دراسات عسكرية

التعديل الدستوري في الجزائر والرقابة على القوّات المسلّحة

بقلم عربي بومدين

 بعد المصادقة على التعديلات الدستورية، أصبحت طبيعة الرقابة على القوّات المسلّحة وماهيتها كرقابة سلطوية أم مدنية من أهم الأسئلة المتعلقة بانتقال الجزائر نحو الديمقراطية.

سعت القوّات المسلّحة الجزائرية لتفادي أي تغيير جذري في الأوضاع التي ورثتها عن نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، واستخدمت الدستور لممارسة رقابة سلطوية من خلال تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، وإعادة هيكلة دورها. طُرح التعديل الدستوري الجديد على الاستفتاء الشعبي في الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وتضمن هذا التعديل إمكانية إرسال وحدات القوّات الجزائرية خارج الحدود الوطنية في مهام حفظ السلام، لكن بقيود دستورية. يتناقض هذا مع العقيدة العسكرية التي تتبع منهج عدم التدخل، ومن المرجح أن يشتت ذلك الانتباه بعيدًا عن إصلاحات المؤسسة العسكرية والتي هي محور الانتقال الديمقراطي.

رقابة سلطوية أم رقابة مدنية؟

إن الانتقال السياسي في الجزائر متعثر. كما أنّ القول بأنّ التعديلات الدستورية وتغيير العقيدة العسكرية هما مؤشرين على بداية فرض السيطرة المدنية على القوّات المسلّحة هو ادعاء خاطئ إلى حد كبير كون أنّ الجزائر لم تشهد  إجراءات وترتيبات الانتقال الديمقراطي التي شهدتها كل من دول جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال. ومن ثم فإنّ التعديلات الدستورية تعكس شواغل سياسية وأمنية داخلية تتعلق بوضع سياسي داخلي معقد، وخارجية جلبتها تغيرات إقليمية ودولية، بما فيها تهديدات أمنية في منطقة الساحل، فضلا عن الحرب الأهلية الليبية، وأزمة الصحراء الغربية، حيث تُدافع الجزائر من خلالها عن حق الشعوب في تقرير مصيرها.

في ظل هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية لا تعكس مسألة تغيير العقيدة العسكرية سمات الرقابة المدنية. يتطلب الدستور التصويت بأغلبية الثلثين، من قبل غرفتَي البرلمان للسماح بانتشار عسكري في الخارج. لكن هذه التعديلات الدستورية تعكس رقابة سلطوية إذ تستوجب الرقابة المدنية الحقيقية مناقشة هذه التغييرات الهامة في البرلمان، والذي يبدو كمؤسسة هامشية في الحياة السياسية الجزائرية، مع العلم بأن مشاركة البرلمان هنا أمر ضروري لأن التحول في العقيدة العسكرية سينتج عنه لا محالة مزيدًا من الأعباء المالية الدفاعية.

عسر الرقابة المدنية

بناء على ذلك، فإنّ هذا التعديل في العقيدة العسكرية له وجهة سياسية بحتة، تهدف إلى تجنيب السلطة التنفيذية الضغط الخارجي لانتشار القوّات في إطار عمليات حفظ السلام، والسماح لها بالتعامل مع جوار جغرافي مضطرب. ترفع هذه الإصلاحات القيود على الخيارات العسكرية وتخلق أدوات لحماية الأمن الوطني الجزائري، إلا أنها لا تطرح إصلاحًا عسكريًا أو إعادة توازن للعلاقات العسكرية المدنية، ذلك أنّ هذه الأخيرة ستكون عملية طويلة ومعقدة، تستوجب اقتناع النخبة الحاكمة بضرورة الانتقال الديمقراطي كما حدث في دول جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية.

إن الإرث التاريخي للقوّات المسلّحة ودورها الوازن في السياسة الداخلية وعلاقتها الوطيدة مع المجتمع يجعل من الصعوبة بمكان تحقيق الإصلاح العسكري وفرض الرقابة المدنية الديمقراطية في فترة وجيزة. يجب على أي نخبة سياسية حاكمة في الجزائر أن تحافظ على ميزانيات المؤسسة العسكرية، وامتيازاتها الدستورية، وعلى تنظيمها المؤسساتي في أي انتقال ديمقراطي منشود، ففي تركيا على سبيل المثال استغرق الإصلاح العسكري نحو نصف قرن (منذ أول انقلاب عسكري في عام 1960 حتى الإصلاحات الدستورية في عام 2010). في مقابل ذلك لا بد أن تشهد النخب العسكرية أيضا خضوعًا تدريجيًا للرقابة المدنية وبحسب ما تقتضيه الضرورة، وفق منطقيّ التوافق والتوازن.

تحتاج القوى المدنية في التعامل الفعال مع المؤسسة العسكرية للدعم الواسع والتماسك والشرعية لتحدي قدرة النظام على الحكم، كما وتحتاج أيضًا لإمكانية طرح نفسها كبديل منطقي وموثوق لدى المجتمع، ذلك أنّ القوى والمؤسسات السياسية لا تحظى بالثقة المجتمعية على غرار المؤسسة العسكرية، كما وعليها أن تتمتع بنهجي التوافق والحوار فيما بينها ومع المؤسسة العسكرية، لتحييد المسائل السياسية التي تهيمن عليها القوّات المسلّحة. فبعكس تجارب التحول الديمقراطي في دول جنوب أوروبا ودول أمريكا اللاتينية التي تم فيها  توجيه الثورات الشعبية ضد الحكم العسكري، فإن تجربة الجزائر في الحراك الشعبي عززت العلاقة الوطيدة بين المحتجين والقوّات المسلّحة بعبارة “خاوة خاوة،” والتي تعني العسكريين والشعب إخوة.

نتيجة للدور العسكري التاريخي في الحراك الشعبي، لا يمكن نزع كافة الامتيازات السياسية والاقتصادية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية دفعة واحدة، أو حتى على مر جيل واحد من القيادة. لعلّ التخطيط والصبر الاستراتيجيين من شأنهما أن يؤديان إلى وضع أمثل للعلاقات العسكرية المدنية من خلال الإصلاح التدريجي. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ملحة إلى المشاركة في المسؤولية بين القوّات المسلّحة والنخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فضلا عن الالتزام بالقواعد والامتيازات التي تدخل في نطاق عمل وتخصص كل جهة من الجهات الثلاثة.


عربي بومدين أستاذ العلوم السياسية في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف، الجزائر.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى