دراسات سياسية

التعاون الدولي في ظل جائحة كورونا.. إطار السياسة – السياسات كمدخل تحليلي

إعداد: د. مايكل ماكنزي

ترجمة: تامر نادي

المصدر:  عرب برف -Arabprf

ينبني هذا التقرير على تحديد الفارق بين كلمتي Politics and Policy كما يظهر في العنوان الأصلي، والتي تجد إشكالية في اللغة الغربية لنعت كلا الكلمتين بـ”السياسة”، على الرغم من أن الفارق بينهم عند التطبيق والتحليل هام جدا. إلا أنهما شديدي التداخل عن التطبيق والممارسة، هذا التداخل “التعقيد” هو ما ينبنى عليه الإطار الذي يقدمه الكاتب.

الدكتور مايكل ماكنزي: زميل زائر في كلية التنظيم والإدارة العالمية (RegNet) في الجامعة الوطنية الأسترالية. وأحد كبار المسؤولين في الحكومة الأسترالية بخبرة تزيد عن عشر سنوات في العمل في مجال التعاون القانوني الدولي، بما في ذلك الوظائف في إندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة. له مؤلفات كثيرة حول القانون الدولي، والشرطة الدولية، والحوكمة العالمية. وكتابه الأخير بعنوان الأعداء المشتركون: الجريمة والسياسة والسياسات في العلاقات الأسترالية الإندونيسية.

مقدمة:

هناك العديد من التنبؤات حول كيف تعيد جائحة كورونا تشكيل العالم، وتركز غالبها المقالات على التوتر في عمق الشؤون الدولية. فمن ناحية، انغلقت الدول داخليا كي تتعامل مع الوباء، وأغلقت حدودها وتذرعت بسيادتها، وزادت التوجهات القومية. من ناحية أخرى، هناك اعتراف بأن المشاكل العابرة للحدود مثل الأوبئة تتطلب حلولا عبر وطنية “على المستوي الدولي”. ويجب إعادة تفعيل الحوكمة العالمية.

هذا الاختلاف بين التوجهات “القومية nationalism ” و”العالمية cosmopolitanism” ينعكس في المواقف المتعارضة للباحثين والتي أثرت على توجهات دراسة العلاقات الدولية: “الانعزالية isolationism مقابل الأممية internationalism”. والواقعية realism مقابل المثالية idealism، المنافسة competition مقابل الاعتماد المتبادل interdependence “أو[التبعية]؛ والقائمة تطول.

يقدم هذا المقال رؤية تقوم على أنه يمكن اعتبار “التوتر” ناتج أيضاً من الاختلاف بين السياسة كعلم للحكم والسلطة politics والسياسة كخطة عمل وقواعد وإجراءات policy. يساعدنا تقسيم (politics and policy ) للسياسة على تفسير التأثيرات المختلفة للفاعلين على المفاوضات الدولية وآفاق ومنزلقات التعاون الدولي.

السياسة Politics هي السعي إلى السلطة والمحافظة عليها داخل مجتمعات محددة، أي أنها – في هذا السياق – تعنى وجود دولة قومية nation-states. أما السياسة Policy فهي استراتيجية لحل مشاكل معينة، وتعني – في هذا السياق – سياسات أو توجهات عابرة للحدود الوطنية transnational.

تحديد الفارق بين السياسة كسلطة  politics والسياسة خطة policy بهذه الطريقة تحديد فضفاض، ولكن نعتمد عليه لتحديد المواقف المتعارضة للتوجهات التي سبق الإشارة إليها.

فالسياسة كسلطة Politics محلية، والسياسة policy عالمية. السياسة Politics هي الواقع الملموس، والسياسة policy هي السعي والتوجه المعياري. السياسة Politics تتعلق بالمكاسب النسبية، والسياسة policy هي المكاسب المطلقة. على الرغم من كل هذا التمايز المفاهيمي بين الكلمتين، إلا أن السياسة Politics والسياسة policy مترابطتان بشكل لا ينفصم. فلا ينطوي الصراع على السلطة بالضرورة على خلافات حول السياسة policy، ولا يتم حل الخلافات السياسية بالضرورة عن طريق المنافسة السياسية political contest، ولكن دائما ما يؤدي أحدهما إلى الآخر. إن التفكير في السياسة كسلطة politics والسياسة كاستراتيجية policy كمفاهيم منفصلة مفيد لعملية التحليلية شريطة أن ينظر إليهما على أنهما مرتبطان بشكل وثيق. تقدم هذه العلاقة المتبادلة أيضًا رؤى حول كيفية التوفيق بين المواقف المتعارضة الأخرى في دراسة العلاقات الدولية.

هذه المقاربة لفهم الشؤون الدولية تقوم على أسس تجريبية ونظرية، لها ثلاث خصائص مميزة:

أولاً، أنها تتمحور حول الفاعلين بدلاً من الدولة. لذا، فبدلاً من التركيز على الدول (كوحدة واحدة للتحليل) باعتبارها الفاعل الوحيد ذو الصلة، فهي تستدعي العديد من الفاعلين “الفرعيين” أدنى من الدول sub-state والفاعلين من غير الدول non-state التي تؤثر في عمليات التفاوض الدولية.

ثانيًا، يدرس الحكم [كعملية] بدلاً من السياسة كسلطة politics. لذا، فبدلاً من التركيز على توزيع السلطة على المستويين الدولي أو المحلي، فإنه هذا المنهج يأخذ منظورًا أوسع للحوكمة ويدمج الأبعاد السياسية والمؤسسية.

ثالثاً، إن السياسة عملية وليست مثالية. لذا، بدلاً من العمل ضمن تقاليد بحثية معينة وحصانة لمتغير تفسيري معين، فإنه يعمل عبر التقاليد ويفحص المتغيرات المتعددة. فليس الهدف بناء النظرية بل توضيح وحل المشكلات.

هذا النهج الشمولي مناسب تمامًا لعالم متغير قد لا تعود فيه الأنماط التاريخية للتعاون/الصراع قائمة. فهو يساعد على التنقل بين المناطقة الدولية شديدة التزاحم والتعقيد، حتى لو كانت قوته التنبؤية محدودة.

نستخدم في المبحث التالي إطار السياسة-السياسة politics-politics لشرح الاختلاف في التأثير بين الحكومة والفاعلين من غير الدول على المفاوضات الدولية، والمؤسسات الدولية التي تدير هذه التفاعلات.

تسوق الدراسة هذا التحليل من خلال التدقيق في الآليات الرئيسية للتعاون الدولي – التسييس والمعاملة بالمثل – والطريقة التي تستخدم فيها الجهات الفاعلة المختلفة هذه الآليات.

وأخيرًا، يستخلص بعض الدروس لقيادة التعاون الدولي باستخدام تشبيه قيادة السيارة كجهاز استرشادي.

 

الجهات الفاعلة في الشؤون الدولية

Actors in international affairs

إن العديد من الجهات الحكومية (أو الدولة) والخاصة (أو غير الحكومية) المختلفة تشكل علاقات الدول. وتعتمد قدرة فاعل معين على التأثير في المفاوضات الدولية على إمكانياته المتاحة، وتتوقف طبيعة هذا التأثير على مصالحه. تعتمد قدرته على ممارسة التأثير على السياق المؤسسي.

أولا: الجهات الحكومية

Government actors

عندما يُنظر إلى الجهات الحكومية الفاعلة كممثلين للدول، غالبًا ما يتم تحديد إمكانياتها بالرجوع إلى الثروة والقدرات العسكرية لتلك الدولة. هذه هي القدرات التي تجلبها الجهات الحكومية للتأثير على المفاوضات الدولية. تمكن الثروة الدولة وممثليها من شراء النفوذ، وتمكن القدرات العسكرية الدولة وممثليها من التأثير باستخدام هذا النفوذ. “الثروة” هي الجزرة، والقدرات العسكرية” هي العصا.

غالبًا ما يتم تحديد مصالح الحكومات كممثلين للدولة من خلال المفهوم المراوغ “المصالح الوطنية”. فالمصلحة الوطنية هي مصلحة الدولة في الشؤون الدولية، لكنها تفتقر إلى معنى ومحتوى أكثر تحديدًا. حيث يدعي الفاعلون الحكوميون أنهم يدافعون عن المصلحة الوطنية لدولهم، ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ يعلي منهج (القومية) من أهمية حماية الدولة للمصلحة الوطنية وبالتالي على ضرورة الحفاظ على “توازن القوى” المستقر بين الدول. بينما يدمج منهج (العالمية) الشؤون العالمية في المصلحة الوطنية أو السؤال عن فائدة هذا المفهوم في عالم يعيش “العولمة”.

إطار السياسة/السياسية politics-policy يستوعب كلا المنهجين. فبتطبيق هذا الإطار، تظهر “المصلحة الوطنية” عند تقاطع المصالح السياسية  political interests (في الحفاظ على السلطة داخل الدول “السيادة”) ومصالح السياسة policy interests (في حل المشاكل عبر الوطنية). إن رؤية المصلحة الوطنية بهذه الطريقة مفيدة في شرح عدم دقة المفهوم – حيث لا توجد نقطة تقاطع مفردة أو متفق عليها – كما تحدد مصالح الجهات الفاعلة المختلفة.

عندما يُنظر إلى الجهات الحكومية على أنها جهات فاعلة في حد ذاتها، وليس مجرد ممثلين للدولة، تظهر صورة أكثر ثراءً لأسلوبهم في المفاوضات الدولية. حيث يمكن التمييز بين فئتين من العافلين الحكوميين: السياسيون والبيروقراطيون.

أهم مصدر للسياسيين هو سلطتهم في تحديد سياساتpolicies  دولتهم. في الدول الحديثة، تُناط هذه السلطة إلى منصب سياسية بموجب دستور الدولة. ذلك بجانب المصادر الأخرى مثل السيطرة على المال العام، لذا فإن سلطة صنع السياسات العامة – بما في ذلك الاستجابة للقضايا العابرة للحدود – تمنح السياسيين تأثيرًا كبيرًا في الشؤون الدولية. بعض السياسيين أكثر قدرة على ممارسة هذه السلطة من الآخرين. لكن بشكل عام، تكون قدرات السياسيين في الحزب الحاكم في وضع أفضل من أحزاب المعارضة، كما وبعض شاغلي المناصب – مثل رؤساء الدول والوزراء – يكون سلطتهم أعلي. فعادة أصحاب المناصب العليا هم الذين يمثلون الدول في المفاوضات الدولية.

قد يدعي السياسيون أنهم يسعون لتحقيق المصلحة الوطنية، لكن مصالحهم الأساسية تكون سياسة political [أي تعزيز سلطتهم السياسية كحزب او جماعة حاكمة أو تعكس توجههم الذاتي، بينما يفترض أن السياسة الخارجية هي foreign policy أي خطة واستراتيجية]. فهم يركزون على تأمين السلطة. كما لاحظ ماكس فيبر: (إن الناشط في السياسة يسعى إلى السلطة إما كوسيلة في خدمة أهداف أخرى، مثالية أو أنانية، أو السلطة من أجل السلطة. يعيش السياسيون “من أجل” و “من خلال” السياسة). فالسياسيون لديهم توجهاتهم السياسية political orientation. في الديمقراطيات التمثيلية، عادة ما تعتمد ممارسة السياسية كمهنة على انتخاب وإعادة انتخاب السياسي. في حين أن النجاح في صناديق الاقتراع ليس بالتأكيد الهدف الوحيد الذي يسعى له السياسيين، بل لتكون لديهم قدرة أكبر على تحقيق أهداف أخرى (مثل تعزيز الرفاهية العامة أو رؤيتهم الشخصي) من خلال الحفاظ على مناصبهم السياسية. لا يمكن إنكار أن لدى السياسيين مصالح سياسية policy interests يسعون لها. ويتم منحهم صلاحيات المنصب العام بهدف صنع السياسة العامة public policymaking، ويخاطرون بفقدان المنصب إذا فشلوا في القيام بذلك لو ترضي سياساتهم الجمهور.

هنا يظهر التشابك العميق بين Politics and policy. إلا أن السياسيين المتشبثين بالمثالية هم الذين يسعون إلى المصالح السياسية العامة policy interests على حساب المصالح السياسية الخاصة political interests.

في أي معادلة للمصالح الوطنية تشمل السياسيين، تطغي الضرورة السياسية political imperatives على الطموح السياسي policy ambition.

تكمن المعضلة التي يواجهها السياسيون في المفاوضات الدولية في أن مصالحهم السياسية تختلف عن مصالح نظرائهم الأجانب، لأنهم يخدمون مجتمعات سياسية مختلفة (وغالبًا تنافسية). وهذا يؤدي إلى تحدي “مباراة أو لعبة ذات مستويين”، حيث يتعين على السياسيين التفاوض على صفقة على المستوى الدولي ترضي أيضًا دوائرهم المحلية. كما أنه لن يتم إبرام اتفاقية دولية ما لم يتم التصديق عليها في كل دولة من الدول المشاركة. بعض السياسيين ماهرون في لعب مثل هذه المباريات، وإيجاد طرق لجعل مصالحهم الوطنية في توافق وتعاون آمن. لكن البعض الآخر ليس لديهم الموهبة أو حسن التصرف. كما يركز البعض على الانتصارات المحلية قصيرة المدى مهما كانت التكلفة على المستوى الدولي. وغالبًا ما تظهر هذه السياسة في أشكال (القومية) التي لا هوادة فيها – أو السياسات البحتة pure politics – التي تعمل بشكل جيد في الداخل حتى لو أحبطت المفاوضات في الخارج. هي سياسة “نحن” مقابل “هم”، حين لا يمكن الدفاع عن “التعاون”.

البيروقراطيون هم فاعلون حكوميون آخرون يؤثرون على المفاوضات الدولية، وبطرق مختلفة تمامًا عن قادتهم السياسيين. إن أهم الموارد التي تمتلكها البيروقراطية هي المعلومات والخبرة. البيروقراطيون “محترفون” في مجالات سياستهم، في حين أن السياسيين “هواه”. يمتلك السياسيون سلطة تحديد السياسة الدولية، لكن البيروقراطيين يلعبون دورًا مهمًا في تطوير وتنفيذ هذه السياسة من خلال المفاوضات المباشرة مع نظرائهم الأجانب. عادة ما يحضر السياسيون الاجتماعات الدولية الرئيسية ولكنهم يفوضون البيروقراطيين في الارتباطات الدولية الأدنى مستوى. ويتم اسناد هذه المهام إلى الدبلوماسيين، ولكن البيروقراطيين الآخرين في جميع مستويات الحكومة يصقلون الروابط الدولية. وصفت آن ماري سلوتر (2004) انتشار هذه “الشبكات الحكومية الدولية” – التي تعمل على معالجة تحديات السياسة المشتركة مع إشراف سياسي محدود – كأساس لـ “نظام عالمي جديد”.

إذا، ما هي مصالح البيروقراطيين؟ وكما لاحظ فيبر إنهم يركزون على الإدارة غير الشخصية للسياسة العامة، بتطبيق أكثر الوسائل فعالية بالنظر إلى أهداف محددة. ولديهم توجه السياسة  policy. على الرغم من أن البيروقراطيين لديهم مخاوف أخرى، سواء شخصية أو تنظيمية، فإن تطوير وتنفيذ السياسة  policyهو صميم معملهم. وتكون السياسة Politics هي مصدر قلق ثانوي لمعظم البيروقراطيين. بينما ينخرط رؤساؤهم السياسيون في معارك السلطة اليومية، يركز البيروقراطيون على أهداف سياسية  policy أكثر ديمومة. ومع ذلك، فإن السياسات policies التي يديرونها – نظريًا – يتم تحديدها بواسطة خيار سياسي political choice. ودون إدراك من البيروقراطيين لما هي السياسة politics فهو يجاهد للحصول على نتائج. لدى بعض البيروقراطيين أيضًا مصالح سياسية مهمة بسبب قربهم من الحياة السياسية (رؤساء الأقسام على سبيل المثال) أو طموحهم الشخصي. وهناك بيروقراطيون متعطشون للسلطة مثلما يوجد سياسيون ذوو مبادئ راقية. ومع ذلك، في أي معادلة للمصالح الوطنية تشمل البيروقراطيين، تكون المصالح السياسية عامة في الغالب.

على النقيض من السياسيين، الذين يمكن أن يكونوا على خلاف مع نظرائهم الأجانب بسبب اختلاف المصالح السياسية، غالبًا يتقارب البيروقراطيون مع نظرائهم الأجانب لإنهم يشتركون في مصالح السياسة policy interests. إنهم يركزون على معالجة نفس المشاكل العابرة للحدود الوطنية وإن كان ذلك من منظور دولهم. ففي سعيهم لتحقيق المصلحة الوطنية، يمكنهم العمل على حل سياسي تعاوني أو توافقي بعيدا عن التوترات السياسية. يدعم هذا التحليل أن لديهم مستوى عال من “الاستقلال البيروقراطي” بعيدا عن مراكزهم السياسية. مثال، قوات الشرطة من مختلف الدول تعمل بشكل عام بدرجة من الاستقلالية وتشترك في ثقافة فرعية مهنية تعتمد على مصلحة سياسية مشتركة في مكافحة الجريمة. يمكن أن تكون ثقافة الشرطة المشتركة هذه – والتي تتوافق مع والمهام الشرطية العالمية – قوية جدًا في تسهيل قبول التعاون ضد الجريمة العبرة للحدود. كما يعمل العديد من البيروقراطيين الآخرين بمستوى من الاستقلالية ويشاركون الثقافات الفرعية المهنية مع نظرائهم الأجانب التي يمكن أن تسهل التعاون الدولي. سواء كانوا يقدمون المشورة إلى رؤسائهم السياسيين، أو يتعاملون مع بعضهم البعض بشكل أكثر مباشرة، ويمكنهم المساعدة تلافي طريق سياسي political مسدود لتحقيق أهداف السياسة policy المشتركة.

ثانياً: الجهات الخاصة

Private actors الفاعلون من غير الدول

يمكن للجهات الفاعلة الخاصة مثل المنظمات غير الحكومية والشركات والمؤسسات الفكرية والنشطاء والصحفيين والأكاديميين والمحامين أن يكونوا لاعبين مؤثرين في المجال الدولي. قد تشمل قدراتهم المال والأصوات والمعلومات والخبرة والقدرة التنظيمية. ومصالحهم المتنوعة.

مهما كانت مصالحهم الخاصة – المالية أو الاجتماعية أو البيئية أو الشخصية أو غير ذلك – تسعى الجهات الفاعلة الخاصة إلى إظهار مردود هذه المصالح في نتائج المفاوضات الدولية. ويتعاملون مع هذه “المهمة” بطرق مختلفة اعتمادًا على إمكانياتهم المتاحة. البعض يضغطون بشكل مباشر على الحكومة، والبعض الآخر يدير حملات إعلامية، ويقيم احتجاجات، ويقدمون أبحاثًا، ويعدون أوراق للسياسات، أو يتخذون إجراءات قانونية. كل هذه التدخلات يمكن أن تغير الطريقة التي تتصور بها الجهات الحكومية مصالحها الخاصة وتأطير المصلحة الوطنية. بعض الجهات الفاعلة الخاصة يكونون سياسيون political بشكل واضح (يربطون موقفهم بالتبرعات أو التصويت) بينما يركز الآخرون أكثر على السياسة policy (ربط موقفهم بالبيانات أو التحليل).

غالبًا ما يكون للجهات الفاعلة الخاصة تأثير أكبر على المفاوضات الدولية عندما تعمل معًا وبالتنسيق مع الجهات الحكومية لتشكيل “شبكات نفوذ”. من خلال تجميع إمكانيتهم في هذه الشبكات، يمكن للجهات الفاعلة الخاصة الضعيفة أن تصبح قوية. وتزداد قوة شبكات النفوذ عندما تعبر الحدود [تكون روابط دولية أو إقليمية]. وبهذه الطريقة يمكن ممارسة الضغط على جميع أطراف المفاوضات الدولية. بينما يكمن التحدي في معرفة متى وأين يمارس الضغط، فإن هناك فرق بين بناء ائتلاف من الفاعلين ذوي التفكير المماثل وبين تعبئة الفاعلين بشكل فعال هو أمر آخر تماماً. يجب على الفاعلين الخاصين تحديد “أي الخيوط (المسارات) التي يجب أن تتبعها وفي أي لحظة لكي تصعد الشبكة في الزمان والمكان المحددين”. وهذا يتطلب فهمًا جيدًا للجهات الفاعلة الأخرى المشاركة في المفاوضات ذات الصلة. من المهم أيضًا تقدير السياق المؤسسي.

ثالثاً: المؤسسات

Institutions

تحدد المؤسسات – التي يتم إنشاؤها والقواعد الاجتماعية السائدة التي تنظم التفاعلات الاجتماعية – الطريقة التي تنخرط بها الجهات الفاعلة المختلفة في المفاوضات الدولية. تفتح بعض المؤسسات إمكانيات للجهات الفاعلة لممارسة نفوذها، بينما تغلقها مؤسسات أخرى.

إحدى الضوابط الحاسمة للمؤسسات هي الأنظمة السياسية والقانونية للدول المشاركة، والتي يمكن أن تختلف بشكل كبير وتكون مصدرًا لسوء الفهم والتوتر. لنأخذ دولة واحدة كمثال، تغيرت المؤسسات الحاكمة في إندونيسيا بشكل كبير منذ حصولها على الاستقلال عن هولندا في منتصف القرن الماضي، مما أثر بدوره على علاقاتها الدولية. تم الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي عقب استقالة الرئيس سوهارتو في عام 1998. من بين أمور أخرى، فتحت الديمقراطية عملية صنع السياسة الدولية لإندونيسيا لمجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة، بما في ذلك السلطة التشريعية التي تم تمكينها حديثًا والجهات الخاصة مثل وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني. كما تمتعت الشرطة والبيروقراطيون الآخرون بمستويات أعلى من الاستقلال، مما مكنهم من إقامة صِلات أقوى مع نظرائهم الدوليين. كافحت بعض الوكالات البيروقراطية من أجل التخلص من ثقافة التبعية والفساد التي سادت في عهد سوهارتو، مما يقلل من قدرتها على العمل عبر الحدود.

مبدأ السيادة هو مؤسسة مؤثرة أخرى. على الصعيد الدولي، يشير إلى حق الدولة في تنظيم شؤونها الداخلية دون تدخل من الجهات الخارجية، الأمر الذي يتطلب تعاونًا دوليًا ويوفر وسيلة سياسية لمعارضة ذلك. مثال إندونيسيا مفيد مرة أخرى هنا. ويرجع مبدأ السيادة جزئياً إلى تاريخه الاستعماري، إلى حد كبير في الخطاب السياسي الإندونيسي. بالاعتماد على أساطير ورموز النضال ضد الاستعمار، غالبًا ما يتذرع السياسيون الإندونيسيون بمبدأ السيادة لمقاومة التدخلات المتصورة في شؤونها من قبل دول أخرى، وعند تحقيق مكاسب سياسية محلية في هذه العملية.

المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) ومنظمة الصحة العالمية، هي مؤسسات يتم تشكيلها في المقام الأول من قبل الدول، هذه المنظمات قد تمارس الوكالة أيضًا. يمكنها تسهيل التعاون الدولي عن طريق تهيئة الظروف لمفاوضات منظمة، ووضع معايير سلوكية مشروعة، وتحسين تبادل المعلومات للحد من عدم اليقين، وتسهيل الروابط، وتوفير طرق لرصد التطبيق.

تمثل استجابة منظمة الصحة العالمية لحائجة كرونا COVID-19 توضيحًا جيدًا لإمكانيات وقيود المنظمات الدولية لتعزيز التعاون الدولي. كانت منظمة الصحة العالمية في طليعة الجهود الدولية لإدارة الوباء، بما في ذلك تقديم المشورة والإمكانيات للدول الأعضاء. في الوقت نفسه، كانت تخضع لأهواء سياسية لأعضائها، وعلى الأخص الدول القوية مثل الولايات المتحدة والصين (والتي ساد التنافس بينهما)، مما أضر بتحقيقاتها وتمويلها. في نهاية مايو 2020، أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أن الولايات المتحدة ستنهي علاقتها مع منظمة الصحة العالمية بسبب مخاوفه من أنها كانت تحابي الصين.

هناك العديد من المؤسسات الأخرى – المحلية والدولية على حد سواء – التي تشكل تفاعلات الجهات الحكومية والخاصة عبر الحدود. ونناقش في الجزء التالي من الدراسة آليات التعاون الدولي التي تحددها المؤسسات بنفسها، وهي أنظمة للاتصال السياسي (التسييس politicization) ومعايير التبادل (المعاملة بالمثل reciprocity).

آليات التعاون الدولي

Mechanisms of international cooperation

يتضمن التعاون الدولي – تنسيق السياسات policy بين الدول – آليتين أساسيتين: التسييس والمعاملة بالمثل. إن تسييس مشكلة عابرة للحدود يوفر حافزًا للتعاون، ولكن يمكن (على النقيض) أن يعرقله أيضًا. أما المعاملة بالمثل فهي حافز للتعاون. تحدد الطريقة التي يتفاعل بها الفاعلون مع هذه الآليات احتمالية تحقيق نتيجة تعاونية.

أولاً: التسييس

Politicization

يتضح تأثير التسييس على التعاون الدولي عن تناولها في صورتها القصوى. فالشكل المتطرف للتسييس هو التأمينية securitization [يستخدمها الكاتب هنا بهذا المعني اللغوي “الأمن” وليس بمعنى الاصطلاحي الضمان أو التوريق كما تستخدم في الاقتصاد]، وهو عبارة عن تأطير قضية ما كتهديد وجودي يتطلب استجابة استثنائية، بينما تنتقل القضية من غير المُسيَّس (ليست مسألة تهم الدولة) إلى مسيسة (جزء من السياسة العامة وخاضعة للنقاش السياسي) إلى أمنية، يزداد الضغط على الحكومات للاستجابة – وكوسيلة للتبرير. في حالة التأمينية، تكون الاستجابة بشكل عام أكثر إلحاحًا وقد تنطوي على تدابير خاصة. في سياق عبر وطني، قد تضطر الحكومات إلى متابعة التعاون مع الدول المتضررة الأخرى كجزء من استجابتها. باختصار، إن تسييس مشكلة عبر وطنية يولد الإرادة السياسية اللازمة لدفع التعاون الدولي. عندما يتم تأمين مشكلة عبر وطنية، يصبح إيجاد حل تعاوني أولوية سياسية.

قد يقوم شخص ما بتأمين قضية بسبب اعتقاد حقيقي أنها تمثل تهديدًا وجوديًا، أو يقوم بذلك لغرض خفي. قد يقوم السياسيون بتأمين قضية لأنهم يعتقدون أن هذا سيحظى بشعبية لدى الناخبين، أو للدفاع عن تدابير خاصة لن تحظى بشعبية. قد يقوم البيروقراطيون بتأمين مشكلة من أجل الحصول على مصادر إضافية لمعالجة المشكلة. قد تقوم الجهات الفاعلة الخاصة بتأمين قضية لإدراجها ضمن المناقشات السياسية.

ومن الأمثلة على الكيفية التي يوفر بها التسييس الزخم للتعاون الدولي هو توسيع جهود مكافحة الجريمة الدولية منذ السبعينيات. حفز أمننة التهديدات الإجرامية المختلفة خلال هذه الفترة – بقيادة الولايات المتحدة – الاتفاقات الدولية لمعالجة تلك التهديدات. في هذا السياق، ظهرت دوافع التأمين كناية عن “الحرب”. في عام 1971، أطلقت إدارة نيكسون رسميًا وصف “الحرب على المخدرات”، بعد فترة طويلة من تسييس تهديد المخدرات من قبل الجهات الفاعلة الحكومية والخاصة. لاحتواء التهديد، قامت حكومة الولايات المتحدة ببناء نظام دولي وقيادته لمكافحة المخدرات خلال القرن العشرين. في التسعينيات تحولت تحالف “الحرب على المخدرات” العالمي إلى “حرب على الجريمة”، ويرجع ذلك لرغبة شديدة من الدول للعثور على تهديدات ومهام أمنية جديدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

وبقيادة الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية، تم التفاوض على سلسلة من الأدوات الدولية للتعامل مع التهديدات الجديدة، بما في ذلك الفساد والجريمة المنظمة عبر الوطنية والجرائم الإلكترونية. ثم بعد فترة وجيزة من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية عام 2001، أعلن جورج بوش “الحرب على الإرهاب”. بناء على طلب من الولايات المتحدة، تبنى مجلس الأمن الدولي القرار 1373، الذي يطالب الدول بمعاملة الإرهاب كجريمة خطيرة والتعاون في ملاحقة الإرهابيين. وقد توالت العديد من القرارات ذات الصلة.

الأهم من ذلك، في حين أن تسييس المشاكل عبر الوطنية يولد الإرادة السياسية اللازمة لدفع التعاون الدولي من داخل الدول، فإن هذا لا يعني أن التعاون سيتحقق بالضرورة فيما بينها. قد تختلف مستويات التسييس عبر الدول المختلفة، مما يجعل من الصعب عليهم مواءمة مصالحهم. علاوة على ذلك، فإن فعل التسييس ذاته يمكن أن يعوق التعاون الدولي من خلال إشراك السياسيين – وغيرهم من الفاعلين ذوي العقلية السياسية – الذين يسعون إلى الاستفادة من التنافس السياسي مع الدول الأخرى. أي إنها تعزز عقلية “نحن” مقابل “هم” التي نوقشت أعلاه.

من الأمثلة الجيدة على كيف يمكن للتسييس أن يُحبط التعاون الدولي أيضًا هو الجهود العالمية لمعالجة تغير المناخ. في العقود الأخيرة، انتقل تغير المناخ من غير المسيّس إلى المسيّس في معظم الدول، وهو الآن يتم أمننته في بعض الدول. تنعكس خطوة الأمننة هذه في الاستخدام المتزايد لمصطلحات مثل “الطوارئ المناخية” و “أزمة المناخ”. كما ازداد التعاون الدولي استجابة لتغير المناخ خلال هذه الفترة، لكنه توقف.

جزء من الصعوبة في العثور على حل تعاوني تمثل في المستويات المتفاوتة من التسييس عبر الدول، مع تأطير البعض لتغير المناخ باعتباره تهديدًا أمنيًا كبيرًا رفض البعض الآخر هذا الوصف. كما أعاق السياسيون الجهود التعاونية بسبب استغلال السياسيين هذه القضية للأغراض السياسية المحلية. على سبيل المثال، عندما أعلن عن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس بشأن المناخ لعام 2015، قال الرئيس ترامب، “ما لن نفعله هو معاقبة الشعب الأمريكي أثناء إثراء الملوثين الأجانب. أنا فخور بقولي ذلك، أمريكا عندي أولاً”. كان ترامب يطلب الدعم مباشرة من قاعدته السياسية المحلية في الانسحاب من اتفاقية كانت الإدارة الأمريكية السابقة ضالعة في مفاوضاتها.

وكانت استجابة ترامب لجائحة كرونا COVID-19 – بما في ذلك استخدام مصطلح “الفيروس الصيني” – تستهدف مخاطبة جمهور ثابت على حساب العمل الدولي الجماعي.

بطبيعة الحال، من الطبيعي أن تسعى الجهات الحكومية – أو على الأقل تدعي أنها تسعى – لتحقيق أفضل صفقة ممكنة لدولهم في المفاوضات الدولية. فكل دولة هي مجتمع سياسي متمايز له أمكانيات محدودة. يجب أن يتفق ممثلوهم على كيفية الاستفادة من أمكانيات كل دولة في المشكلة عبر وطنية المعينة حتى يحدث التعاون الدولي. يجب عليهم التوفيق بين المصالح الوطنية لدولهم. قد يخلق التسييس عملية دفع أو سحب للتعاون الدولي، لكنه لا يفسر عملية إبرام هذه الاتفاقيات.

ولفهم كيفية موافقة الجهات الفاعلة الحكومية من دول مختلفة على التعاون، من الضروري فهم عمل آلية أخرى: المعاملة بالمثل.

ثانيا: التبادلية “التعامل بالمثل”

Reciprocity

في دراسته الكلاسيكية لتطور التعاون، درس روبرت أكسلرود (1984) الظروف التي يمكن أن يظهر فيها التعاون في عالم من الأنانيين بدون سلطة مركزية. تحدت النتائج التي توصل إليها أكسلرود افتراض “هوبز” أنه لا يمكن الحفاظ على التعاون بين الدول بدون حكومة قوية. باستخدام محاكاة الكمبيوتر، أظهر أكسلرود أن التعاون يمكن أن يظهر ويستمر بين مصالح الفاعلين ذاتيًا والتي تتبنى استراتيجية التبادل “الأخذ والعطاء” – لقاء الخير بالخير وسوء بالسوء- حيث من المرجح أن يكون لهؤلاء الفاعلين علاقة مستمرة. إن “غموض المستقبل” هو الذي يجعل المعاملة بالمثل استراتيجية فعالة.

وكما يشير أكسلرود، فإن تفاعلات الدول هي حالة نموذجية لعلاقة مستمرة بدون سلطة مركزية. وبالتالي، فإن المعاملة بالمثل يجب أن تسهل التعاون الدولي. ومع ذلك، ليست كل التبادلات تبادلية “عكسية”. إن نوع التبادلات التي انتصرت في محاكاة أكسلرود هو المعاملة بالمثل، والتي تنطوي على تبادل العناصر ذات القيمة المكافئة في تسلسل محدد بدقة. إنها ” العين بالعين والأذن بالأذن”. غالبًا ما يُنظر إلى المتغيرات الخاصة بالمعاملة بالمثل في المفاوضات التجارية الثنائية، حيث توافق دولة واحدة على تقليل حماياتها على الواردات مقابل الحصول على تنازلات معادلة من شريكها التجاري. بالإضافة إلى الحد من خطر انحراف أي من الدولتين، فإن هذا النوع من التبادل يسهل على السياسيين تفسيره لدوائرهم لأن شروط الصفقة واضحة. رغم أنها أبعد ما تكون عن استراتيجية مثالية للتعاون. فإذا بدأ أحد اللاعبين بحركة خبيثة، فقد تنهار العلاقة التعاونية منذ البداية. وتتجلى مثل هذه المعاملة التبادلية السلبية في “الحرب التجارية” الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين، والتي تضمنت زيادة التعريفات الجمركية.

وتشمل المزالق الأخرى ذات المعاملة التبادلية الأطراف التي تقوم بتقييم التكافؤ بطرق متحيزة، والمآزق الناتجة عن اكتناز الأطراف “أوراق المساومة”، وتعقيد التوصل إلى صفقة في سياقات متعددة الأطراف.

يتسع نطاق التعاون في حالات التبادل المنتشرة، وكذلك خطر الاستغلال. وذلك لأن توقع التكافؤ أقل دقة وتسلسل الأحداث أقل تحديدًا. يظهر في الكتابات حول التبادل الاجتماعي، يعرف روبرت كوهان التبادل على أنه سلسلة مستمرة من الإجراءات المتسلسلة التي قد تستمر إلى أجل غير مسمى، ولا تتوازن أبدًا ولكنها تستمر في الحصول على تنازلات متبادلة في سياق الالتزامات والقيم المشتركة. وبدلاً من الإضرار بالعلاقات بين الطرفين، يمكن أن يؤدي انعدام التوازن هذا إلى توليد الثقة بينهما بمرور الوقت. وتكون العاقة مدعومة بوجود الاعتمادات المتبادل “القروض والديون” التي تجبر على الاجتماع مرة آخر. يقترح كيوهان أن التبادل المنتشر ممكن فقط في حالة وجود بعض معايير الالتزام، مثل داخل مؤسسات قوية متعددة الأطراف. في منظمة التجارة العالمية، تشكل علاج الدولة الأكثر رعاية معاملة متبادلة منتشرة. ويتعين على كل دولة عضو تمديد المزايا المقدمة إلى شريك تجاري واحد لجميع الأعضاء الآخرين، لا يوجد أي شرط للحصول على امتياز معادل في المقابل، بل يتوقع أن يستفيد جميع الأعضاء من تطبيق هذه القاعدة بحسن نية على المدى الطويل. الخطر هنا في أن بعض الدول تسيء استخدام هذه الترتيبات من خلال التصرف كـ “متسابقين فرديين”.

إن التبادل المحدد أكثر شيوعًا بكثير في العلاقات الدولية من التبادل المنتشر diffuse reciprocity. يشير كوهان إلى أن التبادل المنتشرة أمر نادر الحدوث، ولا يحدث إلا في الأنظمة التعاونية الدولية التي تربط الدول بمصالح مشتركة واسعة النطاق. يعطي مثالا لعمليات التكامل الدولي التي تنطوي على ترقية المصلحة المشتركة، مثل السنوات الأولى من التكامل الأوروبي. يتوافق هذا مع البحث الذي يشير إلى أن توقعات التكافؤ في الاعتماد المتبادل ستتأثر بتوافق تفضيلات الفاعلين: “كلما زادت درجة التداخل في التفضيلات، كلما قلة قدرة المرء علي تحقيق نتيجة معينة، وبعبارة أخرى، عندما يكون للأطراف مصالح متشابهة – إما في التعامل مع قضايا محددة أو بسبب قيمهم المشتركة أو تاريخهم أو ثقافتهم أو أيديولوجيتهم – يكون توقع التكافؤ أسهل. ومع مرور الوقت، قد يسمح هذا بظهور التبادل المنتشرة.

إن نقل مستوى التحليل من الدولة إلى ممثليها يوفر المزيد من الأفكار حول كيفية ممارسة التبادل في العلاقات الدولية. من المرجح أن يفضل السياسيون التبادل، لأن لديهم القليل من المصالح المشتركة مع نظرائهم الدوليين (على الأقل من الناحية السياسية). ولديهم أيضًا آفاق زمنية ضيقة، خاصة في الفترة التي تسبق الانتخابات، مما يجعلهم أحرص على العوائد قصيرة الأجل منها على المكاسب طويلة الأجل. هذا هو السبب في أن السياسيين غالبا ما يضعون المفاوضات الدولية على أنها “تعادل” (واحدة بواحدة).

في المقابل، من المرجح أن يفضل البيروقراطيون التبادل المنتشرة، بالنظر إلى الأهداف والهويات التي يتشاركونها مع نظرائهم الدوليين – بما في ذلك معايير الالتزام – المستمدة من ثقافاتهم الفرعية المهنية. لديهم أيضا آفاق زمنية أطول من قادتهم السياسيين. حيث يتمتع العديد من البيروقراطيين بدرجة ما من الاستمرارية في وظائفهم وهم أقل عرضة للضرورات السياسية في ذلك الوقت.

إن الطريقة التي يتم بها تطبيق التبادل المحدد والمنتشر في العلاقات الدولية، والتمييز بينهما ليس واضحًا. كما يقول كوهان: “التبادل المحددة والمنتشر مترابطان بشكل وثيق. يمكن أن يكون موجود على سلسلة متدرجة متصلة، على الرغم من أن العلاقات بينهما جدلية كعلاقة خطية. “قد يتطور التبادل المحدد الناجح إلى التبادل المنتشر، وقد يؤدي فشل التبادل المنتشرة إلى عودة الفاعلين إلى التبادل المحددة. يعتمد النوع الأكثر فعالية من التبادل على الظروف، بما في ذلك مدى تداخل المصالح بين الدول المشاركة وممثليها. بينما لا تشارك الجهات الفاعلة الخاصة بشكل مباشر في التبادل العكسي بين الدول، فإنها يمكن أن تلعب دورًا مهمًا هنا من خلال تشكيل الطريقة التي ينظر بها الفاعلون الحكوميون إلى المصلحة الوطنية ومصالحهم الخاصة.

قيادة التعاون الدولي

Driving international cooperation

أياً كان شكل النظام الدولي (أو الفوضى) الذي سيظهر بعد جائحة كورونا، فإن إطار السياسة-السياسية politics-policy يقدم لنا طريقة جديدة لفهم هذا النظام. ويجسد هذا الإطار التوتر الحادث في قلب العلاقات الدولية بين القومية والعالمية، ويتيح التوفيق بين هذه المواقف المتعارضة. من جهة يوجد ضيق الأفق السياسي، وعلى الجانب الآخر هناك الطموح السياسي، وفي الوسط الأعمال الفوضوية للمفاوضات الدولية. تعتمد نتائج هذه المفاوضات على مزيج الجهات الفاعلة المعنية، وسياقها المؤسسي، والطريقة التي تتعامل بها مع آليات التعاون الدولي.

يستعرض هذا القسم الختامي التحليل من خلال تشبيه ديناميكيات التعاون الدولي بقيادة السيارة. وقد يكون هذا القياس غير كامل، لكنه يساعد على إلقاء الضوء على التفاعل المعقد للجهات الفاعلة والمؤسسات والآليات التي تحدد التعاون بين الدول. يمكن تلخيص الوضع على النحو التالي. قيادة التعاون الدولي مثل قيادة السيارة. والجهات الفاعلة التي تؤثر على الجهود التعاونية مثل مشغل السيارة، لكل منهم دور مباشر أو غير مباشر في تشغيلها. المؤسسات مثل قواعد الطريق. آليات التعاون الدولي مثل ميكانيكا السيارة.

بصفتهم ممثلين عن دولهم، يجلس الفاعلون الحكوميون في مقدمة السيارة. والسياسيون في مقعد السائق نظرا لسلطتهم في تحديد السياسة العامة. والبيروقراطيون هم الملاحون الخبراء الذين يجلسون في مقعد الراكب. في بعض الأحيان، يقوم البيروقراطيون أيضًا “بقيادة السيارة” ولهم تأثير مباشر على المفاوضات الدولية. الجهات الفاعلة الخاصة تقدم تعليقات من المقاعد الخلفية. في حين أن تدخلات الفاعلين الخاصين لا يتم الترحيب بها دائمًا – مثل الكثير من “سائقي المقاعد الخلفية” – إلا أنها يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل قرارات الجهات الحكومية الفاعلة في المقدمة. وتوفر المؤسسات قواعد الطريق من خلال تحديد ما يجوز عند قيادة التعاون الدولي.

إن تسييس مشكلة عبر وطنية هو مثل دواسة الوقود. أي يولد الإرادة السياسية اللازمة لمواصلة التعاون الدولي كاستجابة لتلك المشكلة. وكلما زاد التسييس (التسارع)، زادت الإرادة السياسية (السلطة). وفي الوقت نفسه، يمكن للتسييس أن يعيق التعاون الدولي. بهذه الطريقة تشبه الفرامل في السيارة. هذه هي مفارقة التسييس: فهو يفرض أو يحد من التعاون بين الدول. كما أنه مثل المسرع أو الفرامل.

التبادل مثل ناقل الحركة. مثلما يدفع ناقل الحركة السيارة عن طريق نقل القوة الناتجة عن التسارع إلى العجلات، فإن التبادل يدفع التعاون الدولي من خلال ترجمة الإرادة السياسية التي يولدها التسييس إلى عمل تعاوني.

هناك أنواع مختلفة من التبادل، والتي لا تختلف عن التروس المختلفة داخل ناقل الحركة. ودون مخاطرة المبالغة في التشبيه، يمكن التمييز بين التبادلية الإيجابية (تروس السير إلى الأمامية) والمعاملة التبادلية السلبية (ترس السير إلى الخلف). هنا، يمكن التمييز بين التبادلية المحدودة (التروس السفلية) والتبادلية المنتشرة (التروس الأعلى). يعتمد نوع التبادلية المستخدم، مثل اختيار الترس، على الظروف السياقية للأحداث.

بناءً على هذا التحليل، يمكن تحديد استراتيجيات مختلفة لقيادة التعاون الدولي. تعتمد هذه الاستراتيجيات على السياق، وقد تكون الإستراتيجية فعالة في موقف ما وغير فعالة أو حتى تؤدي إلى نتائج عكسية في موقف آخر. ومع ذلك، في معظم الحالات، لديهم القدرة على أن يكونوا “البنزين والشحوم” للتعاون الدولي، مما يساعدها على العمل بسلاسة ودون أن تتعطل.

  1. استخدام الدبلوماسية الهادئة. السياسيون هم في مقعد السائق للتعاون الدولي، لكنهم ليسوا دائمًا سائقين جيدين. يعمل البعض بعناية لتحقيق التوافق بين المصالح الوطنية لدولهم، ولكن البعض الآخر يركز بشكل مباشر على مصالحهم السياسية الخاصة، وقد يكونوا متهورين خلف عجلة القيادة.

من الأمثلة على ذلك “دبلوماسية مكبر الصوت“، حيث يتعامل السياسيون مع الدول الأخرى من خلال البيانات العامة بدلاً من المفاوضات المباشرة. عندما تُجرى المفاوضات الدولية في دائرة الضوء العام، فإنها غالبًا ما تنحدر إلى نقاط سياسية محلية. حيث يميل السياسيون إلى تعريض المنافع السياسة الدولية طويلة المدى للخطر من أجل تحقيق مكاسب سياسية قصيرة المدى داخلية. وعادة ما تكون الدبلوماسية الهادئة هي أفضل أسلوب، حيث يسعى السياسيون (والبيروقراطيون) معاً إلى حل الخلافات بين دولهم خارج الوهج السياسي. يجب أن تحرص الجهات الفاعلة الخاصة أيضًا على عدم إثارة احتكاكات سياسية بين الدول في سياق مساندتها.

  1. الاستثمار في الشبكات البيروقراطية: بصفتهم خبراء ملاحين، يمكن للبيروقراطيين المساعدة في التخفيف من الدوافع التنافسية لقادتهم السياسيين وإعادة تركيز جهود التعاون على المصالح السياسية المشتركة. هذه المصالح هي من صميم عملهم.
  2. إشراك الجهات الفاعلة الخاصة: على الرغم من أنها تقتصر على المقاعد الخلفية للتعاون الدولي، إلا أن هذه الجهات الفاعلة الخاصة لها أهمية. إنهم يلعبون دورًا مهمًا في تشكيل المصالح الوطنية للدول من خلال الانخراط في المناقشات السياسية وحوارات السياسات. وبذلك، يمكنهم تشجيع التعاون الدولي أو عرقلته.

الحكومات لديها فرصة أفضل للنجاح في مشاريعها التعاونية من خلال إشراك المبكر للجهات الفاعلة الخاصة ذات الصلة. أما الجهات الفاعلة الخاصة نفسها، فإن أفضل طريقة لممارسة التأثير هي بناء تحالف من الجهات الفاعلة ذات التفكير المماثل، وخاصة تلك العابرة للحدود. ويمكن لـ”شبكات النفوذ” هذه أن تمكن الجهات الفاعلة الخاصة الضعيفة.

  1. 4. تعزيز المعرفة: تضع المؤسسات الدولية قواعد الطريق للتعاون الدولي، لكنها غالبًا ما تكون غير مفهومة جيدًا. ويمكن أن يكون سوء الفهم حول دور المؤسسات عائقاً أمام التعاون فيما بين الدول. وبالنظر إلى ذلك، فإن تعزيز المعرفة بين كل من الجهات الفاعلة الحكومية والخاصة حول السياق المؤسسي الذي تجري فيه المفاوضات الدولية يمكن أن يساعد في تسهيل النتائج التعاونية. وقد يساعد بناء المعرفة بعضهم البعض المشاركين في علاقة تعاونية على رؤية مصالحهم المشتركة.
  2. الحصول على الدعم السياسي: بما أن التسييس هو “مُسرع الحركة”، يمكن للسياسيين توليد الزخم للتعاون الدولي من خلال التأكيد على التهديد الذي تشكله مشكلة عبر وطنية. وكذلك يمكن للبيروقراطيين والفاعلين الخاصين أن يؤثروا على الخطاب السياسي بشكل أقل مباشرة.

على الرغم من أنه قد يكون لدى بعض الجهات الفاعلة دوافع خفية لتسييس مشكلة ما. على سبيل المثال، قد يقوم السياسيون بتسييس مشكلة لأنهم يعتقدون أنها ستكسبهم مزيد من الأصوات في الانتخابات، وقد يقوم البيروقراطيون بتسييس مشكلة لتأمين للحصول على قدرات إضافية، وقد يقوم الفاعلون الخاصون بتسييس مشكلة لتحقيق مكاسب مالية أو شخصية. ويهدد هذا النوع من التسييس – حين يُبالغ في حجم التهديد – في وضع حد للتعاون الدولي من خلال تضخيم الخلافات السياسية بين الدول.

  1. بناء الإجماع على السياسات: تعمل التبادلية مثل “ناقل الحركة” لقيادة التعاون الدولي من خلال جعل مصالح الدول المختلفة (وممثليها) تتوافق. وكلما زاد إدراك المصالح المشتركة، زاد مجال التبادلية. تتمثل إحدى طرق زيادة إدراك المصالح المشتركة في بناء توافق في الآراء حول استجابة السياسة المناسبة لمشكلة عبر وطنية. يمكن تحقيق ذلك من خلال “المجتمعات المعرفية”، وهي شبكات من المتخصصين الذين يقومون بتطوير ونشر المعرفة التوافقية. تركز المجتمعات المعرفية على تطوير المعرفة ذات الصلة بالسياسات بدلاً من متابعة أجندة سياسية. يمكن أيضًا بناء الإجماع على السياسات ضمن العلاقات التعاونية من خلال الحوار بين الجهات الحكومية والخاصة.

بالنسبة لمعظم الممارسين، لن تكون هذه الاستراتيجيات مفاجأة تذكر. كلها عامة جدا وبديهية. التحدي الحقيقي للممارسين هو التعامل مع التعقيد. تتضمن كل حالة مزيجًا فريدًا من الجهات الفاعلة والمؤسسات والآليات. يمكن لتأطير السياسة-السياسات أن يساعد في فهم الديناميات العريضة للتعاون الدولي. إن العمل الشاق لتحديد أفضل السبل لدفع التعاون في عالم متغير ما زال يتعين القيام به.

References

Andreas, Peter, and Ethan Nadelmann. 2006. Policing the Globe: Criminalization and Crime Control in International Relations. Oxford: Oxford University Press

Axelrod, Robert M. 1984. The Evolution of Cooperation. New York: Basic Books.

Braithwaite, John, and Peter Drahos. 2000. Global Business Regulation. Cambridge: Cambridge University Press.

Buzan, Barry, Ole Wæver, and Jaap de Wilde. 1998. Security: A New Framework for Analysis. London: Lynne Rienner Publishers.

Deflem, Mathieu. 2002. Policing World Society: Historical Foundations of International Police Cooperation. Oxford: Oxford University Press.

Haas, Peter. 1992. “Introduction: Epistemic Communities and International Policy Coordination.” International Organization 46 (1): 1–35.

Hodgson, Geoffrey M. 2006. “What are Institutions?” Journal of Economic Issues 40(1): 1-25.

Keohane, Robert O. 1984. After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy. Princeton, NJ: Princeton University Press.

Keohane, Robert O. 1986. “Reciprocity in International Relations.” International Organization 40(1): 1–27.

McKenzie, Michael. 2018. Common Enemies: Crime, Policy, and Politics in Australia-Indonesia Relations. Oxford: Oxford University Press.

McKenzie, Michael. 2019 “Securitising Transnational Crime: The Political Drivers of Police Cooperation between Australia and Indonesia.” Policing and Society 29(3): 333-348.

Putnam, Robert D. 1988. “Diplomacy and Domestic Politics: The Logic of Two-Level Games.” International Organization 42(3): 427–460.

Shambaugh, George E., and Joseph J. Lepgold. 2002. “Who Owes Whom, How Much, and When?  Modeling Reciprocity in International Relations.” Review of International Studies 39(3) (2002): 229–252.

Slaughter, Anne-Marie. 2004. A New World Order. Princeton, NJ: Princeton University Press.

Warner, Jeroen, and Ingrid Boas. 2019. “Securitization of Climate Change: How Invoking Global Dangers for Instrumental Ends can Backfire.” Environment and Planning C: Politics and Space 37(8).

Weber, Max. 1946. From Max Weber: Essays in Sociology, eds H. H. Gerth & C. W. Mills. Oxford: Oxford University Press.

Weber, Max. 1978. Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology. Berkeley, CA: University of California Press.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى