الأمن القومي – National Security

إنّ المتوغل في دراسة تاريخ الحضارات القديمة يعرف أنّ الأمن ليس مجرد مصطلح تمت صياغته حديثاً ولكنه ظاهرة وحالة يسعى الإنسان إلى تحقيقها منذ القدم، وحتى يتضح لنا ذلك في هذا المقال يجب علينا بدايةً قبل طرح مفهوم الأمن بشكل عامّ ومفهوم الأمن القومي بشكل خاص التطرّق لظاهرة الأمن الذي سعى الإنسان لتحقيقه في الحضارات القديمة.

أولاًنبذة تاريخية عن الأمن

تؤكد الآراء التي وردت حول شكل الجماعة الإنسانية الأولى أهمية عامل الأمن في البناء الحضاري، ولكن تتضارب الآراء حول ماهية الخلية الاجتماعية الأولى؛ فيرى البعض أنها كانت جماعة من الأفراد لا تربطهم روابط القربى وإنما دفعهم العيش معاً إلى التعاون والحصول على القوت، وهناك رأي آخر يشير إلى أنّ الجماعة كانت تربطها رابطة روحية، وهي الاعتقاد بأنّ أفراد هذه المجموعة يندرجوا من  سلف واحد قديم مشترك، أما الرأي الثالث فيرى أنّ الأسرة كانت هي الخلية الاجتماعية الأولى التي تربطهم صلة القرابة وتجمعهم سلطة رب الأسرة.

وبالعودة إلى تاریخ العراق القدیم تكشف لنا أنّ ملوك وادي الرافدين قد تصرفوا بحساسية مطلقة بخصوص أمن بلادهم عندما كان أمن العراق  -أكد قديماً- يُقرّر من الناحیة الغربیة بضم المدن التي تقع قرابة ساحل البحر الأبیض المتوسط لتأمين الحدود من البحر، كذلك فالسیطرة على المناطق الجبلية الشرقية والشمالية الشرقية من خلال ضم مدينتي نينوى وآشور من الشرق جعل الأكديون محور سلوكهم الخارجي إضعاف أو احتلال بلاد عيلام والأقاليم الأخرى من إیران لتأمين الحدود الشرقية من التهديد والسيطرة على الثروات الاقتصادية في المنطقة.

كذلك عند دراسة سلوك الفراعنة نجد أنّ مفهوم الأمن القومي قد ترسخ  في تفكير القیادات الفرعونیة؛ إذ تجلى ذلك من خلال التصرف المسؤول من قِبِل هذه القيادات بصدد تأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية آنذاك حين أدركت القيادة أنّ الأمن لا يقف عند سیناء بل يجب أن يتعدى ذلك إلى جبال طوروس شمال سوريا، على الرغم من أنّ مصر الفرعونية تقع في قارة إفریقیا وتحكمها قيادات منغلقة ولا تملك الرغبة في التوسع الإقليمي، ولكن كانت حروبها التي قادها الملكين (تحتمس) و(رمسيس) تعبر عن إدراك فرعوني لمفهوم الأمن القومي الذي يفرض منع وجود أيّة قوة أجنبية قريبة من الحدود الشرقية لمصر.

وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر نما المفهوم كممارسة؛ إذ كان لبروز الظاهرة القومیة التي أدت في أوروبا إلى تفتت واندماج عدد من المجتمعات السیاسیة وخلقت حالة عدم الاستقرار إلى الإیمان بأنّ حدود الدولة لا بدّ أن تكون ممتدة؛  لأنّ  هناك أفراد  ينتمون إلى الأمّة، وهذا بدوره رسّخ في ذهن القيادات القومية الأوروبية فكرة العوائق الطبیعیة عند الحدود حتى تكون خطوط دفاعية ضد احتمالات الهجوم من قوى خارجية. فسادت الرغبة في إيجاد الحدود القادرة على الدفاع عن الجسد القومي لتفادي الدولة المفاجأة من أي عدو يحاول النيل من الجسد القومي، وهذا المفهوم برّر احتلال أراضي الغير بغية  تأمين الحماية الذاتية، وأضحى الأمن القومي تعبیر لا يفارق إدراك السیاسیین الأوروبيين من أجل شحذ الهمم ودرء الخطر الذي يواجه الأمة، وإثر الظروف التي سادت العالم بعد الحرب العالمیة الثانیة رسى الفقه السياسي على اصطلاح “الأمن القومي”.

ثانياًمفهوم الأمن القومي:

حتى يتضح مفهوم “الأمن القومي” يجب التطرق تجزئة المصطلح بعرض تعريف “الأمن” وتعريف “القومية” على مستويين وهما المستوى اللغوي والمستوى الاصطلاحي، ثم التطرق لأهم تعريفات الأمن القومي، وأيضا ينبغي طرح مستويات الأمن الأربعة:

  1. تعريف الأمن لغة واصطلاحاً:

الأمن في اللغة هو (نقيض الخوف) والفعل الثلاثي (أمِن) أي حقق الأمان. قال ابن منظور: “أمنت فأنا آمن، وأمنت غيري أي ضد أخفته، فالأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، فيقال آمن به قوم وكذب به قوم”.

أما مفهوم الأمن على المستوى الاصطلاحي فيشير عموماً إلى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف، وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجسدي محلّه، والشعور بالأمان هو حق إنساني أصيل لا يتجزأ ولا يمكن أن يتم تقسيمه سواء أكانت الأسباب اجتماعية أو عرقية وغيرها.

  1. مفهوم القومية لغة واصطلاحاً:

المادة اللغوية لكلمة القومية هي (ق.و.م)، والقوم هم الجماعة التي ترتبط بمكان ما وتقيم فيه. وعندما يوجد قوم من الناس في أرض واحدة ويمارس أفراده الحياة بثقافة واحدة توجد بينهم علاقات أخرى قوية تدور حول المصلحة المشتركة والتضامن والنسب، وعلاقات اجتماعية تجعلهم يداً واحدة، وتلك الروابط هي التي توجِد ما يُسمى بالقومية.

أمّا على الجانب الاصطلاحي، فإنّ فكرة القومية قديمة قدم الاجتماع البشري، وقد عبّر عنها ابن خلدون بفكرة العصبية، وعناصر القومية لدى أغلب مفكري القومية العرب هي الأرض المشتركة، والتاريخ، والثقافة المشتركة، والمصالح المشتركة.

 أمّا قضية تأسيس القومية أو بالأحرى بناء الدولة القومية فهذه القضية محل الاختلاف، فهناك رأيان حول علاقة القومية بالدولة؛ الأول يرى أنّ الدولة تجسيد لمعنى القومية، والثاني يفصل بين القومية والدولة القومية، ويرجع ذلك الخلاف إلى أنّ القومية كيان اجتماعي تتوافر فيه المقومات الأساسية السابقة، ومن الطبيعي أن يتجه ذلك الكيان إلى إنشاء نظام سياسي يصبح وعاء له، إلّا أنّ ذلك لا يحدث دائما بالضرورة في كل القوميات، فهناك قومية مجزأة، أو مستوعبة بجانب أخرى في دولة واحدة، وهناك قومية بلا دولة؛ فالقومية تنتمي إلى طائفة من الظواهر التي تتعلق بعملية تحديد هوية أو انتماء جماعات من الناس.

ثالثًاأهم تعريفات الأمن القومي:

سبّب مفهوم الأمن هاجساً كبيراً لدى المفكرين وصنّاع القرار على حدّ سواء؛ إذ مثّل ضمان البقاء والأمن والاستمرار أولوية السياسة الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من أنّه مصطلح غامض؛ فهو مصطلح خلافي بالأساس غير أنّه يبقى مفهوماً بالغ الدلالة، وهو ما ذهب إليه روني ليبشتز Ronnie D. Lipschutz في قوله: “لا يوجد فقط صراع حول الأمن بين الأمم بل أيضاً صراع بين الأمم حول مفهوم الأمن”.

وكما أوضحنا وجود خلاف كبير حول مفهوم الأمن القومي فإنّه يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين؛ إذ يتم تعريف الأمن القومي تقليدياً على أنّه الحماية من الهجوم الخارجي، وبالتالي فقد تمّ النظر إليه بشكل أساسيّ على أنّه يعني دفاعات عسكرية في مواجهة تهديدات عسكرية، وقد ثبت أنّ هذه الرؤية ضيقة جيداً؛ فالأمن القومي يتضمن ما هو أكثر من تجهيز قوات مسلحة واستخدامها.

والأكثر من ذلك، فإنّ مثل تلك الرؤية قد تجعل المرء يعتقد بأنّ أفضل طريق لزيادة الأمن هو زيادة القوة العسكرية، وعلى الرغم من أنّ القوة العسكريّة مكون مهم جداً للأمن، فإنّ التاريخ ملئ في واقع الأمر بأمثلة لسباقات تسلّح تسبّبت في إضعاف الأمن لا في تقويته.

تبدأ مثل هذه السباقات عادة بقيام دولة بتقوية قوتها العسكرية لأغراض دفاعية حتى تشعر أنها أكثر أمناً، ويؤدي هذا الفعل إلى إشعار الدول المجاورة بأنها مهددة، وترد الدول المجاورة على ذلك بزيادة قدراتها العسكرية، ممّا يجعل الدولة الأولى تشعر أنها أقل أمناً فيستمر السباق.

وقد أدّى ذلك إلى بروز الحاجة لصياغة تعريف أوسع للأمن القومي يتضمن الأبعاد الاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية، بالإضافة إلى البعد العسكري، وقد قدّم أرنولد ولفرز مثل هذا التعريف عندما قال: “يقيس الأمن بمعناه الموضوعي مدى غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة، ويشير بمعناه الذاتي إلى غياب الخوف من أن تتعرض تلك القيم إلى هجوم”. ويعرف تريجر كروننبرج الأمن القومي بأنّه “ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية”، ويعرفه هنري كيسنجر بأنّه “أية تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء”. أمّا روبرت ماكنمارا فيرى أنّ “الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة”.

وعليه يمكن أن نستخلص ممّا سبق أنّ مفهوم الأمن القومي مرّ بمرحلتين مهمتين نتيجة التطورات العالمية: في المرحلة الأولى نُظِر إليه بالنظرة الاستراتيجية الضيقة وهي صد هجوم عسكري معادٍ، وحماية الحدود من الغزوات الخارجية، والمحافظة على الاستقلال الوطني. وفي المرحلة الثانية صار على الدولة أن تؤمّن مواطنيها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ضدّ أخطار متعددة فرضتها طبيعة الانفتاح الواسع على العصر الحديث.

وبعد انتهاء عصر العزلة وذيوع فكر العولمة تراجعت سيادة الدولة وتناقصت استقلالية القرار الوطني لصالح قوي إقليمية أو دولية، فهناك قرارات أصبحت تصدر بالمشاركة بين السلطة الوطنية وغيرها من السلطات الخارجية مثل المنظمات الدولية، ولم تعد القرارات الاقتصادية حكراً على المسؤولين في الدولة، وإنما أصبحت مشاعاً، بالإضافة إلى تأثرها بالمؤسسات الخارجية مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرهما، ما يعد انتقاصاً من السيادة ومن الأمن القومي.

رابعامستويات الأمن:

لبيان مستويات الأمن أهمية  تتجلى في توضيح الخلط بين العديد من المفاهيم، وتنقسم هذه المستويات إلى أربعة مستويات كالتالي:

1.أمن الفرد ضد أي أخطار تهدد حياته أو ممتلكاته أو أسرته.

2. الأمن الوطني ضد أي أخطار خارجية أو داخلية للدولة وهو ما يُعبَّر عنه “بالأمن القومي.”

3. الأمن الإقليمي باتفاق عدة دول في إطار إقليم واحد على التخطيط لمواجهة التهديدات التي تواجهها.

4. الأمن الدولي أو العالمي، وتتولاه المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.

خامساًالنظريات الأساسية في العلاقات الدولية فيما يخص القضايا الأمنية:

انطلاقاً من نسبية الأمن القومي، على المستوى النظري كمفهوم، وعلى المستوى العملي كإطار استراتيجي تعددت المدارس والاتجاهات في تحليل ماهية الأمن القومي، أبعاده ومؤشراته، وبالرغم من عدم وجود تصنيف حاسم لكتابات الأمن القومي، إلّا أنّ هناك ثلاث نظريات أو مدارس أساسية للتفكير في العلاقات الدولية فيما يخص القضايا الأمنية لكل منها رؤى متعارضة، وهي: النظرية الواقعية، والنظرية الثورية، والنظرية الليبرالية، وفيما يلي استعراض لأبرز مقومات تلك النظريات:

النظرية الواقعية:

تركز النظرية الواقعية على البعد الاستراتيجي ووفقا لها فإنّ الدولة هي الفاعل الدولي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، أما النظام الدولي يتسم بالفوضوية Anarchy  لغياب سلطة دولية مركزية آمرة، ولذلك تتولى الدول فرادى أمر أمنها، وتدافع عن مصالحها وذلك من خلال استحواذ القوة واستخدامها.

ووفقا لهذه النظرية الواقعية فإنّ الأمن هو أمن الدولة State Security يصل بها إلى التكامل الإقليمي والتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي للدولة، وهو بذلك يحفظ أمن الفرد والجماعة ويحتويه، ويزدهر هذا المفهوم للأمن في ظل مناخ وعلاقات الصراع والتوتر والحرب، ولذلك فقد ازدهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية إثر الانقسام الدولي الذي حصل بعد الحرب العالميّة وبداية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وقد برز الاهتمام بسياسات الأمن Security Policies، أكثر من الاهتمام بمفهوم الأمن Concept of Security، وانعكس ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء مجلس الأمن القومي الأمريكي National Security Council؛ ليلعب دور المنسق بين استراتيجيات الدولة. ومنذ ذلك الحين انتشر استخدام مفهوم الأمن القومي بمستوياته المختلفة حسب طبيعة الظروف المحلية والإقليمية والدولية.

الانتقادات التي وُجهت إلى النظرية الواقعية:

  • تضع هذه النظرية الأمن القومي كقيمة عليا، الأمر الذي يتطلب تحويل الموارد القومية وتخصيصها في أغراض الدفاع، ويرفع من نفقة الفرصة البديلة لهذه الموارد على حساب التنمية، وقد يقود ذلك أيضاً إلى نموذج الدولة البوليسية.
  • اقتصار مفهوم الأمن على الأبعاد الخارجية خاصة التهديدات العسكرية من جانب دول منافسة، وإهمال الأبعاد الداخلية للمفهوم.

النظرية الثورية:

يسعى أنصار النظرية الثورية إلى تغيير النظام لا إصلاحه فقط، ويرون أنّ التغيير واجب؛ لأنّ النظام يعاني من حالة ظلم واضح، ومن هنا فمن الضروري القيام بتغيير سريع وثوري، وقد وجدت هذه الرؤية صدى كبيراً  في دراسة علاقات الشمال والجنوب والتنمية في عالم الجنوب، وذلك بسبب الفقر المدقع الذي تعانيه أغلبية شعوب العالم. وتعلي النظريات الثورية من شأن قيمة العدالة، وترى الحرب كمحصلة للاستغلال الاقتصادي من دول الشمال ودول الجنوب، وترى التغيير في هذه العلاقات الاقتصادية مفتاحاً لحل مشكلة الحرب.

النظرية الليبرالية:

ترفض النظرية الليبرالية افتراضات النظرية الواقعية، فالدولة لدى الليبراليين ليست الفاعل الوحيد في علاقات الأمن الدولية، كما أنّ الدولة تتألف من العديد من المؤسسات والجماعات التي قد تتباين مصالحها وتدخل في مساومات للوصول إلى اتفاق عام حول تلك المصالح، وبالتالي فإنّ مفهوم الأمن في النظرية الليبرالية لا يقتصر على البعد العسكري، بل يتعداه إلى أبعاد اقتصادية وثقافية واجتماعية ذات أهمية، وتركز هذه النظرية على حرية المعاملات والفوائد المتبادلة التي يمكن للمجتمعات أن تجنيها من وراء الاعتماد المتبادل.

سادساًالمفاهيم المتداخلة مع الأمن القومي:

  • الأمن القومي والسياسة الخارجية:

في البداية يمكن القول إنّ هناك تداخلاً منطقياً بين مفهوم الأمن القومي وعدد آخر من المفاهيم التي تتداخل معه في نفس اهتماماتها، ويأتي على رأس تلك المفاهيم مفهوم السياسة الخارجية للدولة الذي يهتم بشكل رئيسي بالبيئة الدولية التي تتفاعل معها الدولة وكيفية صنع القرارات الدولية، إلى جانب دراسة سلوك الفاعلين الدوليين في إطار الحفاظ على مصالح الدولة الحيوية والعمل على تحقيقها، وهو أمر يتداخل مع اهتمام الأمن القومي أيضاً؛ فكما أوضحنا من تعريفات الأمن القومي كلّها تصب في كيفية حماية الدولة لقيمها الجوهرية التي تعد مصالح قومية تسعى لحمايتها وتحقيقها في البيئة الدولية، علاوة على كونها مكون أساسي من صياغة السياسة الخارجية للدولة؛ إذ تعرف السياسة الخارجية للدولة على أنّها “برنامج عمل الدولة في العالم الخارجي بالاستناد إلى أهداف ومصالح الدولة القومية”، ولكن على الرغم من هذا التداخل فإنّ هناك ما يميّز بين المفهومين؛ فالأمن القومي لا يفرّق بين الخارج والداخل أو بمعنى آخر الأمن القومي يتناول الأمن للدولة كوحدة واحدة، ومن ثمّ فإنّ السياسات الداخلية والخارجية تقع ضمن نطاق اهتمام الأمن القومي بوصفه حماية قيم الدولة وحفظ سلامتها لا يقتصر فقط على الاعتداءات الخارجية وتحقيق مصالح الدولة في الخارج إنّما يمتد أيضاً ليشمل سلامة الداخل باعتباره أحد الأمور التي يمكن أن تهدد الأمن القومي للدول خاصة مع انتشار سيناريو تفجير الدول من الداخل؛ فالسلوك الخارجي جزء لا يتجزأ من السلوك الكلي للدولة الرامي إلى حفظ قيمها الجوهرية بالنسبة لمفهوم الأمن القومي.

  • الأمن القومي والمصلحة القومية

يعُدّ مفهوم المصلحة القومية مفهوماً تحليليّاً يمكن استخدامه لفهم وتفسير السلوك الخارجي لدولة ما وفهم دوافع وأسباب السلوك الخارجي للفاعلين الدوليين، كما يُستخدَم أيضاً لتقييم السياسة الخارجية للدولة؛ فكما أوضحنا تستهدف السياسة الخارجية تحقيق مصالح الدولة القومية، ومن ثمَّ فإنّ مفهوم المصلحة القومية قد يتداخل هو الآخر مع مفهوم الأمن القومي؛ فكلّ منهما يُستخدَم كمفهوم تحليلي لتقييم سلوك الدولة الخارجي الذي يهدف في المقام الأول إلى حماية قيم الدولة الجوهرية، إلّا أنّ مفهوم الأمن القومي تجاوز مفهوم المصلحة القومية من ناحية الاهتمام؛ فهو أيضاً يهتم بتقييم السلوك الداخلي للدولة ما جعله يتداخل أكثر مع مفهوم آخر وهو مفهوم المصلحة العامة.

  • الأمن القومي والمصلحة العامة:

يعاني مفهوم المصلحة العامة من نفس المعضلة التي يعاني منها مفهوم الأمن القومي؛ فكلاهما مفهومان يشملان أبعاداً كثيرةً ويهتمان بالداخل والخارج، وكلاهما أيضاً يمكن أن يُطلَق عليه مفهوماً هلامياً لا يمكن وضع حدود واضحة له نظراً للأبعاد التي يشملها، وهو ما تسبّب في كثير من المشاكل في الاستخدام العمليّ للمفهومين، ومن الناحية النظرية فإنّ كلاً منهما يتداخل مع الآخر إلى الحدّ الذي يجعل هناك صعوبة في الفصل بينهما؛ فما يعدّ أمناً قومياً يعدّ مصلحة عامة والعكس صحيح.

سابعاًأبعاد الأمن القومي:

تمّ استخدام مصطلح الأمن القومي للتعبير عن مجموعة أدوار الدولة التي يجب أن تتخذها لضمان سلامة الأقليم والشعب وكيفية الحفاظ على مكتسبات الشعب وكيفية الدفاع عن هذا الإقليم، ويتمثّل دور الدولة في الدفاع عن الإقليم والشعب من كل أنواع الأخطار سواء كانت داخلية أم خارجية.

ومع التخلي عن المفهوم الضيق لمفهوم الأمن القومي الذي كان يتمحور حول الجانب العسكري وأهمية زيادة الجانب العسكري فقط، وأيضاً إلى جانب انفتاح العالم كلّه على بعضه وتأثر مفهوم الأمن القومي بالعلاقات الدولية فقد تحور دور الدولة أيضاً، وأصبح هناك العديد من الأبعاد التي انطوت تحت مظلة مفهوم الأمن، وتعددت هذه الأبعاد التي يجب على الدولة حمايتها إلى خمسة أبعاد، هي: البعد السياسي، والبعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد العسكري، والبعد الثقافي.

أولاالبعد السياسي

ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة وهو ذو شقين داخلي وخارجي، ويتعلّق البعد الداخلي بتماسك الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية. أمّا البعد الخارجي فيتصل بتقدير أطماع الدول العظمى والكبرى والقوى الإقليميّة في أراضي الدولة ومواردها، ومدى تطابق أو تعارض مصالحها مع الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتحكمه مجموعة من المبادئ الاستراتيجية التي تحدّد أولويات المصالح الأمنية وأسبقياتها.

ثانيًاالبعد الاقتصاديّ

ويرمي هذا البعد إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له؛ فمجال الأمن القومي هو الاستراتيجية العليا الوطنية التي تهتم بتنمية واستخدام كافة موارد الدولة لتحقيق أهدافها السياسية، كذلك فالنمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي هما الوسيلتان الرئيسيتان والحاسمتان لتحقيق المصالح الأمنية للدولة وبناء قوة الردع الاستراتيجية وتنمية التبادل التجاري وتصدير العمالة والنقل الأفقي للتكنولوجيا وتوطينها وبخاصة التكنولوجيا العالية والحيوية.

ثالثاًالبعد الاجتماعيّ

يرمي هذا البعد إلى توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من تنمية الشعور بالانتماء والولاء؛  فبغير إقامة عدالة اجتماعية من خلال الحرص على تقريب الفوارق بين الطبقات وتطوير الخدمات يتعرض الأمن القومي للخطر، ويرتبط هذا البعد كذلك بتعزيز الوحدة الوطنية كمطلب رئيسي لسلامة الكتلة الحيوية للدولة ودعم الإرادة القومية وإجماع شعبها على مصالح وأهداف الأمن القومي والتفافه حول قيادته السياسية، ويؤدي الظلم الاجتماعي لطبقات معينة أو تزايد نسبة المواطنين تحت خط الفقر إلى تهديد داخلي حقيقي للأمن القومي تصعب السيطرة عليه، وبخاصة في ظل تفاقم مشاكل البطالة والإسكان والصحة والتعليم والتأمينات الاجتماعية.

رابعاًالبعد العسكريّ

تتحقق مطالب الدفاع والأمن والهيبة الإقليمية من خلال بناء قوة عسكرية قادرة على تلبية احتياجات التوازن الاستراتيجي العسكري والردع الدفاعي على المستوى الإقليمي لحماية الدولة من العدوان الخارجي عبر الاحتفاظ بهذه القوة في حالة استعداد قتالي دائم وكفاءة قتالية عالية للدفاع عن حدود الدولة وعمقها، والقوة العسكرية هي الأداة الرئيسية في تأييد السياسة الخارجية للدولة وصياغة دورها القيادي وبخاصة على المستوى الإقليمي، ويمتد البعد العسكري إلى إعداد الدولة والشعب للدفاع ودعم المجهود الحربي في زمن الصراع المسلح ولتحقيق مطالب الردع في فترات السلم.

خامساًالبعد الثقافيّ

يقوم هذا البعد على حماية الفكر والمعتقدات ويحافظ على العادات والتقاليد والقيم، وهو الذي يعزّز ويؤمّن انطلاق مصادر القوة الوطنية في كافة الميادين في مواجهة التهديدات الخارجية والتحديات الداخلية، ويوسّع قاعدة الشعور بالحرية والكرامة وبأمن الوطن والمواطن، والقدرة على تحقيق درجة رفاهية مناسبة للمواطنين وتحسين أوضاعهم المالية بصورة مستمرة؛ فالدور الثقافي بالغ الأهمية في تحصين الوطن من الأطروحات الثقافية للعولمة وصراع الحضارات، إذا أخذناه بالمفهوم الشامل متضمناً الفكر والثقافة والتعليم والإعلام والفنون والأدب؛ فالأمن القومي يعني “تمكين الشعب من ممارسة منظومة القيم الخاصة به على أرضه المستقلة” وأمام التعدد في الأبعاد، يمكن القول إنّ الهدف الرئيسي للأمن القومي هو التركيز على قيمة الإنسان، فالقاعدة الشعبية العريضة هي ركيزة الأمن، ورغم أنّ القوة العسكرية مهمة ومطلوبة لكن هناك أيضاً قوى أخرى منها القوة الاقتصادية ونصيب الفرد من الدخل القومي، ودرجة نمو المجتمع، والمنظومة السياسية والاجتماعية السائدة التي تتيح لكل قوى الشعب التعبير عن نفسها، ومستوى التنمية، والمعادلة بين مستوى المعيشة ونفقات الدفاع، وتحديد المصالح الحيوية في الداخل والخارج، وأيضا تحديد الدوائر الحيوية وأولوياتها.

المصادر والمراجع:

عبد السلام ترمانين، الوسيط في تأريخ القانون والنظم القانونية، الطبعة الثالثة، 1985، جامعة الكويت.

تقي الدباغ ، العراق في التاريخ، 1983، بغداد.

سليمان العامري وعامر محسن- مفاهيم الأمن: مقارنة بين الأمن القومي والأمن الإقليمي والأمن الجماعي- المجلة السياسية والدولية، 2009، الجامعة المستنصرية.

حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي ، 1984، القاهرة.

اسماعيل صبري مقلد، الاستراتیجیة والسیاسة الدولیة: مؤسسة الأبحاث العربية، 1985، الكويت.

عبد الخالق فاروق، انعكاس دور المعلومات على مفاهيم الأمن القومي، مجلة اليقظة العربية، العدد 3، السنة الثانية، مارس 1986،القاهرة.

ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، دار المعارف، القاهرة

د/ علاء عبد الحفيظ، الأمن القومي المفهوم والأبعاد، 11 مارس 2020، المعهد المصري للدراسات.

عبد المعطي زكي، الأمن القومي قراءة في المفهوم والأبعاد،  9 فبراير 2016، المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية.

مصطفى علوي، ملاحظات حول مفهوم الأمن، العدد 5، عام 2000، النهضة، القاهرة.

السيد محمد السيد عمر، دراسة مقدمة لترقية الأساتذة المساعدين في العلوم السياسية بعنوان: الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأمن القومي، كلية التجارة وإدارة الأعمال جامعة حلوان ، يناير 2002م، مصر.

أحمد أمين عبد العال، الأمن القومي العربي بين النظرية والتطبيق المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية.

نجدت صبري ئاكرة يي، الإطار القانوني للأمن القومي دراسة تحليلية، دار دجلة، 2011، الأردن

سليم قسوم، رسالة ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص الإستراتيجيات والمستقبليات بعوان: الاتجاهات الجديدة في الدراسات الأمنية: دراسة في تطور مفهوم الأمن عبر منظورات العلاقات الدولية،كلية العلوم السياسية والإعلام، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية،جامعة الجزائر 3.

George Schwarzenberger, Power Politics: A Study of World of Society, Stevens & Sons Limited, 1964, London.

Anthony Giddens, “Nation States and Violence”, Walter W. Powell and Richard Robbins (eds), 1984, New York: The Free Press.

Arnold Wolfers, Discord and collaboration, Essays on International Politics, John Hopkins University Press, 1962, Baltimore, USA.

Frank Trager and Philip Kronenberg (eds.), National Security and American Society, Kansas University Press, 1973 Kansas.

Henry Kissinger, Nuclear Weapons and Foreign Policy, Wild Field and Nicholson, 1969, London.

McNamara, The Essence of Security, Harper Press 1966, New York.

المصدر: الموسوعة السياسية

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button