دراسات سياسيةدراسات قانونية

التأصيل النظري لعملية بناء المؤسسات السياسية

من اعداد  عبدالله بن معمر بن عبدالله آل معمر، رسالة دكتوراه بعنوان بناء المؤسسة التنفيذية في المملكة العربية السعودية (دراسة حالة وزارات التعليم والإعلام والصناعة)، جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم العلوم السياسية، 1999م.

 

مقدمة : 

    تتزايد أهمية الدور الذي تقوم به المؤسسات السياسية والإدارية مع زيادة وتنوع وظائف الدولة التي تضطلع بمسئوليات كبيرة لتحقيق التنمية ومواجهة أعباء التطور والتغير في المجتمع المعاصر . 

    إن الدولة عموماً ليس لديها القدرة على الاستمرار في أداء وظائفها دون وجود مؤسسات تقوم بوضع القوانين وتنفيذها وتقوم على حماية إقليم الدولة وصيانة سيادتها .

    وتعتبر التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على الدول النامية بعد الحرب العالمية الثانية ذات أثر كبير على عدد ونوعية ووظائف مؤسسات هذه الدول التي ترغب في أن يتوافر لها الحد الأدنى من تحديث مؤسساتها دون تفريط في هويتها الثقافية وخصائصها الوطنية ، لذلك فإن هذه الدول تواجه معضلة التوفيق بين ما هو وافد مستورد غالباً ما يكون حديثاً وآخر تقليدياً يعد من ركائز البنى الثقافية في بيئة تتعرض للضغوط والتغيير ، دون أن يعني ذلك بالضرورة التطابق الحتمي بين ما هو حضاري قومي وما هو تقليدي وبين ما هو وافد وما هو حديث .

    وقد ظهر في معظم البلدان النامية العديد من التجارب التنموية التي تهدف إلى الرقي بالمجتمع ومؤسساته ومحاولة نقل البلاد إلى مصاف الدول الحديثة ، متخذة في سبيل تحقيق ذلك العديد من الوسائل والأدوات والتي منها على وجه الخصوص بناء وتطوير المؤسسات السياسية في إطار بيئة  ثقافية وفكرية واعية بوسائل وأهداف وغايات التنمية الشاملة وما يترتب على ذلك من تغيرات على كافة المحاور السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية .

    ولعل عملية بناء المؤسسات السياسية وأدائها وتكييف العلاقات بين ما هو تقليدي وما هو حديث، يعد محوراً هاماً في تحقيق عملية التنمية في مختلف المجتمعات والنظم السياسية ،وتجعل أهم الدراسات التي تناولت هذا الموضوع من المؤسسات أحد المعايير الأساسية للتقدم الحضاري التنموي، وتشير الدراسات إلى أن المجتمعات التي تتوافر لها تلك القدرات الأساسية على بناء المؤسسات أمكنها أن تحقق نجاحاً وتقدماً حضارياً ملحوظاً كالولايات المتحدة واليابان ودول غرب أوروبا.

    ومن خلال القدرات والمهارات اللازمة لبناء المؤسسات الفعالة ، يمكن للمجتمع تحقيق الابتكار والإبداع والسير في اتجاه تحقيـق الأهداف والغايـات المشـتركة الـتي يدور حولها الاتفاق العام في المجتمع . ومن خلال المؤسسات يتيسر للمجتمع تحويل المدخلات إلى مخرجات وتحويل الإرادة الوطنية إلى قرارات وسياسات يمكن ترجمتها إلى واقع فعلي . كذلك فالمؤسسات تعد من أحد أهم أدوات السيطرة على أزمات التنمية السياسية  .

كما أن طابع السلطة في المجتمع المعاصر أصبح يميل أكثر فأكثر إلى أن يأخذ طابعاً مؤسسياً وليس شخصياً أو هشاً مؤقتاً ، ويعني هذا الطابع المؤسسي توافر معايير معينة كان العالم الأمريكي هنتنجتون أول من أشار إليها كالتعقيد والتكيف والاستقلال والتماسك .

    وواقع الحال في معظم الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية هو ضعف حاد في المؤسسات وانهيارها  في كثير من الحالات وافتقارها لكثير من معايير المؤسسية ، وتعاني معظمها من السطحية و الشكلية أو من سيطرة أدوار الأشخاص والقيادات التي تنتهي المؤسسة بانتهائها، كما أن واقع حال هذه الدول يعاني من صراعات واضحة وتحالفات متغيرة دون توافر الطابع التنظيمي فيها، الأمر الذي أدى إلى فشل وقصور في إدارة عملية التنمية في تلك الدول نتيجة لعدم قدرة المؤسسات القائمة على تأمين حاجات الفرد المتزايدة من جانب أو عدم قدرة تلك المؤسسات على الوصول إلى كافة أفرادالمجتمع من جانب آخر . لذا استدعى الأمر بناء مؤسسات جديدة أو التحديث الجوهري لما هو قائم . ونتج عن ذلك ظهور فجوة بين المؤسسات وأساليب أدائها ، إذ اتسمت المؤسسات بالحداثة في أشكالها بينما اتسمت ممارساتها بالتقليدية .

 ولا شك أن المؤسسة التنفيذية تعد من أهم المؤسسات السلطوية التي لها اتصال مباشر مع الجماهير والتي تكتسب شرعيتها من إرضاء الجماهير ، حيث يتم التفاعل الإيجابي بين هذه المؤسسات والبيئة التي تتحرك فيها .

تحديد مشكلة الدراسة :

    سيتم التركيز في هذه الدراسة على عملية بناء المؤسسة التنفيذية في المملكة العربية السعودية وذلك  من خلال نظرة عميقة وشاملة لعملية التنمية في المجتمع السعودي والمتغيرات التي أثرت فيها وتأثرت بها ، وذلك على امتداد الفترة من 1953 وهو تاريخ إنشاء مجلس الوزراء السعودي وحتى عام 1985 لأنه تم عند نهاية هذه الفترة تقريباً اكتمال بناء التجهيزات الأساسية في الدولة ونضوج ممارسات المؤسسة التنفيذية تجاه وظائفها وتفاعلها مع باقي مكونات المجتمع . كما أن تلك الفترة هي الفترة التي تبلورت خلالها السياسات الرامية إلى تحقيق التوازن بين إمكانات النمو المختلفة (مادية ، بشرية) ، واتضحت خلالها  المحددات الرئيسية التي تؤثر على عملية بناء المؤسسة التنفيذية وأدائها لوظائفها المنوطة بها ، تلك المحددات المتمثلة في :-

1- الإيرادات النفـطية التي أسهمت في التنمية وميزت خـطط التنـمية في المملكة بقوة الدفع الذاتية والهائلة .

2- نقص القوى العاملة الوطنية (عدداً ونوعاً) .

3- الإشكاليات التي ظهرت أثناء عملية الإصلاح الإداري والتوسع في المؤسسات الإدارية .

4- تفاعل القطاع الخاص مع عملية التنمية ومتطلباتها .    

    وسيتم الوقوف على هذه المحددات وإبراز تأثيرها على عملية بناء المؤسسة التنفيذية ووظائفها، مع بيان خصوصية عملية البناء في السعودية على الرغم من كونها من الدول النامية ، مما يؤدي إلى تغير أثر هذه المحددات على عملية البناء المؤسسي التي يتأثر بها عادة أي دولة نامية .    

    ونعني بالمؤسسة التنفيذية في هذا المضمار كافة الوزارات وما يرتبط بها من أجهزة وإدارات القي عليها عبء تنفيذ الخطط التنموية السعودية والتي هي في جوهرها عملية بناء الدولة السعودية الحديثة والمعاصرة.

    وسيقدم البحث دراسة حالة لكل من مؤسسات التعليم والإعلام والصناعة ، وقد اختيرت هذه المؤسسات لما لهم من أدوار عظيمة في أنظمة دول العالم النامي ، والمملكة بوجه خاص من حيث مدى إسهامهما في التغلب على العقبات التي أثرت على عملية بناء المؤسسة التنفيذية وتحقيقها لوظائفها ، ومن حيث دورهم الكبيرفي نقل المجتمع من بيئته التقليدية إلي حيث الإنماط الحديثة في التفكير والإنتاج . فمؤسسة التعليم تعد المُشَّكِل والموجه مادياً ومعنوياً لفكر وعقول الأفراد نحو توجهات وسياسات النظام الحاكم ، كما تعد هذه المؤسسة المصدر الذي يمد المؤسسات الأخرى بالقدرات البشـرية والعقليـة القادرة على حمل أعباء التنمية واستيعاب موجات التحديث المسـتمـر ، أمـا مـؤسســة الإعلام فتقوم بدور تعبئة وتجنيد الأفراد نحو توجهات النظام السياسي ، كما تمدهم بالمعلومات عن المؤسسات السياسية الحكومية وغير الحكومية ، والقيام بوظيفة رقابية علي هذه المؤسسات . أما مؤسسة الصناعة فدورها في المملـكة دور استراتيجي ، وذلك لمسئوليتهـا في التخفيـف من سمـة ” الاقتصاد الريعي ” التي تتسم بها الحالة السعودية والتي تهدد مستقبل الاقتصاد السعودي . وسيتم  التركيز بصفة خاصة على دراسة وزارة المعارف ووزارة الإعلام ووزارة الصناعة والكهرباء لأن هذه الوزارات تعد الجهات التي يناط بها تنفيذ الجزء الأكبر والأهم من الأدوار والأهداف الموكلة لهذه المؤسسات ، كما سيتم تطبيق المعايير المؤسسية التي أعدها العالم الأمريكي هنتنجتون ( التكيف ، التعقيد ، الاستقلال ، التماسك ) عليهم ، وذلك للوقوف على درجة مؤسستيهم ، تلك الدرجة التي يمكن أن تعطي لنا مؤشراً عاماً عن مدى مؤسسية المؤسسة التنفيذية في المملكة ، وعن مستوى التقدم و التحول الذي يشهده المجتمع السعودي .

فرضيات الدراسة : 

تدور الدراسة حول فرضية مركزية مؤداها ” أنه كلما شهد المجتمع تحولاً وتطوراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً كلما اتجه إلى بناء المزيد من المؤسسات الحديثة  القادرة على استيعاب هذه التحولات وتلك التطورات ” . ويرتبط بهذه الفرضية الرئيسية فرضيات فرعية هي :

1- كلما شهد القطاع النفطي تطوراً وازدادت الايرادات النفطية كلما كان هناك نمو لمؤسسات حديثة وتطور في درجة مؤسسيتها .

2- يؤدي تزايد القوى العاملة الوطنية عدداً ونوعاً إلى بناء وتطوير مؤسسات حديثة وتعزيز درجة مؤسسيتها . 

3- تؤدي الإشكاليات الإدارية والإجتماعية والثقافية إلى تقويض جهود الإصلاح الإداري بما يتناسب مع متطلبات التنمية وعملية بناء المؤسسة التنفيذية وتحقيقها لوظائفها ودرجة مؤسسيتها .

4- كلما تفاعل القطاع الخاص مع أهداف التنمية ومتطلباتها ، كلما كان هناك نجاح للسياسات التي تتخذها المؤسسة التنفيذية لتحقيق أهدافها .

تساؤلات الدراسة :

1- ما مدى التطور في عملية بناء المؤسسة التنفيذية ؟ والى أي مدى ظهرت مؤسسات حديثة وتبلور دورها ؟ وما هي صور علاقتها بالمؤسسات التقليدية ؟

2- هل عملية بناء المؤسسات السياسية السعودية وتطورها تمت  إنطلاقاً من قناعة ثقافية حضارية نابعة من تطور المجتمع نفسه – مع حفاظه على قيمه وتقاليده الأساسية – ؟ أم أنها تمت بناء على الرغبة في تقليد نماذج التنمية الحديثة في المجتمعات المتقدمة ؟ وما هو دور  مؤسسة الإعلام في الإسهام في توفير البيئة الإعلامية والثقافية لعملية البناء ؟

3- ما مدى تأثر عملية بناء المؤسسة التنفيذية وأدائها لوظائفها بطبيعة السلطة السياسية ؟

4- ما هو تأثير تطور التعليم واتساع أعداد المتعلمين على مسار عملية بناء المؤسسة التنفيذية وعلى استمرار المؤسسات والممارسات التقليدية ؟

5- ما مدى نجاح مؤسسة الصناعة في تحقيق تنويع القاعدة الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالىالسعودي؟

6- هل حققت عملية بناء المؤسسة التنفيذية في المملكة المعايير المؤسسية التي أعدها صمويل هنتنجتون ؟

منهج البحث ومصادر البيانات :

 ستعتمد الدراسة على اقترابين رئيسيين هما :- 

       1- الاقتراب البنائي الوظيفي : 

والذي يدرس وظائف الأبنية و المؤسسات المختلفة ، فليس  من الضروري أن يحدث تطابق بين أشكال المؤسسات ووظائفها، وهذا المنهج يعتد به في دراسة المؤسسات السياسية سواء تلك التي تعد تقليدية قديمة تضاءلت أهميتها ، أو تلك التي تطورت أو خلقت أثناء عملية التحديث.

    ويركز هذا الاقتراب على البناء الاجتماعي والسياسي والعلاقات المتبادلة والتساند الوظيفي ، كما يركز على تمييز تلك الظروف والمتطلبات الخاصة بالحياة الاجتماعية والسياسية وتتبع العملية التي يقوم بها مجتمع معين في تحقيق مطالبة وطريقة التنـسيـق بين البناءات المختلفة وكيفية تكـاملها للمحافظة على وحدة المجتمع كنسـق كلي ( ) . ويقـوم هـذا الاقتراب على أربعة محاور هـي :- 

    المحور الأول : هو فكرة النسق العضوي والتي مؤداها أنه يمكن النظر إلى الجماعة أو المجتمع باعتبـاره نسقاً System  متكاملاً له صفة الديمومة ويتألف من عدد من الأجزاء أو العناصر (الأنساق الفرعية) المتكاملة المترابطة ذات الأهمية الثانوية بالمقارنة بالنسق الكلي عند التحليل ، ويقوم التكامل بين الأجزاء على أساس الاعتماد المتبادل بين الأجزاء والعناصر المكونة للنسق( ).

    المحور الثاني: أن لكل نسق احتياجات أساسية أو وظائف لا بد من الوفاء بها يمكن تحقيقها بواسطة عدد من البدائل الوظيفية والتي يؤديها أجزاء أو عناصر النسق في اتساق وتكامل لضمان استمرار وجود هذا النسق وتثبيته أو حتى لا يتغير تغيراً أساسياً بل وأحياناً لاتساع نطاقه وتقويته ( ). 

    المحور الثالث : أن النسق لابد أن يكون دائماً في حالة توازن ولكي يتحقق ذلك لابد أن تلبى أجزائه المختلفة احتياجاته بطريقه أو أخرى مثله في ذلك مثل الكائن العضوي ( ). فكل جزء من أجزاء النسق قد يكون نافعاً وظيفياً Functional   أي يسهم في تحقيق توازن النسق ، وقد يكون معوقاً وظيفياً  Dysfunctional  أي يقلل من توازن النسق ، وقد يكون غير وظيفي  Non- Functional  أي عديم القيمة بالنسبة للنسق( ) .

    المحور الرابع : أن البناء يرتبط بالوظيفة وان التغيير في الأخيرة يترتب عليه تغيير في الأول ( ).

ويقوم هذا الاقتراب على عنصري البناء والوظيفة ، فالبناء يقصد به شبكة العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الأشخاص في المجتمع ( )، أي أن الأشخاص هم وحدات البناء الاجتماعي وعناصره الأولية تماماً مثل الخلايا في جسم الإنسان ، واستقرار هذه العلاقات وديمومتها يحولها إلى نسق System  الذي عادة ما يحتوي على مجموعة من البناءات أو الأنساق الفرعيةSubsystem  المتمايزة عن بعضها رغم تداخلها وارتباطها والتي يقوم كل منها بوظيفة معينة من أجل بقاء النسق الكلي واستمرار حياته مثل البناء أو النسق السياسي الذي يقوم بممارسة السلطة في المجتمع . وهذه الأنساق الفرعية تماثل الأجهزة المختلفة في الكائن العضوي . وتتكون هذه البناءات أو الأنساق الفرعية من مجموعة من النظم أو المؤسسات Institutions التي تتداخل وتتبادل الاعتماد في شكل رتيب منظَّم طبقا لقواعد مرعية تفرضه الوحدات الاجتماعية ويقبلها الأشخاص باعتبارهم وحدات البناء الاجتماعي ولبناته . ويتوزع الأشخاص داخلها على مراكز يقومون من خلالها بأدوار معينة على ضوء قيم ومعايير سلوك هي التي تعطي للبناء الاجتماعي خاصية الثبات والترتيب ( ).

    أما الوظيفة فهي قد تشير إلى مجموعة العمليات داخل نطاق أو نسق معين وخصوصا تلك التي تعتبر أساسية لاستمراره، وقد تشير إلى إسهام عامل أو عنصر في بقاء النسق في حالة معينة ، أو إلى الإسهام الذي يقدمه الجزء إلى الكل وأحياناً إلى الإسهام الذي يقدمه الكل إلى أجزائه ، وقد تشير إلى الاعتماد المتبادل بين متغيرين ( ). 

    وقد ميز ميرتون بين الوظائف الظاهرة Manifested   والوظائف الكامنة Latent  حيث تشير الأولى إلى النتائج الموضوعية المباشرة التي يتوقع الأفراد حدوثها بصفة أساسية ، وتشير الثانية إلى النتائج العرضية . أما فكرة البدائل الوظيفية فالمقصود بها أن الوظيفة المعينة يمكن أن يتم تحقيقها بوسائل مختلفة ( ). 

    2- الاقتراب المؤسسي : 

وهو من أقدم المناهج المستخدمة في معالجة الظواهر السياسية ، وتبعاً له ينظر إلى النظام السياسي على أنه مجموعة المؤسسات التي تبين نظام الحكم وأساليب ممارسة السلطة وطبيعتها ، حيث يهتم هذا المنهج بدراسة بناء المؤسسات والوحدات التي تضمها (كالسلطة التنفيذية التي تشمل رئاسة الحكومة والدولة والوزراء) ، واختصاصاتها التي تحددها اللائحة التأسيسية لها وتوزيع الأدوار فيها ، وحدود تأثيرها وثقلها النسبي كالدور الذي تلعبه المؤسسات الحكومية من نظام سياسي لآخر وتفاوت ثقلها من فترة لأخرى ، وعلاقة المؤسسة بغيرها مثل مسألة التعاون والصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وحياد القضاء ، والتغير المؤسسي الذي يأخذ أكثر من شكل كالتغير في الاسم أو الدمج أو الفصل بين المؤسسات أو الإطاحة بالمؤسسات كلية أو إنشاء مؤسسات جديدة .

    وتنبع أهمية هذا المنهج من أنه لا يمكن فهم النظام السياسي في أية دولة بعيداً عن مؤسساتها السياسية والإدارية ، كما أن هذا الاقتراب يتلاءم مع الأسس التي قام عليها علم السياسة والتي تعتمد في أحد جوانبها على وجود المؤسسات ( ).  

    ويتكامل في تغطية هذه الدراسة أكثر من منهج للوصول إلى الغايات والأهداف التي تبتغيها الدراسة كالمنهج التاريخي والإحصائي والتحليلي ودراسة الحالة . تلك الآليات التي من خلالها يستطيع الباحث تحقيق فروضه البحثية ، ويجيب على تساؤلاتها . 

وسوف يعتمد الباحث في سعيه لجمع البيانات اللازمة للدراسة على المصادر التالية :

1- المراجع الأساسية والكتب والأدبيات العربية و الأجنبية التي تعرضت لجوانب الموضوع .

2- الاتصال ببعض المؤسسات الحكومية والعلمية السعودية التي يتوافر لديها معلومات تشكل بيانات أساسية للدراسة .

3- المراسيم الملكية و القرارات الوزارية واللوائح التنظيمية ذات الصلة .

الدراسات السابقة :

     تمثل قضية التنمية وبناء المؤسسـات الحديثـة والمواءمـة بين القـديم والحديث في دول الخليج العربي، موضع اهتمام لكثير من مراكز البحوث والدراسات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الاهتمام الدولي بمنطقة الخليج من جانب ، وتوافر الموارد المالية التي تسمح ببناء مؤسسات حديثة في تلك الدول من جانب آخر ، وخلال الثلاثين سنة الأخيرة تقريباً كان لدول الخليج العربي بصورة عامة و المملكة العربية السعودية بصفة خاصة جهوداً ملموسة في هذا الاتجاه .

    وتسهم الدراسة الحالية في هذه القضية من خلال تركيزها على عملية بناء المؤسسات السعودية ، متمثلة في المؤسسة التنفيذية ، وان تحقق بناء المؤسسات تلك في أشكالها وهياكلها التي تبدو حديثة ، لا يعني بالضرورة تحقق البناء الاجتماعي والثقافي المتوازي مع أشكال هذه المؤسسات .

    وقد رصد الباحث أهم أربع دراسات باللغة العربية وخمس دراسات باللغة الإنجليزية تناولت بعض من جزئيات موضوع الدراسة، إلا أن أحداً لم يتطرق لعملية بناء المؤسسة التنفيذية بشكلها الأوسع، وهذه الدراسات: 

1- نبيل زكي عمر ، التنمية الإدارية والجهاز الإداري السعودي من 1972 – 1981، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، 1985. وقد غلب على تحليل الباحث الطابع الإداري بتركيزه على تطور الجهاز الإداري من عهد الملك عبدالعزيز حتى عهد الملك خالد .

2- الدكتور خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1987 . وتعرض الباحث إلى تحليل معطيات التحديث في مجتمعات الخليج العربي وما قد يسببه من أزمات في هذه المجتمعات نتيجة للتناقض بين معطيات تلك المجتمعات التقليدية والمجتمعات المحدثة ، ويلاحظ على هذه الدراسة أنها دراسة عامة تحلل معطيات مجتمعات الخليج وتستشرف مدى تحقيقها للتنمية الشاملة في ظل ما وصفه بالدولة التسلطية . 

3- الدكتور أسامة عبدالرحمن ، البيروقراطية معضلة التنمية :  مدخل إلى دراسة إدارة التنمية في دول الجزيرة العربية المنتجة للنفط، الكويت ، عالم المعرفة ، 1982 . وقد فصَّل الباحث في هذه الدراسة دور المواطن الخليجي في إحداث التكيف بين التقليدية والحداثة وطالب بالمزيد من المشاركة في صنع برامج الحداثة . ويتضح أن هذه الدراسة اقتصرت على تناول العنصر البشري كأحد عوامل التنمية والتحديث .

4- الدكتور محمد توفيق صادق ، التنمية في دول مجلس التعاون : درس السبعينات وآفاق المستقبل ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، سلسلة عالم المعرفة ، الكتاب 103 ، يوليو 1986 ، في هذه الدراسة تطرق المؤلف إلى تحليلٍ لجهود التنمية في دول الخليج العربي وإلى دور الدولة ومؤسساتها وإلى كفاءة إدارة التنمية في هذه الدول ، مشيراً إلى نواحي القصور والضعف في الهياكل الإقتصادية والاجتماعية لمجتمعات هذه الدول والتي كان من شأنها حسب وجهة نظر الكاتب أن قللت من درجة تحقيق هذه الدول للتنمية الشاملة بالكفاءة والفعالية التي حققتها المجتمعات الحديثة . وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسة في تحليلها لمعطيات التنمية في دول الخليج ، إلا أنها كانت شاملة في دراسة الحالة وفي التركيز على عناصر التنمية ومجالاتها .

أما الدراسات التي رصدها الباحث باللغة الإنجليزية فهي :

1-Huyette, Summer Scott, Political Adaptation in Saudi Arabia: Study of council of Ministers, Washington

D.C, Colombia University, 1984 

وقد ركز Scott على العناصر التي أسهمت في نجاح منهج التكيف السياسي في تناوله دراسة حالة مجلس الوزراء السعودي في إطار أوضح فيه دور النخبة والثقافة السياسية في عملية التكيف. 

2-Golderup, Lawrance, Paul, Saudi Arabia: 1902-1932: The development of Wahhabi Society, Los Angles,

Univ. Of California, 1971

وتعرض الباحث إلى تحليل المبادئ التي قام عليها تغير – ما أطلق عليه – المجتمع الوهابي من مجتمع تقليدي إلى مجتمع يأخذ بأسباب الحداثة ، كأساس لهذا التغيير الذي اتسم بالحفاظ على بعض الموروثات ، ويلاحظ على هذه الدراسة أنها ذات طابع تاريخي في الدراسات الإسلامية ، وأنها اقتصرت على الفترة حتى عام 1932 .

3- AL-Faresy Fouad A., Saudi Arabia: A Case study in development, Ph.D. Thesis, North Carolina , Duke 

University, 1979.

وقد تناول الباحث في هذا الإطار دراسة شاملة للتطور السياسي في المملكة ، مبيناً أن السعودية حققت نمواً اقتصادياً كان معززا لمختلف مجالات التنمية مقارنة بمثيلاتها من البلدان النامية وذلك في العقدين اللذين سبقا عام 1976 ، ويتعرض الباحث إلى الاعتبارات الجغرافية والدينية والعلاقات الخارجية  ومسالة ظهور البترول أثناء تحليل عمليات التطور والتنظيم . ويلاحظ على هذه الدراسة العمومية وعدم التخصص في تعرضها وتحليلها لعملية التطور الذي تمر به المملكة .

4-   Bin Baker , Khaled, A., Modernization as if people mattered : Toward a new, Unindigenous, And non

Ethnocentric theory of modernization , Unpublished Ph.D. Thesis, Univ.  Of South Carolina, 1987.

    تعرض الباحث في هذه الدراسة إلى نظرية الحداثة الكلاسيكية ، وعلاقتها باستراتيجية التحديث السعودية التي توصل إليها كنظرية تحديث غير مستعرقة – على حد تعبير المؤلف – ومثلت هذه الدراسة نظرة شاملة لمستويات التحديث الاجتماعية و الثقافية و النفسية .. واعتمد في نتائجه على إجراء مسح ميداني لعينات انتقيت عشوائياً لأفراد سعوديين يقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية . ولم يكن للجانب المؤسسي نصيب في هذه الدراسة . 

5-         AL- Hamad , Turki, Hamad , Political order in changing societies : Saudi Arabia: Modernization

in a traditional context, Unpublished Ph.D., Dissertation, University Of Southern California, 1985.

وقد اختبر الباحث في هذه الدراسة فرضية عالم السياسة الأمريكي هنتنجتون القائلة بأن التحديث يترتب عليه عدم استقرار في المجتمع بصفة عامة ، حيث أثبت في دراسته مغايرة التجربة السعودية لهذه المقولة ، وقدرة النظام السياسي السعودي على تجاوز مرحلة التنمية الشاملة بما تتضمنه من تحديث وتطوير و تغيير دون أي مظاهر لعدم الاستقرار في المجتمع . ولم تتطرق هذه الدراسة إلى جانب المؤسسات والأبنية كجزئية هامة في عملية التنمية والتحديث .

تقسيم الدراسة :

تنقسم الدراسة إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة ، الفصل الأول تحت عنوان (التأصيل النظري لعملية بناء المؤسسات السياسية) ويشمل ثلاث مباحث تضمنت التعريف بطبيعة المؤسسات . ثم عملية بناء المؤسسات، وأخيراً ثنائية التقليدية والحداثة في بناء المؤسسات السياسية .

    والفصل الثاني تحت عنوان (تطور بناء المؤسسة التنفيذية في المملكة العربية السعودية) ، ويشمل ثلاث مباحث ، تضمنت تطورات البيئة الداخلية لعملية البناء ، ثم تطورات البيئة الخارجية لعملية البناء ، وأخيراً التكامل السياسي وعملية بناء المؤسسة التنفيذية .

    والفصل الثالث تحت عنوان (المحددات الرئيسية لعملية بناء المؤسسة التنفيذيةفي المملكة) ، وقد تم تغطيته من خلال أربع مباحث ، خصص لكل محدد مبحث ، الأول إيرادات النفط والثاني القوى العاملة والثالث اشكاليات الإصلاح الإداري ، والرابع القطاع الخاص .

    أما الفصل الرابع فهو تحت عنوان (دراسة حالة لمؤسسات التعليم والإعلام والصناعة) ، يشتمل على أربعة مباحث ، الأول يلقي الضوء على دور وأهمية هذه المؤسسات في عملية بناء المؤسسات ، والمبحث الثاني والثالث والرابع خصصوا لكل من وزارات المعارف ، والإعلام ، والصناعة في المملكة كدراسة حالة للمؤسسة التنفيذية .

     والخاتمة وتشتمل على موجز لما سبق التطرق الية في فصول الرسالة ، ثم إستنتاجات عامه في شكل محاور تغطى كل مباحث  الدراسه ،كما تنتهى الخاتمه بإختبار فرضيه الدراسه الرئيسيه ، وصياغة نظريه عامه لنتيجه الدراسه.

الفصل الأول:  التأصيل النظري لعملية بناء المؤسسات السياسية

   لا شك في أن المؤسسـات تمارس دوراً استراتيجيـاً حينما نعني بالذكر موضوع التنمية ، حيـث تشير المؤسسـة في تلك الحـالة إلى القدرة المنظـمة لأداء وظائـف اقتصادية واجتماعية وسياسـية  في المجتمع . وخلال  أدائهـا لتـلك الوظائـف تبرز المؤسـسات بصـورة مهـمة في تقديـم ليـس فقــط فـرص العمل التنمـوي ولكـن أيضـاً الدوافع الضـرورية لتشجيـع الأفـراد لتغيـير الأوضـاع بأسلوب مرغوب فيه ( ).

    كذلك فإن نوعية المؤسسات تمثل جانباً هاماً يجب أن يوضع في الاعتبار فلا يكفي مجرد أن تتواجد المؤسسة دون حراك أو في شكل سكوني ، إذ من الضروري أن تكون المؤسسة وحدة حيوية وحركية تولد الأوضاع الملائمة للتغيير المطلوب في المجتمع عبر الزمن . إن تأثير المؤسسات على المجتمعات التي تخدمها يمكنها أن تحفز أو تعوق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فالمؤسسات، بالإضافة إلى السياسات الحكومية ، تعد محددات رئيسية لمسار التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتُقدم القدرة الأكبر للتأثير على اتجاه التنمية ( ).

    إن خبراء التنمية السياسية يرون أنه من قبيل الخيال القول بإمكانية قيام قدر من الحرية والديمقراطية في مجتمع ما دون وجود سلطة قوية فيه تآزره وتحميه ، وتأخذ هذه السلطة في المجتمع المعاصر طابعاً مؤسسياً.وهكذا فان السلطة في المجتمع المعاصر لا تنسب إلى طبقات أو أشخاص وإنما إلى مؤسسات( )،وتعمل هذه السلطة القوية على توسيع النطاق المؤسسي كماً وكيفاً بزيادة حجم هذه المؤسسات وتوسيع نطاق اختصاصاتها وزيادة قدراتها الفنية وكفاءتها ودرجة تماسكها،ويرى هـؤلاء الخبراء أن المقياس الحقيقي علـى قيـام التنميـة السياسيــة الحقيقيـة في أي مجتمــع هــو قيام مؤسسات قويـة فيــه باعتبــار المؤسســة شــرط لقيــام قــدر مــن الاستقــرار والشرعيــة ( ). معنى ذلك أن المؤسسات التي تتمتع بقـدر من التمايز البنائي والتخصص الوظيفي أصبحت سمة ملازمة للمجتمع المعاصر وأحد المعايير الرئيسية للتقدم السياسي ، وقد أصبحت عملية بناء المؤسسات محور اهتمام لكثير من الدارسين أمثال ميلتون وايزمان وهانز بلاوز وفريد برنز وجوفينيل وبينوك، كما انتقد سارتوري الحكومات التي تعجز عن بناء مؤسسة قوية ، ومن جهة أخرى أشار نودلنجر إلى الحاجة القوية إلى قدر سريع من المؤسسية الحكومية ويسبق ذلك استفتاء عام وتكوين الأحزاب السياسية . أما لوشيان باي وهوارتـز وابتر ، فلـم يـروا إمكانيـة قيـام نـوع مـن التنميــة السياسية دون مؤسسية مناسبة ( ). وقــد رأى وليم ميتشيـل أن البنــاء المؤسسي للهيئــة الحاكمــة يكتسب أهميــة خاصــة بسبب انغماســه في اتـخاذ القرارات العامة وتحديد أولويــات القضايــا والمسائــل الهامــة ، واعتبر ايزنشتاديت مسألــة بنــاء المؤسسات أكبر مشكلـة تواجههــا الـدول النامية حيث تعجز عن قيام مؤسسات تمتص التحولات المختلفة والتغيرات التي تتمخض عن علميات التحديث ( )، أما بينوك فقــد اشترط لقيــام التنميــة ثلاثــة شــروط منهــا التخصــص الوظيفــي والتمايــز البنائــي والثالث هو المؤسسات واعتبر بناءهــا شرطـاً لقيام قدر من الاستقرار والشرعية . وربط عالم السياسة الأمريكي مايرون وينر بين تقدم        المجتمع وقيام تنظيمات قوية فيه باعتبار التنظيم يمثل القناة التي تتجمع فيها آراء وتفضيلات وجهود الأفراد لتحقيق الغايات المشتركة بعكس المجتمعات التي تفتقر إلى تلك المقدرة على بناء المؤسسات التي تعاني -وفق تعبير وينر – انهياراً تنظيمياً( ).

    وأشار وينر إلى أن وجود العديد من المؤسسات في النظام السياسي يؤدي وظيفة مهمة فيه حيث يسمح بحل وتسوية الصراعات التي تلازم المجتمعات الحديثة ، ويؤكد الموند وباول على أهمية بناء مؤسسات تقوم بتحليل مطالب وتفضيلات الجماهير (المدخلات) إلى قرارات وسياسات (مخرجات) وهو ما يؤدي إلى ترابط مختلف مستويات أداء النظام .ويعتبر ابتر أن المؤسسات الفعالة وحدها هي القادرة على ضبط المطالب وتنظيمها وتتيح لها التعبير والشرعية وتيسّر التغيير( ) .

    ويعتقد بريبنتي في ضرورة أن تؤدي المؤسسات وظائفها كما يتفق وقيم وتفضيلات أفراد المجتمع ، ويحفظ لهم حداً أدنى من القيم التي يعتزون بها ، مما ييسر لهم التغلغل في النسيج الاجتماعي والسياسي وتوليد حركة جماعية إيجابية ( )، ويربط بين إمكانية تحقيق ذلك وضرورة إرساء معنى الهوية من خلال المؤسسات وعمليات التنشئة واستخدام التاريخ بوجه خاص لتحقيق ذلك ، وأيضاً الدستور الذي يجب أن يحتل مكانة مقدسة وقيمة رمزية عليا وذلك دون تجاهل المعايير والاتجاهات العامة السائدة التي لم يتضمنها الدستور وتصبح المؤسسات قادرة على تحويل التعبيرات الشرعية للإرادة الشعبية إلى قرارات وسياسات ( ).

    ويمكننا الوقوف على عملية بناء المؤسسات السياسية من خلال ثلاثة مباحث :

المبحث الأول يتناول التعريف بطبيعة المؤسسات. 

المبحث الثاني يتناول عملية بناء المؤسسات.

المبحث الثالث يركز على ثنائية التقليدية والحداثة في بناء المؤسسات السياسية .

المبحث الأول: التعريف بطبيعة المؤسسات

أولاً : تعريف المؤسسة 

    هناك تباين كبير بين علماء السياسة وعلماء الاجتماع في تحديد معنى كلمة (مؤسسات) ، فبعض الكتابات السياسية ركزت على أن المؤسسات السياسية هي فقط التشريعية والتنفيذية والقضائية ، ولكن نتيجة للتطورات الجارية أصبحت هناك قائمة تشتمل على البيروقراطية والحكومات المحلية و المؤسسات العامة و الأحزاب السياسية وجماعات المصالح وجماعات أخرى ذات طابع سياسي مستمر . أما علماء الاجتماع فقد لعب المفهوم دوراً مركزياً لديهم ، ومن ذلك ، التعريف الذي أوردته الموسوعة الفرنسية عام 1901 من أن علم الاجتماع هو علم المؤسسات ، لكن هذا التعريف يواجه انتقادات كثيرة تتمثل في الاختلاط الاصطلاحي مع مفاهيم أخرى مثل مفهوم التنظيم الاجتماعي ، ورغم ذلك فقد استخدمت كلمة مؤسسة لوصف توليفة بسيطة من أشكال سلوكية تصنف أبنية معينة مثل الهيئة التشريعية والبيروقراطية والكنائس والنظم الأسرية ( ) .

    ويعرف هيرام فيليبس المؤسسة على أنها منظمة تتضمن عدداً من العاملين قادرين على تنفيذ برامج محددة ولكنها متطورة تسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتمتلك موارد مستمرة بدرجة تكفي لضمان مجهود متواصل لتأسيس وقبول وتطبيق وسائل وقيم جديدة ( ). 

    وهناك إجماع على أن معظم التحليلات البنائية والمؤسسية إنما اشتقت من أعمال تالكوت بارسونز 1960 الذي عرف المؤسسة بأنها أنماط عامة من القواعد المحددة التي توضح ما هو مرغوب وما لا يسمح به من السلوك السياسي في تفاعل الأفراد باعتبارهم أعضاء في مجتمع أو وحدات أو جماعات( ).

    أما كارل فريدريك في كتاب Man and his Government  فقد أشار في تعريفه للمؤسسة السياسية إلى أي شكل مستقر من الممارسات السياسية التي تنطوي على وظيفة معينة أو هدف محدد في النظام السياسي ، أو بمعنى آخر مجموعة مستقرة من الأدوار السياسية ، أما لاسويل وكابلان فقد ارتأيا في المؤسسة السياسية نمط مركب من الخصائص الثقافية تتخصص في توزيع قيمة محددة أو مجموعة من القيم( ).

    فالمؤسسة عند بارسونز عملية سلوكية ، وعند كارل فردريك هي مؤسسة الوظيفة أو الدور ومؤسسة القيمة عند لاسويل وكابلان ، وقد تكون هذه التعريفات مقبولة ولكنها جميعاً تخضع المؤسسة لحالة من الجمود الذاتي دون مبرر ، ومن هنا يقترح بريبنتي قدراً من التعديل في مفهوم المؤسسة من خلال قيامها بوظائف أخرى هامة تتعلق بإعادة نشر القيم في المؤسسة وفي غيرها من المؤسسات المناظرة ، ومن ثم يصبح لكل مؤسسة وظيفة توزيعية ووظيفة انتشارية  ، وعادة ما يطلق وصف مؤسسة سياسية على أي مؤسسة تشارك من قريب أو بعيد في تكوين أو استعمال سلطة عامة ( ) .

    وبغض النظر عن تعريفات واستخدامات مفهوم المؤسسة فانه يبدو أن هناك اتفاقاً أساسياً على عناصر معينة للظاهرة ، فالمفهوم يشير أولاً إلى أسلوب محدد لإدراك وفعل الأشياء ، فالمؤسسات تصف معايير السلوك ، وثانياً فان المؤسسات تملك درجة من الانتظام والديمومة على نحو يستقل عن الفاعلين الأفراد ، وثالثاً فان نماذج المعايير التي تتم الإشارة إليها في التعريفات قد تنطبق على جماعة صغيرة من الأفراد المتفاعلين أو على المجتمع بأكمله ( ).

    ويمكن تعريف المؤسسات على أنها منظمات تجسد وتدعم وتحمي العلاقات المعيارية ونماذج الفعل وتؤدي وظائف ، وخدماتها ذات قيمة في البيئة ، والمنظمة كما تستخدم في هذا الإطار تشير إلى مجموعة محددة بشكل واع من الممارسات ونماذج العلاقة بين الأشخاص في عملية تفاعل تهدف إلى تحقيق أهداف معينة ( ).

    وتختلف المؤسسة عن الجماعة الصغيرة في أن المؤسسة جماعة من الأفراد تسعى إلى تحقيق هدف مشترك على أسس أكثر ديمومة ، عكس الجماعة التي تتكون على أسس مؤقتة سواءً من حيث الزمن أو الإستقرار . فالمؤسسة أكثر إستمراراً وإستقراراً من الجماعة ، كما أن المؤسسة تتسم بوجود درجات عليا من التنظيم لتحقيق الهدف وبوجود وسائل مادية للتعبير عن الهدف وتنظيمه من خلال قواعد قانونية ، والجماعة  تكون بين أعضائها روابط إجتماعية مباشرة وليس لها أغراض كبيرة تتطلب تنسيق الأنشطة ، عندئذ تكون الحاجة ضئيلة لوجود عمليات واضحة أو لوجود تقسيم رسمي للعمل، ولكن كلما كبرت الجماعة ، تعقدت مهامها التي تسعى إلى تحقيقها ( )، وكانت في حاجة إلى توضيح وتحديد الأهداف وتنسيق الأنشطة وتحديد أطر العمل ، وهي تقترب بذلك أن تكون مؤسسة . 

    ويؤدي مفهوم المؤسسة إلى التعريف بمفهومي النسق والنظام ( ) . فالنسق هو كل مركب تترابط فيه الأجزاء وتتكامل حول نواة مركزية ، أو هو تنظيم ينطوي على أجزاء مترابطة تتميز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة واحدة . أما النظام فهو بالأساس صورة شاملة من العناصر أو الأشياء التي تعمل معا في سبيل تحقيق أهداف مشتركة ، ولكل نظام أدوار وأبنية ونظم فرعية متفاعلة ، وميول نفسية أساسية تؤثر في هذه التفاعلات ، أو هو مكون من مدخلات البيئة التي يتواجد فيها أو من داخل النظام ومخرجات يفرزها في البيئة قد تؤدي إلى تغييرات في البيئة والتي بدورها تؤثر في النظام ، وبذلك يعمل النظام كأداة تحويل حيث يقوم بتحويل هذه المدخلات التي ترد إليه من البيئة إلى مخرجات ، وقد حدد ديفيد ايستون نوعين من المدخلات في النظام السياسي هما المطالب والتأييدات ، أما المخرجات فهي الإجراءات التنظيمية للسلوك وتوزيع السلع والخدمات والفرص والمخرجات الرمزية بما فيها تأكيد القيم وإظهار الرموز السياسية وعرض السياسات والنوايا ( ).

    والواقع أن ما يرد إلى النظام من مدخلات متعددة يمثل كل منها مخرجات لنظام آخر يعمل في بيئته الخارجية والتي تؤثر بدورها في هذه البيئة ، الأمر الذي يمكن معه القول بأن بيئة النظام تمثل نظاماً أكبر يتأثر بما تفرزه النظم التي يحتويها ( ). 

    وينبثق من مفهوم المؤسسة مفاهيم أخرى كالبناء والوظيفة والقطاع، فبناء المؤسسة هو أجزاء المؤسسة ، وكل جزء له وظيفة تساهم بها في بناء المؤسسة وتطورها ، ويقصد بالبناء الرسمي في المؤسسة الجزء الذي ينطوي عليه البناء الاجتماعي لجماعة أو لتنظيم ويتحدد عن طريق القواعد والتوقعات المقررة بوضوح( ).أما البناء غير الرسمي فهو الجزء الذي يشتمل عليه البناء الاجتماعي لجماعة أو تنظيم ولا يكون محدداً في ضوء قواعد أو توقعات رسمية بل ينجم عن توقعات كامنة في طرق التفكير أو العقل التي تعتبر موضع اتفاق عام( )،  أما الوظيفة فهي الدور الذي يقوم به كل جزء من أجزاء المؤسسة ، ويساهم به في بناء المؤسسة وتطورها ( ). والارتباط المتبادل هنا بين النظم يمكن أن يدرك  إدراكاً واضحاً عن طريق الوظيفة أكثر منه عن طريق  البناء ، فالوظيفة تتغير أكثر من البناء ، فالتعديل ، أي تعديل يحدث في وظيفة أي نظام بينما يكون بناؤه ثابتاً نسبياً، فالبناء لا يتغير كما تتغير الوظيفة ، وهذا يشير إلى الصعوبة التي تكمن في صعوبة خلق بناء مؤسسي جديد( ) .

    والقطاع هو مؤسسة صغيرة تشارك المؤسسة الأم نفس القواعد والقيم باعتبارها جزءاً منها وان كان يختلف عنها في بعض المظاهر ، على أن القطاعات لا تعيش منفصلة عن بعضها البعض، بل يتم تبادل مستمر في السلوك أو الأدوار أو القيم فيما بينها، وقد ميز فردريك بين القطاع والمؤسسة ، فكل مؤسسة تتكون من عدد من الأبنية ، ويمكن المقارنة بين المؤسسات على أساس مدى تعقد أبنيتها، وقد أكد بريبنتي على إمكانية وجود هياكل خارج المؤسسة بعكس المؤسسة التي لا يمكن أن تقوم بدون وجود هيكل واحد أو أكثر داخلها ، كما أكد على عدم ثبات الهياكل إلا في حالة واحدة هي انهيار المؤسسة ، وهذا الثبات مؤقت ، أما التغيرات فيه فقد تحدث ببطء وبشكل لا يمكن إدراكه بسهولة ، وقد تأخذ شكل تغيرات سريعة وعنيفة في الهياكل قد تصل أحيانا إلى حد التدمير( ).

ثانياً : عناصر المؤسسة :

    تتكون أي مؤسسة من عدة عناصر، وتكامل واندماج هذه العناصر  يؤثر على فعالية وكفاءة المؤسسة، وهذه العناصر هي جماعة من الأفراد، والإجراءات، والأدوات،والتنظيم ، والهدف ، وهو المهمة الأساسية التي من أجلها أنشئت المؤسسة( ):-

1- جماعة الأفراد : 

    الذين تؤدي الثقافة الناتجة عن تجميع سلوكهم إلى ظهور المؤسسة في الوجود ، بحيث يكون لها فلسفة معينة خاصة بها تسعى لتحقيقها.ولا تظهر المؤسسة بمجرد قيام مجموعة من الأفراد بعمليات معينة فقط ،بل لابد من ظهور علاقاتهم بأدوات الإنتاج وباستخدامهم لهذه الأدوات بمهارة . وهؤلاء الأفراد العاملين في المؤسسة والمنشئين لها يؤثرون في كفاءة وفعالية المؤسسة ، إذ أن المؤسسة ليست مجرد مجتمع للأفراد بقدر ما هي كيفية إنجازهم لأعمالهم أو أدوارهم التي تختلف من فرد لآخر ( ) . ويلتحق الفرد بالمؤسسة لعدة أسباب ، أما ليرضي ويحقق أهدافه الشخصية التي لا سبيل لتحقيقها بمفرده، وهنا يكون الفرد إذا ما حقق أهدافه الشخصية بكفاءة  مقصراً في تحقيق أهداف المنظمة . ومن الممكن أن يشترك الفرد الواحد في أكثر من مؤسسة ، ويرتبط الأفراد بالمؤسسة من أجل المعيشة أولاً ثم لتحقيق نوازع عاطفية ونفسية تجاه المؤسسة المنتمون إليها ثانياً ( ).

2- أدوات الإنتاج :

    وهي كل شيء يستخدمه الإنسان في مؤسسته وتعني الأبعاد المادية بعناصرها الكمية والكيفية (المنقولات العينية والمهارة في الاستخدام والقدرة على الترشيد فيه) وكل مؤسسة لها معداتها وأدواتها الخاصة بها ( ).

3- الإجراءات :

    وهي تلك الأنشطة المؤداة وفقاً لسلوك إنساني ناشئ للتحرك لنموذج معين من العادات والتقاليد( ). فلكل مؤسسة إجراءاتها الخاصة والتابعة لها ، وقد تختلف من مؤسسة لأخرى ، فالإجراءات المتبعة في التجارة تختلف عن الإجراءات المتبعة في الطب ، والإجراءات هي الطريقة التي يتم بها إنجاز العمليات اللازمة لأداء الوظائف المطلوبة . ومن شأن الإجراءات أنها تعزز الاعتقاد لدى الفرد بضرورة أداء أفعال معينة كضرورة منطقية للانضمام للمؤسسة ، ويتم إنجاز الأعمال بكفاءة على حسب سهولة الإجراءات ووضوحها من عدمه .

4-  التنظيم :

    وهي الطريقة التي يتجمع بها الأفراد معا في وجود أدوات إنتاج خاصة بهم وقواعد لعملهم وإجراءات نابعة منهم ، وذلك بطريقة تساعدهم على تحقيق هدف مركزي محدد لهم . والتنظيم هو هيكل من الأشخاص والمواد الخام والإجراءات بصدد إنتاج سلعة معينة ( ) ، أو تحقيق هدف معين. فالتنظيم الجيد للمؤسسة يساعد على تفاعل العوامل السابقة كلها لتحقيق كفاءة وفاعلية المؤسسة ، و المؤسسة الناجحة هي التي تقوم بتنسيق العمل بين العاملين بها والتي تحقق نوعاً من التوازن بين إجراءاتها وبين قيادتها والقائمين على التنظيم فيها . والتركيز هنا على التنظيم فقط قد يؤدي إلى تبسيط الإجراءات كي تؤدي عملها بنجاح ، إذ أن إهمال العوامل الأخرى يهدد كفاءة المؤسسة ( ).

5- الأهداف :

    حيث أن لكل مؤسسة هدف تسعى لتحقيقه لخدمة المجتمع ككل، فهناك وظيفة للمؤسسة هي وظيفة التوجه نحو الهدف، وهذا الهدف هو رمز وأسطورة يعرفها كل من يعمل في المؤسسة، فلكل مؤسسة أسطورة أو خرافة تؤمن بها وتحاول تحقيقها( )، فالوظيفة الأولى للمؤسسة تجعلنا نصفها بأنها منظمة موجهة نحو تحقيق هدف، وهناك وظيفتان ثانويتان هما المحافظة على الاستمرار والنمو والتطور . وينبغي التنسيق بين الأهداف المتعارضة في المؤسسة و التنسيق بين أهداف الفرد والمؤسسة، وأهداف المؤسسة والمؤسسات الأخرى لضمان نجاح المؤسسة في تحقيق أهدافها، على أنه مهما كانت الدوافع المثالية التي ينادي بها الأفراد العاملون في المؤسسة فانهم يحملون دوافع شخصية ومصالح خاصة بهم تتعلق بالكادر الوظيفي والمكانة الاجتماعية والدخل ، وهذه الأهداف الشخصية قد تؤدي إلى الصراع داخل المؤسسة بالرغم من تحييدها لتحقيق التوازن التنظيمي ، ومن ثم يهددها بالخطر( ). 

ثالثاً : أنواع المؤسسات

    في إطار هذه الدراسة تتنوع و تختلف المؤسسات السياسية باختلاف الأنظمة و الأحوال التي تمر بها المجتمعات.           . فالمؤسسات السياسية و الاجتماعية بصفة عامة تنقسم إلى نوعين أساسيين أولاهما: المؤسسات السياسية السلطوية (الحكومية)، و تشمل الهيئات التشريعية و التنفيذية والقضائية والأجهزة البيروقراطية و الحكومات المحلية و المؤسسات العامة، وثانيهما : المؤسسات السياسية غير السلطوية ( مؤسسات المجتمع المدني ) ، وتتمثل في الأحزاب السياسية إذا ما ا إستثنى الحزب الكائن في السلطة وجميع المؤسسات غير الحكوميه وجماعات المصالح والضغط ، التي تنشأ و تدار بواسطة جماعات من الأفراد ، بهدف تحقيق أهداف محددة. والنظام السياسي عبارة عن شبكة معقدة من هذين النوعين من المؤسسات تتفاعل فيما بينها بصفة مستمرة مشكلة فعل ورد فعل ، والتفاعل بين هذه المؤسسات هو الذي يقرر من سيحكم، كما يتوقف التغيير في النظام السياسي على التغيير في تكوينات هذه المؤسسات( ) ، وهذان النوعان من المؤسسات السياسية يتم مناقشتهما على النحو التالي :- 

1- المؤسسات السياسية السلطوية :

    ويطلق عليها بعض المفكرين ” الحكومة ” و الحكومة كبنية هي أجهزة و مؤسسات الحكم في الدولة التي تقوم بوضع          القواعد القانونية و تنفيذها و التقاضي بخصوصها ، ولفظ الحكومة بهذا المعنى قد يكون واسعاً بحيث يشمل كل المؤسسات الرسمية الموجودة بالدولة ، وقد يكون محدوداً بحيث يشير فقط إلى السلطة التنفيذية ( ). وإذا كانت الدولة هي صاحبة السلطة السياسية في المجتمع فإن الحكومة هي التعبير القانوني عن هذه السلطة و تتمثل في مجموعة المؤسسات والوسـائل الـتي تعـبر بها السلطة السيـاسية عن ذاتها من حيث طريقة ممارسة هذه السلطة وحدودها ( )، وهذه المؤسسات :

    أ -المؤسسه التنفيذية : وتلعب هذه المؤسسات دوراً في تحقيق أهداف الدولة ، في ظل التوجهات السائدة للسياسة العامة باعتبارها التنظيم الذي تعتمد عليه الدولة في شئونها وممارسة الضغط السياسي والقيام بتنفيذ الوظائف العامة( ). والمؤسسة التنفيذية تتمتع بأعلى قدر من السلطة التنفيذية في المجتمع تسمح لها أو تمكنها من إدارة أعضاء المجتمع وتوجيههم ، بما تفرضه عليهم من قواعد وقوانين ( ). 

    ورئيس الحكومة في الدولة هو في الغالب الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية و المهيمن على سياستها العامة ، وممثلها في الخارج ، وتأتى أهمية السلطة التنفيذية أيضاً من سيطرتها المباشرة على الأجهزة العسكرية والدبلوماسية والأمنية والمالية ، وعلى الأجهزة الإدارية كافة ، كما أن الاحتكاك اليومي للمواطن بهذه المؤسسات يدعم سلطتها ( ) . 

    إن بروز السلطة التنفيذية يعبرعن حاجة المجتمع البشري إلى قواعد،لا تشبع بمجرد وضعها، بل بتنفيذها أيضاً،وإذا كانت المؤسسة التنفيذية تشارك المؤسسة التشريعية في مهمة سن القوانين، فإنها تتحمل القسم الأعظم من مسئولية وضعها موضع التنفيذ، وفي إطار علم السياسة يمكن النظر إلىالسلطة التنفيذية باعتبارها تشمل رئيس الدولة ورئيس الوزراء(رئيس الحكومة) والوزراء وكل أولئك الذين يتخذون أو يفترض أنهم يتخذون قرارات السياسة العليا ويباشرون تنفيذها( ).

وتشتمل المؤسسه  التنفيذية على ما يلي :-

1)- مؤسسة الرئاسة : وتتمثل في رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء ، وفي الأنظمة الرئاسية رئيس الدولة هو رئيس المجلس ، وقد وجدت مؤسسة الرئاسة في أبسط التنظيمات السياسية التي عرفتها الإنسانية ، مع بعض الاستثناءات ، وهي المؤسسة المحورية في اتخاذ القرارات . 

2)- الوزارة وهي الجهاز الإداري للدولة و تضم عدداً من الوزارات( ) التي يختلف عددها وحجمها و نوعها باختلاف الأنظمة السياسية و أيديولوجية النظام السياسي ، وهي أضخم مؤسسات الدولة وأكثرها توسعاً ( بيروقراطية ) و تلعب دوراً أساسياً في الحياة السياسية الحديثة في مختلف الأنظمة السياسية على تباين اتجاهاتها و أنماطها و فلسفتها ( )، فهي تلعب دوراً في تحويل السياسات و القرارات التي تصدر في الدولة و ترجمتها إلى سلوك عملي وواقعي ، بل أن هناك من يرى أن التنمية تعني قدرة المؤسسات التنفيذية على الاستجابة للمطالب المتغيرة والحاجات المتزايدة ( )، كما أن الوزارات تلعب دوراً في صنع القاعدة القانونية ذاتها .

    وتتفرع من الوزارات مؤسسات فرعية عديدة ، على شكل لجان و مجالس وغيرها ، وتقوم هذه المؤسسات بدور في عملية التعبير عن المصالح وتجميعها ، وتتعدد وظائفها إلى وظائف (رمزية، تشريعية ، عسكرية ، دبلوماسية ، قضائية ، خدمية ، إشرافية ) ( ) . 

3) – المؤسسة العسكرية : وهي و إن كانت أحد مؤسسات السلطة التنفيذية ، إلا أنها متمثلة في الجيش و الشرطة ، تحظى بدرجة عالية من الاستقلالية ويمثلها في مجلس الوزراء وزير الدفاع والداخلية ، ولها وظائف تختلف كلياً عن وظائف المؤسسات التنفيذية الأخرى ، وتأثيرها على النظام السياسي كبير جداً ويظهر ذلك جلياً في الدول النامية على وجه الخصوص . والمؤسسة العسكرية كانت ولا زالت تشكل قوة سياسية ، ترى فيها أنظمة الحكم في مختلف العصور الدعامة لإدارة شئون الحكم واحترام هيبة الدولة . ورغم القوة والتأثير اللذين تتمتع بهما المؤسسة العسكرية، إلا أنها لا تمثل هيئة مستقلة عن الدولة ، بل تخضع – في الغالب – لإرادة السلطة السياسية المدنية ، ويختلف هذا الخضوع باختلاف الوسط الاجتماعي ودرجة تقدم وديمقراطية كل دولة ( ). وإذا كان علم السياسة التقليدي قد انطلق من مقولة حياد الجيش وتحديد دوره في الدفاع عن الوطن ، فإن الفكر السياسي المعاصر يعترف بدور الجيش وتأثيره على النظام السياسي( ). فهناك العلاقة بين القوات المسلحة كمؤسسة ، والمجتمع بمؤسساته المختلفة ، والعلاقة بين قادة القوات المسلحة كنخبة، 

وباقي القيادات الأخرى ، ثم العلاقة بين النخبة العسكرية ، والقيادة السياسية في المجتمع ( )، ويرى بعض المفكرين أن تأثير المؤسسة العسكرية في بعض الأحيان يفوق دور القادة السياسيين ) .

  ويرجع تأثير المؤسسة العسكرية على النظام السياسي إلى أسباب عدة منها ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية نفسها ، فهي أكثر مؤسسات المجتمع تقدماً وحداثة وأكثرها تعبيراً عن الوحدة الوطنية، وتمثل درجة عالية من التكامل الاجتماعي والقومي ، كما أنها أكثر المؤسسات تماسكاً ونظاماً حيث تسودها روح الانضباط والوحدة ( ). ويتضح تأثير المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية من خلال إلقاء نظرة على الانقلابات العسكرية ، فمنذ الحرب العالمية الثانية ، كان العالم الثالث مسرحاً للانقلابات العسكرية والتدخل العسكري ، وفرض قيود ثقيلة على النشاط السياسي للمجتمع المدني ، أو دعم هذا النشاط في أحيان أخرى بنظام الحزب الواحد ، وإصباغ نظام الحكم بالطابع العسكري أو شبه العسكري ( ).

    وتلعب المؤسسة العسكرية دوراً كبيراً في جلب مزيد من أنماط الحداثة وتعزيز الاتجاهات التي من شأنها تحويل قيم المجتمع وثقافته من الطابع التقليدي إلى الطابع الحديث ، وما يرتبط به من علاقات مؤسسية محددة ، على قدر من التخصص والتمايز والإبداع . وقد تكون هذه المؤسسة عنصراً داعماً للحفاظ على استمرار التقليدية ( ). كما لها دور في عملية التجنيد و التنشئة السياسية بما يولد من خلالها الشرعية للنظام السياسي ومؤسساته ( ).

4)- المؤسسات العامة : يقصد بالمؤسسات العامة كل مصلحة عامة إنبثقتت من السلطة التنفيذية، أو هي كل هيئة أنشأتها الدولة ومنحتها الشخصية المعنوية التي تمكنها من مزاولة نشاطها ( )، و بذلك تصبح مؤسسة فرعية جديدة من مؤسسات القانون العام في إطار الدولة المعنية، وإزاء هذا الوضع تترتب للمؤسسة مجموعة من الخصائص الأساسية ( )، تميزها عن مؤسسات السلطة التنفيذية الأخرى ، حيث يكون لها كادرها الوظيفي الخاص وتستقل بصفة كبيرة عن المؤسسة  المنبثقة عنها من حيث الموازنة و ممارسة المهام ، إلا أنها تخضع لإشراف المؤسسة المنبثقة عنها ، ويختلف عددها وحجمها باختلاف الدول و الأنظمة السياسية ( ). 

وقد انتشرت المؤسسات العامة في عدد كبير من دول العالم حتى أصبح من النادر أن توجد دولة ، مهما كان نظامها ، لا تضم مؤسسات عامة تملكها أو تساهم فيها أو تشارك في إدارتها ( ). ويعتبر ظهور المؤسسات العامة في الدول النامية ، تعبيراً عن تصميم السلطة السياسية على تحمل مسئولية عملية التنمية الشاملة ، إذ أن ظهور هذه المؤسسات في هذه الدول تزامن مع تبلور كياناتها السياسية واستقلالها عن الاستعمار ( ).

وتأخذ هذه المؤسسات أسماء مختلفة ( هيئة عامة ، مؤسسة عامة ، مجلس ، مركز . ) ، منها الإدارية ومنها الاقتصادية ومنها الخدمية ، ولاشك أن ظهور هذا النوع من المؤسسات كان وليد حاجة بعض المؤسسات السياسية ( الوزارات ) للتحرر من بعض الأنظمة الحكومية الجامدة ، يضاف إلى ذلك أن تزايد دور الدولة في العصر الحديث قد أدى إلى زيادة عدد الوزارات، وكانت الموسسات العامة أحد الآليات التى تحد من هذه الزيادة . وتكمن أهمية بناء الموسسـات العامة فى رغبة

 الدول في توجيه أنشطتها الاقتصادية ذات الصفة الاستراتيجية وذات العلاقة بالسياسة الخارجية ، كمؤسسات إنتاج النفط وتصنيعه ومؤسسات الغاز الطبيعي ( ) . 

    وللمؤسسات العامة تأثيراً على أداء النظام السياسي الأشمل من حيث التأييد أو عدم الرضا ، فهي تقدم خدمات للمواطنين وللمؤسسات الأم ، كما أن لبعضها مطالب من النظام السياسي . 

5)- مؤسسات الإدارة المحلية : نشأت هذه المؤسسات نتيجة تجمع الأفراد وتعايشهم في مناطق معينة ( )، وقد شكلت هذه التجمعات الجذور الأولى للإدارة على أساس محلي ( ). وتأخذ هذه المؤسسات مسميات وأشكالاً عديدة ( محافظة ، مدينة ، بلدية ) ، لذلك تتعدد مسئولياتها في شكل هرمي متدرج من عاصمة الدولة إلى مناطقها الجغرافية ومجتمعاتها المحلية المختلفة ، وقد كانت مؤسسات الإدارة المحلية موجودة في التنظيم الإداري عبر القرون ، إلا أنها اليوم تعبر عن تطور في وظائف الحكومة الذي كان نتيجة لرغبة في فرض سيادتها على أنحاء أقاليمها المتفرقة ، واهتمامها بتوصيل المزيد من الخدمات والمشروعات الإنمائية للمجتمعات المحلية ( ). 

    وهذه المؤسسات شأنها شأن السلطة التي انبثقت منها قد تكون خدمية أو استشارية أو تشريعية . ولها تأثيرها على أداء وفعالية النظام السياسي بالسلب أو بالإيجاب ، ذلك لأن خدماتها تشمل قاعدة عريضة من الشعب الذين بدورهم يشاركون في مجالس إدارتها . 

ب – المؤسسة التشريعية : تأخذ السلطات التشريعية في العالم – من حيث التركيب – بنموذج المجلسين أو المجلس الواحد، وفي حالة وجود مجلسين تختلف عملية توزيع صلاحيات التشريع وتنظيم التداخل بينهما ، كما تختلف طريقة اختيار أعضاء المجلس الأعلى من دولة إلى أخرى ، وينتشر نموذج المجلسين في الدول الفيدرالية ، أما نموذج المجلس الواحد فتأخذ به بعض الدول الأوروبية الصغيرة وبعض دول أمريكا اللاتينية ودول أخرى في العالم ( ).

    ويختلف حجم هذه المؤسسة ودورها باختلاف النظام السياسي للدول ، فوجودها في بعض الدول شكلي وعملها استشاري ولا تشكل أي ثقل في صنع القرار أو مراقبة المؤسسات التنفيذية ويلاحظ أن هذه المؤسسة ( البرلمان ) قد ظهرت متأخرة تاريخياً بالنسبة لتطور النظم السياسية ، ففي بعض الأنظمة التقليدية والمجتمعات البسيطة التركيب يمكن أن يتم صنع القاعدة من مجموعة من كبار السن الذين يجتمعون على شكل مجلس القبيلة أو القرية أو بعض الشخصيات العامة كالعمدة أو المختار أو علماء الدين ( ) .

والبرلمان كأية مؤسسة سياسية يتصف بتعدد الوظائف،فإلى جانب دوره الرئيسي في التشريع،الذي يكمن في صنع القاعدة القانونية في اغلب الدول،يقوم بمهمة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ، والتمثيل،والمداولة،والإشراف ، والتحقيق،وتعديل الدستور،وتقديم البدائل،ويساهم في عمليات التعبير عن المصالح والتنشئة السياسية ( ).وتلعب المؤسسة التشريعية بصفة عامة دوراً كبيراً في الاستقرار السياسي للنظام ، ذلك لان رضا أغلبية أفراد الشعب عن النظام السياسي ومشاركتهم في مؤسساته يؤدي إلى إضفاء الشرعية على هذه المؤسسات وعلى النظام نفسه ( ). 

جـ – المؤسسة القضائية : وتتشكل على ثلاث مستويات ، المحاكم العليا والوسطى والابتدائية ، وتتفرع منها عشرات المؤسسات ،التي تشارك في وظيفتي توجيه الاتهام و تنفيذ الحكم ، مثل النيابة العامة و المحاكم الفرعية والمدنية والشرعية( ).

    ورغم اعتماد المؤسسة القضائية على الإدارة في وضع الأحكام موضع التطبيق ، وعلى المؤسسة التشريعية في إقرار مشروعات القوانين المتعلقة بأوضاعها التنظيمية والمالية ، إلا أنها تؤدي وظائف حيوية للنظام السياسي ، كفض المنازعات ، وتفسير نصوص الدستور والقانون ، والإشراف على الانتخابات العامة ، وفرز الأصوات .. ( ).

2 – المؤسسات السياسية  غير السلطوية ( مؤسسات المجتمع المدني ) :

    لا تقتصر المؤسسات السياسية على المؤسسات السلطوية ( الحكومية )، وإنما تمتد إلى غيرها من المؤسسات إذ تشمل عشرات المؤسسات السياسية غير الحكومية، التي يمكن أن يكون لها دور في أي نشاط سياسي داخل المجتمع ككل  كالأحزاب السياسية،والمنظمات غير الحكومية كالنقابات والاتحادات والجمعيات وجماعات المصالح، ووسائل الاتصال الجماهيري .. الخ ( )، وهياكل سياسية أخرى تتصف بالتقليدية كصلات القرابة، والتجمعات ذات المظاهر العدائية كأعمال الشغب والمظاهرات والرأي العام ( ). 

    ويسمي البعض هذه المؤسسات مؤسسات التعبير عن المصالح وتجميعها ( )، وكان بروز مثل هذه المؤسسات نتيجة لتشعب وظائف الدولة ، وعملية الفصل بين السلطات ، وتعدد الأحزاب السياسية والحريات الدستورية ، والتجمعات كالنوادي والاتحادات والنقابات والجمعيات ( ) .

وهذه المؤسسات بما تباشره من أعمال وما تؤديه من وظائف تكسب النظام السياسي ديناميكية وحيوية، فهي قلب العملية السياسية وهي همزة وصل بين القمة والقاعدة (الحاكم والمحكوم)، ولها تأثير على النظام السياسي وأدائه، حيث أنها تستقبل مخرجات النظام السياسي وتعكس مدخلاتها، وعن دراستها يتأتى للمرء أن يعرف الكثير عن النظام السياسي( ).

    ولعل أهمية دراسة المؤسسات غير سلطوية تكمن في كشف النقاب عن القوى الفاعلة والمحركة للنظام السياسي . ومن أهم هذه المؤسسات ما يلي :

أ – الأحزاب : هي منظمة سياسية تضم جماعة من الأفراد يتفقون فيما بينهم على مجموعة من المبادئ العامة( )، و المصالح المختلفة ، وتسعى هذه الجماعة إلى تحقيق هدفها في الوصول إلى السلطة لتحقق لها المشاركة الفعلية في الحكم ، أو التأثير عليه، و من ثم تتمكن من وضع مبادئها وأهدافها العديدة موضع التنفيذ ( )، وذلك بواسطة أنشطة متعددة خصوصاً من خلال تولي ممثليها المناصب العامة سواء عن طريق العملية الانتخابية أو غيرها ( ). وعلى الرغم من أن الأحزاب تصنف ضمن المؤسسات غير الحكومية ، إلا أنه يمكن أن يمارس الحزب السلطة ،ويعتبر هنا مؤسسة حكومية .

    ومن أحد خصائص النظم السياسية الحديثة التعدد الحزبي ، إذ أن الجماعات السياسية التي لم تعرف الظاهرة الحزبية غالباً ما تكون في مرحلة بدائية من تطورها السياسي ، لذلك فظاهرة المؤسسات الحزبية ظاهرة حديثة ( ) برزت عندما ازدادت وظائف النظام السياسي وضوحاً وبلغت درجة معينة من النضج و التعقيد ، وتشابكت مؤسساته ( ). والأحزاب السياسية أكثر المؤسسات السياسية غير السلطوية أهمية ، إذ أنها تشكل ثقلاً  في أية عملية أو ظاهرة سياسية وعلى الأخص العمليات الانتخابية والتشريعية والتنفيذية ، ( ). 

    وهناك ثلاث نظريات تفسر النشأة التاريخية للمؤسسات الحزبية ،  أولها : نظرية ” ديفرجيه ” التي تربط بين نشأة الأحزاب السياسية وتطور الهيئات النيا بية والتوسع في مبدأ الاقتراع العام( )، والإجراءات الانتخابية والبرلمانية ونموها ، وفي بداية الأمر كانت الأحزاب على شكل لجان محلية تشكل في إطار كل دائرة انتخابية ( ) . ثانيها : النظرية التاريخية ومؤداها أن الأحزاب تنشأ عندما يواجه المجتمع أزمات سياسية مثل أزمة  الشرعية وأزمة التكامل وأزمة المشاركة . ثالثها : النظرية التنموية التي تربط بين ظهور الأحزاب وعملية التعبئة الاجتماعية وظهور شرائح اجتماعية جديدة نتيجة التعليم و الحراك الاجتماعي ( ). 

       وقد ارتبطت نشأة الأحزاب السياسية في العـالم الثالث ببعض التحدي لأنظمة الحكم القائمة  ،  للمطالبة بالتمثيـل في المؤسسـات التشريعية  ، كمـا  ارتبطت بانتشار الأيديولوجيات العلمانية أو الدينية المتشددة ، أو بالحركات القومية والمعـادية للاستعمـار ، وتـعتبر النظم السياسية الحديثة في أغلبها نظم حزبية   ، سواء أكانت لـيبرالية أم شمـولية أم تسلطية، بصرف النظر عن أي أحكام  (قيـمـية)  حول الظاهـرة الحزبية ( ).  وهناك أشكال كثيرة للنظم الحزبية  ،  فهى إما نظام الحزبين ،  ويوجد في انجلترا والولايـات المتحدة ، رغم وجود أحزاب صغيرة ، إلا أنهـا  قليلة التأثـيرفي الـرأي العام ، أو      نـظام الحزب الـواحد ويـتضح في الـدول الاشـتراكية خـاصة  الاتحـاد السـوفيتي ( السـابق ) والصـين ( ) والـدول النـامية

   بصفة عامة ، ويعود ذلك إلى حجج الحفاظ على الوحدة الوطنية ، وترسيخ الولاء للوطن وتغيب التناقضات الطبقية، وضرورات التنمية الاقتصادية والاتفاق العام حول الأهداف والأساليب ، إضافة إلى عدم تسامح النخبة الحاكمة لتعددية الأحزاب ( ) ، أو نظام التعدد الحزبى كما فى المانيا وفرنسا . 

وبصفة عامة تؤدي الأحزاب السياسية وظائف كثيرة أهمها :

    1) – تقوم الأحزاب بدور فعال وجيد في تنظيم انتقال السلطة وممارسة الحكم ، وتنظيم وضع أعضاء السلطة التشريعية، وتقوم بدور في المشاركة السياسية في الحكم بانضمام الأفراد إليها ، أو المشاركة في انتخاباتها ، وسعيها الدؤوب للوصول إلى السلطة أو التأثير عليها وعلى قراراتها ( )، كما تقوم الأحزاب في الدول الديمقراطية والاشتراكية بتدريب القيادات وتعريف المجتمع بها وإيصالها إلى السلطة ( ).

    2) – تجميع المصالح أو المطالب ، والعمل كمصفاة لتنقية هذه المطالب المتشابكة والمتنوعة والتعبير عنها ( ) بأسلوب مؤسسي ، ونقلها من دائرة المطالب ( مدخلات ) إلى دائرة السياسات (مخرجات) ( ) ، ومتابعة تنفيذها ، والرقابة عليها ، وبخاصة في الدول الديمقراطية ( )، كما تضع تصورات متعددة لتنظيم برامج الدولة ومشاريعها المختلفة ( ). 

    3) – يستخدم الحزب السياسي من قبل حكومات الحزب الواحد لغرض سيطرة الحكومة وتثبيت حكمها ونشر أيديولوجيتها وتجميع الجماهير حولها ( ). 

    4) – تعتبر الأحزاب أداة  لتنمية  الشعور القومي وتكوين الرأي العام ، خصوصا في الدول النامية ، وتقوم بنشر الوعي السياسي بين المواطنين لتجميع وبلورة وجهات النظر تجاه القضايا العامة، وذلك للمساهمة والمشاركة في إصلاح السياسة العامة ( )، وقيادة حركات التحرر ضد التسلط الخارجي أو الداخلي . 

    5) – تحاول الأحزاب السياسية تحديد و حصر المشكلات القائمة في المجتمع بهدف التوصل إلى وضع الحلول الملائمة لها والتي ينبغي على السلطة أن تأخذ بها للتغلب على هذه المشكلات ، ويحاول المواطنون تنظيم أنفسهم عن طريق هذه المؤسسة للمساهمة بصورة حقيقية في رسم السياسة العامة للمجتمع ( ) . 

ب – المنظمات غير الحكومية :

   إن مفهوم المنظمات غير الحكومية أو ما كان متعارف عليها بجماعات المصالح وجماعات الضغط مفهوم يتسع مجال تحديده بتعدد توجهات الدراسات والأطر النظرية التي تتبناها وبالحقب التاريخية موضع الدراسة . فالمنظمات غير الحكومية بصفة عامة هي مؤسسات تنشأ في المجتمع ولها صفة الاستقلال المالي والإداري عن السلطة السياسية، وهي مؤسسات لا تهدف إلى الربح، وتسعى لتحقيق أهداف محددة في شئون إقتصادية وإجتماعية وثقافية ودينية. وتتعدد بإختلاف مجالات عمل هذه المنظمات ، وتتحدد فعالية هذه المنظمات بدرجة إرتباطها بالحكومة والمؤسسات الرسمية في الدولة وبدرجة إتحاد أعضائها وإيمانهم بأهدافها وسعيهم لتحقيقها .

    ولتوضيح درجة التداخل بين مفهوم المنظمات غير الحكومية وجماعات المصالح وجماعات الضغط ، يمكن الاشارة إلى المؤسسات التي تسعى إلى التأثير و الضغط على الحكومة من أجل إصدار سياسات تتناسب مع توجهاتها أو إعاقة إصدار قوانين وسياسات تغاير توجهاتها، وذلك من خلال سياسات وإجراءات عمل متعارف عليها بأنها جماعات ضغط . أما إذا كانت المؤسسات تسعى إلى تحقيق أهداف الجماعة المكونين  لها بصفة محددة وواضحة هي موضع تعارف وإقرار من أعضائها فيمكن الإشارة إليها بجماعات المصالح . وكل من جماعات الضغط والمصالح تزخر بها  المجتمعات الغربية بصفة عامة ولها آليات عمل وإجراءات واضحة تتم بعيداً عن تدخل وقيود الحكومة . وكل من جماعات الضغط والمصالح هي منظمات غير حكومية . وممكن أن تكون في حدود ضيقة تخضع لسلطة الحكومة ، إلا أن مظاهر التحولات الديمقراطية التي تشهدها معظم الدول النامية، وللواقع الاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات قد يجعل من باحثي مفكري  هذه الدول تفضيل مصطلح المنظمات غير الحكومية عن غيرها من المصطلحات . 

    وتصنف المنظمات غير الحكومية أحد مؤسسات المجتمع المدني مع كل من الأحزاب السياسية وجماعات المصالح ( ) ، وتقع هذه المنظمات بين المؤسسات الحكومية والمجتمع، وذات عضوية إجبارية أو إختيارية ( )، وتختلف مسمياتها من مكان إلى آخر ومن سياق إلى آخر . ويطلق عليها في أغلب الدول العربية (الجمعيات الأهلية أو المنظمات التطوعية) . كما يطلق عليها المنظمات غير الهادفة للربح في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ( ) . 

    وتتحدد ملامح المنظمات غير الحكومية بعدة عوامل، فهي تنظيمات ذات ملامح مؤسسية ولوائح منظمة لعملها ومحددة لمجالات نشاطها وعضوية الأفراد فيها، وهي تنظيمات تطوعية نشأت بمبادرات شعبية وبالتالي تعكس مطالب واحتياجات مجتمعية ثقافية واجتماعية واقتصادية وفي بعض الأحيان سياسية. وهي تنظيمات لا تهدف إلى الربح وإن كانت تقدم خدمات بمقابل فإن هذا المقابل ليس إلا لتغطية نفقة الخدمة. وتتبنى هذه التنظيمات أهدافاً ثقافية أو اجتماعية أو إقتصادية وبالتالي قد تنشط في مجال واحد أو في عدة مجالات في نفس الوقت وفقاً لطبية اللوائح المنظمة له، وفى أحيان كثيرة تتبنى هذه المنظمات أهدافاً سياسية حتى وإن كانت غير معلنة، وبالتالي فإن نشاطاتها تعكس قيم واتجاهات وآراء أعضائها نحو شئون السياسة والحكم ( ) . 

وفي الدول النامية يتحدد الدور الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية من خلال مجموعة معقدة متشابكة من الاعتبارات بعضها يتعلق بطبيعة القوى السياسية المهيمنة علىالمنظمة، وبعضها الآخر يتعلق بحجم المنظمة ومدىتجانسها وتضامنها الإجتماعي من جهة وطبيعة المهنة التي تمثلها من جهة أخرى.ويتفرع عن هذه الاعتبارات الأساسية عوامل أخرى تتعلق بطبيعة المشكلات والمطالب الخاصة بتلك المنظمات وحجم الصراع أو التماسك الذي تشهده . فتحليل الدور السياسي للمنظمات غير الحكومية يتوزع على متصل يبدأ من الاندماج التام في التحرك مع الدولة وينتهي بمعارضة واضحة لها ( ). 

    وتلعب المنظمات غير الحكومية اليوم دوراً محورياً في الكثير من دول العالم، حيث تكاثرت أعدادها وتعاظم نفوذها للدرجة التي دفعت الأمم المتحدة لتنظيم مؤتمرات لممثلي هذه المنظمات بالتوازي مع المؤتمرات الدولية التي تنظمها، كما حدث في مؤتمر البيئة والسكان والتنمية والمرأة. ومع تعاظم دور المنظمات غير الحكومية أصبح دورها كشريك في عملية التنمية من أكثر الفاهيم تداولاً وقبولاً من قبل الدول و المنظمات ذاتها، وهو ما يعني أن هذه المنظمات أصبحت إحدى آليات أشكال المشاركة الفعلية في صنع القرار أو السياسة التنموية ( ).

    إن حركة ونشاط المنظمات غير الحكومية شهد منذ بداية السبعينات درجة أكبر من الفاعلية وفقاً لطبيعة نشاطها من جانب وطبيعة تكوينها وعلاقتها بالسلطة من جانب آخر( )  . 

    ولتحليل ديناميات العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والنظام السياسي إستند بعض الباحثين على بعض المفاهيم كمفهوم  Corporatism( ) والذي يعني الطوائفية أو السلطوية النقابية، ويشير هذا المفهوم إلى طبيعة العلاقة بين بعض جماعات المصالح والسلطة السياسية وذلك في النظم السياسية السلطوية، إذ تخضع مثل هذه الجماعات إلى إرادة الدولة وتعتمد مالياً على إعانات تقدمها لها. ويشير هذا المفهوم أيضاً إلى نظام تمثيل المصالح في بعض النظم السلطوية حيث توجد جماعات أحادية إلزامية وغير تنافسية تتسم ببناء هرمي تمنحها السلطة حق تمثيل بعض المصالح أو الجماعات في مقابل ممارستها بعض أشكال الإحتكار والتحكم في الجماعة ومصالحها وقياداتها ( ). 

    ويقابل مفهوم الطوائفية مفهوم النمط التعددي الذي يشير إلى نظام لجماعات المصالح يطرح عدداً غير محددا من الجماعات المتعددة والمتنافسة المستقلة عن السلطة والعضوية فيها إختيارية وتتسم ببناء غير هرمي ( ) . والنموذج الأول على وجه التحديد ليس كاملاً أو مطلقاً، لكنه قد يكون جزئياً أو يكون في قطاع دون آخر، كما تختلف درجات حدته وفقاً لطبيعة العلاقة مع السلطة السياسية، وقد يوجد في إطار سياسي يسمح بظهور النمطين معاً ( ) .

    وتلعب هذه المنظمات دوراً حيوياً في إبراز جوانب القصور في أداء وممارسات مؤسسات الدولة . وبقدر ما تمثله هذه المؤسسات من مصالح جماهيرية واسعة ، وبقدر ما تملك من نفوذ وقوة في التأثير على الرأي العام وعلى القيادات والمؤسسات السياسية والتنفيذية ، يكون دورها فعالاً في تحريك جهود الإصلاح والرقابة عليها ( ).

    ويعتبر وجود المؤسسات والتنظيمات التطوعية والوسيطية والتي تتسم بالكفاءة والفاعلية شرطاً لازماً ومهماً لنجاح الديمقراطية الليبرالية وأداء المؤسسات السياسية ، إذ تكفل هذه المؤسسات والأبنية الوسيطة تحقيق المشاركة الشعبية ، وكلما تزايدت المشاركة كلما تزايدت الحاجة إلى المؤسسات ( ).

    والدور الرئيسي لهذه المؤسسات هو عملية تنظيم المطالب والحاجات (مدخلات)-التي تمثل المادة الخام التي تصنع منها القرارات والسياسات السلطوية- والتنسيق فيما بينها وتحديد أولويتها ( )، إذ لا يمكن للنظام السياسي أن يؤدي عمله بشكل صحيح ومتكامل، وقد لا يستمر في عمله، مع عدم وجود المؤسسات الاجتماعية التي تعبر عن رغبات أعضائه الراغبين في المساندة، والتي قد تصبح ضغطاً على النظام السياسي عندما تصل إلى الحد الأدنى، وهذه المساندة قد تكون علنية أو مستترة ( ) . 

    وأنه من الخطأ بمكان أن نتصور أن الدول التي حققت درجة عالية من التنمية السياسية لا يوجد فيها صراع ، بل تتسم بوجود هذا الصراع ، وبوجود ميكانيزمات ومؤسسات ، لتنظيمه على مختلف أشكاله ولتنظيم كيفية مواجهته ( ). 

    وتقوم مؤسسات السلطة بوظائف المخرجات ( السياسات والقرارات ) وتخصيص القيم المتنازع عليها في المجتمع وتقوية ارتباط أعضائه بها، وهذه المخرجات هي نتاج عملية التحول التي تتم بالنسبة للمطالب والمساندة ، فضلاً عن أنها تحدد طبيعة الدورة الجديدة للمدخلات ( ). 

    والهدف من عملية التخصيص السلطوي للقيم هو خلق مستويات عالية من التأييد ، وتلبية المؤسسات السياسية السلطوية للمطالب المقدمة من التنظيمات غير الحكومية ، ذلك أنه في حالة تزايد المطالب وضعف التأييد وفشل النظام السياسي في أداء وظائفه ، فإن ذلك قد يؤدي إلى فقدان توازنه وشرعيته مما يؤدي إلى قيام الثورة عليه وانهياره ( ). 

    وتعتبر دراسة مجموعة الأنشطة والأدوار ، التي تمارسها الأحزاب والمنظمات غير الحكومية وما يقابلها من أدوار تؤديها المؤسسات السلطوية ، تلك الأنشطة والأدوار التي تعد حتمية لاستمرار وسلامة النظام السياسي ، هي جوهر الوظيفة ( ) أو القدرات التي وصفها Almond بالوظيفة الاستراتيجية، والوظيفة التنظيمية ، والوظيفة التوزيعية ، والوظيفة الاستجابية ، والوظيفة الرمزية ( )، تلك الوظائف التي من خلال دراستها وتحليلها ، يمكن الحكم على المؤسسات السياسية في أي نظام ، ذلك أن مثل هذه الوظائف أو القدرات ليست إلا تعبيراً عن أنماط العلاقة بين المدخلات والمخرجات في إطار أداء محدد( ). 

    وهكذا تقدم المؤسسات في جانبها السلطوي وغير السلطوي إطاراً للعملية السياسية ، لذلك فإن عملية التنمية السياسية تعمق بناء المؤسسات وتطور قدراتها لتحقيق أهداف عملية التنمية ( ). 

رابعاً : عوامل وطرق نشأة المؤسسات :

    تنشأ المؤسسات بفعل عوامل معينة ولتحقيق أهداف ووظائف محددة يتطلبها المجتمع البشري ثم تأخذ المؤسسة في النمو والتطور والاتساع تدريجياً بمرور الزمن ، وذلك نتيجة لتطور المجتمع الذي تنشأ فيه وتعدد احتياجاته وتنوع علاقات أفراده وتشابكها . إن بداية نشأة المؤسسات كانت من التجمعات الصغيرة التي جمعت عدة أفراد معاً وكونوا جماعة قائمة أساساً على علاقات الجيرة والقرابة والمصاهرة والزواج ( )، وذلك لتحقيق مصالح معينة ، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ولديه الميل للعيش في جماعة ( ) ، مما يعني أنه يخضع لاحترام بعض الأنظمة وتنفيذ بعض الأحكام ، ذلك لأن للإنسان حاجات أساسية يسعى لإشباعها مثل الجوع والعطش ، وحاجات فرعية تخدم هذه الحاجات الأساسية  مثل تحاشي الألم والحاجة للمأوى والانتماء والتعاطف ، وكل هذه الحاجات لا يستطيع الإنسان بمفرده أن يشبعها ، فلابد من وجود مؤسسات تنبع من هذه الحاجات وتحاول إشباعها ( ) ، وتقوم بعملية  تنسيق إشباع هذه الحاجات بين الأفراد حتى لا يحدث الصراع .

    والمؤسسة الأكثر استمراراً هي التي تنبع من حاجات الإنسان ، فالمؤسسات العلاجية تنشأ كنتيجة لحاجة الإنسان لحفظ حياته وصحته ، والحاجة للاتصال أدت إلى وجود مؤسسات التليفون والتلغراف مثلاً ، فالمؤسسة نشأت لتسهيل تحقيق وإشباع الحاجات الإنسانية ( ) .

    وقد ظهرت المؤسسات في حياة المجتمع المعاصر حينما عجزت المؤسسات التقليدية كالقبيلة والأسرة عن القيام بوظائفها الرئيسية كوظيفة التنشئة الاجتماعية والضبط الإجتماعي ، ونتيجة لزيادة الاعتماد على المؤسسات فقد أخذت في النمو والإنتشار حتى غطت كل جوانب الحياة ، فقامت المؤسسات التعليمية ومؤسسات الضبط الإجتماعي المختلفة والمؤسسات الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية ( ) .

    كذلك تنشأ المؤسسات لتقوم بتطبيق معتقدات المجتمع وأفكاره حيث أن ترجمة الإعتقادات إلى أعمال هي وظيفة المؤسسة بالإضافة لتحقيق حاجات المجتمع والتنسيق بينها ( ).

    إذن ففي الجماعات البدائية تنشأ قواعد للإسترشاد بها في الحياة فيما بينهم، ثم تنشأ عادات اجتماعية ومؤسسات ( )، وهذه هي الخطوة الأولى بصدد نشوء المؤسسة ، أما الخطوة الثانية فهي أكثر تعقيداً ، وهي تقسيم العمل كأن يقوم مجموعة بالصيد مثلاً وأخرى بالزراعة وهكذا . وقد أدى ذلك إلى نشوء المؤسسات عن طريق تقسيم العمل ووجود شعور عام مشترك بأهمية العمل ومشاركة الأعباء ( ) ، الأمر الذي أدى إلى ظهور المؤسسات والانتقال من المجتمع القبلي ذي الاكتفاء الذاتي إلى مجتمع الدولة الذي يقوم على تقسيم العمل .

    فأهم عامل لنشأة أي مؤسسة هو وجود مصالح للأفراد وحاجات يرغبون في إشباعها . ويجب أن تكون المؤسسة هنا صالحة لتلبية هذه المصالح والاحتياجات والتنسيق بينها وإحداث التوازن ، كما يجب أن تتوافر الموارد اللازمة لإنشاء هذه المؤسسة لتحقيق أهدافها ( ).

    فظهور المؤسسات هو نتيجة للتفاعل والخلاف بين مختلف القوى الاجتماعية ، ونتيجة للنمو التدريجي للإجراءات والوسائل التنظيمية التي إستخدمت في ظل هذا التفاعل( ) ، ونتيجة للتوسع المستمر في أنشطة الحكومة المركزية وتضاؤل أهمية المؤسسات التقليدية ( ) . فنشأة المؤسسات السياسية كان مرتبطاً بتطور دور الدولة ووظائفها من حارسة إلى متدخلة ثم لتصبح حاملة أعباء تخطيط وتنظيم معظم مرافق حياة المجتمع ، ذلك أدى إلى بناء مؤسسات لكل وظيفة وتطوير المؤسسات القائمة وإستحداث فروع لها وإنشاء المؤسسات العامة بجانب المؤسسات التقليدية  من أجل القيام بأدوار متخصصة لمواجهة الضغط الناجم عن الوضع الجديد وتنظيم العلاقات المتشابكة في المجتمع . 

    إذن فبناء المؤسسات السياسية يرتبط بالعديد من المتغيرات من أهمها تعاظم دور الدولة في أغلب مجالات الحياة بصرف النظر عن المذهب السياسي والإقتصادي الذي تتبناه الدولة ( ) ، وتنوع المشكلات وتضخم الأزمات ، مما يفرض على الدولة مهام جديدة في مجال الخدمات والمرافق الأساسية ( ) ، إضافة إلى سعي الدولة لزيادة الإنتاجية ورفع كفاءة القوى البشرية لمواكبة التطورات الحديثة في مجال التكنولوجيا مما أدى إلى بناء مؤسسات متخصصة لمواجهة هذه الوظائف والأنشطة ( ) 

    وتتعدد أيضاً طرق نشأة المؤسسات ، على النحو التالي :

    1- هناك نمط النشأة السلمية ، فمعظم المؤسسات خاصة التقليدية منها تنشأ بحكم العادة وتتطور ببطء وبالتدريج ( ) .

    2- يمكن أن تنشأ المؤسسة عن طريق الثورة بسبب الحاجة إلى مؤسسات جديدة وتجعل من اليسير إنشاء نوع من المؤسسات الذي يريده الثوار .

    3- كما أن لحركات الإصلاح دور في إقامة المؤسسات وتنظيم أعمالها.

    4- عن طريق التخطيط لإنشاء وتجديد المؤسسات ، وذلك من خلال وضع برنامج مدروس لمعرفة المؤسسات القائمة والمؤسسات التي تحتاج إلى تجديد مؤسسي والمؤسسات التي بحاجة إلى أن تنشأ أصلاً ، والمؤسسات التي بحاجة إلى أن تلغى .

    5- كما يمكن أن تنشأ المؤسسات عن طريق استعارتها من نماذج خارجية .

    6- يمكن أن تنشأ المؤسسة عن طريق إحياء نموذج وطني أو تاريخي أو ديني مستقى من التراث .

    مما سبق إتضح أن المؤسسات هي منظمات تجسد العلاقات المعيارية ونماذج الفعل وتؤدي وظائف ذات قيمة في البيئة . وقد تبلور في العالم المعاصر نوعين من المؤسسات السياسية الأول مؤسسات سلطوية (مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية) والثاني مؤسسات غير سلطوية (مؤسسات المجتمع المدني) ، وكان من ظهور هذه المؤسسات أنه تلبية لظروف وحاجات المجتمع الذي تظهر فيه ، وأن أكثرها إستمراراً هي تلك التي تنبع من حاجات الإنسان . وقد تنشأ هذه المؤسسات السياسية إما بنشوء تدريجي أو عن طريق حركات الإصلاح أو عن طريق الثورة بسبب الحاجة إلى مؤسسات جديدة . ولأهمية عملية بناء المؤسسات وإختلاف درجات المؤسسية فيها ، سيتم مناقشة ذلك في المبحث التالي .

المبحث الثاني : عملية بناء المؤسسات

أولاً : أهمية البناء :

    إذا كانت عملية بناء المؤسسات وتطويرها هي أحد المحاور الهامة في عملية التنمية ، فإن الإطار النظري لدراسة عملية بناء المؤسسات يتطلب إلقاء الضوء على مفهوم التنمية ذاته وعلى أهدافها ومقوماتها ليتسنى الفهم المتكامل لأحد آلياتها وهو بناء المؤسسات .

1-  مفهوم التنمية : 

    إن مفهوم التنمية يعد من المفاهيم التي يكتنفها الغموض وعدم الوضوح ( ) ، وكثير من الدارسين قد استخدموا لفظ التنمية للتعبير عن مفاهيم مختلفة مثل التحديث أو المعاصرة والنمو والتقدم والتطور ( )، وبالرغم من أن التنمية والتحديث يعتبران  مترادفان في بعض الأحيان في المعنى والاستعمال لدلالتهما على التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهادفة إلى تغيير جذري في الحياة السائدة ( )، إلا أن التحديث يعتبر عملية غربلة للنظم والأنماط السلوكية الغربية يمكن أن يطلق عليها حضارة صناعية ( ) ، حيث يهدف التحديث إلى تقدم لا يرتبط بالضرورة بأنماط تنظيمية وسلوكية معينة بل كل ما يعنيه التحديث هو السير قدماً إلى الارتقاء التكنولوجي للوصول إلى مستوى معين من التطور ( ) .  

    ويرى كل من علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة والإدارة  أن التنمية تعني شيئاً يتناسب مع اختصاصهم ، وبتعدد المعاني تتعدد الأهداف والغايات التي يسعى أصحاب الاختصاص على اختلاف توجهاتهم إلى تحقيقها ، فنرى علماء الاقتصاد ينظرون إلى المفهوم على انه الوسيلة الوحيدة للتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي من خلال رفع مستوى الدخل القومي والفردي على حد سواء ، أما علماء الاجتماع فيرون أنها عملية تغيير شاملة للبيئة الاجتماعية تتناول الأفكار والعادات والقيم السائدة في جميع المؤسسات القائمة ( ).

    وعلماء الإدارة ركزوا جهودهم على الجوانب الإدارية والتنظيمية للتنمية على أساس أن الإدارة هي الأداة الإجرائية المسئولة عن تنفيذ خطط التنمية وتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، وذلك من خلال قيام الإدارة بوصفها إدارة تنمية بتنفيذ قرارات السلطة الخاصة بإدارة عمليات التغيير المستهدف ( )، وبناء على ذلك يجب أن لا تتجه جهود الإصلاح الإداري المستهدفة في خطط التنمية إلى تطوير الإدارة العامة فحسب ، بل تتجه أيضاً إلى خلق إدارة جديدة للتنمية تكون مسئولة عن إدارة التغيير المستهدف بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وما يتطلب ذلك من أنماط السلوك والعادات والتقاليد في المؤسسات الإدارية القائمة وتطويعها في خدمة إدارة التغيير ( ).

    أما علماء السياسة فينظرون للمفهوم على أنه عملية سياسية تهدف إلى تغيير جذري وشامل لمقومات بناء الهيكل العام للدولة ، على أساس أنه المضمون الفكري والعملي للتنمية باعتبار أن هذا التغيير هو في الأصل تخطيط سياسي مقصود ومتعمد يهدف إلى إعادة تكوين الأمة من خلال الدعوة إلى التلاحم والتكامل القومي وإحياء التراث وتحقيق العدالة الاجتماعية ( ).

    إن مصطلح التنمية نفسه مصطلحاً قيمياً وليس معيارياً أو مادياً ( )، كما ذهب إلى ذلك رأي George F. Gant عند تعريفه لمفهوم التنمية بأنه مصطلح مراوغ Elusive  حيث يمكن تفسيره كشرط للحياة وكهدف وكقدرة على النمو والتغيير والتحسن ( ).

    وعلى هذا الأساس يمكن القول أن التنمية مصطلح عام لا يجب قصرها على أي من زوايا الإصلاح دون الأخرى ، فهي لا تعني  النمو الاقتصادي فقط إذ يجب أن تشتمل كذلك وبشكل جوهري على تغير ثقافي عام وكذلك على تغيرات في البناء الاجتماعي القائم ( ) الذي يمثل الأرضية البشرية التي ستستقبل عمليات التنمية وتبعاتها ، ويترتب على ذلك بالضرورة تغيير في مؤسسات المجتمع القائمة أو قيامها بوظائف جديدة تمليها عليها الطبيعة التنموية المتعددة الجوانب والأبعاد .

    وعلى ذلك فإذا كانت التنمية تعني التغيير للأحسن فإن هذا المعنى يجب أن يشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو إدارية ، وهذا ما ساعد على تعدد التعريفات والمفاهيم من أصحاب الاختصاص بتلك المجالات ، فظهر مفهوم التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية والتنمية الإدارية و التنمية الاجتماعية .. الخ . بحيث تم إيجاد نوع من التقسيم والتخصص في دراسة التنمية وتطبيقاتها . ورغم الفائدة التي جاء بها هذا التقسيم ، إلا أن تشابك عمليات وجوانب التنمية وتداخلها هو الغالب عند التطبيق بما يسمح للدراسات النظرية المهتمة بهذا الموضوع بالتطرق لكافة جوانب التنمية وان كانت تبتغي التركيز على جانب دون آخر . 

    وإن كانت دراستنا هنا هي دراسة سياسية ، وأن من دواعي التخصص والمنهج أن نشير إلى التنمية بمفهومها السياسي إلا أن تلك العملية تتطلب جهوداً تنموية تشمل جوانب أخرى ، ليست سياسية بالأساس كالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وجانب الثقافة ، وهذا ما يؤيد تشابك وتداخل جوانب عملية التنمية .

    وهناك عدة ملاحظات يجب وضعها في الاعتبار قبل البدء في عملية التنمية السياسية : 

أ-تتحدد طبيعة التنمية السياسية في أنها ” عملية ” ، وهو مفهوم يعبر عن تعقد وتشابك الظاهرة، واحتوائها على جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية ( ).

ب- أنها عملية حركية لا تعرف نقطة تنتهي عندها ، بل تفترض حركة مستمرة بمعنى مواجهة مستمرة للأحداث والتحديات ( ).

     ج- أنها مفهوم نسبي وفي نفس الوقت عالمي ، أي أنها قد تكتسب مضامين متباينة بتباين البيئات الثقافية والحضارية ونسق القيم السائد ، وباختلاف المرحلة التاريخية ، وهي عالمية لأنها تحدث في كل المجتمعات وإن اختلف الشكل ( ).   

     د- التنمية السياسية ليست حتمية سواء من حيث حدوثها أو سرعتها أو نتائجها ، بل إن ذلك يتحدد بالإطار التاريخي والاجتماعي للعملية داخلياً وخارجياً ( ).

    هـ- تتطلب التنمية السياسية زيادة قدرات النسق السياسي على التأثير على النسق الفرعية للمجتمع ، وتتطلب تنمية القدرات مزيداً من الفعالية والكفاءة للأبنية السياسية ، ومزيداً من الرشادة في الإدارة وهو ما يتطلب التمايز والتخصص في المؤسسات والأدوار( ) . 

     و- إن التنمية السياسية لا تتم بمعزل عن الظواهر الأخرى ، فهناك تلازم وتزامن بينها وبين جميع مظاهر التنمية الأخرى( ).

     ز- تشمل التنمية السياسية أبعاداً ثلاثة ، البعد المادي أو الهيكيلي (المؤسسات) ، والبعد المعنوي أو النفسي (الثقافة) ، والبعد الثالث هو التفاعل بين المؤسسات والثقافة .

2-  أهداف ومستويات التنمية : 

     إنطلاقاً مما سبق تهدف التنمية إلى التغيير الثقافي الدينامي الواعي والموجه أولاً ، وخاصة تعبئة وتنشيط العناصر الثقافية التي كانت ثابتة أو جامدة نسبياً فيما مضى ، وهي العناصر الفكرية والروحية والمادية ، وتخفيف وطأة أساليب السلوك التقليدية وإعادة صياغتها أو التخلص من بعضها نهائيا إذا لزم الأمر( ). فهناك أولويات أو خطوات يترتب فيها التالي على السابق ، وعلى ذلك فعملية التنمية يجب أن تتم على مستويات متعددة يمكن التمييز بين ثلاثة منها وهي ( ):-

    أ- المستوى الأول هو المستوى التكنولوجي : ويتمثل في تغيير أساليب الإنتاج والنقل والاتصال والتوزيع وذلك بهدف الوصول إلى علاقة أكثر ملاءمة بين التكلفة و العائد .

   ب- المستوى الثاني هو المستوى الاقتصادي : ويتمثل في التوصل إلى طرق أكثر إنتاجية وأكثر كفاءة في مجالات التنظيم والتخطيط وتوزيع العائد .

   ج- المستوى الثالث هو المستوى الاجتماعي : ويتشعب بدوره إلى النقاط الفرعية الآتية( ) :

      1)- تحريك النظام الاجتماعي وتعبئته بصفة عامة ، بما في ذلك توسيع مجالات العلاقات والوعي والمسئولية والتغيرات التي تطرأ على وظائف الكيان الاجتماعي وبنائه وخلق وحدات اجتماعية أكبر حجماً وأكثر تعقيداً ترتكز على أساس التكامل الداخلي الفعال وعلى أساس النمو في أعداد السكان .

     2)- الحراك الأفقي أو الجغرافي (المكاني) الذي يتمثل في هجرة العناصر السكانية المختلفة وانتقالها من مكان إلى آخر.         

     3)- الحراك الرأسي : أي الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أعلى أو اسفل في السلم الاجتماعي ، وكذلك تغير العوامل المؤثرة على البناء الطبقي مثل توزيع القوة والهيبة والتعليم والملكية والدخل .

    وتعد درجة الحراك مؤشراً واضحاً لعملية التنمية في كل مجال من المجالات وخاصة المستويات الثلاثة السابق ذكرها . وهذا الحراك يعني تلك التغيرات التي تطرأ على البناء الاجتماعي والوظائف التي تعمل على تكامل الوحدات الاجتماعية المختلفة خاصة نظم وأساليب السلوك التي تؤثر على الحراك داخل البناء الاجتماعي.

    وهذا يعني ابتداء عملية التنمية بالجانب الاجتماعي والثقافي في المجتمع لتهيئته أولاً لاستيعاب أهداف وغايات التنمية الشاملة من أجل ضمان نجاح جهود التنمية ، ولتفادي التضارب أو الهوة بين الإمكانات المادية للتنمية أياً كان مصدرها وبين الإستعداد للتنمية ( )، ويعد هذا الجانب ، أي التنمية الاجتماعية والثقافية ، هو أصعب خطوات التنمية حيث يترتب على ذلك صراع ذو شقين الشق الأول يتمثل في محاولة إقناع المجتمع بالتغيرات المقبل عليها، وتعد هذه مهمة شاقة تستدعي إبراز لمزايا التنمية المرحلية والكلية أمام أفراد المجتمع ، والشق الثاني يتمثل في الصراع بين أصحاب الفكر القديم والقيم المجتمعية التقليدية ، وهم المستفيدون من بقاء الوضع كما هو عليه، ودعاة التغيير والتحديث والتنمية .

    بعد ذلك تأتى ضرورة تنمية مؤسسات المجتمع القائمة أو إنشاء مؤسسات جديدة تضطلع بمهام جديدة لمواجهة المتطلبات والضرورات المستجدة للمجتمع ، سواءً كانت مؤسسات السلطة المختلفة أو مؤسسات المجتمع المدني. 

    وتشتد الحاجة في الدول النامية عموماً إلى إدارة قوية للتنمية ، ويعود ذلك لعدة أسباب :-

     أ – أن الدول النامية باعتبارها لم تتعرض لتجربة النمو التلقائي أو لظروف مشابهة للظروف التي تحققت في غرب أوروبا والولايات المتحدة ، والتجربة الاشتراكية ، عليها أن تقوم بتهيئة البيئة المناسبة للنمو ، وعلى الدولة بمعنى أصح أن تقوم بما لم يتحقق تلقائياً .

    ب- تعويض النقص في الكفاءات الفنية والإدارية المتخصصة وتطوير الخدمات( )، فالبيروقراطية المحلية لازالت تعوق تحرك الإدارة ، باعتبارها تمثل سلطة الحكم( ).

    جـ- تحقيق التعبئة الاجتماعية : ويعد “كارل دويتش” من الباحثين الذين يؤكدون أهمية تحقيق التعبئة الاجتماعية كهدف أساسي للتنمية السياسية ( ) ، ويمكن قياس مدى نجاح المؤسسات أو التنظيمات السياسية في تحقيق هذه التعبئة من خلال عدة مؤشرات أهمها نسبة السكان والجماعات الاجتماعية التي تشارك في الحياة السياسية واتخاذ القرارات ، وإبداء رأيها بحرية وممارسة الضغط ، وكذلك نسبة السكان الذين يتحولون اجتماعياً من الحياة التقليدية في اتجاه الحياة الحديثة ، وأيضاً نسبة المتعلمين ( ).

    غير أن إتساع نطاق المشاركة السياسية وارتفاع مستويات التطلع السياسي والاقتصادي للجماهير والقضاء على الأمية، وهي أهم أهداف التعبئة الاجتماعية ، من شأنها خلق مجموعة من المشكلات التي تتعلق بقدرات الدولة . وتختلف المؤسسات السياسية في تحقيق هذه التطلعات من جهة وفي التصدي للقوى المقاومة للتغيير والتي تتمثل في القوى التقليدية التي أضرها التغيير من جهة أخرى( ) .

    يضاف إلى هذا كله أن هناك مطلباً ملحاً في العديد من الدول النامية يتمثل في البحث عن الذات أو عن الشخصية القومية ، وهذه تثير قضية كفاءة المؤسسات السياسية القادرة على مواجهتها ، وإذا كانت التعبئة الاجتماعية تفرض مطالب حادة على النظام السياسي، فإنها تؤثر أيضاً على الأبنية الحكومية ، ومع أنها قد لا تعزز من شرعية النظام ، فإنها قد تحدث ذلك بطريقة غير مباشرة من خلال تقوية القدرات الحكومية ، حيث تستخدم الحكومات التقنية الحديثة في تحسين قدراتها على صيانة الأمن السياسي وفي توسيع دائرة وجودها وحجم وظائفها الإدارية ، ومن ثم فإن مظاهر الحداثة تضاعف بلا ريب الأعباء على النظام السياسي ولكنها في نفس الوقت تعزز من قدرته على التعامل معها( ) .

3- أهمية بناء المؤسسات السياسية :

    يربط علماء السياسة بين تقدم المجتمع وقيام مؤسسات قوية فيه باعتبار أن المؤسسة هي القناة التي تتجمع فيها آراء وتفضيلات وجهود الأفراد لتحقيق الغايات المشتركة بعكس المجتمعات التي تفتقر إلى تلك المقدرة على بناء المؤسسات .

    إن ضعف تنظيم المؤسسات السياسية في الدول النامية يمثل سمة رئيسية للنظم السياسية السائدة في هذه الدول وعقبة لا يستهان بها أمام عملية التنمية السياسية ، فالانقلابات العسكرية وتدخل العسكريين في الحياة السياسية يعد من المؤشرات الرئيسية لضعف المؤسسات السياسية في المجتمع ، وافتقارها إلى التماسك والاستقلالية مما أوجد مبرراً قوياً لدى المؤسسة العسكرية للتدخل لملء الفراغ في جانب المدخلات ، كما أن ظهور عدد من الزعامات الكارزمية أو التاريخية في بعض الدول النامية يعد مؤشراً آخر لضعف المؤسسات السياسية مما مكن هذه الزعامات من الربط الوثيق بين شخصيتهم من جانب والسلطة من جانب آخر( ) .

    إن أي مجتمع يتسم بضعف المؤسسات السياسية لابد وأن يفتقد القدرة على التكيف مع المطالب المتزايدة ، مما يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، فالعملية السياسية تستهدف التوفيق بين المطالب المتعددة والمتناقضة أحياناً ، وتهدئة حدة الصراع بين الجماعات والفئات والقطاعات المختلفة في المجتمع ، وبالتالي فبدون المؤسسات السياسية سيفقد المجتمع وسائله اللازمة لتحديد وتحقيق الصالح العام ، ويعم عدم الاستقرار( ) .

    وترجع أهمية بناء المؤسسات إلى الدور الذي تقوم به المؤسسة حيث تقوم بعملية التحويل من المدخلات إلى المخرجات، ويؤدي ذلك إلى ترابط مختلف مستويات أداء النظام ، ويعتبر أبتر المؤسسات الفعالة هي وحدها القادرة على ضغط المطالب وتنظيمها وتتيح لها الشرعية والتعبير والتغيير ( ). 

    وينشأ الفساد السياسي عند غياب وجود المؤسسات الفعالة ، لذا ينشأ العنف نتيجة للنظام السياسي الضعيف ، فالفساد والضعف ينتجان عندما تتسم المؤسسات بالضعف والجمود وتعجز القنوات السياسية عن استيعاب مطالب الجماهير ، وتتحول إلى أجهزة واهية ( ).

    إن عملية إعادة بناء المؤسسات السياسية في الدول النامية تتمثل في أن عملية التعبئة السياسية والاجتماعية في معظم الدول المتخلفة تتم بمعدلات مرتفعة وسريعة لا يمكن للمؤسسات السياسية في المجتمع استيعابها من ناحية أو استيعاب ما يترتب عليها من ناحية أخرى، مما يؤدي إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار ( )، نتيجة إلى أن عملية التعبئة الاجتماعية كانت سابقة على تطوير المؤسسات والإجراءات السياسية . إذن لابد من الحد من المعدلات المرتفعة لعملية التعبئة السياسية والاجتماعية في الدول النامية عن طريق زيادة تعقيد البنيان الاجتماعي ، والحد من التنافس بين أعضاء النخبة الحاكمة ، والتقليل من عملية الاتصال ( ) ، من أجل تمكين المؤسسات السياسية من إستيعاب الحراك الإجتماعي ولتهيئة المناخ المناسب لها لتحقيق وظائفها .

    إن بناء المؤسسات السياسية بطبيعة الحال يتطلب هدم المؤسسات التقليدية التي كانت قائمة من قبل  أو تطويرها على الأقل ، وهنا تبرز المشكلة التي تواجهها مختلف الدول النامية ، وهي أن عملية بناء المؤسسات تقوم بها قيادات تقليدية أساساً وهي القيادات التي تولت مقاليد الحكم في أعقاب الحصول على الاستقلال ، وما يزيد من صعوبة بناء هذه المؤسسات هو حاجة الدول النامية إلى قدر من المركزية السياسية يعتد به في مرحلة ما بعد الاستقلال من ناحية ، وضعف المؤسسات التمثيلية من ناحية أخرى ( ).

    وقد واجهت هذه الدول مشكلة الاختيار بين تكييف المؤسسات السياسية التي كانت قائمة مع متطلبات المرحلة الجديدة أو هدم هذه المؤسسات كلية وبناء مؤسسات جديدة تأخذ على عاتقها مهمة تسييس الجهاز الإداري بجانب المهام الأخرى الموكولة إليها ، وقد فشلت تقريباً غالبية الدول في تكييف ما هو موجود مع المتطلبات الجديدة نتيجة استمرارية هذه المؤسسات لفترة طويلة ولارتباطها بالسياسة الاستعمارية من ناحية ، ولما أسفرت عنه التجربة الاستعمارية من عدم رغبة الدولة الأم في السماح بقيام مؤسسات مستقلة عنها من ناحية أخرى( ) . 

    إن عملية بناء المؤسسات والتجديد المؤسسي تمثل أهم العوامل في التنمية السياسية عند “بريبنتي” ، ويقصد بذلك قدرة المؤسسات المختلفة على التحول والتجديد والتطوير والتغير المستمر لاستيعاب المتغيرات الجديدة وخلق نظام قادر على حل المشاكل الواقعية أو رفع مستوى المشاركة في كل القيم( ).

4- معوقات بناء المؤسسات :

    إن العوائق والمشاكل المحتملة لبناء المؤسسة أو تطورها كثيرة جداً لدرجة يصعب التعرف عليهـا وعلاجها والحد من ضخامتها ( ) ، وتظهر عوائق ومشاكل بناء المؤسسات من خلال :

1- عملية نقل المؤسسات السياسية من البيئة الخارجية ، فمعظم الأفكار والمفاهيم والنماذج والأسس التي يقوم عليها بناء المؤسسات في الدول النامية أخذت من دول تختلف في بيئتها عن الدول النامية،وإن كانت هذه النماذج والأفكار قد نجحت في بيئتها الأصلية ، فليس ضرورياً أن تنجح في غيرها من البيئات ، إذ أن عملية النقل المجرد لهذه النماذج دون التكيف مع مجريات الواقع المحلي قد يكون معوقاً يحجب الرؤيا الصحيحة عن مكونات ومقومات البيئة المستقبلة وثقافتها( ).

    إن بناء المؤسسات السياسية في بيئات تقليدية على نمط المؤسسات في الدول المتقدمة كانت المشكلة الرئيسية في دول العالم الثالث في الخمسينات وما بعدها ( ) .

    فالنقل القسري للنظم والأساليب والمؤسسات من الدول المتقدمة إلى الدول النامية لا يحقق النجاح والتنمية المنشودة ، ويستوجب الأمر وضع إستراتيجية متكاملة توحد بين التقليدية والحداثة ( ). كما لا يعني ذلك الإنغلاق أمام التجارب الانسانية المختلفة التي يمكن الإستفادة منها، بل الدعوة إلى تكييف هذه التجارب مع المعطيات المحلية القائمة ( ) .

2- عدم التوازن في بناء المؤسسات ، سواء كان ذلك عدم التوازن في إنتشار المؤسسات على أقاليم الدولة ، أم في عدم التوازن الوظيفي . فكثيراً ما تقام المؤسسات الحديثة في العاصمة ، وتترك الأقاليم خاضعة للمؤسسات التقليدية ، أو سوء توزيع المؤسسات في عواصم الدولة وأقاليمها ، وعدم الأخذ في الحسبان نسبة السكان وحاجتهم للمؤسسات ، وخاصة الحديثة منها، الأمر الذي يوجد ثنائية غريبة بين مؤسسات عصرية ومؤسسات تقليدية في إطار النسق السياسي، أو يوجد تزاحم مؤسسات في منطقة وخلو الأخرى من أية مؤسسات تماماً ، وجدير بالذكر أن أغلب الدول النامية تواجه بشكل أو بآخر هذا  النوع من عدم التوازن ( )، ويقل أو يزيد التوزيع المساحي للمؤسسات حسب نظام الدولة ودستورها ( ) ، فإذا كان التعدد الوظيفي من سمات المؤسسات الحديثة ، فإنه يتعين تقسيم إقليم الدولة إلى مناطق تنشأ فيها المؤسسات ، أو فروع لها، ذلك لأن عملية التنمية وفوائدها ومشاكلها يجب أن تصل إلى جميع أقاليم الدولة ، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق تغلغل مؤسسات السلطة في جميع مناطق الدولة ( ) .

    أما على مستوى عدم التوازن الوظيفي Functional فكثيراً ما يتم التوسع في بناء وتدعيم قدرات المؤسسات التنفيذية الحكومية دون أن يقابله توسع مماثل في قدرات المؤسسة السياسية الحكومية الأخرى كالبرلمان والقضاء ومؤسسات المجتمع المدني وذلك يمثل عقبة حقيقية أمام التنمية السياسية ، إذ أن الأصل هو أن تعمل المؤسسات التنفيذية تحت إشراف المؤسسات السياسية في إطار أولوياتها وليس العكس( ) .

    وفي الدول النامية تعد المؤسسات التنفيذية أقوى مؤسسات الدولة السياسية حيث تفرض إرادتها على كل من مؤسسات السلطة التشريعية والقضائية ، ذلك لأن أعضاء هذه المؤسسات في أغلب الدول النامية لا يستندون إلى قوة وقاعدة شعبية ، وإلى مؤسسات التعبير عن المصالح ، كما أن المؤسسة القضائية رغم أن جميع الدساتير في العالم كله تنص على إستقلاليتها ، إلا أن ما يحدث من الناحية الفعلية غير ذلك ، إذ تتسم بالضعف وعدم قيامها بدورها الدستوري كمؤسسة تختص بتفسير القوانين والفصل في المنازعات ، وذلك إما بسبب تدخل وسيطرة المؤسسات التنفيذية عليها وإما لبعد أو لإهمال بعض أعضائها للقضايا والمشاكل الهامة . 

ويلاحظ ذلك بدرجات متفاوته في الدول النامية كافة تقريباً،رغم إختلافاتها السياسية والأيديولوجية والاقتصادية الكثيرة ، حيث ترجح كافة مؤسسات السلطة التنفيذية عدداً ومكانة علي ما سواها من مؤسسات السلطة التشريعية والقضائية مما يؤدي إلي ضعف برامج التنمية والمشاركة السياسية والتحديث ( ) .

لقد أقترن النمو المتسارع للمؤسسة التنفيذبة بنمو متعثر وبطئ للغاية في أجنحة المؤسسات الأخرى للدولة ، ونتج عن اختلال التوازن في حجم وقوة ونفـوذ السلاطـــات الثلاث ، أن تحولــت المؤسسـة التنفيذيـة في أغلـب الـدول الناميــة إلي 

مراكز قوة تسيطر على موارد هائلة، ومكنها هذا الإختلال من أن تتحصن وأن تكتسب المناعة ضد المساءلة والحساب والرقابة السياسية الخارجية ( ) .

    فقد نمت أكثر المؤسسات التنفيذية نمواً عشوائياً نتيجة للمغالاة في إحتياجاتها من الوظائف ، ونظراً لغياب التنظيم المؤسسي وغياب المعايير الموضوعية في تقدير الإحتياج ، مما نتج عنه تراكم في عدد الوظائف ( ) وتضخم في حجم المؤسسة، وتوسع أفقي في بناء التنظيم المؤسسي ، وزيادة عدد الوحدات الفرعية العشوائية وغير المدروسة للمؤسسات الرئيسية القابلة للتغير المستمر ، وفي الهياكل التنظيمية لمؤسسات السلطة ( )، مما يعيق عمل المؤسسة ويؤثر على أهدافها وأدائها من حيث تشتت البرامج وعدم إمكانية السيطرة على إداراتها وأقسامها وفروعها ، وضعف أدائها وإغراقها في الشكلية والجمود ، والروتين الزائد ( ).

3- مشكلات فنية تتعلق بشكل المؤسسة ومن أهمها :

    أ- البيروقراطية ، حيث يرى بعض المفكرين أن البيروقراطية مرض من أمراض المؤسسات في هذا العصر ، وتدل على ذلك الإستبدادية والطبقية ، وكثرة اللوائح والقوانين المعقدة ، والروتين غير المبرر في أداء مهامها، وتعدد المستويات الإدارية (الوظيفية) وتضخم حجمها وتعقد علاقاتها بالمجتمع والمؤسسات الأخرى( )، وعلى هذا النحو فإن البيروقراطية قد تؤدي إلى الصراع داخل المؤسسة وإلى ضعف هيبتها ومؤسسيتها ، وإعاقة تطويرها وأدائها لعملها . إلا أن للتضخم المؤسسي مبرراته في أحيانٍ كثيرة ( ) ، ولكنه في بعض الحالات ليس مبرراً ( ) ، وفي كل الأحوال يجب أن يتناسب حجم المؤسسة مع الهدف والبرامج والعمل المكلف أو المناط بها ( ) .

    ب- المركزية : فهي إما أن تكون مركزية في الوظائف (المركزية الوظيفية ) أو مركزية في التوزيع الجغرافي (المركزية الجغرافية) ، وتعني المركزية الوظيفية وجود تنظيم تتخذ فيه القرارات والسياسات في مركز التنظيم ، دون توزيع هذه الصلاحية على المستويات الإدارية في المؤسسة وفروعها ( )، وتعني المركزية الجغرافية تركيز المؤسسات في عواصم الدولة ، ويختفي بناء وتوزيع المؤسسات السياسية في الأقاليم والأطراف وما يتبع ذلك من اعطائها السلطة والصلاحية السياسية والإدارية ، التشريعية والتنفيذية الواسعة في اتخاذ بعض قراراتها ( ). ويترتب على المركزية الشديدة في مؤسسات الدولة جمود واضح في عملية إتخاذ القرارات الإستراتيجية ، وعرقلة مبدأ المشاركة والتفويض ، وضعف المؤسسات ، وضياع جهود المؤسسات الفرعية المختلفة في السعي للحصول على الموافقات النهائية على السياسات والقرارات وفي نقل صورة الموقف من موقع التنفيذ إلى المؤسسات في المركز ( ).

4- عنصر الوقت،حيث يتطلب بناء المؤسسة وقتاً كافياً حتى تتكيف مع المجتمع وتصبح هذه المؤسسة جزءاً من التكوين الثقافي والحضاري له،فبناء المؤسسات يستغرق وقتاً كثيراً لكي تكتسب المؤسسات الجديدة شرعية سياسية وترسخ في إطار البناء السياسي والإجتماعي،ويتقبلها أفراد المجتمع وتتضح وظائفها وأدوارها وعلاقاتها بسائر المؤسسات الأخرى والمجتمع، ومن الطبيعي أن تواجه المؤسسات الجديدة في بدايتها رد فعل رافض لها من المجتمع بمؤسساته،ومن ثم فإن استراتيجية بناء المؤسسات يجب أن تأخذ في إعتبارها عنصر الوقت والعلاقة بينها وبين المجتمع والمؤسسات التقليدية القائمة( ).

5- مشاكل تتعلق بالقوى البشرية سواء كانوا مستشارين أو قادة أو شاغلي أدوار ، وتكمن المشكلة في أن الخبير الأجنبي الذي يأتي إلى الدول النامية ينقل إليها نموذج المؤسسات من الدولة التي أتى منها ، دون أن يضع في إعتباره الإختلاف بين بيئته وبيئة الدولة النامية في القيم والثقافة والأشخاص ، وفي معظم الحالات يكون هذا النموذج هو النموذج الغربي ( ).

    كما أن القياديين وشاغلي الأدوار  في المؤسسات من أبناء هذه الدول لا يستوعبون أفكار الخبير الأجنبي ، نتيجة لإختلاف الثقافة ، ثم إن الخبير الأجنبي عادة لا يتوائم بسهولة مع واقع المجتمع الذي أتى إليه ، ولا يتعاطف مع آماله القومية  أو يتفهم القيم السائدة فيه ( ).

    ومن جانب آخر فإن بعض القياديين والمستشارين من شعوب الدول النامية الذين تلقوا تعليمهم في الدول المتقدمة يميلون إلى نقل نماذج من الدول التي درسوا فيها – والتي تمثل في نظرهم نموذجاً يحتذى به – وإدخالها قسراً للبنية المؤسسية في الدول النامية ، دون إعتبار للإختلافات في القيم والثقافة السياسية ومراحل التطور السياسي والإجتماعي والإقتصادي في هذه الدول ، فهؤلاء القادة والمستشارون يظنون أنهم حققوا الغاية في مجرد إمتلاك ما هو موجود في تلك الدول ( ) .

    والعقبة البشرية التي تواجه قيام المؤسسة هي إختيار الأفراد أو شاغلي الأدوار للقيام بإدارة العمل فيها ، إذ تعاني الدول النامية من النقص الشديد في الفنيين والإختصاصيين والمؤهلين اللازمين لشغل الأدوار في المؤسسات في أغلب التخصصات ، حيث شح وضعف المؤسسات التعليمية والمراكز التدريبية في هذه الدول ( )، لذا فإن قدرة أفراد المجتمع على مواجهة التحدي الجديد وإكتساب المهارات المستحدثة لا تكون دائماً على مستوى ما تطلبه الحاجة . وفوق هذا تتعرض المؤسسة الناشئة لضغوط ذوي الشأن في المجتمع لإلحاق أفراد معينين بالعمل على مختلف المستويات( )، ممن لا تتوافر فيهم الخبرة أو القدرة على العمل بالمؤسسة ، بل قد يتم تعيين بعض الأفراد في كثير من الدول النامية في المؤسسات نتيجة لظروف إجتماعية مع عدم حاجة المؤسسة لعملهم ( ).

    إذاً فأغلب تلك الدول لا تحتاج لمزيد من المؤسسات بقدر ما تحتاج إلى تغيير في السلوك والاتجاهات ، وإلى تطوير المؤسسات القائمة ، وهذا الأمر ذو شقين : الأول ، يتطرق إلى الإنسان الذي يستخدم هذه الأساليب والوسائل بحيث يكون متقبلاً للتغيير وقادراً على المبادرة والإبتكار والتجربة ، والثاني ، تأهيل شاغلي الأدوار في هذه المؤسسات تأهيلاً يستطيعون بواسطته القيام بالمتطلبات الحديثة والمتجددة ( ) . 

6- الموارد المادية : حيث تواجه عملية بناء المؤسسات السياسية – وبخاصة غير السلطوية منها – في الدول النامية مواقف متعددة وأزمات سياسية وإقتصادية يتعذر معها تدبير الموارد الكافية لتأمين إحتياجاتها وتحقيق أهدافها وتنفيذ برامجها ، لذا فإن أغلب المؤسسات في هذه الدول قد تولد غير مكتملة النمو ، وتعيش هزيلة ، بل قد تدمج في مؤسسة أخرى أو تفقد مؤسسيتها أو تصبح هامشية وقد تنهار في حالة تفاقم الأزمة المالية ( ).

7- الإزدواجية :كثيراً ما يؤدي البناء الغير مخطط للمؤسسات إلى الإزدواجية في المهام والإختصاصات بين هذه المؤسسات من ناحية وبينها وبين فروعها من ناحية أخرى حيث عدم الحاجة إلى بعض هذه المؤسسات ( ). وترجع أسباب وجود هذه الإزدواجية إلى أمورٍ عدة أهمها أن بناء المؤسسات قد تم في فترات متعاقبة وكان إختصاص ما استحدث منها يدخل أصلاً في اختصاص السابقة عليها فبقيت رواسب في السابقة تحاول دائماً أن تتوسع بها وظهرت ثغرات في الثانية تحاول دائماً أن تستكملها ( ).

8- التطورات السريعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحراك السريع للمجموعات السياسية مقترن بالتطور البطئ للمؤسسات السياسية . ونتيجة لعدم نمو المؤسسات السياسية بنفس درجة التطور والتغير السريع ، ظهر عدم الاستقرار السياسي في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ( )، ذلك لأن التغير الإجتماعي والإقتصادي يضاعف المتطلبات السياسية على المؤسسات السياسية التقليدية ويضعفها ، ويجعلها غير قادرة على أداء مهامها ، إذ يتوقف ذلك على الظروف التي تعمل في محيطها ( ).

    ويتوقف تغلب المؤسسات السياسية على مشاكلها وعملية نجاحها وقدرتها على تحقيق التوافق في عملية بناء المؤسسات السياسية مع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع ، فبغيره لا تتم عملية البناء ، وإذا ما تم بحكم القوانين واللوائح فإن المؤسسة تبقى منعزلة عن المجتمع ، وقد لا يدوم بناؤها طويلاً ولا تؤتي ثمارها المرجوة ، كما ينبغي للثقافة السائدة في المجتمع أن تتقبل الثقافة السياسية للمؤسسات الجديدة وأدائها وأن تتعاون معها وتتكيف مع وظائفها ( ).

    ولم تزل معظم الدول النامية تعاني من مشكلة عدم إكتمال التنظيم العام للدولة والتمزق البنيوي في إطارها ، والتخلف السياسي والإجتماعي ، وغالباً ما يكتفي القادة بمطالبة الجماهير بتأييدهم ودعمهم ، لتحقيق المصالح العامة ، الأمر الذي لا يقدم ولا يخدم استراتيجية تحقيق بناء المؤسسات واستقرارها ( ) .

    وبالنسبة للدول العربية فبالرغم من التغييرات الظاهرية في التركيب الدستوري للعديد من هذه الدول ، فإن البنية الأساسية والحياة السياسية فيها لم تتغير في العمق والجوهر ، وذلك لأن نقل المؤسسات السياسية التي نشأت كنتيجة لتلك التغييرات الدستورية كان نقلاً ظاهرياً فقط ، أي تشابه في أسماء وعدد المؤسسات ، أما من الناحية السلوكية والإجرائية والتفاعلات فإنها مختلفة تماماً عن دول المصدر ، وما يزال إتخاذ القرارات محصوراً في نطاق نخبة صغيرة جداً تحكم دون أن تدعمها آلية مؤسسية ( ).

ثانياً : عملية البناء والنمو والتطور :

    1- عملية بناء المؤسسات : 

يعتبر بناء المؤسسات من أحد أهم خواص التطور السياسي ، تلك المؤسسات التي تملك إمكانية تحويل الرغبات العامة إلى أفعال وإنجازات على نحو حسن ومتناسقة مع الخط العام لسياسة الحكومة .

    إن حتمية المؤسسات في التطور السياسي حضرت بقوة بواسطة عالم السياسة الأمريكي هنتنجتون في محيط الحاجة إلى توازن بين حاجات أو أزمات النظام الاجتماعي ومقدرة المؤسسات على تحويل هذه الحاجات إلى سياسات وأفعال( ) ، ويقول جوفنيل Jouvenel  بأن علماء السياسة هم خبراء في المؤسسات وفي السلوك ، فيجب أن يتنبئوا بالتكييفات المناسبة لتحسين كفاءة النظام المؤسسي ليتسنى له العمل مع الحالات المتغيرة ( ).

    إن بناء المؤسسات يتضمن تخطيط وبناء وتوجيه منظمات جديدة أو إعادة تشكيلها ، والتي تجسد تغييرات في القيم والوظائف و التكنولوجيا المادية أو الاجتماعية ، وتؤسس وتدعم العلاقات المعيارية ونماذج الحركة ، وتحقق التدعيم والتأييد والتكامل في البيئة ( ). وهذا ما لخصه ميلتون ايسمان بقوله “تخطيط وتوجيه المنظمات  التي تُحدث وتحمي التجديدات وتكتسب التأييد، ومن ثم تصبح ذات حيوية في مجتمعها ( ).”

    وطبقاً لنورمان ابهوف، فان بناء المؤسسات يتضمن إدخال وتأسيس منظمات والتي بدورها تحدث تغييرات في نماذج الحركة و الاعتقاد داخل نطاق المجتمع وبشكل أكثر عمومية، وهذه التغييرات ترتبط بتكنولوجيا جديدة مادية واجتماعية، وإن النقطة الأساسية في عملية البناء المؤسسي تتمثل في الانتقال من مجرد عملية إدخال هذه المؤسسات إلى عملية تأسيسها( ).

    وقد ذهب هنتنجتون إلى أن إضفاء الطابع المؤسسي على التنظيمات والإجراءات هو أساس التنمية ، واعتبر هنتنجتون أن بناء المؤسسات هو جوهر عملية التنمية وأن إعاقة نمو المؤسسات السياسية لا يقود إلى التنمية السياسية ( )، بل يقود إلى الانهيار السياسي ، فخلق وإنشاء مؤسسات فعالة يعتبر هو جوهر التنمية . وترجع أساس مشكلات التنمية إلى عدم وجود مؤسسات رشيدة تدير الصراعات الموجودة في المجتمع ، حيث أن السلطة في المجتمع المعاصر لا تنتسب إلى طبقات أو أشخاص بقدر ما تنتسب إلى مؤسسات .

    ومن ثم فإن عملية بناء المؤسسات تعد خطوة جوهرية على طريق التنمية لا ينبغي إغفالها بل يجب التخطيط لها بمراعاة الآتي( ) : 

     أ – ضرورة التعرف على الأوضاع المستقبلية للمؤسسة الجديدة ككل وعلى الأبعاد التخطيطية النوعية المتوقفة على الديناميكية الموجودة من قبل وعلى ما يمكن إدخاله من البدائل التجديدية قصداً( )، ويساعد في ذلك إجراء تحليل مستقبلي للمؤسسات المتشابهة ذات الصلة في أدائها ووظائفها بالمؤسسة الجاري بناءها .

     ب- ضرورة الاهتمام بالتخطيط الجزئي (المرحلي) بوضع الخرائط والهياكل التنظيمية الوظيفية ، وذلك يمكن المسئول عن البناء من ملاحظة عملية البناء وإجراء التعديل المطلوب ساعة الصفر في ضوء المتغيرات الزمنية والمتغيرات المدخلة بقصد أو عرض عن طريق الآخرين ومواجهة أي ظرف طارئ ( ) .

     جـ- العلاقات بين المؤسسات الجديدة والمؤسسات القديمة القائمة بالفعل في المجتمع والتي قد تتجه إلى رفض المؤسسات الجديدة ومن ثم إيجاد حالة من الصراع بين القديم والجديد .

     د – مراعاة التوازن المساحي بين المؤسسات ، أي التوازن بين مناطق الدولة ، فلا تتركز المؤسسات الحديثة في العاصمة بينما تظل المؤسسات التقليدية في الأقاليم .

     هـ- التوازن بين التوسع في قدرات الجهاز الحكومي والتوسع في قدرات المؤسسات الأخرى، كالأحزاب وجماعات المصالح والاتحادات والنقابات وغيرها ، حيث أن للمؤسسات غير الرسمية أهمية لا يمكن تجاهلها بسبب دورها في عملية صنع القرار وممارسة القوة السياسية .

    ويرتبط ببناء المؤسسات أن تتميز المؤسسات من ناحية بالتنوع والتمايز الوظيفي ومن ناحية أخرى بالتخصص البنائي، حيث أن زيادة القدرات والمزيد من التخصص البنائي والتمايز الوظيفي من ناحية ، والاتجاه نحو المساواة من ناحية أخرى يمثلان جوهر التنمية ( )، ولا يقصد بالتخصص والتمايز عزل الأبنية عن بعضها البعض أو الانفصال الوظيفي ، بل التخصص يتم في إطار التكامل الوظيفي الذي تعمل في إطاره تلك الأبنية معاً .

    إن بناء مؤسسة جديدة يعد أمراً صعباً في تخطيطه وأصعب في إدارته وتنفيذه ، حيث تواجه هذه المبادرة عداء من كل من هو مستفيد من المؤسسة القديمة ، كما أن القائمين على تنفيذ هذه المبادرة تنتابهم روح الخوف وعدم اليقين في نجاح عملية البناء وممارسة الوظائف المنوطة بالمؤسسة الجديدة. وقبل إنشاء أية مؤسسة لابد من وجود خطة محددة لها ، تبين المهام التي ستقوم بها ، والأجزاء الرئيسية التي ستتكون منها ، ومهام ومسئوليات الوظائف التي سيتضمنها جهازها ( ). 

    كما يجب أن تتضمن عملية بناء المؤسسة التخطيط الإستراتيجي الذي يحدد الخطوط العامة والعريضة لبناء المؤسسة واحتياجات البلاد ، ونوع المؤسسة المطلوبة ، والأهداف التي أنشأت من أجلها ، والموارد البشرية والمادية لها والتخطيط التكتيكي (الإجرائي) الذي يركز على كيفية الوصول إلى الهدف ، ويتناول كل عناصر المؤسسة بالتفصيل ( ).

    وفي بناء المؤسسة لابد من الاهتمام بموارد ودخل المؤسسة ، لأن ضمان توافر الموارد شرط هام لكي تستمر عمليات المؤسسة بكفاءة ، كذلك الاهتمام ببيئة المؤسسة ، وذلك لان البيئة المواتية هي التي تعمل فيها المؤسسة بكفاءة، أما إذا كانت البيئة معاكسة ومغايرة فإنها يمكن أن تعوق عمليات المؤسسة .

    إن كفاية عناصر المؤسسة وتصنيعها بفاعلية هي التي تحدد ، إلى حد كبير ، كفاءة وفعالية المؤسسة. ومن أهم العوامل الجوهرية في بناء المؤسسات ما يلي ([1]) :

    أ – التجهيزات المادية ، فكل مؤسسة لابد لها من تجهيزات مادية تكفل لها أداء مهمتها بفعالية تامة لتخليصهم مما اكتسبوه في ظل النظام القديم .

    ب – الهيئة الإدارية ، إن الاهتمام بموظفي المؤسسة الجديدة وحسن تأهيلهم وإعادة تدريبهم خصوصاً في البلاد النامية للنهوض ببرامج جديدة غير مألوفة في مجالات التنمية أول نقاط الاهتمام في عملية بناء المؤسسات .

    جـ – كفاءة القيادة والتفويض، فقيادة المؤسسة في مرحلة إنشائها يمكن أن تمنى بالفشل إذا لم تكن متفهمة لأهداف ووظائف وأساليب البرنامج المنفذ، وبدون شك فإن هناك ضرورة للتفويض في السلطات الإدارية لتسيير العمل بالكفاءة المطلوبة .

    د – وضوح التكليف والبرنامج في المؤسسة ، فوضوح التكليف بالنسبة لأغراض المؤسسة له أهميته للحكومة ولمشروع التنمية وللبيروقراطية من أجل أن يتضح موضع الوكالة ومكانها من إدارة التنمية .

    هـ – كفاية السلطة الشرعية ([2]) ، وهذه السلطات لا يمكن فصل أحد وجهيها عن الأخرى ، فالطبيعة القانونية للسلطة وجه ، وطبيعتها الإدارية وجهها الآخر، وتحديد الوظيفة يساعد على وضوح البرنامج ، فالوضع القانوني للمؤسسة ضروري لضمان استقرارها واستمرارها وهو ما تحتاج إليه المؤسسة أثناء نموها وهي عملية تستغرق وقتاً طويلاً .

    و – دخل المؤسسة ، فضمان الموارد شرط ضروري لكي تستمر عمليات المؤسسة ، ويكون ذلك إما عن طريق الاعتمادات ، وإما عن طريق الدخل أو عن طريق القروض أو الجمع بينهما .

    ز – قوة نظم اتخاذ القرار، عملية اتخاذ القرار تتضمن الاتفاق على السياسات والمناهج الخاصة بأداء العمل، والنظام الجيد لاتخاذ القرار هو الذي يتناسب مع المؤسسة من جهة، ومع المؤسسات الخارجية و المجتمعات ذات الشأن من جهة أخرى .

    حـ – بيئة المؤسسة ، تصنيع العناصر السابقة لا يخلق وحده مؤسسة ناجحة ، فالبيئة المواتية التي ينتظر أن تعمل فيها المؤسسة لها أهميتها كذلك ، وإذا كانت معاكسة فإنها يمكن أن تعوق عملياتها .

    ط – أيديولوجية المؤسسة ، فهذه الأيديولوجية هي التي تحدد كيفية التوفيق بين مصالح المؤسسة ومصالح جماهيرها في الداخل والخارج ([3]).

2- عملية النمو والتطور :

    من أهم الاعتبارات التي تؤخذ عند دراسة ورصد عمليات نمو وتطور المؤسسات

    أ- اعتبارات تتعلق بأهداف ومهام المؤسسة، فإذا تعددت وتطورت الأهداف التي تريد المؤسسة تحقيقها ، فهذا مؤشر لنمو وتطور المؤسسة ،فالمهمة أو الغرض الذي من أجله أنشئت المؤسسة هي مهمة أساسية وتحقيقها مسئولية أعضاء المؤسسة المنتمين لها ، وهذه المهمة هي التي تربط أعضاء المنظمة عاطفياً ببعضهم البعض ، ذلك أنهم يشعرون بترابطهم معاً لأنهم يشاركون في هدف واحد فيشعرون بالولاء للمؤسسة ، ويؤدي ذلك إلى زيادة قدرة المؤسسة على تحقيق أهدافها ونموها ، ولابد من توفير الموارد اللازمة لتحقيق هذه الأهداف ، والموارد المستخدمة في تطوير أي مؤسسة هي الاحترام والتوافق والقوة والمال والوقت والطاقة ([4]).

    ب- اعتبارات زمنية ترتبط بالظروف التي أحاطت بنشأة وتطور وتفاعل المؤسسة ، فالإجراءات تفقد معناها إذا استخدمت لوقت طويل من الزمن . فلابد من أحداث التعديلات بتقادم المؤسسة حتى تستمر وتنمو محققة أهدافها . وقد يكون الامتداد عبر المكان بالتوسع ، إما عن طريق الحرب بضم مناطق جديدة للدولة وإنشاء مؤسسات جديدة عليها ([5])، أو يكون التوسع عبر المكان عن طريق افتتاح فروع جديدة للمؤسسة في مناطق مختلفة ، ويدل ذلك على نمو المؤسسة وكبر حجمها ([6]).

     ونمو المؤسسات يمثل سعياً لتغيير السلوك الجماعي لكل أعضاء المؤسسة أو لمجموعة فرعية فيها، وفي هذه العملية فإن البرنامج النموذجي يتضمن تحسين مهارات الأشخاص وحل المشاكل العامة وبناء الفريق . و تطور المؤسسة يتمثل في تقويم أداء المديرين بهدف توقع المشاكل المؤسسية وتحديدها وحلها ، وعادة ما يمتلك المقومون قائمة ضابطة من العوامل التي تحتاج إلى مراجعة وتقييم ، وهذه القائمة الضابطة تتأسس على معرفة المقومين بممارسة الإدارة الجديدة ، وان نتيجة عملية التقويم تتمثل في التوصية بإحداث مجموعة من التغيرات لتحسين أداء المؤسسة ([7]). وأخيراً دورة الضبط التي تتمثل في تخطيط و تنفيذ  و تقويم التغيرات للعمليات والترتيبات المؤسسية للأحداث والإبقاء على الانسجام بين المؤسسة وبيئتها ([8]). وفي دورة الضبط توجد هناك رقابة مستمرة للتقويم والتخطيط والتغيير من أجل الإبقاء على مؤسسة فعالة في بيئة متغيرة، وبعبارة أخرى فإن دورة الضبط تمثل أسلوباً يؤكد على النظر إلى المؤسسة في محيطها الاجتماعي وليس فقط إلى العمليات الداخلية للمؤسسة ([9]) .

3- عملية التغير والانهيار :

    إذا كان كل كائن يتعرض للتغيير ، فإن التغيير في المؤسسة يعد محوراً لكثير  من الدراسات الإنسانية حيث يقضي الأفراد جزءاً كبيراً من حياتهم في إطار مؤسساتهم المختلفة. وتوجد هناك وسائل عديدة لإحداث التغيير في مؤسسة من المؤسسات([10]):-

       ‌أ-       تعديل السلوك المؤسسي .

     ‌ب-     الإدارة بالأهداف .

     ‌ج-      التنمية الإدارية .

       ‌د-      التنمية المؤسسية .

  هـ- التقييم الدقيق لأداء الإدارة .

   و- دائرة السيطرة على عمليات التخطيط و التنفيذ و التقويم .

و تتم عملية تعديل السلوك المؤسسي من خلال خمس خطوات([11]):-

  ا – تحديد السلوكيات التي يجب تغييرها .

ب – قياس السلوكيات بطريقة تسمح بإدراك ما إذا كان التكرار متزايد إلى حد يكفي بطلب التغيير.

جـ – تحليل السلوك لتحديد المقدمات و النتائج التي يجب تغييرها .

 د – تحديد استجابات إيجابية ملائمة ( مكافآت من نوع معين ) .

 هـ- تقييم النتائج .

    وهناك عدة عوامل تؤدي إلى انهيار المؤسسات واستبدالها بمؤسسات أخرى . وقد ظهر هناك عدة آراء بهذا الصدد ، منها آراء هربرت كوفمان الذي لا يرى أن هناك عمراً واحداً لكل مؤسسة ، ودورة حياة ثابتة ، بل قد تنتهي المؤسسة في أوج شبابها أو مع نهاية دورتها في الكهولة، وهذا بفعل عوامل معينة تساعد على انهيار المؤسسة ، ويؤكد على أن المؤسسة تموت بموت محركها في الحياة ، والمحرك في المؤسسة هي الأنشطة المختلفة داخلها والتي تعطيها القوة والطاقة ، ومن ضمن هذه الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة الحفاظ على هيكلها واستمرارها والحدود القائمة بينها وبين المؤسسات الأخرى([12]) .

    أما هنتنجتون فيرى أن السبب الأساسي في انهيار المؤسسات السياسية هو الفساد السياسي ، وأن الفساد يزداد في المراحل المبكرة للتحديث ، حيث يؤدي التحديث إلى تغيير في المفاهيم الرئيسية للمجتمع وللبيئة المحيطة بالمؤسسة ، ويؤدي إلى مصادر جديدة للثروة والقوة ، وينشأ الفساد بسبب الالتقاء بين من يملكون القوة السياسية والمالكون للثروة ، حيث يستطيع الكثير من الأثرياء شراء المناصب السياسية والحصول على اعتراف المجتمع بهم ، ويؤدي ذلك إلى وجود بيئة متقلبة ومضطربة خارج المؤسسة تؤثر على عملها وعلى ناتج العملية المؤسسية من سياسات وقرارات .كذلك يسود الصراع حاداً بين النخب ذات التعليم الغربي والنخب التقليدية القائمة على قيم وراثية ، كما يسود الصراع بين النخب الحديثة من السياسيين والبيروقراطيين وبين قادة الفكر والعسكريين وبين زعماء الأعمال ، وكل ذلك يقود إلى العنف . كذلك ضعف النظام يؤدي إلى ظهور العنف في المجتمع ، وذلك بدوره يؤدي إلى ضعف المؤسسات القائمة وجمودها وعجزها عن استيعاب المطالب وتحقيق الرغبات وسرعان ما تنهار([13]) .

    ويرى جيمس فبيلمان أن هناك عدة عوامل تؤدي إلى انهيار المؤسسات، منها فقدان القدرة على إشباع حاجات أعضائها بطريقة سريعة وملائمة، حيث أن نشأة المؤسسة في الأصل  ليس إلا لتحقيق حاجات أعضائها، فإن عجزت عن ذلك فهذا يعني انهيارها.كما أن الفساد يظهر في دورة حياة المؤسسة حينما تتخطى المؤسسة وتتجاوز وظيفتها الإيجابية في تحقيق أهدافها وفي تنمية القيم السائدة بها، وتدخل في الوظيفة السلمية المتمثلة في منع وعدم تشجيع الابتكار والإبداع فيها من جانب أعضائها والقائمين عليها. وقد تنهار المؤسسة أيضاً حينما تطمح في التحكم والسيطرة على المجتمع كله وثقافته كلها([14]).

ويؤكد ديفرجيه على أن عملية استمرار المؤسسه يؤدى إلى الصراع([15])بمعنى أن استمرار وجود المؤسسه دون تكييف نفسها    مع المتغيرات المحيطة يؤدى الى فقدان المؤسسة للقدرة على مواجهة حاجات المجتمع المستجدة ،وأن عدم تغيير هذه المؤسسـة

وإحلال أخرى محلها يمكن أن يولد انفجارات فورية فى المجتمع. فالمؤسسات التي تبقى على حالها دون أي تغيير بدعوى أهمية استمرار المؤسسة واستقرارها مع حدوث التغييرات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية في البيئة المحيطة بها يكون أمراً بالغ الصعوبة ، إذ تظهر قوى المجتمع الراغبة في التغيير والقوى الأخرى الراغبة في استمرار المؤسسة القائمة مع محاولة السلطة الإبقاء على المؤسسة واستعمال سلطتها ووظيفتها في حفظ النظام على حساب وظيفتها في دفع التقدم ، فيتم حدوث فقدان التوازن ، وتبدأ الثورة وتتعرض المؤسسات للانحلال تحت ضغط المطالب المتزايدة ، وتتم محاولة أخرى لإنشاء مؤسسات جديدة تواكب ما يحدث في البيئة من تغيرات ([16])، حتى لا تحدث أزمات تهدد بانحلال النظام القائم برمته.

    وإذا كان واضحاً أن استمرار المؤسسة بهدف الاستمرار ذاته أمر لا يؤدي إلا إلى الصراعات ومن ثم إلى انهيار المؤسسة، فقد ظهرت العديد من الجهود التي تحمل اسم التغيير المؤسسي ، والتغيير التنظيمي ، في محاولة للتوصل إلى إطار نظري يسهم في فهم المداخل المستخدمة في هذا التغيير([17]). وقد تم الاتفاق على أن مداخل التغيير المؤسسي ثلاثة مداخل ، الأول مدخل هيكلي يركز على الهيكل التنظيمي ، الثاني مدخل تكنولوجي يركز على الأدوات الفنية المتقدمة وأساليب العمل ، الثالث مدخل إنساني يركز على الفرد و الجماعة ([18]) .

    فالمدخل الهيكلي هو الذي يعمل على إحداث التغيير من خلال إجراء تعديلات في الهيكل التنظيمي للمؤسسة كإحداث تغييرات في القواعد والترتيبات أو تغيير في التخصصات والعلاقات والأدوار . إلا أن أهمية الهيكل التنظيمي للمؤسسة لا تحقق في حد ذاتها الفعالية المطلوبة ، بل هو أداة تساعد على تحقيق الفعالية المؤسسية ، ذلك أن من يحدد الهيكل ويصممه ويلتزم به وينفذه هو الإنسان ، ويختلف الهيكل التنظيمي من مؤسسة لأخرى ومن دولة لأخرى حسب البيئة المؤسسية المحيطة، والتي تعني مجموع المتغيرات المادية والمعنوية الموجودة في الوسط الخارجي المحيط بالمنظمة ([19]).

    والمدخل التكنولوجي يركز على إعادة ترتيب وتدفق العمل داخل المؤسسة وعلى أنماط العمل وأساليبه وطرقه باعتبار أن التغيير والتطوير في هذه النواحي سيكون له انعكاسات إيجابية على فعالية المنظمة وقدرتها على تحقيق أهدافها بكفاءة . وهناك اتجاهان حول أثر التكنولوجيا على فعالية المنظمة ([20]) ، الاتجاه الأول يهتم مباشرة بأثر التكنولوجيا على سلوك واتجاهات العاملين ، والثاني هو أثر التكنولوجيا على الهيكل التنظيمي . وهذا المدخل (المدخل التكنولوجي) يعد أمراً ميسراً لتحقيق المؤسسة لأهدافها ولا يعد عنصراً أساسياً ، فالأفراد هم المخترعون وهم الأساس في تقدم التكنولوجيا نفسها .

    أما المدخل الإنساني ، فيرى أن التغيير المؤسسي يحدث من خلال تغيير الأفراد أنفسهم ، ويتم ذلك من خلال تغيير وتعديل الاتجاهات والدوافع والمهارات السلوكية ، ويمكن تحقيق هذا التغيير بعدة أساليب ، مثل البرامج الحديثة للتدريب وإجراءات الاختيار وأساليب التقويم ، وأصبح الاتجاه الغالب الآن اعتبار العنصر الإنساني هو أهم العناصر في العملية التغييرية . إن المدخل الإنساني للتغيير لا يزال حديثاً ولم يتضح بعد ، ويرجع ذلك إلى أن فهم الإنسان والإحاطة به من جميع جوانبه وتفسير سلوكه ومحاولة التنبوء به أو التحكم فيه أو تغييره أمر بالغ التعقيد ، بل إن القدر الذي يعتبر غامضاً ومجهولاً عن الإنسان رغم تقدم العلم والمعرفة لا يزال أكبر بكثير من القدر الذي تم معرفته عنه ([21]).

ثالثاً : المؤسسية ومعايير الكفاءة والفعالية :

    1- المؤسسية :

أشار تشارلز لوميس إلى أن المؤسسية هي العملية التي عن طريقها يتخذ السلوك البشري شكلاً نمطياً ويمكن التنبوء به([22]) ، ويحدد وليم فريدلاند  أن المؤسسية تتكون من عمليات ثلاث هي ، تنظيم تجمعات جديدة من الأدوار ، ونشر المعاني الرمزية للأدوار وتجمعات الأدوار ، وغرس القيم ، وهي العملية التي عن طريقها تتخذ النماذج المنظمة مجدداً قيمة في ذاتها طالما تستمر تعمل بنجاح([23]).

    ويقول هاري بوتر أنه حينما تصبح المنظمة مؤسسة ، فإن المنظمة تكون قد تحولت إلى شيء ذي قيمة أكبر وملائمة أكثر لمجتمعها([24]) .

    ويشير ايسمان ميلتون إلى أن مفهوم المؤسسية يتضمن أن علاقات معينة ونماذج عمل على الأقل متضمنة في المنظمة تكون معيارية داخل المنظمة أو بالنسبة لوحدات اجتماعية أخرى وان بعض التأييد والتكامل في البيئة قد تم تحقيقهما ([25])، وإنطلاقاً من هذا التعريف العام نسبياً فانه يمكن تحديد عدد من مقاييس المؤسسية ،  ومن بين هذه المقاييس القدرة على البقاء على قيد الحياة ، وامتلاك المؤسسة لقيمة جوهرية في بيئتها وهو الأمر الذي يمكن قياسه بالاستقلال الذاتي الذي تحققه المؤسسة ، وأيضاً التأثير الذي تمارسه المؤسسة وانتشار تأثير أنشطتها ([26]).

    وبالتالي فإن ميلتون يقدم تعريفاً للمؤسسية مؤداه ” إن الحالة النهائية لجهود بناء المؤسسة يتضمن شرطين: الأول أن المنظمة الحيوية التي تأخذ شكل مؤسسة تتضمن تجديدات ، والثاني أن المنظمة والتجديدات التي تمثلها قد تم قبولها وتبنيها بواسطة الجماعات الملائمة في البيئة ([27]).”

    وفي موضع آخر ينقل ميلتون وفريد بروهنز عن فيليب سيليزنيك قوله ” إن تأسيس مؤسسة يعني غرس قيمة كأمر يزيد عن مجرد المتطلبات الفنية المتعلقة بالمهمة موضع النقاش([28])“.

    ويناقش هاتسون أهمية مفهوم المؤسسية في عملية التنمية فيقول ” إن العنصر المهم في عملية المؤسسية التي يتم السعي لتحقيقها من أجل عملية التنمية هو أن المنظمة بينما تبقى على هويتها ، فإنها لا تفقد قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة “، ويضيف هاتسون بقوله ، وحينما نتحدث عن المؤسسية فإننا نتحدث عن ظاهرة بشرية ، وعن نجاح منظمة بشرية في تحقيق آمال وطموحات الشعب الذي تخدمه ، وفي إدراك أحلامه وفي أن تصبح ذات قيمة ([29]) .

    ويقدم وليم سيفين منظوراً آخر لمفهوم المؤسسية حيث يشير إليه على أن جوهر المؤسسية يعد ذا معنى وفائدة ، فكيان معين يمثل مؤسسة إلى الحد الذي يكون فيه ذا فائدة للمشاركين فيه ولأولئك المنخرطين فيه مباشرة وأولئك الذين يدركون أنفسهم انهم يتأثرون به ([30]).

    ويقترح ويلدرن ودوارد بعداً آخر للمفهوم فيقول أنه من المفيد أن نعرف القدرة المؤسسية على أنها العمل الذي يمكن أن تؤديه منظمة معينة تحت شروط مستقبلية معينة لا تعتمد بشكل أساسي على تصرف فرد معين داخل نطاق المنظمة ، فهناك صراع بين اهتمامات الفرد واهتمامات المؤسسة ، ومؤسسية السلطة داخل المؤسسات تعني تقييد السلطة التي قد تتم مباشرتها بشكل شخصي وتعسفي دون هذه المؤسسية ، فالقائد الذي يقوم ببناء المؤسسات يحتاج إلى سلطة شخصية لتأسيس المؤسسات ، ولكنه لا يمكنه أن يؤسس المؤسسات دون التخلي عن السلطة الشخصية ، ولذا فإن حل هذه المعضلة ليس سهلاً ، ولكن يمكن أن يتم بواسطة زعماء يجمعون بين المهارة السياسية النادرة والتكريس النادر للهدف ([31]).

    ويصل دونالد تايلور في هذا الشأن إلى استنتاجات عديدة منها أن  عملية التأسيس تلتزم بافتراضات معينة أهمها أن المجتمع يتكون من بنيان مؤسسي تتفاعل فيه المؤسسات مع بعضها البعض ، وثانياً كنتيجة للعلاقات بين المؤسسات ، فان القيم والمعايير تبرز وتحدد السلوك الوظيفي والتكوين البنائي للمؤسسات ، وثالثاً فإنها عملية يمكن أن  يتم فيها إدخال التغيير بشكل واع عن طريق إنشاء مؤسسات لنفس هذا الغرض ([32]).

    ويعرف صمويل هنتنجتون المؤسسية بأنها “العملية التي عن طريقها تحقق المنظمات والإجراءات قيمة واستقراراً([33])“، وتكتسب عملية إسباغ الطابع المؤسسي على الأبنية السياسية للدول النامية لدى هنتنجتون أهمية خاصة لعوامل أساسية هي([34]):

    أ – تخلف النظام السياسي بسبب الطابع السلطوي أو الأوتوقراطي للنظام السياسي القائم وما يعانيه من ضعف أبنيته وتمزقها ([35]).

    ب – فقر أو ضعف الكيانات التنظيمية وقصورها ، بمعنى أن السياسة في الدول النامية لا تدور حول جماعات منظمة أو مؤسسات كل منها في مواجهة الأخرى ، وإنما تدور حول علاقات شخصية وانقسامات وتحالفات غير مستقرة ([36]). لذا فإن دراسة السياسة في تلك الدول عن طريق تناول الكيانات التنظيمية باعتبارها الأطراف الفاعلة يفتقر إلى الدقة ولا يجدي .

    ج – غموض العملية السياسية وضعف الاستجابة لمطالب الرأي العام ، فالحياة السياسية في المجتمعات النامية تتميز بالغموض بوجه عام ، ومن ثم علاقاتها بالرأي العام وبعملية توزيع القيم تتسم بالغموض([37])، ولا سبيل أمام فاعلية وتأثير الرأي العام إلا من خلال إسباغ الطابع المؤسسي على التنظيمات القائمة ، ومن الناحية النظرية يمكن القول بأنه كلما تقدم النظام وأصبح أكثر استجابة للرأي العام ، كلما حدث تقلص تدريجي لظاهرة الغموض ([38]).

    د – إن هذه العملية تجنبنا الخلط المستمر بين التنمية السياسية والتحديث ، فلا شك أن هذه العملية باعتبارها محور التنمية السياسية ، تساهم في توضيح وبلورة هذا المفهوم وما ارتبط به من تعريفات واسعة تتراوح ما بين التكامل السياسي، الحركة الديمقراطية ، أو المساواة ، وانتشار السلطة الواسعة والعميقة والتحضر والتصنيع والاتصال وغيرها ([39]).

    ولا تفرض عملية إصباغ الطابع المؤسسي نموذجاً معيناً للمؤسسات السياسية، فالدول المتقدمة كل منها اجتاز تغيرات كبيرة ومتباينة خلال تطورها التاريخي ، ومع ذلك يظل الرأي العام ، وما يوفره من مجال للتأييد داخل مختلف قطاعات المجتمع، عاملاً جوهرياً في تشكيل قوة وفاعلية المؤسسة ([40]).

    إن تأسيس المؤسسات أو المؤسسية هي العملية التي بها تكتسب أجهزة العمل الكفاءة والمقدرة والقبول من الناس عامة، وتكتسب موارد العمل واستقرار معايير الأداء. إن اصطلاح مؤسسة يشمل بالضرورة فكرة زوال المؤسسة إذا ضعف مبرر وجودها أو تضاءلت كفاءتها أو لم تعد تلقى القبول الكافي من الناس. ويرى جانت أن معظم المؤسسات أصبحت تلتزم تماماً بالأساليب الروتينية في إنجاز الأعمال، وهي أساليب إن كانت صالحة وقت إدخالها فإنها تصبح بعد ذلك غير نافعة، وهكذا فإن السياسات والإجراءات التي تقررت أصلاً لخدمة الكفاءة والاستقرار في المؤسسة تهدد بقيام حالة من الروتين أو التحجر في عمليات المؤسسة ([41])، ومن  هنا تنشأ الحاجة إلى نوع من التغيير المؤسسي للقيام بالأدوار التي تمليها عليها المطالبات العامة للتنمية([42]).

    وما من شك أن كل مؤسسة عرضة للتغيير المؤسسي ، هذا التغيير قد يعني تطوير المؤسسة أو الإطاحة بها أو دمجها في مؤسسة أخرى ، أو تغيير اسمها مع استمرار قيامها بنفس الوظيفة ، وقد يكون التغيير المؤسسي نتيجة لعملية النضج التي تمر بها أي مؤسسة كما قد يرجع إلى عوامل خارجية أو أزمة اقتصادية ([43]).

    أ – مؤشرات المؤسسية لدى هنتنجتون ([44]):-

يقترح هنتنجتون أربعة معايير لدراسة المستوى المؤسساتي بالنسبة للمؤسسات ، وهي التكيف Adaptation والتعقيد Complexity والاستقلال Autonomy  والتماسك Coherence ([45]). فالتنظيمات والإجراءات عندما تكتسب طابع المؤسسات تصبح مستقرة ومحل تقدير وذات قيمة وتمثل قنوات ونماذج مقبولة ومتوافرة لتفاعل الأفراد وتصرفاتهم ، وهذا الطابع المؤسسي يختلف في درجته من تنظيم لأخر ، ويمكن التعرف عليه من خلال تحديد ما يتمتع به التنظيم أو الأجزاء من تكيف وتعقيد واستقلال وتماسك .

    1) التكيف Adaptability :

البيئة المحيطة بالتنظيم أبعد شيء عن الثبات وهي دائمة التغير ، وهذا يفرض تحديات جديدة ومستمرة أمام التنظيم ، ولكي يثبت هذا التنظيم فاعليته فإن عليه أن يبادر بحل المشاكل الجديدة والتكيف في مواجهتها . ولما كان التكيف عكس الجمود، فإنه يفرض على المؤسسة القيام بعمليتين مزدوجتين هما تطوير وتنمية قدرتها على مواجهة التغيرات التي تطرأ على البيئة المحيطة بالتنظيم بوجه عام ، وعلى الاستجابة لمطالب  وتوقعات الرأي العام وللتغيرات التي تطرأ عليها ، وبهذا يستطيع التنظيم معالجة المشاكل وتأدية وظائفه بصورة أكثر فاعلية ([46]).

    ويعتمد هنتنجون في تحديد مدى قدرة التنظيم على التكيف المحتمل على ثلاث طرق :

         أ ) العمر الزمني للمؤسسة ، فكلما طال العمر كان ذلك دليلاً على القدرة على التكيف والاستمرار .

       ب ) العمر الجيلي للمؤسسة ، وهذا المؤشر يقيس ظاهرتين ، الأولى عدد مرات التغير في القيادة العليا للمؤسسة ، وهل تم التغيير وفقا للقواعد والإجراءات أم من خلال أزمة ؟ ،والثانية التغير في الأجيال ، هل عبر التغير القيادي عن تغير في الأجيال (انتقالاً سلمياً وفق القواعد والإجراءات)، إذ أن التنظيم يمكن أن يغير أشخاص الزعامات دون تغير الجيل فيأتي بزعامات من نفس جيل الرواد المؤسسين . وذلك أن التنظيم الذي ارتبط بأجيال متتابعة وبانتقال مناصب القيادة فيه من جيل إلى جيل وبطريقة سلمية يتمتع بقدرة محتملة على التكيف تفوق التنظيم الذي لا يزال يسيطر عليه جيل الرواد أي الزعماء الأُوَل ، أو نفس الجيل الذي انشأ التنظيم ولعل هذا يشير إلى أهمية تجديد دماء القيادات حتى برغم استمرار الرواد على قيد الحياة ([47]).

       ج ) التغيرات الوظيفية ، وما إذا واجهت المؤسسة تغيرات هامة في وظيفتها أو مهامها الأساسية أو في بيئتها ، وكيف تمت مواجهة هذا التحدي . فالتنظيم ينشأ أصلاً لإنجاز وظيفة واحدة معينة ، لكن مع مرور الزمن لا تبدو حاجة إلى هذه الوظيفة أو الوظائف المحدودة القديمة ، وهنا إما أن يتكيف التنظيم ويجدد وظيفته ، أو يخلق وظائف جديدة ، وإما أن ينتهي، فإذا ما حقق التنظيم ذلك فهذا يشير إلى تمتعه بقدرة عالية على التكيف وباكتسابه طابع المؤسسة حقاً .

    2) التعقيد Complexity :

يقصد به أن تكون المؤسسات متعددة الأغراض والوظائف وتتسم بتعدد الوحدات الداخلية وبالتخصص وتقسيم العمل ، فالمؤسسة التي تقوم بعدة وظائف ، ولها عدة أهداف ، يمكن لها أن تستمر حتى لو حرمتها الظروف لفترة ما من ممارسة هذه الوظيفة أو تلك ، وهو ما لا يمكن تصوره بالنسبة لمؤسسة لها هدف واحد أو تقوم بأداء وظيفة واحدة ، فالتوقف عن أدائها يحمل معه انتهاء المؤسسة .

    ومفهوم بناء المؤسسات هو في الأساس مفهوم سياسي ، ومن ثم لاحظ هنتنجتون أن النظم السياسية الاوتوقراطية والأبوية والتي تعتمد على فرد واحد تفتقر عنصر التعقيد مما يعجل بانهيارها بعكس النظم التي تعتمد على مؤسسات وجماعات وتنظيمات متعددة .

    3) الاستقلال Autonomy ([48]):

يؤدي خضوع المؤسسة أو ارتباطها بقوى اجتماعية متعددة إلى فقدان الإرادة الذاتية في التصرف مع ما يصاحبه من خلافات أو صراعات حادة  تهدد الرابطة التنظيمية التي تجمع بينها،  ويمكن دراسة درجة الاستقلالية من خلال الميزانية ، والتجنيد للوظائف والتعيين فيها ، ومدى وجود قيم ومعايير خاصة للمؤسسة تميزها عن غيرها من المؤسسات المحيطة بها.

    ولاشك أن الاستقلال يكسب التنظيم طابع المؤسسة ، ويمكن لكافة المؤسسات أن تحذو في استقلاليتها استقلال القضاء في المجتمع بامتلاك مصالحها وقيمها الخاصة والمتميزة عن مصالح وقيم الجماعات والقوى الأخرى القائمة في المجتمع ، وهذا الاستقلال من شأنه أن يقوي الرابطة بين المؤسسة والرأي العام ، وأن يكفل وجهات النظر التعبير بصوت مسموع ، وهذا يقلل جداً، إن لم يلغي ، دور العنف في النظام ويحدد قنوات صريحة للتعبير ، كما يقيد من تأثير الثورة على النظام ([49]).

    ويؤكد هنتنجتون أنه في حالة التغير الاجتماعي المكثف تصبح بعض التنظيمات عرضة لتأثيرات مختلفة داخلية وربما من خارج المجتمع أيضاً ، فيسهل التغلغل في هذه التنظيمات من قِبل جماعات وأفكار وأفراد من تنظيمات وأطراف أخرى لا تذعن للإجراءات السياسية السائدة ، مما يؤدي إلى نتائج سلبية على النظام ([50])،وذلك بعكس النظم التي تتمتع بالاستقلال والتي ترتبط بعدد من الميكانزمات التي تعمل على تلطيف وتقييد تأثير الجماعات الجديدة وبإبطاء دخولها ومشاركتها في الحياة السياسية والحيلولة دون النتائج السلبية التي تطرحها عملية دخول هذه الجماعات للحياة السياسية ([51]).

    4) التماسك Coherence :

أي درجة وجود اتفاق أو رضاء داخل المؤسسة بين أعضائها والموظفين العاملين فيها ، ويمكن قياس التماسك في المؤسسات من خلال :

         أ ) ظروف التغير القيادي ، وهل كانت المؤسسة موحدة خلال هذه الظروف أم ظهرت فيها أجنحة وانقسامات حول الإجراءات التي تتبع لحل المشكلات التي تثور بينهم في إطار الحدود الوظيفية التي أجمعوا فيما بينهم عليها .

        ب) طبيعة الخلافات داخل المؤسسة ، وهل تتعلق هذه الخلافات بأمور أساسية ترتبط بمبادئ المؤسسة وأهدافها ، أم بأمور هامشية ، وهل أطراف الخلاف هي الأطراف ذاتها في الموقع ذاته عبر فترة طويلة ، أم تتبدل مواقعهم بتبدل قضايا الخلاف .

        ج) مدى الولاء من جانب الأعضاء للمؤسسة ، وحرصهم على استمراريتها ودفاعهم عن مصالحها ومبادئها .

    إن تدهور الطابع المؤسسي يخلق حالة من الضعف البالغ للتنظيمات القائمة التي تفقد قدرتها على التكيف والتماسك والاستقلال والتعقيد ، وهذا من شأنه أن يقلل من دور نماذج وأوجه التأثير غير المباشر للرأي العام على الحركة السياسية ، كما يفسح الطريق أمام هيمنة نخبة سياسية أو أوليجاركية متسلطة أو فرد دكتاتور ، ويقود إلى تدخل العسكريين وسيطرتهم على السلطة بعد إزاحة الحكم المدني ([52]).

ب – مؤشرات المؤسسية لدى بريبانتي ([53]):

أما بريبانتي فقد رفض تماماً الاعتماد على المؤشرات السابقة وحدها في قياس نمو المؤسسة ومدى توافق أدائها(الكفاءة والفعالية) مع النظام السياسي([54])، فبعد أن تتبع ظاهرة الاستبدال الوظيفي Functional Permutations والأداء العام للهيكل والقطاع والنظام السياسي بصفة عامة أعلن إمكانية التوصل إلى وضع استراتيجية لتحقيق تنمية سياسية مخططة تهدف إلى تقوية المؤسسات في الدول النامية، وأضاف أن هناك مؤشرات سبعة مقترحة لمستويات المؤسسة وهي تتماشىمع اهتمامه الأساسي بالأنظمة النامية ، وقرر أن هذه المؤشرات الجديدة جاءت لتعكس ظاهرة عدم التوازن Disequilibrium في عنصرين ، الأول التغيرات الحادة في حجم وهوية المطالب التي تسعى إليها المؤسسات والتي تقتضيها عوامل التغير أو التحول، الثاني  عدم ثبات الوظائف  Oscillation سواء استوعبتها أو رفضتها المؤسسات ([55]).

    ولهذه الأسباب يرى بريبانتي أن المؤشرات السبعة التي اختصرها في R. A. B. C. I. R. R.  هي المعايير المثلى لقياس الكفاءة المؤسسية Institutional Adequacy وهذه المؤشرات هي ، الاستقبال Reception  ، الاستقلال Autonomy ، التوازن Balance ، التوافق Congruence ، أو الكفاءة الداخلية Internal Efficiency ، إعادة التركيب Reformulation ، الأدوار Roles ([56]).

1) الاستقلال ، وهو قدرة المؤسسة على الاحتفاظ بقدر معين من الاستقلال العَقَدِي والبنائي أو الذاتية الشخصية ، في نفس الوقت الذي تحرص فيه على عدم معاداة القيم العامة الأخرى أو وقف الدعم المستمر لها .

    فالذاتية هنا تفترض من جهة عدم العداء Unantagonisic للقيم الأصلية الموجودة، أو للأدوار الخاصة للحاكمين . وتفترض أيضاً عدم المشابهة بين مكونات النظام السياسي ، بأن يصبح كل جزء فيه صورة مصغرة من الآخر Miniaturization أو للنظام السياسي في معظمه ، ومن هنا يرى بريبنتي أنه يمكن تصور قيام مؤسسات خاصة عسكرية كانت أم دينية أم جماعات مصلحة تتعارض تنظيماتها تماماً مع النظام برمته .

     وبريبانتي في هذا الشأن يتفق بشكل أو بآخر مع هنتنجتون بصدد استقلال المؤسسة ، غير أن الآخر افترض ضرورة قيام قدر من التناسق أو انسجام العلاقات بين الاستقلال الذاتي للمؤسسة وشمولية النظام ، إذ رأى ضرورة الاستفادة القصوى من هذا الاستقلال ، وذلك لاحتمال ما له من تأثير له أهمية ، إذا استغل بكفاءة ، وأمكن ربطه بباقي عناصر النظام السائد ، والتنسيق بين قيمه العليا Autonomy full value وقيم الحاكمين أو الفنيين . غير أنه يبدو هناك صعوبة كبيرة في إيجاد مثل هذا التوازن بين قيم المؤسسة وقيم باقي المؤسسات الأخرى ، وكذا القائمين على النظام العام .

2) الاستقبال ، وهو قدرة المؤسسة ومدى مرونتها في استقبال أو استلام الأساليب الجديدة أو الأنماط العلمية الجديدة من باقي المؤسسات الأخرى ، وهذه الاستقبالية تتعلق بالأفكار كما تتعلق أيضاً بالتغير في الأشخاص أو القيادات . كقدرة المؤسسة البيروقراطية أن تدخل في زمرة صفوفها عناصر قادمة من البيروقراطية العسكرية أو أفراد من القطاع الخاص أو رجال القانون أو قادة تربويين ، إذ أن معظم الأنظمة النامية تتميز بظاهرة جمود الدواوين Rigid Compartmentalization  الذي يحول تماماً دون إمكانية تنقل الأشخاص كما هو معروف في الأنظمة الأخرى . ويمكن لهذه الأنظمة التغلب على هذه الصعوبة بالتوسع في إيجاد مؤسسات مختلطة Mixing Institutions تكون وظيفتها الأساسية العمل على تسهيل تبادل الأشخاص والأفكار أو تجديدهم وتطويرهم . وعادة ما تقوم الجامعات ومراكز البحث العلمي بمثل هذه الأدوار حيث تعمل على استقبال ونشر الأفكار وتسمح بقدر من تنقل الأشخاص في نطاقها.

3) إعادة التركيب ، ويقصد بها قدرة المؤسسة على إعادة بناء نفسها من الداخل أو إعادة ترتيب أبنيتها وهياكلها وقواعدها لاستيعاب المؤثرات والقواعد الجديدة التي اكتسبتها من الخارج، ويتعلق هذا الأمر بالرغبة في تحقيق الاندماج المؤسسي على المدى الطويل وأحيانا تكون ظاهرة إعادة البناء بشكل عنيف، بحيث تقوم بتغيير شكل المؤسسة وطبيعتها بشكل جذري.

4) الكفاءة الداخلية والحيوية ، وهي قدرة المؤسسة على أداء العمل المنوط بها بكفاءة عالية ، وأبسط مثال على ذلك إدارة مرفق القضاء الذي يعتبر نموذجاً فريداً في ترتيب عرض القضايا وتوقيت عرضها وأوقات دفوع الأشخاص وقراراته الإدارية الرشيدة في المسائل المختلفة واستعداداته المالية الجديدة .

 5) التوازن ، ويقصد به قدرة المؤسسة على الموازنة بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة  ، ويعتمد ذلك على مدى فهم المؤسسة لدورها في النظام السياسي ، إذ يجب أن يتمخض هذا الفهم عن خلق علاقات تعاون وتناسق بين المؤسسة وباقي المؤسسات الأخرى في النظام ، كما يقصد بالتوازن أيضاً قدرة المؤسسة على إعادة التكيف والانسجام مع المصالح العليا للتنظيم دون أدنى تضحية بالأهداف الأصلية للمؤسسة .

6) التوافق بين أهداف المؤسسة المعلنة أو السابق إعلانها وسلوكها الفعلي وتحقيق مثل هذا التوافق أمر ضروري ، لكنه يزداد صعوبة في المجتمعات النامية أو التي تعاني من مشكلات اجتماعية مزمنة ، ومثال ذلك ما يحدث في مرفق العدالة حيث كثيراً ما يطلب من بعض قضاة المحاكم الرسميين ترأس عدد من اللجان التي تبحث مسائل تختلف تماماً عن اختصاصهم الأصيل بصدد تفسير القوانين ، مثل مشاكل التلاميذ أو الإسكان أو الإصلاح الإداري ، وفي قيام القضاة بهذا العمل يقومون بدور مختلف عن عملهم الأساسي ، وهم في هذا يؤثرون بالطبع على طبيعة المؤسسة الداخلية المنتمين إليها . ويضيف بريبنتي ، أنه يقصد بالتباين Incongruence، وهو عكس التوافق ، التمايز بين شكل المؤسسة وأهدافها ،وما تنشره من قيم سلطوية في المجتمع.

7) الأدوار ، ويقصد به درجة تناسق الأدوار الفعلية لأفراد المؤسسة أو أشخاصها أو تباينها مع الطبيعة الأصلية أو الحقيقية لها ، ويمكن تبين ذلك بمقارنة سلوك أفراد المؤسسة الفعلي واختصاصاتهم وطبيعة أدوارهم كما يدركونها ويمارسونها والحدود الحقيقية لها في ميثاق المؤسسة، ويعمل منهج تحليل الدور هنا على إيضاح تلك التجاوزات ، وقد يتطابق هذا الدور أو يختلف عن حدوده المستهدفة . وواضح أن هذا المؤشر يتعلق مبدئياً بالعلاقات الداخلية للمؤسسة فيما يتعلق بالدور والبناء ، وعموما يمكن القول أن ظاهرة عدم الاتفاق بين السلوك الرسمي للمنظمة وسلوكها الفعلي توجد بشدة في النظم غير المتوازنة بالمقارنة بغيرها من النظم المستقرة .

    يمكن القول بأن مفهوم المؤسسية لكل من هنتنجتون وبريبانتي قد انبثق عن دراستين متميزتين في الدراسات الحديثة ، الأولى الدراسات التاريخية التي سعت إلى تتبع تاريخ وتطور التنظيمات البيروقراطية مع محاولة تحليل اتجاهاتها المستقبلية ، والثانية الدراسات الواقعية الميدانية التي سعت إلى محاولة الكشف عن الواقع الاجتماعي الفعلي للتنظيمات ومدى اختلافه مع معالم النموذج المثالي الذي صاغه فيبر([57])، فإذا كانت معايير هنتنجتون الأربعة هي الأساس الذي يحقق كفاءة التنظيم البيروقراطي في نظره فإن هذه المعايير قد تعد معوقات Dysfunction للنظام ، فأحيانا يؤدي استمرار المستوى المؤسساتي في قيادة واحدة إلى الجمود وفقدان المرونة وتحول الوسائل (القواعد والإجراءات) إلى هدف . هذا بالإضافة إلى أن هذه المعايير الأربعة للمستوى المؤسساتي يمكن أن تختلط في الواقع التنظيمي ، فهناك صعوبة في إيجاد قدر من التوازن بين قيم المؤسسة وقيم باقي المؤسسات الأخرى ، وكذا القائمين على النظام العام ، كما أنه من الصعب الإقرار بما افترضه هنتنجتون بأن ما يحرك التنظيمات أو المؤسسات هو ظاهرة عدم التوازن ، وأن كل علاقات المؤسسـات سوف تكون علاقات تدفع بالنسق إلى التكيـف وإعـادة التـوازن استجابـة لمطالب وتوقعـات الرأي العام . وممــا لا شـك فيـه أن إعادة التـوازن إلى النسق ليس بالأمر الهين إذ أنه يوجد داخل كل نسق اجتماعي نوعين من القوى الاجتماعية ، القوى المحافظة الرافضة للتغيير والقوى الدافعة للتغيير ، ويأتي هذا التغير في ضوء فكرة التوتر والصراع واتجاه من لهم مصلحة من التغيير إلى تغيير الوضع القائم تحقيقا لهذه المصلحة .

    من جهة أخرى ، فإنه من الخطر الاعتقاد بأن اعتمادنا على وصول الشباب إلى مراكز التنظيم من شأنه أن يوفر له قدرة أكبر على التكيف والاستجابة ، فأحيانا يعجز الدم الجديد عن مسايرة الواقع المتوارث ويلجأ إلى إجراءات سريعة وعنيفة غير مدروسة بهدف إعادة التوازن إلى المؤسسة ، وبدلاً من الاستقرار والتكيف يزداد التوتر وعدم الاستقرار ، كذلك لا يوجد أي ارتباط بين انتقال القيادة بطريقة سلمية إلى أجيال أخرى واستقرار المؤسسة أو ازدياد قدرتها على الاستقرار والتكيف ، فأحيانا يتمتع التنظيم الثوري أو الدموي بقدرات تكيف عالية تفوق التنظيم العادي ([58]).

    وإذا كان كل من بريبانتي وهنتنجتون يرون ضـرورة وجود مؤسسات قوية من أجل تنمية سياسية ناجحة ، إلا أنهم أغفلوا باقي المتغيرات المهمة في تفسير مسببات التنمية السياسية . كما أنهما لم يشيرا إلى بعض مؤشرات المؤسسة الناجحة مثل طبيعة توزيع أسلوب القوة فيها ومدى شرعيتها أو مشروعيتها ، ثم أنهما لم يتمكنا من صياغة أي شرط بصدد عملية صنع واتخاذ القرار داخل السياق التنظيمي .

    كذلك يربط هنتنجتون بين اتساع المؤسسة وتعدد أهدافها ووظائفها وأقسامها الداخلية وشيوع مبادئ تقسيم العمل، واتساع قدرتها على التكيف مع الظروف الجديدة ، وليس هذا أمراً يتحقق بهذه البساطة ، فقد لا تؤهلها قدراتها الإدارية والبشرية أو تنظيمها على ذلك .

    مما سبق ذكره يتضح أن النماذج السابقة محدودة من الناحية التطبيقية بسبب صعوبة البيانات المتوفرة في المؤسسة وصعوبة استعمال المقاييس الكمية في هذا المجال ، كما أنها تغفل الهدف الذي تعمل من أجله المؤسسات وهو إشباع الحاجات العامة للمواطنين . كذلك توجد صعوبات عملية في إيجاد أسس أداء معيارية لكثير من الإجراءات التي تقوم بها المؤسسة والعاملون فيها . ولا يعني ما سبق ذكره عدم جدوى المؤشرات المؤسسية للأبنية السياسية عند هنتنجتون وبريبانتي، فإذا أمكن تلافي نقاط الضعف هذه والاستفادة من عناصر القوة فيها فإنها تصبح ذات جدوى كبيرة وفعالة ، فقد وضعا مقومات مشتركة لازمة ولا غنى عنها لقيام المؤسسة كجهاز عمل والتي من خلالها يمكن الحكم على مؤسسية المنظمة ، ومن هذه المقومات :-

    1) القدرة على أداء الوظيفة التي وجدت من أجلها ، أي تكون قادرة على تحقيق الغرض من إنشائها .

    2) أن تكون مقبولة في المجتمع وفي البيئة التي وجدت فيها ، ويجب أن تتمثل فيها الطريقة التي يريد بها الناس فرادى وجماعات أن تؤدي لهم خدماتهم ويريدون التعامل معها أو تتم عن طريقها العلاقات بينهم ، لذا لابد أن تكون للمؤسسة قيمة ويكون لها معنى عند الناس لكي يصبح أداؤها لمهمتها منتجاً وفعالاً .

    3) أن تمتلك المؤسسة التمويل وعنصر العمل الكافي وأن يتهيأ لها البيئة السياسية والقدرة على التكيف ، بما يكفل لها كفاءة الإنجاز والتعامل والاستمرار .

    فإذا فقدت المؤسسة أياً من هذه المقومات الثلاثة (الكفاءة ، القبول من الرأي العام ، القدرة على البقاء) ، فإنها تفشل كمؤسسة .

 

2- معايير كفاءة المؤسسة وفعاليتها:

    يعد توافر عناصر المؤسسة  المشار إليها سابقاً أحد معايير كفاءة وفعالية المؤسسة إذ أن توافر هذه العناصر مجتمعة يعني كفاءة المؤسسة وفعاليتها ، كذلك فإن نجاح المؤسسة في بناء قدراتها وتنميتها يعد دليلاً على كفاءتها وفعاليتها ويتم ذلك عن طريق قيامها بحصر وقياس نواحي القوة والضعف فيها ، من أجل تطوير سياسات رشيدة تعالج القصور وتحوله إلى الاتجاه المطلوب عن طريق أساليب البحث العلمي واستخدام معايير القياس الكمي والتنبوء بما يخدم إمكانيات التنمية. وأول من تحدث عن بناء قدرات المؤسسة هو جابريل الموند ، حيث رأى أن لكل مؤسسة قدرات معينة هي ([59]) :-

    أ- القدرة الاستخراجية :-

    ويقصد بذلك مدى قدرة المؤسسة على تعبئة وتحريك الموراد المادية والبشرية المحيطة بها ، والمتاحة لها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي ، ويمكن التعبير عن بعض جوانب هذه القدرة كمياً، بمعنى قدرة المؤسسة على استخراج الموارد من البيئة المحلية والدولية ، ويشمل ذلك الموارد الاقتصادية والاجتماعية ، أي قدرة المؤسسة على أن تجعل الأفراد في المجتمع يعطون كل ما لديهم من مجهود ونشاط .

    إن مقدرة المؤسسة على استخراج هذه القدرات  والحصول عليها ، يؤثر على القدرات الأخرى ، وقد تقل أو تزيد من سرعة تحقيق أهداف المؤسسة ، وفي تحديد القدرة الاستخراجية يجب الأخذ في الاعتبار كمية المصادر المتدفقة ، وأجهزة المؤسسة على المستويات القومية والإقليمية واستعداد المجتمع أن يقدم موارد في ظل ظروف معينة .

    ب- القدرة التنظيمية :-

    وتعني مدى قدرة المؤسسة على ضبط السلوك الاجتماعي لعلاقات الأفراد ، ويمكن دراسة هذه القدرة من حيث هدف عملية التنظيم ، وأساليب التنظيم ، ومدى تكرار إستخدام هذه الأساليب ، وحدود التسامح التي تبيحها ، ومدى إلتزام الأفراد بها .

    إن القدرات التنظيمية تعني أيضاً أداء المؤسسة في تحقيق النظام والاستقرار للمؤسسة ، ولا شك أن القدرات التنظيمية تقاس بعدد وأنواع الأنشطة التي تتدخل المؤسسة في تنظيمها ، ومدى دقة وسلامة التنظيم الذي تأخذ به المؤسسة ، ثم أخيراً الضمانات الإجرائية بسلامة العملية التنظيمية .

    كما تعني قدرة المؤسسة على ممارسة الرقابة على سلوك الأفراد والجماعات . وعند تحديد خصائص القدرة التنظيمية ، يجب أن يؤخذ في الإعتبار الأفراد والجماعات التي ستكون عرضة للتنظيم ، فمثلاً إذا ما كانت المؤسسة نظاماً سياسياً فما هي مجالات النشاط الفردي ( القطاع الخاص) ، والنشاط الاجتماعي ( القطاع العام ) في الحياة ومدى تأثيرهما فيها . وما مدى تكرار وعمق ونطاق التدخل الذي يمارسه النظام في المجالات الاقتـصادية والاجتماعية والصحية والتعليم … الخ ([60]).

    جـ- القدرات التوزيعية :-

    وتشير إلى قدرة المؤسسة على تخصيص السلع والموارد والخدمات والمكانة الاجتماعية ، والفرص على اختلاف أشكالها بالنسبة للأفراد والجماعات في المجتمع ، فالنظام السياسي مثلاً يلعب في هذا المجال دور الموزع للقيم المرغوبة والمتنازع عليها بين أفراد الجماعة ، ويمكن التعبير كمياً عن بعض جوانب هذه القدرة مثل سياسة التعليم أو الضرائب أو الأسعار . وتعني القدرة التوزيعية مدى تدخل النظام السياسي في توزيع الموارد القومية والدولية توزيعاً عادلاً على أفراد المجتمع .

    إن أهم مقاييس القدرة التوزيعية وخصائصها ، يجب أن تتضمن كمية ونوع وأهمية الأشياء التي تقوم المؤسسة بتوزيعها، ومجالات الحياة البشرية التي تمسها ، والجماعات الخاصة من السكان التي تستفيد من المزايا المختلفة ، والعلاقة بين الاحتياجات الفردية ، والتوزيع الحكومي .

    د- القدرة الرمزية :

    وتشير إلى تدفق الرموز من المؤسسة إلى البيئة الداخلية والخارجية المحيطة بها ، وعلى مستوى النظام السياسي يتمثل ذلك في الحفلات الرسمية التي تقيمها الدولة والأعياد القومية ، ومراسم تنصيب زعيم ، أو وفاة زعيم ، والحفاظ على الآثار القومية، كما تقوم النخبة الحاكمة بتكوين وتأكيد قيم معينة ، يمكن بواسطتها تعبئة وتحريك احتياطي التأييد في المجتمع مثلما فعلت خطب تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية .

    وتثير قضية الرموز الاجتماعية في البلاد المتخلفة مشكلة أساليب الاتصال ، فقد تستخدم النخبة الحاكمة رموزاً لا يفهمها ولا يعترف بها المواطن العادي لأن رموز السلطة المحلية هي التي يقر بشرعيتها ، بحيث لا يكون لرموز السلطة القومية أو المركزية أي معنى أو دلالة أو تأثير لديه. ومن ثم فإن القدرة الرمزية تعني أيضاً معدل التدفق الرمزي الذي ينساب من النظام السياسي إلى المجتمع الدولي والبيئة الدولية ([61])، وتتضمن المخرجات الرمزية تعظيم النخبة للقيم ورفع الأعلام والشعارات والاستعراضات العسكرية والخطب والبيانات السياسية ، وهذه القدرات الرمزية يمكن النظر إليها بإعتبارها ذات طبيعة خاصة لأنها نفقة ضئيلة مباشرة بالنسبة للنخبة، ولكنها تعتمد إلى حد كبير على القيم والمعتقدات الشعبية ، والاتجاهات والتطلعات نظراً لفعاليتها.

    هـ- القدرة الاستجابية :

     وتشير إلى العلاقات بين مدخلات المؤسسة بغض النظر عن مصدرها ( محلية أو خارجية ) والمخرجات ، ومدى قدرة المؤسسة على الاستجابة للمدخلات الجديدة التي تثيرها الظروف والمتغيرات الناشئة بسياسات وقرارات ملائمة . وقدرات مؤسسة ما هي في جوهرها أنماط العلاقة بين المدخلات والمخرجات في إطار أداء معين للمؤسسة ، ويمكن تحليل المدخلات من خلال ثلاث جوانب ، من حيث حجم المدخلات ومدى كثرتها إلى الحد الذي يشكل عجزاً للمؤسسة عن استيعابها ، ومن حيث مضمون المدخلات وموضوعها ، ومن حيث مصدرها داخلياً كان أم خارجي . والتغيير في هذه المدخلات على أي من هذه المستويات ، يؤثر بالطبع على مخرجات المؤسسة وعلى نمط السياسات .

    والمؤسسة الناجحة هي التي تضمن لنفسها قدراً من التوازن بين هذه القدرات وجعل كل قدرة تساند الأخرى،ذلك أن حدوث خلل أو تفوق لقدرة على أخرى يؤدي إلى نوع من الغموض أو ضعف المؤسسة وعرقلة عن تحقيق أهدافها، كذلك لابد من وجود توازن بين هذه القدرات وبين رغبة المؤسسة في إحداث التنمية،إذ أن إيجابية هذه العلاقة يؤدي إلى فعالية ونجاح المؤسسة. والمؤسسة الفعالة هي التي تعرف بدقة كيف تنمي قدراتها المتاحة وهي التي تملك القدرة المستمرة على تنمية هذه القدرات التي تسمح لها بوضع الحلول المناسبة للمشكلات والمعوقات التي تظهر فجأة أمامها،ويتم ذلك بتغلب المؤسسة على العوامل المؤثرة على هذه القدرات مثل ضعف الموارد أو ضعف الولاء الداخلي والخارجي ([62])، وبالسيطرة على العامل الإنساني أو البشري ، وهو الاهتمام بالموظفين واعتبارهم سبب نجاحها ، إذ يجب معرفة عقائد وقيم ومبادئ وتوقعات موظفيها ، حيث ضرورة عدم تناقض قيم وتوقعات الموظفين مع قيم المؤسسة ، فهم يقدمون ولاءهم وجهدهم لهذه المؤسسة([63])، ذلك أن هناك فجوة بين ما تريد أن تحققه المؤسسة ، وما تحققه فعلاً، وبتقليل هذه الفجوة ينشط الناس لتحقيق أهداف المؤسسة .

    هناك أيضاً ما يعرف باسم نظام القوى السبع ، حيث يرى هنري مينتزبرج  أن المؤسسة الفعالة هي التي يتوازن لديها سبع قوى أساسية هي([64]) :

    أ – تحديد الأهداف التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها ، والمهمة التي أنشئت من اجلها .

    ب – الفعالية ، وهي استخدام الموارد والقدرات المتاحة للمؤسسة استخداماً رشيداً يحقق الأهداف بأقل تكلفة .

    جـ – الكفاءة في تحقيق الأهداف .

    د – تنفيذ مهام محددة ببراعة فائقة (التركيز) دون التشتت في عمل كثير من المهام .

    هـ- تركيز الجهود في خدمة أسواق معينة دون تشتيتها .

    و – الابتكار والإبداع المستمر وذلك بتشجيع الأفراد على ذلك ، فذلك يؤدي إلى تجديد المؤسسة وتطورها ، بعكس الجمود والانعزال .

    ز – التعاون الذي يجمع كل القوى السابقة في بوتقة واحدة ويساعد على تنظيمها لتحقيق أهداف المؤسسة بأعلى كفاءة.

    ويحذر مينتزبرج  من التنافس بين وحدات المؤسسة لأنه يؤدي إلى التنافر بين العوامل السابقة، إلا أن القليل المرشَّد من هذه المنافسة يساعد على زيادة كفاءة ونجاح المؤسسة ([65]).

    أما ديفيد ايستون ، فقد نظر إلى الفعالية المؤسسية على أنها تكمن في قدرة المؤسسة على الحفاظ على استمرار النظام وتكيفه ([66])، وهنا يكمن التركيز على عامل الاستمرار والتكيف كعاملين أساسيين في نظر ايستون .

    والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف تحافظ المؤسسة على استقرارها واستمرارها . فالمؤسسة لابد أن تحصل على الشرعية أولاً ، وبالتالي تقدم لأعضائها مجموعة من الوظائف التي تناسب طبيعتها لاكتشاف عالمها ولتبرير طبيعة القواعد المؤسسية بها ، ولهذا فإن أي مؤسسة تريد تحقيق النجاح والفعالية عليها أن تبدأ في التحكم في ذاكرة أعضائها ، بما يجعلهم يقومون بنسيان تجاربهم السابقة التي لا تتفق مع تصوراتها،وفي نفس الوقت تضع تصورات معينة في أذهانهم تؤيد توجهاتها وتمدهم بمصطلحات ومفاهيم خاصة بها ([67])،هذه هي الخطـوة الأولى ، أما الخطوة الثانية فهي محاولة حل أي مشكلات سواء داخل المؤسسة أو خارجها،إذ أن تقديم الحلول السريعة  للمشاكـل الداخلية فيها،وللبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بها،والتعامل مع هذه المشكلات بالسرعة المرجوة مـن الجماهير،وبأكثـر الأساليب ملاءمة وأقلها تكلفه من الناحية الاجتماعية ، والقدرة على تقليل الصراعات داخل المؤسسة ، أو في المجتمع المحيط بها ،كل ذلك يؤدي إلى زيادة شرعية المؤسسة ([68])، ومن ثم إلى زيادة فعاليتها وكفاءتها .

    ومن حيث قدرة المؤسسة على تحقيق وظائفها المنوطة بها ، فهناك مجموعة من الوظائف يجب أن يقوم بها أي نظام سياسي وبالتالي أية مؤسسة تندرج في إطاره ، وقد حددها الموند في ثلاث وظائف رئيسية ([69]):

    أ – وظيفة التحويل ، وهي العمليات التي تتعلق بالتعبير عن المصالح والمتمثلة في تجميع المصالح وصنع القاعدة وتطبيقها ، والتقاضي بموجب القاعدة ، ثم الاتصال السياسي . ووظيفة التحويل هي عملية تحويل المدخلات إلى مخرجات ( قرارات وسياسات ) ، ففي إطار المؤسسات يتم تنظيم المطالب والحاجات والتنسيق بينها وتحديد أولوياتها ، وتقوم المؤسسات بتجميع المصالح والتعبير عنها ، فهي وسيط يوصل آراء الجماهير إلى النظام ليتسنى له فهمها ، ومن ثم العمل على تحقيقها، ونتيجة لذلك يحدث رضا عام عن السلطة الحاكمة ، وذلك له علاقة بكفاءة قنوات الاتصال في المؤسسة ، ويعد من أسباب كفاءة أو عدم كفاءة المؤسسة ([70]).

   ب – وظائف التكيف ، وتدور حول التنشئة السياسية والتجنيد السياسي . فالتنشئة السياسية هي التلقين الرسمي وغير الرسمي المخطط وغير المخطط للقيم والمعارف السياسية في كل مرحلة من مراحل الحياة ([71])، والتنشئة السياسية هي جزء من التنشئة الاجتماعية بوجه عام والتي يتعرض لها المرء طيلة حياته منذ طفولته حتى هرمه ، فهي أداة نقل وخلق وتغيير الثقافة السياسية ([72]). وتكمن أهمية التنشئة السياسية في تعزيز العلاقة بين المواطنين وقياداتهم من خلال التأكيد على الأهداف السياسية وشرح علاقة الحاكم بالمحكوم ([73]).

    ويقوم بالتنشئة السياسية مؤسسات متعددة كالأسرة والمدرسة والرفاق وأدوات الاتصال الجماهيري والجيش والأحزاب السياسية . إن قدرة المؤسسة على ممارسة تأثيراتها على قضايا بعيدة المدى للتنمية السياسية كالمشاركة والشرعية والتكامل من خلال التنشئة السياسية ، يؤثر تأثيراً كبيراً على كفاءة وفعالية المؤسسة ، مثلما أن قدرتها على خلق الولاء للنظام القائم تعد مؤشراً على كفاءتها وفعاليتها . أما التجنيد السياسي فهي العملية التي تضطلع بتخريج العديد من الكوادر والقيادات السياسية وتهيئة سبل تعيينهم وتوظيفهم في المؤسسات الحكومية بما يخدم التوجهات والأهداف العامة للدولة ، ويقوم بهذه المهمة مؤسسات عديدة مثل الأحزاب السياسية والنقابات والجيش ، فقدرة المؤسسة على تخريج القيادات والكوادر ذات الكفاءة العالية المحققة لأهداف الدولة، مؤشر على فعالية وكفاءة هذه المؤسسة ([74]). ومن مؤشرات فعالية وكفاءة المؤسسات قدرتها على القيام بالدور الوسيط بين الحاكم والمحكوم ، حيث تعد المؤسسات من أهم القنوات التي تسمح بالمشاركة السياسية.والمشاركة السياسية هنا تعد مبدأ هاماً يرتبط بعملية التدخل المباشر في اتخاذ القرار السياسي ، ذلك التدخل الذي هو صورة من صور ممارسة الحقوق والواجبات السياسية . فالأحزاب وجماعات الضغط إذا ما حققت أهدافها في إشباع حاجات الجماهير في المشاركة و الرقابة و الضبط يمكن وصفها بالكفاءة والفعالية ، وتظهر بوادر الأزمة حينما يكون هناك ارتفاع في المطالب بالمشاركة السياسية مع تدني درجة المؤسسية في مثل تلك الأحزاب وجماعات الضغط .

   جـ- قدرات المؤسسة ، وهي القدرة الاستخراجية والتنظيمية والتوزيعية والرمزية والاستجابية، والتي سبق الإشارة إليها.

    كذلك من معايير كفاءة وفعالية المؤسسة قدرتها على تحقيق الوحدة للجماعة ، حيث فسر شيشرون الحكومة على أنها مؤسسة تنشأ بهدف المحافظة على وحدة الجماعة ([75])، وأكد على أن الدولة كمؤسسة لا تقوم إلا إذا اعترفت بحقوق الأفراد وقامت بخلق حد أدنى من الانسجام والتوافق بين الجماعات الدينية والعرقية واللغوية في إطار المجتمع الواحد ، والانتقال بالولاء من الإطار القبلي أو المحلي المحدود إلى الإطار الوطني ، وخلق الشعور بالهوية القومية والولاء القومي. أن قدرة الدولة هنا على تحقيق التكامل والوحدة القومية ، بتأكيد الولاء القومي وتجاوز الولاءات المحلية ، وقدرتها على إحداث تكامل إقليمي ، يؤكد امتداد السلطة المركزية على كافة أقاليم الدولة ، وقدرتها على إحداث التكامل والوحدة على مستوى وحداتها الداخلية وتنظيمها الداخلي ، الأمر الذي يعد مؤشراً على كفاءتها وفعاليتها ([76]).

    مما سبق إتضح أن بناء المؤسسات هو أحد أهم الخطوات نحو التنمية الناجحة والإستقرار السياسي، فإذا كانت عملية التنمية تبدأ بالجانب الإجتماعي والثقافي لتهيئة المجتمع لإستيعاب أهداف وغايات التنمية ولتفادي الهوة بين إمكانات التنمية والأستعداد للتنمية ، فإن مرحلة بناء المؤسسات الجديدة وتنمية وتطوير المؤسسات القائمة هي المرحلة التي تجسد ويتبلور من خلالها الممارسات والأنشطة التي تحقق إشباع الحاجات وشرعية النظام .

    واتضح أن عملية بناء المؤسسات عملية معقدة تتخطى إصدار القوانين واللوائح المنظمة لها، إذ لابد من توافر العوامل السياسية والإجتماعية والاقتصادية ، والتأييد الملائم والتخطيط السليم والقيادة الرشيدة والبرامج والأهداف الواضحة ونسيج من الروابط والعلاقات الجيدة فيما بينها وبين المؤسسات الأخرى في المجتمع . كما اتضحت المعايير والمؤشرات التي من خلالها يتم الحكم على المنظمات بأنها مؤسسات وتتخذ صفة المؤسسية .

    ولأهمية البيئة التي تنشأ فيها المؤسسات السياسية ، سيتم التطرق في المبحث التالي إلى ثنائية التقليدية والحداثة في بناء المؤسسات السياسية .



[1] – محمد توفيق محمد ضياء الدين الريس ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 35

[2] – د. نبيل محمد توفيق السمالوطي ، الأيديولوجيات وأزمة علم الاجتماع المعاصر ، الإسكندرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1985 ، ص 28

[3] – د. عبدالغفار رشاد محمد ، الرأي العام ، دراسة في النتائج السياسية ، القاهرة ، مكتبة نهضة الشرق ، 1986 ، ص 224 ،225

[4]                                                         Howard S. Becker, Lanche Geer and others, Institutions and persons, op. cit., p. 154

[5]                                                                                         James  J. Feibleman, The institutions of society, op. cit., p. 60

[6] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 60

[7]                                                                                          Ropert H. Lauer, Perspectives on social change , op. cit., p. 412

[8]            Stephen R. Michael, Organizational change techniques: Their present, Their culture, New York, Mc Graw Hill,

1982, p. 75

[9]                                                                                      Ropert H. Lauer. Perspectives on social change, op. cit., p. 412

[10]                        Stephen R. Michael, Organizational change techniques: their present, their culture, op.cit., p.67-80

[11]                                                                                                                                                                       Ibid. same page

[12]                                                                                   Herbert Kaufman, Time, Change and organization, op. cit., p. 17

[13]                       Samuel P. Huntington,  Political development and political decay, In Claude Welch, (ed.), Political

Modernization: A Reader in comparative political change op. cit., p.p. 61-62

[14]                                                                          James  J. Feibleman, The institutions of society, op. cit., p.p. 308-311

[15] – موريس ديفرجيه ، مدخل إلى علم السياسة ، ترجمة د. جمال الاتاسي ، دمشق ، دار دمشق للطباعة والنشر ، دون تاريخ نشر ، ص ص 109-110

[16] – جان وليم لابيار ، السلطة السياسية ، ترجمة حنا الياس ، ط3 ، بيروت ، باريس ، منشورات عويدات ، 1983 ، ص83

[17]    Michael Beer and Edgar F. Huse, Reading on behavior in organization, California, Addison Wisley Inc., 1975,

pp. 419-420

[18] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 65

[19] – المرجع السابق ، نفس الصفحة

[20]      Henry Mintzberg, The structruing of organization, New Jersey, Anglewood Cliffs, Printice Hall Inc.1979, p. 3

[21] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 67

[22]                                                                                                    Melvin E. Blase, Institution building, op. cit.,  p. 277

[23]                                                                                                                                                                     Ibid. same page

[24]                                                                                                                                                                      Ibid. same page

[25]                                                                                                                                                                     Ibid. same page

[26]                                                                                                                                                                       Ibid. same page

[27]                                                                                                                                                                            Ibid. p . 278

[28]                                                                                                                                                                      Ibid. same page

[29]                                                                                                                                                                            Ibid. p . 279

[30]                                                                                                                                                                      Ibid. same page

[31]   Claude E. Welch,(ed.), Political modernization: A Reader in comparative political change, California, Duxburg

Press , 1971 , p.270

[32]                                                                                                       Melvin E. Blase, Institution building, op. cit., p. 280

[33]                         Samuel P. Huntington,  Political development and political decay, In Claude Welch (ed.), Political

Modernization: A Reader in comparative political change, op. cit., p. 31

[34] – محمد توفيق محمد ضياء الدين ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 18

[35] – المرجع السابق ، نفس الصفحة

[36]                      Lucian W. Pye in Ralph Braibanti (ed.), Political and administrative development , op. cit., p. 351

[37] – د. إسماعيل على سعد ، الاتصال والرأي العام ، بحث في القوة وفي الأيديولوجية ، القاهرة ، دار المعرفة الجامعية ، 1981 ،ص84

[38] – محمد توفيق محمد ضياء الدين ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 12

[39]                       Samuel P. Huntington,  Political development and political decay, In Claude Welch, (ed.), Political

Modernization: A Reader in comparative political change ,op. cit., p.p. 238-277

[40] -محمد توفيق محمد ضياء الدين ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 18

[41]                                     George F. Gant, Development administration: Concepts, Goals and methods, op. cit., p.43

[42]                                                     Amitai Etzioni, Modern organizations, New Jersey, Prentice Hall Inc., 1983, p. 32

[43] – محمد توفيق محمد ضياء الدين ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 34

[44]                                            Samuel P. Huntington,  Political development and political decay, op. cit.,  p.p. 31-36

[45]                                                                                                                                                                               Ibid.  p. 31

[46]                                                                                                                                                                               Ibid.  p. 34

[47]                                                                                                                                                                                Ibid. p. 35

[48]                                                                                                                                                                                Ibid. p. 36

[49]                                       Helio Jaguaribe, Political development, New York, Herber & Row Publishers, 1983, p. 7

[50]                                                                                                                                                                                 Ibid. p .72

[51] – محمد توفيق محمد ضياء الدين ، بناء المؤسسات في إدارة التنمية ، مرجع سابق ، ص 40

[52] – المرجع السابق ، نفس الصفحة .

[53]                                                  Ralph Braibanti (ed.), Political and administrative development, op. cit., p.p. 59-66

[54]                          Lucian W. Pye in Ralph Braibanti (ed.), Political and administrative development , op. cit., p. 84

[55]       Ralph Braibanti, Traditions, Values and social economic development , N.C., Duke Univ.Press, 1961, p.103

[56]                                                          Ralph Braibanti (ed.), Political and administrative development, op. cit., p. 60

[57] – د. نبيل محمد توفيق السمالوطي ، علم اجتماع التنمية : دراسة في اجتماعيات العالم الثالث ، مرجع سابق ، ص 112

[58] – د. عبدالغفار رشاد محمد ، الرأي العام : دراسة في النتائج السياسية ، مرجع سابق ، ص 254

[59] – جابرييل أ . الموند ، وج . ينجهام باول الابن ، السياسة المقارنة : دراسة في النظم السياسية العالمية ، مرجع سابق ، ص 386

[60]           Gabriel Almond, A Functional approach to Comparative politics, Boston, little Brown and co. p.p. 50-56

[61] – د. أحمد عامر ، مذكرات غير منشورة لطلاب شعبة العلوم السياسية ، جامعة أسيوط ، 1978-1979 ، ص ص 239-257 .

[62] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 73

[63]    Robert Howard, Values make the Company: An interview with Robert Hass, Harvard Business Review , Sep. – Oct.

1990, p.p. 133-144

[64]      Henry Mintzberg, “The Effective organization: Force and forms” Sloan management Review, Wintre, 1991,

p.p. 54-66

[65] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 76

[66]                                                                                 Alan Wells, Social institution, London, Heinemann, 1970, p. 140

[67]                                                         Mary Dauglas, How institution think, N.C., Syracuse Univ. Press, 1986, p. 112

[68] – لمزيد من التفاصيل :

    -حسنين توفيق ابراهيم ، مشكلة الشرعية السياسية في الدول النامية ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، 1985، ص ص 219-229

[69] – د. كمال المنوفي ، نظريات النظم السياسية ، مرجع سابق ، ص ص 118-119

[70]                                                                                                       Mary Douglas, How institution think, op. cit., p. 112

[71] – د. كمال المنوفي ، التنشئة السياسية في الفقه السياسي المعاصر ، مجلة مصر المعاصرة ، ع 355 ، يناير ، 1974 ، ص 30

[72] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 81

[73] – احمد جمال ظاهر ، التنشئة الاجتماعية والسياسية في العالم العربي مع دراسة ميدانية لمنطقة شمال الأردن ، الأردن ، ط1 ، 1985، دون دار نشر ، ص 35

[74] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 82

[75]– حورية توفيق مجاهد ، الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده  ، القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية ، 1986 ، ص 117

[76] – ناهد محمود عرنوس ، المؤسسية في النظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص 83

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى