دراسات افريقيةدراسات جيوسياسيةدراسات سياسية

إيران والنفوذ المتصاعد في”القرن الإفريقي”

بقلم  نجلاء مرعي – إعداد مجلة البيان 2012/12/11 شؤون إيرانية

يأتي التوجه الإيراني نحو إفريقيا، وبخاصة في منطقة القرن الإفريقي، في سياق التحول في أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، فهي محاولة من مجرد مواجهة الظروف المحلية الطارئة، وتلبية الاحتياجات في ظل معطيات الوضع القائم، إلى محاولة للتعرف على المناخ الدولي المحيط، وتهيئته بما يحقق أكبر قدر ممكن من المصالح الإيرانية، والتي في مقدمتها الحيلولة دون ترك الساحة للهيمنة الأمريكية.

ويتناغم هذا التوجه مع التكالب والتنافس بين القوى الدولية، ولاسيما الإقليمية بين إيران وإسرائيل، في منطقة القرن الأفريقي والذي أنتقل إلي حلقة جديدة وهى الصراع فيما بين هذه القوي عليها، ذلك أنه ينطوي على عنصر النفط وأولوية تأمين الإمدادات من الطاقة والتي تعتبر واحداً من الاعتبارات الرئيسية التي تصوغ بها الدول سياساتها وعلاقاتها الخارجية. وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي في صياغاته الكلية، خاصة في ظل التطورات المتلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية والتي تبشر بإعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي في المنطقة، وربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي وينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي.

وتحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء علي تأثير تصاعد النفوذ الإيراني في ظل التدافع الدولي والإقليمي نحو منطقة القرن الإفريقي علي منظومة الأمن القومي العربي، وذلك من خلال المحاور التالية:

– أولا: “القرن الإفريقي” بين المصالح الإيرانية والاهتمام العالمي:

يكتسب القرن الإفريقي أهميته الإستراتيجية من كون دوله تطل علي المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية أخرى، ومن ثم فإن دوله تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلي أوروبا والولايات المتحدة. كما أنها تُعد ممراً مهماً لأي تحركات عسكرية قادمة من أوربا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي.

ولا يقتصر أهمية القرن الأفريقي علي اعتبارات الموقع فحسب وإنما تتعداها للموارد الطبيعية، خاصة البترول، وهو ما يعد أهم أسباب رعاية واشنطن لمفاوضات السلام في السودان. بالإضافة إلي قربه من جزيرة العرب بكل خصائصها الثقافية ومكنوناتها الاقتصادية، ويوجد به جزر عديدة ذات أهمية إستراتيجية من الناحية العسكرية والأمنية.

وتتسم مصالح القوى الإقليمية في المنطقة بالتشابك والتعقد بين الأطراف المكونة للإقليم من ناحية، والقوى الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية من ناحية أخرى، ولكنها تتجه في مجملها نحو تحفيز الصراع واستمراره، لاسيما في الصومال والسودان، بل وتعتبر المحدد الرئيسي لمستقبل التفاعلات في الإقليم. إذ تتقاطع المصالح الإقليمية في جانب منها مع بعضها البعض، وتتناقضها في جوانب أخرى، في إشارة واضحة إلى ما يمكن اعتباره خريطة التحالفات الإقليمية، والتي قد تتفق أو تتناقض مع مصالح القوى الكبرى في المنطقة، إذ يشير الواقع الاستراتيجي إلى تأثير عملية المصالح والإرادة الإقليمية في مسيرة التفاعلات في منطقة القرن الأفريقي، والتي لا تتوافق مع توجهات المصالحة والاستقرار الذي يستند إليه الدور الدولي في منطقة القرن الإفريقي.

وقد حولت الأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي إلي منطقة نفوذ غربي جعلتها دائما محل تنافس بين الدول الكبرى في مرحلة الحرب الباردة. ومع بداية النظام العالمي الجديد في التسعينيات من القرن الماضي، تصاعدت حدة هذه المنافسة وتعددت أطرافها، ولكنها ظلت ملعبا للدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة. حيث سعت القوى الكبرى المسيطرة في النظام الدولي إلى التدافع عليه من أجل كسب مناطق نفوذ لها هناك، إما سلماً من خلال العلاقات الوثيقة مع نظم الحكم في المنطقة، أو كرهاً من خلال استخدام القوة المادية.

وفي سباق هذا التنافس تأتي إيران التي أبدت اهتماماً متزايداً بدول القرن الإفريقي في الآونة الأخيرة، وذلك في سياق فتح المزيد من دوائر التعاون مع كافة التجمعات، سواء كانت دولية أو أفريقية أو عربية وخليجية، ويسير هذا النشاط بالتوازي مع الضغوط الغربية والأمريكية بسبب برنامجها النووي، وتهدف من هذه التحركات إلى كسب مزيد من التأييد الدولي لمواقفها، وإرسال رسالة إلى الدوائر الغربية تحديدًا مفادها أن لديها القدرة على الانفتاح، لتغيير الصورة النمطية عنها والتي تصفها دائمًا بالتشدد.

والواقع، تسعى إستراتيجية إيران في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي والدول المجاورة والتي تقع على البحر الأحمر، إلى تحقيق الأهداف الآتية:

أ- ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، فهي تحاول أن تنمو لتقـلل من النفوذ الغربي – وبخاصة الأمريكي.

ب- تحقيق مصالحها الاقتصادية في ضوء العقوبات التي تضر إيران في القارات الأخرى.

ت- تصدير ثورتها من خلال المؤسسات الإيرانية أو المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها من خلال نشر جهودها في البلاد الإسلامية والمجتمعات الإسلامية التي تعيش في شرق إفريقيا.

ث- صنع ممرات بحرية وبرية تقود إلى الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات “الإرهابية”، والدولة المهمة لإيران في هذا الشأن هي السودان.

ج- تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وبحري فعال في البحر الأحمر – المهم من الناحية الإستراتيجية لإيران – يقود لقناة السويس، لذا تعمل علي تقوية علاقاتها بالدول الإفريقية التي تطل على البحر الأحمر، من بينها السودان وإريتريا وجيبوتيمن ناحية، ومن ناحـية أخري تسعى لتقوية علاقاتها البحرية باليمن، ففي يونيو 2009 عقدت اتفاقية تسمح للأساطيل الإيرانية أن ترسو في ميناء عدن كجزء من مهمة إيران في محاربة القراصنة الصوماليين، ومن المتوقع أن تنضم للبوارج الحربية السـت الإيرانية المستقرة في المياه الصومالية لحماية السفن التجارية الإيرانية.

– ثانيا: الطموحات الإيرانية. ومواجهة التدافع الدولي نحو “القرن الأفريقي”:

ترتكز الطموحات الإيرانية في منطقة القرن الإفريقي، على ثلاثة محاور:

1- المحور الدبلوماسي:

من أجل عدم عزلتها والتصويت ضدها في المنظمات الدولية، ومحاولة إنشاء نظام عالمي بديل مع القوى المعادية للولايات المتحدة. حيث غدت تتبنى عدداً من الأهداف والأدوار في سياستها الخارجية، لجهة الحفاظ على سيادتها، وتأمين أمنها في مواجهة التحديات الخارجية. ومن منطلق القناعة لحقيقة أنها أصبحت قوة إقليمية لا يستهان بها، تسعى للقيام بدور المدافع عن العقيدة من ناحية، وتقود المعسكر الرافض لهيمنة القوى العظمى وتنشط في إقليمها وجوارها الجغرافي لإثبات وجودها من ناحية أخري. وفى كل الحالات، فقد كانت تعتبر نفسها قاعدة الانطلاق للثورة الإسلامية، كما تشعبت المصالح الإيرانية وأبعاد تداخلها، وربما تصادمها مع مصالح العديد من القوى الأخرى. لذا، قامت بتعزيز العلاقات الإيرانية مع بعض الدول الإفريقية المعادية للوجود الأمريكي في أفريقيا، وكسب تأييد دول القرن للمواقف الإيرانية، لاسيما أحقيتها في امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، ومسعى للعب دور يتجاوز الإطار القومي بل الإقليمي، الأمر الذي يساعدها على امتلاك العديد من الأدوات، التي تتيح لها المساومة في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة والملحة، عبر بناء عدة محاور تؤثر في إعادة تشكيل توازنات القوى، ومحاولة للخروج من الحصار المفروض عليها. (4)

2- “المحور الاقتصادي”:

الذي تهدف فيه إلى الحصول على اليورانيوم لتمويل برنامجها النووي، وتدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول المنطقة. وفي هذا السياق وقعت إيران العديد من الاتفاقات التجارية والصناعية وإطلاق المشروعات الاستثمارية مع دول عديدة، مثل كينيا واريتريا وأوغندا وغيرها. فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران وكينيا نحو 100 مليون دولار سنوياً، ويتطلع البلدان إلى رفع هذا المستوى إلى مليار دولار سنوياً. ولتجسيد تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين إيران وأوغندا، تم التوقيع على أربع اتفاقيات، كما تم إصدار بيان سياسي مشترك يؤكد على تعزيز هذا التعاون، وتم تدشين مصنع لتجميع الجرارات، وتنمية الثروة السمكية، وتخصيص بعض الأراضي لمؤسسات إيرانية بهدف إيجاد منطقة زراعية نموذجية، كما تم التوقيع على مذكرات تفاهم حول برامج إذاعية وتليفزيونية.

ومن ناحية أخرى، تعمل إيران على توظيف دبلوماسية النفط لكسب دول المنطقة. وتجسد كينيا نموذجاً لمحاولة إيران استمالة بعض الدول الأقل احتمالاً للتحالف مع إيران، ووقعت معها صفقة لبيعها أربعة ملايين برميل من النفط الخام سنوياً. وفى أوغندا، والتي اكتشف فيها النفط مؤخراً أعلن رئيسها أثناء زيارته مؤخراً لإيران، أنه يفكر ببناء مصفاة لتكرير النفط ومد خط أنابيب النفط. ودخلت شركة “الغاز الإيرانية الوطنية” مجال البحث عن بترول السودان واستكشافه وإنتاجه وذلك في شكل كونسرتيوم من الشركات النفطية الغربية والآسيوية للاستفادة منه – ووفقاً لتقديرات إدارة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة تبلغ احتياطيات النفط المؤكدة في السودان في يناير 2011 نحو 5 مليارات برميل، ويبلغ إنتاجه منه 470 ألف برميل يومياً – عقب انسحاب شركة “شيفرون” الأمريكية بسبب الرفض الغربي والكنسي المتمثل في جماعات التنصير الأمريكية النشطة في جنوب السودان.

3- المحور الجيو – استراتيجي والأمني:

الواقع أن التنافس بين القوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي انتقل إلي حلقة جديدة وهى الصراع فيما بين هذه القوي عليها، حيث يبدو التنافس الصيني- الأمريكي في القرن الإفريقي الأصعب والأكثر شراسة، ذلك أنه ينطوي على عنصر النفط الذي يعتبر أولوية لدى الطرفين ويؤثر بشكل أساسي ورئيسي على الأمن القومي لهما، كل من زاوية أوضاعه الداخلية الخاصة أو مكانته ومكانة اقتصاده. إذ تتطلع الولايات المتحدة إلى المزيد من الاعتماد على هذا النفط مما يجعلها تسعى للسيطرة على المخزون العالمي منه، وهذا ما دعاها إلى محاصرة النفوذ الأوروبي في القرن الإفريقي، ومواجهة التحرك الصيني.

وفي زخم هذا التنافس، تحرص السياسة الخارجية الإيرانية على تأمين الحصول على مواطئ قدام لها في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بهدف تأمين حركة الملاحة والتجارة الإيرانية من جهة، ومواجهة الانتشار المكثف للحشود العسكرية الأمريكية والغربية في المنطقة، التي تهدد قياداتها السياسية بحرب ضد إيران من جهة أخرى. والثابت أن إيران توفرت لها قدرة ومهارة في استثمار الجغرافية السياسية استراتيجياً، من حيث الضغط على خصومها في العديد من المناطق الجغرافية، ونقل المعركة الحالية، خاصة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، بعيداً عن الأراضي الإيرانية. ومن هنا تتبدى دلالات التوجه نحو المنطقة في ظل التكالب والتنافس المحموم والمحتدم مع قوى دولية وإقليمية أخرى، ساعية لمحاولة اختراق القارة ونهب ثرواتها.

وليس هناك جدوى من توضيح العلاقات الإيرانية بدول القرن الإفريقي بعيدا عن تأثيرات القوى الدولية والإقليمية الأخرى الفاعلة في القارة، وأهمها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني حيث تثير التحركات الإيرانية في القارة حفيظتها، وتجعلها تبحث عن مبررات لإثارة العداء إزاء إيران، وذلك علي النحو التالي:

– “إيران، ومواجهة النفوذ الأمريكي”:

فقد مثلت منطقة القرن الأفريقي بامتداداتها الجيواستراتيجية أهمية بالغة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وتحتل هذه المنطقة موقعاً مهماً في الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في إطار “الحرب على الإرهاب”، وإعادة طرح مشروع القرن الأفريقي الجديد الذي يهدف إلى: تأمين الممرات المائية العالمية في البحر الأحمر والمحيط الهندي بما يخدم المصالح الأمريكية، فضلاً عن تأمين الوصول إلى منابع النفط والمواد الخام، وذلك بإنشاء القاعدة الأمريكية في جيبوتي عام 2002، والتي تضمن السيطرة الإستراتيجية لأمريكا على المنطقة البحرية التي يمر بها ربع إنتاج العالم من النفط، كما أنها قريبة من خط أنابيب النفط السوداني، والذي يمتد من بورسودان في الشرق إلى خط أنابيب تشاد والكاميرون وخليج غينيا في الغرب.

وعليه، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية من أجل تأمين النفط الإفريقي، وضمان تدفقه إليها دون أية عقبات أو مشاكل، خصوصاً مع وجود تهديدات متزايدة يتعرض لها هذا النفط لأسباب داخلية وخارجية، والتنافس الدولي على موارد النفط في أفريقيا، منها التواجد العسكري المباشر في المنطقة، وذلك لتدريب الجيش الإثيوبي، وتوفير المساعدات الاستخباراتية واللوجيستية لإثيوبيا، كما توجد في جيبوتي القاعدة العسكرية الأمريكية في المنطقة التي توفر قوات التدخل السريع لأية عمليات عسكرية قد تشارك فيها الولايات المتحدة.

ومن هذا المنطلق، تواجه الولايات المتحدة النفوذ الإيراني المتصاعد في القرن بشكل أساسي وخصوصاً مع السودان والصومال واليمن، حيث إن الوفود الرسمية الإيرانية لا تنقطع عن زيارة العواصم والمدن الإفريقية، لتحقيق العديد من المصالح وكسب أصدقاء جدد لهم إسهامهم في السياسة الدولية بطرق وأساليب ووسائل متعددة. وقد طورت إيران علاقاتها بالسودان التي اعتبرته بوابة الثورة الإيرانية لتصدير الثورة، فضلا عن استقطابه للتحالف ضد الولايات المتحدة، وبدأ تعزيز العلاقات الإيرانية السودانية منذ عام 1985، واكتسب أهمية أكبر لكونه لا يمثل مدخلا للدائرة العربية فحسب، بل أيضا للدائرة الإفريقية، وازداد تطور العلاقات منذ عام 1989 بمجيء ثورة الإنقاذ للحكم وقد تم الاتجاه إلى التعاون متعدد الأبعاد التي تراوحت بين الاقتصاد والبعد العسكري والاستراتيجي.

ويعد النشاط الإيراني في منطقة القرن وفي مناطق أخرى من العالم نتاجًا للدبلوماسية الشرسة التي شنت ضد طهران وتهدف إلى تخفيف الضغوط الغربية والعقوبات الناجمة عنها، وبصورة أعم من أجل مكافحة النظام العالمي الذي تراه إيران على أنه معاد لمصالحها. وفي الوقت الراهن فإن علاقة إيران مع بعض الدول ليست بالقوة الكافية للوصول إلى أهدافها وبالتالي لا تمثل قلقًا كبيرًا للولايات المتحدة، ونقطة الضعف الحالية لشبكة التحالفات الإيرانية ليست مجرد الانقسامات بين إيران وبين شركائها المستهدفين فقط، ولكن أيضًا بسبب الضغوط الدائمة من الولايات المتحدة.

– “إيران. ومواجهة النفوذ الصهيوني”:

تعتبر منطقة القرن الأفريقي مسرحاً استراتيجياً حيوياً للكيان الصهيوني في إدارة صراعه وعلاقاته مع الدول العربية، ويهدف تواجدها إلى استمرار مصادر النزاع عبر دعم قوى التوتر في كل من الصومال والسودان (بشكل غير مباشر من خلال إريتريا)، ودعم علاقاتها بكل من إثيوبيا وكينيا وإريتريا، ضمن منظومة من المصالح الأمنية والعسكرية، لتأمين تواجده الاستراتيجي في المنطقة، والذي يحمل أهدافاً عسكرية في المقام الأول. كما كانت مهمته هو الحصول على الاعتراف الدبلوماسي من جانب الدول الإفريقية، وذلك في إطار سعيه الدؤوب إلى تثبيت وضعه كدولة طبيعية في المجتمع الدولي، من خلال برامج المساعدات الخارجية، وتطوير التعاون الاقتصادي مع هذه الدول.

ويأتي ذلك في إطار عقيدة الأمن القومي”الصهيوني”؛ والتي تحقق له العديد من الأهداف الإستراتيجية، ويأتي في مقدمتها تطويق مصر من خلال السيطرة على النطاق الجغرافي المحيط به، وتأمين الملاحة في البحر الأحمر، وتأمين واردات الماس، وصادرات السلاح، وضمان مورد دائم للمواد الخام التي تحتاجه الصناعات الصهيونية وفتح جبهة خلفية للصراع تهدد أمن الأمة العربية، وفي هذا السياق يؤكد بن جوريون على حقيقة هذه الأهداف بقوله: “إن المساعدات الصهيونية للدول الأفريقية تهدف إلى كسر طوق العزلة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها  الكيان الصهيوني، وتمهد الطريق أمام توسيع أسواق التصدير للمنتجات الصهيونية، وتأمين فرص عمل لعدد من القوى البشرية الصهيونية الفائضة”.

فيما تتعامل إيران في سياستها الخارجية على المنفعة المتبادلة من منطلق “براجماتي”، حيث ترتبط بعلاقات قوية مع أوغندا التي تربطها علاقات بالكيان الصهيوني، كما أن لإيران علاقات مع جيبوتي التي تربطها علاقات بالولايات المتحدة، وتختلف دوافع إيران عن دوافع الكيان الصهيوني في الارتباط بشرق إفريقيا، حيث تأتي الدوافع الصهيونية على خلفية نشاط الجماعات الإسلامية في كينيا وبروز النشاط الإيراني في كل من كينيا وأوغندا، فضلا عن الحرب الأهلية في الصومال وما يتردد بشأن وجود لعناصر من “القاعدة” هناك، بالإضافة إلى ظهور خلافات مصرية سودانية مع دول حوض النيل، فيما اعتمدت إيران في علاقاتها على المنفعة وتقديم المساعدات الزراعية والصناعية.

– ثالثا: موقع العرب في ظل التدافع الدولي والإيراني نحو “القرن الأفريقي”:

تعد منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية بالغة للبلدان العربية وتشكل عمقا إستراتيجيا لها. وترتبط بها على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، والتفاعل التاريخي والحضاري. فهذه المنطقة تشكل جزءا مهما من الوطن العربي، لوجود ثلاث دول فيها تنتمي للوطن العربي، وهي السودان وجيبوتي والصومال.

ويمكن القول، بأن عروبة السودان والصومال وجيبوتي، والتحكم في منابع النيل وتأمين الاحتياجات المائية لكل من مصر والسودان والصومال، وأمن البحر الأحمر، تمثل محاور مهمة بالنسبة للوطن العربي في هذه المنطقة، نظرا لارتباطها المباشر بالأمن القومي العربي بشكل عام، وتأثيرها في المصالح الحيوية لبعض الأطراف العربية على وجه الخصوص.

والعرب لا محالة معنيون بكل غاشية تغشى القرن الإفريقي بحكم أرتباطهم به أمنياً وثقافياً واقتصادياً، ومن المفترض أن يكون لهم اهتمام بكل ما تشهده ساحة القرن الإفريقي من صراعات ونزاعات أياً كانت طبيعتها، ولكن بما أن العرب في وضع لا يحسدون فيه من حيث التفرق، وانزواء كل دولة من دولهم في حدود ذاتها مغلقة عليها بابها من الطبيعي أن يقضي الأمر في غيابهم جميعاً، أو أن يكون صوتهم خافتاً ووجودهم باهتاً.

فثمة تحرك عربي شوهد من بعض الدول العربية كمصر والسعودية وقطر وليبيا للإسهام في حل نزاعات القرن الأفريقي، ومثل هذا التحرك وإن كان تعبيراً عن إدراك أهمية القرن الإفريقي للأمن العربي، إلا أنه من الطبيعي أن يكون بالغ التأثير ما لم يتسم بالمتابعة الجادة ليخدم فقط مصالح الإستراتيجية العربية، وإلا لن ينجح في توجيه المسار وفق مقتضيات الإستراتيجية العربية إن كان لهذه الإستراتيجية وجود فعلي، أو في قطف ثمار أي طارئ سياسي ايجابي من الممكن أن يشهده القرن الإفريقي، بل علي العكس ربما جلب الضرر، وحيث أن غالب السياسات العربية لا تنطلق من دراسات تقدمها جهات متخصصة، ولا تنطلق أيضا من إستراتيجية أمنية موحدة من الطبيعي أن تكون دون مستوى السياسة الصهيونية في التأثير، وأن تأتي التحركات العربية في القرن الإفريقي علي غير تناسق فيما بينها، وأن ترى لكل بلد عربي موقفاً مغايراً لموقف الأخر كل حسب مصلحته السياسية. وفي ظل اشتداد حالة الهزال السياسي في الجسم العربي والذي لا يمكنهم من اتخاذ قرارات ورسم سياسات تتجاهل أو تتنافس أو تتزاحم مع إرادة وسياسات الولايات المتحدة باعتبارها القوة التي لا يعصى لها أمر، ولا يؤمن منها جانب إذا ما زوحمت، ونوفست في تخطيط مناطق نفوذها الاستراتيجي، فالعرب لا يستطيعون مواجهاتها، أو تجاهل خططها بوضع سياسات تنبع من المصلحة العربية المحضة.

هذا، فإن ما يحدث من تطورات متلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية ينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي، وذلك نتيجة الانفلات الأمني وانتشار التطرف وظاهرة القرصنة، والتي فتحت المنطقة أمام وجود عسكري دولي دائم يحد من حرية حركة الجوار العربي، وإنها ستؤثر يقيناً في أمن البحر الأحمر وتدفق مياه النيل إلى كل من السودان ومصر. فلقد تم انفصال جنوب السودان برعاية دولية وأفريقية وغياب عربي واضح، وتقوم أوغندا وبوروندي بعملية حفظ السلام في الصومال، كما باتت دول إفريقية كبرى مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا والسنغال من أبرز المؤيدين لجمهورية أرض الصومال داخل الاتحاد الإفريقي. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول الغربية أضحت تفضل الحل الإفريقي على الحل العربي بالنسبة لمناطق التوتر والتأزم على خط التماس العربي الإفريقي. لذا، فإنما يحدث في منطقة القرن الإفريقي من تفاعلات وتجاذبات سيفضي لا محالة إلى إعادة تشكيله وصياغته من الناحية الجيوستراتيجية، حيث يعكس طبيعة التحالفات الإقليمية والدولية الجديدة، وأن هذا التغير سيكون معادياً للمد العربي والإسلامي في المنطقة.

ومع قيام موجة التغيير بثورات الربيع العربي، بدا أن إعادة التفكير في خريطة المصالح الإستراتيجية العربية أمر مهم، لتسليط الضوء على واحدة من المناطق التي أهملت أو حيدت في العقود الماضية، وهي منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل. والذي أكد علي تأثير الغياب العربي في عزل الدول الأفرو – عربية عن المنطقة وحرمانها من أي نفوذ أو مبادرة لحل الصراعات التي تنشب في الإقليم كما يحدث في السودان والصومال. وهو ما أدي إلي ترك المنطقة إلي النظام الدولي والإقليمي الذي لم يعمل على حل مشاكل منطقة القرن الأفريقي، بل عمقاها بحروب الوكالة وبالتشجيع علي قيام دولة جنوب السودان والذي سيؤثر سلبياً في التوازن الإستراتيجي في المنطقة إذا ما سادت علاقات التوتر مع السودان بدلا من التعاون، فيما حيد العرب تمامًا طوال العقدين الماضيين عن التأثير في مجريات الأمور هناك، أو حتى المساهمة في حفظ أمن الممرات البحرية الهامة التي تسيطر عليها المنطقة في خليج عدن وباب المندب، لذا وجهت دعوات إلى تنسيق السياسات العربية مع قوى رئيسة في الإقليم كالسودان وإثيوبيا من أجل إيجاد صيغة عربية – أفريقية مشتركة لحفظ الأمن القومي المشترك من التدخلات الخارجية سواء من أطراف الإقليم (إيران، الكيان الصهيوني، تركيا) أو من المجتمع الدولي.

ويشكل التكالب والتنافس الدولي، ولاسيما الإقليمي بين إيران و الكيان الصهيوني، تهديداً مباشراً، وينال من أسس ودعائم الأمن القومي العربي في صياغاته الكلية، وفى امتداداته الأفريقية، خاصة في ظل الغياب العربي، حيث إن الوجود الصهيوني في القرن الإفريقي عبر كينيا وإثيوبيا وأوغندا سيؤثر حتماً في أمن المنطقة ككل، هذا بالإضافة إلى أنه سيشكل تهديدا للمصالح الإستراتيجية للعرب – أمنياً واقتصادياً- حيث إن العلاقات الصهيونية بكل من كينيا وإثيوبيا معا ستجعل المنطقة ساحة للصراع بين هذه القوى الثلاث. ويتم التدليل على ذلك من خلال محاولة الكيان الصهيوني تهديد الأمن المائي المصري، وممارسة الضغط علي مصر، وذلك عبر اختراق ما يسمى بدول (تجمع الاندوجو) تارة، وإثارة الخلافات بين دول حوض النيل بشأن الاتفاقية الإطارية لحوض نهر النيل المعروفة باتفاقية عنتيبي تارة أخري.

ويشكل كثافة النفوذ الإيراني في العمق الأفريقي، وفى ضوء التراجع وسلبية الأداء العربي، خصماً موضوعياً من الوجود والمصالح العربية، حيث تقوم باختراق النظم الأمنية والإقليمية الخاصة بالقرن الأفريقي بمفهومه الجيوسياسى، باعتباره ممراً وبوابة للممرات البحرية الكبرى التي تطل عليها المنطقة العربية وهى البحر الأحمر. كما تلعب دوراً خفياً في الصومال، وتزيد من تعقيدات استمرارية المعضلة الصومالية، وذلك على الرغم من التباين المذهبي، حيث الطابع السنى للجماعات الصومالية، إلا أن إيران ومثلما فعلت في السابق في أفغانستان، فإنها لا تتردد في التعاون تكتيكياً، مع أي تنظيمات سنية أصولية. وعلى الرغم من أنه توجد جاليات عربية مؤثرة في بعض الدول الأفريقية خاصة في الغرب، فأنها لا تمارس دوراً سياسياً فاعلاً في خدمة المصالح العربية، بل في الاتجاه المعاكس في خدمة المصالح والأهداف الإيرانية. كما حاولت تفجير مناطق الأطراف للنظام الإقليمي العربي، فلم تكن بمنأي عن النوايا والتحركات الصهيونية، ليس من زاوية التطابق الكلى في الأهداف المرجوة، ولكن لعدم ترك هذه الساحة بالمطلق، بل ربما لتوظيف كثافة الوجود والنفوذ الإيراني ضمن الأوراق الضاغطة والمهمة في أي مقايضات سياسية محتملة، أو لدرء أخطار متوقعة.

رؤية مستقبلية:

يمكن القول بأن كافة محاولات التكالب والتنافس الدولي، وتجليات خطورة الاختراق للقارة الأفريقية ترتبط بمحاولات استعمارية جديدة بإعادة صوغ حدود العالمين العربي والأفريقي، من خلال عمليات فك وتركيب جيوستراتيجية، الأمر الذي يؤدى إلى خلق كيانات جديدة مصطنعة، تنال من مقومات وأسس النظم الإقليمية السائدة.

كما جاء التغلغل الإيراني في منطقة القرن الإفريقي، لمواجهة النفوذ الأمريكي و الصهيوني الذي يتخذ أبعاداً اقتصادية وأمنية وعسكرية على حساب الجانب العربي ويهدد الأمن القومي العربي، خاصة فيما يتعلق بمياه النيل والسواحل الشرقية للبحر الأحمر. الأمر الذي يتطلب من الجانب العربي التنبه إلى خطورة ذلك، والسعي لتطوير التفاعل العربي – الأفريقي عبر صيغ مؤسسية للتنسيق والتخطيط في كافة المجالات، وأن لا يبقى هذا التفاعل رهن العلاقات الثنائية التي تحكمها الأوضاع السياسية والظروف الآنية. كما إن تدعيم الأمن القومي العربي يتطلب الاعتماد على عدد من الركائز الواقعية والموضوعية لتغيير الواقع السلبي في العلاقات بين العرب وشعوب منطقة القرن الأفريقي، من بينها:

– ينبغي أن تتعامل النظم العربية مع محركات الصراع في القرن الإفريقي في ضوء المشروعية القانونية للنظام الإفريقي في مرحلة ما بعد الاستعمار، وكذلك أي تسوية سلمية محتملة تقبلها أطراف الصراع الفاعلة.

– يجب تأسيس حوار استراتيجي عربي – إفريقي بمفهومات وصيغ جديدة، فقد تم تجاوز المرحلة التي قام فيها هذا الحوار على أساس المقايضة والمنافع السياسية المتبادلة، ومن ثم يجب الدخول في مرحلة جديدة تؤسس على إقامة شراكة عربية إفريقية حقيقية، قوامها المصالح الإستراتيجية المشتركة والقضايا ذات الحساسية لكل من الطرفين، من أجل تحقيق نهضة حضارية لبلدان الجنوب بصفة عامة، ومواجهة واقع الإخضاع والتهميش الذي يعانيه العرب والأفارقة.

– معالجة آثار الفترة الماضية بالاستفادة المأمولة من الثورات العربية، والتي سيكون لها انعكاس على السياسة الخارجية العربية، لوضع حد لسياسة تهميش العرب في هذه المنطقة سواء من أطراف إقليمية أو دولية.

– ضرورة تأكيد المدخل الأمني لتحقيق التعاون، حيث إن هاجس الأمن كثيراً ما يطغى على هاجس التنمية، ومن ثم ينبغي العمل بصورة مشتركة على التخلص من بؤر الصراع والتوتر العربية – الإفريقية، وإيجاد حلول عادلة لها يقبلبها كل من الطرفين.

– الاهتمام بمنظومة الأمن في البحر الأحمر على اعتبار أنه ممر التفاعل الرئيس بين العرب والقرن الأفريقي. ويقتضي هذا الأمر أن تكون لمصر والسودان والسعودية واليمن آلية إقليمية لتحسين بيئة الأمن في البحر الأحمر ودعم علاقات الجوار مع القرن الأفريقي.

– ضرورة التوسع في إقامة الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية المشتركة ليحل محل أسلوب المنح والهبات المالية ذات الطابع التقليدي، حيث إن أثر هذه المشروعات أكبر في تعميق الصلة الحقيقية بين العرب والأفارقة.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى