نظرية العلاقات الدولية

الاتجاه الليبرالي في تحليل العلاقات الدولية

رنيم علي جمال الدين الغنام باحثة دكتوراه في العلاقات الدوليةكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية – جامعة الإسكندرية

تمهيد: التعريف بالاتجاه الليبرالي ونشأته:

تعود جذور الأفكار الليبرالية إلى القرن السابع عشر، في كتابات المفكر الإنجيليزي جون لوك John Locke (1632-1704)، حيث يعود له الفضل في صياغة الليبرالية كاتجاه سياسي في الممارسة والتحليل من خلال آرائه حول الحقوق والحريات الفردية، واستناد شرعية السلطة إلى موافقة الأمة، وليس على الشرعية الملكية أو الدينية. وتطورت الليبرالية كأيدولوجية في السياسة والحكم على يد فلاسفة التنوير الفرنسيين، والآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية. وظهرت المبادئ الليبرالية في وثائق مثل إعلان الاستقلال الأمريكي 1776، والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789 وغيرها. ثم امتد الفكر الليبرالي من السياسة إلى الاقتصاد، وظهر في كتابات آدم سميث Adam Smith  التي تناولت موضوعات التجارة الحرة و”اليد الخفية” (1).

ولم يكن حقل العلاقات الدولية ضمن موضوعات الفكر الليبرالي حتى أواخر القرن الثامن عشر، فقد بدأ الليبراليون آنذاك في انتقاد الحروب ووصفها بأنها عنف غير عقلاني وسببها القوة المطلقة وغرور وطمع الملوك. وتبلورت هذه الأفكار في مقال للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Immanuel Kant بعنوان “السلام الدائم Perpetual peace” صدر عام 1795 (2). وظلت أفكار كانط تعكس الاتجاه الليبرالي في العلاقات الدولية حتى قيام الحرب العالمية الثانية. وتأثر بها قادة دول كبرى وسياسيين أبرزهم وودرو ويلسون Woodrow Wilson والذي يُصنف هو الآخر كأحد أبرز المفكريين الليبراليين الكلاسيكيين (المثاليين) (3).

تطور الاتجاه الليبرالي بعد فشل عصبة الأمم في منع قيام الحرب العالمية الثانية، وبعد التشكيك في الفكر الليبرالي المثالي الذي ساد السياسة الدولية في تلك الفترة، فظهر فرع جديد عن الليبرالية يُعرف بالليبرالية الجديدة
أو الليبرالية المؤسساتية Neoliberalism or  Neoliberal Institutionalism وأبرز مفكريها روبرت كيوهين
 Robert Keohane، وجوزيف ناي Joseph Nye، وأصبح يُشار لليبرالية قبلهم بأنها اتجاه ليبرالي “يوتوبي Utopian” أو مثالي للتفرقة بين الليبرالية الكلاسيكية والجديدة.

يتناول هذا التقرير المبادئ العامة للاتجاه الليبرالي في العلاقات الدولية، ثم الليبرالية الكلاسيكية أو المثالية، ثم الليبرالية الجديدة والمؤسساتية، وأخيرًا تقييم الاتجاه الليبرالي.

أولًا: المبادئ العامة للاتجاه الليبرالي في العلاقات الدولية:

هناك خمس افتراضات رئيسية للاتجاه الليبرالي تتمثل في التالي:

1- الدول والفاعلين من غير الدول Non-State Actors كيانات مهمة في السياسة العالمية:

لا يقتصر الاتجاه الليبرالي على الدول كوحدة تحليل بل يؤكد على أهمية الفواعل من غير الدول كالشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات الدولية غير الحكومية وجماعات المصالح، بل وحتى الأفراد في السياسة الدولية. ويُفضل الليبراليون استعمال مصطلح “السياسة العالمية World or Global Politics” بدلًا من “السياسة الدولية International Politics” لأن المصطلح الأخير يميل إلى تفضيل الدولة على المنظمات والجماعات والأفراد الدولية وغير الحكومية (4).

2- الاعتماد الاقتصادي المتبادل له تأثير على سلوك الدول، ويُقلل من إمكانية حدوث حرب:

يرى العديد من الليبراليين أن أشكال الترابط الاقتصادي أو غيره من أشكال الاعتماد المتبادل أو الترابط بين الجهات الحكومية وغير الحكومية، تميل إلى التأثير في سلوك الدولة من حيث التهدئة أو على الأقل تأثير معتدل يدفعها لاستبعاد خيار العنف. حيث ينظر الاتجاه الليبرالي للعالم باعتباره مرتبط بشكل وثيق بشبكة معقدة ليس فقط من الروابط الاقتصادية، ولكن أيضًا من الروابط الاجتماعية والثقافية والسياسية أو عبر الوطنية، فيما يُعرف بنموذج “نسيج العنكبوت Cobweb Model” وهي تقريًبا العولمة من المنظور الليبرالي. ويرى الليبراليون أن الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات والجماعات والأفراد يعملون في مجموعات معقدة من التحالفات والشبكات المتداخلة أو الشاملة (5).

وإن نمو هذه الشبكات بين الفواعل من غير الدول ذات الاستراتيجيات والأهداف المشتركة يعكس جانبان، أحدهما إيجابي والآخر سلبي. الجانب الإيجابي هو فكرة “المجتمع المدني العالمي Global Civil Society” في الليبرالية. أما الجانب السلبي فهو المنظمات الإرهابية والإجرامية التي تشكل درجات مختلفة من التهديدات للدول والشعوب (6).

3- ترفض الليبرالية أن تقتصر السياسة الدولية على القضايا الأمنية:

يرفض الليبراليون أن تهيمن على أجندة السياسة الدولية القضايا العسكرية والأمنية فقط، ويؤكدون على أهمية القضايا الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والبيئية (7).

4- الاهتمام بالعوامل الداخلية في الدولة وتأثيرها على السياسة العالمية:

 يسير التحليل الليبرالي للعلاقات الدولية “من الداخل للخارج” بمعنى أنه يبحث في كيفية تأثير العوامل الداخلية؛ على مستوى الدولة والمجتمع، في العلاقات الدولية. وأبرز توضيح لهذه الفكرة يتجسد فيما يُهرف بنظرية السلام الديمقراطي Democratic peace theory، والتي قوامها إظهار كيف تؤثر الثقافة السياسية والقيم والهياكل السياسية المحلية على آفاق السلام الدولي (8).

5- الهدف الأساسي لليبرالية كاتجاه تحليلي هو الكشف عن الظروف التي يتحقق في ظلها السلام الدولي أو على الأقل التعاون الدولي:

وفي هذا الصدد يُعطي الاتجاه الليبرالي دورًا محوريًا للمنظمات الدولية في العمل على تحقيق التكامل الإقليمي والاعتماد المتبادل، فقد يلعب الموظفين في منظمة دولية معينة دورًا مهمًا في المراقبة والفصل في النزاعات الناشئة عن القرارات التي تتخذها الدول المكونة لها. أو قد يكون للمنظمة قدر كبير من السلطة من حيث وضع جدول الأعمال وكذلك في توفير المعلومات التي قد تؤثر على كيفية تحديد الدول لمصالحها (9).

ثانيًا: الليبرالية الكلاسيكية (المثالية):

يتم فيما يلي عرض أبرز أفكار كلًا من إيمانيويل كانط ومايكل دويل ونورمان آنجيل التي تعكس الاتجاه الليبرالي الكلاسيكي.

1- إيمانويل كانطImmanuel Kant :

كانط هو فيلسوف ألماني عاش بالقرن الثامن عشر، دارت أفكاره حول ما أسماه “السلام الدائم”، كيف يمكن أن يتحقق وتأثيره على العالم. كان كانط مؤمنًا برشد الأفراد، ومقتنعًا أن الأفراد رغم سعيهم لحماية مصالحهم الذاتية قادرون على التعاون وبناء مجتمع أكثر سلامًا وتناغمًا، وقياسًا على ذلك في المجال الدولي، أكد على حقيقة أنه يمكن التغلب على الحروب والصراعات أو على الأقل التخفيف من حدتها من خلال إحداث تغييرات منسقة في الهياكل المحلية والدولية للحكم. فوفقًا لكانط إن السعي الطبيعي للأفراد الذين يتمتعون بالرشد وراء مصلحتهم الذاتية يمكن أن يدفعهم ليصبحوا “وكلاء Agents” لتحقيق السلام، وأن الدول يمكن أن تتصرف بحكمة لإنشاء “اتحاد Federation” من الجمهوريات المترابطة التي يحكمها “قانون عالمي
Cosmopolitan law” (10).

ووضع كانط ثلاثة قيود فيما يُعرف بـ”القيود الكانطية Kantian constraints” التي في نظره تثبت إمكانية تجنب الحروب والحد من أثر الصراعات، وتتمثل هذه القيود في أن أولًا الديمقراطيات سوف تمتنع عن استخدام القوة ضد ديمقراطيات أخرى، وثانيًا المصالح الاقتصادية تخلق حوافز للحفاظ على العلاقات السلمية، وثالثًا يمكن للمنظمات الدولية تقييد صانعي القرار في الدول لتعزيز السلام بشكل إيجابي (11).

2- مايكل دويل Michael W. Doyle:

دويل هو مفكر ليبرالي أمريكي وُلِدَ عام 1948، ويُعد أحد أهم المُنظرين لنظرية “السلام الديمقراطي”، وهذه النظرية هي توسع في دراسة ومحاولة إثبات فكرة كانط حول أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضًا (12).

جادل دويل بأن المواطنين مهتمون بشكل كبير بالسلام لأنهم من يدفعون ثمن الحرب، ينعكس ذلك في زيادة الضرائب، وتعطيل التجارة، والخسائر المادية وخسائر الأرواح. ومن ثمَّ، فإن الديمقراطيات التي يتم فيها تمثيل مصالح الشعب في الحكومة تميل إلى أن تكون أكثر سلمية من الدول التي لا يطلب فيها الحكام موافقة مواطنيهم على خوض الحرب. وبمرور الوقت، تؤسس هذه الدول الديمقراطية الليبرالية الثقة فيما بينها، بناءً على الترابط الاقتصادي المتزايد الذي يوفر حوافز مادية للسلوك السلمي، ومؤسسات وقيم سياسية مماثلة، وتاريخ من اللاعنف. وهذا التطور هو الذي يؤدي، إلى إقامة سلام منفصل بين الدول الديمقراطية. أي أن الطبيعة السلمية للمجتمع الليبرالي المحلي تؤدي إلى علاقات دولية سلمية بين هذه المجتمعات (13).

وتستلزم هذه الحجة الإقرار بالعكس فيما يتعلق بالدول غير الديمقراطيات الليبرالية، وأنها تميل إلى أن تكون أكثر عدوانية نظرًا لأن مصالح السكان في تلك الدول غير ممثلة في الحكومة، وبما أن الحكومات غير الليبرالية نفسها يمكن أن تستفيد من الحرب – إما ماديًا أو لأنه يمكن استخدام الحروب لصرف الانتباه عن المشاكل المحلية – فإن الدول الليبرالية لا تثق في الدول غير الليبرالية. ويقترح منطق هذه النظرية أن تهدئة السياسة الدولية أمر ممكن وأنه فقط  يتطلب انتشار الديمقراطية الليبرالية إلى الدول غير الليبرالية. فبمجرد أن تتحول الدولة إلى اليبرالية، يمكنها أن تدخل الاتحاد الهادئ بين الدول الليبرالية، وبالتالي توسع نطاق السلام في العالم (14).

3- نورمان آنجيل Norman Angell (1872-1967):

كان آنجيل محاضرًا، وصحفيًا إنجليزيًا وعضوًا في حزب العمال البريطاني. نشر كتاب عام 1909 بعنوان “الوهم العظيم The Great Illusion”. ويعد هذا الكتاب أحد أهم مقدمات حجة الاعتماد الاقتصادي المتبادل ودوره في الحد من الحرب في الفكر الليبرالي، فقد جادل آنجيل فيه أن الترابط الاقتصادي للدول الصناعية المتقدمة أصبح كبيرًا لدرجة أن غزو أراضي دول أخرى بغرض الحصول على ثروة اقتصادية هي فكرة عفا عليها الزمن كما يقول، وأن الحرب أصبحت خيار غير عقلاني (15).

كان جوهر تحليل آنجيل أن السمة الأساسية للحداثة بعد منتصف القرن التاسع عشر هي عدم التوافق بين الحرب والسعي وراء الثروة الاقتصادية، فرأى أنه في الماضي كان التوسع الاستعماري والحروب يساهمان في زيادة الثروة الاقتصادية من خلال الاستحواذ على أراضي وموارد الدول الأخرى، أما مع الانتقال إلى مجتمعات تجارية متطورة، في إطار سوق عالمي ناشئ والتقسيم المتزايد للأعمال على النطاق العالمي، نتجت بيئة تجعل من الحرب غير مجدية كوسيلة للتعامل مع تعارض المصالح المادية. فالاستعمار لم يعد ضروريًا، والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين القوى الأوروبية الكبرى جعل من غير المنطقي بالنسبة لهم التنافس على الأرض أو حتى المطالبة بتعويضات من أولئك الذين هزموا في الحرب (16).

وكان آنجيل يأمل أنه بمجرد فهم هذه الرسالة  سيسعى القادة السياسيون إلى التعاون بدلاً من الحرب لحل خلافاتهم. ومن شأن عملية الاعتماد المتبادل نفسها أن تسهل ذلك. ومع زيادة تقسيم العمل، لن تكون الدولة قادرة على التحكم في ظهور المنظمات عبر الوطنية التي يتخطى تعاونها الحدود الإقليمية ويمكن أن يؤدي إلى ما يُطلق عليه مجتمعًا مدنيًا دوليًا ناشئًا. ومع ذلك لم يعتقد آنجيل أن العصر الجديد يعكس نوعًا مثاليًا من انسجام المصالح بين الأطراف المشاركة في التقسيم الدولي للعمل، فإن حجته الأساسية هي أنه إذا أرادت الدول الحفاظ على مزايا الترابط الاقتصادي، فعليها أن تجد طرقًا جديدة لحل النزاعات التي تحدث بعيدًا عن الحروب والعنف (17).

ثالثًا: الليبرالية الجديدة Neoliberalism والليبرالية المؤسساتيةLiberal Institutionalism :

الليبرالية الجديدة هي مرحلة في تطور الاتجاه الليبرالي في العلاقات الدولية، ارتبط ظهورها بما يُعرف بـ”أدبيات التعددية Pluralism Literature” في الستينيات وأوائل السبعينيات التي انتقدت الافتراضات الواقعية القائلة بأن الدول يمكن أن تعامل تحليليًا على أنها عناصر عقلانية Rational وحدويةUnitary . وبدلاً من ذلك، جادل أنصار التعددية بأن هناك مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة من غير الدول تتفاعل في البيئة الدولية وتُذيب الحواجز بين الشؤون المحلية والدولية وأن حدود الدول أصبحت قابلة للاختراق بشكل متزايد وأنه لم يعد من الممكن فهم العلاقات الدولية بمجرد دراسة التفاعلات بين الحكومات. كان هذا الأساس الذي انطلقت منه الليبرالية الجديدة، إلا أنها اختلفت عنه في تبنيها لافتراض الدولة كفاعل وحدوي، لكن مع تأكيدها على وجود فاعلين من غير الدول. وكانت الأدبيات الليبرالية الجديدة المبكرة في الثمانينيات بمثابة مواجهة تحليلية أمام حجج الواقعية البنيوية لكينيث والتز على وجه الخصوص (18).

أما الليبرالية المؤسساتية فهي فرع تابع لليبرالية الجديدة وهو الأكثر من حيث التطوير والاسهامات الفكرية، لدرجة أن كثير من المراجع تُشير لها باعتبارها هي نفسها الليبرالية الجديدة.

تهتم الليبرالية المؤسساتية بشرح لماذا وكيف تزايدت أهمية المؤسسات الدولية في السياسة العالمية، فتهتم بأسئلة مثل ما هي وظائفهم الرئيسية، وما الذي يحدد فعاليتهم، وما مدى “أهميتها”، وما إذا كانت هذه المؤسسات أكثر من مجرد وسائل ملائمة لممارسة السلطة من قبل أقوى أعضائها. ولا تركز الليبرالية المؤسساتية على تعزيز السلام، إلا أنها تفترض أن المؤسسات الدولية تساهم بشكل غير مباشر في هذا الهدف من خلال تعزيز عادات التعاون والشعور بالمصالح المشتركة. ويؤكد أنصار هذا الاتجاه أن التعاون الدولي أكثر شمولًا مما يصوره الاتجاه الواقعي، وأنه أصبح بالفعل لا غنى عنه في العديد من المجالات، مثل العلاقات الاقتصادية. ومع ذلك فنتائج العلاقات التعاونية ليست تلقائية، فالمصلحة المشتركة في السلام على سبيل المثال، أو في بيئة نظيفة، لا يضمن التعاون تحقيقها بشكل تلقائي، وهنا يأتي دور المؤسسات الدولية في ابتكار وسائل لتنفيذ الأهداف المشتركة وتخصيص التكاليف ومنع الغش، والتأثير في تشكيل تصوُّر المصالح الوطنية والتوقعات. كما يهتم منظّري الاتجاه الليبرالي المؤسسي بالمعلومات حول والأعراف والثقافة والاتفاقيات باعتبارها جوانب أساسية للعلاقات الدولية (19).

أهم مفكري هذا الاتجاه هما روبرت كيوهين وجوزيف ناي، وقد ركزت كتاباتهم على استخدام مصطلح “العلاقات عبر الوطنية Transnational Relations” بدلًا من العلاقات الدولية، على اعتبار أن الأول يُعبر بشكل أفضل عن التفاعل عبر الوطني الواسع النطاق الذي يحدث بين الدول والفاعلين من غير الدول (20)، كما اهتموا بقضية ما إذا كانت المؤسسات الدولية أكثر من مجرد وسائل لممارسة السلطة من قِبل أعضائها الأقوى (21).

وانطلق أحدث كتاب لكيوهين الصادر عام 2018 من فرضية رئيسية مفادها أن الاختلافات في مأسسة السياسة العالمية لها تأثيرات كبيرة على سلوك الحكومات. وأنه ولا يمكن فهم أنماط التعاون والخلاف إلا في سياق المؤسسات التي تساعد في تحديد معنى وأهمية عمل الدولة. وهو يؤكد أن الدول ليست دائمًا مُقيدة بشدة من قِبل المؤسسات الدولية، ولكن تصرفات الدول تعتمد إلى حد كبير على الترتيبات المؤسسية السائدة من خلال تأثيرها على تدفق المعلومات وفرص التفاوض، قدرة الحكومات على مراقبة امتثال الآخرين وتنفيذ التزاماتهم، ومن ثم قدرتها على تقديم التزامات ذات مصداقية في المقام الأول، وكذلك تأثير المنظمات الدولية في في بناء التوقعات السائد حول جديّة الاتفاقيات الدولية ونفاذها (22).

تعقيب: تقييم الاتجاه الليبرالي في العلاقات الدولية:

وُجِهَ للاتجاه الليبرالي العديد من الانتقادات خاصة من قِبل الواقعيين، فرفضوا المقدمات المثالية لليبرالية الكلاسيكية، ورأوا أن تبني قادة الدول لمفاهيم مثل السلام والأمن الجماعي يؤثر سلبًا على مصالح دولهم. فضلًا عن التبسيط المبالغ فيه ببعض الكتابات الليبرالية التي توحي للقارئ بأن السلام الدولي يمكن تحقيقه فقط إذا “أراد” القادة حقًا التعاون بدلًا من المنافسة، وكأن المسألة متوقفة على مجرد إرادة بشرية بسيطة، والوصف السطحي إلى حد ما للقادة “السيئون”
أو الحكومات “السيئة” الذي إذا تم إزالتهم سيكون العالم مكانًا أفضل، وكلها أمور لا تتوافق مع واقع البيئة الدولية (23).

كما انتقدوا في الليبرالية الجديدة والمؤسساتية ثلاثة نقطتين أساسيتين: أولًا تقليل الليبرالية الجديدة من دور الفوضى في العلاقات الدولية، وأن أسوأ جوانبها يمكن التغلب عليه من خلال السلوك التعاوني في  إطار المنظمات والمؤسسات والأنظمة الدولية، فالواقعيون بروّنَ أن أي تحليل للسياسة العالمية يجب أن يبدأ بالبنية الفوضوية للنسق، وأنه من غير الممكن تقييم احتمالات التعاون والسلام بين الدول بشكل واقعي ما لم نعترف بدور الفوضى في خلق الشك وعدم الثقة، وأن الدول غالبًا ما يكون لها مصالح مختلفة جذريًا مما يجعل الدافع وراء المكاسب المادية النسبية للصراع أمرًا لا مفر منه وجزءًا من المشهد الأبدي للعلاقات الدولية (24).

وثانيًا، وصف الواقعيون المقاربات الليبرالية بأنها تفتقر للتأصيل النظري ويغلب عليها الطابع الوصفي، وانتقدوا بالأخص المفهوم الليبرالي للعولمة ووصفوه بأنه عبارة عن “كلمة طنانة شائعة أكثر من كونها مفهوم مفيد نظريًا”، ويروّن أن استغراق الليبرالية في وصف العالم بمزيد من التفصيل زاد من دقة الوصف على حساب تطوير نظريات فعلية للعلاقات الدولية قادرة على التفسير (25).

ورغم هذه الانتقادات وغيرها، لا شك أن الاتجاه الليبرالي قد لفت الأنظار إلى ظواهر جديدة في التحليل، ولعل أهمها دور الفاعلين من غير الدول في السياسة العالمية، غير أن الليبرالية لازالت تواجه تحدي يتمثل في شرح كيف، وإلى أي مدى، وتحت أي ظروف، يؤثر هؤلاء الفاعلون المتنوعون على السياسة العالمية (26).

الهوامش:

(*) هذا التقرير جزء من تكليفات مُقرر الاتجاهات النظرية في تحليل العلاقات الدولية ضمن برنامج الدكتوراه بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، تحت إشراف الأستاذة الدكتورة ليلى أمين مُرسي، أستاذ العلوم السياسية المتفرغ بجامعة الإسكندرية.

(1) وَرَدَ في:

–  Devetak, Richard (ed.), An Introduction to International Relations, 2nd Edition, Cambridge University Press, USA, 2012, P. 83-84

–  Jahn, Beate, Liberal Internationalism: Theory, history, practice, Palgrave Macmillan, UK, 2013, P. 174.

(2) Devetak, Richard (ed.), Op.cit., P. 83-84.

(3) Nester, William, International Relations: Politics and Economics in the 21st Century, Wandworth Thomson Learning, USA, 2001, P. 12.

 (4) Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, International Relations Theory, Pearson, 5th Edition, UK, 2014, P. 129.

(5) وَرَدَ في:

– Nester, William, Op.cit., P. 13.

– Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, Op.cit., P. 130.

(6) Idem., P. 130.

(7) وَرَدَ في:

– Ikenberry, G. John, A world safe for democracy: Liberal Internationalism and the crisis of global order, Institute for Advanced Studies in Culture, New Haven and London, 2020, P. 41-42.

– Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, Op.cit., P. 130.

(8) وَرَدَ في:

– Ikenberry, G. John, Op.cit., P. 35-36.

– Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, Op.cit., P. 130.

(9) وَرَدَ في:

– Ikenberry, G. John, Op.cit., P. 38-39.

– Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, Op.cit., P. 130.

(10) وَرَدَ في:

– Dunne, Tim, et. al., International Relations Theories: Discipline and Diversity, 2nd Edition, Oxford University Press, USA, 2010, P. 95.

– Ikenberry, G. John, Op.cit., P. 32.

(11) Dunne, Tim, et. al., Op.cit., P. 101-103.

(12) Griffiths, Martin, Fifty key thinkers in International Relations, Routledge, USA and Canada, 1999,
P. 63.

(13) Jahn, Beate, Op.cit., P. 75.

(14) Ibid.

(15) Griffiths, Martin, Op.cit., P. 53-54.

(16) Idem., P. 53-54.

(17) Ibid.

(18) Dunne, Tim, et. al., Op.cit., P. 115-116.

(19) Devetak, Richard (ed.), Op.cit., P. 55.

(20) Dunne, Tim, et. al., Op.cit., P. 115-116.

(21) Devetak, Richard (ed.), Op.cit., P. 55.

(22) Keohane, Robert O., International Institutions and State Power: Essays in International Relations theory, Routledge, New York, 2018, P. 2.

(23) Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, Op.cit., P. 163.

(24) Idem., P. 161.

(25) Idem., P. 162-163.

(26) Idem., P. 130.

قائمة المراجع

– Devetak, Richard (ed.), An Introduction to International Relations, 2nd Edition, Cambridge University Press, USA, 2012.

– Dunne, Tim, et. al., International Relations Theories: Discipline and Diversity, 2nd Edition, Oxford University Press, USA, 2010.

– Griffiths, Martin, Fifty key thinkers in International Relations, Routledge, USA and Canada, 1999.

– Ikenberry, G. John, A world safe for democracy: Liberal Internationalism and the crisis of global order, Institute for Advanced Studies in Culture, New Haven and London, 2020.

  Jahn, Beate, Liberal Internationalism: Theory, history, practice, Palgrave Macmillan, UK, 2013.

– Keohane, Robert O., International Institutions and State Power: Essays in International Relations theory, Routledge, New York, 2018.

– Nester, William, International Relations: Politics and Economics in the 21st Century, Wandworth Thomson Learning, USA, 2001.

– Viotti, Paul R. & Mark V.Kauppi, International Relations Theory, Pearson, 5th Edition, UK, 2014.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى