القاموس السياسيدراسات تاريخية

الثورة البلشفية – The Bolshevik Revolution

مقدمة

شهدت روسيا قبل الحرب العالمية الأولى حالة من التخلف والاستبدادية الملكية، إذ تسيّد الشعب مجموعة من كبار ملاك المصانع والأراضي والعقارات، وعلى رأسهم أكبر مالك على الإطلاق وهو القيصر الروسي الذي كان يحكم بالتحالف مع هؤلاء الرأسماليين.

انعكست تلك الحالة على أوضاع الشعب وخاصة البروليتاريا (الطبقة العاملة). فالعمال داخل المصانع عانوا وطأة الاستغلال من قبل الرأسماليين، وأمام المصانع اصطف جيش هائل من طالبي العمل جعلهم الفقر على استعداد لقبول أي عمل لقاء أجر زهيد وإن كان لا يكفي لتلبية متطلبات الحياة الأساسية.

أما الفلاحون، فعانوا هم الآخرون من استغلال كبار ملاك الأراضي والعقارات، وكانوا بمثابة عبيد حاصرتهم السلطات بقيود تشريعية أجبرتهم على عدم مغادرة القرى والخضوع لملاك الأراضي للعمل بها.

في ظل هذه الظروف، لم يكن أمام الشعب سوى الثورة على هذا الاستبداد وسوء الأوضاع المعيشية، فانطلقت شرارة الثورة في 22 يناير/كانون الثاني 1905، وأُطلق على هذا اليوم «يوم الأحد الدامي»، حيث خرج آلاف العمال في مسيرة إلى قصر القيصر يلتمسون ظروف عمل أفضل، لكن الملكية القيصرية استطاعت قمعها بالقوة عبر إطلاق النار عليهم، فقتل وأصيب الكثيرون، وانتهى الأمر بالهزيمة.

يبدأ تاريخ الحركة الثورية في روسيا، والذي كانت الاشتراكية أحد عناصره، بحركة الديسمبريين، وهي حركة قام بها شباب النبلاء في عام 1825، دون إعداد كاف، ومن ثم قُضي عليها بسهولة، لكن أفكار الديسمبريين السياسية ظلت أهدافاً دستورية للحركة، وهي: ملكية دستورية. حريات مدنية. مجلس تشريعي منتخب. أمَّا الأغلبية فكانت من ذوي الاتجاهات السياسية المتطرفة، وكان اهتمامها بالإصلاح الاجتماعي أكثر من اهتمامها بالحرية، كانت تريد قلب نظام الحكم الملكي وإقامة حكومة جمهورية قوية تحقق الإصلاح الاجتماعي.

ومنذ ذلك الحين أصبح محور الصراع الثوري في روسيا هو أيهما أهم وأسبق: الاشتراكية أم الحرية؟. وحدد التكوين الاجتماعي للشعب الروسي، وظروف أوروبا الغربية، الإجابة على هذا السؤال.

كان الفلاحون يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان، وكان نصف هؤلاء الفلاحين من المستعبدين التابعين لملاك أفراد. وكانوا أميين وبدائيين، ولم تكن قضيتهم هي قضية القيصر أو الدستور، لأن أعداءهم كانوا ملاك الأرض الزراعية وموظفي الحكومة. كان مطلبهم الرئيسي هو الحصول على الأرض والتخلص من البؤس، لا التمتع بالحرية الفردية.

ومن ناحية أخرى، فإن مثقفي روسيا الذين أتيحت لهم فرصة زيارة دول أوروبا الغربية، ودراسة أحوال فرنسا وإنجلترا بصفة خاصة، هالهم ما لمسوه من مظالم الرأسمالية الفيكتورية في إنجلترا، أو الحكم البونابرتي في فرنسا؛ فقرر معظمهم أنه لا ينبغي لروسيا أن تأخذ طريق الثورة الرأسمالية والمؤسسات الفردية، وإنما لابد لها أن تتبع طريقاً خاصاً بها، هو طريق الاشتراكية، فنادوا بالاشتراكية بمختلف درجاتها واتجاهاتها، اقتناعاً منهم أنه لا حرية دون توافر أسباب الحياة المعاشية للناس.

وعندما اختارت روسيا طريق الاشتراكية كان عليها أن تختار الوسيلة، التي تحقق بها سلطة الاشتراكيين، وتنجز بها الأهداف الاشتراكية. فعمدت إلى تأسيس حزب ثوري، موحد الهدف والأسلوب والنظام، يتبنى قضايا الشعب ويدافع عنها، ويؤمن بأن إقامة سلطة الشعب العامل هي الشرط المسبق والضمان الوحيد لتحقيق التغيرات الاجتماعية المطلوبة.

أما عن نشأة الحزب الثوري، فيرجع الفضل في صياغة فكرته إلى المفكر الروسي تكاتشيف (1844 ـ 1885)، الذي كان أول من درس هذه الفكرة، ودرَّسها لجيل كامل من الثوريين، ومن بينهم لينين. ثم بذل لينين جهوداً كبيرة في سبيل صياغة نظرية الحزب الثوري صياغة أبعد، باعتبار مثل هذا الحزب، ذي الأيديولوجية الاشتراكية العلمية والبرنامج السياسي الواضح واللائحة التنظيمية، أداة جماهير الشعب العامل للاستيلاء على السلطة، وإحداث التغيرات الاجتماعية الثورية، والنضال دفاعاً عن الاشتراكية تحت كل الظروف.

تميزت ثورة نوفمبر الاشتراكية، بعد أن نجحت في إقامة دولة عظمى هي الاتحاد السوفيتي، بأنها كسرت حلقة هامة في سلسلة النفوذ الاستعماري الدولي، فأتاحت للكثير من الأمم والشعوب الخاضعة للاستعمار فرصة التحرر الوطني.

وكم من الأحلام والآمال أثرتها تلك الثورة الاشتراكية في نفوذ البسطاء في جميع أنحاء العالم. وكم من الطاقات المكبوتة أطلقتها، وكم من الضحايا دفعوا حياتهم وحرياتهم دفاعاً عن مبادئ الاشتراكية.

إن الأيام العشرة التي استغرقتها عملية الاستيلاء على السلطة في روسيا عام 1917، هزت العالم كله من جذوره، وأوجدت قيماً ومعايير جديدة للحياة والإنسان، وأثرت التاريخ بالعديد من التجارب العنيفة.

الأحوال الاقتصادية والدفاعية والاجتماعية في روسيا

أولاً: اتساعها ومشكلاتها الاقتصادية

احتفظت روسيا بعد سقوط نابليون وانتهاء مؤتمر فينا عام 1815 بحدودها الواسعة في أوروبا، وفي الوقت نفسه كانت تمتد نحو الشرق امتداداً هائلاً إلى المحيط الهادئ وبذلك كانت أكثر الإمبراطوريات اتساعاً. كانت تضم أجزاء واسعة في أوروبا، منها فنلندا وبولندا وهما يعتنقان المذهب الكاثوليكي، بينما يعتنق الروس المذهب الأرثوذكسي. وكان الفنلنديون والبولنديون يكرهون الحكم الروسي ويحاولون التخلص من تلك العبودية. وأما في آسيا فقد تغلغل الروس نحو الجنوب الشرقي من القارة حيث حكموا شعوب القوقاز ومغول التركستان، وامتدت حدودهم إلى أطراف تركيا وإيران وأفغانستان، مما أدخل الرعب في نفوس البريطانيين في الهند، وزاد من حدة الكراهية بين الروس والإنجليز خلال القرن التاسع عشر.

وظلت الدول الأوروبية، طيلة القرن التاسع عشر، تخشى الشبح الروسي، وزاد في قلقها ذلك الغموض الذي كان يكتنف سياسة روسيا، إذ كان الأوروبيون لا يعرفون كثيراً عما يجرى في تلك البقاع الشاسعة، وكان من العسير عليهم التجسس ومعرفة أبعاد قوتها، أو يقدروا مواردها. أضف إلى ذلك حيرتهم في سياسة القيصر المبهمة، فهي تارة سياسة لين وتفاهم، وهي تارة أخرى سياسة عدوانية وتهديد ووعيد.

ولكن على الرغم من سياسة التوسع التي اتبعها القياصرة. كان الروس يفتقرون إلى التنظيم والتجديد، وربط تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف بوسائل المواصلات الحديثة، مثلما فعلت الولايات المتحدة عندما بدأت في التوسع غرباً، ولذلك كانت الحياة الاقتصادية في روسيا تسير على نمط العصور الوسطى.

وتدل الإحصاءات الاقتصادية على مدى تأخر روسيا في ميدان التجارة حتى عام 1914، بالقياس إلى الدول الغربية، فلم تبلغ صادرات تلك الإمبراطورية الواسعة ووارداتها ما بلغته بعض الدول الأوربية الصغيرة. فقبل الحرب الكبرى بعام واحد، كانت تجارتها الخارجية تعادل نصف تجارة هولندا، التي لا يكاد يبلغ عدد سكانها 1/20 من سكان روسيا، ومساحتها 1/100 من مساحتها في ذلك الوقت، أضف إلى ذلك أن طبيعة التجارة الروسية تدل على مدى تأخرها، فقد كانت روسيا تستورد الفحم والمواد الكيميائية والأسلاك المعدنية والآلات والأسلحة والمنسوجات والمصنوعات المختلفة. أما صادراتها فكانت مقصورة على بعض المحصولات الأولية، كالحبوب والكتان والقنب والخشب والفرو والجلد ومنتجات الألبان، وهي الحاصلات التي تصدرها المستعمرات والدول الزراعية الصغيرة إلى الدول الصناعية، وذلك على الرغم من أن بلادها كانت غنية بالفحم والحديد والنفط والمعادن والقوى المائية. وقد كان ممكناً أن يساعدها ذلك على أن تكون من أعظم الإمبراطوريات الصناعية في العالم، ولكن كانت تنقصها رؤوس الأموال والعقول المفكرة المبتكرة، ولهذا كان أهم المرافق فيها، كالمصانع والسكك الحديدية وغيرها، تمولها رؤوس أموال أجنبية، وتذهب أرباحها إلى أصحاب تلك الأموال من الأجانب.

وظلت الحياة الاقتصادية تسير في روسيا على هذا النمط إلى أن قامت النهضة الصناعية في ألمانيا، وظهرت اليابان كدولة حديثة لها خطرها، عندئذ تنبهت روسيا إلى سوء حالتها، وأدركت الفائدة التي تعود عليها إذا اتجهت نحو تصنيع بلادها، وربطت بين أجزاء ولاياتها الشاسعة كما فعلت الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وبذلك تصبح روسيا أقوى دولة صناعية وأغنى البلاد الزراعية، ولاسيما إذا استخدمت قوتها في الرجال ومواردها الاقتصادية الكبيرة، ولكن روسيا ظلت في حاجة إلى قادة وزعماء يستطيعون أن يتغلبوا على مشكلاتها الرئيسية من حيث تعميم التعليم واكتساب المهارة الميكانيكية الدقيقة. وقد حاول إسكندر الثاني أن يلغى السخرة في عام 1861 ولكن ظل كثيراً من هؤلاء الرقيق عبيد عاداتهم، لا يريدون أن يبرحوا أرض أسيادهم، وأما من اختار من الفلاحين أن يبحث عن عمل له في المصانع، فإنه عانى كثيراً من ضروب الذل والفقر، وكان هؤلاء يعملون في المصانع، في ظروف سيئة، حوالي اثنتي عشرة ساعة في اليوم، فساءت حالتهم الصحية والمعنوية.

في مثل هذا المجتمع يستطيع المحرضون أن يجدوا الطريق ممهداً لهم بين العمال، وتكونت منهم جماعات على هيئة نقابات TRADE UNIONS تطالب بحق العمال في الراحة وزيادة الأجور والخدمات الإجتماعية، وظهرت بينهم، بعد عام 1900 حركات الإضراب والاعتصام، وقد كان عام 1905 من الأعوام العصيبة التي مرت بروسيا فقد انهزمت أمام اليابان، وضعفت الحكومة ضعفاً بيناً أمام الشعب، وانتهزت طبقة العمال الفرصة فغادر ثلاثة ملايين عامل مصانعهم، محتجين على طول ساعات العمل وانخفاض الأجور وشدة الطغيان. واضطر أصحاب الأعمال إلى استرضائهم بمنحهم بعض ما يطلبون، ولكن ذلك لم يقض على أسباب التذمر، التي كانت سياسية واقتصادية معاً.

محاولات الإصلاح

واستطاعت منظمات العمال الروس أن تحصل بالتدريج على معظم مطالبها، في الفترة ما بين 1900 و 1914. فمنذ عام 1903 أدخلت الحكومة نظام التأمين ضد الحوادث، والرعاية الطبية والإجازات المرضية بالمرتب الكامل، وارتفعت الأجور خمسين في المائة تقريباً. ومنذ بداية القرن العشرين ظهرت نهضة تعليمية وفكرية، ولكنها انحصرت في أقلية صغيرة بالنسبة إلى عدد السكان، أضف إلى ذلك أن صعوبة الاتصال، واختلاف اللهجات والعادات والأذواق، في بلاد مترامية الأطراف، يضعف وحدة الفكر والشعور بالقومية، حيث كان في روسيا عدة أقليات مختلفة في الجنس والقومية، كالبولنديين والفنلنديين واللتوانيين والجرمان واليهود والتتار وغيرهم، ممن يكونون حوالي ثلث رعايا القيصر، وقد حاولت الحكومات الروسية أن تعمل على إدماج تلك الأقليات في القومية الروسية بأية وسيلة، ولكنها اتخذت لتلك الغاية وسائل عنيفة قاسية زادت من تذمر تلك الأقليات وعداوتها للقومية الروسية، وفضلت أن تنطوي على نفسها محاولة الابتعاد عن الاضطهاد، لذلك كان ينقص تلك الدولة الكبرى حكومة مركزية، تستطيع أن تكتسب محبة رعاياها جميعاً، حتى يشعر كل منهم أنه مواطن روسي كامل الحقوق، وفي الوقت نفسه تحرر نشاطهم من القيود الثقيلة المفروضة عليهم فتحل الوحدة والانسجام محل الضغط والإكراه.

على أن التحول الاقتصادي والصناعي الذي حدث في روسيا، بعد عام 1900، كان له أثره في إيجاد نوع من الاتصال بين شعوب روسيا وجعلهم أكثر ارتباطاً وتجانساً عن ذي قبل، ووحد أذواقهم إلى حد كبير، وساعد على ذلك انتشار الصحافة، وظهور نهضة أدبية فكرية تزعمها عدد من المفكرين والكتاب، فكان لابد من انقلاب في نظم الحكم، ولكن لم يكن أحد يقدر أن ذلك الانقلاب سوف يتمخض عن الشيوعية.

ثانياً: مشكلة الدفاع

أما عن مشكلة الدفاع في روسيا فقد كان الجيش الروسي، قبل القرن العشرين، خاضعاً لقيادة ضباط غير أكفاء، وعلى الرغم من كثرة عدده، إلاّ أنه كان ضعيف العدة ضعيف التدريب. وكانت أسلحته عتيقة وتموينه مرتبكا، لا يصلح لخوض حرب حديثة. وقد تأخرت روسيا عن غيرها من الدول الأوربية في هذا المضمار، وظلت تبتاع ما تحتاج إليه من الأسلحة من فرنسا وبريطانيا ومن خصومها الألمان، وتدفع أثمان تلك الكميات الهائلة التي لابد من توزيعها على جيشها الكبير من صادراتها الزراعية، وفي عام 1910 فكرت روسيا في أن تؤسس في بلادها مصانع للأسلحة، لتكون في غنى عن إنفاق مواردها خارج بلادها، ومع ذلك فإنها لم تستطع تحقيق اكتفائها الذاتي، في التسليح، حتى قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وحاولت روسيا، منذ بداية القرن العشرين، أن تتبع النهضات الاقتصادية والصناعية في أوروبا، بمد السكك الحديدية لربط إمبراطوريتها، وهي الوسيلة التي كانت تتخذها الدول الأوربية للتوسع، ومد النفوذ، كمشروع ألمانيا في وصل برلين ببغداد، ومشروع إنجلترا في وصل القاهرة بمدينة الكاب، فمدت روسيا سكة حديد سيبيريا 1903، واتفقت على أن تمتد خطوطها، داخل إقليم منشوريا التابع للصين، حتى تصل إلى الميناء الروسي فلاديفستك. وقد دفعها التوسع نحو الشرق الأقصى إلى المطالبة، فيما بعد، بأن يكون لها مجال حيوي في شمال الصين، إذ كانت إمبراطورية الصين على وشك الانهيار مما جعلها محط أنظار الدول الأوروبية الكبرى.

ولكن أطماع اليابان في الصين جعلتها تتحدى روسيا وتعمل على منعها من التقدم في الشرق الأقصى وخصوصاً منشوريا وكوريا ولاسيما أن مد سكك حديد سيبيريا واختراقها لمنشوريا سوف يزيد من نفوذ روسيا في الشرق الأقصى، فلم يكد يمر عام، على إتمام سكة حديد سيبيريا، حتى استعد اليابانيون بكل قواهم واستطاعوا أن يطردوا القوات الروسية من حدود كوريا، وحطموا الأسطول الروسي خارج بورت أرثر وفلادفستك واستولوا على ميناء (بورت آرثر) في يناير عام 1905 فتقهقر الروس وتبعهم اليابانيون حتى مكدن “MUKDEN وهزموهم شر هزيمة.

ثالثاً: العدالة الاجتماعية

كان يحكم تلك الإمبراطورية الواسعة حاكم مطلق هو قيصر روسيا، الذي كان يعتمد، في حكم تلك الأقطار الموزعة النائية، على فريق من النبلاء، الذين كانوا بعيدين عن مقر الحاكم ولا رقيب عليهم، ومن ثم كان نظام الحكم، في الولايات الروسية جميعها، استبدادياً تعسفياً. وكان لهؤلاء النبلاء سلطان مطلق على فلاحيهم، إذ كان هؤلاء يعيشون رقيقاً مرتبطين بالأرض التي يزرعونها، كما كان الحال في أوروبا في العصور الوسطى، وظل هؤلاء الفلاحون مستسلمين في أول الأمر، نظراً لأن نفوذ الكنيسة كان يطغى على تفكيرهم، ولما كانت الكنيسة إذ ذاك خاضعة لنفوذ القيصر فقد بقى الشعب، عدة قرون، ساكناً خاضعاً لا يشكو ولا يتذمر.

وظلت الطبقة الوسطى في روسيا لا أثر لها على الرأي العام، نظرا لقلة عدد أفرادها، ولم يكن لها ما لنظيراتها في الدول الأوربية الأخرى من تأثير في حياة البلاد، فقد كانت طبقة التجار في روسيا من اليهود أو الأجانب، وكان اليهود الروس مكروهين من الشعب، وفي الوقت نفسه لم يحفزهم داعي القومية أو الوطنية إلى القيام بأي حركة شعبية، إذ كان اهتمامهم كله موجها إلى مصالحهم المادية قبل أي شيء آخر.

وبينما كان ملوك الغرب ـ رغم تمتعهم بالسلطة المطلقة ـ يعترفون بسلطان القانون، فإن القيصر لم يكن يعترف بوجود القانون، ومثال ذلك أن القيصر بول الأول (1796 – 1801) كان عندما تذكر كلمة القانون أمامه، كان يشير عندئذ إلى صدره، ويقول “هنا القانون” وبينما كانت دول الغرب، في القرن التاسع عشر، تجاهد في سبيل حريتها وتخليص شعوبها من الحكم المطلق، كان قياصرة الروس يتشبثون به، ويعملون على إخماد حركات الإصلاح واضطهاد القائمين بها.

على أن بعض القياصرة قد حاول ـ أمام ضغط الظروف ـ أن يدخل بعض الإصلاحات على النظم القائمة، ولكنها كانت في الواقع كإلقاء قطرة من الماء على حريق مشتعل، أضف إلى ذلك أن السلطة التي تكمل الحكم المطلق في روسيا، وتسنده وتدعمه، كانت سلطة النبلاء الروس، وهي سلطة بيروقراطية تكره التجديد وتحارب الإصلاح؛ لأن المبادئ الجديدة التي كان ينادي بها فريق من الأحرار الروس، تهدم ما كان يتمتع به هؤلاء الحكام من سلطان، وتحرمهم من الإثراء والتنعم على حساب الشعب. وقد وصف بعض المؤرخين تلك البيروقراطية الروسية بأنها كانت كالأرض الرملية، إذا رويتها بالماء لم تجد له أثراً. وهناك ظاهرة أخرى تجلت في بعض القياصرة، الذين رأوا أن يستجيبوا لدعاة الإصلاح، فكانوا يعطون قسطاً ضئيلاً من الحرية للشعب، ثم سرعان ما يتراجعون عندما يلمسون خطراً على سلطتهم، فيعود الحكم الصارم، وتُصادر الحريات، ويقبض على طلبة الجامعات، ويُنفى الأحرار إلى سيبيريا.

كانت حكومة القيصر نيقولا الثاني (1894 ـ 1917) تمر في أزمات شديدة، فقد قامت ثورات عديدة اشترك فيها طلبة الجامعات الروسية، والطبقة الوسطى، التي تشبعت بالثقافة الغربية والتي كانت تطالب بتعديل الدستور، وطبقة الفلاحين التي كانت تطالب بسن قوانين عادلة تنظم تأجير الأرض لهم، وعمال المصانع الذين انتشرت بينهم المبادئ الماركسية. أضف إلى ذلك تذمر القوميات المهضومة الحقوق الخاضعة لحكومة القيصر، وما تعرضت له الحكومة من سخط عدد كبير من أرباب الفكر المنفيين في سيبيريا، كل هذه الطوائف الحانقة على النظام القيصري شكلت جبهة ضخمة من المقاومة هددت النظام القائم. فقد كثرت حوادث الاضطرابات والتظاهر، وكان رد الحكومة على ذلك، استعمال العنف والاضطهاد كما حدث في يوم الأحد 22 يناير 1905، الذي سمى بالأحد الدامي، لكثرة ما سال فيه من دماء، عندما ذهب فريق من المتظاهرين العمال إلى قصر القيصر، لرفع ملتمسهم بزيادة الأجور وإنقاص ساعات العمل وإصدار الدستور، فقوبلوا بوابل من الرصاص فقُتل منهم سبعون عاملا وجرح مائتان، مما زاد في سخط الشعب على الحكومة القيصرية.

ولم يكن نيقولا الثاني بالرجل الذي يستطيع أن يقود السفينة وسط الزوابع، فقد اجتمع فيه ضعف الإرادة، إلى جانب الميل إلى العناد وعدم تقدير أهمية الحوادث، وكان يعتقد اعتقاداً راسخاً في الحكم المطلق، ومن ثم اختار وزراءه ممن يوافقونه على هذا المبدأ. ولكنه وجد المعارضة العنيفة من كل جانب، ولا سيما بعد هزيمة روسيا أمام اليابان، ولم يجد القيصر بداً من قبول نصيحة مستشاريه، فأصدر في أكتوبر عام 1905 بياناً، صرح فيه برغبته في أن يمنح الشعب ضمانات للحرية الشخصية، تتمثل في برلمان منتخب (DUMA)، ووعد بأن يكون لهذا البرلمان الحق في التصديق على التشريعات، التي تصدرها الحكومة. وقد قنع الأحرار المعتدلون بهذا التغير، الذي طرأ على سياسة القيصر، وقد سُمى هؤلاء بالأكتوبريين STSIREBOTCU، ولكن فريقاً من متطرفي الأحرار ـ كانوا لا يصدقون وعود القيصر ـ نادوا بوضع دستور رسمي للدولة وإصدار “قانون الحقوق”.

على أن زعماء الإصلاح كانت تنقصهم وحدة الرأي، واتحاد الكلمة، فلما اجتمع مجلس الدوما، وأظهر أعضاؤه شيئاً من التطرف وحرية الرأي حله القيصر، ولاقى المجلس الثاني الذي أعقبه المصير نفسه، ورأى القيصر أن يصدر مرسوماً بتعديل قانون الانتخاب بحيث سهل، في ذلك التعديل، سيطرة كبار الملاك على الانتخابات. وجاء المجلس الثالث وليد تدخل النبلاء والضغط على الناخبين، ومع ذلك لم تكن الحكومة تثق فيه، ولم يكن المجلس يثق فيها، وظل الصراع قائماً حتى قامت الحرب العالمية الأولى.

كان أعضاء مجلس الدوما ينتمون إلى عدة أحزاب سياسية، كلها تعارض الحكم المطلق. ولكنها لم تستطع أن تكون جبهة متحدة قوية ضد الحكومة، فالأكتوبريون كانوا يكتفون بتحقيق ما جاء في بيان أكتوبر عام 1905، الذي أصدره القيصر، وكانوا يهدفون إلى إقامة حكومة على نمط النظام البروسي، الذي يتعاون فيه البرلمان مع الملك.

أمّا أعضاء الحزب الثاني، وهم الديمقراطيون الدستوريون، (الكادت) “CADETS، فكانوا ينادون بأن تكون الحكومة مسؤولة أمام مجلس الدوما، وأن يملك القيصر ولا يحكم. إلى جانب ذلك كان هناك حزبان يساريان: حزب الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الثوريين الاشتراكيين.

وأما مسألة الأراضي فقد كان لكل حزب من هذه الأحزاب رأي في طريقة توزيعها: فالأكتوبريون يرغبون في توزيع بعض القطع على صغار الفلاحين، بحيث يصبح كل فلاح يملك القطعة الصغيرة التي كان يزرعها في الأراضي الواسعة. وأما الديمقراطيون الدستوريون فيطالبون بإلغاء ملكيات المزارع الواسعة ويطالبون الحكومة بأن تساعد الفلاح على شراء الأرض من الملاك الكبار، بالقرض اللازم الذي يسدده على أقساط طويلة المدى. أمَّا الديموقراطيون الاشتراكيون والثوريون الاشتراكيون فيتفقون على المطالبة بمصادرة جميع الأراضي في روسيا في الحال، ولكنهم يختلفون في الطريقة التي توزع بها تلك الأراضي، فالديمقراطيون الاشتراكيون يرون أن تكون الأراضي كلها ملكاً للدولة على أن تؤجر للفلاحين، أمّا الثوريون الاشتراكيون فهم يعارضون في أن تكون الحكومة هي المالكة للأرض، أو أن تُخصص أي أرض لفلاح بعينه، بل يرون أن يقوم نظام لاستثمار الأرض من خلال جماعات تعاونية من الفلاحين.

بداية الحركة الثورية في روسيا

بدأت الحركة الثورية في روسيا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. وسارت في محورين:

المحور الأول: انتفاضات الفلاحين

المحور الثاني: حركة الديسمبريين[1]

أمّا الانتفاضات الفلاحية فكان ينقصها الوعي السياسي. كان يُوحَى للفلاحين قروناً عديدة بالخضوع الكامل للقيصر، على أنه ممثل إلاّ له على الأرض. فهو الذي يستطيع أن يحميهم من جور الملاك ولذلك كانوا يناضلون لا ضد الحكم القيصري المطلق بل في سبيل استبدال القيصر بغيره أصلح منه. وكانت اضطرابات الفلاحين غير منظمة، وعفوية. وأمَّا الديسمبريون فقد كان لهم برنامجهم لتصفية نظام الحكم المطلق، وكانوا هم بداية الحركة الثورية في روسيا.

مرت الحركة الثورية في روسيا بثلاث مراحل

المرحلة الأولى: (من عام 1825 إلى عام 1861)

ووصفها لينين بعهد “ثورة الدفوريان” فقد خاض النضال ضد القيصر فريق من أفضل ممثلي طبقة الدفوريان، من أجل تحرير الشعب.

المرحلة الثانية: (من عام 1861 إلى عام 1895)

وصفها لينين بعهد الطبقات الاجتماعية المختلفة (رازنوتشينتسين)[2] أو المرحلة الثورية ـ الديموقراطية؛ إذ اشتركت في النضال أوساط أوسع من المثقفين. فكانوا أقرب إلى الشعب، وقدموا برنامجا أوسع للتحولات الثورية.

المرحلة الثالثة: (البروليتارية ـ من عام 1895 إلى عام 1917)

وانتهت بانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى. وصف لينين تاريخ الحركة الثورية في روسيا فذكر: “إننا نرى بكل وضوح ثلاثة أجيال، عملت في الثورة الروسية. في البدء ـ الدفوريان والملاك العقاريون ـ الديسمبريون وهرتزن. كانت حلقة هؤلاء الثوريين ضيقة. كانوا بعيدين عن الشعب بشكل هائل. ولكن قضيتهم لم تضع سدى. لقد أيقظ الديسمبريون هرتزن. ونشر هرتزن الدعاية الثورية.

وقد تلقفها ووسعها الثوريون المنتمون لمختلف المراتب الاجتماعية، ابتداء من تشيرنيشيفسكي وانتهاء بأبطال “إرادة الشعب”[3]. وأصبحت حلقة المناضلين أوسع وصلتهم بالشعب أقرب. سماهم هرتزن بـ “ملاحي العاصفة المقبلة الشباب”. والعاصفة هي حركة الجماهير نفسها. سارت البروليتاريا، وهي الطبقة الثورية الوحيدة حتى النهاية، في طليعتها، ودفعت ملايين الفلاحين لأول مرة إلى النضال الثوري السافر. وكان هجوم العاصفة الأول في عام 1905.

أولاً: المرحلة الأولى

تميزت بظهور حركة الديسمبريين، وانتفاضتها ضد الحكم القيصري. والديسمبريون جماعة من أفضل ممثلي الدفوريان الشباب، وجلهم من الضباط، رأوا منذ طفولتهم مساوئ نظام العبيد. وامتلأت نفوسهم حقدا ضد كل أنواع الظلم، وأيقنوا أنه يستحيل على البلاد أن تتطور في المستقبل دون القضاء على الظلم.

كان ديسمبريو المستقبل، وهم ذوو ثقافة شاملة، على إطلاع بأعمال الكُتاب الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وقرأوا آداب أوروبا الغربية الثورية، وأدركوا أهمية الثورة البرجوازية الفرنسية، في نهاية القرن الثامن عشر، التي وضعت حداً للنظام الإقطاعي في فرنسا، وأثرت تأثيراً كبيراً على نشر الحركة التحررية في بلدان أوروبا. وقد سمى الديسمبريون أنفسهم بأبناء عام 1812. وكتب الديسمبري بيستوجيف: “لقد غزا نابليون روسيا، وآنذاك أحس الشعب الروسي بقوته، وآنذاك استيقظ في القلوب شعور الاستقلال، السياسي أولاً، وبالتالي الاستقلال الشعبي. هذه هي بداية الفكر الحر في روسيا”.

اشترك الكثيرون من الديسمبريين في الحرب الوطنية وأظهروا بطولة حقيقية. لقد أدركوا أن بسالة الشعب الروسي أنقذت البلاد من الاستعباد، ورأوا، إضافة إلى ذلك، أن حالة الشعب بعد الحرب قد ساءت. فالفلاحون الذين حاربوا ببطولة ضد المحتلين، أعيدوا من جديد تحت سلطة الملاك. وأمعن الملاك في استغلال الفلاحين لتعويض خسائرهم في الحرب. وخيمت على روسيا فترة من الرجعية الحكومية الكالحة، سميت بالإراكتشييفية.

كان الجنرال أراكتشييف، وهو من المقريين إلى بافل الأول، قاسياً، ظالماً، ينافق القيصر، ومستعداً لتنفيذ جميع أوامره. وقد أعجبت هذه الصفات الكسندر الأول كذلك الذي تخلى بعد الحرب نهائياً عن الليبيرالية التظاهرية التي أبداها في بداية حكمه. فأصبح أراكتشييف بعد القيصر أول شخصية في روسيا والمنفذ الرئيسي للسياسة الرجعية.

وبأمر من الكسندر الأول أنشأ أراكتشييف تنظيمات عسكرية فلاحية. وتحولت قرى بكاملها إلى قرى عسكرية. وكان على الفلاحين أن يقضوا الخدمة العسكرية وأن يشتغلوا بالزراعة في آن واحد. وكان أبناء الفلاحين يبدأون التدريب العسكري منذ السابعة من العمر. وكان التدريب العسكري الشاق اللانهائي، والعمل المرهق والعقوبات القاسية وانتهاك الحرمة الشخصية والحرمان التام من الحقوق، سبباً في جعل حياة فلاحي القرى العسكرية جحيماً لا يطاق. ومن ثم قاموا مراراً بانتفاضات كانت القيصرية تقمعها بلا رحمة. واشتدت الكراهية للحكم المطلق وتأصلت روح الثورة لدى الديسمبريين ضد القيصرية ونظام الاستعباد.

منظمات الديسمبريين السرية الأولى

في عام 1816 تشكلت أول منظمة ديسمبرية سرية هي “اتحاد الإنقاذ” أو “جمعية أبناء الوطن المخلصين والأمناء”. وكان هدف “اتحاد الإنقاذ” تصفية نظام الاستعباد والمطالبة بنظام ملكي دستوري.

وفي عام 1818 أنشأ الديسمبريون منظمة جديدة بدلاً من “اتحاد الإنقاذ” وهي “اتحاد الإقبال”. كانت تضم زهاء 200 شخص. وقام أعضاء الاتحاد بنشر الدعاية للأفكار الثورية. وكانوا في خطبهم ومقالتهم الأدبية ينتقدون نظام الحكم المطلق ويفضحون استبداد الإقطاعيين وفساد الموظفين. وفي عام 1820 اتخذ “اتحاد الإقبال ” قراراً بضرورة إقامة جمهورية في روسيا.

كان الديسمبريون من الثوريين الدفوريان يعتقدون أن الانقلاب الثوري يمكن تحقيقه بمساعدة الجيش فقط من دون اشتراك الجماهير الشعبية. ولكن الحكومة ألغت “اتحاد الإقبال”.

وفي أعوام 1823 ـ 1825 وسع الديسمبريون نشاطهم. وازداد عدد المنتسبين إلى المنظمات السرية بشكل كبير.

انتفاضة 14 ديسمبر عام 1825

في نوفمبر عام 1825 مات الإمبراطور الكسندر الأول فجأة وكان قسطنطين، وهو الأخ الأكبر لالكسندر، قد تنازل قبل هذا الوقت، عن العرش لأخيه نيقولاي.

استعد الديسمبريون للانتفاضة بشجاعة وحزم. وفي عشية الحركة قصد بعض أعضاء الجمعية إلى ثكنات الجنود يدعونهم إلى رفض أداء اليمين لنيقولاي. وازدادت الحشود والمظاهرات وأمر نيقولاي باستخدام المدفعية ضد المنتفضين وقصفهم بالقنابل. وقبيل حلول الليل كانت الانتفاضة قد سحقت. تبع ذلك انتفاضة أخرى عام 1825 في أوكرانيا. ولكن الحكومة سحقتها وسقطت أعداد ضخمة قتلى.

وقد نكلت الحكومة القيصرية بالديسمبريين بوحشية. فجرى تحقيق مع (579) شخصاً، وحكم على أكثر من (100) منهم بالأشغال الشاقة والنفي إلى سيبيريا، وجرد الكثيرون من رتبهم أو أرسلوا إلى مختلف المحافظات ووضعوا تحت مراقبة الشرطة. أما الجنود الذين اشتركوا في الانتفاضة فقد جرى إمرارهم وسط الصفوف[4] وأرسلوا إلى كتائب التأديب في الجيش. وحكم على خمسة من الديسمبريين بتقطيع أجسامهم إلى أربعة أجزاء.

لقد وضع الديسمبريون بانتفاضتهم بداية الحركة الثورية في روسيا، وتأثرت بهم الأجيال اللاحقة من الثوريين.

ثانياً: المرحلة الثانية للحركة الثورية الروسية (1861 – 1895)

في نهاية العقد السادس من القرن التاسع عشر نشأ في روسيا وضع متوتر للغاية هدد بحدوث انفجار ثوري وبانتفاضة جماهيرية بين صفوف الفلاحين. فقد بلغت أزمة النظام الإقطاعي أقصى حدتها. وكشفت حرب القرم عن انهيار النظام القيصري وتخلف روسيا تكنيكياً واقتصادياً وازدادت حدة التناقضات الاجتماعية إلى أقصى حد. وقد وصف لينين هذه الفترة بأنها فترة المخاض الثوري في روسيا.

واتسعت حركة الفلاحين اتساعاً كبيراً فقد بلغت حوالي 80 إضراباً خلال أعوام 1855 ـ1860. ومع أن حركة الفلاحين كانت عفوية وغير منظمة، فقد سددت ضربات قاصمة للنظام الإقطاعي.

لم يكن الفلاحون الروس وحدهم في النضال. فلقد ساندهم معسكر الديموقراطية الثورية الذي نشأ في هذه المرحلة. وبدأت في روسيا مرحلة حركة تحرر ديموقراطية ثورية (1861 ـ 1895).

فقد هب للنضال صفوة ممثلي المثقفين الدفوريان وممثلو مختلف الطبقات الاجتماعية ـ من صغار البرجوازيين والموظفين ورجال الدين. وأصبح نشاطهم العملي موجها للدفاع عن مصالح الفلاحين.

بيان 19 فبراير عام 1861

إزاء ضغط التمرد، ولامتصاص الحماس الثوري صَّدق القيصر ألكسندر الثاني في 19 فبراير عام 1861 على مشاريع القوانين المتعلقة بتحرير الفلاحين ودعا الشعب إلى الهدوء والطاعة.

ونال الفلاحون حريتهم. فلم يعد الإقطاعيون من الآن فصاعداً يملكون شراءهم أو بيعهم أو التصرف فيهم كأنهم ممتلكات خاصة. وأصبح بإمكان الفلاحين أن يتزوجوا دون إذن من الملاك وأن يعقدوا اتفاقيات وصفقات تجارية…إلخ.

حوالي العقد الثامن من القرن التاسع عشر اشتدت الحركة الفلاحية من جديد. تفجرت اضطرابات في أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان ومنطقة الفولجا وفي غيرها من مناطق روسيا. وطالب الفلاحون بإلغاء جميع الضرائب وبإعادة الأراضي التي سلبت منهم من قبل.

وكان تأسيس الأممية الأولى، التي ترأسها المفكران والثوريان كارل ماركس وفريدريك أنجلس، في عام 1864 أهم عامل للحركة الثورية العالمية. في العالم بأسره.

وفي عام 1870 شكل فريق من المهاجرين الروس الفرع الروسي للأممية الأولى وطلبوا من ماركس رئاسة هذا الفرع في المجلس العام، فوافق. ولم تكن الظروف قد تهيأت لتقبل الأفكار الاشتراكية العلمية داخل البلاد. إلا إن تأسيس الفرع الروسي دل على ظهور اهتمام بالماركسية والحركة العالمية بين الثوريين الروس.

كان الشعبيون الثوريون هم ممثلي الحركة الديموقراطية الثورية آنذاك وقد سُموا بالشعبيين نظراً لتعاطفهم العميق مع آلام الشعب، ولدفاعهم عن مصالحه. فقد طالب الشعبيون بتوزيع الأرضكلها للفلاحين مجاناً وبإلغاء نظام الحكم المطلق، وكافة امتيازات طبقة الدفوريان، ووقف تسلط الشرطة وفساد الموظفين. وكان الشعبيون يرون أن النظام الشيوعي سيتيح لروسيا تخطي الرأسمالية.

انتشرت حركة الشعبيين انتشاراً واسعاً. شملت المحافظات الروسية إضافة إلى بيلوروسيا وأوكرانيا وجورجيا وغيرها، من المناطق القومية في البلاد. وتحرك الشباب الثوري يناضل من أجل الحرية. كان نضالاً بطولياً، ولكنه غير متكافئ، لحفنة من الثوريين ضد القيصرية المدججة بالسلاح. وقد أثار هذا النضال إعجاب الشعوب المحبة للحرية في العالم أجمع.

فشلت المحاولات لدفع الفلاحين للقيام بالثورة. فاعتقل قرابة 800 شخص وحكم على الكثيرين منهم. إلاّ أن الحكومة الروسية لم تستطع أن تقمع الحركة الثورية.

أسس الشعبيون منظمة ثورية سرية هي “الأرض والحرية” في عام 1876. وكانت منظمة ثورية. وقد وضعت مطالب يفهمها الفلاحون مثل: عدالة توزيع الأرض على الفلاحين وتخفيف الضرائب. وقد بث أعضاء “الأرض والحرية” أفكارهم بين العمال والمثقفين كذلك. إلاّ أن دعايتهم لم تحرز نجاحاً كبيراً.

دمرت الشرطة أكثر قرى الشعبيين هذه، أما ما بقي منها فقد اقتصر نشاطها على النشاط الثقافي فقط. بينما تزايد السخط بين صفوف الثوريين، وتحركت جماعات منهم لتنفيذ عمليات إرهابية ومن جملة الأسباب التي دفعتها إلى ذلك، سياسة الحكومة القيصرية. التي نكلت بقسوة بالثوريين فزجت مئات منهم في السجون، أو حكمت عليهم بالأشغال الشاقة، أو نفتهم.

في عام 1879 حدث انقسام داخل منظمة “الأرض والحرية”. فقد تحول قسم من الشعبيين نهائياً إلى الإرهاب الفردي بعد أن رأى عدم جدوى المحاولات لاستنهاض الفلاحين للقيام بالثورة. وأسست منظمة مستقلة هي “إرادة الشعب”. ووضعت برنامجاً واسعاً للإصلاحات الديموقراطية مطالبة بعقد المجلس التأسيسي، وإجراء الانتخابات العامة وحرية التعبير والنشر الخ.

بينما ظل الباقون على مواقفهم القديمة التي تنكر النضال السياسي، فأنشأوا منظمتهم باسم “التقسيم الأسود” التي ظلت ترى أن الدعاية بين الفلاحين هي المهمة الأساسية للثوريين. إلاّ أن هذه المنظمة لم تعمر طويلاً. فقد مالت أكثرية الشعبيين إلى الإرهاب. وجعلت منظمة “إرادة الشعب” مهمتها الرئيسية قتل القيصر على أمل أن يكون ذلك إشارة لبدء الثورة.

وقام أعضاء منظمة “إرادة الشعب” بعدد من الأعمال الإرهابية ضد القيصرية. ولكنهم لم يحققوا النتائج المتوخاة فقد ردت الحكومة على كل عمل إرهابي بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن.

الاتحادات العمالية الأولى

قاد الشعبيون النشاط الدعائي بين الحلقات العمالية الثورية. وقد ساعد نشاط الشعبيين في زيادة وعي العمال سياسياً وجذبهم إلى النضال الثوري. كان حال العمال صعبا للغاية. فيوم العمل الطويل والأجور المنخفضة وظروف السكن الرديئة واستبداد الإدارة جعلت من حياة العمال جحيماً لا يطاق. فهب العمال للنضال ضد الرأسماليين. وكان الإضراب هو الشكل الأساسي للنضال، وكانت مطالب العمال هي: زيادة الأجور، تخفيض ساعات يوم العمل إلى 11 ـ 12 ساعة. إلغاء الغرامات الجائرة، وإعادة العمال المطرودين. وقد واجهت السلطات حركة العمال بالشدة، وزجت بأفرادها إلى السجون، أو أرسلت بهم إلى المنفى.

وكان إضراب عمال مانيفا كتورة كرينغولم في عام 1872 أضخم نضالات البروليتاريا في هذه المرحلة. وكان هذا أول عمل مشترك بين البروليتاريا الروسية والأستونية.

إلاّ أن دعاية الشعبيين التي كانت تعكس مصالح الفلاحين لم تكن كافية لإرضاء العمال، فأخذوا يبحثون عن أشكال تنظيم أخرى.

وفي عام 1875 تشكلت في أوديسا أول منظمة عمالية مستقلة هي “اتحاد العمال في جنوب روسيا” تضم 200 ـ250 عضواً ومؤيداً. ووضع “الاتحاد” مهمة له هي النضال ضد النظام السياسي القائم. قُضي عليها، وألقي بـ 15 من أعضائها النشيطين في السجون.

وإلى هذه المرحلة يعود تاريخ أولى المظاهرات السياسية في روسيا. فقد لعب عمال بطرسبورج دوراً كبيراً في مظاهرة كازان عام 1876. فتجمع بضع مئات من المتظاهرين، من العمال والمثقفين، في شارع نيفسكي بالقرب من كاتدرائية كازان. ورفع العامل الشاب بوتابوف فوق الحشد علماً أحمر. وأظهرت هذه المظاهرة السياسية الأولى في روسيا قوة العمال التقدميين ووعيهم، وأصبحت صورة بارزة في الحركة الديموقراطية والعمالية.

وفي عام 1878 تشكلت من حلقات عمال بطرسبورج منظمة عمالية أخرى أكبر، هي “الاتحاد الشمالي للعمال الروس”. ووضع برنامج “الاتحاد الشمالي” مهمة له، هي “قلب نظام الدولة السياسي والاقتصادي القائم، باعتباره نظاماً غير عادل للغاية”. وقد نسب البرنامج الدور الرئيسي في الثورة المقبلة للبروليتاريا. وأعلن البرنامج تضامن كافة عمال البلاد معترفاً بأهمية النضال من أجل الحرية السياسية.

الوضع الثوري في عامي 1879 ـ 1880 انهيار حركة الشعبيين

اشتدت الاضطرابات الفلاحية بشكل ملحوظ. وأصبحت الحركة العمالية عاملاً جديداً. وضاعف أعضاء “إرادة الشعب” من نشاطهم فقاموا بعدد من الأعمال الإرهابية ونصبوا كميناً حقيقياً للقيصر الكسندر الثاني. وقام أعضاء “إرادة الشعب” بخمس محاولات فاشلة لاغتيال القيصر ومنها تفجير المطعم في القصر الشتوي.

وفي مارس عام 1881 استطاع أعضاء “إرادة الشعب” اغتيال القيصر، وبذلوا كل ما لديهم من قوة لتنظيم هذا الاغتيال. وقد أثار مقتل القيصر انطباعاً كبيراً، لا في روسيا وحدها، بل وفي الخارج كذلك، ولكنه لم يجلب للشعب أية فائدة. فأخذ مكان القيصر القديم قيصر جديد. واستطاعت القيصرية أن تحافظ على مواقعها.

ثالثاً: المرحلة الثالثة : مرحلة البروليتاريا (1895 – 1917)

بعد اغتيال القيصر على يد أعضاء “إرادة الشعب”، تعرضت الحركة الثورية للقهر والملاحقات الشرطةية والقمع الوحشي واعتلى العرش ألكسندر الثالث (1881 ـ 1894) وهو الابن الأكبر لألكسندر الثاني. وكان محدود الفكر، رجعياً إلى أقصى حد. وقد صرح في بيانه أنه سيدافع، بكل ما أوتي من قوة، عن الحكم القيصري “ضد كل التطاولات عليه”.

فرضت الحكومة حالة الطوارئ وأصبح من حق الحاكم اعتقال المشتبه فيهم وتقديمهم للمحكمة العسكرية أو نفيهم من المحافظة دون محاكمة أو تحقيق، وإغلاق المؤسسات الصناعية والتعليمية. وأصبحت الشرطة القوة المسيطرة على الأمور.

ومن ثم استمر نمو الحركة العمالية. وفجرت في روسيا خلال خمس سنوات (1890 ـ1894) 264 إضرابا اشترك فيها زهاء 200 ألف شخص.

وكان للاحتفال بيوم الأول من مايو، عيد العمال العالمي، الذي أقره المؤتمر الأول للأممية الثانية في عام 1889، أهمية كبرى. ففي عام 1891 عقد عمال بطرسبورج لأول مرة اجتماعاً سرياً بمناسبة أول مايو في غابة خلف بوابة نارفا. وقد طبعت خطب العمال في هذا الاجتماع وصدرت في جنيف. ومنذ ذلك الوقت أصبح الاحتفال بأول مايو تقليداً ثورياً للبروليتاريا في روسيا.

وفي عام 1892 شمل إضراب أول مايو، الذي جرى في مدينة لودز، (30) ألف شخص. وانتهى باصطدام مع قوات الجيش والشرطة مما أدى إلى ثورة العمال. وقد استولى العمال الثائرون على السجن والثكنات. فوجهت القيصرية 40 ألف جندي ضد عمال مدينة لودز، وقتلت الكثيرين منهم.

نشاط لينين الثوري

ولد قائد البروليتاريا العمالية فلاديمير أيليتش لينين (أوليانوف) (1870 ـ 1924). في 22 أبريل 1870 في مدينة سيمبيرسك Simbrsk (أوليانوفسك حالياً). وكان شقيق لينين الأكبر الكسندر من جماعة “إرادة الشعب”، أُعدم في عام 1887 لاشتراكه في محاولة اغتيال القيصر الكسندر الثالث. أنهى لينين دراسته الثانوية وحصل على الميدالية الذهبية، والتحق بكلية الحقوق في جامعة قازان، ولكنه طرد منها، بعد وقت قصير، لاشتراكه في المظاهرات الطلابية. إلاّ أن لينين لم ينقطع عن الدراسة. فأثناء وجوده في المنفى، بقرية كوكوشكينو التابعة لمحافظة قازان، واصل لينين دراسته وفي عام 1891 اجتاز الامتحانات بنجاح في كلية الحقوق بجامعة بطرسبورج. وفي هذا الوقت بالذات بدأ يدرس الماركسية بتعمق، وقد اشترك لينين في الحلقات الماركسية في قازان أولاً ثم في ساماراً (مدينة كويبيشيف حالياً).

وفي عام 1893 انتقل لينين إلى بطرسبورج وأخذ، عن قريب، يلعب دوراً قيادياً في الأوساط الماركسية. فأخذ يتصل بالعمال ويدير بنفسه الدروس في الحلقات العمالية. وكانت أحاديثه تتميز بالبساطة والوضوح والمقدرة على ربط النظرية الماركسية بمطالب العمال.

وكانت لكتاب لينين “من هم “أصدقاء الشعب” وكيف يحاربون الاشتراكيين ـ الديموقراطيين؟ ” (1894) أهمية بالغة. فقد بين لينين أن حركة الشعبيين قد تحولت من تيار ثوري إلى تيار ليبيرالي، وأنها تخلت عن النضال الثوري وأخذت تتفاهم مع الحكم المطلق، وأنها أصبحت أيديولوجية طبقة الكولاك في الريف. وكان لينين هو أول من قدم الفكرة القائلة بالتحالف الثوري بين الطبقة العاملة والفلاحين بقيادة البروليتاريا، بوصفه وسيلة رئيسية في النضال، ضد الحكم المطلق والرأسمالية.

تحت قيادة لينين تمت مهمة توحيد الاشتراكية مع الحركة العمالية. فمنذ عام 1894 بدأ ماركسيو بطرسبورج ينتقلون من الدعاية في الحلقات العمالية إلى التحريض السياسي، بين جماهير العمال، وأقاموا اتصالات أوثق مع الحركة العمالية. فتشكلت الحلقات في كل أحياء العاصمة تقريباً وكان لها نفوذ وسط العمال. ولدى كل حركة يقوم بها العمال أصدرت هذه الحلقات منشورات خاصة تتحدث فيها عن حاجات العمال وتصيغ مطالبهم.

وفي صيف 1895 سافر لينين إلى الخارج فأقام صلات وثيقة مع جماعة “تحرير العمل”. وفي خريف 1895 توحدت، بمبادرة من لينين، الحلقات الاشتراكية ـ الديموقراطية المتفرقة في بطرسبورج، في منظمة موحدة، هي “اتحاد النضال في سبيل تحرير الطبقة العاملة”. وكان على رأسها الفريق المركزي التنظيمي من 17 شخصاً الذي انتخب المكتب القيادي. ومن أعضاء المكتب لينين، كرجيجانوفسكي، وفانييف وغيرهم. وأصبح لينين كذلك محرر جميع مطبوعات “الاتحاد”.

وأصبح “اتحاد النضال” قوة كبيرة في الحركة العمالية. وتبنى “الاتحاد” في المنشورات، التي أصدرها حول وضع العمال، المطالب الاقتصادية والسياسية للبروليتاريا وأصبحت الحركة العمالية الجماهيرية تحت القيادة الفكرية والتنظيمية للمنظمة الاشتراكية ـ الديموقراطية. وبدأت في روسيا مرحلة جديدة للحركة التحررية ـ المرحلة البروليتارية.

وفي ديسمبر عام 1895 اعتقلت الحكومة (88) عضواً من أعضاء “الاتحاد”، ومن بينهم لينين. وكانت هذه ضربة شديدة للحركة العمالية. ولكن “الاتحاد” لم يوقف نشاطه، السياسي وإصدار المنشورات. وكتب لينين، وهو في السجن، عدداً من المنشورات إلى العمال ومشروع برنامج الحزب وفي عام 1897 نُفى لينين لمدة ثلاث سنوات إلى سيبيريا.

وفي أواسط العقد العاشر شهدت الحركة العمالية نمواً كبيراً. ففي مايو عام 1896 حدث إضراب عمال النسيج شمل (30) ألف شخص. وكان المطلب الرئيسي للعمال هو تخفيض ساعات العمل إلى عشر ساعات ونصف. وقد انضم إلى الإضراب عمال التعدين وغيرهم من عمال بطرسبورج. ولكن الحكومة أرغمت المضربين على العودة إلى العمل بعد أن اعتقلت بعضهم، ووعدت بتحقيق بعض مطالبهم.

 وفي يناير عام 1897 حدث إضراب آخر في بطرسبورج اشترك فيه (20) ألف شخص. وقد نكلت الحكومة بلا رحمة بالمضربين واعتقلت أكثر من ألف شخص.

ولكن الحركة العمالية عمَّت محافظات كثيرة في الإمبراطورية الروسية. وكان عمال النسيج أكثر العمال نشاطاً. وتبعهم فئات العمال الأخرى. وبلغ مجموع الإضرابات، التي حدثت من عام 1899 (735) إضراباً، اشترك فيها أكثر من 220 ألف شخص. وكانت المطالب الرئيسية هي تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور. وفي عام 1897 اضطرت الحكومة إلى إصدار قانون تخفيض ساعات العمل إلى 11 ساعة ونصف في النوبات النهارية، وإلى 10 ساعات في النوبات الليلية. وكان هذا انتصاراً كبيراً أحرزته الطبقة العاملة في روسيا.

وكانت الإضرابات التي وقعت تحت قيادة الاشتراكيين ـ الديمقراطيين، كما قال لينين، “بداية مرحلة إعداد الثورة الشعبية”. وتشكيل ودعم الحلقات الاشتراكية ـ الديموقراطية التي اتخذت اسم “اتحادات النضال”. ونظم الاشتراكيون ـ الديمقراطيون في بطرسبورج اجتماعات مع رفاقهم المحليين وزودوهم بالنصائح والمطبوعات.

تأسيس الحزب الثوري الماركسي

منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أخذ مركز الحركة العمالية العالمية ينتقل من بلدان أوروبا الغربية إلى روسيا. فقد أصيبت الحركة العمالية في بلدان أوروبا الغربية بالضعف. بعد موت ماركس وإنجلس. وأصبحت البروليتاريا في روسيا طليعة الحركة العمالية العالمية. وتحالف الفلاحون مع البروليتاريا في النضال ضد القيصر والرأسمالية.

قدمت الطبقة العاملة الروسية أكثر النظريات الثورية تقدمية، وهي اللينينية التي ترمز إلى مرحلة جديدة في تطور النظرية الماركسية وبناء الاشتراكية. وأسست الطبقة العاملة الروسية أكثر الأحزاب البروليتارية ثورية، وهو حزب البلاشفة الذي قاد نضال الطبقة العاملة في الثورة الاشتراكية.

وأسهم نشاط اللجان الاشتراكية ـ الديموقراطية وبنوع خاص الجريدة اللينينية “الأيسكرا” (“الشرارة”)، التي صدرت في عام 1900، في نمو وعي العمال السياسي وتنظيم صفوفهم.

وكان الطابع المميز للحركة العمالية في ذلك الوقت هو امتزاج المطالب الاقتصادية بالمطالب السياسية بالحريات السياسية وتصفية الحكم المطلق.

وقعت في أول مايو 1900، و1901 مظاهرات وإضرابات ضخمة في عدد من مدن البلاد. وكانت مظاهرة أول مايو 1902 في مدينة سورموفو (بالقرب من نيجني نوفغورود) والإضرابات في باكو وروستوف على نهر الدون، من أكبر إضرابات العمال.

كذلك بدأ الإضراب في مدينة روستوف في نوفمبر 1902. وطالب العمال بمعاملة إنسانية وتخفيض ساعات العمل إلى 9 ساعات وزيادة الأجور 20 بالمائة وإنشاء مدارس للأطفال. إلا أن الإضراب ما لبث أن تحول إلى حركة سياسية ضخمة، واشتركت في الإضراب كافة مؤسسات المدينة وبلغ مجموع المضربين ثلاثين ألف شخص.

وكتب مراسل جريدة “الأيسكرا” عن أحد هذه الاجتماعات التي نظمها عمال روستوف على نهر الدون فقال إن المجتمعين يحاصرهم القوزاق والشرطة. وأمر قائد الشرطة العمال بالتفرق. ولكن العمال رفضوا فصدر أمر إلى القوزاق بضرب العمال بالسياط. ولكن ألوف العمال جلسوا أرضاً بناء على إشارة من الخطيب. فتوقفت الخيول. وتوجه أحد المجتمعين إلى القوزاق دعاهم فيه إلى عدم التصدي للشعب. فانسحبت قوات الشرطة.

ثم نشبت بين العمال والقوزاق معارك انتهت بإطلاق النار على العمال العزل من السلاح مما آثار سخط الشعب بأسره.

في عام 1903، تزايدت الإضرابات، وضمت ضعف العمال الذين شاركوا في إضراب 1902، أمّا الإضراب العام لعمال جنوب روسيا، الذي جرى في شهر يوليو عام 1903، فقد كان ضخماً بنوع خاص.

الحركة الفلاحية

أسهمت النضالات العمالية الثورية في نمو الحركة الفلاحية. التي كانت لا تزال عفوية وغير منظمة. إذ كان الفلاحون يحرقون ممتلكات الدفوريان ويقطعون الأشجار ويتلفون مزارع الإقطاعيين وتحولت إضرابات الفلاحين في أوكرانيا في عام 1902 إلى ثورة علنية اشترك فيها زهاء 150 ألف شخص. ولم تتمكن الحكومة من قمع الثورة إلا بعد تدخل الجيش الذي جلد أفرادها وضرب الفلاحين واعتقل أكثر من ألف فلاح وألقى بهم في السجون.

تأسيس الحزب الثوري الماركسي في روسيا

أظهر تنامي الحركة العمالية والفلاحية أن الثورة أخذت تنضج في البلاد. وبرزت في هذه الظروف بقوة مهمة تأسيس حزب ثوري ماركسي، يستطيع أن يقود الطبقة العاملة إلى إسقاط نظام الحكم المطلق.

وفي نهاية العقد العاشر بدأ لينين وضع خطة لتأسيس حزب ماركسي يقود الحركة العمالية. خصص في المرحلة الأولى الدور الحاسم في توحيد القوى الحزبية وتجميعها في حزب بروليتاري له صحيفة سياسية ثورية تنتشر في روسيا كلها. تكون مركزا تنظيميا لجمع قوى الثوريين. وأصبحت “الأيسكرا” اللينينية تلك الجريدة. بدأت تصدر، تحت قيادة لينين، في ديسمبر 1900 في الخارج إلى أن عاد لينين من المنفى. وأصبح شعار جريدة “الأيسكرا”: “ومن الشرارة سيندلع اللهيب” هذه الكلمات التي ترمز إلى تطور الثورة الروسية.

وكانت “الأيسكرا” تطبع على ورق رقيق، وتنقل إلى أنحاء روسيا سراً وتوزع بين التجمعات الثورية العمالية. ومن أجل تلبية الطلب المتزايد على الجريدة تأسست في روسيا مطابع محلية، كانت تعيد طباعة “الأيسكرا” لتوزيعها على قطاعات جماهيرية سراً، في ظروف صعبة للغاية، وتحت خطر الاعتقالات. وقد أسهمت “الأيسكرا” بدور فكري وتنظيمي ضخم في الإعداد لتأسيس حزب ماركسي في روسيا. ونشر أفكار الأممية البروليتارية وتربية العمال على النضال الطبقي بلا هوادة ضد الأيديولوجية البرجوازية والتيارات الانتهازية. ودعت الجريدة العمال إلى الكفاح ضد القيصرية وإلى جذب جماهير الفلاحين إلى جانبهم كحليف للبروليتاريا.

وكان لنشر مشروع برنامج الحزب أهمية كبرى في جمع الصفوف الثورية. ففي هذه الوثيقة صيغت مهام الحزب المباشرة والنهائية وتحددت طرق وأساليب البروليتاريا. وتكون حول “الأيسكرا” قطاع نشط من الثوريين الذين أصبحوا ممثليها في المنظمات الاشتراكية ـ الديموقراطية المحلية وقادة النضالات الثورية للبروليتاريا الروسية. وقد لعب دوراً بارزاً في نشر الأفكار اللينينية، وفي تأسيس حزب بلشفي، ثوريون أمثال بابوشكين، باومن، كالينين، زرجينسكي، سفيردلوف، شاوميان، كرجيجانوفسكي، فوروفسكي وكثيرون غيرهم. وأصبحت “الأيسكرا”، كما توقع لينين، “داعياً جماعياً ومنظماً جماعياً”.

اعترفت أكثر اللجان المحلية في روسيا بـ “الأيسكرا” واعتمدت في نشاطها على إرشاداتها. ساهم انتصار الاتجاه الأيسكري اللينيني في عقد المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي ـ الديموقراطي الروسي الذي لعب دوراً تاريخياً في مصائر روسيا والحركة الثورية العالمية.

انعقد هذا المؤتمر في يوليه 1903 (في مدينة بروكسل ثم في لندن). وحضره 43 مندوبا يمثلون 26 منظمة. وكان أكثر المندوبين من أنصار اتجاه “الأيسكرا” اللينيني. وصادق المؤتمر على برنامج الحزب، الذي صيغت فيه الأهداف النهائية للبروليتاريا (برنامج الحد الأقصى)، وكذلك المهمات المباشرة (برنامج الحد الأدنى). وجاء في البرنامج أن الهدف النهائى لنضال البروليتاريا هو بناء الاشتراكية، عن طريق تحقيق الثورة الاشتراكية، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا.

وحدد برنامج الحد الأدنى مهمات البروليتاريا، في مرحلة الثورة الديموقراطية البرجوازية : قلب نظام الحكم المطلق، وإقامة الجمهورية الديموقراطية، وإزالة جميع آثار نظام الاستعباد في الريف، وتحديد ساعات العمل بثمان ساعات، وتحقيق المساواة التامة في الحقوق. أما فيما يتعلق بمسألة القوميات، فقد تبنى المؤتمر الثاني البرنامج اللينيني وينص على حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها حتى الانفصال التام. وقد عكس هذا البرنامج مصالح كافة الشعوب التي كانت تدخل في قوام روسيا، وأسهم في تعزيز الصداقة بين الشعوب في النضال المشترك ضد القيصرية.

ولدى انتخاب اللجنة المركزية حصل أنصار لينين على أغلبية الأصوات. ومنذ ذلك الحين، سمى ذلك القسم من حزب العمال الاشتراكي ـ الديمقراطي الروسي، الذي تبع لينين وأيده، بالبلاشفة (أي الأغلبية)، أما الذين حصلوا على الأقلية لدى انتخاب قيادة الحزب فقد سموا بالمناشفة (أي الأقلية). وقد كتب لينين يقول: “أن البلشفية موجودة كتيار للفكر السياسي وكحزب سياسي منذ عام 1903”.

وتحت قيادة هذا الحزب، أحرزت الطبقة العاملة النصر في الثورة الاشتراكية، وتبني الشيوعية في الاتحاد السوفيتي.

البرجوازية والقيصرية عشية ثورة 1905 ـ 1907

في نهاية القرن التاسع عشر أصبحت البرجوازية في روسيا تشكل قوة اقتصادية كبيرة، إذ ركزت في يدها ثروات عظيمة. ولم تكن هناك في روسيا هيئة تمثيلية ـ أي البرلمان ـ تستطيع البرجوازية فيها أن تعبر عن حاجاتها وتدافع عن مصالحها. إذ أن القيصرية كانت تتحكم بصورة مستبدة في مصائر الدولة الشاسعة. وهي وإن كانت تدافع عن مصالح البرجوازية، إلا أن البرجوازية الليبيرالية كانت تعتقد أنها تستطيع أن تقوم بهذا العمل بشكل أفضل، لو أنها اشتركت بنفسها في إدارة البلاد. لقد كان الطموح إلى السلطة السياسية أحد أسباب انتعاش الحركة الليبيرالية.

أما السبب الآخر فهو نمو الحركة العمالية وحركة الفلاحين، مما أنذر بثورة شعبية. وكانت البرجوازية تأمل عن طريق زيادة نشاطها السياسي أن تخضع لها الحركة الثورية وأن تحول، بهذا الشكل، دون وقوع الثورة. وكانت مستعدة للتفاهم مع الحكم المطلق، على أن يتنازل لهم عن شئ من سلطته، وقد ظنوا أنهم بهذه الطريقة يستطيعون، من جهة، تقوية نفوذهم في الدولة، وأن يصرفوا، من جهة أخرى، الطبقة العاملة والفلاحين عن إشعال الثورة.

في بداية القرن العشرين أخذت تتشكل في روسيا أحزاب برجوازية. ففي عام 1902 تشكل من بقايا جماعات الشعبيين حزب الاشتراكيين الثوريين. الذين حاولوا بعث نظرية الشعبيين حول الشيوعية وانتهجوا طريقة الإرهاب. وقد أتخذ هذا الحزب مسمى الاشتراكية. ولكنه كان في الواقع حزب البرجوازية الصغيرة. ولهذا خاض البلاشفة صراعاً عنيداً ضد الاشتراكيين الثوريين وبينوا بطلان نظريتهم وتكتيكهم.

وفي عام 1904 نشأت منظمة البرجوازية الليبيرالية الروسية، “اتحاد التحرر”، الذي تحول فيما بعد إلى حزب “الكاديت”، (وكلمة الكاديت تضم الأحرف الأولى للحزب الديمقراطي الدستوري)، الذي كان يهدف إلى الحصول على تنازلات من الحكم المطلق، وإلى إخضاع الحركة العمالية لنفوذه.

إلا أن هذه المحاولات لم تتكلل بالنجاح. فقد ناضلت الطبقة العاملة التي كان يوجهها الحزب البلشفي ضد نظام الحكم المطلق والرأسمالية.

سياسة الحكم المطلق الداخلية: (أزمة الفئات العليا)

انتهجت حكومة نيقولاي الثاني سياسة رجعية تستجيب لمصالح الإقطاعيين والبرجوازيين. فكانت تقمع بلا شفقة الحركة العمالية والفلاحية، ولا تتردد في اللجوء إلى السلاح لفض مظاهرات العمال السلمية، وكانت تؤجج النزاعات القومية وتشجع اضطهاد اليهود. وألقت المحكمة القيصرية بالألوف من الساخطين في السجون وحكمت عليهم بالأشغال الشاقة والنفي. إلاّ أن القيصرية لم تعد تستطيع في ظل تعاظم الحركة الثورية في البلاد أن تحكم بهذا الأسلوب القمعي. فاضطرت إلى أن تناور وتغدق الوعود لتخدع الشعب وتهدئ الرأي العام.

وبمبادرة من رئيس شعبة الأمن[5] في موسكو، أنشأت الحكومة “اتحادات عمالية” مزيفة على أمل تقويض الحركة العمالية من الداخل ووضعها تحت إشرافها. إلا أن هذه المنظمات لم تلق أي نجاح. فقد قاومها العمال ولم يستجيبوا لها. واضطرت الحكومة، تحت ضغط الحركة العمالية، إلى أن تعطي وعوداً مبهمة بإصلاحات. إلا أنها لم تتخذ أي إجراء عملي من أجل تحسين معيشة الشعب.

وكان تدهور وضع الشعب واتساع نطاق الحركة العمالية والفلاحية، وازدياد معارضة البرجوازية الروسية والإقطاعيين الليبيراليين يشير إلى أن الوضع الثوري قد تكون في روسيا. وحاول الحكم المطلق وقف الثورة الزاحفة عن طريق انتهاج سياسة القمع. وظن القيصر ومقربوه أن الحرب ستساعدهم على خنق الحركة الثورية. وقال وزير الداخلية أنه “لابد من حرب ظافرة سريعة لمنع وقوع الثورة”. إلا أن هذه الحسابات باءت بالفشل: فلم تؤد الحرب إلا إلى نشوب الثورة.

الثورة الروسية عام 1905

مقدمة لثورة نوفمبر 1917

أسباب الثورة

في 27 يناير عام 1904 هاجم الأسطول الياباني مرفأ بورت آرثر PORT ARTHUR دون إعلان الحرب، ودمر أسطولاً روسياً ضخماً في معركة استمرت 45 دقيقة، أظهر خلالها بحارة السفن الروسية بطولات رائعة، ولم يستسلموا لقوات العدو فأغرقوا سفنهم. ونزلت القوات اليابانية في كوريا ثم في منشوريا. وفي مايو عام 1904 حاصرت القوات اليابانية الحامية الروسية في قلعة بورت آرثر، ودارت معارك طاحنة استمرت سبعة أشهر، وأدت إلى سقوط القلعة في 20 ديسمبر 1904. وقد بلغت خسائر الروس 35 ألفاً بين قتيل وجريح، وهكذا سيطر الأسطول الياباني على بحر البلطيق.

وفي فبراير 1905 جرت معركة ضخمة، بالقرب من موكدن MUKDEN، هُزمت فيها القوات الروسية أمام اليابان هزيمة فادحة، وبلغت خسائرها 89 ألفاً، على حين خسر اليابانيون 71 ألفاً. وكانت خاتمة هذه المعارك معركة تسوشيما TSUSHIMA البحرية. وقد بلغت خسائر روسيا في الحرب الروسية ـ اليابانية نحو 270 ألف قتيل وجريح إضافة إلى تدمير أكبر أساطيلها.

في سبتمبر عام 1905 وقعت معاهدة صلح بين البلدين المتحاربين في قاعدة بورتسموث PORTSMOUTH البحرية بالولايات المتحدة، أنهت الحرب بين روسيا واليابان، وتعهدت فيها روسيا بالجلاء عن منشوريا، والتنازل عن القطاع الجنوبي لسكة حديد منشوريا، وحصلت اليابان على النصف الجنوبي من جزيرة سخالين SAKHALINE، وعلى ملكية الامتياز الروسي الخاص بإستئجار جزيرة لياوتونج LIAO – TUNG.

بدأ التذمر يستفحل، بين صفوف الشعب الروسي، نتيجة الهزائم التي ألحقها اليابانيون بالجيوش الروسية من جهة، ونتيجة استبداد الحكم القيصري من جهة أخرى. وكانت المسالة الزراعية من أهم الأسباب التي ساعدت على اندلاع الثورة. فبدأ التمرد بأن عمت البلاد موجة من المظاهرات والاضطرابات. وبدأ تحرك العمال وتبعهم الفلاحون. ثم الأحزاب والمنظمات الشعبية المعارضة، ومن هذه الأحـزاب: حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي، وهو أهمها، وحزب الحرس الأحمر الذي ضم عمال المصانع المسلحين، وحزب المناشفة الأممين، وهو مؤلف من عمال بتروجراد بقيادة تروتسكي.

وفي 3 يناير 1905 أضرب عمال مصنع بوتيلوف POTELOV في بتروجراد (وهو الاسم القديم لمدينة لينينجراد)، احتجاجاً على طرد بعض العمال، وعم الاضطراب بتروجراد، ابتداء من 8 يناير 1905. وبلغ عدد المضربين 150 ألف عامل. وتوقفت أكثر المؤسسات الكبرى عن العمل، كما توقفت الصحف عن الصدور.

المظاهرة السلمية

في الصباح الباكر من يوم الأحد، 22 يناير 1905 قدم العمال، عريضة حددوا فيها مطالبهم. وأهمها: إنشاء مجلس تأسيسي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحرية التعبير والنشر والاجتماعات، وتحديد ساعات العمل اليومي بثمان ساعات بدلاً من 16 ساعة. وتوجه عمال بتروجراد بقيادة الأب جابون، مع زوجاتهم وأطفالهم بثياب العيد، نحو المقر الدائم للقيصر نيقولا الثاني، في قصره الشتوي في بتروجراد، يحملون صور القيصر والأيقونات ويرتلون الصلوات. وكانت الحكومة القيصرية على علم مسبق بهذه المظاهرة السلمية، فأعدت للقائها قواتها التي تضم الحرس القيصري والقوزاق وفرق الخيالة. وما أن اقترب المتظاهرون من البوابات، والجسور المؤدية إلى وسط المدينة، حتى نفذ الجنود أوامر القيصر فضربوا المتظاهرين بالمدافع والرشاشات. وأعملت فرق الخيالة سيوفها في رقابهم رجالاً ونساء وأطفالاً وأجهزت على الجرحى منهم. فقُتل في يوم واحد أكثر من ألف مواطن، وجُرح ما يقارب الخمسة آلاف. وعُرف هذا اليوم بيوم الأحد الدموي. وأثارت هذه المجزرة سخط الشعب والجيش معاً، فهب الملايين من العمال إلى السلاح، ودعوا إلى النضال والانتقام والثورة.

إضرابات الجماهير

وفي 23 يناير 1905 شبت في موسكو مظاهرات سياسية حاشدة، تأييداً للبروليتاريا. وجرت في عدد من المدن اشتباكات عنيفة مع الشرطة والقوات العسكرية. كما أضرب 440 ألف عامل من عمال المصانع، وامتدت موجة الاضطرابات إلى جميع أنحاء البلاد.

وفي يناير وفبراير 1905 انفجرت الانتفاضات الفلاحية في مختلف مناطق روسيا. وفي 12 مايو 1905 أضرب عمال الحياكة في مدينة إيفانوفو ـ فوزنسنسك IVANOVO – VOZINNSINSK، واستمر إضرابهم حتى أواخر يوليو، وكان إضراباً ضخماً اشترك فيه 30 ألف عامل. وفي هذه الأثناء أُنشئت أول منظمة للعمال في روسيا في بتروجراد، وضمت ممثلي العمال، وكانت مهمتها تنظيم الإضرابات المختلفة وقيادتها.

المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي ـ الديموقراطي الروسي وتطور الثورة

عُقد المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي ـ الديموقراطي الروسي في لندن في شهر أبريل 1905. وترأس لينين أعمال المؤتمر.

طرح المؤتمر أمام البروليتاريا مهمة رئيسية، هي ضرورة تحقيق الانتصار للثورة البرجوازية الديموقراطية، بالتعاون مع الفلاحين الفقراء، وقلب نظام الحكم المطلق.

وأكد المؤتمر أن البروليتاريا هي الطبقة الأكثر ثورية، والجديرة بقيادة جماهير الشعب. ومن ثم فإن ضمان زعامة البروليتاريا هو أعظم مهمات الحزب وبما أن القضية الأساسية للثورة الروسية هي تصفية ملكية الإقطاعيين للأرض وبقايا نظام الاستعباد، فقد كانت للفلاحين مصلحة حيوية في انتصار الثورة. وطرح المؤتمر العام أمام الحزب مهمة توطيد التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحيـن بكل الوسائل. واتخذ المؤتمر قراراً بتأييد مطالب الفلاحين الثورية بمصادرة أراضي الإقطاعيين مصادرة تامة، ودعم العمل التنظيمي والدعائي للبلاشفة في الريف من أجل رفع مستوى الحركة الفلاحية.

أشار المؤتمر إلى أن الليبيراليين البرجوازيين يسعون لإخضاع الجماهير لنفوذهم، لكي يستغلوا الثورة في تحقيق مصالحهم. فالبرجوازية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيصرية ولا ترغب في تصفية النظام الملكي. إنها تريد فقط “تحسين” هذا النظام وتدعيمه. وفي خوفها من الشعب ستقبل المساومة مع القيصرية. ولذلك طرح المؤتمر مهمة عزل البرجوازية الليبيرالية وفضحها أمام الشعب.

أشار المؤتمر إلى دور الإضرابات السياسية الجماهيرية في تعبئة الطبقة العاملة ثورياً، وأكد أن القضاء على القيصرية لن يتم إلا بثورة مسلحة. ومن ثم على الحزب أن يوجه جهوده من أجل التحضير التنظيمي والتكتيكي للثورة وتسليح وتدريب البروليتاريا. ويجب أن يتكلل انتصار الثورة بتشكيل حكومة ثورية مؤقتة كهيئة ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الثورية ـ الديموقراطية. ولابد للحزب أن يشترك فيها لدعم مكاسب الشعب وضمان تحويل الثورة البرجوازية ـ الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية. ووافق المؤتمر على صيغة النظام الداخلي المتعلقة بعضوية الحزب التي وضعها لينين. وانتخب المؤتمر اللجنة المركزية للحزب برئاسة لينين.

لم يفهم المناشفة خواص الثورة الروسية ولا طابعها والقوى المحركة لها وآفاق تطورها. ومن ثم أنكروا ضرورة التحضير العسكري التكتيكي للثورة وتحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين. وعارضوا مساهمة الاشتراكيين ـ الديموقراطيين في الحكومة الثورية المؤقتة، ورأوا أن على البروليتاريا أن تؤيد البرجوازية وتتخلى عن الفلاحين، وعارض المناشفة كذلك تحول الثورة البرجوازية الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية. وهكذا ألحقت قرارات مجلس المناشفة العام ضرراً بالثورة وبالقضية العمالية.

الحركة العمالية

في ربيع 1905 تأججت حركة الإضراب من جديد. وقبيل يوم أول مايو، وزع بين عمال روسيا منشور كتبه لينين. أهاب فيه قائد البروليتاريا بالعمال للاحتفال بعيد أول مايو، بتشديدهم النضال ضد القيصرية. وقامت المنظمات البلشفية المسلحة بنشاط تحريضي وتنظيمي واسع. وتحول الاحتفال بيوم أول مايو إلى مظاهرة ضخمة لتضامن البروليتاريا؛ فشمل عمالاً من مختلف القوميات في الإمبراطورية الروسية. واتسمت الإضرابات والمظاهرات في الغالب بطابع سياسي. ولكن وقعت في وارشو وأوديسا وريغا وباكو اشتباكات دموية مع قوات الشرطة والجيش.

وكان إضراب حائكي مدينة إيفانوفو ـ فوزنيسينسك، الذي استمر اعتباراً من 12 مايو حتى أواخر يوليو، ضخماً بوجه خاص، اشترك فيه ثلاثون ألف عامل. وقاد البلاشفة الإضراب مما أكسبه طابعاً منظماً.

حاولت السلطات المحلية أن تفرق العمال، فاقترحت إجراء مفاوضات مع الموالين لهم فقط في كل مؤسسة على حده. غير أن العمال لم تنطل عليهم الخدعة فوضعوا مطالب اقتصادية وسياسية موحدة. بتحديد ساعات العمل بـ 8 ساعات، وزيادة الأجور وعقد المجلس التأسيسي وحرية التعبير والنشر وحرية إنشاء النقابات وإزالة السجون والزنزانات التابعة للمعامل.

أسس العمال مجلس المفوضين. وكانت هيئة منتخبة من ممثلي كافة المصانع والمعامل المضربة. وكان عدد نوابه (151) عضواً. وكان البلاشفة يشكلون ثلثي العدد. وهكذا نشأ أحد أول سوفييتات (مجالس) نواب العمال في روسيا. وقد قاد هذا السوفييت الاجتماعات الخطابية العمالية، وأجرى المفاوضات مع السلطات، وأنشأ الميليشيات للمحافظة على الأمن والتصدي للشرطة والجيش، ونظم الإضراب. وكان سوفييت إيفانوفو ـ فوزنيسينسك يتمتع بنفوذ كبير بين سكان المدينة والقرى المجاورة.

وقد حشدت الحكومة لمكافحة الإضراب قوات الشرطة والجيش، التي كانت تفرق الجماعات وتقوم بحملة من الاعتقالات والقتل. وقد أنهك الإضراب الطويل قوى المضربين. فكان لابد من إيقاف الإضرابات لإعادة تجميع القوى واستئناف النضال. وبقرار من مجلس المفوضين تم وقف الإضراب. وقد أظهر هذا الإضراب نضوج العمال السياسي نضوجاً عالياً.

الحركة الفلاحية

ساند الفلاحون حركات إضراب الطبقة العاملة. واشتدت الحركة الفلاحية في المناطق الوسطى من روسيا وفي أطرافها القومية. وشملت الإضرابات خُمس أقضية البلاد. وهاجم الفلاحون ضياع الإقطاعيين وأحرقوا دورهم، وامتنعوا عن دفع الضرائب. وأصبح نضال الفلاحين أكثر تنظيماً وعناداً. كما أصبح الاستيلاء على المروج والمراعي وحرث أراضي الإقطاعيين وإتلاف عقود الاستئجار المجحفة ظاهرة منتشرة. ففي موسم جمع المحاصيل أضرب العمال الزراعييون في كل مكان عن العمل، مطالبين بتحسين معيشتهم وزيادة أجورهم. وكانت حركة العمال الزراعيين في لاتفيا قوية بوجه خاص. وأرسلت الحكومة القوات العسكرية لقمع هذه الحركة.

وتجلى نمو وعي الفلاحين السياسي بوضوح في تشكيل منظمة جماهيرية للفلاحين هي اتحاد الفلاحين، الذي يعد أول اتحاد سياسي للفلاحين وكان لينين يرى أن أول مهمة للبلاشفة هي جذب هذه المنظمة إلى جانبهم وتحريرها من نفوذ الاشتراكيين الثوريين والليبيراليين البرجوازيين. إذ أن ذلك سيسهم في إقامة صلات أوثق بين حركة الفلاحين وحركة العمال ودعم تحالفهما.

ثورة المدمرة بوتيومكين

كان لنهوض الحركة الثورية تأثير على الجيش والأسطول، اللذين كان الحكم المطلق يعدهما السند المخلص له. وقد أثارت الهزائم، في الحرب الروسية ـ اليابانية، المشاعر المعادية للحكومة بين جماهير الجنود. كما كانت ظروف الخدمة العسكرية الشاقة، من التدريب الطويل، والاحتقار من جانب الضباط ـ سبباً في سخط الجنود. وكان الجيش من حيث تكوينه مؤلفاً من الفلاحين، ولذلك كانت مشاعر الفلاحين قريبة من الجنود. نجح البلاشفة في نشر الأفكار الثورية وسط الجنود كذلك. وبشكل خاص بين البحارة الذين كان الكثيرون منهم من العمال.

كانت انتفاضة المدمرة “بوتيومكين” حدثاً ثورياً ضخماً. ففي 14 يونيه 1905 ثار بحارة المدمرة “الأمير بوتيومكين تافريتشيسكي”. بسبب أمر أصدره كبير الضباط بإعدام 30 بحاراً رمياً بالرصاص، ممن رفضوا تناول حساء “البورش” المطبوخ باللحم الفاسد، وقتلوا الكثيرين من الضباط واستولوا على المدمرة. واقتربت المدمرة “بوتيومكين”، تحت راية حمراء، من أوديسا حيث كان هناك إضراب عام. ولكن البحارة لم يجرؤوا على النزول إلى البر للاستيلاء على المدينة، وقبعوا ينتظرون وقوع التمرد في السفن الأخرى. وما أن تلقى لينين نبأ هذه الانتفاضة حتى أدرك أهميتها، فأرسل أحد رجاله فوراً إلى أوديسا، بالتعليمات التالية: “حاول مهما كلف الأمر الوصول إلى المدمرة، وأقنع البحارة أن ينزلوا إلى المدينة على الفور. ولا يخيفنكم قصف القوات الحكومية. يجب أن نستولي على المدينة”. ولكن هذا الرجل لم يتمكن من تنفيذ المهمة فعندما وصل إلى أوديسا كانت المدمرة قد غادرت المرفأ. وفي 18 يونيه 1905 أرسلت الحكومة القيصرية أسطولاً بحرياً، مؤلفاً من 12 سفينة، لقصف المدمرة المتمردة في البحر الأسود. فاتجهت المدمرة إلى الشواطئ الرومانية للتزود بالوقود والمؤن، إلا أن الحكومة الرومانية رفضت السماح لها بذلك، فبقيت أكثر من أسبوع في البحر الأسود تحت الراية الحمراء، تطاردها السلطات القيصرية، وتقصفها بمدفعية السواحل، حتى اضطرتها في النهاية للتوجه إلى رومانيا من جديد، والاستسلام للسلطات الرومانية. وعاد قسم من البحارة باختيارهم إلى روسيا، حيث تعرضوا لعقاب شديد، وبقي قسم آخر في المهجر. أما ماتيوشينكو قائد البحارة الذي عاد سراً إلى وطنه فقد اُعْدَمْ في عام 1907.

كانت لانتفاضة المدمرة “بوتيومكين” أهمية تاريخية كبرى. فلأول مرة تساند مدمرة حربية كبيرة ثورة الشعب، وبقيت، على حد تعبير لينين، “أرض الثورة التي لم تقهر”. وقد أظهرت تجربة هذه الانتفاضة أن العمل المشترك فقط بين العمال والجنود والفلاحين يمكن أن يؤدى إلى النجاح وأن العمل الثوري داخل الجيش هو أهم قضية للحزب، لأنه يؤمَّن الثورة بالقوة المسلحة مما زرع الرعب في الأوساط الحاكمة لا في روسيا فقط بل وفي البلدان الرأسمالية الأخرى كذلك.

إضراب جماهيري شامل

في سبتمبر من العام نفسه جرى بقيادة البلاشفة اضراب شامل قام به عمال موسكو، واشترك فيه عمال المطابع والخبازون وعمال التبغ وعمال السكك الحديدية. وقاد مجلس السوفييت هذا الإضطراب، فكان كما وصفه لينين بالبرق الأول للعاصفة الذي أضاء ساحة المعركة. وفي أكتوبر، بدأ إضراب عمال سكة الحديد في موسكو، وامتد إلى بتروجراد، ثم تحول إلى اضراب سياسي في جميع أنحاء روسيا. وشل حركة المواصلات في الإمبراطورية. وتوقف عن العمل أكثر من مليون شخص، فكان اضراباً ضخماً لم يشهده أي بلد حتى ذلك الحين، واشترك فيه العمال والمثقفون والأطباء والمهندسون والصحفيون، وتوقفت الجامعات والمعاهد والمخازن عن العمل.

مجالس سوفييت نواب العمال

في أثناء الإضراب العام أخذت تتكون في كل مكان مجالس سوفييت نواب العمال. وقد نشأت المجالس أولاً في بطرسبورج ثم في موسكو، وفيما بعد في المدن الكبرى الأخرى. وانتخب أفضل ممثليهم في مجالس السوفييت ممن يعرفون كيف يدافعون عن مصالح البروليتاريا. فكان العمال يعتبرون مجالس السوفييت سلطتهم وكانوا يقولون: “لدينا حكومتنا. كل ما يطلبه مجلس السوفييت ننفذه”.

نشأت مجالس السوفييت كهيئات لقيادة حركات الإضراب، ولكنها تحولت إلى هيئات سلطة ثورية جديدة. فكانت تراقب عمل الإدارة في المصانع، وطبقت يوم عمل من ثمان ساعات وحققت حريات ديموقراطية. وكانت مجالس السوفييت قوية ونشيطة فقد كان مجلس سوفييت موسكو يراقب التجارة ويحارب المضاربة وافتتح بضعة مطاعم للعاطلين عن العمل، ومنع صدور الجرائد المعادية للثورة. وأصبحت المجالس التي يقودها البلاشفة تجسيداً لديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية الثورية. وبعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى أصبحت مجالس السوفييت المحلية أساساً لتشكيل الدولة السوفييتية كهيئة لديكتاتورية البروليتاريا.

بيان 17 أكتوبر

في 17 أكتوبر وقع نيقولاي الثاني على بيان وعد فيه مجلس دوما الدولة (أي الهيئة العليا للسلطة التشريعية المنتخبة من قبل الشعب)، بمنح الحريات الديموقراطية، حرية التعبير والنشر والاجتماعات والمنظمات وحرية العقيدة وتوسيع الحقوق الانتخابية للشعب. وقد عد لينين هذا التراجع من جانب القيصرية أول انتصار كبير تحققه الثورة. وزاد على ذلك بأن دعا البلاشفة الجماهير لتشديد الضغط على الحكم المطلق الآخذ في التزعزع، من أجل الإطاحة به نهائياً.

تأسيس أحزاب برجوازية

قوبل البيان القيصري بالارتياح من جانب البرجوازية الليبيرالية. فقد كان الليبيراليون يرون أن الثورة قد انتهت وأنها قد حققت هدفها. وأن بيان 17 أكتوبر قد استجاب لمصالحهم بشكل تام. ومنذ تلك اللحظة انتقلت البرجوازية إلى مواقع الثورة المضادة، وأصبح شعارها: “كفى ثورة وعاش النظام”. وبدأت البرجوازية توحد قواها وتشكل أحزابها لكي تجابه قوى الثورة بشكل منظم. وعقدت تحالفاً علنياً مع الحكم المطلق خوفاً من تعاظم الحركة الثورية التي كانت تهدد بالتحول إلى ثورة علنية. ومن ثم نشأ حزبان برجوازيان معارضان للثورة هما حزب الأكتوبريين (OCTOBRISTS): وهو حزب يميني يمثل البرجوازية من كبار الصناعيين والتجار. وكانت مهمته الإبقاء على نظام الحكم. وحزب الكاديت (KADET): وهو حزب الديمقراطيين ـ الدستوريين، أو حزب الإصلاح السياسي، وكان مكونا من الليبراليين المنتمين إلى الطبقات المالكة والمثقفين البورجوازيين، وكان يرمي إلى تقاسم السلطة مع القيصر.

تمرد البحارة

في نهاية نوفمبر 1905 اندلعت ثورة البحارة في سيباستوبول SIBASTOPOLE وفلاديفوستوك VLADIVOSTOCK، ولكن المدفعية القيصرية قصفت السفن الثائرة فحطمتها، واستسلم بحارتها فأعدموا.

إضراب عام واندلاع الثورة

وفي 7 ديسمبر من العام نفسه، بدأ إضراب سياسي عام تلبية لنداء مجلس السوفييت، وتوقف عن العمل أكثر من مائة ألف شخص، لكن القوات العسكرية وقوات الشرطة فرقت المتظاهرين، وتحول الاضطراب إلى انتفاضة مسلحة، فأقيمت المتاريس، وبدأت حرب الشوارع. وكانت المقاومة عنيفة، وسقط المئات من الضحايا، واستمرت المعارك الدموية عشرة أيام وصفها لينين “بقمة الثورة وذروتها”.

أسباب فشل ثورة 1905

فشلت ثورة 1905، ولم تتمكن البروليتاريا والفلاحون من قلب نظام الحكم المطلق وتصفية ملكية الملاك العقاريين للأرض. وتتلخص أسباب فشل الثورة فيما يلي:

  1. لم يصل تحالف الطبقة العاملة والفلاحين إلى مستوى التوحيد الكامل. فكان الفلاحون لا يزالون يعلقون الآمال على القيصر والدوما، ظناً منهم أنهم سيحصلون بمساعدتهما على أراضى الإقطاعيين. وظلت ثورات الفلاحين عفوية غير منظمة وغير ناضجة من الوجهة السياسية.
  2. انعكست مشاعر الفلاحين في سلوك الجيش. تذمر الجنود وتمردت بعض الحاميات والوحدات، إلاّ أن الجيش بقي سنداً للحكم المطلق ينفذ أوامره في قمع الحركة الثورية.
  3. لم تكن الطبقة العاملة منظمة بصورة كافية.
  4. لم تكن هناك وحدة في صفوف حزب الطبقة العاملة. فقد كان الحزب منقسماً إلى جماعتين: “البلاشفة والمناشفة”. فكان المناشفة يقفون موقفاً انتهازياً ويعرقلون امتداد الثورة، من وجهة نظر البلاشفة.
  5. قدمت الدول الرأسمالية الأجنبية للقيصرية مساعدات كبيرة. فقد منحت الحكم المطلق قرضاً استخدمته القيصرية لقمع الثورة.

لقد كانت الثورة الروسية الأولى 1905، رغم فشلها وعدم وصول القوى الثورية المشتركة فيها إلى السلطة، وتعرض هذه القوى لعملية قمع رهيبة، مقدمة لتفجير ثورة 1917، كما كان لها أثرها ونتائجها في الحركات العمالية خارج روسيا. فبتأثيرها اندلعت الثورات في كل من الصين وإيران وتركيا، كما اتسعت الحركات العمالية وتطورت في بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وأثارت شعور التحرر الوطني في الهند وإندونيسيا ومصر وبلدان الشرق الأوسط. وسماها لينين بـ”التجربة العامة” لثورة نوفمبر عام 1917.

تطورات الأحداث قبل ثورة أكتوبر 1917

روسيا والحرب العالمية الأولى

  • استطاع القائد الألماني فون هند تبرج أن يحرز نصراً سريعاً حاسماً على الروس في موقعة تاننبرج (16 – 31 أغسطس عام 1914) وهي الموقعة التي طهرت الأراضي الألمانية من الغزو الروسي، وأنقذت بروسيا الشرقية من الاحتلال وكانت ضربة قاصمة لآمال الحلفاء، الذين كانوا يعولون على الضغط الروسي في الشرق لإنقاذ الموقف في الغرب. فقد تحطم الجيش الروسي ووقع الكثيرون منه في الأسر على أن الروس ـ رغم هزيمتهم أمام الألمان في تاننبرج ـ استطاعوا أن ينجحوا في جبهة أخرى، أمام النمسويين في غاليسيا حتى استطاعوا الاستيلاء عليها في نهاية العام.
  • مع ذلك بدأ نجم روسيا العسكري يأفل في عام 1915، إذ كانت تنقص قواتها الذخيرة والمؤونة والأسلحة الحديثة، وتسيطر عليها قيادة غير صالحة، بينما كانت قوات الدول الوسطى تفوقها عدداً وعدة، ومن ثم دارت الدائرة على الروس، منذ شهر مايو من ذلك العام، فهاجمتهم القوات النمسوية الألمانية، وما يكاد يمضى شهران حتى جلا الروس عن غاليسيا واحتلها النمسويون والألمان. وأصبحت القوات الروسية الأخرى، التي تعسكر في بولندا، معرضة للهجوم من الشمال والجنوب، مما أدى بالروس إلى الجلاء عن “وارسو” و “أيفانجورود” وانفتح الطريق أمام القوات النمسوية الألمانية فاحتلت كوفنووبرست لتوفسك وفلنا، وهكذا طردت القوات الروسية من غاليسيا وبولنده، وخسرت جانباً من لتوانيا، وبذلك خسرت مناطق صناعية غنية، وأثر ذلك على قدرتها الدفاعية وروحها المعنوية.

ثورة فبراير البرجوازية الديموقراطية عام 1917

أولاً: تفاقم الأزمة السياسية

اتسمت الأزمة السياسية في روسيا، قبيل عام 1917، بطابع حاد لدرجة هددت في أية لحظة أن تنقلب إلى انتفاضة شعبية عامة. فالحرب العالمية الأولى، التي أظهرت بؤس وآلام الجماهير الشعبية، عجلت من نضوج الثورة في روسيا حيث بلغ الانهيار الاقتصادي مداه. وفي شتاء 1916 ـ 1917 توقفت عن العمل، بسبب النقص في الفحم والخامات، مصانع ضخمة كثيرة، وتفاقمت البطالة في البلاد، ودب شلل حقيقي في السكك الحديدية. وفي يناير 1917 لم تستطع السكك الحديدية أن تنقل، من الدون إلى موسكو وبتروجراد، مليون بود من الحبوب وذلك بسبب عدم وجود العربات. وبدأت المجاعة تنتشر في المدن الكبيرة. فطبق نظام توزيع المؤن بالبطاقات.

ازدادت حدة الحركة العمالية والفلاحية وحركة التحرير الوطني، في بداية 1917، بصورة لم يسبق لها مثيل. ففي يناير 1917 احتفل عمال بتروجراد وموسكو، وغيرهما من المراكز الصناعية، تلبية لنداء البلاشفة بذكرى “الأحد الدموي” (9 يناير عام 1905) بإضرابات كبيرة ومظاهرات واجتماعات جماهيرية. وكان هذا هو أضخم إضراب منذ بداية الحرب.

ولم يفهم القيصر ولا مستشاروه خطورة الوضع، فظنوا أن الثورة التي بدأت ما هي إلاّ إضرابات محلية يستطيعون قمعها بقوة السلاح. ووضعوا خطة عقد صلح منفرد مع ألمانيا لإقامة ديكتاتورية عسكرية فيما بعد، والقضاء على الحركة الثورية. وكانت ألمانيا القيصرية، العاجزة عن القيام بالحرب على جبهتين، قد بدأت تبحث عن طرق لعقد معاهدة صلح منفردة مع روسيا، في وقت تعاظمت في الحكومة القيصرية العناصر الموالية لألمانيا. وكانت هذه محاولة لإنقاذ السلالة الملكية لآل رومانوف والنظام الملكي في روسيا بأية وسيلة كانت.

وقد أثارت تصرفات القيصر سخطاً حاداً لدى البرجوازية، التي كانت تسعى إلى مواصلة الحرب، جنباً إلى جنب، مع الحلفاء والاستفادة من نتائج النصر. وأدركت أن الحكومة غير قادرة، لا على مواصلة الحرب، ولا على إدارة شؤون البلاد، وأن إرهاصات الثورة بدأت تلوح في روسيا. وهذا ما جعل زعماء البرجوازية يعارضون الثورة. وقد سبق وأن نظمت في نهاية عام 1916 مؤامرة معادية للثورة في الأوساط البرجوازية والعسكرية. وكان الجنرال كريموف والرأسماليون تيريشنكو وبوتيلوف وكونوفالوف وزعيماً الأكتوبريين والكاديت غوتشكوف وميليوكوف وحتى بعض الأمراء الكبار في عداد جماعة المتآمرين. وكانوا قد قرروا أن يوقفوا، في النصف الأول من مارس 1917 بمساعدة الحرس، قطار القيصر في الطريق من مقر القيادة إلى بتروجراد، وأن يرغموا القيصر على التخلي عن العرش، وتولية ابنه الطفل الصغير قيصراً، تحت وصاية أحد الأمراء الكبار. وكان قد جرى حديث حول إنشاء ملكية دستورية في روسيا. وأيدت هذه الخطط إنجلترا وفرنسا، على لسان سفيريهما في بتروجراد، سعياً منهما لمنع خروج روسيا من الحرب، وكانت البرجوازية تعتمد على مساندة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، اعتماداً له مبرراته.

كانت هذه مؤامرة معادية للثورة دبرتها البرجوازية الروسية. أملاً في إحداث انقلاب في القصر ومنع وقوع الثورة. إلاّ أن انتفاضة الشعب الثورية أفسدت على البرجوازية تنفيذ مخططاتها.

ثانياً: انتفاضة في بتروجراد وإسقاط القيصرية

كانت الثورة تقترب بسرعة، وكان شهر فبراير 1917 كله عبارة عن سلسلة متواصلة من الإضرابات والمظاهرات والاجتماعات العمالية. ونادى البلاشفة بالكفاح السافر ضد القيصرية ولإسقاط النظام الملكي، وفضحوا البرجوازية التي سعت للتفاهم مع القيصرية على حساب الشعب. وكان لنداءات البلاشفة صدى واسع بين الجماهير الشعبية.

وفي مطلع شهر فبراير حولت الحكومة مدينة بتروجراد إلى منطقة حربية، في محاولة منها لخنق الثورة الزاحفة بالقوة. وأعطيت لقائد المنطقة الجنرال خابالوف صلاحيات لا حدود لها لمقاومة الحركة الثورية، إلا أن المد الثوري استمر يتعاظم.

وفي 14 فبراير جرت مظاهرة كبيرة لعمال بتروجراد تحت شعاري: “لتسقط الحرب” و”ليسقط الحكم المطلق”. وفشلت محاولات المناشفة لتحويلها إلى مظاهرة ثقة بمجلس دوما الدولة البرجوازي (في هذا اليوم افتتحت دورة مجلس الدوما). وقد أحدثت حوادث بتروجراد صدى واسعاً لدى عمال موسكو وغيرها من المناطق الصناعية.

تحولت الثورة في 14 فبراير إلى ثورة مسلحة. وبذل المناشفة جهداً كبيراً لتوفير السلاح وتجهيز الميليشيات القتالية وتعبئة الجماهير للنضال. ودعوا الشعب إلى الانتفاضة. ففي النداء الموجه “إلى العمال والمواطنين والجنود” كتب البلاشفة: “إن على الطبقة العاملة والفلاحين أن يتعاونوا للقضاء إلى الأبد على العار الذي يجلل روسيا”.

وفي 18 فبراير هبت موجة جديدة من الإضرابات، فقد أضربت ورش مصنع بوتيلوف ثم وحدات المصنع كله. وفي 22 فبراير أعلنت الإدارة عن إغلاق المصنع، الأمر الذي أدى إلى إثارة سخط بروليتاريا بتروجراد، فكانت جماهير الجياع تحطم الحوانيت وتوقف الحركة في الشوارع وتهتف أن الشعب يطالب بالخبز وبوضع حد للحرب.

وفي 23 فبراير احتفل عمال وعاملات بتروجراد، تلبية لنداء البلاشفة، بيوم المرأة العالمي، بإضراب اشترك فيه زهاء 90 ألف امرأة يهتفن: “نريد خبزاً”، و”لتسقط الحرب” و”أعيدوا لنا أزواجنا”. ظهرت القوات الحكومية في هذا اليوم بمظهر التردد، ولم تعد تثير الخوف لدى المتظاهرين كما كان الحال في السابق. وفي محاولة لتهدئة العمال، زادت السلطات القيصرية كميات الخبز، وأعلنت أن احتياطيات الخبز كافية في العاصمة. ولكن ذلك لم يوقف الثورة.

وفي 24 فبراير أضرب عن العمل (200) ألف شخص. وفي 25 فبراير اتسع حجم الإضراب، إذ أضرب عن العمل أكثر من (500) ألف عامل. يحملون الرايات الحمراء. وعجزت الشرطة عن صد العمال الذين خرقوا صفوف الشرطة واندفعوا إلى جادة نيفسكي. ولم يجرؤ الجنرال خابالوف في هذا اليوم على استعمال الأسلحة؛ ذلك أن قوات الحاميةلم يكن موثوقاً بها خاصة أن بعض الوحدات أظهرت تعاطفاً واضحاً مع العمال الثوريين. وأصدر البلاشفة منشوراً دعوا فيه الشعب إلى ثورة في جميع أرجاء روسيا. وفي 25 فبراير استمرت المظاهرات، والصدامات بين العمال والشرطة. وسقط الضحايا.

وفي مساء 25 فبراير أرسل نيقولاي الثاني إلى الجنرال خابالوف أمراً حاسماً قال فيه: “إني آمر بوضع حد للإضرابات في العاصمة غداً”. ولم يفهم القيصر، حتى هذه اللحظة الحرجة، أن ما يجرى ليس إضرابات وإنما ثورة شعبية، ستزيل قريباً نظام الحكم المطلق.

وفي ليلة 25/ 26 فبراير قام خابالوف بإعتقالات كثيرة (اعتقلت لجنة بتروجراد البلشفية) وعزز تسليح الشرطة. واتخذت السلطات القيصرية كافة التدابير لقمع الأعمال الثورية في البلاد بأسرها، وخاصة في المراكز البروليتارية.

وكان صباح 26 فبراير هادئاً. فأسرع خابالوف فرحاً يوجه برقية إلى القيصر: “اليوم،26 فبراير، كل شئ هادئ في المدينة منذ الصباح”. إلاّ أن شوارع المدينة امتلأت قبيل الساعة الثانية عشرة بالمتظاهرين. وتوجهت المظاهرات العمالية من جديد إلى وسط المدينة، ولكنها قوبلت بنيران البنادق والرشاشات. فوقعت طيلة النهار اصطدامات بين العمال ورجال الشرطة والقوات العسكرية. قاوم العمال ببسالة. ولكن القوات الحكومية استطاعت أن تسيطر على وسط المدينة، إلاّ أن انتصارها لم يدم طويلاً.

وكان لصمود العمال من الجنسين تأثيره الكبير على الجنود. وقام البلاشفة بنشاط دعائي واسع بين قوات الحامية. فأرسلوا إلى الثكنات مئات المحرضين. والمنشورات الداعية إلى تأييد الشعب الثائر: “منذ ثلاثة أيام ونحن، عمال بتروجراد، نطالب علناً بتصفية نظام الحكم المطلق، المسؤول عن سفك دماء الشعب… تذكروا، أيها الرفاق الجنود، أن التحالف الأخوي وحده، بين الطبقة العاملة والجيش الثوري، سيحمل الحرية للشعب المظلوم الذي يهلك. عاش التحالف الأخوي بين الجيش والثورة والشعب”. وفي المساء تمردت سرية من الحرس الملكي، وفتحت النار على رجال الشرطة الذين كانوا يطلقون الرصاص على العمال[1].

وفي 27 فبراير أخذت القوات العسكرية تنحاز إلى جانب الشعب الثائر جماعات جماعات. وفي منتصف النهار استولى العمال على مستودع الأسلحة وتسلحوا بالبنادق. انتقلت إلى جانب الثورة وحدات عسكرية أخرى (زهاء 70 ألف جندي). وقبيل المساء كانت المدينة في يد العمال والجنود الثائرين. وفي المساء تم اعتقال الوزراء القيصريين. وانتصرت الثورة.

وباءت بالفشل محاولة القيصرية لتحطيم الثورة بمساعدة القوات العسكرية، التي استُدعِيَتْ من الجبهة. وكان زعماء البرجوازية قد حذروا القيصر، في بداية الانتفاضة، من الخطر المحدق وطلبوا منه تقديم تنازلات. وكان رد نيقولاي الثاني أن دفع القوات تحت قيادة الجنرال إيفانوف للتنكيل بالشعب، وتوجه هو نفسه إلى بتروجراد. إلا أن هذه الحملة انتهت بنتيجة مخزية للقيصرية. فقد انتقلت القوات إلى جانب الشعب الثائر، وأوقف قطار القيصر في محطة دنو وتحول إلى بسكوف.

ذاع خبر ثورة بروليتاريا بتروجراد بسرعة في كافة أنحاء البلاد. واستحثت المنظمات البلشفية الجماهير على تأييد عمال بتروجراد. وفي 28 فبراير نزل عمال موسكو إلى الشوارع يساندهم جنود حامية موسكو. وقبيل مساء الأول من مارس كانت المدينة كلها في يد الثائرين. تم إطلاق المعتقلين السياسيين والاستيلاء على مستودع الأسلحة ومحطات السكك الحديدية. واندلعت في الدونباس وسيبيريا والأورال ونيجني نوفغورود انتفاضات الجنود والعمال. وهب الجنود والبحارة. وهكذا انتصرت الثورة في البلاد بأسرها.

أسباب وطابع ثورة فبراير والقوة المحركة لها

كانت ثورة فبراير ثورة برجزوازية ديموقراطية وكانت أمامها مهمات لم تحققها ثورة 1905 ـ 1907، أي إجراء تحويلات ديموقراطية في نظام الدولة، وتوسيع الحقوق السياسية للشعب، وإقامة الحريات الديموقراطية، وتخفيض ساعات العمل إلى ثمان ساعات، وحل المسألة الزراعية. وكانت ثورة شعبية من حيث القوى المحركة لها. فقد صب، في سيل عارم واحد، نضال البروليتاريا وحركة الفلاحين والإضرابات في الجيش والأسطول وحركة التحرر الوطني لشعوب روسيا.

وكانت البروليتاريا الروسية صاحبة المبادرة، قائدة الثورة، الأمر الذي ضمن انتصارها بسرعة فائقة، إذ أن الجماهير الشعبية، وخاصة البروليتاريا الروسية، كانت قد مرت بمدرسة النضال السياسي الكبرى، وصلب عودها في نيران الثورة الروسية الأولى. لقد فقدت القيصرية نهائياً مبررات وجودها، وأصبحت مكروهة من قبل الشعب بأسره. ولم يلاق الحكم المطلق في البلاد أية مساندة فعالة، فانهار.

ثالثاً: ازدواج السلطة

تشكيل مجالس سوفييتات نواب العمال والجنود

كانت بروليتاريا بتروجراد قد بدأت، أثناء الثورة، بتشكيل سوفييتات نواب العمال كهيئات للسلطة الثورية، بمبادرة من العمال أنفسهم، إذ أن فكرة السوفييتات كانت ماثلة في ذاكرة الشعب، منذ ثورة عام 1905. أيد البلاشفة بحماس مبادرة العمال، فتشكلت السوفييتات الموحدة لنواب العمال والجنود.

أجريت انتخابات مجلس سوفييت بتروجراد في 27 فبراير أي في أثناء الثورة، عندما كانت المعارك لا تزال دائرة في شوارع المدينة. وحصل المناشفة والاشتراكيون الثوريون على الأغلبية في هذه الانتخابات وترأسوا السوفييت. وتفسير ذلك أن حزب البلاشفة كان قد ضعف، خلال سنوات الحرب بسبب إجراءات القمع المتواصلة والاعتقالات والنفي، وكان بلاشفة بارزون كثيرون في المنفى أو المهجر، أما لجنة بتروجراد البلشفية فقد اعتقلت عشية الانتخابات. ولم يتعرض المناشفة والاشتراكيون الثوريون لمثل هذه التنكيلات من جانب القيصرية، فكانت لهم مراكز شرعية، مثل الكتلة المنشفية في مجلس الدوما، والتي استطاعوا بواسطتها أن يؤثروا على العمال.

ولم يشترك في الانتخابات أفضل قسم من العمال وأكثرهم وعياً، والذي كان تحت نفوذ البلاشفة؛ إذ أن هذا القسم من العمال كان يناضل، في هذه الأثناء، في شوارع المدينة ضد القوات القيصرية. وكان نظام الانتخابات في صالح المناشفة: فقد كانت المؤسسات الكبيرة حيث كان نفوذ البلاشفة قوياً ترسل مندوباً واحداً عن كل ألف عامل، في حين أن المؤسسات الصغيرة، حيث نفوذ المناشفة، كانت ترسل إلى السوفييت نائباً واحداً عن كل مؤسسة.

وأخيراً، كان الاشتراكيون الثوريون لا يزالون يتمتعون بنفوذ قوى بين الجنود. فسمح كل ذلك للمناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يستولوا على قيادة سوفيت بتروجراد، في المرحلة الأولى من الثورة. ولكن نشاط المناشفة والاشتراكيين الثوريين لم يعكس المشاعر والمصالح الحقيقية للطبقة العاملة.

كانت السلطة الحقيقية كلها في يد السوفييت، بما فيها الوحدات العسكرية وفصائل العمال المسلحة. وكانت السوفيتات عملياً تحقق ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية الثورية. كان عدد البلاشفة في سوفيت بتروجراد قليلاً. ولكنهم وقفوا مدافعين عن مكاسب الثورة، وتحت تأثيرهم اتخذ السوفييت، في عدد من الحالات، قرارات ثورية. وأيد السوفييت مبادرة العمال لتشكيل ميليشيا عمالية، في المعامل والمصانع، أصبحت فيما بعد جنين الحرس الأحمر[2]، كما وضع السوفييت، تحت إشرافه، بنك الدولة ودار سك النقود، ومنع صدور بقية الصحف، وأخذ يصدر جريدته اليومية “أزفيستيا”. وأنشئت لجنة التموين، التي كانت تراقب توزيع الخبز وغيره من المواد الغذائية في المدينة. وأخذ السوفييت يمارس المراقبة على صرف أموال الدولة.

ويشهد على قوة السوفييت ونفوذه، أن رودزيانكو الرئيس السابق لدوما الدولة، وأحد منظمي الحكومة المؤقتة، لم يستطع أن يذهب إلى بسكوف للاجتماع بالقيصر، دون إذن السوفييت، بل أنه رفض الذهاب إلى دائرة التلغراف، للتحدث مع القيصر، دون حراسة من السوفييت. ولكن سوفييت بتروجراد لم يصبح حكومة ثورية مؤقتة؛ فقيادة السوفييت المؤلفة من الاشتراكيين الثوريين والمناشفة اتخذت موقفاً انتهازياً. فقد رأى المناشفة والاشتراكيون الثوريون أنه ما دامت الثورة ذات طابع برجوازي ديموقراطي، فيجب إذن أن ترأسها البرجوازية، باعتبارها طبقة أكثر تنظيماً وخبرة بالإدارة. مع وجود “مراقبة” السوفييتات على الحكومة البرجوازية. وقد نادى البلاشفة وحدهم بإنشاء حكومة ثورية، من ممثلي الأحزاب الداخلة في السوفييت. واستطاع المناشفة والاشتراكيون الثوريون أن يمرروا قرارهم، وأن يتفقوا مع البرجوازية من خلف ظهر الطبقة العاملة.

وتفسير النفوذ الملحوظ الذي كان يتمتع به المناشفة والاشتراكيون الثوريون بين الجماهير هو أنه في سنوات الحرب تغير تركيب الطبقة العاملة بشدة. فقد التحق بالجيش قسم كبير من العمال، الذين مروا بمدرسة النضال الثوري الكبيرة. وجاء 40 بالمئة منهم تقريباً من الريف أو كانوا من فئات برجوازية صغيرة في المدن.

تشكيل الحكومة البرجوازية المؤقتة

أخذ تطور الثورة السريع البرجوازية على غرة. وكانت تأمل في البداية عقد صفقة مع الحكم القيصري. ولكن عندما تقرر انتصار الثورة أسرعت البرجوازية لاستلام زمام المبادرة في يدها. وفي 27 فبراير تشكلت لجنة دوما الدولة المؤقتة برئاسة الإقطاعي رودزيانكو. وأعلنت اللجنة المؤقتة في بيانها أنها تأخذ على عاتقها مبادرة “إعادة النظام الحكومي والاجتماعي” وتشكيل حكومة مؤقتة. وحاول الزعماء البرجوازيون إنقاذ الملكية، عن طريق تسليم السلطة، إلى شخص آخر من العائلة القيصرية، وأخذوا يجرون مفاوضات مع القيصر. وبالفعل في 2 مارس تنازل نيقولاي الثاني عن العرش لأخيه ميخائيل. لكن ميخائيل اضطر في اليوم التالي تحت ضغط الجماهير الثورية للتخلي عن العرش كذلك.

وبسبب الخوف من غضب الشعب تخلت البرجوازية عن مخططاتها المعادية للثورة. قال رودزيانكو بكل صراحة: “إن إعلان الأمير الكبير إمبراطوراً سيصب الزيت على النار وسيبدأ الطوفان الذي لا يرحم. وسنخسر كل سلطة، ولن يكون هناك من يهدئ الاضطراب الشعبي”. وهكذا أحبطت الجماهير الشعبية محاولة البرجوازية للإبقاء على النظام الملكي.

وساعد المناشفة والاشتراكيون الثوريون البرجوازية على أن تحتفظ في يدها بالسلطة. ففي 2مارس تشكلت الحكومة المؤقتة، نتيجة الاتفاق بين زعماء البرجوازية وقيادة سوفييت بتروجراد المؤلفة من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. ورأس هذه الحكومة الأمير لفوف، وكان ضمن هيئتها رأسماليون كبار أمثال غوتشكوف وكونوفالوف وتيريشينكو. وعُين ميليوكوف، زعيم حزب الكاديت والصحافي البرجوازي والمؤرخ، وزيراً للخارجية. ومثل “الديموقراطيين” في هذه الحكومة الاشتراكي الثوري كيرينسكي.

كانت هذه حكومة البرجوازية والإقطاعيين. وقد سماها لينين شبه ملكية وقال إنها لن تعطي الشعب لا الأرض ولا السلام. وأغفلت الحكومة المؤقتة في بيانها أكثر المسائل إلحاحاً، أي إقامة الجمهورية ووقف الحرب الإمبريالية وتطبيق ساعات عمل ثمان.

ازدواج السلطة وجوهرها الطبقي

وهكذا نشأ في البلاد ازدواج السلطة. فمن جانب كانت تتمتع بالسلطة الواقعية سوفييتات نواب العمال والجنود (واعتباراً من مارس أخذت تظهر في كل مكان كذلك سوفييتات نواب الفلاحين) وهي هيئات ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية الثورية. ونتيجة للموقف الذي وقفه الاشتراكيون الثوريون والمناشفة استطاعت البرجوازية أن تشكل حكومتها، ولكن الطبقة العاملة لم تسمح بإقامة سلطة البرجوازية وحدها.

وسعت الحكومة البرجوازية المؤقتة إلى أن توقف التطور اللاحق للثورة، وإلى أن تستغل مكاسبها لصالح البرجوازية. وكان الاشتراكيون الثوريون والمناشفة، الذين رأسوا سوفييت بتروجراد، مؤيدين للبرجوازية. إلا أن السوفييت أجرى تحويلات ثورية وديموقراطية تحت ضغط الجماهير الثورية. وتحققت حريات برجوازية: حرية التعبير والنشر والاجتماعات وغيرها. وطبق العمال، دون إذن من السلطات، ساعات عمل ثمانية، وأقاموا رقابة على الإنتاج، وأسسوا الحرس الأحمر.

وقد سعت الحكومة المؤقتة إلى أن تُخضع الجيش لها؛ فحاولت في أول الأمر، أن تعيد الجنود إلى الثكنات وأن تخضعهم للضباط القيصريين السابقين وأن تتابع الحرب حتى النصر النهائي. فأصدر سوفييت بتروجراد في الأول من مارس، معبراً عن مطالب العمال والجنود، الأمر الرقم [1] الذي ألغى الأنظمة القيصرية في الجيش ومنح الجنود حقوقاً مدنية، واقترح تشكيل سوفييتات جنود منتخبة في الوحدات العسكرية تراقب نشاط الجنرالات والضباط. وكانت لهذا الأمر أهمية كبيرة في جعل الجيش جيشاً ثورياً.

الأهمية التاريخية لثورة فبراير

انتصرت ثورة فبراير البرجوازية الديموقراطية في روسيا. وأطيح بالحكم المطلق وأصبحت روسيا جمهورية برجوازية. وتحقق عدد من التحولات البرجوازية مثل: الديموقراطية، حرية التعبير والنشر والاجتماعات والأديان، وأُعلن عفو سياسي عام. وخرجت إلى النشاط العلني جميع الأحزاب غير المشروعة. وأظهر الحزب البلشفي نشاطاً كبيراً في توعية الجماهير وفضح البرجوازية ومؤيديها من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبدأت مرحلة التطور التالي للثورة والانتقال إلى الثورة الاشتراكية. وبعد بضعة أشهر حققت الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين وتحت قيادة الحزب البلشفي وقائده لينين، ثورة نوفمبر الاشتراكية الكبرى، التي فتحت عهداً جديداً في تاريخ العالم.

عودة لينين والتمهيد لثورة أكتوبر 1917

مجالس السوفيتات

في 2مارس 1917 تشكلت حكومة مؤقتة برجوازية، برئاسة الأمير لفوف، وتنازل القيصر لأخيه الأمير ميخائيل. ولكن ميخائيل تنازل، في اليوم التالي، وتقرر عقد مجلس تأسيسي لتحديد شكل الدولة الروسية المقبل. وفي 8 مارس تم تحديد إقامة نيقولا الثاني، وفرض الإقامة الإجبارية على العائلة الإمبراطورية في تساركويه سيلا. وكان هناك ازدواج واضح في السلطة بين الحكومة المؤقتة والسوفيتات المنتشرة في كل أنحاء البلاد.

طالب الشعب الروسي، بعد نجاح الثورة، بإنهاء الحرب التي كانت روسيا تخوضها إلى جانب الحلفاء، وإقرار السلام، وإلغاء ملكية كبار ملاك الأرض، وتخفيض ساعات العمل، كما طالب بإطلاق الحريات الديموقراطية، إلاّ أن الحكومة المؤقتة تجاهلت مطالب الشعب، ووصل بها الأمر إلى حد أنها لم تعلن إلغاء النظام الملكي، انتظاراً لأول فرصة تمكنها من إعادة القيصر إلى عرش روسيا. وأعلنت في 27 مارس عن عزمها على متابعة الحرب “حتى النصر النهائي”. ورفضت مجالس السوفييتات، التي يهيمن عليها ممثلو البرجوازية الصغيرة (المناشفة، والاشتراكيون الثوريون، والفوضويون)، أخذ زمام السلطة بيدها.

عودة لينين إلى روسيا

بسبب تمتع البلاشفة بتأييد الشعب أصبح الطريق ممهداً أمامهم للاستيلاء على السلطة، دون إراقة دماء، ودون الحاجة إلى تفجير ثورة مسلحة. وفي الثالث من أبريل عام 1917 عاد لينين من منفاه في سويسرا، داخل عربة قطار مغلقة، حملته مع ثلاثين من الثوار المنفيين، عبر ألمانيا وبإذن من حكومتها. وفي اليوم التالي أطلع قادة الحزب البلشفي على خطته الرامية إلى الانتقال بالثورة من مرحلتها البرجوازية الديموقراطية إلى الثورة الاشتراكية. وبعد ثلاثة أيام من وصول لينين، نشرت “البرافدا”، جريدة الحزب البلشفي التي انتقلت بعد الثورة البرجوازية من السرية إلى العلن، مقالات لينين التي تشير إلى انتهاء المرحلة الأولى من الثورة، التي أوصلت البرجوازية إلى السلطة، وبداية المرحلة الثانية، التي يجب أن تنتهي بانتقال السلطة إلى أيدي الطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين الكادحين، وإلى ضرورة تحول الثورة البرجوازية الديموقراطية، إلى ثورة اشتراكية، وطالب لينين باتباع تكتيكات مؤداها: عدم الثقة بالحكومة المؤقتة، وعدم مساندتها، مع فضحها أمام الشعب نظراً لأنها أدارت ظهرها لمطالبه في السلام والخبز والحرية والأرض. وإقناع الشعب بأن سوفييتات نواب العمال والجنود هي المؤهلة للاستجابة إلى مطالب الشعب وتحقيقها. ومن هنا رفع الحزب البلشفي شعار: “كل السلطة للسوفييتات”. ووضع لينين منهاجاً لنشاط السوفييتات تضمن ما يلي:

  1. على الصعيد الدولي: النضال في سبيل عقد صلح ديموقراطي عام.
  2. على الصعيد الاقتصادي: تأميم جميع المصارف، وإنشاء مصرف شعبي موحد. وتأميم احتكارات السكر والتعدين، وفرض رقابة السوفييتات على إنتاج وتوزيع السلع.
  3. على الصعيد الزراعي: مصادرة أراضي الملاك دون أي تعويض، وتأميم جميع الأراضي الزراعية في روسيا.
  4. على الصعيد القومي: منح شعوب الأقاليم، التي تسيطر عليها روسيا، حق تقرير المصير.

المؤتمر الثاني للحزب البلشفي

في 24 أبريل، انعقد المؤتمر الثاني للحزب البلشفي الروسي، فصادق على خطة لينين للانتقال إلى الثورة الاشتراكية. وبدأ الحزب نشاطاً ضخماً بين جماهير الشعب الروسي، لتعبئتها في وجه الرأسمالية، وإنجاز الثورة الاشتراكية. وفي أول مايو عام 1917، احتفل العمال الروس بعيد العمال العالمي، لأول مره بشكل علني. وفي هذه الاحتفالات تعالت الأصوات تندد باستمرار الحكومة الروسية في الحرب. وفي اليوم التالي خرجت مظاهرتان في شوارع بتروجراد: الأولى صغيرة الحجم، تحركها الحكومة المؤقتة، وتدعو إلى الاستمرار في الحرب، والثانية بلشفية، ضمت نحو مائة ألف عامل، تطالب بنقل السلطة للسوفييتات. وفي هذه الظروف هرع المناشفة والاشتراكيون الثوريون إلى مد يد المساعدة للحكومة، فشاركوا في 5 مايو في تشكيل حكومة مؤقتة ائتلافية، من ممثلي الأحزاب البرجوازية (الكاديث أساساً)، برئاسة الأمير لفوف.

وتوالت مظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة في موسكو وفي الأورال وفي المراكز الصناعية الأخرى. وأخذت قطاعات واسعة من العمال والجنود في بتروجراد تنفض من حول الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. وبدأ العمال يقيلون من السوفييتات النواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين، ليحلوا مكانهم نواباً بلاشفة. وازداد مع الأيام عدد المؤيدين للبلاشفة بين عمال وجنود بتروجراد، وعلى الرغم من تعاظم نفوذ الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. واتضح ذلك جلياً في المؤتمر الأول للسوفييتات المنعقد في بتروجراد في 3 يونيه 1917. فقد حضر جلسات المؤتمر زهاء ألف مندوب، لم يكن البلاشفة يمثلون منهم سوى أكثر من العُشر بقليل. واستغل المناشفة والاشتراكيون الثوريون أغلبيتهم هذه، ومرروا في المؤتمر مشروعهم بتأييد سياسة التحالف مع البرجوازية. ورد البلاشفة بالدعوة إلى إقامة مظاهرة في بتروجراد، في العاشر من يونيه. إلاّ أن المؤتمر منع المظاهرة، تجنباً للصدام مع السوفييتات. وفي محاولة لامتصاص نقمة العمال، عاد المؤتمر وقرر إقامة مظاهرة في الثامن عشر من يونيه، ولكن تحت شعار الثقة في الحكومة المؤقتة. ودعا البلاشفة العمال إلى الاشتراك في هذه المظاهرة، تحت شعار “كل السلطة للسوفييتات”. وفي اليوم الموعود تجمع نحو (500) ألف من العمال والجنود، سارت أغلبيتهم تحت الشعار البلشفي، في حين رفعت قلة لافتة “الثقة” بالحكومة.

هجوم على القوات الألمانية

لجأ زعماء البرجوازية إلى حيلة لوأد الثورة. فقرروا شن هجوم عسكري على القوات الألمانية، فإذا نجح هذا الهجوم، توطدت سلطة الحكومة، مما يسهل عليها مهمة قمع القوى الثورية، أما إذا فشل، فستلقي اللوم على البلاشفة، الذين يقفون ضد الحرب ويفسدون معنويات الجيش الروسي. وجاء توقيت الهجوم موافقاً ليوم قيام المظاهرة.

ولقد منى الهجوم الروسي بقيادة الجنرال بروسيلوف، وتحت إشراف وزير الحربية كيرنسكي، بفشل ذريع، مما أعطى الفرصة للقوات الألمانية كي تشن هجوماً مضاداً، وتستولي على رقعة واسعة من الأراضي الروسية، وعلى كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، كما أسرت العديد من الجنود الروس. وخسرت القوات الروسية نحو (60) ألف بين قتيل وجريح.

وفي الثاني من يوليه ترك وزراء الكاديت الحكومة الائتلافية المؤقتة. وبدأت الحكومة الروسية في تنفيذ خطتها، فشددت الصحافة الموالية لها الهجوم على البلاشفة، بدعوى أنهم أحبطوا الهجوم الروسي بدعاياتهم ضد الحرب. إلا أن سخط الجماهير سرعان ما انفجر بصورة عفوية، ففي 3 يوليه نظم جنود فوج الرماة الأول المرابط في بتروجراد، مظاهرة مسلحة ضد الحكومة، وأرسلوا مندوبيهم إلى المصانع وإلى بقية أفواج حامية بتروجراد، يحثونهم على الانضمام إلى المظاهرة. وانضم إليهم في مساء 23 يوليه جنود (9) قطاعات عسكرية، إضافة إلى بحارة كرونشتادت وعمال المصانع، الذين تجمعوا في ساعة متأخرة من الليل، أمام قصر توريد، وأخذوا يطالبون بإسقاط الحكومة المؤقتة وتسليم السلطة للسوفييتات. وكان البلاشفة بقيادة لينين قد عارضوا القيام بالمظاهرة، إذ رأوا أن الظروف لم تنضج بعد لإسقاط الحكومة. فالقوى الثورية الموجودة في العاصمة تكفي للاستيلاء على السلطة، إلا أن الحفاظ على هذه السلطة كان مستحيلاً، بسبب ثقة البلاد وقوات الجبهة بالحكومة، مما يجعل وقوف أغلبية الشعب ضد الثورة أمراً مرجحاً. إلاّ أن البلاشفة عجزوا عن كبح جماح الجماهير الهائجة، وقرروا السير في مقدمتها لتنظيمها.

الحكومة المؤقتة تستخدم العنف

وفي الرابع من يوليه خرج أكثر من نصف مليون شخص إلى الشوارع، تحت شعار “كل السلطة للسوفييتات”. وضمت المظاهرة فصائل من الحرس الأحمر ومن بحارة كرونشتادت والجنود الثوريين. وتردد زعماء اللجنة التنفيذية للسوفييت، وتمركزت الحكومة المؤقتة في قصر ماري، واستقدمت من جبهة القتال فرقة الخيالة 14، وفوج قوزاق الدون، وفرقة من الأوهالانس، وفوج أيسبورسكي 177، وفوج مالوروسيسكي، وفتحت هذه القوات النار على المظاهرة وشتتت الجنود والعمال. وفي 4 ـ 5 يوليه حطمت الفصائل الموالية للحكومة مقر صحيفة “البرافدا” ومطبعتها. وعهدت الحكومة إلى فصيلة خاصة من اليونكرز (طلبة المدارس العسكرية) بالبحث عن لينين واعتقاله أو قتله. إلا أن لينين تمكن من الاختفاء مع عدد من قادة البلاشفة.

وحاولت الحكومة المؤقتة إقامة ديكتاتورية للثورة المضادة، وشنت حملة اعتقالات واسعة، في الشهر نفسه ضد البلاشفة، وسحبت الوحدات العسكرية الثورية من بتروجراد، وأرسلتها إلى الجبهة. وفي الجيش أعيد العمل بعقوبة الإعدام في 27 يوليه. واعتقل آلاف الجنود لرفضهم تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، وأُعدم العديد منهم رمياً بالرصاص. وانتقلت السلطة بكاملها للبرجوازيين. عندها تأكد الحزب البلشفي أن إمكانية وصول العمال والفلاحين الكادحين إلى السلطة بطريقة سلمية قد تلاشت.

المؤتمر السادس للحزب البلشفي

استبدل البلاشفة تكتيكاتهم بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، فمنذ يوم 27 يوليه وحتى بداية أغسطس، انعقد في بتروجراد؛ بصورة شبه سرية، المؤتمر السادس للحزب البلشفي، الذي بلغت عضويته آنذاك (24) ألف عضو. وقرأ ستالين التقرير السياسي الذي أعده لينين، الغائب عن المؤتمر. وفيه أن من المستحيل على الطبقة العاملة الروسية الحصول على السلطة بصورة سلمية، بل لا يمكن الاستيلاء على السلطة إلا بالقوة، بعد إسقاط حكومة الثورة المضادة. ورأى لينين أن شعار “كل السلطة للسوفييتات” لم يعد يناسب الوضع الجديد، بعد أن أصبحت السوفييتات ذيلاً للحكومة البرجوازية. ودعا لينين المؤتمر إلى تشديد الكفاح لكسب السوفييتات إلى جانب البلاشفة. وأقر المؤتمر خطة إعداد الانتفاضة المسلحة لإسقاط حكم الرأسمالية. وصادق المؤتمر على خطة الحزب الاقتصادية، التي صاغها لينين فيما عرف بـ”موضوعات لينين”. وهي التي رأت أن اقتصاد روسيا يتدهور، وأن الشعب يعاني من الجوع والفقر المدقع، وأن قيمة النقد الروسي في هبوط مستمر، في حين اشتدت التبعية لرأس المال الأجنبي، مما حول روسيا إلى شبه مستعمرة للإمبرياليين الأجانب. وانتهت الخطة إلى أن إنقاذ روسيا لا يتم إلاّ بإسقاط الحكومة البرجوازية، وبنقل السلطة إلى الطبقة العاملة والفلاحين الكادحين.

وفي هذا المؤتمر ضمت إلى الحزب الفرقة، التي كان يرأسها تروتسكي، كما ضم الجناح اليساري من المناشفة و” الانتر ـ ديستريكت”. ودعا المؤتمر إلى مضاعفة النشاط وسط الجماهير الروسية وتوحيد صفوف كل القوى الثورية الروسية، من أجل إسقاط ديكتاتورية البرجوازية. وفي الأول من أغسطس نُفي نيقولا الثاني وعائلته إلى طوبولسك في سيبيريا (وبقي هناك حتى اُعْدِمَ في عام 1918).

في خريف 1917 أوصلت سياسة الحكومة المؤقتة روسيا إلى حافة كارثة وطنية، بعد أن اتسعت أعمال التخريب في الصناعة وفي وسائط النقل، وتناقصت المواد الخام والوقود مما تسبب في إغلاق مئات المصانع، وانتشرت البطالة بين العمال، واختفت معظم مواد التموين الرئيسية، وارتفعت أسعار كل السلع، وكادت البلاد أن تصل إلى الإفلاس، بعد أن أغرقت الحكومة المؤقتة الأسواق بالعملة الورقية دون غطاء ذهبي، واعتمدت الحكومة المؤقتة بالكامل، على القوى الاستعمارية الغربية، حتى وصلت ديونها من هذه الدول إلى حوالي 60 مليار روبل من الذهب، ووقعت إضرابات عمالية واسعة، وتوقف (700) ألف من عمال السكك الحديدية عن العمل، مطالبين بتحسين شروط حياتهم، وما كادت الحكومة تتفاهم مع هذا الإضراب حتى أضرب عمال التعدين والأحذية، وتبعهم (300) ألف من عمال النسيج. وتميزت هذه الإضرابات عما سبقها من إضرابات، بطرد العديد من أصحاب العمل، واستيلاء العمال على إدارة المصانع. واشتعلت ثورات الفلاحين في سائر أنحاء روسيا.

محاولة القيام بانقلاب عسكري

وفي 21 أغسطس سقطت ريغا في يد الألمان. واستغل الجنرال كورنيلوف، القائد العام للجيش الروسي، هذه الفرصة وحاول القيام بانقلاب عسكري في 27 أغسطس لإقامة ديكتاتورية عسكرية. وتحركت قواته باتجاه العاصمة. وهنا تضافر البلاشفة مع الحكومة، وأحبطوا المؤامرة الانقلابية. وألقى القبض على كورنيلوف. وعُين كيرنسكي قائداً عاماً للجيوش الروسية في 30 أغسطس، مما أجج حركة الفلاحين، فهبوا يطالبون بالأرض، واستولوا في الشهر نفسه، على (440) ضيعة من أراضي كبار الملاك. وفي الشهر التالي فرضوا سيطرتهم على (958) ضيعة أخرى. وفي 31 أغسطس وافق سوفييتات بتروجراد على مشروع قرار قدمه النواب البلاشفة بنقل السلطة إلى السوفييتات، فسارع كيرنسكي، في أول سبتمبر، إلى تشكيل حكومة من خمسة أعضاء، وأُعلنت الجمهورية الروسية. وفي 5 سبتمبر وافق سوفييتات موسكو على قرار مماثل، وتوالت بقية السوفييتات في تبني قرارات مماثلة. وانحازت حاميتا بتروجراد وموسكو إلى صف البلاشفة، وحدث الشيء نفسه مع أسطول البلطيق، ومع جنود الجبهتين الشمالية والغربية. وتعاظمت حركة التحرر القومي في الأقاليم التي تهيمن عليها روسيا. وفي الوقت نفسه كانت الحكومة المؤقتة تعاني أزمة مستمرة في السلطة، حاولت التغلب عليها من خلال التغيير المستمر في مجلس الوزراء. وعمت الفوضى صفوف المناشفة، وانفصل عنهم فريق سمى نفسه “الاشتراكيون الديموقراطيون الأمميون”، وطالب هذا الفريق بضرورة التحالف مع البلاشفة، وظهر جناح يساري في الحزب الاشتراكي الثوري، سرعان ما تبلور في حزب “الاشتراكيين الثوريين اليساريين”، وبادر إلى التحالف مع البلاشفة. وتطور الموقف، حين رفضت “القاعدة” العيش بالطريقة القديمة، في حين عجزت “القمة” عن الحكم بالطريقة القديمة. ودولياً، كانت الق وى الإمبريالية مشتبكة مع بعضها البعض في حرب ضارية، ولم يكن بوسعها وقف هذه الحرب والتفرغ لوأد الثورة في روسيا. وبذا تكون الأزمة الثورية قد نضجت، إذ أصبحت الظروف مواتية لإشعال الثورة المسلحة ضد الحكومة المؤقتة.

الاستيلاء على السلطة

24 ـ 26 أكتوبر (ثورة أكتوبر عام 1917)

لينين يضرب ضربته

أدرك لينين عندئذ أن الوقت قد حان لكي يضرب ضربته؛ ففي منتصف سبتمبر 1917 (حسب التقويم الروسي القديم) الموافق 28 سبتمبر (حسب التقويم الحالي)، أرسل لينين، من منفاه الاختياري بفنلندا، عدة رسائل إلى اللجنة المركزية للحزب البلشفي، ولجنتي بتروجراد، أكد فيها على ضرورة إسراع البلاشفة في الاستيلاء على السلطة في روسيا.

وفي يوم 20 أكتوبر عاد لينين من فنلندا إلى. بتروجراد متخفياً. ومنذ الثالث والعشرين من الشهر نفسه عقدت اللجنة المركزية للحزب البلشفي عدة اجتماعات سرية برئاسة لينين، بهدف مناقشة الاستعدادات للثورة وخطوات تنفيذها، كما انتخبت مكتباً سياسياً من سبعة أعضاء.

وقرأ لينين في اجتماع 23 أكتوبر تقريراً عن ضرورة إشعال الثورة المسلحة. وصادقت اللجنة المركزية على ذلك إلاّ أن اثنين من أعضاء اللجنة المركزية، هما كامنييف وزينوفييف، عارضا هذا القرار، في حين أيد 20 من أعضاء اللجنة المركزية وامتنع ثلاثة آخرون عن التصويت. وكان عدد أعضاء الحزب البلشفي قد بلغ، حينذاك، زهاء 400 ألف عضو. وعن هذه الدورة للجنة المركزية انبثقت “اللجنة العسكرية الثورية” برئاسة لينين نفسه، وأشرفت على مجمل الأعمال في الإعداد وقيادة الثورة المسلحة. وانتشر مندوبو اللجنة المركزية للحزب البلشفي في المناطق الصناعية الروسية بهدف قيادة الانتفاضة. وشكلت اللجنة التنفيذية لمجلس سوفيات بتروجراد لجنة ثورية عسكرية، برئاسة بودوفويسكي وأرسلت اللجنة مفوضيها إلى كافة الوحدات العسكرية المرابطة في العاصمة وضواحيها. واستكملت قوى الثورة استعداداتها لشن الهجوم.

وفي الاجتماع التالي في 23 أكتوبر 1917، أشار لينين مرة أخرى إلى التمرد في الأسطول الألماني وقال: “إن الموقف الدولي يعطينا سلسلة من الأسباب الموضوعية للاعتقاد بأننا إذا أقدمنا الآن فسنجد، في البروليتاريا الأوروبية كلها، حليفاً يقف إلى جانبنا”. وكان ستالين هو الذي طالب في الاجتماع “بثقة أكثر” في الموقف الدولي.

مساء الثلاثاء 24 أكتوبر (6 نوفمبر)

أعد البلشفيك لكل شيء عدته حتى ينجح الانقلاب، وفي مساء 6 نوفمبر، الموافق الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1917 (التقويم القديم)، دعا لينين قوى الثورة إلى حسم الأمر هذا اليوم، وطلب من اللجنة المركزية للحزب البلشفي السماح له بترك مخبئه في ضاحية فيبورج، والتوجه إلى سمولني حيث يجتمع سوفييت بتروجراد، واللجنة المركزية البلشفية، واللجنة العسكرية الثورية بصورة مستمرة. وبالفعل ترك مخبأه واتجه إلى سمولني. وما أن وصل إلى مكان الاجتماع حتى أعطت اللجنة العسكرية الثورية الأمر بشن الثورة المسلحة.

كما أعلن البلشفيك أن أعداء الثورة بدأوا يرفعون رؤوسهم، وأن القواد القيصريين يريدون القضاء على “المؤتمر العام للسوفييت والجمعية الدستورية”، واكتظت بتروجراد ليلة 24 ـ 25 أكتوبر (حسب التقويم القديم) ليلة 6 ـ 7 نوفمبر بفصائـل الحرس الأحمر والجنود والبحارة الثوريين، وبسيارات الشحن التي تنقل المواطنين المسلحين. وبناء على أوامر الحزب البلشفي وقائده لينين، احتل الحرس الأحمر والجنود والبحارة الثوريون محطات السكك الحديدية، والجسور ومراكز المواصلات ومحطات الكهرباء ودوائر الحكومة ومصرف الدولة وغيرها من المرافق. وشق الطراد الموالي للبلاشفة “أورورا” مياه نهر نيفا، وتوقف عند جسر نيكولايفسكي.

صباح الأربعاء 25 أكتوبر (7 نوفمبر)

في صباح 25 أكتوبر 1917 (7 نوفمبر) صدر بلاغ بلشفيكي يعلن سقوط الحكومة المؤقتة. والقبض على جميع أعضائها، فيما عدا “كرنسكي” الذي استطاع الفرار. وأقر مؤتمر السوفييت العام ذلك الانقلاب، وكوَّن في اليوم نفسه حكومة مؤقتة جديدة، أطلق عليها اسم المجلس السوفييتي لوكلاء الشعب “SOVIET OF THE PEOPLES , COMMISSARS” وانتخب لينين رئيساً لهذا المجلس، وتروتسكي وزيراً للخارجية.

أصدر المجلس البيان التالي:

إن الحكومة المؤقتة قد عُزلت. وانتقلت سلطة الدولة إلى يد جهاز سوفييت بتروجراد لنواب العمال والجنود ـ اللجنة العسكرية الثورية، القائمة على رأس بروليتاريا بتروجراد وحاميتها. وهي تضمن تحقيق الأهداف التي ناضل الشعب من أجلها، وهي التصالح الديموقراطي في الحال، وإلغاء الملكية الكبيرة للأرض، والرقابة العمالية على الإنتاج وإقامة حكومة سوفييتية.

وفي صباح يوم 25 أكتوبر كان معظم بتروجراد في أيدي الثوار البلاشفة، وإن احتفظت قوات الثورة المضادة ببضع مراكز في وسط المدينة، بما فيها “قصر الشتاء”، حيث قبع وزراء الحكومة المؤقتة، تحت حماية كتيبة من اليونكرز، في حين فر رئيس الحكومة كيرينسكي، سراً من بتروجراد، في سيارة السفارة الأمريكية، واتجه إلى قطاعات القوزاق المسحوبة من الجبهة، بغية العودة معها إلى العاصمة. وسرعان ما صفت قوات الثورة جيوب قوات الثورة المضادة في بتروجراد. وحتى مساء 25 أكتوبر (بالتقويم الروسي القديم) ظل “قصر الشتاء”، محاصراً بقوات كثيفة من الحرس الأحمر والجنود والبحارة الثوريين. وفي الساعة 21 دوت فوق نهر نيفا وبتروجراد، القنبلة الأولى من مدافع الطراد “أوروبا”، إشارة للبدء في الهجوم على “قصر الشتاء”. وبعد ساعات قليلة احتلت قوات الثورة القصر، واعتقلت الوزراء السابقين، وأودعتهم قلعة بطرس وبولص، حيث كان القيصر يسجن الثوار من قبل. ورفرف العلم الأحمر فوق العاصمة الروسية بتروجراد.

الخميس 26 أكتوبر (8 نوفمبر 1917)

كان مرسوم السلام المشهور ـ الذي كان في الحقيقة نداء إلى جميع حكومات وشعوب الدول المتحاربة لعقد صلح ديموقراطي ـ أول إجراء في مجال السياسة الخارجية قامت به “حكومة العمال والفلاحين المؤقتة”، وأقره “المؤتمر الثاني لسوفيتات عموم روسيا”، في 26 أكتوبر 1917، اليوم التالي لانتصار الثورة. كان نداء السلام موجها إلى الفلاحين المجندين. فقد كان النظام في تلك اللحظة الحرجة يعتمد على تأييد جماهير الفلاحين، الذين ظلت وجهة نظرهم، بالمصطلح الماركسي، “بورجوازية صغيرة”، وطالما كان الأمر كذلك فإن الثورة لا تستطيع أن تتخلص من إطارها البرجوازي ـ الديموقراطي، وقد كتب لينين فيما بعد: إن الجماهير “التي أرهقتها أربع سنوات من الحرب لم تكن تريد إلا السلام، ولم تكن في حالة تسمح لها بأن تسأل: لماذا الحرب؟”.

كما أن تفكير لينين لم يكن في الفلاحين وحدهم. فقبل نهاية القرن التاسع عشر بدأت أفكار البورجوازيين الراديكاليين الداعين إلى السلام تتسرب إلى الاتجاه الديموقراطي الاجتماعي فيما يتصل بالحرب والسلام وبخاصة في ألمانيا وروسيا. وكان لينين قد تكهن قبل ذلك بعامين بأنه “لا ألمانيا ولا إنجلترا ولا فرنسا” يمكن أن تقبل السلام، على الأسس التي يقترحها البلاشفة. ولكن كان من حسن السياسة التقدم باقتراحات معقولة بدرجة تجعل رفضها محرجاً، وكان الإغراء واضحا لصياغتها بلغة أقرب ما يمكن إلى لغة الغرب. وكانت الحكومة السوفيتية قد ورثت عن الحكومة المؤقتة مراعاة وجود مصلحة مشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا الثورية في الحملة من أجل سلام ديموقراطي.

وهكذا كان مرسوم السلام، الذي اقره المؤتمر الثاني لسوفيتات روسيا، صبيحة يوم الثورة اقتراحاً لتحقيق سلام فوري موجهاً “إلى جميع الشعوب المحاربة وحكوماتها” وأذيع في جميع أنحاء العالم. فهو لم يطالب بسلام اشتراكي، بل بسلام “عادل وديموقراطي” بلا ضم ولا تعويضات، يقوم على حق تقرير المصير القومي لكل الأمم “بالتصويت الحر”. وأعلن إلغاء الدبلوماسية السرية، وإن الحكومة تنوى نشر المعاهدات السرية الماضية، وأن تكون جميع مفاوضاتها المقبلة “علنية تماماً أمام كل الشعب”. ولم يقل شيئاً عن الرأسمالية كسبب للحرب، أو عن الاشتراكية كعلاج لها. وجاءت الإشارة الوحيدة للثورة العالمية في عبارته الختامية، التي دعا فيها العمال الإنجليز والفرنسيين والألمان لمساعدة إخوانهم الروس “على العمل على نجاح الجهود من أجل السلام، وعلى تحرير الجماهير الكادحة والمطحونة من كل أنواع العبودية والاستغلال”.

أمر صادر من كيرنسكي

في صباح 26 أكتوبر (8 نوفمبر عام 1917) نشرت جريدة “فوليانارودا” أمراً صادراً من كيرنسكي في بسكوف ينص على: “إن الاضطرابات القائمة التي أثارها جنون البلاشفة تضع دولتنا على شفا الهلاك وتتطلب الثبات والصمود وأن يؤدى كل فرد واجبه للخروج بوطننا من المحنة القاتلة التي يعانيها. وإلى أن يتم تشكيل حكومة مؤقتة جديدة، ينبغي على كل واحد منا أن يبقى في مركزه، ويؤدى واجبه حيال الوطن المعذب. وينبغي أن نتذكر أن أقل مساس بتنظيم الجيش الحالي قد يؤدى إلى مصائب لا يمكن تلافيها، إذ يفتح الطريق لضربة جديدة من العدو.

ومن ثم لابد من المحافظة على معنويات الجيش القتالية مهما كلف الأمر، بالحفاظ على النظام التام وصيانة الجيش من الهزات الجديدة، وعدم زعزعة الثقة المتبادلة بين الرؤساء ومرؤوسيهم. وأنى لآمر جميع الرؤساء والمفوضين، في سبيل إنقاذ الوطن، أن يحافظوا على مراكزهم مثلما أحافظ أنا على منصبي، كقائد أعلى، إلى أن تعلن الحكومة المؤقتة للجمهورية إرادتها…”.

مؤتمر السوفييتات الثاني

في مساء السادس والعشرين من أكتوبر (تقويم روسي قديم) افتتحت جلسة مؤتمر السوفييتات الثاني، الذي ضم أكثر من 650 مندوباً، منهم نحو 400 بلشفي، ونحو 180 من الاشتراكيين الثوريين، وبقى للاشتراكيين الثوريين والمناشفة ما بين 70 و80 مندوباً، غادر معظمهم مكان المؤتمر، في حين انضمت بقيتهم إلى أغلبية المؤتمر. واتخذ المؤتمر قراراً بانتقال السلطة كلها إلى السوفييتات. وقدم لينين إلى المؤتمر تقارير، أشار فيها إلى أن البلاشفة عرضوا على حكومات البلدان المتحاربة جميعها الشروع فوراً في مفاوضات لعقد صلح ديموقراطي عام، دون تعويضات، أي دون الاستيلاء على أراضي الغير، ودون ابتزاز التعويضات الحربية من المهزوم، مع منح جميع الأمم والشعوب الحق في تقرير مصيرها. واقترح لينين على المؤتمر إقرار “مرسوم الأرض”، الذي ينص على مصادرة جميع أراضي الملاك والأديرة والعائلة القيصرية، بلا تعويض، وتمليكها للشعب. وشكل المؤتمر الحكومة السوفييتية، التي حملت آنذاك اسم “مجلس مفوضي الشعب”. وعُيَّن لينين رئيساً لهذه الحكومة، كما انتخب المؤتمر أعضاء “اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا” واختار كامنييف رئيسا لهذه اللجنة. وفي إطار الحكومة السوفييتية شُكلت “لجنة الشؤون العسكرية والبحرية”، التي ضمت بلاشفة من ذوى الخبرة العسكرية، وهم: انتونوف، وأوفسيينكو، والملازم الثاني كريلينكو، والبحار ديبينكو (رئيس اللجنة المركزية لأسطول البلطيق). وكانت هذه اللجنة أول هيئة حكومية سوفييتية للإدارة العسكرية. وبعد فترة وجيزة أضيف إلى هذه اللجنة أعضاء جدد، وتحولت إلى “مفوضية الشعب للشؤون العسكرية والبحرية”.

رد من مؤتمر السوفييتات

ورداً على نداء كيرنسكي أصدر مؤتمر سوفييتات عموم روسيا نداءً أُلصق على جميع الجدران: “اعتقلت اللجنة الثورية الوزراء السابقين كونوفالوف وكيشكين وتيريشنكو وماليانتوفيتش ونيكيتين، وغيرهم بينما فر كيرنسكي. فعلى جميع منظمات الجيش أن تتخذ التدابير لاعتقال كيرنسكي على الفور وترحيله إلى بتروجراد. وكل مساعدة تقدم له سيعاقب عليها بوصفها جريمة نكراء في حق الدولة.

بعد اجتماعات طويلة قضاها لينين، ومعه تروتسكي، في مباحثات مستمرة مع أنصار المساومة من البلاشفة والاشتراكيين، قرر تشكيل حكومة اشتراكية. وفي الساعة الثامنة والدقيقة الأربعين ظهر أعضاء هيئة الرئاسة، وبينهم لينين، أمام رجال الصحافة والجماهير المحتشدة ووقف لينين على المنبر قائلاً: “لقد دقت الآن ساعة العمل لبناء النظام الاشتراكي! إن أول مهمة ينبغي أن نقوم بها هي اتخاذ خطوات عملية لتحيق السلام، ينبغي لنا أن نقترح على شعوب جميع البلدان المتحاربة صلحاً قائماً على أساس الشروط السوفييتية دون تعويضات، على أساس حرية الشعوب في تقرير مصيرها. وفي الوقت نفسه، كما وعدنا، نحن ملزمون بنشر المعاهدات السرية والامتناع عن التقيد بها. إن مسألة الحرب والسلام هي من الوضوح بحيث أستطيع، دون أية مقدمات، تلاوة مشروع النداء إلى شعوب جميع البلدان المتحاربة… “.

وتلا لينين مشروع النداء: إن حكومة العمال والفلاحين المنبثقة من ثورة 24 ـ 25 أكتوبر 1917 والمستندة إلى سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين تقترح على جميع الشعوب المتحاربة وعلى حكوماتها أن تشرع على الفور في مفاوضات إقرار صلح ديموقراطي عادل. إن الحكومة لا تطمح إلا إلى الصلح الديموقراطي أو العادل في جميع البلدان المتحاربة، وهو ما تتعطش إليه الغالبية العظمى من العمال والطبقات الكادحة التي أرهقتها الحرب وأنهكتها وأذاقتها العذاب الصلح الذي يقوم على أساس العدالة وعدم اغتصاب أراضي الغير أو ضم للقوميات الأجنبية إلى كيان دولة أخرى بالقوة ومن دون تعويض. هذا هو الصلح الذي تقترحه حكومة روسيا على جميع الشعوب المتحاربة، لتبرمه على الفور، وهي تعلن أنها مستعدة لأن تقوم دون مماطلة، بكل الخطوات الحازمة الضرورية، قبل أن يتم التصديق النهائي على كل شروط هذا الصلح، من قبل مجالس ممثلي الشعب، في جميع البلدان والأمم.

“وإن الحكومة لتقصد بالدمج أو الاستيلاء على الأراضي الأجنبية ـ حسب المفهوم الصحيح للديموقراطية عامة، والطبقات الكادحة خاصة ـ كل ضم لقومية صغيرة أو ضعيفة تقوم به دولة كبيرة أو قوية إلى كيانها، دون أن تعبر هذه القومية عن موافقتها ورغبتها تعبيراً دقيقاً واضحاً حراً، أيا كان زمن حدوث هذا الضم القسري ومهما كان مستوى التطور الحضاري أو تأخره، للأمة التي ضُمت بالقوة أو الداخلة بالقوة في حدود الدولة المعنية، وأخيراً لا يؤثر في ذلك كون تلك الأمة في أوروبا أو في البلدان النائية عبر المحيطات.

وأي أمة تُضم بالقوة إلى دولة من الدول، ولا تعط الحق ـ على الرغم من إعلانها في الصحافة أو في الاجتماعات الشعبية أو قرارات الأحزاب أو بالتمرد أو الانتفاضات ضد الاضطهاد القومي ـ لتقرر مصيرها بحرية تامة، بعد جلاء تام لجيوش الأمة الضامة، فإن ضم هذه الأمة يعد دمجا، واحتلالاً. “وترى الحكومة أن الاستمرار في هذه الحرب لتمكين الأمم القوية والغنية من أن تتقاسم، فيما بينها، الشعوب الضعيفة والمغلوبة على أمرها، هو أعظم جريمة في حق الإنسانية. وأنها لتعلن رسمياً عن عزمها على التوقيع فوراً على صلح يوقف هذه الحرب بالشروط المشار إليها، مع تحري العدالة بالدرجة نفسها لجميع الشعوب، دونما استثناء.

“وتعلن الحكومة، في الوقت نفسه، أنها لا تعد شروط الصلح المشار إليها آنفا شروطا نهائية. فهي تقبل أن تبحث أي شروط أخرى للصلح تقترحها أي دولة متحاربة، على أن تكون واضحة كل الوضوح وخالية من أي غموض أو التباس. إن الحكومة تلغي الدبلوماسية السرية، وتعبر من جانبها عن عزم ثابت على إجراء المفاوضات كلها بشكل علني تماماً أمام الشعب بأسره، وتنشر على الفور بالنص الكامل، المعاهدات السرية التي أبرمتها أو عقدتها حكومة الإقطاعيين والرأسماليين منذ شهر فبراير حتى 25 أكتوبر 1917. وتعلن الحكومة أنها تلغى من الآن، دون قيد ولا شرط، مضمون هذه المعاهدات السرية التي كان هدفها غالباً تأمين مغانم وامتيازات الإقطاعيين والرأسماليين الروس، والمحافظة على الأراضي التي اغتصبها الروس أو تنميتها.

والحكومة، إذ تدعو حكومات جميع الدول وشعوبها إلى الشروع، على الفور، في مفاوضات علنية لعقد الصلح، تعلن من جانبها أنها مستعدة لإجراء هذه المفاوضات إما كتابياً تلغرافياً، وإما عن طريق المحادثات بين ممثلي مختلف البلدان، أو في مؤتمر ينعقد لهؤلاء الممثلين. وإن الحكومة، تسهيلاً منها لهذه المفاوضات، تعين ممثلاً عنها له مطلق الصلاحية في البلدان المحايدة. وتقترح الحكومة على جميع الحكومات والشعوب، في جميع الدول المتحاربة، عقد هدنة فوراً، مدتها ثلاثة أشهر على أقل تقدير، يمكن خلالها إجراء محادثات الصلح، بالاشتراك مع ممثلي جميع القوميات أو الأمم دونما استثناء، سواء من اندفع منها إلى الحرب، أو اضطر إلى خوضها، كذلك عقد مجالس لممثلي الشعوب في جميع البلدان، للتصديق النهائي على شروط الصلح.

إن حكومة العمال والفلاحين المؤقتة في روسيا، إذ تتوجه باقتراح الصلح هذا إلى حكومات جميع الدول المتحاربة وشعوبها، تتوجه في الوقت نفسه وبصفة خاصة إلى العمال المستنيرين في أكثر أمم الإنسانية تقدماً، أي الدول الثلاث الكبرى من الدول المشتركة في الحرب: إنجلترا وفرنسا وألمانيا. إن عمال هذه البلدان أسدوا أعظم خدمة إلى قضية التقدم والاشتراكية: في إنجلترا، وفرنسا، وأخيراً النضال البطولي ضد القانون الاستثنائي في ألمانيا، والعمل الدؤوب العنيد المنظم النموذجي لعمال العالم أجمع لإنشاء منظمات بروليتارية جماهيرية في ألمانيا ـ إن كل هذه النماذج، عن بطولة البروليتاريا والإبداع التاريخي، لهي ضمان لها بأن عمال هذه البلدان سيفهمون الواجبات الملقاة على عواتقهم اليوم، واجبات تحرير الإنسانية من أهوال الحرب ونتائجها، وبأن هؤلاء العمال، بنشاطهم الحازم والمتفاني والمتنوع الوجوه، سيساعدوننا على السير قدماً إلى النهاية بنجاح، في قضيتي السلام وتحرير الجماهير الكادحة من كل عبودية واستغلال”.

وحين هدأت عاصفة التصفيق، استأنف لينين الحديث من جديد

“إننا نقترح على المؤتمر الموافقة على هذا النداء والمصادقة عليه. إننا لا نتوجه إلى الشعوب فقط، بل إلى الحكومات كذلك؛ لأن التوجه إلى شعوب البلدان المتحاربة وحدها، من شأنه أن يؤخر عقد اتفاقية الصلح. وشروط الصلح سيجري إعدادها أثناء الهدنة وتصديقها من قبل الجمعية التأسيسية. ونحن نريد من تحديد مدة الهدنة بثلاثة شهور أن نعطي الشعوب أطول فترة راحة ممكنة من الحرب الدامية والوقت الكافي لانتخاب ممثلين عنها. إن بعض الحكومات الإمبريالية ستعارض اقتراحاتنا السلمية، ونحن لا نضلل أنفسنا في هذا الصدد. ولكننا نأمل أن تشتعل الثورة في جميع الدول المتحاربة، ولهذا نتوجه تحديداً بإلحاح خاص إلى العمال الفرنسيين والإنجليز والألمان … “.

وختم قائلاً: “إن ثورة 24 ـ 25 أكتوبر تدشن عصر الثورة الاجتماعية. إن الحركة العمالية في سبيل السلام والاشتراكية ستصل إلى النصر وستؤدي رسالتها …”

لقيت هذه الكلمات حماساً وترحيباً من جموع الشعب، ثم قدم اقتراح يقضي بإعطاء حق الحديث لممثلي الكتل السياسية فقط وتحديد مدة الحديث بخمس عشرة دقيقة. فكان أول المتحدثين هو كاريلين عن الاشتراكيين ـ الثوريين اليساريين، فقال: “إن كتلتنا لم يتح لها فرصة تقديم تعديل على نص النداء، فهو صادر عن البلاشفة وحدهم. ولكننا سنصوت إلى جانبه مع ذلك، لأننا نرحب كل الترحيب باتجاهه العام…”.

وتحدث كراماروف عن الاشتراكيين ـ الديموقراطيين الأمميين، أعلن قائلاً أنه ليس يمكن إلا لحكومة مؤلفة من ممثلي جميع الأحزاب الاشتراكية أن تكون لها الصلاحية الكاملة للإقدام على عمل بمثل هذا القدر من الأهمية. فإذا ما تشكل مثل هذا الائتلاف الاشتراكي فإن كتلتنا ستؤيد البرنامج بكامله، وإلا فإنها ستؤيده جزئياً فقط. أما فيما يتعلق بالنداء فإن الأمميين يؤيدون نقاطه الأساسية.

وبعد هذا تحدث الخطباء الواحد إثر الآخر، في جو من الحماسة المتزايدة. وأيد النداء ممثلو الاشتراكيين ـ الديموقراطيين الأوكرانيين، والاشتراكيين ـ الديموقراطيين الليتوانيين، والاشتراكيين الشعبيين، والاشتراكيين ـ الديموقراطيين البولونيين واللاتفيين. وكذلك أيد الحزب الاشتراكي البولوني النداء، ولكنه ألمح إلى أنه يفضل الائتلاف الاشتراكي. وأعلن أحد المندوبين قائلاً: “ثمة شئ من التناقض. في البداية تقترحون صلحاً دون تعويضات، ثم تقولون أنكم مستعدون للنظر في جميع مقترحات الصلح. والاستعداد للنظر يعني الإقرار…”.

وفي الحال هب لينين واقفاً وقال: “إننا نريد صلحاً عادلاً، ولكننا لا نخشى الحرب الثورية، والأرجح أن الحكومات الإمبريالية لن تستجيب لدعوتنا، ولكننا لا ينبغي أن نقدم لهم إنذاراً نهائياً يكون من اليسير جداً الرد عليه بالرفض. فإذا ما رأت البروليتاريا الألمانية أننا مستعدون لبحث أي اقتراح للصلح فقد يكون هذا هو القطرة الأخيرة التي تجعل الكأس تطفح، فتندلع الثورة في ألمانيا. إننا موافقون على بحث أية شروط للصلح، ولكن هذا لا يعني البتة أننا موافقون على قبولها. إننا سنناضل حتى النهاية، في سبيل بعض شروطنا، ولكن من الممكن جداً أن تكون بينها شروط لا نرى أن من الضروري متابعة الحرب في سبيلها. ولكن الأمر الرئيسي هو أننا نريد الانتهاء من الحرب…”.

كانت الساعة قد بلغت العاشرة والدقيقة الخامسة والثلاثين تماماً، حين اقترح كامينيف على جميع المؤيدين للنداء أن يرفعوا بطاقات انتدابهم. وحاول أحد المندوبين أن يرفع يده معارضاً، ولكن عاصفة الاستنكار التي انفجرت من حوله كانت من الشدة بحيث جعلته يسرع في التراجع. وتم الإقرار بالإجماع.

مرسوم الأرض

وبعد إقرار مرسوم السلام بالإجماع، وقف لينين وقرأ مرسوم الأرض:

  1. تُلغى الملكية الكبيرة للأرض على الفور دون أي تعويض.
  2. توضع الملكيات العقارية الكبيرة، كذلك جميع أراضي الإقطاع، وأراضي الأديرة والكنائس، مع جميع ممتلكاتها الحية والميتة ومبانيها وتوابعها، تحت تصرف اللجان الزراعية في الأقضية وسوفييتات نواب الفلاحين في النواحي حتى انعقاد الجمعية التأسيسية.
  3. كل إتلاف للممتلكات المصادرة، التي هي منذ الآن ملك للشعب بأسره، يعد جريمة خطيرة توقع صاحبها تحت طائلة العقاب أمام المحكمة الثورية. وعلى سوفييتات نواب الفلاحين في النواحي أن تتخذ جميع التدابير اللازمة للمحافظة على النظام الصارم، عند مصادرة أراضي كبار الملاك، وتحديد مساحة الأراضي موضوع المصادرة وتعيينها بدقة، ووضع قائمة دقيقة بجميع الممتلكات المصادرة، وتأمين الحماية الثورية لجميع الاستثمارات الزراعية والمنشآت والماشية والمؤونة، إلخ. التي تنتقل إلى الشعب.
  4. إن توصيات الفلاحين الإلزامية التالي نصها، التي وضعت من قبل هيئة تحرير “أزفستيا سوفييت نواب الفلاحين لعموم روسيا”، على أساس (242) توصية فلاحية محلية، والمنشورة في عدد “الأزفستيا” هذه رقم (88) [بتروجراد، رقم (88)، 19 أغسطس عام 1917] يجب الاسترشاد بها عند القيام بالتحويلات الزراعية الكبرى إلى أن تتخذ الجمعية التأسيسية القرار النهائي بشأنها.
  5. لا تصادر أراضي الفلاحين البسطاء والقوزاق البسطاء.

وأضاف لينين قائلاً: “ليس هذا بمشروع الوزير السابق تشيرنوف الذي كان يقول بضرورة التمهيد لذلك ويحاول إجراء الإصلاح من فوق. إن مسألة توزيع الأراضي ستبدأ من القاعدة، عن كثب. وما يصيب الفلاحين من الأرض سيكون حسب المنطقة التي يقيم فيها”.

وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل طرح مرسوم الأرض للتصويت وتم إقراره بكامل الأصوات مقابل صوت واحد معارض.

تشكيل الحكومة

وفي الساعة الثانية والدقيقة الثلاثين صباحاً ساد الاجتماع صمت وتوتر. قرأ كامينيف مرسوم تشكيل الحكومة: “تؤلف من أجل إدارة البلاد، حتى انعقاد الجمعية التأسيسية، حكومة عمال وفلاحين مؤقتة تسمى مجلس مفوضي الشعب. ستتولى إدارة مختلف نواحي حياة الدولة لجان، يكون على أعضائها مهمة تنفيذ برنامج المؤتمر بالتعاون الوثيق مع المنظمات الجماهيرية للعمال والعاملات والبحارة والجنود والفلاحين والمستخدمين. والسلطة الحكومية تعود للهيئة المؤلفة من رؤساء هذه اللجان، أي لمجلس مفوضي الشعب.

إن الرقابة على نشاط مفوضي الشعب وحق عزلهم من حق مؤتمر سوفييتات نواب العمال والفلاحين والجنود لعامة روسيا ولجنته التنفيذية المركزية…” وساد القاعة هدوء تام ؛ وبعد ذلك صاحبت عواصف التصفيق قراءة قائمة مفوضي الشعب بعد كل اسم، وبخاصة لينين وتروتسكي كالتالي:

“… رئيس المجلس– فلاديمير أوليانوف (لينين)؛

مفوض الشعب للداخلية: ريكوف،

للزراعة: ميليوتين،

للعمل: شليا بنيكوف

للحربية والبحرية: لجنة مؤلفة من: أوفسيينكو (أنطونوف)، كريلنكو، ديبنكو؛

للتجارة والصناعة: نوغين؛

للتعليم العام: لوناتشارسكى؛

للمالية: سكفورتسوف (ستيبانوف)؛

للخارجية: برونشتاين (تروتسكى)؛

للعدل: أبّوكوف (لوموف)؛

للتموين: تيودوروفيتش؛

للبريد والبرق: أفيلوف (غليبوف)؛

رئيس لشئون القوميات: جوغاشفيلى (ستالين)

يبقى شاغراً بصورة مؤقتة منصب المفوض لشئون السكك الحديدية”.

انتخاب مجلس مفوضي الشعب

وبعد ذلك جرى انتخاب مجلس مفوضي الشعب بالأغلبية الساحقة من الأصوات. ولم يستغرق البرلمان الجديد للجمهورية الروسية ، أكثر من ربع ساعة. وقرأ تروتسكي النتائج: مئة عضو، منهم سبعون بلشفياً، أما الفلاحون والأحزاب المنسحبة من المؤتمر فقد بقيت لهم مقاعد شاغرة. وختم تروتسكي قائلاً: “إننا نرحب في الحكومة بجميع الأحزاب والجماعات التي تتبنى برنامجنا”.

وإثر هذا اختُتِمَ، على الفور، مؤتمر السوفييتات الثاني لعموم روسيا لكي يتمكن مندوبوه من السفر بأقصى سرعة إلى جميع أنحاء روسيا ليبلغوا عن الأحداث الكبرى التي جرت. ويقول جون ريد: كانت الساعة قد بلغت السابعة صباحاً تقريباً حين أيقظنا قائدي عربات الترام الواقفة أمام سمولني، التي أرسلها اتحاد عمال الترام لنقل المندوبين إلى منازلهم. وقد كان الجو في العربات المزدحمة أقل فرحة، على ما بدا لي، مما كان عليه في الليلة الماضية. فقد كان تبدو على الكثيرين علامات القلق الشديد. ولربما كانوا يسائلون أنفسهم: “ها نحن قد أصبحنا سادة البلد، فكيف سيتسنى لنا تحقيق إرادتنا؟…”.

الجمعة 27 أكتوبر (9 نوفمبر)

قوات الثورة المضادة تتصدى للثورة

لم تستسلم قوات الثورة المضادة للهزيمة، فقاد كيرينسكي، مع الجنرال كراسنوف، وحدات من القوزاق من مدينة أوستروف في اتجاه بتروجراد بهدف استردادها من الثوار. وفي 27 أكتوبر (حسب التقويم الروسي القديم)، احتل القوزاق، بقيادة كراسنوف، “غاتشينا” الواقعة جنوب غربي العاصمة. وفي اليوم التالي احتلوا “تساركويه ـ سيلو”، وتقدموا حتى مسافة 20 كيلومتراً من العاصمة، في الوقت الذي أحبط فيه الثوار البلاشفة محاولة قام بها طلبة المدرسة العسكرية للتمرد في بتروجراد. وتكاتفت فصائل الحرس الأحمر ووحدات حامية بتروجراد والمدفعية والسيارات المصفحة وسفن أسطول البلطيق الحربية في مواجهة هجوم القوزاق. ونجح الحرس الأحمر والقوات الثورية في وقف تقدم القوزاق والانتصار عليهم، على مرتفعات بولكوفو، في 30 ـ 31 أكتوبر، وإجبارهم على التراجع نحو “غاتشينا”. مما هيأ الفرصة للثوار كي ينتقلوا من الدفاع إلى الهجوم.

طلب قسم من القوزاق التفاوض مع البلاشفة، فتوجه ديبينكو يرافقه بحار ثوري واحد، مساء الأول من نوفمبر (تقويم قديم) إلى “غاتشينا”، حيث يتمركز مقر قيادة القوات الرئيسية للقوزاق، ونجح في إقناع جموع القوزاق بوقف القتال ضد البلاشفة وتسليم غاتشينا، بل وتقرير اعتقال كيرينسكي وكراسنوف، وتسليمهما للحكومة السوفييتية. وفي اليوم التالي أصدرت “اللجنة الثورية العسكرية” بلاغاً عن العمليات، أعلنت فيه دحر قوات كيرينسكي، واعتقال جميع أركانه، وعلى رأسهم كراسنوف وفويتينسكي، في حين هرب كيرينسكي متخفياً في زي بحار.

اشتباكات دامية في شوارع موسكو

اعتباراً من السابع والعشرين من أكتوبر (تقويم قديم) نشبت في شوارع موسكو اشتباكات دامية، سرعان ما تحولت إلى معركة حقيقية، بين قوات الثورة وقوات الثورة المضادة. وتصدت فصائل الحرس الأحمر والجنود، لقوات الثورة المضادة، التي نجحت في الاستيلاء على الكرملين وبعض المواقع المهمة في موسكو، وسارع عمال قولا وفلاديمير، وغيرهما من المدن المجاورة لموسكو، إلى نجدة ثوار موسكو. وقاد فرونزه الفصيلة المؤلفة من عمال مدينتي إيفانوفو وشويا لمؤازرة الثوار في موسكو. ومن بتروجراد وصلت فصائل البحارة الثوريين. وخاض الثوار معارك طاحنة ضد قوات الثورة المضادة، لانتزاع المواقع التي تسيطر عليها.

وفي 2 نوفمبر استسلمت لجنة الإنقاذ، التي حركت المعركة ضد القوى الثورية. وأصبحت السلطة كلها في يدي اللجنة العسكرية الثورية في موسكو. ورُفع العلم الأحمر على الكرملين، وأصبح الكرملين بعد ذلك القلعة الرمزية للشيوعية. وفي 3 نوفمبر (تقويم قديم)، أعلنت اللجنة الثورية العسكرية تدمير قوات الثورة المضادة في موسكو، بعد معركة دامت خمسة أيام، وانتصار السلطة السوفييتية في باكو وبسكوف. ونشب العديد من الاشتباكات والمعارك الأخرى، من أجل إقامة سلطة السوفييتات، في كييف وخاركوف وطشقند وفلاديفوستوك ومعظم أرجاء سيبيريا وغيرها من المناطق الروسية. في حين تم انتقال السلطة إلى البلاشفة، في كثير من المناطق، بشكل سلمي. وفي 20 نوفمبر احتلت القوات السوفييتية مقر قيادة موجيليف العليا.

لقي الحزب البلشفي، أثناء ثورة أكتوبر، تأييد وحدات كبيرة من القوات المسلحة الروسية. في حين وصل حجم “الحرس الأحمر”، في العاصمة وحدها، زهاء (40) ألف مسلح، بينما انتشر (200)ألف آخرون، من عناصر “الحرس الأحمر”، في أنحاء روسيا. ووصل عدد الجنود الثوريين، في حامية بتروجراد، إلى حوالي (150) ألف رجل، وفي أسطول البلطيق المؤيد للبلاشفة، بلغ عدد المؤيدين للبلاشفة نحو (180) ألف بحار، يعملون على متن (700) سفينة حربية وقارب مساعدة. وانضم مئات الألوف من الجنود الثوريين، في جيش الميدان، وحاميات مؤخرة القوات المسلحة إلى الثورة البلشفية. وانعزلت الحكومة المؤقتة عن جماهير الشعب الروسي، وعن والحدات العسكرية الروسية. ولم يقف إلى جانب الحكومة المؤقتة، من القوات المسلحة الروسية، سوى اليونكرز. حتى وحدات القوزاق التي كانت أمل الحكومة الرئيسي، لم تغادر ثكناتها، رافضة تنفيذ أوامر الحكومة، وفي بتروجراد نجحت الثورة البلشفية، دون إراقة دماء نسبياً، في حين اتسمت مقاومة القوى المضادة للثورة بالعنف في موسكو، مما ضاعف عدد الضحايا لدى الطرفين.

انتصار ثورة أكتوبر

وبناء روسيا من الداخل

الانتصار العام للسوفييتات

بعد أن انتصرت سلطة السوفييتات في بتروجراد وموسكو، استطاعت أن تسيطر علي كل أنحاء روسيا البعيدة، في خلال أسابيع. وفرضت نفسها علي المراكز الصناعية الرئيسية والإدارية، دون مقاومة وبأسلوب بالغ السهولة؛ إذ استولت اللجان العسكرية الثورية التي لا حصر لها، والتي تشكلت في كل مكان، على مقاليد القيادة وأعلنت قيام سلطة السوفييتات.

ومن 25 أكتوبر إلى 2 نوفمبر انضمت 16 عاصمة ولاية إلى البلاشفة. وفي منتصف نوفمبر اعترفت بالسلطة الثورية الجديدة كل روسيا الوسطي تقريباً، ومعظم الأقاليم غير الروسية، في الإمبراطورية السابقة، التي أصبحت جمهوريات فيما بعد. وانضمت سيبريا وآسيا الوسطي بدورهما إلى السلطة الجديدة. وفي سمولنسك، وطولا، وكالوجا، وكونوسك وقعت بعض المعارك. وفي مناطق أخري، كجنوب الأورال مثلاً ـ حيث قام دوتوف زعيم القوزاق بتجنيد بعض القطاعات ـ لم تتمكن القوات الثورية من السيطرة علي الوضع، إلا بعد قتال دام عدة أسابيع.

ولكن في سهل الدون الغني، حيث أعلن القوزاق بقيادة كإليدين الأحكام العرفية، واتصل كورنيلوف ودينيكين والكسييف، الذين كثيراً ما تحدثوا عن “قدسية الوطن الروسي” ـ والذين شنوا أشرس الحملات الحاقدة ضد البلاشفة، واتهموهم بالعمالة للأجانب، وبالتجسس لصالح غليوم الثاني، وبتهم أخري مشابهة ـ بمندوبي الدول الغربية التي حاولت إجهاض الثورة الروسية بالتدخل المسلح.

اشتعلت الحرب الأهلية في كل الأقاليم الروسية. واجتاحت كل أنحاء البلاد وقلبت، في خلال ثلاثة أشهر تقريباً، النظام الاجتماعي القديم. واضطرت السلطة الثورية إلى الدفاع عن هذا الانتصار، خطوة وراء خطوة، طيلة عدة سنوات، ضد التدخل الأجنبي والثورة المضادة الداخلية، التي تحالفت مع الدول الغربية، منذ الأشهر الأولي من عام 1918، وأغرقت روسيا في معركة طويلة لا يمكن للذين أشعلوا نيرانها أن يكفروا عنها.

وقبل أن تهب الموجة الثانية من الحرب الأهلية، طبَّق البلاشفة التدابير التي أعلنوا عنها، عدة مرات، والتي انتظرها الملايين من الفلاحين والجنود والعمال، الذين قاموا بثورة فبراير، وهي:

  1. إنهاء الحرب على الجبهات.
  2. تقسيم الأراضي.
  3. سياسة المساواة القومية بين الشعوب المائة، التي وحدها القياصرة بالغزو العسكري، وضموها إلى إمبراطوريتهم الواسعة.
  4. وصول قوة سياسية إلى السلطة، لا تمت بأية صلة للبورجوازية.

معاهدة برست ـ ليتوفسك “BREST- LITOVSK“:

في ليلة 9 نوفمبر، بعد انتصار الثورة بعدة أيام، اتصل لينين هاتفياً بالجنرال دوخونين، قائد القوات الروسية في موجيليف. وأمره باتخاذ كافة التدابير للبدء بمفاوضات الصلح مع القيادة العليا النمساوية ـ الألمانية. ورفض القائد العام تنفيذ أمر رئيس مجلس مفوضي الشعب. فعزله لينين فوراً، وعين بدلاً منه الملازم الأول كريلنكو، أحد أعضاء الثلاثي المسؤول عن مفوضية الشعب للحرب. واتصلت الفرق والفيالق، بل وجيوش بكاملها، بالقطاعات النمساوية ـ الألمانية في الجبهة، وعقدت اتفاقات وقف إطلاق النار.

بعد مضي أسبوعين علي ثورة أكتوبر (نوفمبر) أرسل “تروتسكي” مذكرة إلى الممثلين الدبلوماسيين في العاصمة الروسية، يقول فيها إن الحكومة السوفييتية تنوي “أن تقترح علي جميع الدول عقد هدنة سريعة في الميادين تمهيداً لعقد صلح ديموقراطي”. وتجاهل الحلفاء مذكرة “تروتسكي” أما دول الوسط الذين كانوا يريدون خروج روسيا من الحرب، فقد قابلوا اقتراح السوفييت بسرور وترحيب. وفتح باب المفاوضات في 3 ديسمبر في مدينة برست ليتوفسك، ثم أعلنت الهدنة بين روسيا ودول الوسط (ألمانيا والنمسا وتركيا وبلغاريا).

حاول البلشفيك أن تجري مفاوضات الصلح في ستوكهلم بالسويد لتسير في جو محايد، بعيداً عن الأراضي التي تسيطر عليها دول الوسط، ولكن الألمان رفضوا ذلك الاقتراح، وعقد اجتماع الصلح في 10 يناير عام 1918 في برست ليتوفسك “BREST- LITOVSK”، وأهم المشكلات التي كانت تعوق نجاح المؤتمر، هي مصير البلاد التي احتلتها القوات الألمانية والنمسوية، وقد طلب البلشفيك جلاء تلك القوات عن بولنده وكورلاند ولتوانيا علي أن يستفتي أهل تلك البلاد في الحكم الذي يفضلونه، وقد رفضت دول الوسط هذا الطلب، وكان لا بد من التسليم بشروط الألمان حتى تفرغ البلشفية من تنظيم نفسها أولاً داخل روسيا.

وتم تطبيق اتفاق الهدنة، الذي ينص علي إيقاف القتال، مدة ثمانية وعشرين يوماً، علي طول الجبهة الشرقية. وانتشر أمل كبير في الجبهة كلها حيث كان ملايين الجنود الروس الذين أنهكتهم الحرب، وهدهم الجوع والبرد لا ينتظرون إلا لحظة العودة إلى أوطانهم. وعندما افتتح مؤتمر السلم أعماله، قدم المندوبون النمساويون والألمان للوفد السوفييتي (برئاسة تروتسكي) شروط حكوماتهم لعقد اتفاق السلام. وكانت الشروط قاسية جداً. فقد نصت علي فصل الأرض الروسية عن ليتوانيا، وأيستونيا، وليتونيا، وجزء من بيلوروسيا وبولونيا ـ المحتلة من قبل الجيش الألماني ـ وإنشاء دولة أوكرانية تابعة لألمانيا.

وهكذا واجه لينين ومفوض الشعب حرجاً خطيراً: هل يوقعون سلماً مخجلاً أم يتابعون الحرب؟ ولكن متابعة روسيا للحرب، في الوقت الذي كانت تفتقر فيه إلى الوسائل التقنية الضرورية لمتابعتها، ومع الوضع المعنوي السيئ للقطاعات الروسية، كان أمراً مستحيلاً. وكان لينين يدرك جيداً حالة التفكك التي يعانيها الجيش القيصري القديم، وأن الجنود لن يقدموا دعمهم لحكومة تطالبهم بمتابعة القتال. وكان لينين يعلم تمام العلم أن السير في طريق القتال يؤدي، علي المدى القصير، إلى القضاء علي السلطة السوفييتية. ولهذا فضل ـ رغم عدم عدالة الشروط المفروضة ـ عقد الصلح مع ألمانيا القيصرية.

ولكنه كان مضطراً إلى إقناع اللجنة المركزية للحزب البلشفي بوجهة النظر هذه. وعندما حاول ذلك اصطدم بمقاومة جماعة “الشيوعيين اليساريين” الذين يضمون بوخارين وبوبنوف، واوسينسكي ـ تروتسكي. وكانت تدعو إلى قطع مفاوضات بريست ـ ليتوفسك وإلى “الحرب الثورية”. واقترح تروتسكي إعلان إنهاء حالة الحرب، وإنهاء التعبئة العامة ورفض توقيع معاهدة الصلح، وطرح الشعار التالي: “لا حرب ولا سلم”، هذا الشعار الذي أثار موجة عارمة من التشويش والالتباس.

واستمر النزاع داخل اللجنة المركزية للحزب البلشفي عدة أسابيع. وللمرة الثالثة، في أقل من عام واحد، توصل لينين إلى جذب الأكثرية لصالح آرائه، مع أن قاعدة الحزب البلشفي، التي كانت في المرة الأخيرة، متأثرة بآراء “الشيوعيين اليساريين” وبآراء تروتسكي، في بتروجراد وموسكو، قد تمردت للمرة الأولي علي توقيع اتفاق الصلح المجحف، الذي أراد الألمان فرضه علي الجمهورية الجديدة. وفي ختام مناقشات مكثفة مع “الشيوعيين اليساريين” ومع تروتسكي توصل لينين إلى تأييد وجهة نظره التي اقتنع بها الجميع، في اللحظة التي كانت القوات الألمانية خلالها قد كررت هجومها، وأخذت تتقدم نحو بتروجراد.

وأخيرا وقعت معاهدة برست ـ ليتوفسك في 3 مارس عام 1918 وبمقتضاها

  1. وافقت روسيا علي التنازل عن بولندا ولتوانيا، وترك تقرير مصير تلك البلاد للبت فيه بين ألمانيا والنمساويين من أهالي تلك البلاد.
  2. الجلاء عن لتوانيا واستونيا وفنلندا.
  3. الجلاء عن أوكرانيا والاعتراف بالمعاهدة، التي أبرمتها جمهورية الشعب الأوكراني ودول الوسط.
  4. التنازل لتركيا عن إردهان وقارس وباطوم.
  5. الامتناع عن نشر الدعاية البلشفية في الأراضي التي تسيطر عليها دول الوسط.

وهكذا عقد البلشفيك صلحا كلفهاً أن تفقد حوالي خمسمائة ألف ميل مربع من الأرض، يسكنها حوالي 66 مليوناً من الأنفس، ولكن البلشفيك كانوا إذ ذاك يتطلعون إلى فترة سلام يستطيعون خلالها أن يقوموا بتجربتهم الخطيرة في قلب نظام الحكم وإقامة ديكتاتورية الطبقة العاملة. أما بالنسبة لدول الوسط، فقد أدي لهم انسحاب روسيا من الحرب وانغماسها في ثورتها الخطيرة خدمة مؤقتة، إذ أعفاها من الحرب في جبهتين، ومهد الطريق لنقل عدد كبير من قواتها، إلى الميدان الغربي، للاشتراك في المعارك الحاسمة التي خاضتها في عام 1918.

تدخل الحلفاء

كان أمام البلشفيك صعوبات خطيرة لابد لهم من التغلب عليها. فقد كان أعداؤهم يحاولون الانقضاض عليهم في كل مكان، واستمر الصراع محتدماً بينهم وبين معارضيهم من الأشراف ورجال الدين والجمهوريين المعتدلين والضباط السابقين من أنصار القيصرية ثلاثة أعوام، من عام 1917 إلى عام 1920.

وكان يمكن لتلك المعركة بين البلشفيك وأعدائهم في الداخل ألا تستمر طويلاً، لولا أن وجد الحلفاء وسيلة للتدخل، فقد أغضبهم ذلك التسليم للألمان في أحرج الأوقات. وعزموا علي دعم الأحزاب البورجوازية التي تؤيد مواصلة الحرب والعودة إلى الجبهة الشرقية. وفي الوقت نفسه رأوا الإسراع في إرسال الرجال والمال والذخيرة إلى روسيا لاستعمالها ضد الروس “الحمر”. ورأي الحلفاء ـ بادئ ذي بدء ـ أن يحرموا الألمان، والبلشفيك من المواد الحربية الضخمة التي سبق لهم أن بعثوا بها إلى “مورمانسك” “MURMANSK” وأركانجل “ARCHANGEL” لتكون تحت تصرف الروس قبل تسليمهم، ولذلك وسعوا دائرة الحصار على الحدود الروسية، وأرسلوا فرقاً من جنودهم إلى مورمانسك وأركانجل وفلاديفستك. وكانت فرنسا أشد دول الحلفاء سخطاً وحنقاً علي الانقلاب الروسي، الذي قضي علي التحالف الفرنسي الروسي، وأضاع عليها الديون الطائلة التي اقرضتها للحكومات الروسية السابقة، والتي جاء البلشفيك فأعلنوا عدم التزامهم بها.

وعندما تحطم الجيش التركي، وانسحبت تركيا من الحرب (نوفمبر 1918) اقتحم الفرنسيون البحر الأسود وضربوا “أوديسا” بالقنابل واستولوا عليها، بينما احتلت بعض الفرق البريطانية بعض أراضي القوقاز واستولت علي “باكو”. وذلك لتشجيع العناصر الروسية المعادية للبولشفيك علي اتخاذ تلك الأقاليم مواطن للتآمر علي قلب نظام الحكم السوفييتي. كذلك انتهزت جماعات من الوطنيين في أستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، والقوقاز، تلك الفرصة لتعلن استقلال تلك الولايات، وتشجعت رومانيا واخترقت بعض قواتها إقليم “بسارابيا”.

قوي الأمل في نفوس العناصر الروسية المعارضة “الروس البيض”، وأقدمت علي تنظيم قواتها بمساعدة تلك الفرق الأجنبية، لإقامة “حكومات بيضاء” وفعلا تأسست حول مورمانسك وأركانجل (حكومة روسيا الشمالية المؤقتة)، وأسس الأميرال “إسكندر كولجاك KOLCHAK”، القائد السابق للأسطول الروسي في البحر الأسود، حكومة روسية أخري في “أومسك” بسيبيريا، بمعاونة الحلفاء والجنود التشيك، وأسس غيره من القواد الروس المعادين للنظام الجديد حكومات أخري في جنوب روسيا، وجنوب أوكرانيا، والقرم. وأتاح هذا الصلح السلام الذي طالما تطلعت إلى تحقيقه شعوب روسيا، كما أتاح للحكومة السوفييتية ـ رغم شروطه الجائرة ـ الحصول علي هدنة ضرورية لإعادة تجميع قطاعاتها، والبدء بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية.

كان من أول هذه التحولات وأهمها تغيير كيان شعوب الإمبراطورية القديمة، التي كانت تعيش في ظل السيطرة المزدوجة لأسيادها من الإقطاعيين والموظفين المدنيين والعسكريين، الذين كان معظمهم من الروس الموالين للنظام الاستعماري القيصري. وفي اليوم التالي للانتفاضة الظافرة، كان أول عمل من أعمال مجلس مفوضي الشعب هو إصدار التصريح المتعلق بحقوق شعوب روسيا (9 نوفمبر عام 1917) الذي كتبه لينين، ووقعه ستالين بصفته مفوض الشعب للقوميات. وقد أكد التصريح العمل بأربعة مبادئ:

  1. مساواة شعوب روسيا وسيادتها.
  2. حق شعوب روسيا في تقرير مصيرها بحرية، بما في ذلك حق تشكيل دول مستقلة.
  3. إلغاء كل الامتيازات والقيود ذات الطابع القومي والديني.
  4. التطور الحر للأقليات القومية، وللعرقيات الأخرى التي تعيش علي الأرض الروسية.

طبق البلاشفة هذه المبادئ رغم المعارضات التي صادفوها في صفوف الزعماء القوميين لهذه الشعوب المختلفة، ورغم المعارك المسلحة والانتفاضات في أوكرانيا والقوقاز. واستناداً إلى هذه المبادئ الأربعة أقيمت أخيراً الجمهورية الاشتراكية السوفييتية الروسية، من اتحاد فيدرالي واسع أصبح فيما بعد: اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية.

إعادة بناء الدولة

كان من الضروري اتخاذ أسلوب واضح في العمل. وصدر مرسوم في 11 نوفمبر. يقضي “بإلغاء كل الألقاب والرتب المدنية” وقد وضع هذا المرسوم حداً للتقسيم التقليدي للمجتمع الروسي، الذي يتضمن تسلسلاً في الرتب منذ قرون عديدة: نبلاء، تجار، فلاحين، عمال، بورجوازيين ـ صغار. ولكن الصعوبة الأساسية تكمن في أن العمال الثوريين وحلفاءهم الفلاحين ـ الذين حصلوا علي حقوقهم السياسية في أكتوبر ـ لم تكن لديهم أية تجربة في إدارة الشئون العامة. إضافة إلى هذا رفض جزء كبير من الكوادر الإدارية مساعدة سلطة السوفييتات الفتية في حل المسائل التقنية العديدة المطروحة، ولم يكتفوا برفض المساعدة، بل أخذوا يقاومون تطبيق التدابير التي اتخذها جهاز الدولة الجديد.

وكان انتظار تكوين كوادر جديدة تقنية وإدارية متشبعة بروح النظام الجديد، مستعدة لتحمل كل الأعباء، عملاً جنونياً، وكان علي البلاشفة أن يتجرءوا علي التخلص من المقولة القديمة التي تقول: “إن الطبقات العليا في المجتمع هي وحدها القادرة علي إدارة شئون الدولة”. وتجرأ البلاشفة. وأسندوا إلى أفضل عناصرهم الحزبية مسؤوليات جسيمة في جهاز الدولة، وزرعوا روح المبادرة في أعمق طبقات الشعب. ومنذ 1نوفمبر عام 1917، صادق السوفناركوم علي “نظام الرقابة العمالية” الذي وضع لينين خطوطه الكبرى، والذي يتضمن “الإنتاج الاجتماعي” و”توزيع الإنتاج”.

وامتد هذا الإشراف فوراً فشمل كل العمليات المالية والتجارية. وبدأت تطبيقه لجان المصانع التي انتخبها العمال. وفي المرحلة الأولي نظم المجلس المركزي للإشراف العمالي نشاط هذه اللجان، من خلال منظمات أنشئت لدي السوفييتات المحلية: وأصبح أصحاب المشروعات منذ ذلك الوقت، مطالبين بتطبيق القرارات التي اتخذتها هذه المجالس.

وفي خلال بضعة أشهر وُضِعت ألوف المخازن والمناجم والمصارف ومخازن التجارة والوكالات الزراعية تحت وصاية لجان الإشراف العمالي التي شارك مئات الألوف من العمال في نشاطها. وتمكن هؤلاء العمال، نتيجة لذلك، من تلقي الدروس الأولي في الإدارة الاقتصادية.

كانت هذه التجربة لا سابقة لها في التاريخ. وكانت تطرح مبدئياً فكرة تقول بأن من الأفضل وجود رجال قليلي التجربة في قيادة البلاد، ولكن تحركهم روح جديدة، بدلاً من رجال البورجوازية، التي يعادي معظم أفرادها النظام الثوري. إن ذلك أفضل من التعرض للتخريب الاقتصادي الذي تمارسه هذه الطبقة. وتم استلام العمال لمقاليد الحكم. وتعرضت هذه العملية لبعض الصعوبات: فالحماس يولد طاقة وقدرة، ولكنه لا يحل علي كل حال محل الكفاءة والتجربة.

رضي البلاشفة بتعاون بعض أفراد البورجوازية، التي قبلت أن تتعاون معهم بإخلاص في نطاق عملها المهني، ومنحوها وضعاً مادياً متميزاً. كما توصلوا بصورة سريعة إلى إعداد كوادر فتية جديدة خرجت من صفوف الطبقة العاملة والفلاحين المعدمين، وأصبحت قادرة علي تحمل المسؤوليات الملقاة علي عاتقها. وفرضت هذه التدابير نفسها بمزيد من السرعة والأهمية، حتى أن مجلسا أعلي للاقتصاد الوطني، تشكل في 2 ديسمبر، وكانت مهمته إدارة الإنتاج الذي أممت فروعه الكبرى. وفي يناير 1918، أصبح النشاط المصرفي احتكاراً للدولة، وربطت كل المصارف الخاصة بمصرف الدولة وأدمجت فيه في حين أممت أسهم المصارف وصودرت بمرسوم. ثم أصدر مجلس مفوضي الشعب مرسوماً ألغي بموجبه كل الاتفاقات المتعلقة بالقروض الخارجية، والتي وقعها نيقولا الثاني، والحكومة المؤقتة مع الدول الأجنبية.

رافق هذه التحولات الاقتصادية الجذرية تدابير قمع ضد الأحزاب السياسية والصحف، التي كانت تحارب السلطة الثورية. وعدَّ البلاشفة حزب الكاديت حزباً غير شرعي، لأنه استمر في معارضة ثورة أكتوبر واتهام البلاشفة وزعمائهم بالعمالة لغليوم الثاني . وأحيل زعماؤه الرئيسيون، الذين لم يتمكنوا من الفرار، إلى المحاكمة أمام المحاكم الثورية.

وفي ديسمبر 1917، أنشأ السوفناركوم لجنة خاصة، سميت فيما بعد بالتشيكا، لمقاومة الثورة المضادة التي لم تلق السلاح. وعُين رئيساً لها فيليكس دزيرجينسكي وهو بلشفي بارز، من أصل بولوني، قضي سنوات طويلة في السجون وفي سيبيريا. وكانت مهمة التشيكا كشف الجرائم والنشاطات الموجهة ضد الدولة الجديدة، بدءا من المؤامرات الإرهابية إلى التخريب الاقتصادي، ومروراً بالمضاربة التي انعكست آثارها على الحياة اليومية لسكان المدن. وأعيد النظر في الجهاز القضائي القديم، الذي أنشأه حكم القياصرة، وظهرت محاكم الشعب. وسرعان ما أصبحت أداة كفاح سياسي من أجل تعزيز سلطة السوفييتات. وسرحت قوات المليشيا التي أنشأتها الحكومة المؤقتة، والتي بقيت عدة أسابيع بعد انتفاضة أكتوبر، وحلت محلها قوات المليشيا العمالية والفلاحية، المكلفة “بالحفاظ على النظام الثوري، والسهر على أمن المواطنين”.

اشتمل نظام إعادة إنشاء جهاز الدولة على بناء الجيش والأسطول. وأمر مجلس مفوضي الشعب بسحب الوحدات الموجودة في الجبهة جزئياً، واستبدالها بقوات مسلحة جديدة تشكلت من أفضل عناصر الحرس الأحمر والوحدات العسكرية الثورية، التي أمنت انتصار الانتفاضة العسكرية في بتروجراد وموسكو، وفي المراكز الرئيسية في البلاد. وفي بضعة أشهر ولد جيش من نموذج جديد أصبح اسمه، منذ يناير 1917، الجيش الأحمر العمالي الفلاحي، استفادت وحداته من معارك أكتوبر ونوفمبر، وبيلوروسيا والآورال، وشمال القوقاز.

مجلس تأسيسي مؤقت

مضت الثورة في طريقها طوال مدة 300 يوماً، ثم حاول الاشتراكيون ـ الثوريون اليمينيون قلب سلطة السوفييتات، من خلال المجلس التأسيسي، الذي انتخب في شهر نوفمبر بعد ثورة أكتوبر بأسبوعين. وفكر البلاشفة في تأجيل انتخابات المجلس التأسيسي إلى أجل غير مسمى، لكنهم قاوموا هذا الإغراء لكي يبرهنوا للاشتراكيين ـ الثوريين اليساريين، الذين حاولوا التعاون معهم، على رغبتهم في استمرار الحوار معهم.

ولم تكن نتائج انتخابات 12 نوفمبر، في كل الأراضي الروسية، ملائمة للبلاشفة في بتروجراد، حيث حصلوا على 45% من الأصوات. وقد تمت عملية الانتخابات على غرار نموذج الانتخابات التي كانت تتم قبل الثورة. ودخلت عدة أحزاب سياسية ومجموعات صغيرة في الترشيح للانتخابات. وكان هناك تسعة عشر قائمة ترشيحية: الاشتراكيون ـ الشعبيون، والكاديت، والديموقراطيون، والاشتراكيون الثوريون اليمينيون، والاشتراكيون الثوريون اليساريون، وعصبة تطوير الشعب، والديمقراطيون الراديكاليون، والرعايا الأرثوذوكس، والطائفة النسائية من أجل إنقاذ البلاد، وطائفة العمال المستقلين، والجنود، والفلاحون، والديمقراطيون ـ المسيحيون (الكاثوليك)، والاشتراكيون ـ الديمقراطيون الموحدون، والمناشفة، وجماعة أيدنستفو، وجماعات القوازق.

وكان أكبر الفائزين في هذه الانتخابات هم الاشتراكيون الثوريون اليمنيون الذين حصلوا على 20,900,000 صوتاً، أي على 58% من الأصوات، وتمثل هذه النسبة الأغلبية المطلقة. وارتفع مجموع الأصوات التي حصل عليها البلاشفة إلى 9,023,963 صوتاً (25% من مجموع الأصوات التي أدلى بها المواطنون). وتفوقوا على الكاديت (4,600,000) صوت، والمناشفة (1,700,000) صوت.

حرص لينين على إجراء هذه الانتخابات بسبب تعلق عدد كبير من الفلاحين بالنظام البرلماني ـ الذي يجدون فيه حلاً سياسياً لمشكلاتهم ـ واقترح دعوة المجلس التأسيسي في 5 يناير 1918 ليبرهن للشعب الروسي على أن هذا المجلس سيمتنع عن تأييد التدابير الأساسية التي اتخذتها ثورة أكتوبر، وخاصة “إعلان حقوق الشعب العامل”، الذي كتبه بنفسه والذي يؤكد المراسيم التي اتخذها مؤتمر السوفييتات الثاني ومجلس مفوضي الشعب.

وكان تشيرنوف ” وزير الموجيك ” سابقاً يطمع في المركز الذي كان يحتله كرنسكي، منذ أن فر هذا الأخير. ومن أجل تحقيق ذلك قاد تشيرنوف، داخل المجلس التأسيسي، حركة الاشتراكيين ـ الثوريين اليمينيين. وللوصول إلى منصب رئاسة المجلس التأسيسي نافس ماريا سبيريدونوفا، مرشحة الاشتراكيين ـ الثوريين اليساريين، وهي مناضلة بارزة أمضت عدة سنوات في المنفى، ودعم البلاشفة ترشيحها لهذا المنصب. ورفض الاشتراكيون ـ الثوريون اليمينيون الذين كانوا يملكون أغلبية الأصوات في المجلس التأسيسي مناقشة “إعلان الحقوق” وبدأوا هجمات عنيفة ضد السلطة السوفييتية الفتية. وإزاء هذا الموقف، طلب لينين من السوفناركوم أولاً، ثم من التسايكا (اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييتات) اللجوء إلى حل هذا المجلس. وفي اليوم التالي لجلسة الافتتاح، أُجل انعقاد المجلس التأسيسي إلى أجل غير مسمى. وهكذا لم يستمر النقاش فيه أكثر من اثنتي عشرة ساعة.

رد البلاشفة انعقاد المجلس التأسيسي المؤقت، بعقد المؤتمر الثالث لسوفييتات عموم روسيا بعد أربعة أيام. في 10 يناير 1918. وكان قد انقضى على انعقاد المؤتمر الثاني الذي قدم لينين أمامه “مراسيم السلم والأرض” المشهورة قرابة الشهرين. ويعزى عقد هذا المؤتمر إلى رغبة البلاشفة واهتمامهم بتقديم القرارات التي اتخذوها، منذ شهر نوفمبر، أمام نوع آخر من المجالس الدستورية للمصادقة عليها. ويعزي كذلك إلى رغبتهم في المحافظة على نوع آخر من الصلة الوثيقة مع مندوبي العمال والفلاحين المنتخبين الذين يتبعونهم في كل معاركهم. وكرس المؤتمر الثالث لعموم روسيا السلطة السياسية، التي أنشأتها ثورة أكتوبر، وصدق على (إعلان الحقوق)، ووضع الملامح الأولى لمنهاج بناء الاشتراكية في روسيا.

وهكذا انقضى (300 يوم) على الثورة الروسية، التي دخلت بعدها في مرحلة كفاح مريرة، خاضها الشعب السوفييتي كله ضد التدخل الأجنبي وضد الثورة المضادة الداخلية. واستمرت هذه المرحلة من عام 1918 إلى عام 1920، صمد خلالها ملاين الرجال وسط بلاد مترامية جميلة اجتاحتها المجاعة، وغزتها المذابح والأمراض والأوبئة. ووقفوا مدافعين عن المكاسب السياسية للثورة. وبعد هذه المرحلة بدأ بناء الاتحاد السوفييتي وتطويره. واستمرت هذه الفترة، من مرحلة بناء الاشتراكية في روسيا، إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، إلى مرحلة انتصار الاشتراكية في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من العالم. لقد شهدت هذه الفترة الزمنية روسيا وهي تخرج من تخلفها الأبدي، بعد أن قضت على الإقطاع، وعاصرت كثيراً من التقلب والاضطهاد اللذين رافقا عهد ستالين، وأصبحت روسيا في هذه الفترة الدولة الصناعية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

إعدام القيصر (18 يوليه 1918)

لما اشتد الصراع بين الحمر والبيض، وجد البلشفيك أن وجود القيصر نيقولا الثالث وأسرته في معتقلهم، بالقرب من بيتروجراد، قد يشجع العناصر المعادية للثورة ويفتح لهم باب الأمل للرجوع إلى الحكم القيصري، فأرسلت القيصر وأسرته إلى إحدى بلدان منطقة أورال. وفي صيف عام 1918 استطاعت بعض قوات البيض أن تتخذ طريقها إلى تلك المنطقة، فأسرع بعض الضباط السوفييت إلى مقر القيصر وأعدموه مع أسرته رمياً بالرصاص. في ليلة 16 يوليه 1918، في اقبيت دار يباتيف.

ولمّا وجد البلشفيك أن المؤامرات الأجنبية والداخلية تحيط بهم اعتمدوا في الدفاع على قوتين، أولهما فرقة (الشيكا “ SHEKA”) وثانيهما الجيش الأحمر. أما فرقة الشيكا فقد تكونت بعد ثورة نوفمبر (أكتوبر) مباشرة، كحامية لحفظ النظام في العاصمة، ولكنها سرعان ما تحولت إلى أداة إرهاب لمجابهة العناصر المعادية للثورة السوفييتية، وكان من حق أعضاء الشيكا أن يقبضوا على العناصر التي تعتبر معادية للحركة السوفييتية لمحاكمتهم وإعدامهم رمياً بالرصاص.

أمّا الجيش الأحمر فقد بذل “تروتسكي” أقصى ما لديه لتنظيمه وإعداده حتى يستطيع أن يتغلب على قوات الروس البيض التي سلحها الحلفاء بأحدث الأسلحة وسرعان ما أصبح الجيش الأحمر على أهبة الاستعداد لصد الخطر الأجنبي على البلاد.

وفي عام 1919. بدأ هجوم القوات الروسية المعادية حتى أصبحت على مرمى البصر من مدينة “بتروجراد”، التي سميت فيما بعد بمدينة ليننجراد، ولكن الجيش الأحمر هزمها وردها على أعقابها.

وأخيراً اضطر الحلفاء إلى سحب قواتهم في أواخر 1919، وفي العام التالي، رفعوا الحصار عن روسيا، ولم يبق إلا مدينة فلاديفستك على المحيط الهادي، التي بقيت فترة من الوقت تحتلها القوات اليابانية[1]. وتمكن البلشفيك في عامي 1919 و1920 من طرد الحكومات المعادية التي تألفت في أوكرانيا وروسيا البيضاء، وقبضوا على زمام السلطة في ولايات القوقاز وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وشكلوا فيها حكومات تابعة لهم. أما سيبيريا فقد استطاعت القوات الحمراء أن تستولي فيها على أومسك وتومسك واركتسك والمنطقة التي تقع غربي بحيرة بيكال ـ والتي تكون منها جمهورية مستقلة، أطلق عليها اسم “جمهورية الشرق الأقصى”، وفي نوفمبر 1922 قررت الجمعية التأسيسية، التي تكونت في تلك الجمهورية، الانضمام إلى “جمهورية السوفييت الاتحادية الاشتراكية الروسية.

حكومة الاتحاد السوفيتي

كان مؤتمر السوفييت العام قد أصدر، في ربيع 1918، دستوراً تأسست به ” جمهورية السوفييت الاتحادية الاشتراكية الروسية U. S.S.R وتقرر أن تكون موسكو عاصمة قومية، بدلاً من ليننجراد، وأصبحت روسيا دولة اتحادية تستمد قوتها من الطبقة العاملة، وذاع بين الناس شعار لينين المأثور ” السلطة كلها للسوفييت”، وأن النظام الجديد يجب أن تحرم منه الطبقة البورجوازية. وفي عام 1922، اجتمع في موسكو وفود من مختلف الولايات البلشفية، وكانت تلك الولايات حينئذ لا تزيد على أربعة ـ ووقعت معاهدة فيما بينها، على أن يبدأ العمل بما جاء فيها، ابتداء من يوليه 1923.

اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية U.S.S.R (يوليه 1923)

كانت تلك الدول الروسية الأربعة التي وقعت معاهدة إنشاء “اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، هي جمهورية روسيا السوفييتية الاتحادية الاشتراكية، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، واتحاد جمهوريات القوقاز.

ولم يشأ البلشفيك أن يحتفظوا بكلمة (الروسية) كصفة لاتحاد الجمهوريات السوفييتية، وذلك لترك الباب مفتوحاً للولايات التي تسكنها أغلبية غير روسية للانضمام إلى ذلك الاتحاد السوفييتي، وإغرائها بأن ذلك الاتحاد يضم الولايات، على أساس العقيدة السوفييتية، لا على أساس سيادة العنصر الروسي.

وفي عام 1924، انضمت إلى الاتحاد جمهوريتان آسيويتان هما أوزبكستان UZBEKISTAN وتركمنستان TURKMENISTAN ثم أخذت ولايات أخرى تنضم إلى اتحاد الجمهوريات السوفييتية حتى بلغت ست عشرة جمهورية بعد الاتساع الروسي (1939- 1940)[2].

دستور الاتحاد السوفييتي (31 يناير 1924)

وبعد أن تم تكوين “اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية”، اقترح الحزب الشيوعي، المسيطر على سياسة الاتحاد، تعديل الدستور الذي صدر عام 1918، والذي تأسست به جمهورية السوفييت الاتحادية الروسية، ويتضمن الدستور الجديد طائفة من المبادئ أصبحت أساساً للعلاقات، التي تربط بين أجزاء الاتحاد السوفييتي الجديد، وترضي القوميات بين شعوب الولايات السوفييتية، كضمان المساواة في الحقوق والواجبات للجمهوريات المختلفة، واستقلال تلك الجمهوريات استقلالاً ذاتياً، وهذا يعني أنها تمارس على أراضيها سلطة الدولة، فيما عدا الشؤون الخارجية العليا، التي تتولاها الهيئات العليا في الاتحاد السوفيتي[3]، وضمان حقها في استخدام لغتها الوطنية، وإنشاء مجلس “سوفييت القوميات” يمثل فيه جمهوريات الاتحاد على قدم المساواة.

ونظام الحكم في الاتحاد السوفيتي، نظام هرمي، قاعدته الكبرى صغار الفلاحين وعمال المدن والمثقفون، في لجان أو مجالس محلية يدعى كل منها (سوفييت). وتنتخب سوفييتات القرى مندوبيها في سوفييتات المراكز، ويبعث سوفييت كل مركز بمندوبين إلى سوفييتات الأقاليم، وتختار هذه مندوبيها في سوفييت الجمهورية، ويختار هذا المجلس ممثليه في المؤتمر السوفييتي العام الاتحاد السوفيتي، الذي يعتبر قمة الهرم الانتخابي السوفييتي.

الديكتاتورية

كان “نيقولاي لينين” أول من استجاب لآراء كارل ماركس وأعتنقها، ولكنه اختلف معه في الوسائل التي يمكن أن تؤدي إلى الثورة، وحاول أن يتطور بآراء “ماركس” من نظريات فلسفية خيالية، إلى نظام واقعي للحكم، كذلك رأى ” لينين ” أن من الصعوبة بمكان، أن يقوم الشعب كله بالثورة بمحض إرادته، وعلى ذلك وجب أن تقوم الثورة على يد فئة منظمة قليلة العدد، يتزعمها المتحمسون للمذهب الشيوعي، على أن يقوم هؤلاء برسم خطة تكفل النجاح للثورة، ولكن لم يلبث أن تبين في أول مرحلة من مراحل التطبيق العملي، مدى الهوة التي تفصل بين النظرية ومفهومها الخيالي، وبين التطبيق العملي في عناصره المادية المحسوسة، فبدأ يعمل على إقامة “ديكتاتورية العمال المؤقتة” كنظام تتبعه روسيا في فترة الانتقال من النظام الرأسمالي إلى الشيوعية.

ولم تنطبق نظريات كارل ماركس على الثورة الشيوعية في روسيا، لأن ماركس اعتقد أن الثورة التي تكهن بها، سوف تبدأ في أكبر الدول الصناعية، نتيجة انهيار النظام الرأسمالي، ولكن روسيا كانت من أقل الدول تقدماً في الصناعة. لأن نظامها الرأسمالي لم يكن قد تدهور إلى الحد الذي وصفه “ماركس”.

والواقع أن الثورة الروسية قامت نتيجة عاملين لم يخطرا على بال كارل ماركس، ولا يمتان إلى فلسفته بصلة. هما:

  1. ظروف الحرب وفشل الحكومة خلال الحرب العالمية الأولى مما أدى إلى سقوط القيصر. ولولا هذا، لظل الحكم القيصري ثابتاً لمدة طويلة في روسيا.
  2. أن لينين ـ بمقدرته وكفايته ـ قد أخذ على عاتقه أن يقوم بإحداث الانقلاب. وأكبر الظن أنه لولا وجوده لما قدر للثورة أن تتجه نحو الشيوعية.

وعلى الرغم من أنه أطلق على نظامه اسم دكتاتورية الطبقة الكادحة ـ البرولتاريات ـ إلا أنه كان يرى أن دور هؤلاء العمال الذين يحكم باسم ديكتاتوريتهم لم يأت بعد. لأنهم ـ كما قال ـ جهلة، وغير مدربين، وليسوا أكفاء للقيام بأعباء الدكتاتورية الحكومية، فقد أثرت على نفوسهم تلك القرون الطويلة، التي رزحوا أثناءها تحت نير الرأسمالية، ومن ثم ليس من المعقول أن يوكل إليهم الحكم في هذه الفترة. بل تتولى هذه المهمة عنهم صفوة من جماعة البلشفيك، وقد قال “ماركس” ذات مره مخاطباً العمال “عليكم أن تجتازوا خمس عشرة سنة، أو عشرين، أو خمسين عام، من حروب أهليه ومعارك في النطاق العالمي لا لتغيروا العلاقات القائمة فحسب، بل لتغيروا أنفسكم كذلك ولتصبحوا أكفاء للسيادة السياسية”.

وهكذا تطورت فكرة الشيوعية الروسية من ” دكتاتورية العمال الكادحين ” إلى ” دكتاتورية الصفوة الممتازة “كضرورة مؤقتة، لتحقيق ديكتاتورية العمال الاشتراكية، ومع مرور أكثر من خمسين عاماً، حسبما نادى “كارل ماركس”، لم يجد “لينين” العمال أنفسهم جديرين بالحكم، ولكن الضرورة المؤقتة ظلت حقيقة ثابتة، وتحكمت تلك الصفوة الممتازة في شئون الدولة.

وقد عرَّف ستالين ـ خليفة لينين ـ الديكتاتورية العمالية المنشودة بأنها “سيادة الطبقة الكادحة على البورجوازية، سيادة تستند على العنف، ولا يحدها قانون، سيادة تتمتع بعطف وتأييد طبقة الجماهير الكادحة التي طالما استثمرها الرأسماليون”.

والواقع أن الدكتاتورية في الاتحاد السوفييتي لم تكن في الجماهير الكادحة، ولكنها تركزت في الحزب الشيوعي، فهو القوة القائدة للمجتمع السوفييتي والطليعة المثقفة والمسلحة بالنظرية الماركسية اللينينية. وقد جاء في النظام الداخلي للحزب الشيوعي الذي قرر، في مؤتمر الحزب التاسع عشر، “إن مهمات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي اليوم هي: أن يبنى المجتمع الشيوعي بالانتقال تدريجياً من الاشتراكية إلى الشيوعية. وأن يرفع باستمرار مستوى المجتمع المادي والثقافي، وأن يربى أعضاء هذا المجتمع على روح الدولية (الأممية) والعلاقات الأخوية مع الكادحين في جميع بلاد العالم”. والحزب الشيوعي هو الذي يوجه نشاط الاتحاد السوفييتي، فقد اقتنع الشعب من خلال تجاربهم، بأن الحزب هو مرشدهم وزعيمهم ومعلمهم الأمين.

وتتمثل الدكتاتورية الشيوعية كذلك في تحكم الحكومة السوفييتية في حرية العمل، وحرية الصناعة، وحرية البحث، فهي التي تفرض على المصانع أنواع المصنوعات المطلوبة، وعلى الفنانين ألواناً خاصة من الفنون، وعلى المربين نوع التربية التي يبثونها في النشأ، وأنواع الكتب المدرسية بحيث توجه التربية في الاتحاد وجهة شيوعية لأن الماركسية هي الفلسفة الرسمية المعترف بها، في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والحكومة هي التي تمتلك وتسيطر على الصحف والمؤلفات والمسارح والإذاعة والسينما والتلفونات والبرق والمعامل والمناجم والأرض والسكك الحديدية والمصارف (البنوك) وغيرها.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن حكومة الاتحاد السوفييتي كانت هي التي تمتلك وتدير جميع وسائل الإنتاج والتوزيع، فالتجارة الخارجية، تحتكرها الدولة وتديرها وزارة التجارة الخارجية وتتولى عمليات التجارة الخارجية، منظمات للتصدير والاستيراد، وتهتم كل منظمة منها بفئة معينة من البضائع.

وقد اتبعت الحكومة في النواحي الزراعية نظاماً آخر: فالمزارع المشتركة أو الجماعية التي تستغلها جماعات تعاونية من الفلاحين، عليها أن تبيع للحكومة نصف محصولها بالسعر الذي تحدده الحكومة، أما ما تبقى من المحصول فيقسم بين الفلاحين، بنسبة العمل الذي أداه كلٌ منهم. وإلى جانب تلك المزارع المشتركة (الكلولموزات) نوع أخر يتبع الدولة مباشرة، وهو مؤسسات زراعية اشتراكية، يطلق علي كل منها اسم (السوفخوز)، والسوفخوزات التابعة للدولة تختص في زراعة الحبوب والقطن وتربية الماشية وزراعة الأشجار المثمرة والحمضيات، وغير ذلك وتمتاز بأنها لا تقصر نشاطها على فرع واحد من بل تتعاطى فروعاً متعددة منها، فسوفخوزات الحبوب مثلاً تخصص مكاناً كبيراً لتربية الماشية، كما تخصص سفوخوزات تربية الماشية مكاناً كبيراً لزراعة الحقول. وتدر تلك المؤسسات الحكومية دخلاً كبيراً، ساعدها على ذلك تطبيق النظريات العلمية، وبموجب برنامج الدولة، تقدم السوفخوزات إلى الكولخوزات البذور المنتقاة والماشية الأصيلة بشروط يسيرة.

ولم تعد الزراعة وحدها مصدر الثروة في روسيا، بل نمت فيها الصناعة نمواً سريعاً، وجرى التصنيع مستنداً إلى الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج ففي عام 1940 كانت صناعة الاتحاد السوفييتي تنتج أكثر مما كانت صناعة روسيا القيصرية تنتجه عام 1913، بما يقرب من أثنى عشر ضعفاً وزاد إنتاج صناعات الإنشاءات الميكانيكية خمسين ضعفاً، وكان الاتحاد السوفيتي قبل الحرب العالمية الثانية، يشغل المرتبة الأولى في أوربا والثانية في العالم من حيث تطوره الصناعي.

السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي عقب الثورة

الكومنترن: COMINTERN

اتجهت سياسة الحكومة السوفييتية في الثلاث سنوات الأولى، بعد ثورة نوفمبر (أكتوبر) 1917، إلى السعي إلى تحطيم جميع الحكومات الرأسمالية في دول العالم وتأسيس ديكتاتورية الطبقة الكادحة “البروليتاريا”، على غرار نظام الحكم السوفييتي، وإنشاء اتحاد دولي بين جميع الجمهوريات السوفييتية التي يمكن تأسيسها بعد نجاح الثورات الشيوعية في تلك الدول. وبذلك يتم إنشاء مجتمع شيوعي عالمي.

وقد حرص زعماء الشيوعية على نشر تلك الفكرة في السنين الأولى من تأسيس الاتحاد السوفييتي؛ لأنهم كانوا يشعرون بأن مركزهم الدولي لا يزال غير مأمون العواقب، ولاسيما أنهم كانوا يعتبرون جميع الحكومات الرأسمالية أعداء لهم، ورأوا من الضروري إقامة نظم سوفيتية في الخارج لما في ذلك من تدعيم للمذهب الذي أوصلهم إلى الحكم، لذلك كان هدف سياستهم الخارجية في تلك السنوات، نشر الدعاية للثورة الاشتراكية في الدول الأخرى ولتسهيل مهمة تلك الدعاية الشيوعية، رأى الزعماء الشيوعيون تكوين الاتحاد الدولي الثالث (THE THIRD INTERNATIONAL) الذي سمي فيما بعد “الكومنترن” ودعوا جميع الأحزاب الشيوعية في أنحاء العالم إلى اجتماع يعقد في “موسكو” في مارس 1919 لتكوين ذلك الاتحاد الدولي الثالث[4]. وذلك بقصد جمع كلمة العمال من مختلف الشعوب، ووضع برنامج مشترك يمهد السبيل لإقامة حكومات (البرولتياريا) على أنقاض الحكومات الرأسمالية . واجتمع في موسكو مندوبون عن الأحزاب الشيوعية في العالم، لمناقشة الوسائل التي تؤدي إلى أهداف “الكومنترن” وكانت أهم الوسائل لتحقيق الفكرة هي:

  1. نشر الدعاية العالمية لمبادئ الشيوعية.
  2. توحيد وتقوية الأحزاب الشيوعية في مختلف الأقطار ,
  3. تزعم الحركات العمالية والاشتراكية التي تقوم في بعض الدول وتوجيهها الوجهة المنشودة.
  4. تعجيل تطور الحوادث في بعض الدول وتوجيهها نحو الثورة العالمية على الرأسمالية، تحت إشراف الكومنترن.

وبدأ فعلاً نشاط تلك المنظمة بمعاونة الحكومة السوفييتية، ولعبت دوراً بارزاً في تشجيع الحركات الثورية التي قامت في بعض الدول الأوربية، كالثورات التي قام بها الشيوعيون في ألمانيا والمجر عام 1919. وفي إيطاليا عام 1920. على أن ذلك النشاط الشيوعي الدولي لم ينجح عندما حاول الكمنترن الاتصال بدوائر العمال في بريطانيا وفرنسا والنمسا وتشكوسلوفاكيا. كذلك بذل الشيوعيون مجهودات كبيرة لنشر الشيوعية في الأقطار الآسيوية، على أمل أن تنضوي تحت زعامة الاتحاد السوفييتي بحجة “السعي إلى مقاومة الاستعمار والرأسمالية”.

ولكي يكتسب البولشفيك ثقة تلك الشعوب الشرقية، أعلنوا استنكارهم للوفاق الودي الإنجليزي الروسي الذي عقد عام 1907، وهو الوفاق الذي قسم إيران إلى منطقتي نفوذ، إحداهما روسية في الشمال، والأخرى إنجليزية في الجنوب، وتنازلت الحكومة السوفييتية عن معظم الامتيازات التي اكتسبتها الحكومات الروسية القيصرية في الصين، وحرضت الأفغانيين على مقاومة السيطرة البريطانية. وفي سبتمبر 1920 دعا البلاشفة إلى عقد “مؤتمر شعوب الشرق” في باكو، وحضر المؤتمر ما يقرب من تسعمائة مندوب يمثلون حوالي أربعين شعباً، ولكن لم يؤت ذلك المؤتمر الثمرة التي كان السوفييت يتوقعونها، لأن المندوبين الذين حضروا المؤتمر، كانوا لا يمثلون حكوماتهم، بل يمثلون بعض العناصر المتطرفة في بلادهم، ولم يصل السوفييت إلى الهدف الذي كانوا يرمون إليه، وهو تكوين تحالف شيوعي للشعوب الشرقية.

العودة إلى التفاهم

وشعر السوفييت منذ عام 1921، بأن محاولاتهم لنشر الشيوعية العالمية قد باءت بالفشل، وأن عليهم أن يكرسوا جهودهم لنجاح السياسة الاقتصادية الجديدة التي وضعوها لبلادهم، وتدعيم قواتهم، وتحسين مركز بلادهم الاقتصادي، ورأوا أن ذلك لا يتأتى إلا بالتقرب إلى العالم البورجوازي، الذي كانوا يرفضون التعامل معه، ولم يكن لدى تلك الدول مانع من التفاوض مع البلشفيك، لذلك تم أول اتفاق تجاري بين روسيا وإنجلترا في عام 1921. وفي الوقت نفسه اتفق الطرفان على أن تمتنع روسيا عن إثارة الآسيويين ضد بريطانيا، في مقابل أن ترفع بريطانيا الحصار الاقتصادي عن الموانئ الروسية. وما أن انتهى العام حتى أتمت روسيا عقد مثل هذه الاتفاقيات التجارية مع إحدى عشرة دولة. ومع ذلك لم تستطع تلك الاتفاقيات التجارية أن تكفى حاجة روسيا الاقتصادية؛ لأن كثيراً من الدول الغربية كانت تحجم عن التعامل مع الحكومة السوفييتية بسبب القرار الذي أصدره البلشفيك عام 1918 بعدم اعتراف روسيا بالديون الأجنبية عليها. واضطر وزير الخارجية الروسية أن يعلن أن حكومته على استعداد لمباحثة الدول بشأن الديون. وفي مؤتمر دولي، وبعد تردد طويل، وبفضل المساعي التي بذلها لويد جورج. دعيت روسيا لحضور مؤتمر اقتصادي يعقد في جنوا في عام 1922. وقد حضر المؤتمر ممثلو الدول صاحبة الديون على روسيا، فيما عدا الولايات المتحدة. ولكن مؤتمر جنوا لم ينجح لأن الدول طالبت روسيا بالاعتراف بالديون التي أنكرتها، وأن تدفع تعويضات للممتلكات الأجنبية التي صودرت في روسيا بعد قيام الثورة، بينما صممت روسيا على عدم الاعتراف بديون الحرب. والاكتفاء بالاعتراف بالالتزامات التي تعهدت بها الحكومة الروسية القيصرية لبعض الدول قبل قيام الحرب، وبعد مباحثات، استمرت عدة أسابيع، لم يصل المؤتمرون إلى اتفاق.

ومما زاد الحلفاء السابقين حنقاً على روسيا السوفييتية أن ممثلي روسيا وألمانيا في المؤتمر، قد اتفقوا فيما بينهم على توقيع معاهدة رابلو “RAPALLO أبريل 1922، وتم بمقتضاها إعفاء ألمانيا مؤقتاً من ديونها التي تستحقها روسيا وفتحت الباب لعقد اتفاقات تجارية بين البلدين؛ فاكتسبت روسيا بهذا الاتفاق كسباً أدبياً آخر، هو اعتراف ألمانيا بالنظام الجديد في روسيا.

وعندما تولت الحكم في بريطانيا وزارة العمال برئاسة “رمزي ماكدونالد” (1924) سارعت تلك الوزارة بالاعتراف بالحكومة السوفييتية دون أي تحفظ. وبعد أيام قليلة أعلنت إيطاليا ـ وعلى رأسها موسوليني ـ الاعتراف بالحكومة السوفييتية، وتبع ذلك عقد اتفاقيات تجارية بين روسيا وكل من بريطانيا وإيطاليا.

وتتابعت بعد ذلك اعترافات الدول بالحكومة السوفيتية، ولم يكد ينتهي عام 1924، حتى بلغ عدد الدول الأوربية التي اعترفت بها خمس عشرة دولة، من بينها فرنسا، والنرويج، والنمسا، واليونان، والصين، والدنمرك، والمكسيك. وفي السنة التالية، أي عام 1925 حصلت روسيا على اعتراف معظم الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. على أن الحكومة السوفييتية ساءها عقد معاهدات لوكارنو “LOCARNO في عام 1925[5] بين الدول الأوربية الكبرى، وهي المعاهدات التي اعتبرتها روسيا تهديداً خطيراً موجهاً إليها، ولذلك كان أول هدف للسياسة الخارجية الروسية فيما بين عامي 1925و1933، هو إنشاء حاجز من الدول الصديقة على الحدود الروسية، يضمن السلامة من العدوان، وما أن وافى صيف عام 1933 حتى كانت روسيا قد عقدت مع عدد من جاراتها الغربية والجنوبية ومع عدد آخر من الدول مواثيق الحياد وعدم الاعتداء.

تشييع آخر القياصرة

بعد ثمانين عاماً، استيقظ “الضمير” الروسي ليعطي نيقولا الثاني، أو نيكولاي رومانوف ـ وأفراد عائلته ـ آخر القياصرة، الذين حكموا روسيا ثلاثة قرون، حقه ويكشف عن هوية الذين أعدموه مع جميع أفراد عائلته. واستغرق التحليل العلمي لفحص رفات العائلة المالكة، التي عُثر عليها في غابة في ضواحي كاتر ينبورج البعيدة عن سان بطرسبورج عاصمة القياصرة، سنوات طويلة وشارك فيها أخصائيون من دول عدة حتى تم التأكد تماماً، حسب شهادة اللجنة الحكومية المختصة، أن تلك الرفات تعود إلى القيصر وعائلته.

ونُقل الرفات بالطائرة إلى سان بطرسبورج يوم الجمعة 17 يوليه 1998، حيث جرت مراسم التشييع. وللمرة الأولى في تاريخ مدافن القياصرة الروس الذين خصص لكل منهم ناووس رخامي منفرد، جرى الدفن هذه المرة في ناووس مشترك من طبقتين، السفلي لطبيب القصر والخادم والطاهي والمربية، فيما وضعت في الطبقة العليا توابيت نيقولا الثاني وزوجته الإمبراطورة الكسندرا فيودوروفنا وبناتهما الثلاث. ولم يعثر بعد على رفات ابنه الوحيد الأمير ألكسى وابنته الرابعة الأميرة ماريا.

وعلى تابوت القيصر وضع سيفه وحده من دون التاج والصولجان، لأن نقولا تنازل عن العرش قبيل الثورة البلشيفية. وبمصاحبة إطلاق المدفعية أُغلق الناووس ووضع شاهد القبر فوقه. وأمضى أقرباء القيصر وحدهم ساعة، أمام قبره، ثم دخل الرئيس بوريس يلتسن وسائر المدعوين كاتدرائية بطرس وبولص، وعددهم حوالي ألفين. وكان بينهم الأكاديمي ديمتري ليخاتشوف والملحق مستيسلاف روسترو بوفيتش وممثلو جميع الأسر المالكة في أوروبا، وقدم يلتسن شخصياً وقرينته التعازي للأمير نقولا رومانوفيتش رومانوف أكبر أبناء الأسرة القيصرية. واعتباراً من اليوم التالي السبت 18 يوليه 1998، فُتح باب الزيارة لسائرالمواطنين.

وبعد الدفن مضى الحاضرون إلى قاعة جُهزت فيها مائدة لحوالي 400 شخص بأطباق روسية تقليدية، لكن من دون لحوم وكافيار.

الطابع الرسمي لدفن رفات آخر القياصرة

بعد جدل احتدم طويلاً حول أهمية وضرورة إضفاء الطابع الرسمي على مراسم دفن رفات آخر القياصرة الروس وأفراد عائلته وبعض خدمه، شارك الرئيس بوريس يلتسن في الاحتفالات التي أُقيمت في سان بطرسبورج بهذه المناسبة. أما مجلس الدوما فقد أصر على عدم المشاركة، وان عارض ذلك بعض زعماء الكتل البرلمانية وأعضاء المجلس وبعض أعضاء من كتلة الحزب الشيوعي الروسي. وفسر يلتسن قراره بالمشاركة بقوله أنه اتخذه بعد نقاش وحديث مع مواطني روسيا من ممثلي قطاع الثقافة. وأضاف قوله: “الحقيقة ظلت غائبة لمدة ثمانين عاماً وحان الوقت الآن لكشف النقاب عنها”.

وقد دعا الرئيس بوريس يلتسن، عند بدء مراسم دفن رفات القيصر نقولا الثاني وعائلته في كاتدرائية القديسين بطرس وبولس في بطرسبورج، إلى “اختتام القرن الحالي الذي كان دموياً بالنسبة إلى روسيا بالتوبة”. وأضاف يلتسن، بعد انحنائه أمام النعوش، أن “الذكرى الثمانين لإعدام آخر القياصرة وأفراد عائلته يوم تاريخي”. واستطرد قائلاً “إن أعواماً طويلة من الصمت لازمت هذه الجريمة الوحشية. إن ذلك عار في تاريخنا. أننا بإعادة دفن جثث هؤلاء الأبرياء نسعى إلى دفع ثمن الخطيئة المروعة التي ارتكبت(‘جريدة الحياة، عدد يوم السبت 18 يوليه 1998.’). وقال: “إن صفحات مجيدة كثيرة في تاريخ الوطن ترتبط باسم آل رومانوف. وإن التنكيل بآخر قيصر منهم في مدينة يكاتر ينبورج يعد إحدى صفحات العار المشين في تاريخنا”. وأضاف: “أننا نكفر عن ذنوب آبائنا ونحن نهيل التراب على ضحايا لا جريمة لهم. وإن مسؤولية هذه الجريمة البشعة تقع على من اقترفها ومن اختلق مبرراتها وظل يكررها عشرات السنين. إننا جميعاً مذنبون ونحن جميعاً مسؤولون أمام التاريخ وأمام ذاكرة الشعب.

ثم قال يلتسن إن “الأمر يتعلق بالعدالة الإنسانية وبرمز وحدة الشعب ودفع ثمن أخطائه، لأننا جميعاً نتحمل المسؤولية. ويجب علينا القيام بواجباتنا باسم الأجيال الحالية والمقبلة. وزاد يلتسن قائلا: “إنني أنحني أمام ضحايا هذه الجريمة البشعة”. وختم قائلاً “لم يكن باستطاعتي إلاّ المشاركة يجب أن أكون حاضراً كرجل وكرئيس”.

بطريرك موسكو يقيم قداساً

أقام بطريرك موسكو وعموم روسيا، ألكسي الثاني، قداساً كنائسياً في المناسبة نفسها في دير سيرجييف بوساد ـ 70 كم شمالي موسكو ـ

لم تفتقر عودة رفات نقولا الثاني إلى العاصمة القيصرية سابقاً إلى الأبهة ومشاعر التأثر، فقد تجمع أكثر من ستين من أفراد عائلة رومانوف، الذين يقيمون جميعاً في الخارج، لهذه المناسبة والتقوا مجدداً مع وطنهم الأم مع أن الكثير منهم لم يعد يتكلم لغة بلده. وركع كثيرون منهم راسمين شارة الصليب، لدى مرور نعش القيصر في حين غلب بعضهم الآخر التأثر الكبير، عندما بدأت الجوقات الدينية الروسية تراتيلها في كاتدرائية بطرس وبولس.

وقال عميد عائلة رومانوف نيكولاي رومانوفيتش “الآن يمكننا أن ننسى الماضي وأن ننظر إلى المستقبل”.

وتفاوتت مشاعر المئات من سكان سانت بطرسبورج الذين تجمعوا على طول الطريق لمشاهدة الموكب. وقالت فالنتينا فيكتوروفنا ـ 68 عاماً ـ “أترون هذه الجموع؟ الكل يشعر بالحزن وبالفرح كذلك برؤية القيصر يعود إلى المدينة”. وفي المقابل يقول فيل فاسيليف، وهو مؤرخ في الرابعة والستين من عمره، “جئت من باب الفضول، هذه المراسم هي استعراض سياسي ليلتسن وأنا على ثقة بأن هذه البقايا ليست حقيقية” ولا تخص القيصر وعائلته. وأظهرت مارينا تشورسانوفا، وهي بائعة في الثامنة والعشرين من عمرها، حماسة أكبر وهي تقول “خلال 70 عاماً من الحكم الشيوعي كان يمنع علينا كل شيء. لكن حتى لو كان يمنع علينا التحدث عن القيصر إلاّ أن كل واحد منها كان يحبه في قلبه”.

وتعلق جريدة الحياة قائلة “ولا يهم إن كانت هذه الشابة تفسر التاريخ على هواها للتعبير عن فرحتها إذ من المعروف أن نيقولا الثاني كان قيصراً غير محبوب، لأنه أغرق البلاد في الفوضى وكان خاضعاً تماماً لسيطرة زوجته، ولراسبوتين الكاهن اللغز.

من جهة أخرى قاطع مراسم التشييع عدد كبير من السياسيين الروس المعروفين، فضلاً عن الشيوعيين، فرئيس الوزراء السابق فيكتور تشيرنوميردين، الذي بدأت في عهده التنقيبات العلمية عن رفات القيصر، برر عدم حضوره المراسم برغبته في عدم تسييس القضية. إلاّ أن تصرفه أصبغ صفة سياسية على القضية، فبدلاً من سان بطرسبورج غادر تشيرنوميردين إلى كالوجا في اليوم نفسه وشارك في دفن رفات جنود قُتلوا في الحرب العالمية الثانية قبل خمسين عاماً. وبذلك أعطى دفعاً للميول الوطنية ذات الصبغة الشيوعية، طالما أنه لا خلاف بين الروس على إخلاص شهداء تلك الحرب.

وتتجلى مغازلة تشيرنوميردين للشيوعيين في دعوته (خلافاً ليلتسن) إلى عدم نبش القبور والبحث عن المذنبين في مقتل القيصر. وقال بعد التشييع البديل الذي حضره في كالوجا لدفن رفات جنود قتلوا في الحرب الثانية: “أنني لم أحضر دفن القيصر لأنه لا ذنب لنا في تلك الجريمة. فالمذنبون من جيل غير جيلنا. ولا موجب للدعاية والنفاق السياسي في قضية من المفروض أن تتم بهدوء.

قائمة المصادر

  1. هارولد تمبرلي، جرانت، “أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789 ـ 1950″، ترجمة بهاء فهمي، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1978، الجزء الثاني.
  2. هارولد تمبرلي، جرانيت، “أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789 ـ 1950″، ترجمة بهاء فهمي، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967، الجزء الأول.
  3. إدوارد هاللت كار، “ثورة البلاشفة 1917 ـ 1923″، ترجمة عبدالكريم أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973، ثلاثة أجزاء.
  4. الكسييف وكارتسوف، “تاريخ الاتحاد السوفيتي”، دار التقدم ـ موسكو ـ بدون سنة طبع.
  5. الهيثم الأيوبي وآخرون، “الموسوعة العسكرية”، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 1981.
  6. جورج صوريا، “300 يوم من الثورة الروسية”، ترجمة أكرم ديري والمقدم الهيثم الأيوبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972.
  7. جون ريد، “عشرة أيام هزت العالم”، تقديم لينين وكروبسكايا، دار التقدم، موسكو، 1919، مطابع دار المعارف بمصر 1972.
  8. زينب عصمت راشد، “تاريخ أوروبا الحديث ـ القرن التاسع عشر والعشرين”، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1981.
  9. سفيتلانا مارتينتشوك، لينين بصدد الماركسية”، وكالة نوفستي، 1987.
  10. عبدالحميد البطريق، “التيارات السياسية المعاصرة 1815 ـ 1960″، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، 1982.
  11. عبدالحميد البطريق، “تاريخ أوروبا الحديث”، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1984.
  12. عبدالستار الطويلة، “ثورة بعد سبعين عاماً من الثورة”، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة، 1987.
  13. عبدالفتاح أبو علية، ودكتور إسماعيل أحمد ياغي، “تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر”، دار المريخ للنشر، الرياض، 1992، الطبعة الثالثة.
  14. فيدوسوف وبينفانوف، “تاريخ الاتحاد السوفيتي”، ترجمة خيري الضامن ونقولا طويل، دار التقدم ـ موسكو ـ بدون سنة طبع.
  15. لينين، “التحالف بين العمال والفلاحين”، دار التقدم، موسكو، 1966.
  16. لينين، “المؤلفات”، دار التقدم، موسكو، 1968، المجلد 18.
  17. لينين، “المؤلفات”، دار التقدم، موسكو، 1968، المجلد 31.
  18. لينين، “المؤلفات”، دار التقديم، موسكو، 1968، المجلد 23.
  19. لينين، “بصدد الحملة الثورية”، دار التقدم موسكو، 1968.
  20. لينين، “ماركس ـ أنجلس، الماركسية”، دار التقدم، موسكو، 1968.
  21. لينين، “مختارات”، دار التقدم، موسكو، 1968، الجزء الأول.
  22. لينين، “مختارات”، دار التقدم، موسكو، 1968، الجزء الثاني.
  23. مينتسي، “كيف حدثت ثورة أكتوبر”، وكالة نوفستي ـ موسكو 1987.
  24. وكالة نوفستي، “من تاريخ الاتحاد السوفيتي”، موسكو، 1976.

المصدر: موقع المقاتل

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى