دراسات سيكولوجية

التنمية السيكولوجية psychological development

تستهدف التنمية البشرية توافر الشروط والظروف، التي تمكن الإنسان -كل إنسان – من تحقيق إنسانيته؛ـ كل إنسانيته. لذلك غدا مفهوم التنمية البشرية أهمية متميزة في توجيه الفكر الإنمائي وتحديد مقاصده.

إن هذا التحقيق لذاتية الإنسان بمختلف مقوماتها وخصائصها، هو خط البداية في تصور مطالب الإنجاز النمائي، وهو خط النهاية في تقييم ذلك الإنجاز، على آماده القريبة والمتوسطة والبعيدة.

يتطلب تحقيق ذاتية الإنسان ومقومات إنسانيته، الإدراك المتكامل لكينونته وصيرورته، وما يتطلبه ذلك من الوفاء باحتياجاته البيولوجية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والثقافية والروحية، بوصفها كلاً واحداً؛ فالإنسان في كل الظروف، وفي الوقت نفسه، كائن بيولوجي وعقلاني، متفرد واجتماعي، فاعل ومنفعل، ماضي وحاضر ومستقبل، يسعى بقدميه في مناكب الأرض، ويمتد بناظريه وفؤاده إلى ملكوت السماوات، معتزاً بعقيدته، ومحترماً لعقائد الآخرين. ومن ثم تتجمع مقاصد التنمية البشرية في جهد متصل لتنمية كل تلك القدرات والخصائص والطاقات، إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه خلال مراحل نموه، من الطفولة، إلى الشباب، فالنضج، حتى الكهولة.

وللتنمية البشرية مظهران؛ أولهما اكتشاف قدرات الفرد وإمكاناته ومواهبه، والعمل على الارتقاء بها إلى أقصى مدى ممكن؛ وثانيهما معالجة الآثار المترتبة على الحرمان بصوره المختلفة.

وقد تعددت الدراسات والمقالات متناولة المظهر الأول، كالحديث عن التعليم مثلاً؛ أما المظهر الثاني، فلم يلق القدر نفسه من الاهتمام، ولذلك نركز هنا على المظهر الثاني.

أولاً: الحرمان وآثاره

يُقصد بالحرمان نقص تعرض الفرد للمثيرات، على نحو يؤدي إلى نقص التنبيه والمنبهات، التي تستثير الفرد وتحركه. ويؤدي هذا النقص إلى قلة اكتساب الفرد للخبرات، على نحو يؤثر في نموه العقلي والاجتماعي، وفي تكامل شخصيته وارتقائها بشكل سوي.

وقد يكون الحرمان حسياً، بمعنى أن يُعزل الفرد تماماً عن المثيرات البيئية الحسية، مثل حالات الأطفال الذين رُبوا في قباء المنازل. وكانت مهمة المسؤول عنهم إشباع حاجاتهم البيولوجية فقط. وقد يكون الحرمان الحسي نتيجة لعاهة جسمية، أو بسبب قصور في وظيفة حسية، كفقدان البصر أو السمع.

ومن صور الحرمان ما يُعرف بالحرمان الاجتماعي، حيث يُحرم الأطفال من الخبرات الاجتماعية والاتصال الاجتماعي، مثل حالات الأطفال الذين اختطفتهم حيوانات الغابات وربتهم بمعزل عن أسرهم. ومن الحرمان الاجتماعي النشأة داخل المؤسسات والملاجئ، إذ يتأخر نمو الأطفال اللغوي والعقلي والاجتماعي، نظراً لنقص الرعاية ولعدم وجود شخصية رئيسية ثابتة ترعى الطفل. ومن الحرمان الاجتماعي أيضاً انفصال الطفل عن الوالدين أو أحدهما، وهو حرمان من سبل الحياة الأسرية الطبيعية، بما يتضمنه من انقطاع العلاقات ونقص التبادل الوجداني والعاطفي، ونقص في عملية التنميط الجنسي (أي تعليمه أنماط السلوك الاجتماعي المناسب لجنسه).

ومن الحرمان الاجتماعي ما يتعرض له الطفل من أساليب خاطئة للتنشئة الاجتماعية، كالقسوة والإهمال والنبذ، ما يؤدي إلى انعدام الشعور بالأمن، وحرمانه من الخبرات اللازمة لنموه العقلي والاجتماعي.

والصورة الثالثة للحرمان ما يُعرف “بالحرمان الاقتصادي”، أي يعاني الفرد من انخفاض المستوى الاقتصادي بدرجة تفوق إشباعه لحاجاته البيولوجية، وبعض حاجاته النفسية. فانخفاض دخل الأسرة وكثرة عدد الأفراد في المنزل، وانخفاض معدل التغذية والنظافة، وازدياد التعرض للأمراض، وكثرة المشاكل المادية والضغط الاقتصادي، قد تكون عوامل سلبية تؤثر على النمو السوي النفسي والعقلي والاجتماعي.

والصورة الرابعة للحرمان، هي “الحرمان الثقافي”، الذي يؤدي إلى إعاقة الأفراد عن الحصول على قدر ملائم من التعليم، يهيئهم لحياة الراشدين من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. فهم معوقون بسبب ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي يعيشون فيها، والتي تؤدي إلى نقص في اكتسابهم للمعارف والقدرات والمهارات، وأنماط السلوك الشخصي والاجتماعي، التي يتطلبها النجاح في الدراسة والعمل. كما أنهم معوقون لأن الإمكانات المدرسية المتاحة لهم محدودة للغاية، لأسباب عدة اجتماعية وسياسية وثقافية. وبسبب التفاعل بين الخبرات المبكرة المحدودة لدى المعاقين ثقافياً واجتماعياً، والإمكانات التربوية المحدودة المتاحة عند دخولهم المدرسة؛ فإنهم يزدادون تخلفاً. كما تشيع ظواهر الفشل والتسرب من المدرسة بينهم أكثر من سواهم.

وللمحرومين ثقافياً فئات متعددة، مثل الفئات الفقيرة والأقليات والمهاجرين إلى ثقافة مختلفة عن مجتمعهم الأصلي، وأصحاب الأقليات اللغوية، وسكان المناطق الريفية أو الحضرية المتخلفة، والبدو، وسكان المناطق النائية. وتُصنف هذه الفئات على أنها تحتل مكانة أدنى من غيرها من الفئات، في المجتمع الأصلي.

وإذا انتقلنا إلى الآثار المترتبة على الحرمان، نجدها متعددة ومتفاوتة، بناءً على نوع الحرمان ومدته وشدته، وعمر الفرد عند حدوث الحرمان، والاستعداد التكويني للفرد، والمهارات أو مكونات الشخصية، التي تتأثر بحالة معينة من حالات الحرمان، وتفاعل عوامل الحرمان بعضها ببعض. وعموماً فإن آثار الحرمان تظهر في تأخر النمو الحسي والاجتماعي والثقافي والوجداني والعقلي واللغوي للفرد.

ثانياً: التنمية السيكولوجية ومواجهة آثار الحرمان

تقتضي التنمية السيكولوجية تقديم الرعاية المتكاملة لإزالة آثار الحرمان. وتتضمن هذه الرعاية مواجهة نواحي القصور الجسمية والعقلية واللغوية… إلخ. وتحقيقاً لتلك التنمية السيكولوجية، تُستخدم أساليب التربية التعويضية، والتعلم العلاجي، وأساليب التربية السيكولوجية، كالإثراء والتجميع، وأحياناً العلاج النفسي، إضافة إلى العلاج الطبي. ولكل أسلوب من هذه الأساليب وسائله الفنية وتكتيكاته المتخصصة؛ إلا أن ثمة قاسماً مشتركاً يجمع بين برامج التنمية السيكولوجية لمواجهة آثار الحرمان.

  1. موجهات عامة لمواجهة آثار الحرمان

 أ. تجنب الاعتماد في التدريس والتعلم على استخدام المواد اللفظية بكثرة، بل تُستخدم مواد متنوعة (كالموسيقى، والفنون، والتربية الرياضية). إن هذا يُتيح الفرصة لهذه الفئة لتوظيف مواضع القوة لديها، ولاستخدام المواد المتنوعة التي تتناسب مع تنوع أساليبهم في التعلم، وتشبع اهتماماتهم.

ب. التدعيم المادي يحقق أثراً أكبر من التدعيم اللفظي في التعامل معهم. وللتدعيم أثره الإيجابي في حفزهم وتعديل مفهوم الذات لديهم. لذلك يُعد التدعيم المادي أكثر ملائمة لخاصيتهم المرتبطة بتفضيل التعامل مع الماديات، أكثر من استخدام الألفاظ.

ج. استخدام الأسئلة المفتوحة التي تسمح لكل منهم بتوظيف طريقته في التفكير، وتسمح بدرجة من المرونة، وبتوظيف اهتمامات الأفراد وميولهم، ما يزيد من دافعيتهم.

د. عدم التحيز ضد الأقل انصياعاً، لأن هذا يعني احترام فردية كل منهم، واستثمار ما لديه من إمكانيات.

هـ. عدم الإصرار على اتباع طريقة واحدة في تنفيذ المهام والأعمال؛ لأن هذا يؤدي إلى عدم تشجيع الفردية أو استثمار إمكانياتهم، ولا يشجع على العمل المستقل.

و. تنويع الموقف التعليمي، بحيث يجمع بين المهام ذات البنية المحددة، والمهام ذات البنية غير المحددة، والعمل المستقل والعمل في مجموعات، وبين المهام التقاربية والمهام التباعدية.

ز. ضبط التوقعات منهم مع تجنب تأثير الهالة، فنقص قدراتهم اللفظية، وبطئهم في الاستجابة قد يوحي بأنهم أغبياء، وعدم الانصياع قد يوحي “بالبلطجة” والخروج المتعمد على النظام.

ح. العناية بتوفير الظروف الملائمة والإرشاد النفسي اللازم لتحسين مفهوم الذات لدى هؤلاء الأفراد، سواء في جلسات فردية أو جماعية.

ط. استخدام الإرشاد لرفع الروح المعنوية لديهم، من خلال العمل الجمعي المنظم والموجه.

ي. توفير التعليم العلاجي لعلاج نواحي القصور التي يُعانون منها.

  1. خصائص برامج رعاية المحرومين

أ. حدد ويت خصائص البرنامج كالتالي

(1) أن يكون البرنامج ذا بنية واضحة، وأن يتصف بالمرونة.

(2) يهيئ الفرص لإثابة المشاركين عند نجاحهم في حل المشكلات.

(3) يحظى بتقدير الجميع.

(4) ذا طبيعة ملموسة، ويتضمن أنشطة تُمارس في المدارس.

(5) أن يقوم على تنفيذه متخصصين أكفاء، للإقلال من فرص الاحتكاك والصراع.

(6) يتضمن مقومات الضبط.

(7) يشارك في تنفيذه بعض الأفراد من أبناء ثقافة المحرومين ثقافياً.

(8) تدرج خبرات التعلم بحيث تحقق الانتقال من الخبرات الحركية الإدراكية، إلى الخبرات المعرفية.

(9) أن يتولى إدارة البرنامج مدير خبير في عمل الجماعات، واستخدام ديناميات الجماعة.

(10) يزود أُسر المشاركين بالدعم والمساندة والتوجيه، ويشجعون على المشاركة في البرنامج.

ب. حدد جوان وتورانس خصائص البرامج كالتالي

(1) أن تتضمن فرصاً تسمح بالابتكار والاختراع.

(2) توافر الإرشاد النفسي اللازم لتحسين مفهوم الذات.

(3) توافر الإرشاد الجمعي ـ مع النمذجة ـ لرفع الروح المعنوية لديهم.

(4) تعليم علاجي لجوانب القصور بمعرفة المتخصصين.

ج. حدد تورانس خصائص البرنامج كالتالي

(1) أن تركز وتوظف مواضع القوة لدى المحرومين ثقافياً، وخصوصاً إمكاناتهم الابتكارية.

(2) استخدام الفنون كوسيط لتعلم المهارات والمفاهيم والكفايات التعليمية، واستخدامها لتحفيزهم على العمل والأداء.

(3) يجب توفير الخبرات العلاجية اللازمة، حتى يتحقق أعلى مستوى من الأداء.

(4) استخدام الجماعات الصغيرة، وتوظيف روح الجماعة ذات الخصائص الثقافية النوعية.

(5) توافر المتابعة والإشراف، مع احترام فردية المشارك.

(6) احترام واستخدام الثنائية اللغوية لدى بعض منهم.

(7) وضع برنامج لاكتشاف الموهوبين منهم في المجالات المختلفة، كالموسيقى والرسم والغناء والتمثيل والكتابة والعلوم.

ومن الناحية الإدارية، أشار تورانس إلى ضرورة:

(1) توافر الكادر المهني المدرب، بحيث تكون نسبتهم إلى المشاركين مناسبة، حتى يمكن تنفيذ التعليم والتعلم الفردي.

(2) توافر فرص التدريس الجمعي، حتى يمكنهم حل المشكلات ذات الأبعاد والعناصر الدراسية والأكاديمية المختلفة.

(3) جدول مرن يتحدد بناءً على الأنشطة، لا بناءً على فترات زمنية محدد.

(4) تخصيص وقت للدراسة المستقلة، حتى يمكن للمشارك متابعة تنفيذ مشروعاته الخاصة، بصورة فردية أو جماعية.

(5) التقويم المستمر وتسجيل نتائج الفحص، حتى يتسنى لجميع المشاركين في العملية التعليمية فحصه ودراسته وتقدير الإنجازات.

(6) استخدام وتوظيف المصادر المتاحة بالمجتمع، مثل المصانع والمتاحف والهيئات الثقافية وغيرها.

(7) استخدام الوسائط المتعددة، بحيث تصبح جزءاً متكاملاً من البرنامج.

(8) استخدام الفصول متعددة المستويات (لا الصفوف)، حيث يعمل المشاركون في مجموعات مرنة، وفقاً لمستوياتهم واحتياجاتهم.

(9) تنويع طرق وأساليب التعلم والتعليم ما بين الفردي والجماعي، والدراسات المستقلة.

  1. تنفيذ البرامج

أ. لتنفيذ البرامج ونجاحها، أشار تورانس إلى الموجهات التالية، والتي تصلح، أيضاً، مع الموهوبين المحرومون ثقافياً:

(1) احترام فردية كل مشارك ومساعدته على تطوير مفهومه عن ذاته.

(2) رفض الأنماط الشائعة Stereotypes عن هؤلاء الأفراد (كالبطء والبلادة والتخلف… إلخ).

(3) توفير الرعاية المبكرة من الناحية الثقافية والاجتماعية.

(4) العمل المستمر على أن يتقبل الفرد والمجتمع المحرومين، وما يتميزون به من إمكانيات.

(5) ألا تقتصر محكات التعرف عليهم على استخدام الاختبارات المقننة، بل يُعتد أيضاً بإنتاجياتهم في المجتمع.

(6) استخدام الأساليب المفتوحة Open ended، والأساليب التي توجه السلوك توجيهاً ابتكارياً.

(7) توظيف متخصصين تربويين لاكتشاف المواهب والاعتراف بها وتنميتها.

(8) العناية بتوافر الظروف المنزلية والمدرسية والمجتمعية المواتية، التي تدعم النمو وتيسره.

ب. كما حدد ولف سبعة مبادئ لتنمية قدرات وامكانيات المحرومين ثقافياً

(1) يجب أن يكون المشارك نشطاً أثناء عملية التعلم، وأن يكون له دور أساسي في العملية التعليمية والعلمية.

(2) يجب أن يتلقى المشارك تغذية راجعة عن أدائه، تبين مدى تطبيقه واستفادته هو وغيره مما تعلمه.

(3) يؤدي الشعور الداخلي بالرضا والكفاءة، الذي يتحقق من اكتسابه للمعلومات والمعارف، التي تمكنه من السيطرة على بيئته، إلى حفز استقلاليته وإنجازاته.

(4) يكون العلم ذا معنى ومغزى إذا أُصيغ في صورة مشكلات تتحدى الفرد، وتستثير حبه للاستطلاع وتنمي أفكاره.

(5) وظيفية المادة المتعلمة، بحيث لا تكون مواداً منعزلة عن حياة المشارك ومجردة ويصعب تطبيقها.

(6) أن يتعامل المشارك مع مواد أو مواقف تعليمية تتيح الفرص لاستخدام عديد من حواسه, وتسمح له بتبادل المعلومات حولها مع الآخرين، بطرق وأساليب وصور مختلفة.

(7) مراعاة التوقيت الزمني المناسب للمشارك، مع استمرارية الخبرات المتعلمة، وعلاقة الخبرات ببعضها ببعض

المصادر والمراجع

  1. حامد عمار، “مقالات في التنمية البشرية العربية، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 1998 .
  2. حسين عبدالعزيز الدريني، “سلسلة محاضرات أُلقيت في جامعة الخليج العربي”، المنامة، البحرين، 2007 .
  3. فاروق صادق، “سيكولوجية التخلف العقلي”، جامعة الرياض، الرياض، 1976 .
  4. فؤاد أبو حطب، آمال صادق، “علم النفس التربوي”، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2000 .

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى