دراسات سياسية

الأيديولوجية النسوية Feminism Ideology – مساق الأيديولوجيات السياسية المعاصرة

الأستاذ الدكتور كمال محمد محمد الأسطل (الأيديلوجيات السياسية المعاصرة) (برنامج الماجستير في العلوم السياسية-جامعة الأزهر بغزة-فلسطين)

النسوية (التيار النسوي) feminism حركة ثورية غربية ذات مضمون فلسفي وفكري يهدف إلى تحطيم البداهات الخاطئة (السيطرة الذكورية)، ووضع المرأة في موقع الفاعل في المجتمع. وبتعبير آخر، النسوية منظومة فكرية أو مسلكية مدافعة عن مصالح المرأة وداعية إلى توسيع حقوقها، برزت تاريخياً في المجتمع الليبرالي الرأسمالي على أنها حركة لتحرير المرأة في القرن التاسع عشر، فكانت رد فعل على أوضاع المرأة المتردية في أثناء الثورة الصناعية وما تلاها. ولكنها لم تكلل بالنجاح حتى القرن العشرين؛ إذ تبلورت مطالب النسوية بوساطة بعض الجمعيات هناك، ثم انتقلت الحركة إلى عدد من بلدان العالم وخاصة العالم العربي والإسلامي عن طريق الغزو العسكري والثقافي. وقد حظيت النسوية بدعم منظمة الأمم المتحدة سنة 1945، وهي تختلف عن النسائية التي تعبّر عن الفعاليات التي تقوم بها النساء من دون اعتبار للبعد الفكري والفلسفي، وإنما بمجرد أنها فعاليات تقوم بها المرأة.

ويعود سبب نشوء هذه الحركة وانتشارها في الغرب إلى: أولاً: صورة المرأة في المصادر الثقافية الدينية الغربية، أي في التراث اليهودي والمسيحي؛ فالمرأة في هذا التراث هي أصل الخطيئة، الموقف الذي ترتب عليه – فيما بعد – أحكام وأوصاف أخرى للمرأة (شيطانة وملعونة). وثانياً: موقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من أفلاطون الفيلسوف اليوناني الذي يضع المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى؛ إلى الفلاسفة الغربيين المتأخرين أمثال ديكارت من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة، فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة، وكَانتْ Kant الذي يصف المرأة بأنها ضعيفة في جميع الاتجاهات، ولاسيما في قدراتها العقلية، كذلك فيلسوف الثورة الفرنسية جان جاك روسو Rousseau الذي يقول: “إن المرأة وجدت من أجل الجنس ومن أجل الإنجاب فقط”، وقد اتخذ دعاة النسوية من هذا الموقف التراثي الديني مع موقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة منطلقاً لنشر الثقافة المدافعة عن المرأة التي كوّنت مفاهيم الحركة النسوية الغربية وقيمها ومبادئها؛ لتكون حركة نسوية عالمية، تمحورت حتى السبعينات حول تيارين رئيسين في المجتمعات الغربية: النسوية الليبرالية، والنسوية الراديكالية.

أولًا: تعريف النسوية Feminism

يُعرف معجم أوكسفورد النسوية بأنها: “الاعتراف بأن للمرأة حقوقاً وفرصاً مساوية للرجل“، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية التي يتم اقصاء المرأة منها.

أمّا معجم ويبستر فيعرف النسوية على أنها: “النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتسعى كحركة سياسية إلى تحقيق حقوق المرأة واهتماماتها وإلى إزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه المرأة”.

إذن المساواة والحرية هما ركيزتان أساسيتان في نشأة وتطور الفكر النسوي، لاشك أن المصطلحين شديدا الجاذبية لاسيما أنهما استخدما في أهم ثورتين قامتا في العالم الغربي.. الثورة الأمريكية 1779 م والثورة الفرنسية 1789 م، واستطاعت الحركة النسوية أن تضمن فكرة المساواة في مبادئ الأمم المتحدة عندما نشأت عام 1945م، حيث ضمنت في وثيقتها رفض التمييز على أساس الجنس وتحقيق المساواة الكاملة في مختلف المجالات.

كما صيغت الوثائق والاتفاقات الدولية على أساس هذه المبادئ، وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:

أ – الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948م)، وهو ينص على وجوب الالتزام بهذه المبادئ، ويؤكد على عدم التمييز على أساس الجنس وعلى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في الاسرة والمجتمع.

ب ـ أما الوثيقة الثانية فهي اتفاقية (سيداو (Cedaw أو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) عام 1979م، وهي اتفاقية مكونة من 30 مادة، وموادها الست عشرة الأولى تؤكد على عدم التمييز وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة بمختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ثانيًا: افتراضات الأيديولوجية النسوية

أما عن الافتراضات التي أسست عليها الحركة النسوية أيديولوجيتها فيمكن تلخيص أهمها في الآتي:

1-   يعد النظام الأبويPatriarchy هو الوحدة الأولي في خلق الوضع الخاضع المتدني للمرأة وهو المسئول الأول عن القهر والاضطهاد اللذان تتعرض لهما المرأة.

2-   أن عملية الإنجاب Reproduction وما يترتب عليها من علاقات تعد هي العامل الرئيسي في تفسير القهر الجماعي. فدور المرأة في الإنجاب المسئول عن تدني وضعها الاجتماعي عندما تعدي هذا الدور مجرد الحمل ورضاعة الأطفال إلي رعاية الأسرة وتدبير شئونها.

3-   بناء علي الإفتراضين السابقين، فإن رسم استراتيجية نسوية لابد أن يتجه في المقام الأول ضد ما سمي بالتفوق الذكري Male supremacy واعتبار أن الرجل هو الذي يجب مواجهته والنضال ضده.

        وهكذا تشكلت الأيديولوجية النسوية ليس كما يدعون علي نقد كل من الرأسمالية والاشتراكية، ولكن لتفنيد الأسس النظرية للماركسية في تفسير أسباب التمييز بين الجنسين وتقسيم الأدوار بينهما، في إطار علاقات الملكية التي سادت مختلف المجتمعات الطبقية عبر التطور الاجتماعي الذي مرت به المجتمعات البشرية. وليس أدل علي ذلك من استخدامهم لمفاهيم استبدلوا بها المفاهيم الرئيسية للنظرية الماركسية، فالنظام الطبقي استخدم في مقابلة النظام الأبوي، وعملية الإنتاج استخدم في مقابلها عملية الإنجاب وعلاقات الإنجاب في مقابل علاقات الإنتاج، والنضال ضد التفوق الذكري مقابل للنضال ضد الطبقة الرأسمالية. وقد كشف العديد من الانتقادات التي وجهتها كاتبات راديكاليات للحركة النسوية والأسس النظرية التي شيدوا عليها أيديولوجيتهم عن أن هذه الحركة تنطوي علي تدعيم للنظام الرأسمالي القائم، ولا تخرج عن كونها حركة ليبرالية تمثل نساء الطبقة البورجوازية، تطالب بمزيد من الحرية لبنات هذه الطبقة ومساواتهن بالرجل في ظل علاقات الملكية السائدة.

 ثالثًا: الأهداف الرئيسية للمدرسة النسوية

                سعت هذه المدرسة منذ بدايتها إلى تضمين العنصر النسائي في المجال العام، وتمكينه للعديد من الحقوق. ومثلت المدرسة النسوية تحديا كبيراً للعديد من القواعد العامة التي تم ترسيخها وبنائها بواسطة المدارس الفكرية والثقافية المختلفة، فبالرغم من تعدد المدارس والإسهامات الفكرية التي عملت على تحليل العلاقات بين الجماعات المختلفة داخل المجتمع  والدولة، إلا أن أي من هذه المدارس لم يتطرق من قبل للتركيز على المرأة كعنصر رئيسي داخل هذه الجماعات، فلم يلعب العنصر الجندري أي دور يذكر، ولم يتم التركيز على خصوصية المرأة كعنصر منفصل له العديد من الحقوق والمساحات التي لم يسبق للنساء الحصول عليها أو ممارستها، ولعل أهم الأسباب في ذلك يعود إلى الرؤية المجتمعية والثقافية الكلاسيكية للمرأة قبل ظهور هذه المدرسة، فكانت الرؤى الغالبة تحصر دور المرأة الرئيسي في النطاق الأسري، دون النظر في المساحات الأكبر من الأسرة أو العائلة، فعلى اختلاف الثقافات المجتمعية من مكان إلى آخر إلا أن أي منها لم يركز على الأدوار التي من الممكن أن تمارسها المرأة خارج إطار الأسرة، بالرغم من وجود عدة نماذج للنساء عبر التاريخ نجحن في مثل هذه الأدوار على الساحة السياسية والاقتصادية والعلمية.

                فقد مرت المدرسة النسوية بعدة مراحل وموجات، وخلال هذه المراحل شهدت العديد من التطورات التي تحكم هيكل الحجج والمفاهيم الذى تعتمد عليه المدرسة من أجل تمكين المرأة في المجالات المختلفة: السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولكن على الرغم من ذلك يمكن القول أن المدرسة النسوية بشكل عام قد اعتمدت على عدد من المفاهيم الرئيسية خلال مراحلها المختلفة من أجل تفسير الواقع السياسي وتأثير العلاقات في المجال الخاص على نظيرتها في المجال العام.

رابعًا: المفاهيم الرئيسية التي قدمتها المدرسة النسوية

1-        النوع الاجتماعي Gender

كلمة “الجندر” أو “الجنوسة” لغويا تنحدر من أصل لاتيني (Genus)، ومن لفظة (Gendre) الفرنسية القديمة، ويدل معناها على النمط، والمقولة، والصنف، والجنس، والنوع، والفصل بين الذكورة والأنوثة، بيد أن المرادف الحقيقي لكلمة (Gender) هو النوع الاجتماعي، أو الدور الاجتماعي.

          وهو المعنى الذي قامت المدرسة النسوية بتطويره وفرضه على المجال العلمي والبحثي والسياسي على حد سواء، وتمثلت الأهمية العلمية لهذا المصطلح في كونه حل محل العديد من التعبيرات في اللغة التي كان يتم اللجوء إليها للتعبير عن ذات المعني والمتمثل في “الأدوار الاجتماعية التي يفترض لكل نوع (رجل أو أمرأه)، القيام بها داخل المجتمع“، ويرتبط بالعلاقات الاجتماعية التى تربط الأنواع المختلفة وتحدد نمط العلاقات بينهم.

       وكانت الحركة النسوية هي المحرك الأساسي للدراسات الجندرية، فقد أتاح مفهوم الجندر دراسة وتحليل البنى الاجتماعية التي تشكل الهوية الجندرية وتصنع الفوارق الجندرية واللامساواة بين الرجال والنساء. وذلك بهدف التحرر من الجبرية البيولوجية التي كانت ترد اللامساواة بين الرجال والنساء إلى الفوارق الطبيعية؛ فلقد أصبحت السلطوية التي تقيد وتخضع المرأة لا تنبع من الخصائص البيولوجية بل من عوامل اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية، تسعى الحركة النسوية بمختلف اتجاهاتها إلى تحليلها وإعادة بنائها بما يُمَكّن المرأة من استعادة حقها الطبيعي.

فأكدت المدرسة النسوية أن النوع الاجتماعي يفترض به القيام بدورين رئيسيين-

أ‌-           الأدوار المرتبطة بالمجال الخاص (الدور الإنجابي-الخدمي-المجتمعي): هذه الأدوار مرتبطة بالمجال الخاص، أو المجال الذى لا يتم ممارسة السياسة بها، وهو مرتبط باستمرار التناسل، وتوطيد العلاقات الاجتماعية، وقد أكدت المدرسة النسوية بمختلف موجاتها أن القمع الذى تعاني منه المرأة مرتبط بالأساس بحصر دورها على هذا المجال، بالإضافة لتحميلها جميع الأعباء المرتبطة به، والتقليل من أهميته.

ب‌-       الأدوار المرتبطة بالمجال العام (التمثيل السياسي-الدور الإنتاجي): وهي الأدوار التي تتركز بها عملية صنع القرار، والسيطرة على مصادر القوة داخل المجتمع، والتأثير على العلاقات والأنماط الاجتماعية التى تربط الأفراد داخل المجتمع، وترى المدرسة النسوية أن استبعاد المرأة من هذا المجال أدى لغياب الأصوات النسائية التى تمتلك القدرة في نقل احتياجات المرأة في المجتمع، وهو ما انعكس بالسلب على وضع المرأة في المجال الخاص، حيث أن المجال العام اصبح يصدر قرارات وعدد من الأفعال التى لا تراعي النوع الآخر المكون للمجتمع، بل أن الأمر لم يقتصر على عدم مراعاة الخصوصية التي تتمتع بها المرأة، بل تطور وتحول المجال العام إلى أداة لقمع المرأة وإخضاعها لسلطة الرجل في ظل الأنظمة الأبوية.

  وكنتيجة للقمع الذى تتعرض له المرأة في المجال الخاص وغيابها عن المجال العام سعت الحركة النسوية للخروج بالمرأة من هذا الوضع من خلال العمل على تدعيمها لتتمتع بذات الحقوق التي تمتع بها أقرنائها من الذكور في ذات المجتمع، وقد عبرت المفكرة النسوية كيت ميليت عن هذا الأمر من خلال قولها ” النظرية النسوية هي النظرية التى تسعى للكشف عن الآلية التى تتم بها هيمنة الرجال على النساء، ويمكن اعتبار النظام الأبوي الأيدولوجية الأكثر تغلغلا في حضارتنا التى تركز على مفهوم القوة، وهي ذات الأيدولوجية التي يمكن اعتبارها المصدر الأول للسيطرة على النساء وقمعهن”. ومن هنا ظهر مفهوم آخر قامت المدرسة النسوية أيضا بسكه وتطويره وهو تمكين المرأة.

2-        تمكين المرأة Women Empowerment:

        يعد مصطلح تمكين المرأة من المصطلحات الجدلية، التي تعددت التعريفات والرؤى المقدمه لها بشكل كبير، وتزايد الاهتمام يهذا المفهوم حتى أصبح منذ تسعينيات القرن المنصرم شائع الاستخدام في العديد من الوثائق والمعاهدات الدولية، ويجب الإشارة إلي أن المصطلح تم تطويره وتحويله من مجرد كلمة نظرية إلي كلمة عملية تجد من يهتم بها ويتعهد بحمايتها من خلال الوثائق الدولية، وذلك من خلال مجهودات مفكرات المدرسة النسوية وبالتحديد النسويات الراديكاليات وكتاباتهم، ولهذا المفهوم أهمية كبيرة في تحديد علاقة الدولة بالجماعات والأفراد داخل المجتمع من وجهة النظر النسوية.

         أما اصطلاحاً، بالرغم من تعدد التعريفات المقدمة لمفهوم تمكين المرأة إلا أن هذه التعريفات في مجملها تجمع على أنها “العملية التي يتم من خلالها تقوية أدوار وحقوق المرأة في المجتمع والدولة”، كذلك عرفها البعض  تعريفا أكثر دقة بأنها:” العملية التي تصبح المرأة من خلالها -فردياً وجماعيا- واعية بالطريقة التي تكتسب من خلالها القوة للمطالبة بحقوقًا والدفاع عنها“. 

       والتمكين وفقاً للمدرسة النسوية يجب أن يتم تحقيقه على عدد من المستويات  والجوانب، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن من ناحية أخرى نجد أن الموجات المختلفة للمدرسة النسوية اختلفت في تحديد كيفية تحقيق التمكين.

خامسًا: الموجات الثلاث للنسوية 

   يجب أن نشير في البداية إلى أن المدرسة النسوية تعد من المدارس الفكرية الأكثر تميزا عندما يتعلق الأمر بالحراك على الأرض وتزامن هذا الحراك بالإنتاج الفكري والنظري؛ حيث أن الإنتاج الفكري والحركي تلازم خلال الإرهاصات الأولى لهذه الحركة وأستمر إلى يومنا هذا، فالحركة النسوية تمكنت من التحرك على الأرض من أجل تحقيق عدد من المكاسب لصالح الحركة النسوية، ولذلك فإنه من الضرورة بمكان عند رصد التطور الذى حدث في النظرية السياسية النسوية نرصد التطور الذى صاحبها في الحركة النسوية، فكلا التطورين هما انعكاس للآخر.

1-     الموجة الأولى

أ- المفاهيم الرئيسية لهذه المرحلة:

 المساواة – الاقتراع – المشاركة- التحرر- الاضطهاد- عدم التمييز.

                ظهرت هذه المدرسة منذ عام 1830 وصولا إلى عام 1920، وقد ركزت على الجوانب القانونية والاجتماعية المرتبطة بالمرأة، وقد قادت النسويات بكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا “حركة تحرير المرأة”، فالحركة في بريطانيا ظهرت مع خروج المملكة من استراليا، ومع بدايات اشتعال الحرب العالمية الأولى، وقد سعت هذه الحركة للقضاء على عدد من أشكال التميز بينها وبين نظرائها من الرجال في ظل تحمل النساء لتكلفة الحرب كالرجال تماما، وأول الحقوق التي ظهرت على السطح كانت الحق في الانتخاب، والذى كافحت النساء للحصول عليه في بريطانيا وهو الأمر الذى دفعهم لإشعال قبة البرلمان والتظاهر في ويستمانستر.

       وعلى صعيد آخر نجد أن الحركة النسوية في الولايات المتحدة الأمريكية قامت بالتزامن مع حركة التخلص من العبودية، وقد ساهمت في هذه الحركة عدد من النسويات من أصل أسود مثل الكاتبة النسوية ذات الأصل الأفريقي سوجويرنير تروث التي قامت بإلقاء خطاب شهير في أحد التجمعات النسائية بعنوان “ألست أعد امرأة أيضا”، وقد اقترنت الحركة النسوية بحركة التحرر من العبودية بسبب أنه خلال تلك الفترة تمت مناقشة المادة الخامسة عشرة من الدستور الأمريكي والتي تحدد من له الحق في الانتخاب، وقد انتهي الأمر بإعطاء النساء الحق في التصويت ولكن أقتصر هذا الحق على النساء البيض فقط.

ب- الحجج والأفكار الرئيسية للموجة الأولى

       كانت الأفكار الأساسية التي بدأت بها الموجة الأولى من المدرسة النسوية تركز بشكل رئيسي على “التحرر” و”مواجهة الاضطهاد واللامساواة”، فكان الشعور بالاضطهاد هي القضية التي تأسست عليها النسوية في بداياتها؛ بسبب تردي أوضاع المرأة، فبدأت الحركة بالسعي إلى وقف حالة الاضطهاد التي تعاني منها المرأة، والمطالبة بحقوقها وتحسين أوضاعها.، وعلى رأس هذه المطالب كانت الموجة الأولى تركز بالأساس على المطالبة بـ “حق المرأة في الاقتراع”، وكانت الحجة الرئيسية التي اعتمدت عليها في سبيل الدفاع عن حق النساء في التصويت هي “المساواة”، فنجد أن الفكر الذي اعتمدت عليه هذه الموجة هو الفكر الليبرالي الذى يساوي بين مختلف الأفراد داخل المجتمع، وهذه المساواة نابعة من تمتع الأفراد في مجملهم بذات القدرات العقلية التي تمكنهم من التفكير والقيام بذات المهام العقلية بشكل متساوي يضمن تحقيق المصلحة للجميع داخل المجتمع.

         فبدأت مسيرة النسوية الأولى وأهم أفكارها وأطروحاتها من أساس أن “النساء يجب أن يتمتعا بنفس الحقوق أسوة بالرجال في ظل تمتع النساء بذات القدرات العقلية” وأكدت رائدات هذه المدرسة على أن التراجع في الانتاج الفكري النسائي، لا يعود لضعف قدراتهم العقلية مقارنة بأقرنائهم من الذكور، وإنما يعود نتيجة للأدوار والنظرة المجتمعية التي لم تسمح للنساء بالتحرك خارج هذا الإطار، وللتغلب على هذه الفجوة.

   وقد دعت بعض رائدات هذه الموجة من أمثال ماري ولستونكرافت لإتاحة التعليم لجميع النساء الذى يعد من وجهة نظرهم الأداة الرئيسية للتغلب على هذه الفجوة، ولتمتع النساء بنوع من الاستقلالية والرشادة عند اتخاذهم لقرارات مرتبطة بتسيير جوانب حياتهم المختلفة؛ ومن هنا لن يتم إنكار حقهم في التصويت بحجة غياب الرشادة والعقلانية عن اختياراتهم الحياتية.

     ولم تقتصر الكتابات الفكرية المدافعة عن حقوق المرأة على الكاتبات من النساء فقط، بل ظهرت العديد من الإسهامات للمفكرين الذكور ومنهم جون ستيوارت ميل، والذي تمثل إسهامه في كتابه “استعباد النساء”، والذي دافع فيه دفاعاً قوياً عن حرية النساء. 

ج- أهم نتائج الموجة الأولى

       كانت البدايات للسعي إلى وقف حالة الاضطهاد التي تعاني منها المرأة، والمطالبة بحقوقها وتحسين أوضاعها.  في أمريك وأوروبا، حيث بدأت في أمريكا الدعوة لحقوق النساء في مؤتمر كبير في سينكا فولز عام 1848م شارك فيه أكثر من 300 شخصية منهم 40 رجلا، كان من أهم مطالبه وقف التمييز ضد النساء. وقد اهتمت الأمريكيات بحق التصويت، والتعليم،، وتحرير العبيد. أما في إنكلترا فكان التركيز على حق التعليم والعمل وتعديل قوانين الزواج (حقوق المتزوجات بالملكية والحضانة)، فقادت الناشطات النسويات حملة حضانة الأطفال 1838م، ووثيقة المطالبة بحق الملكية للمرأة المتزوجة 1857م، وقد اتهمت الحركة النسوية البريطانية بأنها تقصر اهتمامها على مشكلات بنات الطبقة الوسطى.

        ويمكننا القول بأنه من الناحية النظرية نجد أن مثل هذه الدعوات حققت نجاحا كبيرا في الأوساط الفكرية، فنجحت في منح النساء في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا الحق في التصويت، كما بدأ انغماس النساء في المجال الإنتاجي، ولكن الإنجاز من الناحية التطبيقية -وإن كان جديدا وناجحا إلى حد ما- إلا أنه لم يساهم في تغير وضع المرأة بشكل جوهري، حيث استمرت معاناة المرأة من الاضطهاد في المجال الخاص، والتمثيل في المجال العام، فباستثناء الاعتراف بالحق في التصويت، لم ينتج قوانين أخرى لحماية المرأة أو تمكينها من باقي حقوقها في المجال الخاص وفي المجتمع وغيرها من المجالات الوسيطة، ومن هنا ظهرت الحاجة لتطوير أفكار النسوية خاصة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول العالم مرحلة فكرية وسياسية جديدة. 

2-     الموجة الثانية

أ- المفاهيم الرئيسية لهذه المرحلة:

          استمرت بعض المفاهيم من الموجة الأولى كالمساواة –وعدم التمييز، ولكن ارتبطت هذه الموجة ببعض المفاهيم المختلفة مثل: التنشئة الاجتماعية- الثورة الجندرية- الفلسفة الأنثوية.

    وتشير الموجة النسوية الثانية إلى فترة نشاط نسوية في الستينات والسبعينات، شأنها شأن الموجة الأولى التي كافحت من أجل حصول المرأة على حق التصويت، ولكن ارتكزت الموجة الثانية بشكل أساسي كانت ذات نطاق أوسع وأكثر تنوعا من حيث القضايا والموضوعات مثل عدم المساواة غير الرسمية (في الواقع) والجنس والأسرة ومكان العمل والخلاص من التمييز القانوني تبعًا للجنس، وربما بطريقة مثيرة للجدل بشكل كبير فيما يتعلق بالحقوق الإنجابية. إضافة إلى ذلك، فقد حاولت أن تضيف تعديلًا في المساواة في الحقوق في دستور الولايات المتحدة.

ب- الحجج والأفكار الرئيسية للموجة الثانية:

    تباينت الأفكار والحجج لهذه الموجة بين تيارين رئيسيين داخل الحركة النسوية:

           التيار الأول: ويدعوا لتحقيق المساواة للمرأة في المجال الخاص وبالتحديد المساواة في مجال العمل وفي الواجبات المنزلية، ويعتمد هذا التيار على تفسير تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة بناءا على وسائل التنشئة الاجتماعية، فذلك الاتجاه يؤمن بدور القيم والمعايير في التأثير على سلوك الأفراد؛ فنجد أن الذكور يتعلمون نمطاً معيناً من السلوك يقوم على تجنب العاطفة والحرية والتنافس بينما على النقيض تماماً تقوم المرأة على مفاهيم الطاعة والخضوع وعدم التعبير عن الرأي وذلك هو سبب استبعاد المرأة من عديد من الأنشطة التي يتصدرها الرجل بما فيها المشاركة السياسية والقدرة على صنع القرار، وهو ما يرفضه هذا التيار، ويرى الحل في إعادة التوصيف والترتيب لمكانة المرأة في المجتمع بالاعتماد على وسائل ورؤى جديدة للتنشئة الاجتماعية والسياسية التي تقوم على رفض التمييز ضد النساء وذلك بهدف تمتعها بجميع حقوقها السياسية والمدنية في المجتمع.

         التيار الثاني: تمثل في النسوية الراديكالية والتي رأت أن الحقوق السياسية التي كفلها القانون للمرأة، لم تنجح في تمكين المرأة من حقوقها الأخرى في المجال الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك فإن الحل يكمن في القضاء على النظام الأبوي السائد، وذلك من خلال الدعوة لبدأ ثورة جندرية على هذا النظام لتمكينهم من حقوقهم وخاصة الحقوق المرتبطة بالحرية الجنسية، حيث أمنت هذه الحركة أن قمع النساء يبدأ من العلاقات الحميمة، ومن أشهر المفكرات في هذا التيار أدريان ريتش.

      الحجة الرئيسية التي اعتمدت عليها هذه الموجه لرفض الاتجاه النسوي في موجته الأولى وتعامله مع قضية الجندر تتمثل في الطبيعة الليبرالية التي تميل للتعميم، والتركيز على المساواة الرسمية بين أفراد المجتمع، وتجاهل خصوصية بعض الجماعات داخل المجتمع، وهو ما كان عليه الوضع في حالة المرأة، حيث إن النظرية الليبرالية تتجاهل الخصوصية التي تتمتع بها المرأة داخل المجتمع؛ فالنظرية الليبرالية تعمد للفصل فيما بين المجال العام والمجال الخاص، والمجال العام في المطلق يسيطر عليه مبادئ الصالح العام، والحكم بالاستناد على العقل، بينما المجال الخاص تسيطر عليه مبادئ الرغبة الفردية والعاطفة، ولأنه تاريخيا كان يتم قصر دور المرأة على المجال الخاص، بجانب دور المرأة في العملية الإنجابية وتربية ورعاية الأطفال، فإن النظرة العامة للمرأة مازالت تقصر دورها وقدراتها على المجال الخاص دون العام، والمجال العام لم يفقد النظرة الرجولية التي ترتبط به على الرغم من تمتع النساء بحق التصويت.

         الحجة الفرعية التي استخدمتها هذه المدرسة لتدعيم هذا الطرح تمثلت في أن دخول المرأة أيضا إلى المجال العام، يفرض عليها التصرف وفقا للمنظور الرجولي المسيطر على المجال العام، وهو ما يعني أن المرأة يجب أن تزيل عنها الطابع الأنثوي الذى تتمتع به، حتى يتم قبولها لتكون فاعلا داخل المجال العام، وحتى تسير وفقا للنموذج الذكوري الذى تم وضعه وترسيخه سابقا في المجال العام بواسطة الرجل.

 ومن رواد هذه الموجه المفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار صاحبة الكتاب الأكثر شهرة بعنوان “الجنس الآخر”، تناولت فيه تحليل مفصل حول تاريخ اضطهاد المرأة. وناقشت سؤالين مركزيين: “كيف وصل الحال بالمرأة إلى ما هو عليه اليوم (أي أن تكون “الاخر”؟) وماهي الأسباب لعدم تكتل النساء سوية ومواجهة الواقع الذكوري الذي فرض عليهن، ووضع هذا الكتاب مسبقاً في الفاتيكان على قائمة الكتب المحرّمة، وألغيت هذه القائمة عام 1966.

ج- أهم نتائج الموجة النسوية الثانية

        ارتبطت هذه المرحلة بتأسيس الناشطون النسويون لمجموعة من الأعمال النسوية، بما في ذلك المكتبات النسائية، والنقابات الائتمانية النسوية، والمطابع النسوية، وكتالوجات البريد النسائي، والمطاعم النسوية، وعلامات التسجيل النسوية. وازدهرت هذه الأعمال كجزء من الموجتين الثانية والثالثة من النسوية في السبعينات والثمانينات والتسعينات.

    ولكن التوجه المتطرف للتيار الراديكالي في هذه الموجة عرض رواد النسوية للعديد من الاتهامات، على رأسها الادعاء بأن هذه المدرسة تسعى لتدمير مؤسسة الأسرة، أو التحريض ضد الذكور، وأن مثل هذه الرؤى والمطالب  سوف تحول المجال العام – أو الخاص- إلى ساحة للصراع فيما بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذى من شأنه أن يدمر بنيان المجتمع والدولة الحديثة.

وتعرضت الحجج والأطروحات التي قدمتها هذه الموجه للعديد من الانتقادات من الناحية النظرية والعملية، فمن الناحية العملية نجد أن هذه الموجه عمدت إلى تعميم التجربة النسائية للنساء الغربيات ذوى الأصول البيضاء المنتمين للطبقة الوسطى لتكون بمثابة النموذج الذى يتم الرجوع إليه في التعامل مع النساء عموما بغض النظر عن الاختلافات في اللون والمجتمع والتفضيلات الجنسية لدى النساء من جميع أنحاء العالم، وهو ذات الانتقاد الذى وجه للنظرية الليبرالية التي تعمد للنظر للأفراد باعتبارهم متساويين بغض النظر عن الجوانب الاجتماعية والبيولوجية التي تؤثر على تكوين وتوجهات الأفراد كلٌّ على حِدَة. فالنظرية النسوية رأت أن التحدي الأوحد الذى يواجه تقدم المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية بشكل متساوي مع الرجل، يتمثل في التمييز القائم على أساس النوع، وهو الأمر الذى يتجاهل التمييز العنصري الذى تعاني منه المرأة السوداء بجانب معاناتها من التمييز على أساس النوع، كما إن المرأة العاملة تعاني من التمييز في بيئات العمل المختلفة وغيرها من النماذج التي لم تتضمنها النظرية النسوية في تيارها الثاني. هذه الموجة ببساطة لم تراعي الاختلافات فيما بين النساء في الجوانب الاثنية والطبقية والدينية والعرقية وغيرها من الجوانب التي تساهم في تشكيل هويتهم بخلاف كونهم نساء. ومن الناحية النظرية نجد أن مبدأ المساواة الليبرالي هو المبدأ الوحيد الذى يضمن للمرأة التمتع بذات الحقوق، كما إن رفض الموجة الثانية لهذا المبدأ قد يفتح المجال للتسامح مع بعض الممارسات التقليدية التي تضمن نوع من التمييز ضد المرأة تحت مبرر أن هذا يتناسب مع طبيعتها والخصوصية البيولوجية التي تتمتع بها.

3-     الموجة الثالثة

                وامتدت هذه الموجة منذ الثمانينات والتسعينات، والبعض يؤكد استمرارها في حين يرى آخرون أن هناك موجات جديدة، وظهرت الموجة الثالثة كنتيجة للتطرف في الأفكار والاتجاهات التي طرحتها الموجة الثانية، فجاءت باعتبارها ردة فعل على فشل الموجة السابقة، وهدفت إلى تعديل وتنقيح الطرح النسوي.

ارتأت الموجة الثالثة وجود أكثر من نموذج أنثوي وفقًا للأوضاع الاجتماعية والثقافية والعرقية والجنسيات والدين، على عكس الثانية التي اعتقدت بوجود نموذج واحد فقط. وركزت الموجة الثالثة على القضايا المتعلقة بالجنس البشري والطبقة الاجتماعية ونوع الجنس. وتميزت بالتعدد والابتعاد عن الأيدلوجية وكسر الاحتكار. وبذلك تختلف عن الموجة الأولى التي منحت المرأة حق الاقتراع وعن الثانية التي كانت تعكس خبرات الشريحة العليا من الطبقة الوسطى للمرأة البيضاء في سعيها لتمكين المرأة الاقتصادي والسياسي. وكانت الكاتبة الأمريكية ريبيكا ووكر أول من استخدمت مصطلح الموجة النسوية الثالثة في كتاباها.

أ‌-     المفاهيم الأساسية للموجة الثالثة

                على خلاف الموجة الأولى والثانية نجد أن الموجة الثالثة قد قادها الفكر وليس الحركة؛ حيث نجد أن الأكاديميات من النسويات قد سعين لتشكيل تأصيل لبدايات هذه الموجه من خلال إدماج فئات آخري داخل الحركة النسوية والتطرق لعدد من القضايا الحساسة المتعلقة بالجندر، بالإضافة إلى استحداث عدد من المصطلحات والمفاهيم مثل: التمييز على أساس الجندر والتمييز الجندري الآثيني، وذلك بالتزامن مع الحديث عن فئات ـخرى داخل الحركة النسوية بخلاف النسويات المستقيمات heterosexual feminists، حيث تم التطرق للنسويات العابرات جنسيا، والنسويات مثليات الجنس.

ب- الحجج والأفكار الرئيسية للموجة الثالثة

                تمثل الحجة الرئيسية للموجة الثالثة في ضرورة تحقيق التوازن فيما بين الشمولية الليبرالية والخصوصيىة التي تتمتع بها الجماعات؛ فعلى سبيل المثال نجد أن اريس يانج قد طرحت نموذجا يعرف ب(نموذج غياب التجانس فيما بين العامة، حيث يرفض هذا النموذج عدد من المبادئ الليبرالية التي ترى أن المجتمعات الانسانية تتميز في مطلقها بالتجانس، والحياد والعقلانية المعيارية، وهي بدورها تعد مبادئ تتجاهل التجربة التاريخية والعوامل البيئية الأخرى التي تؤثر على الوعى الإنساني، وهو ما يعني استحالة اعتبار هذه المبادئ حقيقة مطلقة تطبق على جميع المجتمعات بدون استثناء. كما إن المساواة فيما بين الأفراد في بعض الأحيان قد تؤدي لتهميش بعض الأفراد والجماعات داخل المجتمع التي لا تمتلك القوة ولا القدرة للتعبير عن ذاتها واحتياجاتها، ومن هنا جاءت الحركة النسوية بفكرة الكوتة أو التمكين والتقوية التي تعزز من قوة الجماعات المستضعفة وتمكنهم من تمثيل مصالحهم بشكل يضاهي الجماعات النسبية التي تتمتع بالقوة النسبية.

                ومن الأفكار المميزة لناشطات الموجة الثالثة، عدم اقتناعهم بأن أنّ التحرّر يتمثل نسخ تجربة الآخرين، أو تقليد ما فعلته الحركات النسوية السابقة، بل يعني أن نجد طرقنا الخاصة للحرية، وأن تكون أصيلة ونابعة من رغباتنا وقناعاتنا وظروفنا. كما يمكن أن تتغيّر مع كلّ جيل، ومع كلّ فرد ومع كلّ ثقافة ولون.

ج- أهم نتائج الموجة النسوية الثالثة

         دعت الناشطات النسويات في هذه المرحلة إلى شخصية جديدة للنسوية. وتمّ التركيز على التقاطع بين العرق والجندر. مما أدّى إلى أهم نتائج هذه المرحلة وهي تزايد نسبة عدد الناشطات النسويات الملوّنات والآسيويات، كما تزايد عدد السياسيين من الأقليات الذين يتبنّون خطابا نسويا جديدا يركّز على جذب الشابّات من النساء.

  فمن الكاتبات اللاتي اشتهرن بارتباطهن بالموجة الثالثة، الكاتبة السوداء بل هوكس، وتوني موريسون الروائية الافرو- أمريكية، حاملة نوبل للآداب، وآسيا جبار الجزائرية التي تكتب الرواية والشعر بالفرنسية.

            فنجحت الموجه الثالثة في إرساء جذور عملية السعي الاجتماعي والسياسي التي لا تبدأ ولا تنتهي بالطبقات الوسطى البيضاء، وتناولت ناشطات الموجة المشكلات المختلفة والمتنوعة التي تبدو أنها تؤدي إلى اضطهاد النساء مثلها مثل كل الهويات المهمشة. وعندما تكون المرأة ملونة أو تنتمي للعالم الثالث فأنها بذلك تعبر عن هامش الهامش وهنا تأتي خصوصيتها وأهميتها أيضا. فتناولت آن بروكس مثلا مطالب الثقافات المهمشة والمستعمرة وثقافات الشتات من أجل خلق نسوية غير مهيمنة قادرة على التعبير عن التيارات النسوية المحلية الأصلية في مرحلة ما بعد الاستعمار.

                وأثمرت هذه الموجة عن أهم الإنجازات للمدرسة النسوية تمثلت في إعلان الأمم المتحدة أن السنوات بين 1976م و1985 م هي عقد المرأة، وفي عام 1979م أعلنت لجنة المرأة التابعة للأمم المتحدة عن وثيقة عالمية هي وثيقة اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، والتي وُضعت للحدِّ من التمييز على أساس الجنس، وقد كانت هذه الوثيقة سبباً في نشر أفكار النسوية على نطاق عالمي بشكل أكبر، وبشكل إلزامي. 

سادسًا: رؤية المدرسة النسوية للدولة والمجتمع 

                لم يحتل  مفهوم الدولة لدى المدرسة النسوية يحتل اهمية كبيرة بخلاف عدد من المفاهيم الأخرى التي تتقاطع مع مفهوم الدولة، مثل مفهوم المجتمع والمجال العام والمجال الخاص، ولكن من خلال بحث وتحليل تصور المدرسة النسوية للوضع الأمثل الذى تضعه للعلاقة بين الأفراد داخل المجتمع بشكل عام وداخل المجال السياسي بشكل خاص يمكن استنباط رؤية المدرسة النسوية لمكونات الدولة.

                ويمكن القول بأن المراحل الثلاث للمدرسة النسوية قد تمايزت في رؤيتها لمكونات الدولة والمجتمع وفي التعامل مع هذه المكونات باعتبارها تمثل مجموعة من الأفراد المتساويين، أم تمثل مجموعة من الجماعات التي تتمايز عن بعضها البعض، على الشكل التالي:

الموجة الأولى

         تبنى رواد هذه المدرسة من أمثال ماري ولستونكرافت الفكر الليبرالي في تعامله مع المجتمع والدولة والذى يرى أن الدولة تتكون من مجموعة من الأفراد المتساويين في جميع الحقوق والواجبات، وبالتالي هم متساويين أيضا في القدرات العقلية التي يتمتعون بها بغض النظر عن النوع الاجتماعي (الجندر) الذى ينتمون له. وبالتالي فرؤيتهم للدولة وعلاقتها بالمجتمع تقوم على اساس المساواة بين كافة الأفراد والجماعات، وحماية الحقوق والحريات دون تمييز.

الموجة الثانية

     تؤمن باتمان وغيرها من مفكرات المدرسة النسوية في موجتها الثانية أن الدولة تتكون من نوعين إجتماعيين (two genders)، وأن كل نوع يتمتع بخصوصية يجب أن يتم مراعاتها عند تحديد حقوق وواجيات وأدوار كل منهم في الدولة والمجتمع؛ وهو ما يعني أن رائدات هذه الموجة يؤمنوا بأن الدولة تتكون من مجموعة من الجماعات التي تتمتع بعدد من السمات الخاصة التي يجب مراعاتها من قبل الدولة والمجتمع. وبالتالي فرؤيتهم للدولة وعلاقاتها بالمجتمع قائمة على ضرورة احترام خصوصية كل جماعة وحماية الحقوق والحريات التي تتميز بها كل جماعة داخل المجتمع.

الموجة الثالثة

          ترى رائدات هذه المدرسة أن النظرة الليبرالية للبشر بشكل يجعلهم متساوين في الحقوق، قد كانت بمثابة حجر الأساس الذى اعتمدت عليه عدد كبير من الجماعات المهمشة والمقهورة من أجل الحصول على حقوقهم المسلوبة وذلك يتضمن أيضا النساء. فالمساواة الرسمية العالمية التى طرحتها الليبرالية مكنت هؤلاء الجماعات من استخدامها من أجل عدم تبرير التمييز الذى تعرضوا له نتيجة لإختلافهم عن النمط العام والسائد، فاختلافهم لا يعطي أي شرعية للتمييز ضدهم ولعدم منحهم حق المواطنة الذى يترتب عليه تمتعهم بعدد آخر من الحقوق، ولكن في ذات الوقت هذه المدرسة ترى أنه في ظل تبني النظرية الليبرالية التى تساوي فيما بين الأفراد داخل المجتمع يجب أيضا مراعاة الخصوصية التى تتمتع بها كل جماعة في المجتمع والدولة، وبالتالي فرؤيتهم للدولة قائمة على أنها تتكون من عدد من الجماعات المتساوية في الحقوق والتى تختلف في احتياجاتها وخصائصها عن نظيراتها داخل الدولة.

سابعًا: انتقادات المدرسة النسوية، وظهور المدارس النسوية المتفرعة

        واجهت المدرسة النسوية بكافة مراحلها العديد من أوجه الرفض والهجوم، ولعل السبب في ذلك يعود للرؤية التي جاءت بها المدرسة النسوية بطرح العنصر النسوي بشكل منفصل على الساحات العلمية والعملية والثقافية والدينية، وهو الأمر الذى عرض الفكر النسوي في مجمله للعديد من الاتهامات، على رأسها الادعاء بأن هذه المدرسة تسعى لتدمير مؤسسة الأسرة، أو التحريض ضد الذكور، وأن مثل هذه الرؤى والمطالب  سوف تحول المجال العام – أو الخاص- إلى ساحة للصراع فيما بين الرجل والمرأة.

        وهو الأمر الذى حاول العديد من المفكرين معالجته، فظهرت العديد من التوجهات والمدارس النسوية المتفرعة، كمحاولة لإصلاح وتقويم الفكر النسوية والتصدي للاتهامات الموجهة له، وذلك بمراعاة تنوع وتعدد الأطر الاجتماعية والثقافية والجغرافية والدينية، ففي كل فترة يقوم عدد من المفكرين بإعادة رصد لأهم أفكار ورؤى المدرسة النسوية، ومحاولة مواءمتها مع الأطر الزمنية والاجتماعية والثقافية المختلفة. وكنتيجة لذلك ظهرت العديد من المدارس الفرعية للفكر النسوي، ومنها:

1-  الحركة النسوية السوداء

        وهي مدرسة الفكر الذي تجادل في قضية التمييز على أساس الجنس أو العرق، بالاضافة إلى الاضطهاد الطبقي والهوية الجنسية والعنصرية حيث انهما مرتبطان ارتباطا وثيقا وهذة المفاهيم تتقاطع مع ببعضها البعض. ومن هذا المنظور طرحت كيمبرلي كريشنو نظرية “تقاطع”، كمحاولة لتحليل تجارب النساء الملونات، وتقاطع التفرقة العرقية والجندرية التي تواجهها النساء الملونات على مستوى النظام القانوني والقضائي والحق في الخدمات العامة والقدرة على النفاذ إليها. وتطوّرت النظرية بعد ذلك لتشمل جميع تقاطعات أشكال وأنظمة القهر والهيمنة والتمييز، وتقاطعها مع الجندر (النوع الاجتماعي) والإثنية واللون والطبقة الاقتصادية والاجتماعية و الميل الجنسي والتوجه الجندري والقدرات العقلية والجسدية، لتفكيك وفهم تجارب النساء المركبة.

         وأصبحت الحركة النسائية السوداء شعبية في في فترة الستينات، ردا على التحيز الجنسي من حركة الحقوق المدنية والعنصرية الحركة النسوية. بدأت في النمو من فترة السبعينات إلى الثمانينات، وشكلت الحركة النسوية السوداء المجموعات المختلفة التي تناولت دور المرأة السوداء في القومية السوداء، تحرر مثلي الجنس، والموجات النسوية. ووصلت النظريات النسوية السوداء إلى أوجها في عقد 2010، نتيجة لدعوة وسائل الاعلام الاجتماعية.

   وينتقد البعض هذا التيار النسوي، باعتبار أن الانقسامات العرقية تضعف قوة الحركة النسوية بشكل عام.

2-        الاتجاه النسوي الاشتراكي (الماركسي)

        ظهر المذهب في البداية على يد توماس مور في إنجلترا وفى فرنسا على يد سان سيمون وجون ميلليه، ولم يرفض هذا الاتجاه قضايا الفكر النسوي الليبرالي ولكنه رفض تطبيق مفاهيم القيمة والمكانة كسبيل لتمكين المرأة، فالفكر النسوي الاشتراكي يرى أن اضطهاد المرأة يرجع لفكرة تطور الملكية الخاصة وظهور مجتمع يقوم على الطبقات، وبالتالي فتحرير المرأة يأتي من خلال نجاح الثورات الاشتراكية وحل التناقضات الطبقية وبذلك يتم القضاء على كافة أشكال التمييز فى المجتمع بما فيها التمييز ضد المرأة، ويؤمن ذلك الاتجاه بوجوب تغيير وضع المرأة ووظيفتها سواء في المجال العام أو الخاص وضرورة رفض التبعية والاستغلال وضرورة تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمرأة كوسيلة لتتحقق لها الحرية الكاملة.

3-     الاتجاه النسوي العربي

     دخلت الأفكار والمقولات النسوية الغربية إلى العالم العربي بشكل متفاوت، عن طريق عدة قنوات، أهمها: البعثات العلمية إلى دول الغرب، وكذلك من الأعمال الذي قدمها رجالات النهضة من المثقفين العرب، وعن طريق تقليد الشرائح الاجتماعية شبه الارستقراطية للثقافة الغربية ومسالكها. وقد تشكلت النسوية العربية خلال ثلاث مراحل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، وذلك على النحو التالي:

أ‌-       المرحلة الأولى:

        تسمى هذه المرحلة “بعصر النهضة”، التي ترافقت مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م. وكانت أبرز ملامح النسوية في هذه المرحلة تتمثل في:

◄   الاهتمام بمسألة المرأة في هذه المرحلة بشكل ثانوي، وملحق بقضية النهضة، لذلك لا تكاد تخرج المطالب على حق المرأة في التعليم.

◄   الحديث عن حق المرأة في العمل، لكنه لم يكن شاملاً مطلقاً كما هو في المراحل التالية، وأيضاً دعوا إلى الاختلاط بين الجنسين؛ لأن ذلك من مقتضيات التعلم والعمل -حسب رأيهم-، وليس من منطلق المساواة بين الجنسين.

◄   لم تُطرح فيه قضايا مباشرة مناقضة لثوابت الدين ومسلماته، ولم يتم نسبة التخلف الذي كان عليه حال المرأة إلى الدين.

◄   في هذه المرحلة الدعاة لحقوق المرأة كانواً رجالاً، وغاب العنصر النسائي. 

ب- المرحلة الثانية:

                اختلف الباحثون في تحديد بداية هذه المرحلة، فمنهم من يرجعها إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، الذي أصدر فيه مرقص فهمي كتابه “المرأة في الشرق” عام 1894م، والذي أحدث هزة كبيرة في المجتمع؛ لأنه نقل موضوع حقوق المرأة إلى ميدان المواجهة مع المعتقدات الإسلامية، ومنهم يرجع بدايتها لكتاب قاسم أمين عام 1900م، والذي دعا فيه المرأة العربية إلى اقتفاء أثر المرأة الغربية، وسلك المسلك العلماني الليبرالي عند طرحه لقضايا المرأة. 

     كذلك نشطت هذه المرحلة في مصر بتأسيس الاتحاد النسائي المصري عام 1923 وحضرت رئيسة الاتحاد الدولي للحركة النسوية في العالم إلى مصر لمساعدة المصريات في بناء التنظيم ودعمه، ومن أبرز نسويات هذه الفترة هدى شعراوي وصفية زغلول.

وكانت أبرز الملامح النسوية في هذه المرحلة:

◄ أصبحت الكتابات تتجه نحو المناداة بالالتحاق بركب الحضارة الغربية، وجعل المرأة الغربية نموذجاً يحتذى به، وتناولت موضوعات لم تُطرح من قبل، مثل: المساواة بين الجنسين في مرافق التعليم.

◄ ظهرت المرأة في ميدان التأليف للدفاع عن حقوق المرأة، ولم يَعُدْ مقتصراً على الرجال فحسب كما كان في المرحلة الأولى كدرية شفيق، والتي أصدرت مجلة “بنت النيل”.

◄ نظمت المرأة نفسها في سبيل نيل حقوقها في الاتحادات النسائية التي ظهرت في تلك المرحلة، وشاركت من خلالها في المؤتمرات العالمية التي تدرس وضع المرأة.

◄ محاولة توظيف الدين ونصوصه  لتصبح صالحة للاستدلال عليها في كتاباتهم ودعواتهم.

  1. 3المرحلة الثالثة

     تعود بداية هذه المرحلة إلى الخمسينيات، ويرجع اعتبار هذه الفترة فترة مستقلة عن سابقتها، ونشطت في هذه الفترة حركة ثقافية قامت بترجمة الكثير من الأدبيات الفكرية والفلسفية -بكافة تياراتها، والتي تخص قضية المرأة وتحررها على منظورٍ مغايرٍ للمنظور الديني، وهي التي قدمت للكُتَّاب العرب الأساس النظري في قضية المرأة، الذي يمكِّنهم من الاسترشاد في قضية المرأة على ضوئه.

ومن أبرز الملامح النسوية في هذه المرحلة:

◄ انتقلت الدعوات النسوية في هذه المرحلة من مرحلة التأثر بنمط الحياة الظاهري والعملي للمرأة الغربية إلى مرحلة استلهام الرؤى الفلسفية الغربية، وجعلها عقيدة للمرأة في حركتها ووضعها.

◄ انتشر في بعض الأدبيات الربط بين تحسين وضع المرأة أو تغييره، وبين التغيير الشامل والجذري في قيم المجتمع.

◄ زاد الاهتمام بدراسة النوع “الجندر”، حسب أطروحات الدراسات الغربية.

     وقد واجهت هذه الأفكار العديد من الانتقادات والهجوم نظرا لكونها تخرج عن الإطار المجتمعي والثقافي، كما تتعارض بشكل صريح مع الأطر الدينية التي تتبناها المجتمعات العربية والإسلامية، لذا ظهرت بعض التوجهات الجديدة التي حاولت الموازنة والمواءمة بين اعتبارات الفكر النسوي والمطالبات بحقوق المرأة، وبين الإطار الشرعي للدين الإسلامي، وظهرت اتجاه فرعي جديد  للنسوية، تحت مسمى ” الاتجاه النسوي الإسلامي”.

4-  الاتجاه النسوي الإسلامي:

وهو اتجاه نسوي فرعي للاتجاه العربي، ظهر كرد فعل لانتشار أفكار المدرسة النسوية الغربية، وانطلاقا من ضرورة احترام الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمعات العربية، وبدأ مصطلح النسوية الإسلامية بالظهور في تسعينيات القرن الماضي، وتعتبر الناشطة الإيرانية زيبا مير حسيني أول من استخدمه. أما أبرز الحركات التي نشأت تجسيدًا لفكرة النسوية الإسلامية فهي “حركة مساواة”، وهي حركة عالمية انطلقت في مؤتمر عقد في ماليزيا عام 2009 وحضره أكثر من 250 امرأة ورجلا من نحو 50 دولة حول العالم، وكانت الناشطة الإيرانية زيبا مير حسيني إحدى المؤسسات إلى جانب 12 شخصية أخرى. ونال المصطلح شهرته على يد الأمريكية آمنة ودود، أستاذة التفسير في جامعة فرجينيا، وتعتبر مؤسسة المرأة والذاكرة التي أسسها عدد من النساء أبرزهن أميمة أبو بكر وهدى الصدة.

   ويمكن توضيح أهم خصائص المعرفة النسوية الإسلامية في النقاط التالية:

1ـ أصالة المكون الميتافيزيقي جنبا إلى جنب مع المصادر المادية للمعرفة، ويعني ذلك المكوّن الإيمان بالله وبالغيب.

2ـ أن المعرفة النسوية الإسلامية تستند إلى إطار معرفي عقائدي أكبر، وهي بذلك تتشابه مع النسوية الليبرالية والاشتراكية في انتمائها لغطاء فكري وعقائدي أكبر، وتبتعد عن نسوية ما بعد الحداثة التي ترفض المعرفة قبل النسوية.

3ـ المعرفة النسوية في المنظور الإسلامي هي معرفة نقدية في جوهرها ومضمونها، إصلاحية في هدفها.

5 ـ محكومة بالضوابط الموضوعية والمنهجية الإسلامية.

6ـ  معرفة تحررية ضد السلطة المطلقة لفرد أو جنس أو رأي أو نظام وحيد.

 7ـ  نمو المعرفة النسوية رهين بنمو تيار ثقافي اجتهادي في نسيج المعرفة والثقافة الإسلامية عموما.

وقد انقسم الاتجاه الإسلامي للنسوية إلى تيارين أساسيين:

   التيار الأول: التيار النسائي الإسلامي:

وأهم ما يميزه إيمانه الكامل بكل ما جاء به القرآن من أحكام متعلقة بالنساء دون ليّ أعناق النصوص، وأن ما جاء به القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، واحترامه للتفاسير مع ترجيحه لتفسير دون آخر استنادا لقوة الدليل، وتؤمن باحثات هذا التيار بكل الأحاديث الشريفة التي صحّت سندا ومتنا، ومما يميزه أنه لا يعتمد على الفصل العنصري، ومن ثم يجتهد في هذا المجال الكثير من الرجال والنساء.

ويتشدد هذا التيار في الحرص على إثبات خصوصية هويته الإسلامية، بدءا من المصطلح “النسائي” نسبة إلى النساء، وهي اسم سورة سور القرآن الكريم، وتمييزا له عن مصطلح التيار النسوي الغربي، ويرى رواد هذا التيار أن الالتزام بأحكام الدين المتعلقة بالمرأة كجزء من الالتزام العام بالنظام الإسلامي بشموليته، وهو كفيل بحل كل المشكلات والتحديات التي تواجهها النساء، ويأخذن موقفا نقديا من الوثائق الأممية، لاعتقادهم بأنها  تأسست على هدم وتفكيك الأسرة وتزييف الوعي وتشبيه النساء بالرجال، وبرز هذا التيار بشكل أكبر في البلدان الإسلامية الأكثر تشددا كالسعودية ولم يتجاوز كونه تيارا نظرياُ ناقدا للرؤية الغربية، له بعض الكتاب والمفكرين والكثير من رموزه هم من دارسي الشريعة الإسلامية، لكن لم يحظ التيار بمساحات واقعية واسعة للتطبيق.

التيار الثاني: النسوية الإسلامية:

      وهو تيار أكثر مرونة من التيار الاول، فآمن بالفكرة النسوية بوجه عام ورأى أنها ليست نتاجا غربيا، وإنما هي أفكار تكوّنت عبر نضال النساء على مدار التاريخ إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، ويرفض هذا التيار الفكر النسوي المتطرف الذي يعتمد على هدم كل آليات المعرفة السابقة والذي ينحاز للنساء ويبحث عن استقواء أنثوي مقابل الاستقواء الذكوري، لكنه يؤمن بأطروحة “الجندر” أو النوع الاجتماعي ويتعاطى معها بإيجابية، ويرى رموز هذا التيار أنه لا تعارض بين الفكر الإسلامي وبين الفكر النسوي أو أطروحة الجندر.

   فتعرّف أميمة أبو بكر النسوية الإسلامية بأنها “موقف له منطلقات أنطولوجية معينة وهدف مزدوج، هو الاهتمام بتحسين أحوال النساء، خاصة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وتحقيق العدالة والمساواة للنساء، والهدف الثاني هو إصلاح وترشيد الفكر الإسلامي نفسه ومنهجيات العلوم الإسلامية والفهم الديني لإعادة قراءة المصادر الإسلامية ما يسمح ببناء معرفة إسلامية نسوية مساوتية”.

ومن الجدير بالذكر أنه داخل هذا التيار برزت مدرستين متقابلتين:

الأولى: هي مدرسة الخارج، أي منظرات الفكر النسوي الإسلامي من النساء في البلاد الغربية حيث تشهد هذه المدرسة زخما كبيرا يرتد أثره للداخل الإسلامي، ومن أعلامها آمنة ودود، وهي مدرسة لا تتقيد في اجتهادها بأي قيد خارج منهجيتها في التفكير.

 الثانية: هي مدرسة الداخل الإسلامي، حيث تتحرك بحذر أكبر وهي تعلن أنها لا تستورد أجندتها من الخارج وأن كل ما يتعلق بأفكار خارجة عن صريح الشرع مثل المثلية ونحو ذلك من أفكار النسوية العالمية لا تعنيها لأنها تتحرك وفق المشكلات الموجودة في الداخل لدينا فقط. 

        وعلى الرغم من أن هذا التيار يقوم باستيراد مصطلحات وأدوات الآخر النسوية المعرفية إلا أنه يحاول أن يصبغها بصبغة إسلامية، وهو ما يعرض هذا التيار للكثير من الانتقادات والاتهامات، كونه يتبنى إطارا أكثر اتساعا ومرونة من الأطر الدينية المعروفة، إلى الحد الذي يجعل رواده يتلاعبون في تفسير بعض النصوص الدينية لكي تتفق مع الرؤى والأفكار التي يقدمونها.

ثامنًا: النسوية في العالم العربي

مرت الحركة النسوية العربية بثلاث مراحل منذ بداية القرن التاسع عشر: المرحلة الأولى: مرحلة عصر النهضة التي ترافقت مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798 إذ عُد هذا التاريخ بداية اتصال العرب بأوروبا والانفتاح على الغرب وثقافته، خاصة حول قضية المرأة وحقوقها، مما أدى بالنخب المثقفة في جامعاتها إلى تقليده محاولة للخروج من حالة التخلف والأمية والفقر السائدة في بلاد العرب، فبرز في هذه المرحلة: رفاعة الطهطاوي الذي نسب إليه بعد عودته من فرنسا سنة 1831 أنه أول من بشّر في البلاد العربية بمساواة المرأة مع الرجل في العصر الحديث ودعا إلى اشتراكها في العمل. ويقول في هذا المعنى «يمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة» وعلى النهج نفسه سار نخبة من المفكرين النابهين مثل بطرس البستاني وخير الدين التونسي وغيرهم ممن كان لآرائهم أبلغ الأثر في تنوير الأذهان ومناقشة قضايا المرأة بحرية تامة، فظهر الجيل الأول من النساء الرائدات اللاتي أرست آراؤهن المنشورة عبر الصحف اللبنة الأولى لنشأة الحركة النسوية في العالم العربي، ومن هؤلاء النساء مريم جبرائيل نحاس المتوفاة بمصر سنة 1888، والتي صدر لها كتاب ترجمت فيه لشهيرات النساء في عصرها وغيره، وأنيسة عطا الله صاحبة «صحيفة المرأة»، ولبيبة هاشم صاحبة صحيفة «قناة الشرق»، ومريانا مراش الشاعرة والكاتبة الحلبية، وهي أول امرأة أنشأت مقالاً نشر لها في صحف النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والأديبة السورية أنيسة سعيد الخوري الشرتوني التي جمعت مقالاتها ومقالات شقيقتها عفيفة في كتاب اسمه: «نفحات الوردتين».

المرحلة الثانية: وتبدأ من نهاية القرن التاسع عشر إثر صدور كتاب «المرأة في الشرق» لمرقص فهمي (1870-1955) الذي أحدث هزة عنيفة؛ لأنه نقل موضوع المرأة وحقوقها إلى حلبة صراع مع المعتقدات الإسلامية، إضافة إلى دور كتاب المرأة الجديدة لقاسم أمين والذي دعا فيه علانية المرأة العربية إلى تقليد المرأة الأوربية حتى تلحق بركب الحضارة والمدنية. أما على المستوى العملي فقد تأسست في هذه الفترة الاتحادات النسائية التي شاركت في مؤتمرات عالمية للمرأة، ودخلت المرأة في السجالات السياسية، وكان من أبرز رموز هذه المرحلة، قاسم أمين، هدى شعرواي، درية شفيق، سلامة موسى، أمينة السعيد، إحسان عبد القدوس.

 أما المرحلة الثالثة: فتبدأ من خمسينات القرن المنصرم إثر ازدياد الأحزاب التي تبنت الفكر العلماني، وانتشار الشيوعية واتساع نفوذها في العديد من البلدان العربية التي كانت على وشك الاستقلال. وقد ترجم في هذه الحقبة العديد من الكتب اليسارية الماركسية إلى العربية حول تحرير المرأة مثل كتاب «الجنس الآخر» وكتاب «لينين والمرأة» وكتاب «الحب والحضارة» وكتاب «الثورة الجنسية» وكتاب «الاشتراكية والمرأة» وغيرها. وأدى ذلك إلى انتقال هذه الأفكار اليسارية إلى المجتمعات، فسادت أجواء الشك في الدين والقيم، ونُعت الدين والتقاليد بالرجعية والتخلف، لا بل اتهم الدين بأنه السبب المباشر في دونية المرأة وتخلفها واضطهادها، ويمكن القول: إنه في هذه المرحلة انتقلت حركة تحرير المرأة من مرحلة التأثر بالنموذج الغربي إلى جعل هذا النموذج أيديولوجية وعقيدة للمرأة. إذ كانت الأيديولوجية الشيوعية من أقوى الفلسفات تأثيراً في هذه المرحلة والتي دعت إلى إقصاء الدين ونعته بالرجعية.

وفي العقد الأخير من القرن العشرين الذي يعد نهاية هذه المرحلة حتى هذا اليوم ازداد اهتمام الحركات النسوية المتطرفة بدراسة مفهوم «الجنوسة»، ومن أبرز شخصيات المرحلة الثالثة: نوال السعداوي، فاطمة المرنيسي، محمد شحرور، هشام شرابي وغيرهم كثير.

وقد تبنى هذا الاتجاه المتطرف بعض البلدان العربية والإسلامية، مثل المغرب ومصر تحت شعار إدماج المرأة في التنمية، لكن بعض الأفكار التي تروجها الجمعيات النسوية باسم حقوق المرأة العربية وحريتها هي أفكار تدميرية، من شأنها إحداث انقلاب قيمي أخلاقي ثقافي وديني، وأهمها:

  • التشكيك في صحة الدين بحجة ترسيخ دونية المرأة بسبب آية القوامة ]الرّجَلُ قوّامُونَ عَلى الِنّسَاء[(النساء 34)، ]للرّجَالِ عَليْهنَّ درجَةُُ[(البقرة 288) وكذلك بسبب القسمة في الميراث ]

5/5 - (2 صوتين)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى