليهود .

2- كان الطابع الاستغلالى الاقتصادي الأغلب خلال المرحلة الأولى من التوطن اليهودي في فلسطين وإن كانت الأهداف السياسية موجودة ولكنها لم تكن معلنة بالشكل الذي يؤثر على الرغبة العملية في خلق دولة من خلال هذه المستوطنات .

3- لعبت المرحلة الأولى دوراً هاماً في تحديد النطاق الجغرافي للتوطن المنتظم مع بداية المرحلة الثانية وخلقت عامل جذب للمستوطنات في مناطق لم تكن محل اهتمام من جانب العرب لرغبتهم في التواجد في المحلات المرتفعة في الضفة الغربية .

4- ركزت المؤسسات الصهيونية على منطقة السهل الساحلي منذ بداية الاستيطان مما جعلها تستحوذ على العدد الأكبر من المستوطنات حتى بعد قيام الدولة وإن تغير هذا الوضع قليلاً بعد قيام الدولة ولكنها ظلت مصدر الجذب الأولى بطابعها الحضري والريفي .5- شكلت منطقة النقب والجليل مصدر جذب للمستوطنات وفقاً للتوجهات السياسية بعد قيام الدولة وذلك لطبيعتها الديموغرافية التي يتركز فيها العرب .

6- أثرت الأفكار المتنوعتة للمهاجرين في خلق أنماط متنوعة من المستوطنات (كيبوتز – موشاف ) .

7- الاهتمام بالنقب كاحتياطي استراتيجي هام للتوسع المستقبلي للدولة الإسرائيلية 8

– عقب قيام الدولة فقدت المناطق القديمة استيطانياً أهميتها في جذب المستوطنين واتجهت إلى الضفة الغربية لكسب أي أراضي جديدة وضمها إلى الدولة.

هوامش الفصل الاول:

1. نيل كوزودوي، أجيال إسرائيل، بدون تاريخ، ترجم بمعرفة المخابرات العامة، ص 5 .

2. هندامين البريري، أرض فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ، دراسات وثائقية، مطابع جامعة الدول العربية، القاهرة، 1998م، ص 84 .

3. نظام محمود بركات، الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين بين النظرية والتطبيق، مطابع جامعة الملك سعود، الرياض، 1985م، ص ص 9، 10 .

4. هندامين البريري، مرجع سابق، ص 15 .

5. نظام محمود بركات: الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين بين النظرية والتطبيق، جامعة الملك سعود، مركز الأبحاث، الرياض، 1985م .

6. حسن ظاظا، عائشة راتب، محمد فتح الله الخطيب: الصهيونية العالمية وإسرائيل، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلمية، دار الشعب، القاهرة، 1971م، ص 82 .

7. أحمد طربين، فلسطين في خطط الصهيونية والاستعمار 1897م- 1922م، معهد البحوث والدراسات العربية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، 1975م، ص 38 .

8. أمين عبد الله محمود، مشاريع الاستيطان منذ قيام الثورة الفرنسية وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1984م، ص 69 .

9. نظام محمود بركات، المرجع سابق، ص 12 .

10. ملف وثائق فلسطين، مجموعة وثائق وأوراق خاصة بالقضية الفلسطينية، الجزء الأول من عام 1637م إلى 1949م، وزارة الإرشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة، 1969م، ص 47.

11. هندامين البريري، مرجع سابق، ص ص 86، 88 – 90، 91 .

12. أحمد طربين: فلسطين في خطط الصهيونية والاستعمار 1897 -1922، معهد البحوث والدراسات العربية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، 1975م، ص ص 42، 43.

13. تيودور هرتزل، الدولة اليهودية، ترجمة، محمود يوسف عدس، دار الزهراء للنشر، القاهرة، 1994م، صفحات متفرقة، ص ص 71، 73، 74، 116، 118.

14. صموئيل إتنجز، اليهود في البلاد الإسلامية (1850م- 1950م)، ترجمة جمال أحمد الرفاعي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 197م، مايو، 1995، ص 174 .

15. وذلك من خلال ما ذكره موسى حاييم مونتفيوري في مذاكرته في يوم 24 مايو 1839م. والتي ذكر فيها أنه من خلال جمعه للمعلومات عن الأرض في فلسطين وبالتحديد حول القدس ويافا، وأنها صالحة للاستغلال الزراعي، وأنها من الممكن أن تنتج بكثرة في مقابل قليل من المهارة والعمل، وأنها عبارة عن أحراش وأشجار الزيتون وحقول كرم ومراعي شاسعة، وأن بها أعدادًا كبيرة من الآبار، وأنه ينوي إقامة مشروع كبير بها، كفيل بأن يحقق السعادة والرخاء للأرض المقدسة، وذكر أنه سيطلب من محمد علي -والي مصر والشام في هذه الفترة- منحه أرضًا لمدة خمسين عامًا ومائة، أو مائتي قرية مقابل ربح 10 أو 20%، بشرط أن تعفى الأرض من أي ضريبة يفرضها محمد علي أو حاكم المنطقة التي سوف تمنح فيها الأرض، وأن يحصل على حرية التصرف في المحصول وتسويقه إلى أي جهة في العالم. وذكر أنه إذا حدث وحصل على هذه المنحة فسوف يعود إلى انجلترا وينشئ شركة تتولى زراعة الأرض، وتشجيع أبناء ديننا على العودة إلى فلسطين بدل من الهجرة إلى ويلز وكندا، وأنهم يستطيعون في الأرض المقدسة أن يجدوا فرص النجاح المؤكد؛ من خلال الآبار التي تم حفرها، وأشجار الزيتون والكرم التي تمت زراعتها، والأرض الخصبة التي لا يعوزها إلا القليل من الماء، وأنني لا أمل تدريجيًّا من إعادة الألف من أبناء ديننا إلى أرض إسرائيل، كما أنني واثق أنهم سيكونون سعداء عندما يثبتون أن ديننا قادر على تحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في أوروبا. لمزيد من التفاصيل، انظر: ملف وثائق فلسطين، مرجع سابق، ص 45.

16. نظام محمود بركات، مرجع سابق، ص ص 15- 16 .

17. محمد محمود الصياد، جغرافية التوطن اليهودي في فلسطين المحتلة، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، العدد رقم (1)، مارس 1969م، ص 222.

18. السيد يسين، عليّ الدين هلال، السيد يسين، وعليّ الدين هلال: الاستعمار الصهيوني الاستيطاني بفلسطين (1848 – 1973)، معهد البحوث والدراسات العربية، الجزء الثاني، دار نافع للطباعة والنشر، القاهرة، 1975م، ص ص 144- 145.

19. عمران أبو صبيح، الهجرة اليهودية حقائق وأرقام، رصد وتحليل للهجرة اليهودية في فلسطين وإليها، 1882م- 1990م، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، ص 21 .

20. حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار الصهيوني تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، المجلد 1، دار المعارف، 1970م، ص 29

21. Peter Beaumon T and other, The middle EAST Ageogra phica stvdy second Edition, David Fulton publishers, London, 1999, p. 443.

22. محمد محمود الصياد، مرجع سابق، ص 222 .

23. على الدين هلال، السيد ياسين،،مرجع سابق، ص61.

24. محمد محمود الصياد، مرجع سابق، ص223.

25. أسعد رزوق، إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني، سلسلة كتب فلسطينية 13، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، مطبعة الغريب، بيروت، 1968م، ص ص 34- 35.

26. خليل أبو رجيلي: الزراعة اليهودية في فلسطين المحتلة، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1970م. مرجع سابق، ص 517 .

27. محمد محمود الصياد، مرجع سابق، ص 223.

28. أني س صايغ، بلدانية فلسطين المحتلة (1948م- 1967م)، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 19، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1968م، صفحات متفرقة.

29. هندامين البريري، مرجع سابق، ص 129.

هوامش الفصل الثاني:

1. هند أمين البديري، مرجع سابق، صـ 129.

2. احمد طربين، مرجع سابق، صـ صـ 38، 40 .

3. فايز الصايغ، الاستعمار الصهيوني في فلسطين، ترجمة، عبد الوهاب الكيالي، منطقة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1965م، صـ صـ 9- 11.

4. صادق على الربيعي، الاستيطان الصهيوني في فلسطين إبان حكم الدولة العثمانية 1882م- 1917م، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1978م، صـ صـ 89- 90 .

5. خليل ابو رجيلي، مرجع سابق، صـ 17.

6. محمد محمود الصياد، مرجع سابق، صـ 223 .

7. هندامين البديري، مرجع سابق، صـ 130.

8. السيد يسين، على الدين هلال، المرجع السابق، صـ صـ 156، 157

9. أنيس صايغ، مرجع سابق، صفحات متفرقة .

10. السيد يسين، علي الدين هلال، المرجع السابق، صـ صـ 158، 159.

11. عبد الرحمن أبو عرفة، الاستيطان التطبيق العملي للصهيونية، طـ 2، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، الأردن، 1986م، صـ 132.

12. السيد يسين، علي الدين هلال، المرجع السابق، صـ صـ 159، 207، 208.

13. السيد يسين، علي الدين هلال، مرجع سابق، جـ 1، صـ 208 .

14. عبد الرحمن أبو عرفة، مرجع سابق، صـ 134 .

15. السيد يسين، عليّ الدين هلال، المرجع السابق، صـ 209 .

16. عبد الرحمن أبو عرفة، مرجع سابق، صـ 134

17. السيد يسين، عليّ الدين هلال، مرجع سابق، صـ 209، 210.

18. صبري جريس، تاريخ الصهيونية (1862– 1948م)، الوطن القومي اليهودي في فلسطين(1918– 1939م)، الجزء الثاني، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1986م، ص 131.

19. عمران أبو صبيح، مرجع سابق، صـ صـ 28- 29.

20. هند أمين البديري، مرجع سابق، صـ صـ 133 – 134.

21. أنيس صايغ، المرجع السابق، صفحات متفرقة .

22. هند أمين البديري، مرجع سابق، صـ 132.

23. إفرايم ومناحم قلمي، معجم المصطلحات الصهيونية، ترجمة أحمد بركات العجرمي، الطبعة الأولى، دار الجميل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، صـ 198، 199.

24. جاك كنو، مشكلة الأراضي في النزاع القومي بين اليهود والعرب منذ وعد بلفور، ترجمة محمد عودة الدويري، الطبعة الأولي، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، 1997م، صـ صـ 91- 95.

25. هند أمين البديري، مرجع سابق، ص 133.

26. محمد عبد الرءوف سليم، نشاط الوكالة اليهودية لفلسطين منذ إنشائها وحتى قيام دولة إسرائيل 1922 – 1948م، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982م، ص 420.

27. جاك كنو، المرجع السابق، صـ صـ 100 – 104.

28. صبحي يوسف عيد، جغرافية الاستيطان الصهيوني في منطقة النقب، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1978م، ص 104 .

29. جاك كنو، المرجع السابق، صـ صـ 107 – 108 .

هوامش الفصل الثالث

1. هند أمين البديري، المرجع السابق، ص 137 .

2. صبحي يوسف عيد، المرجع السابق، ص 105 .

3. هند أمين البديري، المرجع السابق، صـ صـ 135– 136 .

4. عبد الرحمن أبو عرفة، المرحع السابق، ص 136 .

5. Flish a Efrat, Geography and Pditics in Israel, Frank Cass, London, 1988, P. 80

6. عبد الرحمن أبو عرفة، المرجع السابق، ص 136 .

7. صبحي يوسف عيد، مرجع سابق، ص 106 .

8. نظام محمود بركات، مرجع سابق، صـ صـ 78، 79.

9. عبد الرحمن ابو عرفة، مرجع سابق، صـ 137 .

10. نظام محمود بركات، م رجع سابق، صـ 79.

11. أنيس صايغ، المرجع السابق، صفحات متفرقة .

12. عبد الرحمن ابو عرفة، مرجع سابق، صـ 145 .

13. انيس صايغ، المستعمرات الاسرائيلية منذ عدوان 1967م، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الابحاث، بيروت، 1969م، صـ 69.

14. المرجع السابق، ص 70 .

15. محمد إبراهيم الشاعر، جغرافية فلسطين العسكرية على ضوء الأسس العامة لجغرافية الوطن العربي العسكرية، الطبعة الأولى، قسم البحوث والدراسات الفلسطينية، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1970م . ، صـ صـ 316 – 324 .

16. جاك كنو، مرجع سابق، ص 163 .

17. أنيس صايغ، مرجع سابق، صفحات متفرقة .

18. خيرية قاسمية، على الدين هلال، ابراهيم كروان، معهد البحوث والدراسات العربية، الدراسات الخاصة، رقم 15، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978م، صـ 26 * رئيس إدارة الاستيطان في الوكالة اليهودية آنذاك .

19. عبد الرحمن ابو عرفة، مرجع سابق، صـ 146.

20. جاك كنو، مرجع سابق، ص 185 * خطة تاما 35 خطة لتطوير البلدات القائمة وزيادة عدد سكانها وليس إقامة مستوطنات جديدة .

21. الاستيطان التهويدي داخل الخط الأخضر، مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، المركز الفلسطيني للإعلام، 2007م، ص 15

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى