دراسات سياسية

الدولة القطرية العربية: المضامين والإشكاليات.. مقاربة نظرية

د. حسن لطيف كاظم الزبيدي
المحتويات
الموضوع ………………………………………………………………………………..الصفحة
المقدمة ……………………………………………………………………….
الفصل الأول: في مفهوم الدولة ………………………………………………….
الفصل الثاني: الدولة في الفكر العربي- الإسلامي ………………………………….
الفصل الثالث: إشكاليات مفهوم الدولة في الوطن العربي ……………………………
أولا:  الإشكالية الجغرافية: القطيعة الثابتة …………………………………………
ثانيا: الإشكالية التاريخية: القطيعة بين الماضي والحاضر …………………………..
ثالثا: الإشكالية الذاتية: القطيعة بين الأمة والدولة ………………………………….
رابعا:  إشكالية التنظير: القطيعة بين الفكر والممارسة ……………………………..
الفصل الرابع: أعراض الأزمة في الدولة القطرية العربية …………………………..
·       أزمة الولادة  …………………………………………………………
·       أزمة البناء المؤسسي للدولة …………………………………………….
·       أزمة الممارسة الاقتصادية ……………………………………………..
·       أزمة المجتمع المدني ………………………………………………….
الخاتمة ………………………………………………………………………
المصادر …………………………………………………………………….

المقدمة

تعد الدولة واحدة من المفاهيم القليلة في الفكر المعاصر التي تتناقض وتتضارب حولها وجهات النظر، حتى لم تفلح أي من وجهات النظر في صياغة نظرية للدولة تتجاوز ما عابته على غيرها، فأخفقت المدارس الفكرية في الوصول إلى صياغة نظرية تحظى بالقبول. فليس غريبا إذا أن تتعدد التعريفات والنظريات والصياغات لها.

إن العمل التحليلي يبقى ضروريا لفهم نشأة وتطور مفهوم الدولة كمفهوم دال على شرط الحداثة في الفكر الغربي الحديث وفي الحياة الغربية عموما. وهنا ينبغي لنا أن نبين أولا المدى الذي تجد فيه نظرية الدولة الحديثة أسسها ومكوناتها العامة في الفكر المعاصر. وثانيا نحاول رصد المراحل المهمة في تطور مفهوم الدولة ومعرفة صور الجدة في تصور العلاقة بين الدولة والمجتمع والاقتصاد في التاريخ الحديث، ولنا وقفة مع أدوار ووظائف الدولة على المستوى النظري، كما سنقف عند تجارب دور الدولة في المجتمعات الصناعية وفي بعض المجتمعات الصناعية الجديدة، لما له من أهمية في إطار الموضوع الرئيس للدراسة.

لقد نشأت الدولة الحديثة في الوطن العربي في ظل ظروف تاريخية عامة كانت غاية في الاستثنائية والخصوصية والتنوع، إذ لم تولد الدولة القطرية العربية ولادة واحدة موحدة، ففي بعض الحالات كانت الدولة أو ما يشبهها موجودة أصلا وجاء المستعمر ليعززها ويقوي من سلطانها، أو لينقضها ويستبدلها بمؤسساته، وفي حالات أخرى كانت مؤسسات وأجهزة الدولة مفروضة بطريقة فوقية على مؤسسات المجتمع المدني من جانب القوى الاستعمارية، وحتى في مرحلة ما بعد الاستقلال جرى الحفاظ على معظم الشكليات الموروثة من الحقبة السابقة، دون تغيير يتناسب وحجم الكفاح الذي خاضته الشعوب العربية من أجل تغيير ثوري في الأسس والآليات ولذا صدق توصيف بعض الباحثين لها بأنها نظم أو دول ما بعد الاستعمار تأسيسا على ملاحظة امتدادها المؤسسي والقانوني لتلك التي كانت قائمة في الحقبة الاستعمارية.

إن الهدف الأساس الذي يحاول الكتاب معالجته هو البحث في مجموعة الاشكاليات التي تعتري مفهوم الدولة، والتي أسبت الدولة خصائصها وسماتها. ومحاولة تفسير أسباب وبواعث الأزمة التي تعاني منها الدولة القطرية. سعى الفصل الأول إلى استعراض مفهوم الدولة وتقديم أهم الرؤى عنه من خلال الاتجاهات العامة في التعريف به. واهتم الفصل الثاني بمفهوم الدولة في الفكر العربي- الإسلامي. وحاولنا في الفصل الثالث تشخيص الاشكاليات التي تعترض مفهوم الدولة القطرية. وفي الفصل الرابع تناولنا تحليل معالم الأزمة التي تعيشها الدولة القطرية ومدى ما يمكن أن ينتج عنها من أزمات تصيب الدولة نفسها والاقتصاد والمجتمع المدني.

الفصل الأول في مفهوم الدولة

ينبغي لنـا ابتداءً أن نشير إلى أن مفهوم الدولة State يرتبط ويتداخل مع مفاهيم أخرى كالمجتمع، والسلطة، والحكومة، والأمة، والقومية. فأما المجتمع Society  فسابق على الدولة وهو الشرط الأساس لنشوئها فبدونه لا توجد دولة. ومع أن وجود السلطة Authority أمر ضروري لكل مجتمع إلا انه لا يعني أن تكون هذه السلطة هي الدولة، فلقد عرفت المجتمعات القديمة السلطة دون الدولة، والسلطة كوظيفة اجتماعية قديمة قدم المجتمع، وجدت لتنظيم الحياة الاجتماعية ووضع حد أدنى أو أقصى من قواعد العمل لسير المجتمع([1]). في حين أن الحكومةGovernment  هي الجهاز التنفيذي من الدولة وهي وكيلة الدولة في تنفيذ سياساتها ووظائفها مثلما هي تجسيم لمظهر واحد من مظاهر الدولة الحديثة. أما الأمة Nation فقد صارت ومنذ ظهور الدولة الحديثة في أوروبا مبررا لوجود الدولة كدولة- أمة أو كدولة- قومية، لكنها ليست شرط لوجودها فالكثير من الدول تعتبر دولا لكنها ليست أمما بالمعنى التقليدي. أما القومية Nationalism فهي نزعة أبناء الأمة الواحدة لإنجاز مشروع بناء الدولة.

لذا فقد استخدم مفهوم الدولة على مر العصور للدلالة على معانٍ متداخلة([2])، فقد استخدم اصطلاحا ليشير إلى مجمل بلد Country معين سواء كان يشكل وحدة سياسية واحدة، أو اتحاد له مركز يتولى مسؤولية اتخاذ قرارات تنسحب على جميع وحداته دون شرط مشاركة كل منها مباشرة في صياغتها. في حين استخدمه آخرون، وعلى نطاق واسع للدلالة على كل ما له صلة مباشرة بالحكومة بحيث لم يكن عندهم- مفهوم الدولة- يتجاوز مفهوم الحكومة. في حين أكد آخرون على معنى المجتمع وخضوع المنظومة الاجتماعية كلها للحكومة أو السلطة، وادعى آخرون أنها المجتمع محكوم مركزيا، وناقض آخرون هذا المعنى عندما ادعوا أن الدولة ليست المجتمع وإنما هي شكل لتمظهر حياة المجتمع([3]). وقيل أيضا أنها نصاب منفصل عن المجتمع ولا تعبر عنه، بل إن ما يعبر عن قواه هو الهيئات التمثيلية وجماعات الضغط، ويخضع المجتمع في توصيفه لأسس وظيفية للدولة دور أساس فيها. وبهذا لا يتوافق المقصود بما تحمله تلك المعاني. وربما يكون ذلك واحدا من أسباب عدم الاتفاق على نشأة الدولة وظهورها، فأختلف الباحثون في تحديد شهادة ميلاد الدولة أو الدولة الحديثة مثلما اختلفوا أيضا في حقيقة وجودها، وفيما إذا كانت تتمتع بالحضور([4]).

إن اصطلاح الدولة تراجع في الاستخدام الأكاديمي في ربع القرن التالي للحرب العالمية الثانية لصالح مفاهيم الحكومة والتطور السياسي وجماعات المصالح والتصويت والسياسة البيروقراطية…الخ، وخلال الخمسينات والستينات كان ينظر إلى الدولة بكونها مفهوما عفى عليه الزمن، وانه مرتبط بصورة أساسية بدراسات قانونية لآليات عمل الدولة. وكان الباحثون والاختصاصيون في هذا المجال يشككون في دور الدولة كعامل مستقل. وظهرت كتابات ركزت على عمليات صناعة القرار والاختيار العام والقيود المفروضة على الدولة سواء في الداخل أو في الخارج. ومع سبعينات القرن الماضي تجدد الاهتمام بمفهوم الدولة، وإن ركز الباحثون على القضايا المرتبطة بالاقتصاد السياسي الدولي فاهتم منظرو التبعية Dependence  بدراسة القيود التي يفرضها النظام الدولي والعلاقات الاقتصادية الدولية على الدولة، وبرعوا في التنظير بشكل لا يمكن إنكاره.

لم يعد بالإمكان إغفال دور الدولة الهام في صناعة أحداث العالم، لذا أعيد الاعتبار لمفهوم الدولة من لدن الباحثين في شتى مجالات البحث الاجتماعي. وتجدد الاهتمام بالدولة مع بروز المؤسسات الدولية والمؤسسات المتعددة الجنسيات على الصعيد الدولي، واعتبرت الأخيرة منافسا قويا للدول بما تتمتع به من خصائص تمكنها من إدارة مناطق النشاط التي كانت في السابق تقع في إطار مسؤولية الدولة كالوظائف الاقتصادية والاجتماعية. وباتت ظاهرة تفتت سيادة الدول تلقى مزيدا من عناية الباحثين([5]).

في أواخر سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي، تصاعد الاهتمام بموضوعة الدولة، وعمد كتاب كثيرون إلى تشريح هذا المفهوم والغوص في أعماقه محاولين اكتشاف مضامينه، وسُجلت أعمال متميزة لكتاب من مختلف المدارس أهمها المدرسة الماركسية المحدثة([6]). فضلا عن أعمال المدرسة الواقعية الجديدة في صياغة مفهوم وسط يؤطر العلاقات والتشابكات الدولية. ومع تسعينيات القرن الماضي اكتسب الاهتمام بموضوعة الدولة أبعادا جديدة، وجرى التركيز على مفهوم الحاكمية Governance أو الحكم الصالح، أي التنظيم والعلاقات الاجتماعية والإلتزامية بين أفراد المجتمع في كافة مستويات الأجهزة الإدارية والحكومية، وأعيد الاعتبار لمفهوم الحكومة الذي لم يعد كافيا للدلالة على ما توصلت إليه الدراسات والتجارب في الشأن العام وقضايا التمثيل الشعبي والديمقراطية وعمليات صناعة القرار السياسي وضرورات التنظيم الذي يعكس مصالح الجماعات والطبقات ممن تدخل في إطار الحكومة، كما توسع المقصود بمفهوم الحكومة ليشمل المستويات المركزية والمحلية والتشريعية والرقابية والقضائية وأدخلت ضنها المنظمات الشعبية والجمعيات غير الحكومية، فنشأت فكرة الحاكمية ثرية بدلالاتها.

إن البحث في مفهوم الدولة تعترضه إشكاليات ومصاعب عديدة، لهذا نجد أن كثيرين ممن كتبوا في مواضيع تقترب من مفهوم الدولة، نجدهم يقفزون على هذا المفهوم متجاوزين كل ما يعتريه من غموض. فانسحب ذلك بقدرٍ أو بآخر على ما توصلت إليه تلك الدراسات من نتائج واستنتاجات لم تضع مفهوم الدولة في محله، وأما محاولتنا تناول المفهوم، فإنها تنطلق من محاولة الباحث التواصل مع الجدال النظري حوله واستخلاص التوكيدات المعياريةNormative  ذات الأبعاد الأكثر رصانة. ولهذا نؤكد أن الاستطراد الآتي في تعريف الدولة له ما يبرره (( فالمرء لا يستطيع أن يحدد أصل الدولة ما لم يستطع أن يحدد ويضفي طابعا إجرائيا على ما يبحث عنه ))([7]) ولكن تبقى مهمة الباحث صعبة.

لقد نشأت الدولة في عمق التاريخ بفعل عوامل وضرورات اجتماعية متشابكة تعانقت في مرحلة ما من مراحل تطور المجتمع([8])، فالدولة نشأت لمواجهة إحتياجات معينة وما أن وجدت حتى اتسعت استجابة لاحتياجات وجدت بوجودها. أما الأصل التاريخي للدولة فيعود إلى قرون سحيقة من التاريخ البشري، وتحديداً منذ تَوطُنِ الإنسان وامتهانه الزراعة ومعرفته الاستقرار، فما من مجتمع بشري لم يعرف شكلا من أشكال التنظيم السياسي والسلطة السياسية، وبدرجات متفاوتة في بساطتها (العشيرة أو القبيلة) أو في تعقدها (الممالك والإمبراطوريات)، إذ طرحت الدولة آنذاك خياراً في مجتمعات عديدة: في سومر حوالي 4000 سنة قبل الميلاد ومصر الفرعونية حوالي 3300 سنة قبل الميلاد وفي بيرو زمن الانكا، وفي الصين القديمة، وفي فترات متأخرة في أوروبا عندما نشأت الدولة- المدينة، وغرب أفريقيا في ما قبل الاستعمار. ومع تطور المجتمعات صارت الدولة أمرا لا مفر منه، وتمتعت كل المجتمعات بالدولة أو ما يشبهها في تنوع بقدر تنوع المجتمعات. فقد كانت الدولة نفسها، في حالات استثنائية، عنصر الغزو، في حروب الغنيمة والأرض والعبيد، وحتى في تلك الحقبة الموغلة في القدم وفرت الدولة بحروبها الخارجية حلولا للتناقضات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية، بينما أسهمت أمجاد النصر في الخارج في ضمان السلام في الداخل.

لقد جرى في جميع تلك الأشكال الاحتفاظ بشرط أساسي يتمثل في وجود مؤسسة أو سلطة لإقامة النظام، والإشراف على عموم الحياة العامة وترتيب شؤونها، وتوفير الشروط الأساسية للنمو الحضاري واعتبارات الأمن الداخلي والخارجي وأشكال التنظيم الإداري والتحضير والتخطيط للمستقبل وتمهيد مقدمات الريادة والإبداع. فادعت الدولة لنفسها مع مرور الزمن الحق في امتلاك السلطة المطلقةAbsolute Power ، وتمكنت أيضا من التأثير في مجمل النسق الاجتماعي ونجحت في اجتذاب المجتمع المدني([9]) حولها، وتأسيس صفة طبقية تتباين في وضوحها. ومع ذلك لم يكن مفهوم الدولة واحدا لا في الزمان ولا في المكان، فقد عرف التاريخ الإنساني نماذج من الدول انحرفت فيها عن أداء هذه المهام، أو عجزت عن إنجازها، وربما تحولت إلى معوق لما نذرت نفسها لتحقيقه.

إن الدولة في جوهرها واقعة اجتماعية. ولم تتكون على نحو عضوي وإنما هي بنيان اجتماعي قام بناءاً على ظروف اجتماعية موضوعية تفاعل الأفراد معها، ثم صاغوها بعد ذلك بالهيأة التي تُعرف اليوم بالدولة. ومن هنا فهي تختلف عن كل أشكال التنظيم الأدنى منها (كالعائلة والعشيرة)، حيث تلعب التلقائية دورا مهما في تكوينهما. والدولة أيضا، ليست ظاهرة مادية ولها وجود محسوس، وإنما هي بنيان أقامه التفكير الإنساني لفرض التنظيم الاجتماعي، وعليه فهي مبنية على أسس عقلانية وقانونية وتبرز إلى الوجود عندما يتطور الوعي الجماعي إلى حد يرفض أفراد الجماعة عدَّ كل التنظيم الاجتماعي قائما على إرادة فرد أو عدة أفراد فقط. ومهما كانت المميزات الرفيعة التي يتمتع بها هؤلاء الأفراد المتفوقون. فالدولة إذا، جزء من المجتمع تنبثق منه وتتخذ لها مكانة عالية لكي تقوم بدور تنظيمي له. وإذا ما أصبح لها كيان متميز أخذت بتعزيز مركزها عن طريق ممارستها للسلطة([10]).

إن اختزال مفهوم الدولة إلى مجرد اكتشاف أوروبي، وربط نشأته بالتاريخ الأوروبي، أي حوالي 1500 ميلادية، إنما هو اختزال يغفل من الحقيقة بمقدار الزمن الفاصل بين النشأة الأولى للدولة وبين ترسيخ الدولة القومية الحديثة في أوروبا، التي تتميز بوجود أجهزة إدارية وقانونية مركزية، وبحدود ثابتة، وبشعوب ذات ثقافات خاصة، فجاءت الدولة نتيجة طبيعية لمخاض المجتمع الأوروبي([11]). وتقدمت هذه الكيانات أو الدول لتبلور النظام الدولي الذي تمحور أساساً حول وجودها ووجود كيانات تشبهها أو تحاكيها فُرضت على مجتمعات عديدة في حالات كثيرة. هذا التبلور الذي يعود إلى القرون الأربعة الماضية، وعقد معاهدة ويستفاليا Westphalia التي أرست قواعد التعامل والعلاقات بين الدول الأوروبية التي وقعتها. فأنهت بذلك حقبة الصراع الديني في أوروبا وأفرزت كيانات قانونية جديدة، اجتذبت الولاء لها بعدما انحسرت القيم الدينية المسيحية وهيمنة الكنيسة مع تعالي صيحات التنوير  Enlightenment وعلمنة النظم السياسية Secularism والدعوة إلى تبني منجزات العلوم واعتناق القيم المادية، فانهارت السيادة المطلقة للكنيسة، ومال الشعور القومي نحو الخاص سواء في شخصية الملك أو في مفهوم الدولة و(( بدأ المفكرون الغربيون يتعاملون مع مفاهيم المجتمع والشعب والأمة منذ القرن السادس عشر. وقد تزامن هذا الفكر مع ظهور ((الدولة القومية)) على الساحة الأوروبية بعد معاهدة ويستفاليا (عام 1648)، أي أن التنظير حول هذه المسائل كان مصاحبا، وأحيانا ممهدا، لمسيرة التطور الاجتماعي، والأحداث السياسية ))([12]) وهو ما مهد الأجواء لنظرية السيادة المطلقة عند ميكافيلي Machivelli (1469-1527) والنظريات الليبرالية التي ركزت على مصالح الأفراد كما عند جون لوك John Locke (1632-1788) وجيرمي بينثام J. Bentham (1748-1832)، أو تلك النظريات التي اعتمدت المنهج التاريخي المحافظ كما عند هيجل (1770-1831) والنظريات الاشتراكية الراديكالية المناهضة للدولة كما هي عند كارل ماركس (1818-1883) وفريدريك انجلز (1820-1895) وغيرهم.

كما إن القومية هي الأخرى ليست اكتشافا أوروبياً، بل إنها فيها برزت كعاطفة ونزعة شوفينية لملء الفراغ الذي تركه الدين في نفوس العامة، فركزت نظريات السيادة المطلقة نحو الشعب كمصدر للسيادة، وتنامى في ظل هذه الأجواء الشعور بالخصوصية القومية والتمايز العرقي، فتعمقت بذلك المشاعر القومية في إنجلترا في القرن السابع عشر ومنها تسربت إلى بعض الأراضي الأوروبية، ليتولى نابليون بونابرت (1769-1821) نشرها بطريق غير مباشر. وسعت كل قومية في أوروبا إلى بناء دولتها على أساس قومي تاريخي يسعى إلى تكريس قوة الأمة وفرض نجاحها تعبيرا عن وعي السكان بوحدتهم إلى حد يجعلهم ينشدون تجسيدها والتعبير عنها وتمثلها في الدولة- الأمة. وتُقدم القوميتين الإيطالية والألمانية مثلين جيدين في هذا المجال حيث كانتا حاضرتين في تكوين الدولة القومية، وان تجاوزت الدولة حدود القومية الإيطالية وقصرت عن حدود القومية الألمانية، فاشتدت النزعة لتوحيد الشعور القومي في الأجزاء الأخرى خارج الحدود وعملت على إخضاع المستعمرات للمنفعة القومية، بينما سعت الدولة الألمانية إلى ضم الأجزاء غير المستوعبة في داخل الدولة الألمانية تأكيدا لوحدة الشعور القومي([13]). إن القومية في حالات غير أوروبية تعد ذات عناصر متبادلة التفاعل في ما بينها، فضلا عن ما تلعبه من وظيفية تحديدية تشابه تلك الوظيفة التي تؤديها في المجتمعات الأوروبية، لتشمل بذلك أبعادا سياسية واجتماعية وثقافية تجعل المجتمع أو الأمة المعنية ترى في نفسها وحدة اجتماعية وثقافية متميزة تتعزز في ظلها قيم معينة.

لقد اكتسبت الدولة القومية مميزاتها الأساسية، وباتت أنموذج عصرنا، والحادثة الأكثر حضورا في واقعنا وتفكيرنا رغم قدم أشكال الدولة وتعدد نماذجها، لكنها وجدت في منطقة جغرافية موحدة ومتناسقة ووضعت حدود قوميتها بوضوح واعترف لها بالسيادة كغيرها من الدول وأنتجت رموزها الخاصة لترسيخ هويتها الوطنية. فأصبحت تدريجيا محور القرارات المؤسساتية والاقتصادية وشكلت جيشا محترفا، وأقامت مؤسسات مالية ونقدية. خلال الحقبة التجارية (المركنتيلية) كانت الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية والنظام القائم متفقان على تعزيز سلطة الدولة وزيادة قوتها لذا عملت على ترجمة قوتها في الجوانب الاقتصادية والثقافية من خلال الحماية وإخضاع التجارة والاستثمار لسياساتها. لكن مع ظهور كتاب ثروة الأمم (1776) لآدم سميث (1723-1790) ظهر خيار مناهض لذلك وطالب بإعلاء السوق مكان الدولة. في مواجهة هذا التيار الليبرالي ظهرت الماركسية لكنها اتفقت مع الأولى في معاداتها للدولة واختلفت في المدى الذي يجب فيه استبعادها من الحياة الاقتصادية. لكن التاريخ التالي انتصر للدولة القومية حيث جرى تعميمها على العالم أجمع، وحاولت أمم كثيرة بناء دولتها التي تحاكي إلى حد كبير نموذج الدولة الناشئ في أوروبا بمؤسساته وتقنياته وشكله، فامتد النموذج الأوروبي إلى القارة الأمريكية ومن ثم إلى الإمبراطوريات القديمة (الصين، اليابان، السلطنة العثمانية…) لتتسارع العملية في القرن الماضي. لذا فليس غريبا أن نجد من يعتبر النموذج الأوروبي اصل الدولة الناشئ في كل هذه التجارب.

الدولة عند هيجل المجسد للحرية والعقل([14]) لذا نجده وأشياعه يركزون على ما تحاوله الدولة من لملمة قطع الثقافات المتناثرة (لغويا وثقافيا وقوميا) ومحاولة صهرها في بوتقة واحدة، فتتمكن الدولة من توحيد الثقافات الفرعية وتخليق ثقافة مشتركة لأبناء الجماعة داخل حدودها. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها إن الكثير من الدول كانت تسعى إلى نفي التعدد الثقافي من خلال إلغاء الآخر ونفيه أو تغييبه من المسرح الثقافي. ومع ذلك لا يمكن إنكار ما نجحت فيه دول عديدة- ولو جزئيا- في صهر العديد من الجماعات العرقية والاثنية وان ظلت تهديداتها حتى في داخل انجح هذه الدول قائمة. فالدولة هي من تخلق الأمة وليس العكس، لكنها (( لا تؤدي دائما إلى خلق وحدة ثقافية تاريخية، أي قومية واحدة، فإنها ضرورية لنشوء هذه الوحدة وترسيخها ))([15]). فبناء الدولة- الأمة يقوم على أنقاض النظم التقليدية القديمة ما قبل الرأسمالية بحيث تنشأ في ظله دولة- أمة جديدة.

من جهة أخرى وجد آخرون إن الدولة إنما هي رمز من رموز مجتمع معين تربط أبناءه بما توحي لهم من روابط،  يقف في مقدمة هذه الرموز السيادة Sovereignty، التي تعبر عن صفة من له السلطة التي لا يستمدها من غير ذاته ولا يشاركه فيها أحد. فالدولة إذا رمز السيادة بما تتمتع به من هوية قانونية وبما لها من نظام قانوني لممارسة السلطة. والدولة بهذا المعنى منشؤها الاعتراف لها بالسيادة وقبول هذا المفهوم. كما عبرت عنه أعمال بودان وميكافلي وهوبز فهي عندهم تعبير عن ظهور بنية سياسية جديدة استلزمت ظهور فكرة السيادة نتيجة انحلال النظام ما قبل الرأسمالي([16]). وطبقا لفقهاء الحق الطبيعي فان السيادة موجودة في الأصل في كل فرد من الأفراد على حدة في حالة الطبيعة(*) التي لا يمكن لها إن تدوم لذا يتوجب التخلي عن تلك السيادة التي يحملها كل إنسان في ذاته والتنازل عنها لشخص (أو لمجموعة معينة من الأشخاص) الذي يتم التعاقد معه. فالسيادة سلطة مستقلة وسامية يُعترف بها في إطار تُفوض إليه- الدولة- عن اتفاق خضوع وميثاق تعاون.

وقد عرف بودان السيادة بقوله (( هي السلطة العليا على المواطنين والرعايا التي لا تخضع للقوانين))([17])، ويمكن إيجاز نظريته بما يلي([18]):

  • ‌أ. وجود السلطة العليا التي ترتكز عليها السلطات الأخرى، فالمركزية في السلطات هي عماد الدولة.
  • ‌ب. هذه السلطة لا تعلوها سلطة أخرى تسمو عليها، وهي تباشر سلطاتها على المواطنين من غير قيد يحدها.
  • ‌ج. السلطة صاحبة السيادة داخل الدولة لا تخضع للقوانين التي تصدرها هي لتنظيم شؤون الأفراد، وذلك لأنها سلطة مطلقة تختص بإصدار التشريع، لكنها لا تخضع لأحكامه.
  • ‌د. هذه السلطة تخضع للقانون الطبيعي ولقانون الأمم، وذلك لأنه لا توجد سلطة في الدنيا تستطيع أن تحيا مع غيرها أو أن يستمر التعايش بينها إذا لم تحدّ من سلطانها في التصرف أحكام القانون الذي تفرضه الطبيعة ويفرضه قانون الأمم.

وثمة وجهة نظر أخرى تؤكد على أهمية تلازم مفهوم الدولة بمفهومي السيادة والشرعية Legitimacy على أساس أن السيادة تعني قدرة الدولة على فرض حمايتها على أرضها وقدرتها على إلزام جميع أفراد المجتمع بتنفيذ قراراتها. أما الشرعية فهي مكون أداتي Instrumental بمعنى انه يوفر للدولة التبرير اللازم لوجودها ووجود التنظيمات الاجتماعية والبنيات الإدارية، ويبرر الوسائل اللازمة للحفاظ على هذه التنظيمات. أما القانون فيقف في المقدمة منها كونه يعد أبرز مظاهر التعبير عن سيادة الدولة. وبقبول ذلك (( فإن القانون لا يكون سوى إرادة الدولة. لأن التسليم بطبيعة السيادة، فان القانون ينبغي أن يكون الشيء الذي يمكن أن تفرضه الدولة، بينما الأخيرة ليست مستعدة لفرض أي شيء إلا ما تعتبره متفقا مع إرادتها… وحتى إن استطاعت أي إرادة أن تطالب لنفسها بطاعة مساوية لطاعة الناس للدولة فستكون لهذه الإرادة سيادة مساوية لسيادة الدولة. وعندها، إما أن لا تكون هناك سيادة، ولن تكون هناك دولة، أو أن تكون السيادة من نصيب ذلك التنظيم ))([19]) وهنا يثور سؤال أشبه بالسؤال (( أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة ؟ )) فهل الشرعية أسبق على الدولة أم الدولة هي الأسبق ؟ ومن الذي يخلق السيادة أهو الشعب كما ادعى روسو ؟ بعدما أنكر على الدولة الادعاء باكتساب نصيب من السيادة، وأن تحقق ذلك من خلال التشريع. وإذا ما كانت الدولة في العالم الثالث موجودة بحكم الواقع فَلِمَ تسعى إلى ادعاء الشرعية ؟ وإذا ما كانت الدولة (( سلطة جماعية لشعب ذي سيادة على أفراده الداخلين في عضويته))([20]) فلم تستقل عنه ؟ وأخيراً، هل يُغني استبدال مفهوم الدولة بمفهوم الحكومة عن الدخول في هذه الدوامة ؟

إن اختزال مفهوم الدولة إلى هذا الحد يعاني الكثير من القصور نتيجة قصور مفهوم ومضمون السيادة نفسه، فالدولة ليست مجرد كيان سيادي، بقدر ما هي كيان ينطوي على تجليات ربما يكون مفهوم السيادة أقلها ارتباطا بنشوء الدولة، وليس أدل على ذلك هو نشوء الدولة في ما قبل الاعتراف لها بالسيادة والاستقلال السياسي.

وتذهب المدرسة الماركسية إلى إن الدولة بتنظيماتها وتشريعاتها المختلفة ما هي إلا الصورة الأيديولوجية لسيطرة طبقة اجتماعية على الطبقات الأخرى، من خلال امتلاكها لوسائل الإنتاج المادي وفرض نظام قانوني يكفل لها المحافظة على روابط الإنتاج بما يؤمن سيطرتها الطبقية. فالدولة بهذا المعنى ما هي إلا مؤسسة إكراه داخل المجتمع تسعى دائبة للاستجابة للعنف بين الطبقات وتوطيد إطار تُمارس فيه الهيمنة الطبقية. والحق أن ماركس وأنجلز لم يخلفا نظرية للدولة، وإنما عمل الماركسيون على التفتيش عنها بين أوراقهما ليستنتجوا ما يمكن عده نظرية ماركسية للدولة ودورها الاقتصادي([21]). على الرغم من أن انجلز كان واضحا في مسألة طبيعة الدولة وموقعها في الصراع الطبقي ومآلها النهائي حيث تختفي أو تفنى حينما ينتهي الصراع الطبقي من مجتمع تختفي في الطبقات([22]).

أما المدرسة الماركسية المحدثة في موضوعة الدولة ممثلة بأعمال نيكوس بولانتزاس N. Poulantzas  وكريستيان غلوكسمان C.B.Gluksman  ولويس ألتوسير Louis Althusser  ورالف ميليباند Ralph Milband وثيدا سكوكوبول فقد أعادت دراسة الدولة كمفهوم مركزي في أي نقاش أو حوار سياسي، وتتجلى رؤيتها في إعادة مفهوم الدولة إلى صلب العلوم الاجتماعية وقد نجحت في صياغة مفهوم تلفيقي للدولة وان احتفظ بهوية ماركسية قوية تناغمت مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية وأراء ماكس فيبر، لتنتهي المدرسة الماركسية المحدثة بتعريف الدولة على أساس توازن المصالح بدلا من تناقضها، فالدولة عند هؤلاء تعبر عن توازن عام بين القوى في المجتمع تعكسه في أنظمتها ومؤسساتها وتشريعاتها. والطبقة المسيطرة تدير بذلك نوعا من التوازن يخترق نظام اشتغالها بالضرورة([23]). أما ميليباند فقد نجح ومنذ الستينات في لفت الانتباه إلى أهمية الإطار التحليلي الماركسي، وتأكيد أهمية المقولات الماركسية ليصبها في قالب جديد ممهدا الطريق لظهور أراء جديدة أثرَتْ الفكر الماركسي في موضوعة الدولة كان قد قدمها بولانتزاس في إطار نقده لميليباند ورد الأخير عليه.

على الرغم من الأهمية العلمية القيمة للإطار التحليلي الماركسي في موضوعة الدولة كونه حاول صياغة نظرية الدولة في ضوء محاولة أشمل هي صياغة نظرية عن المجتمع ككل، إلا أنها أفرزت تبعية النظرية الأولى للثانية، وجعلتها تدور في فلكها لتدعمها، في الوقت الذي لم تفلح فيه نظرية الدولة من أن تفك اسر تبعيتها وتتخلص من فكرة أنها صيغت لتشكل فرضا من فروض الجدلية الماركسية. ومن جهة أخرى شكل اعتبار النظرية الماركسية الدولة أداة طبقية مرمى لسهام النقد حتى من داخل المدرسة الماركسية، حيث ناقش بولانتزاس العلاقة المعقدة التي تقوم بين الدولة والاقتصاد على أساس التمييز بين القوى الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية([24]).

على ما يبدو أن الأطروحة الماركسية حول إلغاء الدولة تفرض نفسها، كإحدى أكثر الصياغات إثارة لحفيظة المهتمين بموضوعة الدولة، هذه الأطروحة التي تستند إلى البناء الماركسي وترتبط على نحو وثيق بمفهومها لتحرير الإنسان عبر إلغاء القيمة والدولة والمجتمع المدني لتضمن بذلك تحرير الإنسان من عبودية القوانين الاقتصادية والاجتماعية. لقد ظل كل من فلاديمير لينين وانطونيو غرامشي أمينين لهذه الأطروحة، وان اختلفا بملاحقة فروض تحققها. فأما بالنسبة للينين فإنه ادعى بان نهاية المجتمع الطبقي لا تكون إلا بزوال الدولة البرجوازية، أي زوال الأسباب التي تجعل وجودها ممكنا بحسبانها أداة للاستغلال، وهو ما لا يتم إلا بحصول ثورة البروليتارية التي تمهد لقيام المجتمع الاشتراكي([25]).

أما غرامشي فانه ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه سلفه، وان ظل مخلصا للهدف الماركسي الكلاسيكي من خلق المجتمع اللاطبقي، أي خلق ما يسميه غرامشي المجتمع المنسجم (( وهو الهدف الأسمى للنضال العمالي مقاداً من الحزب والمثقفين لخلق الهيمنة المضادة للبرجوازية داخل المجتمع المدني الذي يعتبر هو نفسه عنصر ربط بين اقتصاد متهيكل طبقيا ومؤسسات الدولة المعتمدة على القوة والجبر ))([26]وهو بذلك يقف بالضد من الاستراتيجية الانقلابية المباشرة التي أكدها الماركسيون اللينينيون، طالما أن حرب المواقع هي الوسيلة الأنجع لإنهاء هيمنة البرجوازية على الصعيد الاقتصادي والسياسي وهو بذلك (( يتحدى الاستراتيجية البلشفية- التي هي أخذ السلطة بالقوة – لذلك عرفت نظريته باللطف أو العطف على القوة المدنية، واحترام الآخرين والقانون))([27])

وبعيدا عن المسائل النظرية والفلسفية التي تثار حول الأطروحة الماركسية عن نهاية الدولة الرأسمالية (البرجوازية) نرى أن الواقع قد داس بقوة على فروضها، ومزق ما انتهت إليه استنتاجاتها فأظهرها متناقضة معه. فلم يعد هناك من يعتقد بصحتها، ويؤمن بأن الدولة ستذوي أو تختفي في مجتمع ما بعد الرأسمالية. ربما يكون ماركس في ذلك قد تأثر بالفوضوية رغم انه انتقدها فالتقى معها بفكرة تلاشي الدولة، أو ربما تكون هذه الأطروحة مندرجة ضمن معاداته للدولة كجهاز لاقى منه صور الاضطهاد وعانى منه صنوف القهر فتوجه إليها بالسباب واتهمها بالخضوع للطبقة المهيمنة وطالب بتدميرها كواحدة من مقدمات إقامة المجتمع الذي كان يحلم بإقامته. وقد تنبه لينين إلى صعوبة اختفاء الدولة في ظل المجتمع الاشتراكي فأجَّلَ إلغائها إلى أعلى مراحل تطور المجتمع الاشتراكي وقال إن اختفائها يستوجب الوصول بالمجتمع إلى الشيوعية الكاملة وهو ما يستغرق أجلا أطول من ذلك الذي حدده ماركس وانجلز.

غير أن هذا التكييف الذي أدخله لينين على الفكرة لم يتجاوز الصعوبات التي وضعتها فكرة إلغاء الدولة أمام المفكرين الماركسيين المحدثين، وهو أمر عمق انحياز السلطة الستالينية نحو المزيد من المركزية ونزوع الاتحاد السوفييتي ومعقل الاشتراكية في اتجاه معاكس تماما لنظرية زوال الدولة، وبدا واضحا أن سلطة الدولة لا تسير في الاتجاه الذي رسمته تعاليم الماركسية- اللينينية وإنما اتجهت لتصبح أداة طبقة جديدة من البيروقراطيين ورجالات الحزب. وتبريرا للواقع، لجأت القيادات السوفييتية إلى اعتماد النزعة التبريرية التي لا تقدم جديدا نظريا([28]). بل إن تنبؤات غير الماركسيين في حتمية انهيار الدولة الاشتراكية قد تحققت رغم أنهم وجدوا في صعود البروليتاريا إلى السلطة وبقرطة أجهزة الدولة شرط اختفاء هذه الدولة من الوجود قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بوقت ليس بقصير، فقد ادعى زبيغنيو بريجنسكي أن بيروقراطية الحزب العليا لا تمثل النخبة السياسية في المجتمع السوفييتي وإنما أيضا النخبة الاجتماعية فيه، بمعنى أن قوة الحزب تعطيه من الامتيازات ما يعادل تلك التي يحصل عليها أمثاله في ظل الرأسمالية ذات الغنى والفخامة والراحة والمكانة، وتميل كأي طبقة حاكمة لان تكون محافظة ومقاومة للتغيير الذي تشعر أنه يهدد مصالحها([29]). وهو ما يعني تكريس الدولة كجهاز يحقق طموحاتها وطموحات الطبقة الوسطى ويمهد تاليا لما يدعوه بريجنسكي تعفن الأقلية المستبدة ويعني بها الطبقة الحاكمة في الاتحاد السوفييتي السابق.

وثمة انعطافة في الفكر الماركسي ذلك الذي عمدت إليه الأحزاب الشيوعية والأوروبية نحو الخيار الديمقراطي عندما ادعت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية إمكانية تحقيق الاشتراكية باستخدام جهاز الدولة الرأسمالية نفسه لتمرير الإصلاحات الاشتراكية، والابتعاد عن الطريق الثوري الذي كانت الماركسية التقليدية قد رسمته سبيلا لتحقيق الاشتراكية.

أما مفهوم الدولة في العالم الثالث، وعلى الرغم من كثرة الإسهامات التي قدمها مفكرون كثيرون إلا انه لا يوجد حصر كامل لها، ومع ذلك فان ما انتهى إليه بعض الكتاب في العالم الثالث يؤيد أهمية الأفكار التي حملتها كتاباتهم، ومعظمها تتمحور حول كيفية نشوء الدولة في مجتمعاتهم وخصائصها وطبيعة دورها الداعم لإدامة هيمنة القوى الرأسمالية العالمية، فضلا عن اهتمامهم بعمليات بناء الدولة وأجهزتها ومؤسساتها. إن معظم الكيانات السياسية المعروفة الآن ظهرت في القرن العشرين بحيث تسارع ظهور الدولة على الساحة الدولية وبرزت كنسخ مشوهة أو باهتة عن نموذج الدولة القومية الذي ظهر مبكرا في أوروبا([30]).

أولى الاطروحات اللافتة للنظر في هذا الصدد أطروحة المفكر الباكستاني حمزة علوي Hamza Alavi الذي لاقت أطروحته اهتماما كبيرا في السبعينات، ربما لأنها كانت أولى المراجعات الجادة لخبرة مجتمعات العالم الثالث مع مؤسسة الدولة بكليتها قام بها أحد أبناء العالم الثالث([31]) ويعتقد علوي أن الدولة في المجتمعات التابعة أو كما يسميها مجتمعات ما بعد الاستعمارPost Colonial Societies([32]) قد أنشأته القوى الإمبريالية، وان ضعف الطبقات الاجتماعية فيها قد فسح الطريق أمام العسكريين والبيروقراطيين، أو ما يطلق عليه ((الاوليغاركية-العسكرية-البيروقراطية)) للسيطرة على أجهزة الدولة([33]). وتأسست ثلاثة أجهزة شكلت أجنحة الدولة اللازمة لفرض السيطرة الاستعمارية على المجتمع وطبقاته المنتجة وغير المنتجة وهذه الطبقات هي: الجيش (( الوطني والأجنبي )) الجهاز البيروقراطي والحكومات أو المجالس المحلية([34]). وفرضت هذه الأبنية الفوقية المتقدمة نسبيا على البنية التحتية المتخلفة بهدف إخضاع الأخيرة وامتصاص الفائض الاقتصادي فظهرت النظم السياسية الاستعمارية أو الدولة الاستعمارية كنمط تاريخي شهدته معظم دول العالم الثالث. أما في مرحلة ما بعد الاستقلال فقد شهدت هذه المجتمعات ثلاث طبقات هي برجوازية المركز الاستعماري، والبرجوازية المحلية، وملاك الأرض الإقطاعيين من دون أن يحدث تعارض في مصالحها وان كانت هذه المصالح غير متطابقة تماما([35]). وتلعب الطبقة الاوليغاركية– العسكرية- البيروقراطية دور الوساطة بين مطالب الطبقات الثلاث. فلا يمكن لجهاز الدولة أن يكون أداة في يد أي من هذه الطبقات، ولا يستخدم ضد أي منها، وإنما يقوم بدور الوساطة، ويعمل نيابة عنها مجتمعة لحفظ النظام الاقتصادي- الاجتماعي الذي  يحقق مصالحها وبصفة خاصة ديمومة الملكية الخاصة واستمرار النمط الرأسمالي كنمط مسيطر للإنتاج. وعليه يمكن القول إن علوي يقيم علاقة مباشرة بين نمط الدولة ونمط الإنتاج مميزا بين نمطين للدولة في العالم الثالث: النمط الاستعماري والنمط ما بعد الاستعمار. مركزا على أن أهم ما يميز النمطين هو طبيعة الإنتاج الرأسمالي ومدى كثافته. ففي النمط الأول تسود علاقات ما قبل الرأسمالية، في حين تتغلغل العلاقات الرأسمالية وتتكاثف في عموم الاقتصاد التابع (( ما بعد الاستعمار )) وهنا نجده يقارب ما بين نمط الإنتاج هذا ونمط الدولة فكلما أصبح  النمط الرأسمالي هو المسيطر تحولت الدولة إلى دولة رأسمالية تابعة.

ويقدم الماركسيون الجدد من العالم الثالث رؤية مميزة لطبيعة الدولة في مجتمعاتهم حيث تمحورت مقولاتهم حول ما يعرف بنظرية التبعية إذ يؤيد رواد هذه المدرسة ايمانويل وولرشتاين I . Wallerstein  وسمير أمينS . Amin  أن الدولة في العالم الثالث هي نتاج الرأسمالية الأوروبية حيث جرى تعميم مفهوم الدولة في أطراف Peripheries النظام العالمي لتقوم الدول الناشئة بالعمل بين حافتين مزدوجتين، بين داخل متخلف تقف فيه مع فئات وشرائح مجتمعية ضعيفة تسعى هي إلى إخضاعها، وبين خارج متقدم وقوى قوية (دول المركز الرأسمالية) تسعى إلى إخضاع الدولة نفسها واستغلالها. هذه هي الرؤية العامة، إذ يختلف كتاب هذه المدرسة في ما بينهم في شرح وظائف الدولة التابعة وإن احتفظوا بشرح لها في إطار العلاقات الدولية وآليات عمل النظام الرأسمالي العالمي.

ثمة رؤية بديلة تؤكد إن الدولة في العالم الثالث ليست بالضرورة مفروضة من الخارج بل هي مفروضة من الداخل، من خلال محاولة النخب السياسية المحلية محاكاة وتقليد نموذج الدولة القومية والشروع بعمليات بناء الدولة والأمة والاقتصاد([36]).

هذا التعدد في التعريفات لا يمكن بعده الإقرار بأن ما أتى به فلاسفة الفكر السياسي والاجتماعي من تطوير لمفهوم الدولة في القرنين التاسع عشر والعشرين قد جنح به أحيانا في اتجاه المغايرة والاختلاف مع الرواد. بل إن الأمر لم يكن سوى التلخيص المفرط في تجريده، في أحيان كثيرة، وتفسير لما شهده المجتمع والدولة من تحولات وتطورات فيهما وفي العلاقة التي تربط بينهما، وعندما ركزت النظريات على علاقة الدولة بالمجتمع والاقتصاد أمكن فهم جوانب التمايز بين أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين منظمات المجتمع المدني وأمكن تفهم جوهر العلاقة بين هذه الأطراف وتأثيرها المتبادل.

باستصحاب الإشكاليات السابقة التي تعترض الوصول إلى تعريف جامع مانع للدولة، نقول، ولو توفيقا، أن الدولة (كيان مؤسسي إداري مركزي، يمارس السلطة وفقا لمبدأ السيادة على إقليم معين، وتدعم الدولة عملها بجهاز عسكري وبيروقراطي ممن يدعون خدمة مصالح المجتمع وحمايته وصيانة استقلال الدولة وتطبيق القوانين والمعايير من خلال احتكار العنف المشروع في إطار من الشرعية (حقيقية كانت أم مصطنعة)، كما أنها ليست كيان حيادي يقف بعيدا عن الاقتصاد والمجتمع وإنما تقف مؤسساتها إلى جانب المؤسسات الخاصة وتؤثر في الاقتصاد والمجتمع، وان تباين التأثير من مجتمع لآخر ومن دولة لأخرى).

هذا التعريف للدولة يحتوي على عناصر الحد الأدنى من معظم التعريفات السابقة، والتي أولاها (( أن الدولة مؤسسة سياسية متسلطة )) تتدرج فيها المسؤوليات وتنتظم فيها العلاقات بعيدا عن العلاقات والروابط الشخصية، فهي لذلك منظمة مميزة عن سواها، الأمر الذي يؤشر حقيقة الطبيعة الإدارية المركزية، كما أن وجود مؤسسات ذات صبغة مركزية يعني إذاً وجود نسق إداري قوي ومقفل يعبر عنه عادة بالبيروقراطية. ويشار في العادة إلى مفهومين لجهاز الدولة([37]): الأول، ينصرف إلى انه يتكون من المركز الذي تحتله الدولة في التكوين العام للمجتمع، أما المفهوم الثاني، فيرى أن جهاز الدولة يتكون من موظفي الدولة والإدارة والبيروقراطية والجيش… الخ. وفي داخل هذا الجهاز هناك مجموعات (وزراء ووكلاء ومديرون ومستشارون) من متخذي القرارات المتعلقة بشؤون الدولة نفسها، أو بنشاطها الاقتصادي، يسعى كل منها إلى دعم أهدافه الذاتية في أي قرار حكومي. فلكل من هذه المجموعات أهدافه الخاصة تراعيها عند مناقشة القرارات الحكومية وقبل اتخاذها. ويختار كل من هذه المجموعات اقرب السبل والوسائل للدفاع عن هذه الأهداف الذاتية وتحقيقها. وعادة ما يتم اتخاذ القرارات، وبخاصة في مؤسسات القطاع العام على أساس عمليات المساومة بين أهداف المشتركين المتعددة والمتضاربة([38]). فهذه المجموعات تستخدم سلطة الدولة وقهرها القانوني لتحقيق أهداف خاصة ومأرب متعارضة وكثيرا ما تكون متناقضة. وقد تتنافس أو تتصارع مع بعضها البعض بحيث تسعى بعض المؤسسات والأجهزة الإدارية إلى تحقيق مصالح فئوية مستقلة تتعرض لها، أو تتنافس فيها مع غيرها من المؤسسات والأجهزة إلى الدرجة التي تبلغ فيها حدودا خطيرة ومعوقة. فعالم الموظفين عالم خاص وغريب، وهو لا يختلف كثيرا عن غيره من الكيانات الاجتماعية التي تبحث عن تحقيق منافع خاصة ومباشرة، وربما لا يختلف الموظفون في ذلك عن غيرهم من الكيانات الاجتماعية. لكنهم بتسترهم بالسلطة والتحدث باسم المصلحة العامة، يستطيعون أن يتحللوا من خسائر أعمالهم وتكاليفها ونقل عبئها إلى الخزانة العامة. وما يضاعف من خطورة دور الموظفين أنهم لا يُختارون اختيارا شعبيا ولا يخضعون بالتالي، للمساءلة الدورية السياسية، بل إنهم يعينون-على العكس- في وظائفهم وفقا للأساليب الإدارية ويتمتعون بمزايا السلطة والقهر القانوني([39]). إن وجود مجموعة من البيروقراطيين العسكريين الذين يتولون إدارة أجهزة الدولة، والذين يدعون العمل من أجل المصالح العليا للدولة وحمل همومها، فمن دون إدارة فعالة وكفوءة ترتكز على النظام والقانون والعمل المؤسسي تظل فرص النمو والتنمية والاستقرار والأمن وصيانة الحقوق فرصا مشكوكا فيها. ومن خلال أجهزة الدولة يمكن إنجاز أدوار الدولة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية وتطبيق القانون والمعايير المشتركة التي ترتضيها. لكن تتباين هذه الأجهزة في حجمها وقوتها مما يمهد لهيمنة بعضها على سلطة الدولة وإقصاء المجموعات الأخرى وبخاصة منظمات المجتمع المدني وتحجيم دور الأخيرة تمهيدا لإخضاعها، كما أن هذه الأجهزة قد تفرط في احتكارها لإدارة مؤسسات الدولة وتمهد لبقرطة أو عسكرة جهاز الدولة وصبغها بصبغتها.

أما العنصر الثاني فهو شرط السيادة الذي يعطي الدولة الحق في ممارسة السلطة، والاعتراف بهذا الحق يشمل مستويين: داخلي وخارجي، فالأفراد في الداخل يعترفون بسلطة الدولة وسيادتها ويستعدون لحمايتها والتضحية في سبيلها، أما خارجيا فيعني اعتراف الدول الأخرى أو بعضها على الأقل بهذا الكيان وضمه إلى المنظومة الدولية. أما العنصر الثالث، فهو الاحتكار الشرعي لاستخدام العنف المقنن في داخل المجتمع. فما دامت سلطة الدولة تشمل جميع المواطنين، وأحكامها تطبق عليهم جميعا بدون تمييز، وما دامت سياساتها هدفا لمعارضة لا نهاية لها من قبل الفئات المتنازعة، فلا بد من أن تكون مطالب الحكومة من المواطنين إلزامية، ولا بد من أن تقوم على تنفيذ هذه المطالب قوة إكراهية تختص بها الحكومة وحدها. وما دامت هذه هي الطريقة التي تفرض بها الحكومة أوامرها، فلا بد من أن ينشأ لدى الناس الشعور، بأنها قوة قسرية تتدخل في حياتهم اليومية([40]).

أما العنصر الرابع فهو عدم حيادية هذا الكيان وان بدا مستقلا عن مجتمعه لكن من دون أن تكون الدولة مجلس إدارة البرجوازية لكنها تؤدي أدوار ووظائف، فقد تنحاز لطرف أو لفئة معينة لكنها تقوم بمهمة التوفيق بين الفئات الاجتماعية المتصارعة، مثلما تسارع للحفاظ على المجتمع ضد التهديد الداخلي والخارجي، وحل المشكلات التي تواجه المجتمع والاقتصاد والدولة نفسها. فالمفروض في الدولة أن تسمو فوق المنازعات بين القوى الاجتماعية المتنازعة في ما بينها، إلا أنه كثيرا ما حدث أن توصلت بعض هذه القوى إلى الاستيلاء عليها وتحويل الدولة نحو خدمة مصالحها، وضرب القوى الاجتماعية الأخرى التي تهددها([41]). وهو ما يعني (( إن الرابطة بين القوى الاجتماعية (أو الجماعة الاجتماعية) وجهاز الدولة (المؤلف من الموظفين) تصبح رابطة قائمة بين من يقبض السلطة الحقيقية في المجتمع والموظفين الذين يديرون الدولة ))([42]فمؤسسات الدولة تلعب دورا حاسما في وضع قواعد التفاعل الاجتماعي، كما إن الدولة تتمتع بالقدرة أما على إعاقة الأنشطة الاقتصادية أو النهوض بها. لذا يمكن اعتبارها مجموعة مستمرة من مؤسسات الرقابة الاجتماعية، وصنع القرار، والتنفيذ، وذلك بصفة تنظيم سياسي يؤثر تأثيرا حاسما في طريقة تنفيذ المعاملات الاقتصادية وكيفية تخصيص العمل والترقية والدخل، فالدولة بما يجسده إطارها المؤسسي من منظمات متعددة تكون الوحدة الاقتصادية التي بمقدورها أن تشجع أو تعوق إنشاء (( أطر تعاقدية )) معينة، أو إنشاء ثقافة مؤسسية للشركات أو تطوير شكل ما من أشكال رأس المال الاجتماعي، الذي يميز الشركات أو الاتحادات الناجحة أو حتى بلدان بأكملها([43]).

الفصل الثاني: الدولة في الفكر العربي- الإسلامي

احتضنت الأرض العربية أقدم الحضارات الإنسانية، بل أنها عرفت الإنسان الأول حيث لم يكن غيرها قد عرفه. فعلى ضفاف أنهارها الكبرى النيل والفرات ودجلة ظهرت الحضارات وازدهرت أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأولى، فظهرت أولى صور السلطة التي كان لا بد لها أن تكون مركزية في ظل حاجة متزايدة لدولة قوية تشرف على تنظيم الحياة.

كانت الجزيرة العربية (وما تزال) محور الحدث التاريخي العربي، فمنها إنطلقت عمليات تعريب وأسلمة ما نسميه اليوم الوطن العربي. وعلى رغم اندثار أسلوب الحياة القبلي (ممارسة أو سلوكا) منذ ظهور الإسلام سنة 609م، ألا أنها عادت في حوالي القرن العاشر الميلادي لبعض سيرتها قبل الإسلام، ومنذ ذلك الحين، احتفظت القبيلة لنفسها بموقع متقدم كونها باتت وحدة التنظيم (الاجتماعي– السياسي– الاقتصادي) في الجزيرة العربية([44]). فحمل هذا التنظيم بذور عدم الاستقرار وان توفرت بعض الشروط الضرورية لاستمرار بقائه. ومع جمود وتكلس هذا التنظيم كان لابد من استبداله بنظام أكثر مرونة يسمح للمستعمر العثماني أن يثبت سلطانه فظهر (( نظام الملل ))([45]) كتنظيم سياسي موازٍ لـ (( نظام الحرف )) في إطار تقسيم جغرافي عمق المشاعر الطائفية التي أصبحت مفضلة لدى المستعمر الجديد القادم من أوروبا بديلا عن الدولة العثمانية المنهارة، فتهيأت بذور الدول المستقبلية التي اعتمدت الخطاب الاثني. على الرغم من قوة التيار القومي الذي نجح بتحالفه مع بريطانيا وفرنسا في الإطاحة بالنفوذ العثماني، إلا أن آماله وأحلامه أحبطت بعدما حنث الحلفاء بوعودهم وأجهضت بذلك محاولات القوى الإصلاحية والقومية التي كان يمكن أن تقدم بدائل عن التصورات والممارسات التقليدية، فكان انهيار الدولة العثمانية فرصة تاريخية لبدء مسيرة الوحدة القومية وتحقيق النهضة([46]). وهي الفرصة التي ضاعت في ظل الاستعمار الأوروبي.

لم يفهم العرب آنذاك قواعد اللعبة التي دخلوا فيها، ففي الوقت الذي تحالف بعضهم مع الدول الأوروبية (فرنسا وبريطانيا) محاولين خطب ودها، كانت تلك الدول تمارس سياسة داعمة لنفوذها في الوطن العربي على أساس قواعد مؤتمر برلين 1878 الذي أعطى لكل دولة أوروبية صراحة أو ضمنا، منطقة نفوذ معينة، أما نتيجة لأسباب فعلية أو بسبب الشعور بمحاولة إرضاء أكبر عدد من المتنافسين الشرعيين. فمنح المؤتمر المذكور مثلا الفرنسيين حق السيطرة على تونس (ونفذ ذلك عام 1881) وسمح لبريطانيا بالسيطرة على قبرص([47]). وفي الوقت الذي كان فيه العرب يسعون إلى بناء أو إعادة بناء المؤسسات والقوى المحلية، كانت القوى الأوروبية تدمر تلك المؤسسات كما حدث في الجزائر، أو تحاول تدمير الإرادة الوطنية كما حدث في تونس ومصر… والمحصلة أن شروع الحركات الوطنية المحلية التي رغبت في الحصول على الدعم الدولي في عرض نفسها بوصفها أفضل من يضمن تطبيق القانون والنظام، وبينت أنه بالسماح لها بإدارة شؤون دولها تصبح بدورها حليفة يمكن الاعتماد عليها في ظل نظام جديد من الديمقراطية الليبرالية وقوى السوق الحرة. وفي هذا الإطار تبنى مصطفى كامل طلب دعم فرنسا والدولة العثمانية لإنهاء الاحتلال البريطاني إلا أن انسحاب الفرنسيين من فاشودة في عام 1898 والوفاق الودي الذي عقد في عام 1904 بين باريس ولندن بدد أحلامه الباقية. كما يمكن أن ينظر بالمنظار نفسه إلى تحالف الشريف حسين مع بريطانيا في إطلاق الثورة العربية عام 1916. ومع عجز الزعماء الوطنيين ليبراليي النزعة تحرير بلدانهم من الاحتلال الأجنبي أو الهزائم العسكرية التي منيت بها الثورات المحلية أمام القوات الأوروبية (مصر 1919 والعراق 1920 والشام 1926 والمغرب 1926 وغيرها) أدى إلى إيلاء أهمية أكبر إلى مؤسسات الدولة ضمن كيان إداري معين من جهة، وتعزيز الاتجاهات القومية للتخلص من الحدود السياسية المفروضة من جهة أخرى([48]).

لقد جُلبت في ظل الاستعمار الأوروبي أنماط قيم ومعايير سلوك تأخذ بأنساق من القيم والمعايير وأنماط السلوك الغربية لقلة من السكان كانت قد ارتبطت وانتفعت من علاقتها الاقتصادية والسياسية به. والنتيجة أن المجتمع بات مشوها اقتصاديا وثقافيا، وعلى المستوى السياسي اصطنعت دول لم يكن لها وجود وكرست سلطات لتغدو دولا، وزرع في قلب الوطن العربي كيان غريب بات يمثل الخطر الرئيس على حاضر ومستقبل الوطن العربي كله. وجرى إدماج الوطن العربي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وأُلزم بتقسيم دولي للعمل بما يخدم مصالح المركز الأوروبي وأصبح الوطن العربي مدمجا في سوق عالمية تهيمن عليها الدول الصناعية المتقدمة، واُدخلت الكيانات القطرية العربية بعد الحرب العالمية الثانية المسرح الدولي كدول ذات سيادة، وكان ما يحكم إقامة هذه الدولة أو تلك ليس المنطق الجغرافي أو الاجتماعي أو الثقافي بل خلفيات التجربة الاستعمارية وبعض الموروثات التقليدية، والى حد ما الاعتبارات الاقتصادية.

أما المغرب العربي (موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس وليبيا) فإن موقعه الاستراتيجي كان سبباً في طمع الدول الأجنبية فيه منذ التاريخ القديم، رغم ان الشعوب القديمة التي استوطنت أراضيه قديما كانت تكافح الحملات العسكرية الأجنبية ولهذا السبب اكتفى الفينيقيون والرومان والوندال بالإقامة على الساحل بسبب منعة المناطق الداخلية ضد الاختراق([49]). لقد وصل الإسلام المغرب العربي مبكراً عام 647م، إلا أن مقاومة قبائل البربر للإسلام لم تؤخر عملية أسلمة المغرب العربي فسرعان ما اعتنق المغرب العربي الإسلام كنظام مرجعي ومجموعة من المبادئ والقيم التي تشكل أسس شرعية السلطة، فحاولت تيارات فكرية عديدة إضفاء هذه الشرعية على عملية توسيع السلطة في المغرب العربي ابتدءاً من القرن الثامن الميلادي، وظهرت منذ ذلك الوقت ممالك عديدة كالأدريسية (تأسست عام 800 م) ومملكة تيهرت (776 م) ودولة الخوارج تلمسان وجلماسة ومملكة الأغالبة (800-909م) ومملكة الفاطمية (909-973م) والزيرية والمرابطية ومملكة الموحدين([50]). ومع تقهقر العالم الإسلامي عموما وتفكك الوحدة المغاربية وتزايد المطامع الأوروبية ورغبتها في فرض هيمنتها أصبح المغرب العربي منذ القرن الحادي عشر خاضعا لعمليات طويلة من الاعتداءات العسكرية الأوروبية وصلت إلى الاحتلال الكامل الذي دام قرنا من الزمان([51]). فجرى مذاك تقسيم بلدان المغرب التي كرست هي نفسها الفرقة والخضوع للمستعمر حتى الكفاح المسلح في منتصف القرن العشرين.

ويشير عبد الحميد براهيمي إلى دور الانقطاع الحاصل في وحدة المغرب العربي في القرن الثالث عشر، والمتزامن مع تقهقر العالم الإسلامي عموما، وما تبعه من حملات أوروبية قوية من أجل السيطرة على البحر المتوسط، وبخاصة ضفته الجنوبية. إن تقسيم المغرب العربي منذ ذلك الحين قد وضعه في حالة دفاعية، حيث أصبحت المبادرة السياسية والعسكرية لدى قوى غير مغاربية بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر. هذا التمزق قد تم فعليا بتكون أنظمة جديدة مختلفة في المناطق الثلاث: الشرق والغرب والوسط. وقاد إلى التقوقع وتنظيم متمحور على نفسه وإدخال مفاهيم الحدود والسيادة([52]).

في العادة، يستخدم مصطلح المخزن والسيبة لوصف المفهوم التقليدي للدولة في المغرب العربي. إذ كان يهدف مصطلح المخزن إلى إبراز دور الجباية ضمن وظائف الدولة، حيث استخدمت كلمة المخزن لتشير إلى المكان الذي تحفظ فيه الضرائب العينية، ومع مرور الزمن باتت تشير إلى الخزينة، بينما عمم الاصطلاح ليشمل المجال السياسي للسلطة المركزية في دولة المخزن أو الدولة المخزنية. أما دولة السيبة أو بلادها فتشير إلى المجالات الواقعة خارج نطاق دولة أو بلاد المخزن حيث امتنعت القبائل عن دفع الضرائب، وتشير المعطيات التاريخية إلى أن طبيعة العلاقة بين دولة المخزن ومجتمعها كانت غالبا ما تتسم بالبرود وغالبا ما تجنبت الدولة التدخل في الحياة اليومية إلا في الحالات المتعلقة بالجباية والعدالة (( لقد كان المخزن عنيفا، في أغلب الأحوال، واعتباطيا، لكن المجال شبه الوحيد للحياة السياسية كان قصر الباي أو السلطان، ولم يكن لها انعكاس مباشر ويومي على السلوكيات الاقتصادية أو الثقافية للريفيين وحتى الحضريين ))([53]).

أما إذا انتقلنا إلى الفكر الفلسفي السياسي الإسلامي الذي بلغ ذروته خلال القرن التاسع الميلادي وامتد إلى ما يزيد قليلا على الثلاثة قرون، ازدهرت خلالها الفلسفة وعلم الكلام والفقه والتاريخ والعلوم الطبيعية، أما الفلاسفة السياسيون وهم أفراد مثل أبو نصر محمد الفارابي (870-950)، وابن سينا (980-1037)، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد (1126-1198) وكذلك ابن خلدون (1332-1406) (إلى حد ما) فإن هذا الفكر كان يستوحي أفكاره من أفلاطون (428/427-347 ق.م) وأرسطو (384-322 ق.م) لا من القران الكريم والسنة النبوية حيث لعبت الجمهورية والسياسة دورا مهما في صياغة الآراء النظرية لدى هؤلاء الفلاسفة وغيرهم([54]).

ويبرز من بين هؤلاء ابن خلدون الذي كانت له مكانة متميزة بين مفكري عصره على مستوى الفكر الاقتصادي والاجتماعي العربي الإسلامي، فلقد كان صاحب منهج تطبيقي يتجاوز الاطروحات اليونانية حول الدولة، فحرص ابن خلدون على إثبات مخالفة موضوع علمه الجديد ((علم العمران )) لآراء كل من أفلاطون وأرسطو والفارابي في السياسة وأنواع الحكم، فلم تكن رؤاه الفكرية نتيجة استلهام آراء غيره من الفلاسفة والمفكرين السابقين والمعاصرين، بقدر ما كانت نتيجة رؤى شخصية لواقع حياتي ملموس عاشه خلال مرحلة تنقله ما بين حاضرات العرب المختلفة وتعايشه الدائم لأوضاع وأحوال وسلوكيات الحاكمين. فأسس هذا العلم على أساس الاختلافات والفروق  بين البدو والحضر التي تحدث في العمران لا نتيجة الصراعات الطبقية كما ذهب ماركس رغم إن هذا الأخير سار على ما سار عليه ابن خلدون عندما انطلق من هذه الاختلافات والفروق ليفسر حركة التاريخ وتطور أحداثه ولكن مع احتفاظ كل منها بميدانه الخاص([55]).

من المؤكد إن الدولة تمثل المحور الأساسي الذي تدور حوله أبحاث ابن خلدون ونظرياته وليست العصبية([56]) أو الصراع بين البدو والحضر([57]). فهو يضع مفهوم الدولة في إطاره التاريخي، ويضفي عليه اهتماما مركزا، محاولا تفسير نشوئها وزوالها بالعصبية، ولذلك قسم حركة تطورها إلى أطوار محددة تمثل عملية النشوء والارتقاء ثم الاضمحلال. مشخصا الأسباب الدينامية التي تؤدي إلى هذا الاضمحلال بفساد الجند والمال، لذا نجده يقدم أسباباً سياسية وعسكرية واقتصادية لتفسير عمليتي الارتقاء والاضمحلال([58]وهو يميز بين خمس مراحل لتطور الدولة (( تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة.. وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار ))([59]). هذه الأطوار التي تجتازها الدولة باعتبارها شخصا يملك، مرتبطة وموازية لنفس الأطوار التي يمر بها الحسب (الجاه) خلال تعاقبه في الملوك واحدا بعد الآخر([60]). وتطور الدولة في مستوى علاقته بالحسب إنما يعني في ذهن ابن خلدون تطور علاقات الملك مع أهل عصبيته([61]).

وعلى الرغم من عدم إمكانية اعتبار نظرية ابن خلدون عن الدولة نظرية عامة، ذلك أنها خاصة تفسر نشوء الدولة وتطورها وانهيارها في العصر الإسلامي الوسيط. إلا انه نجح  في تقديم نظرية خرجت عن نطاق اليوتوبيات القديمة، وعن أسار الأطروحات التاريخية فقدم تحليلا معمقا لأوضاع الدولة العربية الإسلامية، وهي أفكار كان لها أثرها الذي امتد حتى يومنا هذا.

بعد سقوط بغداد على أيدي المغول التتر عام 1258 تسارع تدهور العرب كقوة سياسية وعسكرية وثقافية، ودرجت الكتابات التاريخية على اعتبار الفترة التي تلت حدث السقوط وحتى مطلع القرن التاسع عشر فترة مظلمة في تاريخ الحضارة العربية- الإسلامية. على الرغم من حقيقة استمرار القوة والثقافة الإسلاميتين في ظل الحكم غير العربي (الصفوي والعثماني)، إلا أن هذه الحقبة لم تنتج دولة على صعيد الفكر أو الممارسة العملية باستثناء تصاعد بواكير المد الوهابي([62]) في نجد والسنوسي في ليبيا وشمال أفريقيا، والمهدية في السودان، وحركة الإصلاح الفقهي في اليمن.

ومن سخرية القدر أن السلطة العثمانية قد تبنت خطابا دينيا عندما إدعت لنفسها بالخلافة على المسلمين لتستأثر بولائهم ونجحت في ذلك إلى حد بعيد لتقدم بذلك مثالا صارخا للانفصال بين الفكر والممارسة. ذلك أن الفكر الإسلامي حول الدولة ينكر أن يكون الخليفة غير عربي، بل غير قرشي في معظم المذاهب، لكنها خرجت عن المألوف نظريا لتقدم نموذجا جديدا من ممارسة السلطة باسم الخلافة الإسلامية التي روج لها على أنها امتداد للخلافات المتعاقبة (الراشدة، الأموية والعباسية) وبالنسبة لموقف الفكر العربي تجاه الخلافة العثمانية فإنه لم يقدم أثناءها ما يبرز موقفه منها على نحو صريح باستثناء موقف عالم الدين السوري عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) الذي دعا إلى إعادة الخلافة إلى العرب([63]). من خلال التأكيد على ضرورة وضع حد للنظام السياسي الاستبدادي العثماني، وشجب احتلال العديد من الدول الإسلامية من قبل فرنسا وبريطانيا الأمر الذي لم يمنعه من التعاطف مع تصور اشتراكي ديمقراطي للحكم يجد مشروعيته في الإسلام الأول المناهض بطبيعته لمنظومة الخلافة وأئمة الاستبداد القائمة في عصره([64]).

وعلى صعيد الممارسة ظهرت حركات التمرد التي اتشحت برداء قومي- ديني ضد العثمانيين في أكثر من مكان من الأرض العربية، وان كان الفشل حليفها([65]). لذا كان على حركات المقاومة الوطنية الإسلامية أن تتوجه نحو الدولة ذاتها كمركز للعمل والتراكم الوطني بعد الجماعة الدينية أو المدينية. والقبول بها وبمفهومها ونموذجها كما فرضته محاولات التحديث والتنظيم العثمانية([66]). وفي هذا الصدد يشير برهان غليون إلى نشوء ونمو مشروعين لتجديد الدولة كقاعدة للرد على التحديات الخارجية هما:

  • ¨ التيار الأصولي الوطني والشعبي في المناطق الطرفية
  • ¨ تيار الفكر الاوتوقراطي التحديثي في المناطق الأكثر مركزية والمدن الكبرى.

وعلى هامش هذا المشروع التحديثي الدولوي وبمواكبته نما فكران متوازيان هما: حركة الإحياء الإسلامي، والفكر العقلاني الحديث. ومن تفاعلهما ولدت أول حركة معبئة وملهمة لحركة التغير والتجديد الفكري والاجتماعي، ومن ثم الانبعاث القومي في العصر الحديث وهي الإصلاحية الإسلامية التي يعرفها غليون بأنها ((مدرسة فكرية سياسية اجتماعية أكثر مما هي مذهب أو محاولة لتجديد العقيدة الدينية ))([67](  والتي انخرط فيها مفكرون بارزون أمثال جمال الدين الأفغاني (1838–1897) ومحمد عبدة (1849–1905) وعبد الله فكري وعبد الله النديم (1845-1896) وإبراهيم المويلحي ومصطفى كامل (1874-1908)، حيث أصبحت مصر مركز نشاط الإصلاحية الإسلامية ومقر قيادتها. ويشير غليون إلى أن هذه المدرسة قد نجحت في تقديم إطار مرجعي وأدوات نظرية لتحليل الأوضاع السياسية والاستراتيجية وصياغة برنامج الإصلاحات وبلورة المطاليب الاجتماعية لمجمل الحركات الوطنية في مصر، أو سوريا، أو العراق، أو المغرب.

وفي قراءته للفكر السياسي الإصلاحي المعاصر حول موضوعة الدولة، يؤكد عبد الإله بلقزيز إلى أن فكرة الدولة الوطنية قد نشأت في رحم فكرة الإصلاح وكانت من ثمراتها النظرية. وكانت الإصلاحية الإسلامية أول من صاغ مقالة الدولة. ومنذ القرن التاسع عشر وبفعل سوابق الدعوة إلى الاجتهاد، والعودة إلى إسلام الأصول، وبالقدر نفسه– ربما – الذي كان لتأثير التحدي الأوروبي على وعي النخب الإسلامية الدور نفسه في ميلاد الفكرة الإصلاحية في ذلك الوعي. لذا نشأ سؤال الدولة في امتداد الإصلاح الحديث، ولم يكن في إمكان خطاب الإصلاح الصوفي– التوحيدي، في القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر، أن ينتهي إلى فكرة الدولة، لأن اشكاليته كانت إشكالية ثقافية– دينية: الإحياء الديني، ولم تكن إشكالية سياسية([68]). وعموما نجد أن الاتجاه الإصلاحي قد أكد على بقاء فكرة الخلافة الإسلامية والدفاع عنها بوجه الغزو الاستعماري القادم من أوروبا على الرغم من انه قدم فكرا توفيقيا حاول المواءمة بين الموروث الحضاري الإسلامي والمؤسسات التقليدية من جهة والحاجات العصرية والتأكيد على نهضة الأمة ومواكبة التقدم الحضاري الجاري خارج البلاد الإسلامية. لكن القطيعة التي تتجلى على مر التاريخ العربي الإسلامي تكررت مرة أخرى حيث ظهرت موجة الكتابات عن الدولة بعدما أخذت عوامل الضعف تترى على الدولة العثمانية في ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وتناولتها كتابات المفكرين السياسيين الأوائل كالطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده فوضع مفكرو عصر النهضة الأوائل الدولة المركزية في قلب تحليلهم لما يعانيه العرب من أسباب الهزيمة والتراجع([69]). ولم تبدأ الكتابات عن الدولة تظهر إلا بعد زوال الدولة العثمانية وسقوط خلافتها المزعومة أي منذ عشرينات القرن الماضي.

لقد اكتسب مفهوم الدولة في الفكر العربي- الإسلامي اهتماما متزايدا عقب ثورة كمال أتاتورك في تركيا وإصدار الجمعية الوطنية التركية قرارها بفصل الخلافة والسلطنة. ووضع السلطة في يد الأمة باعتبارها صاحبة السلطة. وإلغاء الخلافة رسميا في آذار/ مارس 1924 والإعلان عن تأسيس دولة علمانية هي تركيا الحديثة. إستتبع ذلك الحدث ردّات فعل متباينة في الأوساط الدينية الإسلامية في مختلف الأقطار الإسلامية([70]). أما الحديث عن التيار الفكري الإسلامي الذي نشط عقب ثورة (اتاتورك) يتلخص في اتجاهين والذي كان أول من اثارهما الشيخ علي عبد الرازق (1888–1946) عندما نشر كتابه (( الإسلام وأصول الحكم )) 1925 والذي ذكر فيه مسألة الفصل بين الدين والسياسة، وأن الخلافة ليست شرعية أو ضرورية في الإسلام، لذا أنكر مفهوم الخلافة الإسلامية وحاول تسويغ فكرة الدولة المدنية([71]) التي قامت عليها دولة أتاتورك تقليدا لدولة الغرب المدنية. وعلى خطاه سار خالد محمد خالد من خلال كتابه (( من هنا… نبدأ )) 1950 الذي ركز فيه على ضرورة التوجه نحو الفصل بين الدولة والدين وإلا تعرضت الحقائق الدينية للتغيير والتبدل وارتبط مصيرها بمصير الدول وأساليبها السياسية. وعلى الطريق نفسه سار الشيخ عبد الحميد بن باديس والذي تابع تطور نموذج الخلافة الإسلامية لينتهي إلى الدفاع عن أطروحات عبد الرازق.

وعلى النقيض من الاتجاه السابق ظهر اتجاه آخر يمثله الشيخ حسن ألبنا (1906–1949) الذي كان قد استلهم أفكاره من الشيخ محمد رشيد رضا، وامتد هذا التيار من المعاصرين إلى عبد الكريم الخطيب، وطه عبد الباقي سرور، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المبارك، ويوسف القرضاوي. فعند هؤلاء تقرير صريح أن الإسلام دين ودولة، وان منصب خليفة أو إمام يقوم على تنفيذ الشريعة أمر واجب وان مصدر السيادة والسلطة في الدولة هو الأمة، وان وظيفة الحكومة الإسلامية حراسة الدين وسياسة الدنيا، وان النظام الإسلامي هو نظام متميز لا هو ثيوقراطي ولا ملكي وإنما هو نظام إسلامي فحسب([72]).

أما الفكر الشيعي([73]) العربي، ومن خلال مدارسه الرئيسة في النجف الأشرف والحلة وجبل عامل، فقد ابتعد عن التنظير للدولة طالما اعتبرت الدولة غير شرعية، فنأى الفكر الشيعي عن التنظير للممارسة السياسية وبخاصة وأن أجنحته التقليدية كانت تؤمن ببطلان إقامة الدولة إيمانا منها بنظرية التقية والانتظار التي سادت لعقود طويلة عقب غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن ((عجل الله فرجه)). وتأثر عموم الفكر الشيعي السياسي بهذه النظرية سلبا وبخاصة المجالات التي ترتبط بوظائف الدولة كالقضاء والمالية العامة (الزكاة والخمس…) وحفظ الأمن (في إطار نظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والجهاد… الخ، وتعطيل الاجتهاد.

حتى مطلع القرن العاشر الهجري انقسم الفكر الشيعي تجاه إقامة الدولة الصفوية القاجارية في إيران، فقد مال علماء الحلة إلى تأييدها فذهب السيد الصدر الكبير الأمير نعمة الله الحلي مع الشيخ علي الكركي([74]) (؟- 940 هـ) إلى إيران أيام الشاه طهماسب بن إسماعيل وأصبح شريكا في الصدارة مع الأمير قوام الدين. بينما لم يؤيد علماء النجف تلك الدولة لاعتبارات فقهية تتعلق بحرمة العمل السياسي وإقامة دولة غير دولة الإمام. لكن ومنذ قرنين تقريبا ظهر مفهوم جديد على يد الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي([75]) (1185-1244 هـ) كرد فعل على ما شهده عصره من تراجع نحو الفكر الإخباري وإعادة القول بنظرية الانتظار وحرمة الاجتهاد والتقليد في القرن الثالث عشر الهجري. فقام بعض العلماء الاصوليون بطرح نظرية ولاية الفقيه، وقام النراقي بإعطاء منصب الإمامة الكبرى ومسؤولياتها العامة وأثبت جواز التولي منه مستدلا على ذلك بالأخبار والإجماع والضرورة والعقل([76]). ومنذ ذلك الحين تعرضت هذه النظرية لمناقشات حامية من قبل عدد من العلماء والمحققين. ومع أن الشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266 هـ) لم يقبل بنظرية ولاية الفقيه إلى حد تأسيس الدولة إلا انه اعترف بحاجة الشيعة في هذا العصر إلى (( ولي الأمر )). وأيد الشيخ محمد حسين النجفي النائيني (1273 أو 1277–1355 هـ) فكرة الدولة المشروطة أو الدستورية([77]). وتجدد الخطاب الإصلاحي وتأييد المبادئ والأفكار الدستورية في أعمال مفكرين كبار أمثال هبة الدين الحسيني الشهرستاني([78]) (1884– 1967) والشيخ محمد حسن كاشف الغطاء([79]) الذي كان واحدا من أبرز دعاة الدستورية والعمل على التجديد والإصلاح([80]).

لكن التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة دفعت الفقهاء الإيرانيين من الشيعة والذين كانوا على صلة وثيقة بالحوزة العلمية في النجف الأشرف إلى إبداع نظريات أخرى([81])، فظهرت مطلع القرن العشرين نظرية الديمقراطية الإسلامية، واكتسبت نظرية ولاية الفقيه زخما جديدا على يد السيد الخميني الذي نجح في إقامة الدولة الإسلامية ومارس تأثيرا كبيرا في مجمل الفكر الشيعي في العراق ولبنان، وإيران طبعا([82]). وتكمن أهمية الفكر الشيعي في موضوعة الدولة وبخاصة تلك المتصلة بنظرية ولاية الفقيه وتأصيلاتها النظرية ومحاولات استكمالها ونقدها في حيويتها وانفتاحها على التراث السني وتحررها من القيود السابقة للمقالات الشيعية التقليدية، وهو ما أثر في الفكر السني الذي انفتح بدوره على الفكر الشيعي وقاد إلى انقلاب على المفاهيم السنية (سيد قطب وأبو الأعلى المودودي والتكفيريين)، (( وقاد العقل السني– ولأول مرة– إلى إخراج الإمامة من الفروع إلى الأصول، من الفقه إلى العقيدة ))([83]).

إن التنظير المعاصر للدولة في الوطن العربي يرتبط بمفاهيم متعددة نابعة من خصوصياتها كالقومية العربية والأمة الإسلامية، أو بين العروبة والإسلام. وان كانت الكتابات الأولى عن الوحدة العربية مبهمة أو متجهة نحو التشدد الديني على العكس من الكتابات المتأخرة التي نزلت بالإسلام إلى مستوى مكون ثقافي أساسي للأمة العربية، ودفعت بالقومية إلى المستوى الذي أصبحت تشكل فيه أساس الأمة العربية([84]). ومع ذلك فالقومية كعقيدة تنكر للبلد– الدولة– شرعيته أكثر مما تفعله التيارات الإسلامية([85]). فالمفارقة أن المنظومة العربية المعاصرة عناصرها وافدة، متغربة، لكنها وجدت لتبقى، إذ فعلت العوامل الاقتصادية فعلها ضد المفاهيم الرومانسية فتنوعت ثم ترسخت البلدان القائمة([86]).

والمستعرض للكتابات العربية المعاصرة عن موضوعة الدولة يجدها منشطرة بين أكثر من فريق يميل الأول منها إلى الدمج بين الآراء الغربية والآراء الخلدونية في تفسير نظام الدولة وتطوره. أما الفريق الثاني فيحاول تطبيق الآراء والنظريات الجاهزة التي استوعبوها من خلال ثقافتهم الغربية على واقع الدولة العربية. وخصوصا تلك الآراء الماركسية حول الدولة([87]). في ما يحاول فريق ثالث وضع أسس الدولة وفقا للمعايير الإسلامية. إما إذا نظرنا إلى تلك الكتابات التي حاولت التنظير لتكوين الدولة الحديثة في الوطن العربي وشرح كيفية نشوءها، نجد أنها تنقسم بين اتجاهين رئيسين يميل الأول إلى اعتبار الدولة القطرية العربية كيانات قديمة أعطتها السياسات الاستعمارية شرعية حديثة، في حين يعتقد الثاني أنها كيانات غير شرعية اصطنعها المستعمر في العصر الحديث لتساعده على إحكام هيمنته على الوطن العربي.

تعد أطروحة عبد الله العروي([88]) واحدة من أبرز الاطروحات العربية في تفسير كيفية نشوء الدولة وطبيعتها في الوطن العربي. ويرى العروي أن العرب قبل الإسلام قد عرفوا ما أسماه بالدولة الطبيعية الدنيوية الدهروية هدفها في ذاتها، تتوخى الشهرة والمال. وبعد الإسلام عرف العرب أهدافا مخالفة لتلك الأهداف الأولى، وبعد الفتوحات الكبرى ورثوا أجهزة الدولتين الفارسية والبيزنطية وأصبح النظام الآسيوي الموروث من الدولتين موجودا في ما سمي بالدولة الإسلامية. ويعدّ العروي الحديث عن الدولة الإسلامية حديثا مركبا من العناصر الثلاثة الآتية: العربي، والإسلامي والآسيوي. من دون أن تكون هناك إمكانية لإدراك هذا المركب إلا بشكل تصوري يدركه الخيال. ويختار العروي كلمة سلطنة للدلالة على واقع الدولة الموجودة في التاريخ العملي الإسلامي لأن الحكم القائم على العصبية وليس الشرع هو الذي يسوغ إستخدام تعبير السلطنة، والدولة السلطانية دين ودولة أما الإسلام فهو دين الفطرة الذي يحول الدولة إلى لا دولة وهي الدولة التي لم يعرفها الإسلام في تاريخه سوى مدة الوحي، أما الدولة الشرعية فهي غير الدولة الإسلامية إذ هي الدولة التي لا تتخذ الشريعة قانونا لها. والدولة الحديثة في الوطن العربي والعالم الإسلامي ليست نسخة باهتة من الدولة السلطانية إنما هي نتيجة عمليتين مزدوجتين: الأولى، هي التطور الطبيعي لإرث الدولة السلطانية المستبدة القائمة على القهر والطاعة وحرية الحاكم في التصرف في بيت المال. والثانية، هي استعارة بعض القواعد والترتيبات والرموز من نمط الدولة في الغرب، هذه العملية أُطلق عليها اسم (( التنظيمات )) وبدأتها الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر كرد فعل للتحديات الخارجية. وان كانت لا تخرج عن محاولة تعزيز قوة والسلطان داخليا وخارجيا، وإستمرت هذه العملية على أيدي المستعمرين الأوروبيين رغبةً من هؤلاء في تسهيل دمج المنطقة في إطار النفوذ الاقتصادي العالمي، ومعتمدين على مسلك التحالف والتفاهم مع النخب والجماعات المحلية التي رأت إنها تحقق امتيازات في ظل الأوضاع الجديدة.

ويعرف العروي نظرية الدولة بأنها الالتزام المزدوج بما يسميه (( أخلاقيات الدولة )) أي مبدأي الشرعية والأغلبية، و (( إجتماعيات الدولة )) أي مبدأي الحرية والعقلانية، وترجمة تلك الالتزامات مؤسسيا. ويخلص، إلى أن نظرية الدولة لم تمتد بجذورها بعْدُ في المجتمع العربي ولهذا نجد أن الدولة العربية تتأرجح بين طابعي القهر والتسلط وبين العقلانية، الأمر الذي خلق فجوة بين الدولة والمجتمع على المستوى الفكري، والى إضعاف فكرة الدولة في المجتمع العربي المعاصر، دون أن يؤدي إلى تحقيق الوحدة العربية.

بات معروفا أن إسهامات سمير أمين قد أغنت الفكر الماركسي المحدث عموما كما أغنت الفكر الماركسي العربي المعاصر، لذا فان إسهامه حول الدولة نموذج بارز للأطروحات العربية ذات التوجه الماركسي. متفردا عن الأخيرة بمقولات جديدة أكثر أمانة للماركسية. وفي ما يخص الدولة فان سمير أمين يقيم وزنا اكبر للعوامل غير الاقتصادية، وبخاصة العوامل الثقافية والمكونات الدينية واللغوية، التي خلقت حسب أطروحة سمير أمين (( وحدة حضارية بين شعوب عديدة وفي المنطقة شبه الجافة التي تمتد من العراق شرقا إلى المغرب وموريتانيا غربا ))([89]) جعل الأمة العربية (( ترتبط بوشائج ثقافية حضارية نفسية ))([90]) ويقترح أمين تقسيم الوطن العربي إلى أربع مجاميع فرعية المشرق، المغرب، وادي النيل، والأطراف، وأساس التقسيم هو مصدر الفائض الاقتصادي وبناء عليه يكون([91]):

– المشرق (الجزيرة والهلال الخصيب)، قد خلق حضارته من خلال خلق الفائض المتأتي من التجارة البينية والتجارة مع الهند وجنوب أسيا والأقطار المطلة على البحر المتوسط في أوروبا. إلى جانب وجود الزراعة في هذا النمط الاقتصادي الفرعي.

– المغرب العربي: تونس والجزائر والمغرب، وموريتانيا التي يتحقق الفائض فيها من خلال التجارة أيضا مع أفريقيا وأوروبا.

– وادي النيل: مصر، يحقق الفائض من الزراعة أساسا.

– الإطراف: السودان، اليمن يتكون الفائض من خليط من الزراعة والتجارة والرعي.

هذه الأنماط الاقتصادية الفرعية تفرز على الدوام تكوينات اجتماعية– سياسية([92]) تتكون فيها الجماعات الحاكمة أو القائدة- كما يسميها سمير أمين- في عموم المنطقة العربية باستثناء مصر من رجال البلاط والتجار أو رجال الدين ومن حولهم من الحرفين والمتعلمين التي تبقى مع ذلك طبقة مدينية تمكنت من صنع الحضارة العربية التي ازدهرت بفعل التجارة البعيدة، وقادت إلى ازدهار الزراعة والصناعة والعلوم، وإلى مزيد من الازدهار الحضاري([93]). ومع بداية القرن السادس عشر بدأت عملية التفتت القومي مع وقوع الوطن العربي تحت السيطرة العثمانية، وفقد نتيجة لذلك ميزاته النسبية. ومع القرنين التاسع عشر والعشرين كان التفتت والهيمنة الاستعمارية قد وصل إلى الذروة، تحول فيها الوطن العربي إلى أجزاء منفصلة. وأفرزت عملية السيطرة الاستعمارية تبلور طبقات جديدة لم يكن المجتمع  يعرفها في السابق هي: البرجوازية الكمبرادورية، وكبار الملاك الزراعيين اللتين نمتا وتحالفتا مع الإمبريالية. أما في مرحلة ما بعد الاستقلال تكونت طبقات جديدة نتيجة برامج الإصلاح الزراعي وعمليات التصنيع وتحديث المجتمع، هذه الطبقات سرعان ما تحالفت مع البرجوازية والإمبريالية، فالأخيرة وجدت في هذه الطبقات بديلا للطبقات القديمة. هيأ لها الاستقلال هيمنتها على جهاز الدولة الذي سخرته في تحالفها الاستراتيجي مع الإمبريالية([94]).

ويصل سمير أمين إلى أن بناء الدولة القومية وإنهاء الهيمنة الأجنبية يتطلب ثورة اشتراكية في الوطن العربي، ولذلك فهو يعول كثيرا على كل من الفلاحين والعمال العرب في بناء هذه الدولة وإنجاز عملية التحول وتاليا إنجاز عملية فك الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي.

أما إيليا حريق فهو يحاول الإمساك بعملية بناء الدولة العربية معتبرا أن للدولة العربية أسسا قديمة وأصيلة، فهو يرى أن الأقطار العربية ليست مجتمعات قديمة فحسب، بل هي دول قديمة وأصيلة، نافيا دور العوامل الاقتصادية في ظهور المنظومة العربية ذلك (( أن عدم وجود تغير في الاقتصاد خلال القرون السابقة ينفي اثر العوامل الاقتصادية بصفتها مفسرة لتكوين منظومة متنوعة الإشكال ))([95]) وحجته في هذا (( أن مرحلة النشوء قديمة العهد أي أنها كانت تقع في حقبة تاريخية، المجتمع فيها من البساطة إلى درجة أن اقتصاده كان قائما على أساس الإنتاج الاكتفائي المعيشي أي الكفاف وندرة التبادل السلعي ))([96]) هذا الوضع الذي استمر قرونا عديدة اندثر بعد أن ظهرت دول عديدة من دون أن يكون هناك دور للعامل الاقتصادي بالقدر الذي كان للعامل السياسي.

يتتبع حريق نشوء الدول العربية المختلفة محددا هيكلها وقاعدة سلطتها وشرعيتها وتقاليدها مستخلصا خمسة أنماط للدولة العربية صنفها حسب معيار السلطة([97]):

– منظومة الأمامية (اليمن وعمان والمغرب): حيث تتجسد السلطة في شخص يتمتع بخاصية دينية ومن هذا الصنف نوعان:

(أ) النظام  السياسي  للجماعة الخارجية (اليمن وعمان والفزان الليبي)

(ب) نظام تتصف به جماعات تنتسب إلى الجسم الاجتماعي الرئيسي (الحجاز والمغرب)

– منظومة حلف الشيوخ (حلف الرئيس مع الإمام): حيث تكون السلطة  متجسدة في شخص زعيم  القبيلة الذي اكتسب شرعية سياسية خارج قبيلته الخاصة فاتسع نفوذه وسلطته بعامل تحالفه مع شخصية دينية مرموقة صاحبة مذهب ديني (حالة السعودية).

– المنظومة العلمانية التقليدية أو النظام التقليدي العرفي: الذي تستند السلطة فيها إلى سلالة تخلو من الخواص الدينية (لبنان ودول الخليج الصغيرة).

– النمط البيروقراطي- الاوليغاركي: الذي ترتكز فيه السلطة إلى القادة العسكريين وهو النمط المنتشر في الجزائر وتونس وليبيا ومصر.

– منظومة الدول صنيعة الاستعمار بمعنى أنشأها الاستعمار البريطاني أو الفرنسي في العراق وسوريا والأردن وفلسطين.

ويجزم حريق، أن الاستعمار قد تكفل اصطناع حدود الدول العربية ولم يخلقها باستثناء ما جرى في منطقة الهلال الخصيب، فالاستعمار أعطى شكلا أكثر تحديدا للدول الأصلية الموجودة في المنطقة العربية من قبل وادخل فيها عناصر الإدارة الحديثة([98]). بمعنى أن القوى الخارجية لعبت دورا ثانويا في نشأة النظم العربية المعاصرة باستثناء الهلال الخصيب([99]). وما يعيب هذه الأطروحة إهمالها العوامل الاقتصادية التي كان لها دور مهم في خلق وتكريس الدول التي قامت، فضلا عن إهمال العوامل الداخلية، الاجتماعية بخاصة، ربما لغلبة التحليل السياسي عليها.

قد يقال أن الدولة في الوطن العربي كما في عموم العالم الثالث قد فرضت على المجتمع من أعلى، وعادة من جانب القوى الاستعمارية المحتلة، وحتى عندما خاض المجتمع نضالا من أجل الاستقلال والتحرر الوطني فقد تم الاحتفاظ بمؤسسات وأشكال الدولة، وفي كثير من الأحيان تم انتقال مؤسسات القهر من العهد السابق إلى عهد الاستقلال([100]). لكن ينبغي الالتفات إلى أن اتهام الاستعمار وحده لا يبدو أمرا واقعيا تماما، فما قام به الاستعمار هو التعامل، وفقا لمصالحه، مع مجتمع مفكك. لكن أثره الأساسي هو سيطرته على تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ المنطقة بين تفكك السلطنة العثمانية وتجميد الجغرافيا وفق تقسيمات جديدة([101]).

ويحاول خلدون النقيب رصد عملية تكون الدولة State Formation الحديثة في منطقة الخليج العربي والمشرق العربي مركزا على أنموذج Paradigm الدولة التسلطية التي هي بالتعريف (دولة رأسمالية تابعة في العالم الثالث ومنه الوطن العربي) الذي يرى أنه يجمع عناصر الأزمة البنائية في إطار نظري مناسب للتحليل الذي يستخدمه، وعدّه نموذجا صالحا لعموم المنطقة العربية([102]). وتمثل عناصر أنموذج الدولة التسلطية الأربعة، في: (1) الاحتكار الفعال لمصادر القوة والثروة في المجتمع([103])، (2) الاعتماد على التضامنيات Corporations القبلية/ الطائفية في الحكم، (3) اختراق الدولة للاقتصاد عن طريق دخول القطاع العام في العملية الإنتاجية([104])، (4) خلق طبقة مستفيدة في القطاع الخاص تعتمد على المناقصات والتوريدات الحكومية([105]).

ويتحدث جيمس بيتراس J. Petras عن (( الدولة التعددية )) أي دول ثلاث في واحدة: الدولة التاريخية، والدولة الحديثة ودولة القمع. والشكل الأول من الدولة حيث البيروقراطية التي تعمل كأداة للمحسوبية السياسية، والتي تعمل (( كوكالة للتوظيف باعتباره الملاذ الأخير )). وتقوم بتوزيع الهبات الاقتصادية، ومواقع السلطة، وفرص التوظيف. وتستخدم النخب الحاكمة نظام المحسوبية لتعزيز مواقعها وتكتسب التضامن والدعم من القطاعات الجماهيرية المتنوعة، وفي الأقطار النفطية، يكون نظام المحسوبية هو مركبة الانتقاء التي تعمل على الخطوط العائلية والعشائرية والقبلية بصفة أساسية، غير أنها تلتقط المساعدين والوكلاء والأصدقاء والزملاء والمشجعين، وآخرين غيرهم. هذه الدولة تخضع للنخب السياسية ولأنصارها من الجماهير، كما أنها تستجيب لهم. وفي الأقطار النفطية، تعمل الدول التاريخية بطريقة مشابهة، غير أنها تكون خاضعة أيضا لإدعاءات الزعامة من قبل الحزب السياسي أو ائتلاف الأحزاب المسيطر. إن نسق المحسوبية هذا يضع على قمة القيادة الأصهار، أو الأقارب، والمقربين من أفراد العشيرة نفسها، أو ذات الجزء العرقي أو الطائفي أو الطبقي([106]). وهذا النموذج الذي ينطبق على الدولة في العراق قبل سقوطها.

أما (( الدولة الحديثة )) فهي تجمع في الأقطار العربية شبه المستقلة، ومن البيروقراطيات، التي تؤدي وظيفتين رئيستين هما: (1) تخطيط وتمويل وإقامة المشروعات الاقتصادية الجديدة وهياكل البنية الأساسية. فهي دولة التكنوقراط الذين يغلب أن يكونوا تعلموا في الولايات المتحدة، كما أنها دولة القطاعات الموجهة لصالح البرجوازية المحلية. (2) إقامة وتمويل وإدارة بيروقراطية (( دولة الرفاهية )). وتعمل وكالات دولة الرفاهية، في الأقطار النفطية، لدمج المواطنين المحليين في الأمة– الدولة، ولتأكيد شرعية النظام، وشرعية النخب الحاكمة على وجه الخصوص. ثم تعبئة التضامن في ما بين المواطنين المحليين، وفي ما بينهم وبين الطبقة الحاكمة في مواجهة أخطار الأكثرية الساحقة من العمال المهاجرين المقيمين في الأقطار النفطية. أما الأقطار غير النفطية، التي تتضمن دعم الغذاء، تعمل أيضا من أجل تبديد عدم الرضا، ومن أجل تعبئة التضامن مع النخب الحاكمة. وتتداخل الدولتان التاريخية والحديثة في مواقع السلطة القائمة على المحسوبية في وكالات (مؤسسات) للتنمية والرفاهية المختلفة. لكن القيادة الحديثة أو التقليدية لها مصلحة راسخة في بقاء واستقرار النظام في الدولة التي تعنيها في الوطن العربي([107]). أما (( دولة القمع )) فهي (( طائفة منغلقة منكفئة على ذاتها )) تدير أجهزة القهر التي تملكها الدولة، والتي تحمي الطبقة الحاكمة، والنخب الحاكمة، والملكيات الطبقية. وهي دائما فوق المجتمع وفوق القانون، وكثيرا ما تضع قانونها الخاص. ومثلها مثل بقية التشكيلات البيروقراطية، فان (( دولة القمع )) هي أيضا مستخدم رئيس من صنف (( الملاذ الأخير ))، كما تعمل لحسابها كأداة حشد لدعم النظام، وكأداة تعزيز له([108]).

هذه الدول الثلاث أو الوجوه الثلاثة تشكل هيكل الدولة العربية المعاصرة. والدولة تظهر من وجوهها ما يتناسب مع الفئة أو الشريحة التي تواجهها فهي تطل بوجهها المسالم على من يسالمها وتكشر عن وجهها القمعي أمام من يحاول منافستها، وتبدي وجه المخادعة لتحصيل الشرعية وامتصاص السخط إن أمكن به.

الفصل الثالث: إشكاليات مفهوم الدولة في الوطن العربي

إن البحث في مفهوم الدولة في الوطن العربي يستدعي البحث في الإشكاليات التي تعترضه والتي بعضها راجع لحقائق الجغرافيا والتاريخ الذي ولدت الدولة فيه هذه الدولة مأزومة ومفتقرة لعناصر القوة الذاتية، وبعض منها راجع إلى الدولة نفسها، في حين إن بعضها الآخر راجع إلى مجمل البيئة الجغرافية والتاريخية التي وجدت فيها.

أولا:  الإشكالية الجغرافية: القطيعة ([109]) الثابتة

من الخصوصيات المميزة لجغرافية الوطن العربي هو كبر مساحة الأراضي الصحراوية فلا يوجد في العالم إقليم يضم من الصحارى بمثل ما يضمه الوطن العربي، إذ أن الصحراء تمثل أكثر من 80 في المائة من مساحته وهي في الأعم الأغلب مناطق غير مأهولة([110]). تمثل خصوصية الجغرافيا العربية عنصرا من عناصر التوتر بالنسبة للعرب، ووضعتهم في استثناء أمام الآخر. ذلك إن الجغرافيا غير المتجانسة وغير الملتحمة عضويا تمثل حالة من التحدي أمام الفكر الجغرافي العربي لاستكناه فرادتها المكانية في مقولة واحدة تستوعب الخصائص الجغرافية للإقليم العربي، هذا المكان الذي يرى محمد جابر الأنصاري انه (( العصي على التعريف المحدد والتسمية الواحدة حتى في المصطلح العلمي للقاموس الجغرافي، حيث ما زال هذا (( المكان )) يفتقد (( اسم علم )) جغرافي واحد كأسماء الأعلام الجغرافية للأقاليم القومية الموحدة الأخرى- من (( صين )) و (( هند )) و (( يابان ))…. الخ- فنركب إسمه من وصف وموصوف، قائلين من منطلق قومي: (( الوطن العربي )) نسبة إلى الجماعة البشرية العربية لا إلى الإقليم الجغرافي الإقليمي المكاني في حد ذاته وفي أرضيته المتعينه ))([111])

أما إقليميا، فيستخدم مصطلح المغرب العربي من التسمية العربية (( جزيرة المغرب )) وهي التسمية التي أطلقها الجغرافيون العرب على هذه المنطقة التي تمتد من ليبيا إلى المغرب الأقصى، والتسمية تحمل دلالة جغرافية وتاريخية في الوقت نفسه، فكثيراً ما يوصف المغرب العربي بالأسطوري، وترافق مع هذا الوصف الإلحاح على الخصوصيات التي تميز البلدان التي تشكله، والجزم بأن الكتلة لا تكوّن أية وحدة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وتتمثل قطيعة الجغرافيا أو المكان في دور الفراغات والفواصل الصحراوية الشاسعة الممتدة بين معظم الأقطار العربية ودورها في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية عمرانيا وسكانيا([112])، فقديما قامت الدولة النهرية المركزية القوية في وادي الرافدين ووادي النيل تحت ضغط غلبة ندرة المطر والتصحر على محيطها فتعرضتا لغارات وهجرات بشرية متوالية. لكن غلبة الصحراء وتدني نسبة المناطق المأهولة، وطول خطوط المواصلات تسببت بحصر اهتمام السلطات المركزية ضمن مناطق العمران، مما يسر الخروج عليها كلما بدأت إمارات الضعف في المركز. ومن بين الإمبراطوريات التي قامت في المنطقة تميزت الإمبراطورية العربية الإسلامية بتدني المساحة المأهولة من أصل المساحة الكلية، الأمر الذي تسبب في تراجع فعالية السلطة المركزية في وقت مبكر([113])، واثر سلبا في مسيرة التوحد العربي.

مع ذلك كانت الصحراء أبدا سمحة ونظيفة في تعاملها مع أبنائها، وسماحتها كانت تأتي من سعتها وترامي أطرافها، وما أتاحته للفرد العربي من الحرية، والإباء على القيود، وعدم التهالك على اقتناء الأشياء وتخزينها ووضع عزتهم الفردية والاجتماعية فوق سائر الاعتبارات. وكانت نظافة الصحراء تتفرع من وضوح العلاقة بين أفراد القبيلة الذين يجمعهم إحساس واحد بالتكافل كمصدر ثابت للحماية، وكان بمقدور القبيلة أن تحافظ على هوية ثابتة لها ولأفرادها من خلال حفظ أنسابها وروابط قرباها. ثم كان هناك للصحراء خاصية مهمة أخرى هي الحالة التنقلية التي تجد القبيلة نفسها فيها أبداً([114]).

إلا أن ذلك لا يلغي النتائج السلبية لعناصر جغرافية الوطن العربي وما دفعت إلى تبلوره وبذر بذور التجزئة في النسيج الاجتماعي للأمة العربية.

ثانيا: الإشكالية التاريخية: القطيعة بين الماضي والحاضر

إن العودة إلى التاريخ تكشف لنا عن مضمون الإشكالية التي نحن بصدد تأشيرها ذلك أن مفهوم الدولة خلال دورة التاريخ العربي قد تنوع وتباين وتلون بألوان كل حقبة، ليكتسب أبعادا ومضامين متنوعة، وهو ما لم يفرضه التطور مع الزمن، بل إن الدولة في بعض المراحل عكست تخلفا في المفهوم وتقهقرا في المضمون تبعا لطبيعة المعطيات الموضوعية إبان كل حقبة، بما يجعل الحديث عن مفهوم موحد للدولة في الوطن العربي نوعا من المجازفة، ولهذا نرى أن الأجدر الحديث عن مفاهيم متعددة ومتباينة في معظم الأحيان.

لقد عرف الوطن العربي أولى الحضارات، وكانت عمليات بناء الدولة سمة ميزت التاريخ العربي فعلى ضفاف نهري دجلة والفرات ازدهرت الحضارات البابلية والسومرية، وظهرت هناك الأشكال الأولى للسلطة المركزية، وعرفت مجتمعاتها التنظيمات السياسية، ومارست فيها الدولة دورا مهما في الحياة الاقتصادية. ومثلها أيضا ظهرت الدولة في وادي النيل حيث ظهرت سلالة الهكسوس التي حكمت مصر السفلى حوالي القرن الثامن عشر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد. كما شهدت فترة مبكرة قبل ظهور الإسلام ازدهار الدول التجارية وتشمل البتراء وتدمر والممالك اليمنية([115]).

والمفارقة التي نسجلها هنا هي كثرة التجارب الحضارية والسياسية في الوطن العربي مقارنة بباقي بقاع الأرض، لكن التطور لم يمتد بتلك التجارب ولم يمتد عمره، ليتصل مع الأشكال التالية، وإنما اندثرت واختفت مؤسساتها بعدما دب الضعف في أوصالها نتيجة لعوامل جغرافية في الغالب. لهذا كانت الصفة المميزة للتطور الحضاري والسياسي العربي هي ” التموج ” التاريخي بمعنى أنه لم يتخذ شكل خط متواصل، فالمدن والحضارات والدول كانت تظهر وتزول عصرا بعد عصر، بحيث كان يجري إعادة البدء في تكوينها اجتماعيا وسياسيا وحضاريا في كل مرة، وهو ما أدى إلى إعاقة عملية التطور الحضاري والسياسي العربي وأبطأ من نموه، واستلزم من الطاقات والجهود والأزمان بأكثر مما استهلكته أمم أخرى، الأمر الذي جعلها تسبق العرب في مجرى التطور ذاته وكان مقدرا لها مواصلة البناء دون قطيعة.

مثلما تقطعت المنطقة العربية بفعل عامل الجغرافيا، تقطع مجرى التراكم والتطور الحضاري والسياسي في التاريخ العربي بموجات التصحر والجفاف المتعاقبة التي دفنت دولا وحضارات بأكملها تحت الرماد عصرا بعد عصر و(( ذلك ما يفسر تعدد المحاولات وتباعد إنشاء الحضارات وإقامة الدول بين جنوب الجزيرة في اليمن في عهد مبكر، ثم إعادة الكرة في الأطراف الشرقية والشمالية في الحيرة والشام، ثم البدء بمحاولة جديدة في الحجاز والوسط، بحيث لم يكن الانطلاق في مسيرة تاريخية واحدة- حضاريا وسياسيا- ودمج هذه التجارب وصب روافدها في مجرى متواصل منذ  البداية، كما أتيح- على سبيل المثال- للحضارة والدولة في كل من الصين وأوروبا اللتين مكنهما عمقهما الزراعي والحضري من مواصلة الحلقات لم تتعرض لهذه النسبة من الانقطاعات والاجهاضات المتتالية ))([116]) ويضيف الأنصاري إلى ذلك ما يسميه موجات التصحر البشري والمجتمعي متمثلة في الهجرات والغزوات البدوية سلما أو حربا والتي عملت على تقطيع مجرى ذلك التطور باجتياح مراكز العمران والدول وأعادتها إلى حالة البداوة ووضعية اللادولة وأخطرها كانت تلك القادمة من البوادي الآسيوية([117]).

لم يختلف الأمر في العصر الإسلامي، فمع ظهور الإسلام بدت الدولة مفهوما غير مؤسسّي أو كما يدعوها اغلب الباحثين بـ(( اللادولة )) أو ربما مفهوما روحانيا، ترسخت في نفوس مشاعر المسلمين الولاية للدولة المحمدية التي أحاطت بالمجتمع وتغلغلت فيه من دون أن تخترقه أو تمارس صور القهر واحتكار العنف، فهي دولة القانون الإلهي يُمارس ممارسة طواعية من دون وجود مؤسسات تضمن الإجبار فكأنما وجدت الدولة طريقها إلى ضمير المجتمع المديني بما تسامت به نفوس المسلمين بالأيمان والاعتقاد بقدرة الله U، وبما حققه الدين من توحد بين المثال المطلق والواقع النسبي، وبما يكتسبه الإنسان المؤمن من مُثل تقربه من المطلق. لقد بدأ الإسلام منذ ظهوره رسالة عالمية لكل الناس على مختلف ألوانهم وأجناسهم، فما كان يرمي إليه هو توحيد الناس على عبادة الخالق العظيم، وهذه العالمية هي التي ربما أخرّت مفهوم الدولة، فالأخير يستلزم الادعاء بالسيادة على إقليم معين ووجود حدود ثابتة، لكن العالمية لا تعترف بالحدود فنشأ ما يمكن عده تناقضا بين غايات ومقاصد عالمية الدين وبين التشكل الواقعي لمفهوم الدولة وما تشترطه، فتغلبت عالمية الدين على قطرية أو إقليمية الدولة لكن من دون أن تنفيها. لذا فالقول بان الإسلام لم يحدد شكل الدولة قول تصده غايات الإسلام نفسه وما يحمله من معان عالمية تتجاوز إطار الإقليم والدولة، وأما ما وضعه من أسس عامة فإنها استهدفت النظام الإسلامي العالمي.

على أن دولة الرسول ((صلى الله عليه وآله وسلم)) لم تندفع إلا في نفوس القلة التي مثلت تيار المعارضة الداعي إلى عودة تلك الدولة في الأطوار الأخرى التي مرت بها الدولة العربية الإسلامية عقب وفاة الرسول ((صلى الله عليه وآله وسلم))، على أن الصراع السياسي الذي تفجر عقب الوفاة بحوالي عقدين من الزمن لم يقتصر على طرفي المعادلة السياسية (الدولة والمعارضة) وإنما- وبقوة – بين أطراف وعصبيات أخرى سمح لها تجردها عن مُثل الإسلام وروحانيته أن تقيم دولها، لا دولة الرسول، وتنقطع بين حاضرها وماضي تلك الدولة، حتى أن ما فعله أمراء بني أمية وبني العباس لم يكن- حسب ما نرى- إلا هدما لتلك الأسس التي وضعها الرسول، وحاول خلفاؤه تثبيتها([118])، وأما التوهم بانتشار العقيدة الإسلامية، ونماء الحضارة الإسلامية فانه كان انتشارا دون تعميق، ونماءً دون ترسيخ، ذلك أنها لم تكن تستمد قوتها وشرعيتها وحقائق وجودها من ارتباطها وكونها الامتداد الطبيعي للدولة المحمدية، وإنما كانت تستمدها من قوة عصبيتها وقدرتها على الاستغناء عن المجتمع الإسلامي والوقوف مستقلة عنه إلى الدرجة التي أوصلت الدولة إلى إقصاء العرب عن السلطة وهم أهلها وحماتها لقرون عدة، وأوصلت حديثي العهد بالإسلام- واعني العثمانيين- إلى ادعاء الخلافة، وسياسة العرب والمسلمين باسم الدين الذي تثبت معانيه الأساسية بطلان حقهم في إقامة الدولة وإخضاع الناس لسلطانها، وهو أمر لم يكن ليتحقق إلا بسبب وجود القطيعة التي أشرنا إليها.

إن استقراء تاريخ الدولة في الوطن العربي يكشف عن انه كان عبارة عن توالي لحالات النشوء فالتحلل والتأرجح بين النشوء والتوحد ثم التجزؤ والانحلال في دراما متوالية.. دموية في أحيان كثيرة بحيث لم يعرف التاريخ العربي استمرارية متواصلة لحالة الدولة على امتداد الوطن العربي. رغم (( أن بناء الدولة سمة مميزة للتاريخ العربي قبل زمن طويل من ظهور الإسلام ))([119]) ولم تقم دولة عربية موحدة، ولم تستكمل نموها ونضجها من خلفية التطور السابق عليها فالعرب (( لم يخبروا حياة الدولة المستمرة وان يمارسوا، بشكل متصل، فن إدارتها وقيادتها كون حضورها في حياتهم ظاهرة متقطعة، وأحيانا غائبة تماما.))([120]).

وإذا انتقلنا إلى التاريخ الحديث نجد إن النضال ضد العثمانيين كان نضالا قوميا بقدر ما كان نضالا دينيا، فقد أكدت الحركات الاستقلالية في الجزيرة العربية مثلا على القومية العربية كبديل عن الهوية والرابطة الدينية العامة، فنشأت عنه الدولة القطرية التي انفعلت بالمشاعر القومية ومنها استمدت أولى أسس الشرعية. لكنها حملت العروبة شعارا، في الوقت الذي نأت فيه عنها عبر مسيرتها لترسيخ قطريتها، ولم يفلح العرب بعد خروجهم من الإدارة والنفوذ العثماني إلا في الدخول في إدارة ونفوذ الاستعمار الأوروبي الذي سُمح له بأن يجري قسمة تعسفية صِيغت على خلفية نفوذه ومصالحه، فبدت الدولة خيالا يحنُّ إلى الهيمنة وفقدان الممانعة.

مع تيقظ العرب للتحدي الاستعماري اتخذت حركات التحرر الوطني وجودها واكتسبت بعض ملامحها من التراث الغربي الغازي، وسعت التيارات الوطنية إلى بناء دولة على النمط الأوروبي رغم أنهم قد استعملوا التراث الديني لاستشعار الهوية الإسلامية- القومية، ووظفوا رموز الدين في خطابهم ضد المستعمر، فكان الإسلام أداة لتعريف الذات الوطنية واستنهاض روح الجهاد الوطنية التي بلغت ذروتها في الجزائر ومصر وفلسطين والعراق. والمفارقة أن المجتمعات غير العربية وظفت الإسلام بأكثر مما فعل العرب في الكفاح ضد الاستعمار، واكتسبت الدول غير العربية عناوين إسلامية، بينما افتقرت المنطقة العربية إلى دور مميز للإسلام في تشكيل الدولة القطرية المستقلة أو إكسابها بعدا وحدويا.

مع نشوء الدولة القطرية وتخلصها من مظاهر الاستعمار السافر برزت إلى الوجود المنظومة القطرية التي وضعت الشعار القومي في المقدمة من شعاراتها، ورصد التاريخ العربي المعاصر تجارب كثيرة للوحدة العربية([121]) بما يعكس رغبات النخب الحاكمة لإشباع توق الشعوب العربية إلى الوحدة بقوميتها ودينها، لكنها لم تجد إلى الوجود الفاعل طريقا لأنها لم تنفعل بشكل مباشر برغبات الأمة وطموحاتها، ومن جهة أخرى نجحت الدولة القطرية في تكريس قطريتها وتحقيق استراتيجية للتجزئة طالت الأبنية الأساسية للمجتمعات المدنية على امتداد الوطن العربي كله فحققت ما حلم الاستعمار في تحقيقه. في أثناء ذلك وجدت المجتمعات العربية غداة الاستقلال نفسها وجها لوجه مع كيان سياسي جديد منقطع عن تراثهم، متصل- بقوة- بتراث الآخر الذي يثير مشاعر متناقضة في نفوسهم تتراوح بين الإعجاب والشك والخوف، إلى الدرجة التي اعتبرت فيها حتى مؤسسات المجتمع المدني العربية مرحلية ومؤقتة وينبغي لها أن تزول بعد الاستقلال.

لكن ما تم على أرض الواقع يتناقض جذريا مع أماني الجماهير الشعبية، فقد ترسخت مؤسسات الدولة إلى الحد الأقصى، لا سيما مؤسسات القمع والإرهاب، وبرزت تدابير جديدة لحماية تلك المؤسسات لم تعرفها المرحلة الانتدابية، منها على سبيل المثال، التدابير التي نصت على إلغاء المصالح المشتركة بين لبنان وسوريا، وإقامة الحواجز الجمركية بين البلدين، والفصل بين النقد المعتمد في كل منهما، وفرض القيود على انسياب الحركة السكانية والاقتصادية بينهما، وذلك في مطلع الخمسينات من القرن الماضي أي بعد سنوات قليلة على المعركة المشتركة التي خاضها اللبنانييون والسوريون للوصول إلى الاستقلال السياسي عام 1943 وجلاء الجيوش الفرنسية سنة 1946([122]).

يشار أيضا إلى أن انحطاط بلاد المغرب بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر قد تزامن مع انفكاك الوحدة المغاربية، والابتعاد عن التعاليم الإسلامية في إدارة الدولة وطغيان الجوانب المادية والدنيوية أو تمركز الثروة في أيدي أقليات، وسيادة حياة الرفاهية وتبذير الموارد وضعف الجيش وزيادة الضرائب التي كانت تثقل كاهل الفقراء. هذا الضعف الشامل الذي صاحبه انخفاض المستوى الثقافي للقادة السياسيين، حتى في مجال العلوم السياسية في الوقت الذي كانوا يعتلون فيه سدة الحكم باسم الإسلام([123]). فالرغبة في الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها والبحث عن الثروة والرغبة في القوة المؤسسة على دوافع دنيوية قد أدت إلى ابتعاد الحكم في دول المغرب العربي عن أهداف العدالة الاجتماعية والمصلحة العامة للشعوب التي كانوا يحكمونها. فضعفت الأنظمة السياسية وتدنى الانسجام الاجتماعي في مختلف دول المغرب بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر([124]).

وهكذا نجد إن الدولة العربية قد نجحت في فرض نفسها على حركة التاريخ وفكر الأمة باعتبارها واقعا يستند إلى شرعية تاريخية مرحلية، ففي تعاقب المراحل كانت الدولة تعيش مرحلتها من دون أن تتمكن من مجاوزة المرحلة بأفق مستقبلي وإرث ماضوي متواصلين بخط متسق. وهنا يقع مضمون الإشكالية التاريخية.

ثالثا: الإشكالية الذاتية: القطيعة بين الأمة والدولة

تحمل الأمة والدولة دلالات متباينة في اللغة والاصطلاح العربي، فأما الدولة فان ما تعنيه اليوم مختلف جدا عن معناها اللغوي والاصطلاحي فالذين تحدثوا عن الدولة في التاريخ الإسلامي لم يتصوروا المعنى الحاضر للدولة الذي تحدثنا عنه في الفصل الأول، ولم يتصورونها في أذهانهم كونها كياناً سياسياً يقوم على فكرة المواطنة والسيادة والشرعية، وكما اشرنا سابقا نجد أن الإسلام يُنكر على هذه المفاهيم ضيقها، فهو عالمي شامل لجميع الناس والأمم. كما أنه حمل مفهوما ثوريا للأمة عندما احل وحدة الأمة محل التحالفات القبلية فضلا عن إدانته للعصبية.

ويحصي ناصيف نصار([125]) سبعة استعمالات لمفهوم الأمة في القرآن الكريم إذ وردت كلمة امة أكثر من خمسين مرة بصيغة المفرد بينما استخدمها الفلاسفة والمؤرخون والمفكرون المسلمون في العصور الوسطى (أي بدءاً من القرن الرابع الهجري) بمعان جديدة، فتحدث الفارابي والمسعودي عن مفهوم متقارب للأمة رغم تباين مداخلهما البحثية، إذ يرتكز المفهوم عندهما على مقومات ثلاث هي الشيم الطبيعية والخلق الطبيعية واللسان([126]). بينما نجد مفهوم الأمة عند الشهرستاني مفهوما اجتماعيا تاريخيا وليس مفهوما دينيا، لكنه حافظ على مفهوم الأمة في خط فكري مميز ينطلق من القرآن ويتحرك في إطار مقولاته ومعانيه وإلتباساته([127]). لكن تاريخ مفهوم الأمة لم يتوقف عند الشهرستاني إذ ينبه نصار إلى أهمية المفهوم في (( مقدمة )) إبن خلدون رغم أنه لم يحظ بتحليل موضوعي دقيق([128]). وتكمن خصوصية الفكرة الخلدونية في مفهوم الأمة من خصوصية الإطار العام الذي تنتظم فيه مفاهيمه ونظرياته، وهو إطار الواقعية الاجتماعية التاريخية واستبعاد كل اهتمام فلسفي بالإصلاح الاجتماعي أو السياسي لكنه قرن مفهوم الأمة بالجيل والقبيلة والوطن لكنه ظل في فكر إبن خلدون دون مفاهيم العصبية والعمران والمعاش([129]).

إذا فمفهوم الأمة هو الآخر يكتسب أبعادا مفهومية غير التي يعنيها في إطار الفكر الغربي، ففي حين يتبنى الأخير نظرة ماضوية لمفهوم الأمة، يتجاوز الفهم الإسلامي تلك النظرة إلى اعتماد نظرة مستقبلية استشرافية. (( وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدوني ))([130]). ومن ذاك فان المقصود بالأمة في التراث الإسلامي هي أمة عالمية ليس لها حدود زمنية أو حدود مكانية، كما أنه يشير إلى جماعة تتحقق خارج سلطة الدولة، وهو ما يؤكد اختلاف وتمايز المفاهيم الأساسية (الدولة والأمة) بين المجتمعات وخلال الحقب. فالأمة الإسلامية (( تبدأ فردا توحيديا ثم أسرة موحدة ثم مجتمعا توحيديا يقبل كل شيء ينسجم في إطار التوحيد ويرفض كل شيء يتضاد معه ))([131])

لكن اختلاف المفاهيم لا يشكل جوهر الإشكالية التي نحن بصددها، فباستثناء دولة الرسول ((صلى الله عليه وأله وسلم)) ظلت الدولة مستقلة عن المجتمع ونأى كل من الدولة والمجتمع بجانبه عن الآخر. فالمقصود هو انعدام التماهي بين مفهومي الدولة والأمة على نحو حال دون تبلور وتطور الدولة الوطنية العصرية، وما اتصل بذلك من غياب للإرادة السياسية للدولة والأمة فأغلقت قنوات الاتصال والتواصل بينهما بما عوق من تطور كلا المفهومين. وأخّر من ظهور فكرة وحدة الأمة، التي كانت قد تجلت ثقافيا وحضاريا في نهاية حكم العباسيين على أيدي بعض الفقهاء الذين اتخذوا طريقا مستقلا عن الدولة القائمة آنذاك، وفي الدولة السلطانية بحسب توصيفات عبد الله العروي نجد أن الفرد وان كان عضوا في الأمة الإسلامية فإنه لا يعد عضوا في الدولة التي ليست دولة الأمة لأنها بالتعريف دولة فرد أو جماعة.

ويؤكد البعض على إن العرب لا يشكلون في نمط وجودهم الراهن أمة حسب الاستخدام الأوروبي الكلاسيكي، أي أنهم لا يعيشون في إطار (دولة-أمة)، إلا أنهم يشكلون أمة بالمعنى العربي الكلاسيكي الذي يسير إلى وجود جماعة تاريخية تشترك في منظومات قيم واحدة، وتتماهى مع تاريخ واحد([132]). فحتى لو لم تكن هناك دولة- أمة عربية، فإن هناك أمة- جماعة تؤكد نفسها في أغلب الوقت إلى جانب الدولة أو ضد الدولة، فهناك قومية عربية بمعنى قرابة روحية وثقافية وسياسية وتاريخية تدفع نحو التضامن والتماهي والانفعال المشترك([133]). وبحسب رؤية القوميين العرب وجدت الأمة العربية بوصفها كيانا تاريخيا قبل زمن طويل من نشوء حركة قومية تجسد القدرات الكامنة لجماعة بشرية متماسكة حيث (( ظهرت الأمة العربية إلى الوجود بتطور اللغة العربية تدريجيا كلغة اتصال، وبظهور الإسلام كثقافة ومجموعة مؤسسات جديدة. وبذلك تكون اللغة العربية والإسلام التاريخي حجر الزاوية للأمة ))([134])

ويؤشر برهان غليون حقيقة أن الدولة لم تنشأ في حجر الأمة وتعبيرا عنها ولكنها نشأت من أنقاض هذه الأمة وفي مواجهتها ولا تزال تعيش موقفها هذا، ومن الدور الأولي الذي تلعبه في ضبط الأمة والتحكم بها لصالح الآخر. وهنا يصعب توقع أن تتبلور الأمة من داخل هذه الدولة وعلى أساسها([135]). لكن لأن بنية الدولة العربية القطرية كما تكونت تاريخيا، لا زالت نافية في عملها لمبدأ تكوين الأمة([136]).

على رغم أن القطيعة بين الدولة والأمة قد تأصلت في فترات سابقة لكنها في مراحل سبقت تكوين الدولة الحديثة كانت لا تعترض التطور. فالدولة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها كانت منقطعة عن الأمة فمنحتها بانقطاعها بعضا من هامش التصرف في الشؤون العامة ومسؤوليات البناء الحضاري، فإلى الأمة – وليس الدولة- يعود الفضل في ما وصلت إليه الحضارة العربية من بنيان حضاري. وحتى في الأوقات التي كانت الدولة فيها تتعرض لازمة كانت الحضارة الإسلامية تعيش أزهى فترات الازدهار، وكانت الأمة تضطلع بالمهام الاستراتيجية. لكن الدولة المعاصرة وان كانت منقطعة عن الأمة كسابقتها لكنها زادت من قطيعتها أن سيطرت على مقاليد الحياة العامة بما ادعت لنفسها من قدرات على النهوض بأعباء البناء. وبذلك ألغت دور الأمة قراراً واختياراً واستبداداً بالاختيار العام. وقصرت بما تعانيه من قصور ذاتي عن النهوض بأعبائها. فالدولة الأمس واليوم تطرح أحسن الاختيارات لكنها تأخذ بأسوءها وتحقق أدناها.

من جهة أخرى، اندفعت الدولة العربية للادعاء بأنها تقوم مقام الأمة، ومنعت الأخيرة من أن تنتظم في بنى ومؤسسات فاعلة وإن سمحت ببعض صور التمثيل للأمة لكنها صور لا تنافسها، أو تنمو بأكثر مما كان مسموحا لها، أو أن تقوم بمهام غير التي تسمح بها الدولة.

ويفسر وجيه كوثراني الانفصال ما بين الأمة والدولة في التاريخ الإسلامي إلى الخلاف بينهما حول مضمون المبادئ الحكومية التي تحاول الدولة فرضها بصورة اعتباطية واصطدامها بمرجعية الأمة والمجتمع التي ظلت متمثلة بالشريعة ورفضها استتباع الدولة الجائرة (( فالأمة كإطار انتماء عقائدي وفكري وسلوكي للجماعة لم تندمج اندماجا عضويا في الدولة))([137]) ومنذ الدولة الأموية وحتى أواخر العهد العثماني لم تستطع الدولة أن تدمج الأمة بها، بينما قامت الأمة على اجتماع من سماته التنوع في حدود الاجتهاد والتمذهب الفقهي وحقوق أهل الكتاب التي انتظمت في المرحلة العثمانية بصيغة نظام (( الملل )). وبقيت العلاقة بين جماعات الأمة وفرقها ومللها من جهة، وأهل الدولة من جهة أخرى علاقة واسطة، لا علاقة اندماج، علاقة سلطات محلية ومللية تكتسب الجماعات من خلالها، وعبر أمرائها ومشايخها وزعماء عصبياتها وقبائلها وعائلاتها– لا سيما في الأطراف– أو عبر مراجعها الدينية هامشا من الاستقلالية في حياتها الداخلية([138]).

بينما يقدم خالد زيادة قراءة أخرى تبدو معاكسة فالافتراق أو الانفصال أو القطيعة مرده أن الشريعة تتحقق وتحيى في الجماعة وليس في الدولة، لذا فهو يرى أن مراقبة هذا الانفصال في التجربة الإسلامية المبكرة، الذي نلمسه من خلال مواقف المعارضة التي واجهتها الدولة الأموية منذ بداياتها، ومن خلال تبنيها تقاليد عربية سابقة للإسلام، لكن بشكل خاص من خلال شروعها بتبني مؤسسات الحكم والإدارة المأخوذة عن الدولة السابقة للإسلام، فالدولة الآخذة في النمو تبني مؤسساتها تبعا لوظيفتين محددتين: جمع الضرائب وحماية الأمن. لكن العلماء والفقهاء خاصة كانوا مدركين للمفارقة التي تضع الدولة على هامش الجماعة أو خارجها، ورفضوا دمج الدين بالدولة. فاتجهت الدولة إلى مزيد من التصلب في أجهزتها ودواوينها وارتسام تقاليدها وكذلك وظائفها المحدودة، بالتوازي مع اتجاه الجماعة إلى جعل (( المصر الجامع )) ميدان تحققها. فاحتفظ النظام الديني باستقلاله عن الدولة وتطور الفقه بمعزل عن الدولة. أما الأخيرة فقد طورت أجهزتها باعتمادها على كتابها، أي الإداريين ذوي الأصول الفارسية الذين صاغوا قوانينها ومؤسساتها البريدية والضريبية وحتى العسكرية([139]). لكن هذا الانفصال أسس لانفصال فكري بين الدولة والأمة (الجماعة) أما الانفصال الواقعي– التاريخي فانه كان يظهر عندما يتقاطع المجالان، مجال الدولة ومجال الأمة، وقلما تكون الغلبة للأخيرة.

في الحقيقة أن الانفصال الذي تحدث عنه كوثراني وزيادة كان عميقا إلى الدرجة التي تسوغ استخدام الباحث لكلمة (( القطيعة )) فقد بلغ مديات واسعة وبخاصة مع قيام الفئات البعيدة عن الأمة والشريعة وشرعية الحكم بأمور الدولة فأصبحت الدولة أموية، فعباسية، فبويهية، فسلجوقية مملوكية ثم عثمانية من دون أن تحتاج الأمة لإنجاز عملية التبدل، أو في إدارة وتدبير شؤونها وهي المهام التي تصدى لها العلماء والفقهاء والأعيان. وكأننا هنا نتحدث عن جزيرتين منفصلتين عن بعضهما قلما يتزاور أهلهما أو يتعاونوا إلا في حالات التعرض للتهديد الخارجي الذي يهدد وجودهما معا، فيتوحدان ثم يعاودان الانفصال بمجرد زوال الخطر.

والمفارقة التي يسجلها زيادة هي أن همَّ الحاضر يطغى على التاريخ. وصورة العلاقة التاريخية بين المجتمع والدولة، تبعا للوجهة التي تحدث عنها تشكل نقيضا لعلاقة الدولة بالمجتمع في الوقت الحاضر. ((فالدولة العربية منذ محمد علي باشا في مصر لم تقم إلا عبر التدمير المنظم للمجتمع ومؤسساته وممثليه وقواه، باسم الحداثة ومطلب القوة، من أجل إخضاع المجتمع والنيابة عنه وإلحاقه بمصالحها.))([140])

أما إذا وصلنا بتحليلنا إلى العصر الحديث، فقد عرف العرب لحظات صعبة فيه، لعل أكثرها صعوبة ومساسا بجوهر الإشكالية التي نحن بصددها هو بحثهم عن هويتهم المفقودة وسط زحمة المتغيرات التي بدأت تتوالى منذ غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1789، والتي وصلت ذروتها في الثورة العربية الكبرى، ثم قدوم الاستعمار الأوروبي سافرا إلى الأرض العربية، وأخيراً، إلغاء الخلافة كنظام سياسي كان العرب فيه يتماهون مع هوية إسلامية، فحاول العرب أن يخلقوا دولهم بوعد من الحلفاء الذين جلبوا قيما وأفكارا ونظما لم يكن العرب يعرفونها في ماضيهم. لذا واجهت الأمة العربية تلك العناصر الوافدة بتكتيكات مختلفة كان أحدها استخدام الدين إطارا لبناء عقائد ومذاهب سياسية وحزبية تعمل في إطار قطري، وقد ظهر في الأفق العربي خيط رفيع لقومية نثرها الاستعمار في كل مكان لتصبح متمايزة مع مرور الزمن، فإنحلت الوحدة الاجتماعية وتفككت عرى البناء القومي وتناثرت في تلك الأماكن([141]). وخلال الحقبة الاستعمارية جرى استخدام الدولة أو الأجهزة الإدارية التابعة للاستعمار كوسائل لإدامة استغلال رأس المال الذي يصبح في الاقتصاد التابع وسيلة للاستنزاف وانتقال الثروة من الاقتصادات الطرفية إلى الاقتصادات المركزية. وبعد الاستقلال سعت الفئات التي سيطرت على جهاز الدولة وما ورثته من الأجهزة الإدارية التي تركها المحتل القديم وعملت على تعزيزها بعد رحيله. وسعت إلى استخدامها في تحسين مواقعها في بنية النظام الاجتماعي العام وتخليد هيمنتها وفي ظل غياب تبلور إرادة ذاتية للمجتمع لم يكن متصورا أن تسعى هذه النخب إلى تحويل جهاز الدولة وسيلة لبناء الأمة والقومية، لهذا كان خطاب البناء حاضرا عند فئات الجيل الثاني الذي أخذ السلطة من الجيل الأول السابق بالانقلاب. ومع أنها استخدمت سياسات لتوجيه الجماعة الوطنية أو تخليقها واستخدام هذا الخطاب لتبرير تدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة إلا أنها لم تفلح في بناء الأمة أو حتى الدعاية الحسنة لنفسها.

لكن لم تستطع الدولة إن تبني أمتها أو قوميتها الموحدة، مثلما لم تنجح الأمة في بناء دولتها، وتنامت القطيعة بين الدولة والأمة إلى الدرجة التي نكصت بعض الدول نحو تعزيز الروابط العشائرية والعلاقات المنبثقة عنها فلم يجري الاستفادة من ما يتيحه الإسلام من تكامل داخلي في نطاق الأمة مثلما لم تنتج الأمة مؤسسات ثابتة وقارة تواجه بها تسلط الدولة.

رابعا:  إشكالية التنظير: القطيعة بين الفكر والممارسة

ينصرف معنى هذه الإشكالية إلى القطيعة البادية في التنظير حول مفهوم الدولة، والمفارقة التي نسجلها هنا هو ضآلة التراث النظري حول مفهوم الدولة مقارنة بمفاهيم اقل مكانة منها. ولن نعدد أسباب هذه الإشكالية، بل سنحاول طرح وتوكيد عمقها وارتباطها بحقائق تاريخية وموضوعية دفعت المفكر العربي والإسلامي لخصومة هذا المفهوم، فنأى بتفكيره عنه وراغ في مقاربته وابتعد عن النظر إلى مدلولاته ومضموناته.

إن نقطة الانطلاق التي نتخذها في البحث عن جوهر هذه الإشكالية هي اللحظة التي توفي فيها الرسول ((صلى الله عليه واله وسلم ))، كونها فاصلاً زمنياً بين حقبتين ودولتين، كان على الثانية منهما أن تتلمس طريقها بعيدا عن هدى الوحي وأن تضع العقل والقرآن والسنة وتدبير السياسة والحكم كمنطلقات لعملها. لقد نجحت الخلافة الراشدة في تأسيس إمتدادات كانت أقل صلة بدولة الرسول لأنها لم تكن وليدة عصره بقدر ما كانت فلتَةَ زمن وحسن سياسة بالأمور، فقدمت الخلافة الراشدة معالجة سياسية لمسألة الخلافة، وقدمت حلا اجتهاديا تأسس على (( منطق القبيلة )) ولهذا لم تنجح الدولة المقامة في تجاوز القبيلة التي كانت الدعوة والدولة المحمدية قد عملت على إحلال الأمة محلها كمشروع مستقبلي وكواقع ثم الشروع في بنائه فعلا([142]). فقدمت الخلافة الراشدة نموذجا كان أقرب ما يكون إلى (اختيار النخبة) منه إلى (اختيار الأمة)([143]). وهو النموذج الذي توكد في ظل خلافتي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، ولم يحصل إجماع الأمة إلا عند انتخاب علي بن أبي طالب u، إلا أن النخبة قد نأت عنه وانشقت عليه خارجة على إجماع الأمة !!

هنا نرى أن الدولة الراشدة فشلت في تقديم مثال نظري مناسب يوقد الفكر، بل إنها أسهمت إلى حد ما في إرباكه وضياعه في تساؤلات واستنتاجات متناقضة كان من الصعب الإجابة عنها وتأسيس مقدمات تنبني عليها نظرية الدولة في الفكر العربي- الإسلامي. بل إن فقدان تلك المقدمات هو ما سمح بظهور المعارضة السياسية، ومهد في ما بعد لبني أمية (وهم الأبعد عن ما يسميه الجابري إجماع الأمة) أن يتبوءوا سنام الأمر.

هكذا كانت أصول الإشكالية متجذرة في مسألة فقدان النموذج النظري القياسي الذي يعد مثالا تقاس عليه النماذج الأخرى. ولم تستطع أية دولة تلت دولة الرسول (( صلى الله عليه وآله وسلم )) أن تقدم نموذجا نظريا ملائما، بل إن جل ما حوته الدولتان الأموية والعباسية كان خروجا نحو القبيلة وإدارة الدولة على وفق ما تراه عرفا لا قرآنا ولا سُنة. لذا نجد من يجزم بعدم وجود مفهوم بعينه يتعلق بالأساس النظري الإيديولوجي ويغطي المقومات الأساسية للدولة في الإسلام من حيث تحديد الإطار الجغرافي والاثني وشكل السلطة وطبيعة علاقتها مع الأمة الممثلة للدولة وكذا موقفها من الكيانات السياسية الأخرى غير الإسلامية([144]). لكن، هل أن جوهر هذا الغياب لمفهوم معين للدولة ناتج عن قصور الفكر ؟ أم أنه ناجم عن إعوجاج الممارسة ؟ أم أن هذا الاعوجاج أربك الفكر ؟ ولماذا اختلفت صيغ الدولة في كل عصر ؟ ولماذا تباين مفهومها عند كل طائفة أو مذهب إسلامي رغم أنها اجتمعت على وحدة المصدر في التشريع ومحاكاة نموذج دولة الرسول (( صلى الله عليه وآله وسلم )). ومن اختلاف فهم القرآن إلى الاختلاف حول السنة النبوية لم يتفق العالم الإسلامي طوال عصوره الممتدة على تشريع موحد([145]). أما إذا رجعنا إلى الأحكام السلطانية، وهي المنوطة بدراسة الفكر السياسي والنظم الإسلامية، وإذا رجعنا إلى ما تضمنته كتب فلاسفة الإسلام كالفارابي.. إلى الهمداني عن تصوراتهم الفلسفية لمفهوم الدولة في الإسلام، لا نجد إلا التباين والاختلاف إلى حد التضارب والتناقض. وفي كل الأحوال يظهر الفرق بين الفكر والممارسة([146]). الأمر الذي جعل البعض يرى في مفهوم الدولة طبيعة انتقالية في الفكر العربي الإسلامي، ذلك أن تعددية التكوين والمهام جعل مفهوم الدولة (( ذا أوجه )) وقادرا على إيجاد اختلاف في الرأي([147]). لكننا لا نؤيد في هذا الرأي القول بقدرة مفهوم الدولة على التكيف مع التغير الظرفي الواقعي وليس أدل على قولنا هذا من القطيعة البادية في التاريخ التي تحدثنا عنها سابقا. وأكثر من ذلك، نجد الدولة في أثناء محاولتها أدلجة الحكم، كانت تعاني هاجس فقدان الشرعية وهو ما جعلها تنظر بعين الشك للمفكر، أما الأخير فقد كان ينكر (في الغالب) ممارسات الدولة مثلما ينكر عليها شرعيتها، فتجذرت وتعمقت القطيعة بين الطرفين، وأهمل المفكرون المسلمون دراسة وتحليل الدولة بوصفها موضوعا للنقد أو حتى بوصفها مشروعا مستقبليا.

إضافة إلى كل ذلك، كانت هناك أمور أربكت قضية الدولة في الفكر الإسلامي، وفي مقدمتها الأزمة الفكرية الحادة التي عصفت بالفكر العربي- الإسلامي، وتمخضت عنها حروب باردة وساخنة سنين مديدة منشؤها اختلاف في الفكر والعقيدة وبخاصة في مسائل الإمامة والقدر وخلق القرآن([148]). وفي خضم الأزمة جرى استدعاء الفلسفة لاعتبارات مرتبطة بالسياسة فوظفت أيديولوجياً عناصر من الثقافات القديمة في الصراع الذي خاضته الدولة الأموية مع المعارضة المثقفة، وجرى اللجوء إلى أرسطو ومنطقه كجزء من استراتيجية ثقافية القصد منها فلسفة الدين وطرحه سؤالا على العقل المسلم الذي لم يتكامل بناؤه بعد، فاضطرب الفكر وتشتت بين فرق وطوائف لم تكن تفصل بعضها عن البعض الآخر سوى مسائل واهية جرى النفخ في بعضها بواسطة الفلسفة، ووصل الأمر إلى حد تكفير طوائف لطوائف أخرى([149]). هنا كانت الدولة راعية لهذا الانشقاق الفكري ومغذية له، ولا تكاد تنطفئ نار للفتنة حتى استوقدتها الدولة، وهي الصورة التي ازدادت وضوحا زمن الدولة العباسية التي استخدمت الفلاسفة (من المعتزلة) مثلما استخدمت أهل السنة بتبادل في الأدوار لأداء وظيفة أيديولوجي الدولة أملا في أن يتمكن هؤلاء من بناء مذهب وأيديولوجيا للدولة تقاوم بها أو على الأقل توازن بها مذاهب الخصوم.

أما أولئك الفلاسفة الذين نأوا عن الدولة، وترفعوا عن الاتصال بها- بعيدا عن الخصومة الأيديولوجية أو المذهبية- فإنهم اختطوا طريقا أخر أبعدهم عن الخط الإسلامي فاستلهموا أفكارهم وتصوراتهم عن الدولة لا من القرآن والسنة النبوية وإنما من الفكر اليوناني والفارسي فحاكت مدينة الفارابي الفاضلة جمهورية أفلاطون معبرا بها عن توقه إلى إقامة دولة عقلانية بدل الدولة التي يتعامل معها.

أما بالنسبة للمذاهب الدينية فإنها لم تفلح جميعا في إنتاج نظرية متماسكة للدولة، وانحصر النتاج الفكري لعموم المذاهب على موضوعات للنقاش المفتوح بينها وإثارة الشبهات وردها ودفع التهم التي كانت تتبادلها المذاهب، والتي أذكى جذوتها رغبة الحكام في تعميق الخلاف الفكري وأبعاده عن مناقشات أكثر عمقا لمفهوم الدولة ومسائل الحكم وأحقية الخلافة وغيرها مما هو ذو صلة مباشرة بالدولة وأمورها. فانحصرت السجالات والمناظرات الفكرية في إطار قشور الموضوع من دون أن تتمكن من مجاوزته لتغوص في أعماقه وتقدم فكرا تحليليا لظاهرة الدولة في المجتمعات الإسلامية.

لكن هذا لا يعني أن الفقهاء المسلمين لم يعوا مفهوم الدولة، بل العكس من ذلك نجد أن وعي الفقهاء والنخب الفكرية قديم جدا، وربما يعود إلى ظروف وملابسات انهيار نظام الخلافة وقيام (( الحكم الجبري العاض  أو العضوض )). فلم يشك أحد من الفقهاء في سلامة النظام الاجتماعي والثقافي، والقيمي الإسلامي– في أي من العصور– بل انصرف التشكيك، والطعن والنقد، إلى النظام السياسي، بحسبانه النظام الذي حاد عن جادة الكتاب والشرع، وأدخل وحدة الجماعة الإسلامية في محنة مديدة لم تخرج منها حتى الآن. وقد ترتفع هذه الدعوى، وهذا النقد، فتبلغ أوجها مع الشيعة والخوارج، وقد تخف حدتها بنسبة ما مع (( القراء )) مثلا، وقد تعتدل إلى حيث تكون في نصاب (( النصيحة )) مع قسم من الفقهاء يقع فكريا بين فئة كتاب الدواوين ومدبجي (( الآداب السلطانية )) وفقهاء الخلافة والإمامة، وبين من صدعوا جهرا بلا شرعية السلطان([150]).

المحصلة من كل هذا وذاك أن الفكر السياسي والاجتهادي للمسلمين لم يستطع حيال هذا الواقع المعقد والمضطرب أن يصوغ نظرية سياسية متحدة ومتكاملة، وإنما اندرجت مساهماته في حدود التبرير أو الرفض المثالي للأحكام السلطانية القائمة، ولم تظهر طروحاته إلا في وقت متأخر من بناء الدولة، فلم يكن فكرا تأسيسيا وتنظيميا بقدر ما كان وصفيا. كما انه لم يستفد من المجال الذي كان متاحا له ليملأ ويغني باجتهاداته ما تركه الإسلام مفتوحا للاجتهاد، وبخاصة في مجالات الدولة والسلطة وتنظيماتها وإدارتها وكيفية تقنين الآليات والإجراءات التنظيمية الواجب اتباعها في حالة انتقال السلطة أو التنازع عليها، وغيرها من الأمور التي كان الفكر الاجتهادي السياسي قد أسقطها من بؤرة اهتمامه رغم كونها جوانب إجرائية مفتوحة للتجربة والاجتهاد([151]). وهو ما أكده محمد عابد الجابري بقوله أن (( القول بوجود (( نظرية )) في الحكم الإسلامي، وفي كتابات المتكلمين والفقهاء، فهو قول لا يعبر عن رغبة في وجود مثل هذه النظرية، وهي لم توجد ولن توجد لأن الشرط الضروري في قيام نظرية إسلامية في الحكم غير متوفرة، نعني بذلك أن وجود نص صريح من القرآن، أو السنة يشرع للمسألة السياسية: لشكل الدولة وإختصاصات رئيسها وكيفية تعيينه ومدة التعيين… الخ. وإذاً فالنظرية (( الإسلامية )) في الحكم […] هي نظرية هذا المسلم أو هذه الجماعة من المسلمين في هذا العصر أو ذاك، وفي هذا البلد أو ذاك، لدى هذه الفرقة أو تلك.))([152]) ثم أن تركيز الفقه الإسلامي بالإحكام كانت أكثر من تركيزه على المنظومة الحقوقية والقضائية والإدارية للدولة الإسلامية، مما قاد إلى غياب الفقه الدستوري، وطغيان الفقه التشريعي على باقي صناعات الفقه الإسلامي.

لقد كانت نتيجة ذلك أن فقه السياسة في الإسلام لم يكن بمستوى فقه العبادات أو المعاملات على الرغم من إن السياسة أخطر من المعاملات في حياة الأمة. ويرى الأنصاري أن غلبة الواقع من دون اعتبار للضوابط المبدئية التي وضعها الإسلام للسياسة قد حالت دون نمو الفكر السياسي الاجتهادي([153]). وفي تقديري إن هذا الفكر قد بات حائرا في التنظير لدولة يقتضي الاجتهاد بأن يفتي بعدم شرعيتها ويطالب بعدم الاقتراب منها فإن إجتهد معلنا فتواه لاحقته السلطة وان نَظَّر واجتهد لما بعدها قيل أنه متعلق بما وراء الغيب، فأهملت الدولة في الفكر السياسي الاجتهادي عن سبق إصرار وتعمد ذلك أن الفقهاء تجنبوا التنظير لها حتى لا يحسبون عليها.

لقد كانت ممارسة السلطة متقدمة كثيراً على الفكر حيث يشير سعد الدين إبراهيم إلى ذلك بقوله (( فمن حيث الممارسة أنجز المسلمون الكثير في حقبة قصيرة نسبيا في ما يتعلق ببناء الدولة ومؤسساتها. وأتضح ذلك جليا في كل العصر الأموي، ثم العباسي. لكن التنظير لهذه الممارسات الفعلية، ظل قاصراً إلى النصف الثاني من العصر العباسي، أي إلى مرحلة ضعف (( الدولة العباسية )) ))([154]) لهذا نجده يؤيد القول بأن (( الفكر السياسي الإسلامي جاء، إذا، لاحقاً لممارسات المسلمين الإبداعية في بناء دولتهم الإمبراطورية. ويؤكد هذه النقطة عالم السياسة التركي حميد عنايات في عرضه لأهم مقولات الفكر السياسي الإسلامي، وتطورها. فنظرية (( الخلافة )) مثلا تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، أي القرن الرابع الهجري، أي بعد ممارسات بناء الدولة بأربعة قرون تقريبا، وهي فترة تدهور مؤسسة الخلافة في الدولة العباسية، وظهور (( الخلفاء )) في أكثر من مدينة أو إقليم إسلامي ))([155])

وفي العصر الحديث، وجدت النخب السياسية العربية المعاصرة نفسها أمام خيارين، فأما أن تستقي نموذجها من التجربة الحضارية العربية الإسلامية وبخاصة نموذج الدولة الدينية كما رسمها الفكر الإسلامي أو كما تحققت في التجربة الحضارية التاريخية، وإما أن تستقي معالمها من نموذج الدولة الغربية الحديثة كما أنتجتها الحداثة الأوروبية فعمدت إلى اقتباس النموذج الأخير، وهو ما أفرز إشكالية جديدة بين الدولة الناشئة والمجتمع وفي نتائج إدارتها للأمة من اجل النهضة. وقد نجد تفسير ذلك بما يلي:

  1. طبيعة الصناع أنفسهم فقد شكلوا في الغالب نخبا غير دينية ومتشربة بالثقافة الغربية أو غير متمسكة بثقافة إسلامية حقيقية.
  2. قرب النموذج الحضاري الغربي من نفوس صُنّاع الدولة العربية الحديثة، وانبهارهم بهذا النموذج بعدما عرفت المجتمعات العربية مدى قوته، وحسدوا المجتمعات الأوروبية على وجوده، وطمعوا بإقامته أو إقامة ما يشبهه.
  3. تاريخ الدولة العربية الإسلامية وما حققته وما آلت إليه من أوضاع الاستبداد والنظر في سلبياتها فانصرف أولئك الصناع عن هذا النموذج.

إن الاهتمام المعاصر في الفكر العربي حول ظاهرتي المجتمع والدولة كان غير متوازن وأميل إلى التجزئ، فالاهتمام بمطلب الوحدة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر قد إستحوذ على القدر الأكبر من اهتمام الفكر السياسي على حساب الاهتمام بظاهرة (( الدولة القومية )) المنشودة من حيث طبيعتها، تكويناتها الاجتماعية– الاقتصادية، ومؤسساتها، كذلك على حساب الاهتمام بظاهرة (( الدولة– القطرية– الوطنية )) التي نشأت بالفعل في الوطن العربي. فكان هناك حياء أو جفاء أو عداء بين جمهرة المفكرين العرب، وبين ظاهرة ((..الدولة القطرية )). فلم يميز أولئك المفكرون بين (( الموقف السياسي )) من مثل هذه الدولة، وبين الدراسة العلمية الموضوعية لها كظاهرة. ومن ثم فقد اختاروا أن لا يكتبوا عن (( الدولة القطرية )) بهذا المعنى الصريح، ظنا منهم أن مجرد الكتابة عنها، قد يضفي عليها (( مشروعية معنوية )) لا يرغب الكثيرون منهم فيها([156]). لهذا نجد أن مفكري الحركات القومية طغت عليهم النزعة الثقافوية، فأهملوا التنظير للدولة القومية، وكان اهتمامهم منصبا على التجزئة القومية وضرورة الوحدة العربية أكثر من اهتمامهم بقضية الدولة، التي حلموا بتحقيقها، فبقيت قضية التنظير للدولة تابعة للقضية (( الأصل )) وهي الأمة. ورفضوا مبدأ الدولة/ الأمة، وأكدوا دائما على مبدأ الأمة/ الدولة، أي الأمة التي تنشئ دولتها القومية. وفي الواقع لم يتعرف المفكرون القوميون العرب، في بادئ الأمر، على جهاز متكامل للدولة، ومفتقرة إلى نظرية متكاملة لها. فمصادر القوة لم يروها في الدولة، التي تتطلب إرساء القواعد المادية والتنظيمية والفكرية لبنائها، وإنما بدت لهم ثقافية الطابع. وحينما تعرضت كتاباتهم لدعائم الدولة السياسية فقد ربطتها بفكرة مثالية عن الوحدة القومية، أكثر مما ربطتها بالقوانين والمؤسسات والجيوش والاقتصادات. والنتيجة، أن العرب قد اهتموا بـ (( مظاهر السلطة )) أكثر مما اهتموا ببناء مرتكزات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية ، فالبلدان العربية استوعبت المظاهر الهيكلية لجهاز الدولة ولعملية التبقرط، ولكن مفهوم الدولة نفسه ظل شبه غائب([157]).

ويؤيد عبد الله العروي القول بأن الفكر والممارسة يقفان معا حجر عثرة في تكريس نظرية الدولة في الوطن العربي. فعلى خلفية تفسيره للفجوة، ومن ثم الجفوة، بين الدولة والمجتمع في الوطن العربي على المستوى الفكري يرى العروي أن مفهوم (( العروبة )) قد حل محل مفهوم (( الأمة )) الإسلامي التقليدي، فبالعروبة (( يتعلق الولاء، فيها تتلخص الإدارة العامة، في إطارها يتخيّل الإنسان الجديد )) وهذه الطوبائية، العروبية تنزع الشرعية عن الدولة القطرية أو الإقليمية، فبرغم أن هذه الأخيرة ناشطة في مجالات التعليم والصحة والإسكان والتتشغيل والتنظيم، إلا أن هذا كله لا يكسبها ولاءً، ولا ينشئ حولها إجماعاً. فالمفكرون العرب لا يهتمون بالدولة القائمة. وكما كان الفكر التقليدي يدور حول فكرة الخلافة. فان الفكر العربي المعاصر يدور حول طوبائية (( المجتمع العربي الموحد )) وبخاصة في ظل الاشتراكية والديمقراطية. وهو ما أدى إلى إضعاف فكرة الدولة في المجتمع العربي المعاصر، ودون أن يؤدي إلى تحقيق الوحدة العربية أو زيادة الحرية الفردية([158]).

الفصل الرابع: أعراض الأزمة في الدولة القطرية العربية

تحدثنا في الصفحات السابقة الإشكاليات الحاكمة لمفهوم الدولة في الوطن العربي، وهو ما يقود إلى الاستنتاج بأن الدولة في الوطن العربي تواجه أزمة في ذاتها وفي أدائها وأفعالها. وما نحاول النظر فيه الآن هو أعراض تلك الأزمة وانعكاساتها على المجتمع والاقتصاد في الأقطار العربية.

أزمة الولادة 

إن عمليات بناء الدولة لم تَجرِ بطريقة واحدة في جميع الأقطار، مثلما اختلفت من حيث أسلوب البناء. ففي أقطار المغرب العربي مثلا نجد أن عملية بناء الدولة لم تحصل بوتيرة واحدة وبالأسلوب نفسه إلا أنها تكاد تكون قد انطلقت من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية نفسها لكنها سعت إلى معالجتها بطرق مختلفة. ففي المغرب مثلا استلزمت عملية بناء الدولة غداة الاستقلال إهمال المشكلات الاقتصادية([159]).السؤال الذي يبدو حاضرا، هو ما الذي عوق بناء الدولة في الوطن العربي وجعل منها رهينة التأريخ وتعاقب أزمنته ؟ على الرغم من أن المجتمع والدولة العربيين قد إمتلكا، وفي مراحل وحقب عديدة ما إمتلكته مجتمعات ودول أخرى جعلها تنجح في تشييد مفهوم أكثر استقرارا للدولة، وإذا ما كان ظهور الدولة الحديثة في أوروبا قد إستلزم توافر عدد من الشروط كمقدمة لظهورها من قبيل الاستمرارية في الزمان والمكان لجماعة معينة، ووجود مؤسسات سياسية غير شخصية ودائمة نسبيا. وشعور بمشاعر الولاء والموافقة إتجاه الكيان الوليد. بهذه الشروط نجحت ومكنت أوروبا من أن تنجز عملية بناء الدولة الحديثة، في الوقت نفسه، شهد العرب أشد حالات الضعف والتراجع. ولا تقف صورة التناقض عند هذا الحد بل إن مسيرة التاريخين العربي والأوروبي المتعلقين بنشوء الدولة كانا متناقضين– على وقف ما نرى– حيث توافرت لدى العرب المسلمين المقدمات الضرورية لنشوء الدولة، وأولها الأمة، فالدين الإسلامي يدعو إلى أمة الإسلام التي توحد مشاعر المسلمين لكنها لا تتطابق مع مشاعر الولاء للدولة التي لم تسع هي الأخرى لصناعة هذا التطابق أو اصطناعه. كما توافرت للعرب المسلمين مؤسسات تمتعت بقدر من الثبات، منها مؤسستا القضاء والجيش لكنهما لم يتمتعا بالاستقلال عن الدولة، فكانت مؤسسة القضاء في ظل الدولة العباسية خاضعة لسلطة الخليفة (( إذ لم يكن هناك فصل بين القوة القضائية والقوة التنفيذية أو السياسية ))([160]).

وعلى الرغم مما كان يتمتع به الدين الإسلامي من قوة تفوق قوة المسيحية المنتشرة في أوروبا إلا أنه لم يكن مُمأسساً إذ لم يتفوق ” المسجد ” كما تفوقت الكنيسة على الدولة– الأمة، وبقدر ما إحتاجت الأخيرة إلى أن تفلت من قبضة الأولى والدعوة إلى علمنة النظم السياسية والثورة في العقل والسياسة والاقتصاد، نجد أن الدولة العربية الإسلامية لم تكن دينية ولا علمانية بقدر ما كانت لا إسلامية فكانت الدعوة المناوئة لها الأصولية بدل العلمانية، والدعوة إلى الرجوع إلى منابع الدين الأولى وإقامة الدولة كما عبرت عنها السلفية كأكثر تيارات الإسلام السياسي تطرفا في هذا المجال.

قطعا إن قصة نشوء وتطور الدولة لا يمكن أن تكون واحدة في كل المجتمعات والأزمان، ولهذا يكتشف الباحث في موضوعة الدولة العربية تناقضات حادة في مفهوم الدولة في الوطن العربي وتمايزات شديدة عن أنماط الدولة الناشئة في أوروبا. لهذا نقول بعدم مناسبة هذه المطابقة لأننا سنكتشف أننا نسير في خط مخالف تماما لما سارت به أوروبا، فالرأسمالية والدولة وما يرتبط بها من مادية ومواطنة ومشاركة.. الخ، لم تأخذ الاتساق التاريخي نفسه الذي اتخذته في أوروبا، بمعنى إن المجتمعات العربية لم تتحسس من هذه المفاهيم ما تحسسته المجتمعات الأوروبية حتى نقفز على كل هذا ونريد نمط للدولة القومية يقاس على مثيله، أو نبني دولة – قومية تحاكي ذاك النموذج، وهي مطابقة أو عملية بناء لم تكن ولن تكن صحيحة. تماما مثلما (( أن إشكالية قيام الدولة العربية المعاصرة تبقى بدون حل لمن يبحث عن الحل في عالم الأيديولوجيا حتى عندما تكون هذه الأيديولوجيا قومية عربية، بل خصوصا عندما تكون كذلك ))([161]).

إلى ما قبل اكتشاف النفط كانت القبيلة القائمة على العصبية النمط السائد للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الخليج العربي، حيث تمحور حولها مجمل التنظيم الاجتماعي، وتراتب أفراد القبيلة تحكمهم بنية القبيلة نفسها وتقاليدها والعرف السائد حول شيخ القبيلة في غياب يكاد يكون تام للمؤسسات المدنية والإدارية بسبب انعدام وجود التشريعات التي تنظم قيام المؤسسات هذه. فلم تعرف منطقة الخليج العربي الدولة المركزية ذات المؤسسات، ولم يظهر فيها منظمات المجتمع المدني وغابت عن الساحة شرعية المؤسسات لتحل محلها شرعية القبيلة النابعة من الانتماء القبلي محلها، وانحصرت شرعية السلطة بيد الشيخ صاحب النفوذين الاجتماعي والسياسي. ذلك الولاء الذي انتقل في حقبة ما بعد اكتشاف النفط إلى ما يسميه دونالد هاولي([162]) D. Hawly (( دولة القبيلة )) التي تجعل من الوراثة الملكية والشرعية قيمتين أساسيتين تقوم عليهما شرعية السلطة([163]). لذا بقي النمط القبلي مهيمنا وعلاقات القبيلة حية في صورة جديدة حيث تهيمن الأسر الحاكمة على الدولة وأجهزتها للإبقاء على السلطة المطلقة داخل نطاق الأسرة الحاكمة أو العصبية الغالبة. فالدولة الناشئة في الخليج هي تكريس لمبدأ القبيلة أكثر من كونها تكريسا لمنطق الدولة.

مع ذلك يرى بعض الباحثين إن إدماج الوطن العربي تدريجيا بين عامي 1516 و 1674 في الإمبراطورية العثمانية أوقف في البدء عملية تفكيك المجتمعات العربية، وأدى إلى استقرار هياكلها الإدارية، ومكن من عودة ظهورها كدول مستقلة. بعبارة أخرى، بفضل طبيعة النظام الإداري المرن والقابل للتكيف خلقت الإمبراطورية العثمانية الظروف الموضوعية التي قادت أخيرا إلى تبلور كيانات سياسية مستقلة في الوطن العربي. وتمثل مرونة النظام في إدارة محلية فسحت مجالا رحبا لاستمرار العادات والتقاليد المحلية وبقائها([164]). ولكن وفي مرحلة متقدمة من الاحتلال العثماني كان للسياسات الاقتصادية التي اتبعها العثمانيون في عصر (( التنظيمات )) نتائج وخيمة، فقد رأت السلطة السياسية المهيمنة في منتصف القرن التاسع عشر ضرورة ربط الفلاح مباشرة بها، لا سيما وأن الوسطاء بينه وبينها، كانوا يستولون على قدر لا بأس به من الضرائب، ويسيئون إلى هيبة الدولة، وهي علل اقتصادية وسياسية معا، مهدت لظهور خلل عميق أصاب الأبنية الاجتماعية– الاقتصادية في منطقة الهلال الخصيب، مَردُّه الأساسي تمركز خطير للقدرات الاقتصادية في أيدي قلة ضئيلة من السكان([165]). وهي الحالة التي لم تحاول السلطة العثمانية تعديلها في العراق.

وفي ظل الدولة السلطانية المتأخرة، في مرحلة ما بعد التنظيمات، كانت البيروقراطية المركزية تنحصر في قطاع الخدمات ونادرا ما كانت تتعداه، وخاصة بعد قضاء الدول الاستعمارية الغربية على شركات الدولة العثمانية ومؤسساتها الاحتكارية من خلال نظام التنازلات في نهاية القرن التاسع عشر. وكانت هذه الخدمات العامة تُمّول بواسطة ضرائب متنوعة متعددة وشبه اعتباطية، ولم تتدخل الدولة في المجالات الإنتاجية أو الإنشائية التي كانت حكرا على الشركات والمصالح الأجنبية، بل أنه حتى الخدمات العامة في مصر كانت حكرا عليها وعلى طبقة الكومبرادور. وعموما كان النظام الاقتصادي يتسم بالتخلف والفوضى وكانت اقتصادات البلاد التي تخدم جميع المصالح إلا مصلحة السكان المحليين بسبب سطحية الحكم وسيطرة الامتيازات الأجنبية على مقدرات البلاد([166]).

في المشرق العربي، أدت سياسات الانتداب التي يفترض أنها تدخل المشرق العربي إلى السوق الرأسمالية العالمية إلى تطوير نظام الإقطاع القبلي في العراق وسوريا، والإقطاع السياسي في لبنان، ونظام العزبة في مصر (وهو نوع من أنواع الملكية الزراعية الإقطاعية)، ازدادت في الوقت نفسه معدلات الزراعة التجارية بشكل كبير وخاصة الغلال المعدة للتصدير. وفي الوقت الذي يفترض فيه أن تنمو الرأسمالية الوطنية في هذه الأقطار تحول الملاك والتجار إلى وكلاء محليين للبضائع الأجنبية وخاصة المصنعة واتخذوا تدريجيا صفة الكومبرادور، واتسم تملك هذه الطبقة بالتنوع والاحتكار، ولم تتجه إلى التخصص في نشاط اقتصادي محدد، فتجد عائلة واحدة ذات ملكيات متنوعة عقارية وزراعية وتجارية وصناعية… الخ. ويشير خلدون النقيب إلى أنه ومع ازدياد حركة الاستيراد في البضائع المصنعة اضمحلت الحرف وصنايع التقليدية على نطاق واسع. ففي سوريا مثلا انخفض عدد المشتغلين في هذه الحرف والصنائع من 309535 شخصا عام 1913 إلى 170778 شخصا عام 1937 أي بنسبة 55 في المائة. كما أن عدد المشتغلين بالقطعة Piecework  انخفض من 247231 إلى 116039 للسنوات نفسها أي حوالي 47 في المائة([167]).

أما المغرب العربي فقد تم استعماره بواسطة الاستعمار العسكري، والقمع السياسي، والعنف القانوني، والخنق الثقافي، بقصد التحضير لاستغلال اقتصادي محكم للشعوب المغاربية. كان ذلك يستهدف إحداث تغيير تدريجي لكنه جذري في المحيط والأبنية الاقتصادية والمعطيات السكانية والتطورات السياسية للمغرب العربي. فأنشأت القوى الاستعمارية اقتصادا استعماريا قائما على الاستغلال والاستيطان. من خلال العمل على الاستحواذ على الأراضي الزراعية، وإدخال أنماط الاستغلال الرأسمالي الزراعي في أقطار المغرب العربي ثم الرأسمالية التجارية والصناعية. لقد مارس المستعمرون والمستوطنون نزع الأراضي الأكثر خصوبة والأكثر نشاطا في مجال التصدير، فقبل الاستقلال كان المستعمرون يملكون مليوني هكتار من أخصب الأراضي الجزائرية والتي تساهم بحوالي 65 في المائة من الإنتاج الزراعي الإجمالي فيها، وتخصصت الجزائر أثناء الحقبة الاستعمارية في الزراعات التصديرية والصناعة الاستخراجية الموجهة للتصدير. كما أنها كانت تستورد مختلف المنتجات الصناعية، لذا بدأت الصناعات التقليدية المحلية التي كانت في مدن البلاد الرئيسة قبل الاستعمار تختفي بعد استيراد منتجات صناعات منافسة. وتأثرت الصناعات الحرفية كثيرا في المغرب أكثر من الجزائر وتونس بعد استيراد المنتجات الصناعية المنافسة، غير أنها استطاعت أن تتأقلم وتحافظ على ذاتها وأن تتطور بارتباطها بالصناعات الصغيرة. كما نجح النشاط الحرفي في تونس في أن يحافظ على نفسه ويشهد شيئا من الانتعاش. لكن الصناعة التونسية والجزائرية والمغربية في نهاية الحقبة الاستعمارية كانت تابعة للبلدان الاستعمارية([168]).

نجحت القوى الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا) منذ القرن التاسع عشر باستيعاب معظم المنطقة العربية (مصر، الجزائر، ليبيا، تونس، المغرب، السودان، سوريا، لبنان) عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ومن الناحية الاقتصادية عملت القوى الاستعمارية على الانتفاع من إمكانات المناطق المستعمرة وبخاصة في المجال الزراعي والاستخراجي، فجرى تشجيع إنتاج المحاصيل والسلع لأغراض التصدير والبيع وجرى توجيه معظم الإمكانات لإنتاج سلعة أو اثنتين من السلع التي تحتاجها المصانع في البلدان المُستَعمِرة فتحولت معظم الأراضي الزراعية المصرية إلى إنتاج القطن عالي الجودة الذي يجد طريقه إلى المصانع البريطانية([169]). وقد أنتجت عملية الاستيعاب المذكورة تشوهات اجتماعية وسياسية تبدت في تخليق طبقة من الملاك المحليين الذين ترتبط مصالحهم بعملية الإنتاج الجديدة والإبقاء على روابطهم وعلاقاتهم مع الحكم سواءٌ الاستعماري أو التابع للاستعمار. فأصبح هؤلاء الملاك يشكلون قوة اقتصادية وسياسية لا يستهان بها في مجتمعات مصر والمغرب والعراق وسوريا([170]). ومع الاحتلال السافر واستيلاء القوات الفرنسية بشكل تام على الجزائر وتونس جرت عمليات النهب المنظم وتصفية أملاك الدولة وتكديح العمال الزراعيين وتحويلهم إلى عمال أجراء. ولم يجلب الحكم الاستعماري الكثير من التغيرات عدا زيادة الاهتمام بما كانت مهتمة به في ما قبل الاحتلال السافر. كما أن عملية إحداث التنمية لم تكن مدرجة ضمن جدول أعمال المستعمر الأوروبي([171]).

وفي بعض أقطار المغرب العربي نجد ان موريتانيا لم تعرف قبل الاستعمار الدولة المركزية بالمعنى المتعارف عليه لهذه السلطة، بل ارتبط ظهورها بالاستعمار([172]). فموريتانيا تقدم مثالا على الغياب شبه الكامل للإرث المخزني السابق على الاستعمار، فقد كانت موزعة إلى إمارات ورئاسات متعددة متميزة في قمتها بالتمايز والتنافس بين قبائل محاربة وأخرى عالمة تاجرة. وخلال الحقبة الاستعمارية (1903–1960) جرى فرض السلطة الأجنبية على المجتمع. وفي ما بعد الاستقلال رفع شعار بناء الدولة وسعت الأخيرة إلى بسط نفوذها على جميع مرافق حياة المجتمع وبناه. وتحولت الدولة شيئا فشيئا بعد عام 1978 إلى مجرد أداة لتوزيع الثروة والنفوذ تتداولها الأجنحة المتصارعة في النخبة السياسية والعسكرية عن طريق الانقلابات العسكرية المتتالية وحملات الثأر والتنكيل المتبادلة([173]). وعلى طول حقبة تأسيس الدولة في موريتانيا، وعلى الرغم من الخطوات الكبيرة التي خطتها الدولة الوطنية الأولى في تكوين الدولة ومحاربة الولاء للقبيلة وللنظام الأميري على طول هذه الحقبة، كان تأسيس (( مجتمع الدولة )) عبارة عن استزراع للبنية الاجتماعية القبلية في المدن والقرى الناشئة. وكان لاستقرار المجموعات القبلية في المراكز الحضرية أثره البالغ في تعقد البنية الاجتماعية لـ (( مجتمع القبيلة))، الذي قامت عليه الدولة، الأمر الذي كان له دوره الفعال في إظهار نوع من التوجه الجمعي إلى الدولة كمؤسسة اجتماعية بديلة لمؤسسة القبيلة بعد أن عجزت الأخيرة عن احتوائها. وخلال حكم العسكر (1978–1991) شهدت البنية الاجتماعية تحولات اجتماعية نحو بروز طبقة اجتماعية متوسطة تخفي ملامح أزمة اجتماعية حادة([174])، وان كانت السنوات التالية (1991-1995) شهدت اكتساء مجتمع الدولة بنية هذا المجتمع، لكن هيمنة المكون القبلي القرابي الحاضر في تكوين هذه البنية ما زال يعيق تأصيل هذه الملامح([175]). وما تزال المعركة دون حسم واحتمالات تفوق أي من الفرقاء وارد في المستقبل.

أما الدول العربية في القرن الإفريقي كغيرها من الأقطار الأفريقية كانت العقيدة المستمدة من الحكمة الواقعية تحافظ على عدم المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار، وقد تم تجاوز هذه القاعدة للمرة الأولى عندما استقلت اريتريا عام 1993 وتم الاعتراف بها وهذا ما قد يتكرر غدا لأسباب عرقية وسياسية في الصومال أو جيبوتي. فالصومال تنقسم إلى ثماني مناطق خاضعة لقادة محاربين والأرض الصومالية تضم الصومال الإنجليزي سابقا والتي اتحدت مع الصومال الإيطالي عام 1960 فظهرت الصومال الجمهورية المستقلة وهذا يعني تصفية للدولة الصومالية رغم أن الجماعة الدولية لم تعترف بها بعد([176]).

إن عملية توزيع السيطرة الاستعمارية بين القوى الاستعمارية (انجلترا وفرنسا) كانت تتضمن، من الناحية الفعلية، عملية تقسيم سياسي للوطن العربي لمصلحة المستعمرين الذين عملوا على تكريس التجزئة التي ارتبطت بهذا التقسيم وعلى الشعور القطري في الأقطار العربية واتخذت انجلترا وفرنسا جميع الإجراءات التي تؤدي إلى أن يكون كل جزء من أجزاء الوطن العربي التي خضع لها بمثابة دولة متميزة ومنفصلة عن بقية الأجزاء الأخرى، وأخذتا توجهان السياسة والاقتصاد في هذه البلاد، بحيث تحققان هذا الهدف وباستخدام إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية أصبحت أجزاء الوطن العربي تشعر بعوامل التباين التي تميزها في ما بينها أكثر من شعورها بعوامل التوحيد التي تجمعها وتضمها([177]).

لهذا يشار عادة إلى أن ولادة الدولة القطرية كانت مشوهة مغتربة عن مجتمعاتها، تسعى لتحقيق شرعيتها التي تتعرض لمنافسة مفاهيم تناقضها، والنتيجة أن ترسخت بفعل هذه العوامل عناصر المنظومة العربية([178]). وبدت آنذاك متأثرة وبشكل كبير بظروف الحقبة الاستعمارية وتصرفات المستعمر فتأثرت عملية تظهير الدولة القطرية ورسم حدودها وطبيعتها وهوية النخب السياسية بهذه الظروف. ويرى إيليا حريق إن الاستعمار أثر في المجتمعات العربية من وجهتين([179]):

  • تنشيط المركزية الإدارية إذ ساعد الاستعمار من حيث لا يدري في إحداث قومية البلد– الدولة حين أصر على تكوين هيكل إداري مركزي، فوجهت السلطة المركزية فيها الاهتمام عند الناس نحو المراكز مما ساعد على ربط هويتهم السياسية والقومية بالدولة.
  • الناحية الاقتصادية: اضعف نفوذ دول المغرب العربي وقضى على مقومات عُمان الاقتصادية، وأدى ازدهار التجارة الخارجية وتزايد التعامل بالنقود إلى تراجع الصناعة والحرف المحلية وتنشيط الزراعة وبخاصة تلك التي تتمتع بطلب خارجي، ومع تزايد التعامل بالنقود حدثت أزمة مالية نتيجة افتقار الدولة إلى المسؤولية المالية والفهم بالتعامل الدولي بها، فقد تمادى الحكام في الإسراف وتكاثرت المديونية مما اضعف استقلال الدولة وأخضعها للاستعمار الأوروبي وهو أمر حصل على نطاق واسع من إيران إلى السلطنة العثمانية إلى مصر في عهد إسماعيل، وإلى تونس في عهد محمد باي.

هناك في الوطن العربي اثنان وعشرون كيانا تتسمى باسم (( دولة )) تدعي أنها ذات سيادة، انضمت إلى جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وما أمكنها من المنظمات الدولية. بعضها وجد تاريخيا بحدوده المعروفة اليوم، وكان فيها سلطات سياسية مركزية تقترب من أن تكون دولة، وبعضها الآخر اكتسب وجوده الجغرافي- السياسي القانوني الحالي بفعل الإرادة الاستعمارية التي لم تسعفها مطلقا، فقد راعت أن يقوم كل كيان حول نواة تدعي الصلابة.

لقد اقتضت الضرورة التاريخية تشكل الدولة في الفضاء العربي، هذه الضرورة التي بدأت مع مطالب التحرر من الاستعمار في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية، أضعف من أن تقود الثورة التحررية، حيث كانت العواصم العربية أقرب إلى مدن داخلية تبدأ خطواتها للارتباط بالاقتصاد العالمي، والتخلف يضرب بأطنابه كل جوانب الحياة والبناء الاقتصادي يسيطر عليه النسق الزراعي– التجاري المعتمد على الاستغلال الفاحش لفلاحين تعساء، أما الطبقات الغنية فهي إما من أصول أجنبية، أو مرتبطة بالمصالح الغربية أوثق ارتباط([180]). وهنا بالضبط، تجذرت أولا مظاهر اختلال العلاقة بين الدولة والمجتمع والتي ترجع إلى سرعة توطيد هياكل الدولة القطرية ومؤسساتها مقارنة بمؤسسات المجتمع المدني وتبلوره كعملية اجتماعية– اقتصادية– ثقافية، وأيضا شمولية الدولة القطرية واضطلاعها بوظائف عديدة ومتنوعة بأكثر مما عرفته المجتمعات الأخرى.

أزمة البناء المؤسسي للدولة

إذا فقد عكست ولادة الدولة في الوطن العربي عناصر أزمة بنيوية أو تكاد، بسبب تناقضها مع التاريخ الذي كان يفترض التوحد. ومع الولادة المشوهة والقيصرية وجدت الدولة نفسها فجأة أمام مهام جسام، مثلها مثل كل (( دولة وليدة )) في العالم الثالث كان عليها أن تشرع في عملية بناء مؤسسات حديثة لتكريس الدولة الجديدة ومن ثم إطلاق تنمية اقتصادية واجتماعية تتجاوز مهمة إشباع الحاجات الأساسية لأبناء المجتمع بل لتلبية كافة طموحات وآمال الفئات التي ناضلت من أجل الاستقلال. ويشير البعض إلى أنه وفي صبيحة الاستقلال السياسي كان هناك بالفعل جهاز إداري في كل الأقطار العربية تقريبا ورثته إما من الحقبة العثمانية (الهلال الخصيب) أو الحقبة المخزنية (بلاد المغرب العربي) أو من الحقبة الاستعمارية (الخليج العربي). هذا الجهاز الذي شكل النواة المؤسسية لعملية بناء الدولة الوطنية في العقود التالية للاستقلال، كان جهازا هجينا مختلطا يحمل بصمات المجتمع التقليدي، بقدر ما يحمل بصمات التنظيمات الإصلاحية السابقة للحقبة الاستعمارية مباشرة، وبقدر ما يحمل من بصمات الحقبة الاستعمارية نفسها. فجاءت عملية بناء مؤسسات الدولة القطرية لتكريس بقاء وصمود الدولة نفسها خارجيا وداخليا، ولتضفي عليها شرعية واقعية في مواجهة الآخرين، وفي مواجهة مواطنيها([181]). لكن جرى توسيع انتقائي في موروثات الجهاز الإداري، لتستمر بشكل نهائي قوانين الحقبة الاستعمارية وتنظيماتها مع بعض التعديلات التي اقتضتها ظروف الاستقلال. لأن القوانين التي خلقتها الإدارة الاستعمارية كانت (( الأحدث )) من الناحية الموضوعية، وكانت الأقرب عهدا صبيحة الاستقلال([182]).

قريبا من هذا، يؤكد محمد جابر الأنصاري أن قيام (( مشروع الدولة القطرية أصلا… لسد فراغ سياسي وسلطوي ومؤسساتي وإداري بيروقراطي، ولم تكن هناك غير الزعامات المحلية التقليدية المشخصة وبقايا التركة البيروقراطية العثمانية في بعض الحالات، دون وجود ركائز تذكر لدولة فاعلة (ربما عدا دولة المخزن في المغرب والإدارة الحكومية القديمة في مصر). لذلك فلقد باشرت الدولة القطرية، أولا، إقامة حكومتها وإدارتها وجيشها قبل أن تنتقل إلى ترسيخ مؤسسات الدولة الأخرى من مجالس وهيئات وتنظيمات، أي أنها بدأت بطبيعة الحال بالحكومة (السلطة) قبل الدولة. وما زالت عملية تأسيس الدولة مستمرة بدرجة أو بأخرى بين أقطار سبقت تاريخيا، وأخرى لحقت به مؤخرا. ولا بد من انتظار نضج معظم هذه السلسلة من التجارب القطرية في بناء الدولة. وتبقى السلسلة محكومة بأضعف حلقاتها. فقد ثبت من التجربة أن (( أقوى )) هذه الحلقات، هي الدولة المصرية، لم تستطع إنجاز المشروع الوحدوي بمفردها لأن الحلقات الأخرى في السلسلة لم تكتمل بعد ))([183]). وهو ما قد يعود إلى البعد الاستراتيجي في النضال التحرري العربي الذي لم يكن يحمل في جميع أجنحته مشروع مجتمع أو مشروع بناء دولة، فمطلبه كان ينتهي عند المطالبة بالاستقلال السياسي وهو ما ينطبق بشكل خاص على بلدان المغرب العربي([184]).

وطبقا لهذا الرأي ما تزال الدولة تمثل (( مشروع دولة )) ولم تصل بعد، إجمالا، إلى مرحلة الدولة المكتملة النضج والتكوين من حيث مؤسساتها وتقاليدها ونظمها، وان إكمال بناء الدولة يمر عبر عملية نمو (( لا يمكن حرقها))([185]). لكنها– أي الدولة– عمدت إلى عملية بناء مؤسساتها على عجل وعلى وفق أولويات ومتطلبات خاصة بكل دولة وبنوعية النخب التي حكمتها، لكنها كانت مستعجلة وان بدت متدرجة. وقد حظيت عملية بناء مؤسسات الدولة بأهمية خاصة وهي لا تزال أداة رئيسة لفرض هيمنة الدولة والنظام الحاكم وبسط نفوذهما على كل الجهات والجماعات وكلما اشتد ساعد الدولة القطرية توسعت في وظائفها وخلقت مؤسسات جديدة لهذه الوظائف. ومع تقدم البناء المؤسسي لهذه الدولة، ازدادت قدرتها تدريجيا على السيطرة على معظم نواحي الحياة في المجتمع والهيمنة عليها وعلى كل جهات الوطن القطري جغرافيا([186]). ويجمل سعد الدين إبراهيم مسيرة بناء مؤسسات الدولة القطرية في الوطن العربي بمراحل ثلاث هي([187]):

المرحلة الأولى: بناء المؤسسات السيادية وتشمل المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية ومؤسسات التمثيل الدبلوماسي الخارجي وشركات الطيران وبعض المؤسسات المالية (صناديق تنموية لتقديم المساعدات المالية للدول الأخرى).

المرحلة الثانية: بناء المؤسسات الخدمية، وتشمل المؤسسات التعليمية والصحية والبلدية.

المرحلة الثالثة: بناء المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية.

نلاحظ إن المرحلة الثالثة تمثل نقلة كيفية في عملية بناء مؤسسات الدولة القطرية بعد الاستقلال حيث دخلت الدولة في المجال الاقتصادي بقوة بعدما كان الاقتصاد متروكا لنشاط القطاع الخاص المحلي والأجنبي. سعت الدولة إلى تأسيس قطاعها العام بالاعتماد على وسائل عديدة من بينها تأميم الشركات الأجنبية والوطنية الكبيرة ونقل ملكيتها إليها. فضلا عن سعيها إلى إقامة مشروعات اقتصادية ضخمة. ومع مرور الوقت وبحسب طبيعة التجربة التي خاضتها الدولة، أصبح القطاع العام هو المهيمن على مجمل الاقتصاد الوطني، والمستوعب لمعظم العمالة، وأداة فاعلة تستخدمها الدولة لتوجيه النشاط الاقتصادي والتأثير في بنية النظام الاقتصادي– الاجتماعي– السياسي. وهي نتيجة تصدق في جميع الأقطار العربية على اختلاف الفلسفات الاقتصادية المعلنة.

الحقيقة أن مشكلة بناء الدولة الوطنية الحديثة ما تزال تطرح على مجموعة من الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي. ففي معظم أقطار الوطن العربي كانت المشكلة مطروحة رغم أنها شهدت محاولات عديدة لإرساء دعائم الدولة الوطنية وتجسير الفجوة والجفوة بين المجتمع والدولة وتسيير المؤسسات وفق تمثيل شرعي يقوم على قاعدة المشاركة العادلة في السلطة وفي صناعة القرار الاقتصادي وفي بناء واستكمال بناء الدولة والاقتصاد والمجتمع المدني. مع ذلك فإننا نجد في الوطن العربي، صورة فريدة لتحول المؤسسات العسكرية إلى أجهزة بيروقراطية تلعب دورا حاسما في الحفاظ على النظام السياسي، وتشارك فئات منها في إدارة الاقتصاد المحلي بشكل سافر أو عبر أفراد من العائلة. وباتت المؤسسة العسكرية في كثير من الأقطار العربية تتصرف كجماعة متماسكة تدافع عن مصالح المنتسبين إليها ويقيم قادتها تحالفا وثيقا مع رجال المال والأعمال، وتلعب دورا أساسيا في حماية القوى الاقتصادية الصاعدة فتؤمن لها الحماية مقابل المشاركة في الأرباح. ويشير عدد من الاقتصاديين العرب إلى وجود ضغط مباشر مارسته القوى العسكرية لرسم سياسات اقتصادية جديدة قامت على بيع القطاع العام للقطاع الخاص([188]). لكن الجيوش العربية أبعد ما تكون عن أداء وظيفة الأمن الوطني والقومي إذ ما تزال وظيفتها تقوم على الحفاظ أمن الحكام وليست النهوض بالتنمية الاقتصادية.

أزمة الممارسة الاقتصادية

في مطلع القرن الماضي، بدأت الدول العربية الناشئة العمل في ظل نظم اقتصادية متخلفة تفتقر إلى قواعد صناعية وتهيمن عليها المنتجات الزراعية. وبصرف النظر عن مصانع الغذاء والصناعات النسيجية أصبح معظم الاقتصاد المديني العربي يزداد اعتمادا على السياسات الحكومية والتوظيف في دوائر الدولة، ونادرا ما تكون هذه في المتناول أو تتيح مجالا للإبداع. وزاد من تدني معدل التنمية الاقتصادية تدفق المهاجرين من الريف إلى المدن الكبرى (القاهرة، بغداد، الرياض…) بحثا عن العمل أو سعيا لتحسين ظروف المعيشة([189]).

إن ما ندافع عنه هنا، أن للسياسة الاقتصادية في أقطار الوطن العربي أولوية لا تخطئوها العين، فإنشاء الدولة أو تكريسها أو اصطناعها قد أثر في بنية المجتمع والاقتصاد معا. ففي أقطار كمصر والعراق وسوريا عملت الدولة بوصفها محورا لتنافس الفئات الاجتماعية على فتح مجالات الارتقاء الطبقي لفئات وجدت في سيطرتها على الدولة مجالا للإثراء، كما أثرت الدولة في الأقطار الثلاثة على الريف والمدينة. وبعد تبنيها النهج الاشتراكي لعبت الدولة دورا واضحا في تنظيم بنية المجتمع الاقتصادية من خلال إعلانها عن نظم الإصلاح الزراعي الجديدة، وقرارات التأميم، وتبني سياسات شعبوية بالإجمال([190])، وتستهدف تطويرا ملحوظا في بناء علاقة متجددة بين الفلاح والأرض وزيادة نسبة العاملين في الصناعة وارتفاعا في معدلات نمو الناتج المحلي، وأيضا نموا ملحوظا في الجهاز الحكومي، وارتفاعا في نسبة مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي.

فبالنسبة لمصر بعد الحملة الفرنسية فقد غلبت الروح الوطنية الروح القومية ونجح محمد علي (1769–1849) في تأسيس دولة مركزية قوية وفق النموذج الأوروبي كان يحلم بأنها ستتجاوز الحدود المصرية، دون أن يكون المشروع القومي ضمن اهتمامات هذه الدولة. ومنذ ذلك الحين والتاريخ المصري يتحرك من تجربة إلى أخرى جميعها حملت في طياتها بذور وعوامل فنائها، وجميعها انتهى في مدد زمنية لا تتجاوز العقود الثلاثة. فتجربة محمد علي كانت على حساب المجتمع فكانت بمثابة نقطة التحول في التاريخ المصري، بل والعربي الذي شهد لأول مرة دولة متدخلة تسلب المجتمع معظم صلاحياته ودوره وقوته، حين تم تجريد المجتمع من مواطن قوته بالقضاء على قوة المماليك، واستقلال الأعيان، والتجار، والأشراف، وإلغاء مؤسسة الحسبة، ووضع يد الدولة على الأراضي الزراعية، وتهميش الأزهر، وتحويل الدولة إلى صانع وزارع وتاجر بعد أن كانت دولة قريبة من نموذج (( الدولة الحارسة )). هذه التجربة التي انتهت بإضعاف المجتمع والدولة معا، ورغم أن هزيمتها كانت عسكرية، إلا أن انهيارها يثبت أنها تجربة فوقية ركزت على بناء مجموعة من المؤسسات السياسية لم يتفاعل معها إلا أفراد النخبة، ومجموعة من المؤسسات التعليمية لم تتجاوز حدود العاصمة، أما باقي المجتمع فلم ير فيها إلا نوعا من طغيان الدولة على حسابه وتدخلها لسلب حرية حركته وتعديها على فضائه الإنساني([191]). وفي مرحلة تالية من حكم عباس باشا وسعيد باشا وإسماعيل باشا تم السعي لإحداث تنمية معتمدة على الخارج تعلي دور رأس المال الأجنبي وتستند بصفة أساسية إلى القروض الأجنبية، وتركز على الاستهلاك أكثر من الإنتاج، وعلى مؤسسات الترفيه أكثر من البنية الأساسية، لتنتهي التجربة بهزيمة عسكرية أخرى عام 1948([192]).

لكن المسألة كانت مختلفة في الجزائر حيث اختيرت الاشتراكية المعتمدة على استلهام تجربة التسيير الذاتي اليوغسلافية كمنهج للممارسة الاقتصادية فيها فعمدت الدولة إلى تأسيس شركات وطنية عامة ودعمت القطاع العام بتأميم القطاع الصناعي والمالي والمناجم بما فيها المحروقات. فتمثلت أهم مظاهر اشتراكية الدولة في مركزية النظام الاقتصادي في الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وللأرض وفي آليات القرار التي تخص التوزيع القطاعي للاستثمار وتمويلها وتنظيم إنتاج السلع والخدمات، بالإضافة إلى تسويق المنتجات الوطنية والمستوردة مع احتكار الواردات الممنوحة للشركات الوطنية. هذا النوع من الاشتراكية افرز ظهور طبقة المسيّرين التي تمتلك سلطة اقتصادية ضخمة بفضل مراقبة الدولة التي تمارسها الشركات العامة والوزارات الاقتصادية، وهو ما تسبب في بيروقراطية الاقتصاد، وأدى إلى أزمة تسيير من قبل الدولة يمكن ملاحظتها من خلال مظاهر الفساد التي أصابت مؤسسات القطاع العام بالشلل والاختناق خلال السبعينات والثمانينات. وما أن جاء العقد التسعيني حتى انهار النظام مع النجاح المسجل في الساحة السياسية للتيار الإسلامي الذي وضع حدا بصورة نهائية لاشتراكية حولت لأغراض سياسية ولصالح امتيازات شخصية لطبقة مغضوب عليها شعبيا، وهي الطبقة نفسها التي بقيت متمسكة بالسلطة بعد انقلاب كانون الثاني/ يناير 1992 محافظة على امتيازاتها ومعادية للنظام الديمقراطي والحريات العامة. ولكنها غيرت وجهتها الإيديولوجية بتبني الليبرالية وبرامج صندوق النقد الدولي كي تنفتح أكثر([193]). أما ليبيا وتونس فانهما ابتدءا ليبراليين وتحولا نحو الاشتراكية ثم تراجعا عنها (( فبين عام 1951، تاريخ استقلال ليبيا، وأول أيلول / سبتمبر 1969، تاريخ وصول العقيد القذافي إلى السلطة، كان الاقتصاد الليبي تحت مراقبة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وايطاليا ))([194]). وقد تبنى القذافي الاشتراكية عام 1973 ولكنه ومنذ عام 1987 شرع بانتهاج سياسة انفتاحية. أما تونس فقد اختار بو رقيبة الليبرالية، إلا إن توجيه الدولة التدريجي للاقتصاد التونسي في بداية الستينات أدى إلى تغيير الاتجاه، وتكرست الاشتراكية بالاستعانة بأحمد بن صالح الأمين العام السابق للاتحاد العام للعمال التونسيين القوى. لكن تفاقم المشكلات الاقتصادية دفع بو رقيبة للاستغناء عن ابن صالح في أيلول/ سبتمبر عام 1969 ليعود إلى السياسة الليبرالية([195]).

أما موريتانيا فإنها تعد (( حالة خاصة )) فقد أصبح النظام الموريتاني ذا طبيعة ليبرالية، وقد كان المجتمع الموريتاني مجتمعا ريفيا، والاقتصاد كان بدائيا سيطر عليه القطاع الخاص إلى جانب راس المال الأجنبي الذي سيطر على إنتاج وتصدير الحديد حتى نهاية السبعينات. وقد أكدت عسكرة السلطة بين عامي 1978 و 1995 الاختيار الرأسمالي وجسدت انحرافات أعوان الدولة والقطاع العام. والنتيجة أن الدولة لم تفلح في إقامة مجتمع مبني على العدالة الاجتماعية والمصلحة العامة وتسيير الاقتصاد والإدارة في شفافية([196]).

كانت عائدات النفط في دول الخليج قد سمحت للدولة بانتهاج سياسات اقتصادية تغّييرية، بأكثر مما فعلت سابقتها، إذ تمكنت بفضل تلك العائدات من نقل المجتمع من مجتمع كفائي بدوي إلى مجتمع استهلاكي في إطار مفهوم الدولة الريعية([197]). لقد نجحت الدول في الخليج العربي في نقل مجتمعاتها وعلى نحو عاجل وسريع من اقتصادات الكفاف– الرعي والصيد– بكل ما يجسده ذلك من بساطة في نمط ووسائل الإنتاج إلى اقتصاد النفط بكل ما يمثله من تعقد تقاني وتكثيف رأسمالي. وفي كلا الحالين ظلت القاعدة الإنتاجية قاعدة أحادية غير متنوعة. هذه القفزة من نشاط اقتصادي واحد بسيط إلى نشاط واحد ولكنه معقد تقانيا ومكثف رأسماليا، لم تعط المجتمع في هذه الدول فرصة تاريخية كافية لتطوير وبلورة تكويناته الاجتماعية– الاقتصادية من تكوينات قبلية وعشائرية إلى تكوينات مهنية وطبقية تصاحب الثورة المفاجئة في القاعدة الإنتاجية وتلائمها. فقد ظلت التكوينات، والى حد كبير، قبلية وعشائرية في محتواها وقيمها وسلوكها، على رغم كل الاغلفة البيروقراطية والعمرانية والاستهلاكية([198]). إن ذلك كله انعكس على عملية البناء المؤسسي ومحتواه وكوادره البشرية. فقد اعتمدت هذه العملية على كوادر بشرية من الخارج وعلى تقانات ومعدات وأنظمة معلومات من الخارج. وكانت النتيجة هي ضعف هذه المؤسسات الحديثة، فلا العدد المطلق للسكان، ولا النوعية المعينة، ولا التكوينات الاجتماعية لهؤلاء السكان تتيح البناء البشري الصلب لمؤسسات وطنية حديثة حتى ولو تم تشييد هـذه المؤسسات ماديا وتنظيميا([199]). ومـرة أخرى كانت عملية بناء مـا اصطلح على تسميته (( رأسمالية الدولة )) فرصة للبناء كان لها تأثير على التكوينات الاجتماعية والأبنية الطبقية إذ انتجت بزوغ رأسمالية طفيلية، وأخرى للنهب. تنشط الأولى في قطاع الإنتاج وميدان العمل الاقتصادي. أما الثانية فقد وجدت الميدان السياسي وسيلة للكسب الاقتصادي. أما على صعيد البناء نفسه فقد أدت رأسمالية الدولة الى خلق ازدواجية (تقدم– تخلف) في داخل البلد. فهناك دولة متقدمة للغاية تتعامل مع اقتصاد متخلف. وحتى عندما تقدمت الدولة نحو تبني سياسات الليبرالية الجديدة على المستوى الاقتصادي فقد حافظت الدولة على أدوات القمع السياسي واحتفظت لنفسها بالكلمة الفصل في أمور السياسة ولم تسمح باعتبار الدولة ميدان صراع وتنافس وان حدث صراع فلم يكن ليخرج عن إطار الأسرة الحاكمة أو النخبة المسيطرة أو الحزب الواحد.

في الخليج العربي طرح اختيار الدولة على المجتمعات الخليجية، وباتت هذه المجتمعات تتطلع إلى تحقيق (( وعد الدولة )) وتجاوز (( القبيلة )) تمهيدا لإعادة تأطير العلاقات الاجتماعية من منطق الدولة ومشروطاتها لأن ظروف ما بعد النفط شهدت ولادة مستجدات لم يعرفها المجتمع الخليجي سابقا كالاستقلال الاقتصادي للأفراد وظهور قيم معيشية جديدة فرضتها ظروف المجتمع المتغير([200]). ومع رياح التغيير التي جلبها اكتشاف النفط وإنتاجه بكميات كبيرة جعلت من اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي بين أعظم المنظومات الدولية اقتصادية بما يمتلكون من احتياطي نفطي وموارد مالية ضخمة عملت، على تقطيع صلات الكيانات الناشئة، والتي تسمت باسم الدولة في الماضي في جوانب الممارسة السياسية والاقتصادية، وعملت خلال سنوات قياسية على تدعيم أسس بناء الدولة وإنجاز عمليات بناء نموذج الدولة الحديثة فتمكنت من جعل أجهزتها الإدارية أدوات سياسية واقتصادية وأيديولوجية فعالة. وهو أمر أربك الفرد الخليجي ووضعه في خانة الاستجابة السلبية لما تقدمه الدولة الخليجية أو تتيحه له للاستهلاك من دون أن يطرح هذا الفرد نفسه بوصفه فردا أو عضوا في المجتمع، يمارس دور الرقابة الذي يوازن به دور الدولة الفاعل في العملية السياسية، وإنما اكتفى بما رسمته له من دور هو في الغالب رأسمالي– استهلاكي.

يقدم خلدون النقيب رواية مميزة لتدخل الدولة الواسع النطاق في الاقتصاد والمجتمع، والذي خلق مفارقة تاريخية لم تحل حتى الآن، مفادها: إن تدخل الدولة الواسع أملته ضرورات التنمية جراء ضعف القطاع الخاص في توفير الاستثمار اللازم من جهة، وضرورة حماية موارد المجتمع من الاستباحة الإمبريالية من جهة أخرى. وكلما ازداد تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع المدني زاد تسلطها من حيث كونها مؤسسة تحمي الوضع القائم، وبخاصة في ظل غياب الضمانات الدستورية والرقابة الشعبية. ويؤكد النقيب أن هذا التعاظم في تدخل الدولة لم يؤد إلى الاشتراكية، وإنما إلى رأسمالية الدولة التابعة. وهو نظام تلعب الدولة فيه دور الرأسمالي الفرد، ويتبع قيام رأسمالية الدولة التابعة ركود اقتصادي واجتماعي وحضاري([201]).

إن الدولة القطرية عندما فرضت نفسها على الساحة في إطار ما أطلق عليه الاحتكار الفعال لمصادر السلطة والقوة في المجتمع وسعيها لتأكيد حضورها في المجال الاقتصادي عمدت إلى مسايرة توجهين: الأول، التزامها ببقرطة الاقتصاد وتوسيع ميادين تدخلها الاقتصادي وزيادة حجم القطاع العام، أما التوجه الثاني، فهو الاستمرار في عملية بناء الدولة والاقتصاد. وإذا ما عدنا إلى حقيقة أن الدولة في الوطن العربي أدامت تضخمها البيروقراطي إلى المدى الذي لم يكن يقتصر على أولئك العاملين فيها ليشمل فئات أخرى واسعة من السكان تعتمد بطريقة أو بأخرى على قطاع الدولة ويشمل هؤلاء([202]):

  1. العاملون في القطاع الخاص .
  2. الموظفون في صناعات وأعمال تعتمد بشكل رئيس على مقاولات الحكومة والتوريد لأجهزتها ومؤسساتها.
  3. الذين يعملون لحسابهم ولكنهم يعتمدون على مقاولات وأعمال للجهاز الحكومي والقطاع العام، ويعتمدون على المرافق والمنشآت التي يوفرها قطاع الدولة لهم
  4. الذين يعتمدون في معاشهم أو أعمالهم على خدمات تقدمها الدولة كالمتقاعدين ومستحقي الإعانات الحكومية.
  5. الذين يستفيدون من خدمات الحكومة المجانية أو شبه المجانية كالمرضى والطلبة والمستفيدين من الطرق والمواصلات والكهرباء والماء.

إن جميع هؤلاء مضافا إليهم بيروقراطية الدولة وموظفو الحكومة والقطاع العام، يرتبط بعضهم بالبعض الآخر عن طريق موازنة الدولة، ويتأثرون تأثرا مباشرا بالتغيرات التي تطرأ على السياسة المالية للدولة([203]). كما أن دخول الدولة ميادين إنتاجية جديدة مع بقاء العلاقات الرأسمالية من دون تغيير أساس يطرح العديد من الإشكاليات، أهمها ما أطلق عليه جيمس أوونورJames O’Connor الأزمة المالية Fiscal Crisis  التي تنبع من التناقض بين وظيفة الدولة الجديدة في إحداث التراكم الرأسمالي وتوفير الفائض الاجتماعي، وبين وظيفتها التقليدية في الإنفاق العام والاستثمار في الخدمات العامة، مما يقود إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهي الفكرة التي يطرحها في إطار الرؤية الماركسية الجديدة حول الاعتماد المتبادل بين رأس المال الاحتكاري والدولة المالية)[204](.

لقد عمدت الدول العربية النفطية وغير النفطية إلى الركون إلى تبني خطط شمولية لا تعتمد القطاع العام بشكل أساس كما في المرحلة التي تلت الاستقلال السياسي، فأعادت النظر في أسس تكوين هذا القطاع عن طريق إرجاع الكثير من الملكيات المصادرة بموجب قرارات التأميم والإصلاح الزراعي إلى الورثة من أصحابها. وأطلق على هذا المسار في الأقطار التي كانت تعتمد النهج الاشتراكي اسم (( سياسة الانفتاح الاقتصادي)) وهي السياسة التي قادت إلى نشوء قطاع خاص طفيلي انتفع من سياسة الانفتاح وإعادة الملكية.

منذ مطلع الثمانينات تبنت دول عديدة سياسات الانفتاح الاقتصادي المستندة إلى قوى السوق، وانضمت حتى الدول المحافظة في الخليج والدول ذات التوجه الاشتراكي إلى هذه الممارسة بحيث قلصت ملكية الدولة وإدارة العمل والشركات الصناعية. وباتت قوى السوق الشعار الأكثر رواجا في أنحاء الوطن العربي، وأظهرت ببطء تشجيع الاستثمار الأجنبي وتخفيف القيود التجارية وتبني برامج الخصخصة وأعتبرت تحرير الاقتصاد مكملا ومعززا لعملية الانفتاح فجرى التوسع في إدماج الإقتصادات المحلية بالسوق العالمي، وأصبحت مصر والسعودية والجزائر وتونس والعراق وسوريا والأردن تكاد تتخذ السياسيات نفسها التي يمكن اعتبارها بمثابة نزعة انفتاحية أصيبت بها الدول العربية جميعا.

ففي العراق مثلا بدأت بوادر الانفتاح أولا في القطاع الزراعي فبدأت المزارع الجماعية بالاختفاء وتضاءل عدد التعاونيات بشكل حاد، ودفعت الزراعة نحو القطاع الخاص بحجة أن إنتاجية القطاع العام كانت متدنية وغير قابلة للتطور. وفي المجال الصناعي كان التطور أكثر تدرجا نحو السياسات الانفتاحية، حيث ساهمت الدولة في تشجيع القطاع الصناعي الخاص من خلال تموينه بمنتجات القطاع العام بأسعار تفضيلية والقروض ذات الفوائد المتدنية وإعفاءات واسعة من الجمارك وضريبة الدخل. فضلا عن حزمة متنوعة من السياسات ساهمت برفع عدد المشاريع الصناعية الخاصة إلى حوالي خمسين ألفا عام 1981. وقد عجلت السلطة العراقية هذا التطور في اتجاه نمو القطاع الخاص باستثناء القطاع التجاري الذي كان على الأرجح أولى ضحايا سياسات التقشف بسبب ظروف الحرب العراقية– الإيرانية([205]). ثم أضيفت جميع قطاعات الاقتصاد العراقي الى قائمة ضحايا الحرب الطويلة وإهمال الحكومة الكبير للاقتصاد وتجنبها معالجة مشكلاته المتفاقمة. وفي ظل ظروف الحصار الاقتصادي (1990–2003) تبنت الدولة سياسة انفتاحية رغم أن الخارج هو من أغلق في وجهها، مع ذلك نجد أن دور القطاع الخاص كان بارزا في المجالات الثلاثة (الزراعة والصناعة والتجارة)، واليه يعود جزء لا بأس به من الفضل في تجاوز الأزمة رغم أخطاء السياسة الاقتصادية واستبداد الدولة والنخبة الحاكمة وإقدامها على (إعدام) بعض من كبار التجار بدعوى تلاعبهم بالسوق الوطني.

أما في الأردن، حيث الاقتصاد تابع بشكل مطلق على الخارج، وتكاد تنحصر وظيفة الدولة الأساسية في العمل على استمرار هذا الدعم أو تقويته من خلال العمل الدبلوماسي، أو من خلال التحالفات الإقليمية، ومن خلال أعمال أخرى كمساعدة الدول النفطية([206]). أو من دوره الذي لعبه طوال 23 عاما كباب للاتصال العراقي بالخارج بعد إقفال الموانئ العراقية على الخليج أو بعد فرض العقوبات اثر غزو الكويت وبقاء الحدود الأردنية هي المعبر الوحيد للعراق. هذا الوضع هيأ للأردن إمكانية الحصول على إيرادات مهمة.

ويؤكد غسان سلامة على إن السلطة السياسية في الأردن التي يرتبط الرخاء الاقتصادي باستقرارها كانت مرغمة على لعب دور اقتصادي انشط لضبط عملية استتباع دول النفط للأردن بعد ارتفاع أسعار النفط عام 1973، لذا دخلت الدولة ميدان التخطيط ولو الجزئي للتنمية، بحيث تمكنت الدولة من أن تكون مؤثرة بعض الشيء حتى في مرحلة انخفاض حجم الفيض المالي([207]). لكن هذه الصورة تغيرت مع حربي الخليج الأولى والثانية والثالثة، فأنتجت الأولى بالنسبة للأردن تراجعا بيّنا عن طموحاته التنموية، بينما دفعته الثانية الى مزيد من التكييف بمساعدة صندوق النقد الدولي واللجوء إلى تعديل برامج الصندوق المطبقة فيه لتمتد من عام 1992 إلى عام 1998، في حين إن اتجاه وأثر الحرب الثالثة لا يبدو واضحا الآن رغم إن الاستنتاج قد يصح بتفاقم مشكلات الاقتصاد الأردني بعد خسارة موارد مالية ونفطية مهمة كان يحصل عليها في ظل الوضع السابق. وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن أزمة الممارسة الاقتصادية للدولة في الأردن تعقدها افتقارها للمقومات الاقتصادية التي تديمها كدولة([208])، ومع ذلك نجحت هذه الدولة في نقل عبء الأزمة إلى مستوى أعلى يتمثل في تأمين مصادر الدخل الخارجية (دعم الموازنة ومساعدات فنية واقتصادية وقروض إنمائية ومساعدات عربية وأجنبية) لكن إلى أي مدى يمكن للدولة أن تنجح في أداء مهمتها ؟ والى أي مدى يمكن أن تؤثر فيه الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن حرب الخليج الثالثة 2003 في علاقة الاستتباع التي تحاول الدولة إدامتها.

لكن سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة لا تؤدي إلى خلق اقتصاد رأسمالي حقيقي، وإنما إلى مجرد محاولة لكسر حالة الركود والطرق المسدودة المؤدية إلى التسلطية([209]).

أما في ما يتعلق بعلاقة أزمة الممارسة الاقتصادية بالتحولات الاجتماعية التي أفرزتها التوجهات والسياسات الاقتصادية وخطط التنمية الاقتصادية التي اعتمدتها الأقطار العربية. فالدولة في معظم الأقطار العربية (( قد وسعت أغراضها ووظائفها وقواها، وبخاصة في المجال الاقتصادي، وبالتالي فيما يتعلق بتشكيل البناء الطبقي للتكوين الاجتماعي في كل منها. وقد صارت الدول في أقطار المشرق العربي غاية في المركزية، وشمولية تماما، وعالية الكفاءة بما يمكنها من تدبر الأمر لتحييد كل المعارضة المنظمة، وتعبئة التأييد لها من قطاعات كبيرة من الجماهير التي تستفيد من سياساتها، وان كان بدرجات متفاوتة. وهذا هو واقع الحال، على الرغم من حقيقة أن القاعدة الاجتماعية لهذه الأنظمة ضيقة، أو محصورة في شريحة عشائرية، أو عرقية، أو اقتصادية. وهذه الظاهرة يمكن التعبير عنها في إيجاز شديد بالمفهوم التالي: دولنة المجتمعات العربية وزيادة خصوصية الدولة ))([210]). ففي الجزائر، على سبيل المثال، نجد أن تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية لم يتم بصفة شاملة ومتسقة على المدى المتوسط والبعيد، لكنه كان خاضعا لضغوطات ظرفية مختلفة الأشكال([211]). إذا كان ذلك صحيحا في حقبة التدخل الواسع الذي شهدته الأقطار العربية للدولة، فإلى أي مدى يكون به الأمر صحيحا في الوقت الحاضر وما تنتهجه الدولة من سياسات انفتاحية ؟ إن بناء الدولة ما يزال واسعا وبما يفوق حجم المجتمع، وقدرة المجتمع المدني على التعاطي معه، كما أن سياسات الإكراه والاصطفاء ما تزال فاعلة على الرغم من لبرلة الاقتصاد، واحتمالات حدوث تغيرات عميقة وجذرية في النظام. إن اختلاف صور الممارسة مع وحدة نتائجها يمكنه أن يعيد إنتاج نمط العلاقة القائمة بين الدولة وتكويناتها الاجتماعية وبناها الطبقية وان كان على وفق آليات جديدة أكثر تلاؤما مع واقع الممارسة الاقتصادية ووظيفة الدولة التي باتت أكثر ابتعادا عن مجالات الإنتاج المباشر. كما أن التطور الطبقي لا يسير باتجاه تكون طبقة رأسمالية مقتدرة تتكامل مع راس المال العالمي، بل إن وضعها الطفيلي والمعتمد على الدولة وتبعيتها وكومبرادوريتها أمور تؤيد عجزها عن التأثير في الدولة.

لعل أبرز أسباب أزمة الممارسة الاقتصادية للدولة في الوطن العربي هو اعتماد الدولة منطقا مزدوجا من الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاقتصادية، فهي كما يصفها غسان سلامة كالإله الإغريقي جانوس تبني الدولة الحديثة، وتشيد المؤسسات، وتحمي القطاع العام، وتقوي المؤسسة العسكرية، وتدافع عن الوطن، وتسعى إلى تحقيق الديمقراطية، وتقوم لذلك بأعمال وتتخذ مبادرات عديدة مقنعة، لكنها أيضا، وفي الوقت نفسه، لا سيما عندما يدهمها خطر انزلاق السلطة من بين أيديها، تعود فتنكفئ على ذاتها، وتضرب من حولها ذات اليمين وذات اليسار فتستغل مؤسسات الدولة حتى تعريضها للخطر، وتركب حصان العسكر للدفاع عن نفسها لا عن طريق الوطن، وتعيث فسادا في الاقتصاد باستيلائها على وسائل تخريبية وبتشجيعها السوق السوداء، وتقضي على منافسيها من أبناء الوطن([212]). فأولوية السياسة يقابلها هامشية الاعتبارات الاقتصادية في القرارات المتخذة ولعل حالة العراق تمثل صورة فريدة لهذه الأولوية طوال ربع قرن (1979–2003).

تحدثنا في ما سبق عن نوع من العقد الضمني بين الدولة والمجتمع وبخاصة الفئات الثرية فيه، تقضي بابتعاد هذه الفئات عن السياسة لصالح تقديم الدولة الثروة لمجتمعها، أو تقديم منافع لهم من الخلال السماح بدخولهم قطاع الأعمال الذي يتم من خلال العمليات التي تتطلب جهدا ووقتا قليلين ودعما كبيرا: كالمشاركة (( السياسية )) في المقاولات، وعمليات التجارة الخارجية في ظل نظام تقييد تحويلات النقد الأجنبي. وقد يتطور هذا التدخل (( السياسي )) في الأعمال بحيث تتكون (( سوق سوداء )) على هامش السلطة وبحماية ومشاركة عدد من رموزها. وقد تتدخل السلطة من حين لآخر لا لإلغاء هذه السوق السوداء بل لتنظيمها، أو تقديم بعض رموزها إلى الرأي العام كأكباش فداء، أو لإعادة تنفيع آخرين منها بحيث لا يستطيع المستولون عليها من إقامة دولة داخل الدولة. فان الدور الاقتصادي لبعض رموز هذه الأنظمة، يجب أن لا نعتبره استثناءا: انه شكل آخر، كاريكاتوري لأنه شخصي ومبالغ به لاستيلاء عصبة ما على جهاز الدولة وتاليا على خيرات المجتمع. والاستثناء هو في تمكن المجتمع المدني، على هشاشته وعلى انقساماته وعلى تهديد السلطة المستمر لاستقلاليته و (( حرمته )) من الاستمرار كمجتمع مدني منتج ومسالم([213]).

أزمة المجتمع المدني

إن الاستعمال الشائع في الوطن العربي لمفهوم المجتمع المدني يطرح في شكل حواجز تحد من سلطة الدولة، ومجموعة كوابح تكبح تدخلية أجهزتها الإدارية والأمنية، وتقوم ضد نفوذها الممتد إلى مجالات متعددة. وينزع المفهوم في الوقت نفسه إلى توسيع حقل الحريات. وفي إطار تصورات أشمل يشير مفهوم المجتمع المدني إلى مؤسسات وقوى اجتماعية وسياسية ومبادرات وممارسات تقوم بدور الوساطة بين المجموعات من جهة، والدولة ومؤسساتها من جهة أخرى([214]). (( وهكذا نلمس كيف أن مؤشرات المجتمع المدني في الوطن العربي تميل قبل كل شيء إلى رهان مرتبط بالارتقاء إلى حالة مدنية في الوقت الذي تضع فيه شكل نظام سياسي معين موضع تساؤل ))([215]). ويؤكد بعض الباحثين أن التاريخ العربي– الإسلامي لم يعرف مفهوم المجتمع المدني ذلك (( أن مفهوم المجتمع المدني عندنا بلا تاريخ ))([216]). فوجود المجتمع المدني غير ممكن من دون فضاء ديمقراطي حقيقي تنتشر فيه مؤسسات وتنظيمات شعبية تراقب وتبدع وتكمل سبل تطور المواطنين وتقدمهم وتضمن مشاركتهم في السلطة السياسية، وفي كل الموارد المادية وغير المادية([217]). لذا (( يصعب الحديث عن مجتمع مدني واقعي أو نموذجي في أي قطر عربي وذلك بسبب ارتباط هذا المفهوم بالدولة الحديثة))([218]). وتتباين الأقطار العربية من حيث درجة السماح بوجود ونشاط المنظمات المهنية والنقابية والأحزاب السياسية: فبينما تقترب المغرب ولبنان ومصر والجزائر وتونس ثم الأردن واليمن بدرجة أقل من تعددية حقيقية، وتحاول موريتانيا والصومال السير على طريق التعددية، توجد في سوريا والعراق وليبيا هذه المنظمات تحت سيطرة الدولة وتتعرض هذه المنظمات لقيود شديدة بدرجات مختلفة في الكويت والسودان، ويحظر وجودها المستقل في معظم أقطار مجلس التعاون الخليجي([219]).

من هنا تتعقد الإشكاليات المحيطة بالمجتمع المدني سواء على صعيد المجتمع أم على صعيد الدولة وذلك لأن طبيعة المجتمع المدني وهامش فعله ومساحة حركته تتحدد من خلال أنماط العلاقة بين الدولة بأجهزتها وقوانينها وسياساتها في المجالات المختلفة من جهة، والمجتمع بقواه وتكويناته ومؤسساته وأنماط ثقافته. لكن هذا لا يعني أن المجتمع المدني هو انعكاس ميكانيكي لأي منهما، فمثلما أن المجتمع المدني ينبثق من المجتمع فانه لا وجود له من دون حماية الدولة، ولا بناء له من دون بناء الدولة (( فالدولة والمجتمع المدني واقعان متلازمان. الدولة تستمد من المجتمع المدني قيمها، وقواها وسياساتها ))([220]). كما (( أن الدولة والمجتمع المدني ليسا أمرين مستقلين واحدهما عن الأخر، ولكنهما مترابطان ))([221]). وفي ظل الدولة الحديثة تتحول السلطة الفردية في اتخاذ القرار إلى مؤسسات المجتمع المدني، وتصبح السلطة رابطة اجتماعية تتحدد فيها مراكز الأفراد، والحقوق والواجبات، وتبرز القدرات والكفاءات، ويتحول الناس من رعايا إلى مواطنين، وتحل الحقوق محل العطايا، ويخضع الحاكم والمحكوم لسلطة عليا هي سلطة القانون([222]). وتتباين وجهات النظر حول علاقة الدولة بالمجتمع المدني في الوطن العربي، فعلى سبيل المثال يرى بسام الطيبي أن الوطن العربي (( لم يعرف حتى الآن المجتمع المدني كنطاق يختلف عن النطاق السياسي– الإداري للدولة كسلطة سياسية تضمن وظائفية المجتمع وان كانت لا تتحكم بها لاستقلاليتها ))([223]).

في مقابل هذه النظرة ترى أماني قنديل أن المجتمع المدني كان حاضرا على الدوام ويتمتع بشخصيته الاعتبارية لكن موقف الدولة منه هو من يتعرض للتبدل([224]). مع ذلك فانه لا يمكننا القبول بفرضية غياب المجتمع المدني العربي، وإنما يمكن أن نسجل ملامح عجزه التي نجد أبرزها فقدان استقلاليته السياسية والاقتصادية في مواجهة الدولة وعدم تمكنه من ضبط أجهزة الدولة وتوازنها، وطبيعة علاقته بالدولة، وضيق مساحة الحركة المتاحة له بسبب إشغالها من قبل الدولة، وتداخل نطاق عمله في نطاق عمل الدولة بسبب عدم قبول الدولة وجود قيود أو حدود على السلطة.

إن الدولة العربية وفي سعيها المتواصل لاحتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع من جهة، والإبقاء على موقعها على قمة المجتمع من جهة ثانية، عمدت إلى التدخل في كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وأباحت لنفسها تقرير كل شيء فجعلت من المجتمع المدني ضحيتها الأولى الذي ولد في بعض الحالات بصورة قيصرية. وفي الحالات التي كان موجودا قبل قيام الدولة التسلطية أصبح مجرد كيان ((..ديكوري )) لا حول له ولا قوة في مواجهة مركزية وشمولية الدولة. ويتسم المجتمع المدني في الأقطار العربية بعدد من السمات لعل أكثرها وضوحا([225]):

  1. وجود مساحة كبيرة من النشاط الاقتصادي في أغلبية الأقطار العربية تسيطر عليه الدولة.
  2. وجود تباين كبير في طبيعة الأبنية الطبقية، فبينما يتسع حجم الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، وهما عماد المجتمع المدني في بعض الأقطار، يضيق حجمها في بلدان أخرى، تتسع بالمقابل نسبة الفلاحين، وسكان الريف إلى إجمالي السكان.
  3. تتباين الأقطار العربية في ما يتعلق بدرجة قبولها لوجود مؤسسات وتنظيمات للنقابات والأحزاب والجمعيات التي تدخل في نطاق المجتمع المدني، بينما تقترب عدة بلدان من تطبيق تعددية سياسية (مصر ولبنان والجزائر وتونس والمغرب والأردن واليمن)، كما إن هناك دولا عربية تجعل هذه التنظيمات تحت سيطرة الدولة (سوريا وليبيا)، وهناك دول أخرى تفرض قيودا مشددة على المجتمع المدني (السودان والكويت والعراق)، وهناك، أخيرا، دول عربية تحظر وجود هذه التنظيمات كما في دول مجلس التعاون الخليجي.

لقد مرت اللحظة الليبرالية دون أن يستغلها العرب في بناء مجتمع ديمقراطي، بل وابتداءاً من عام 1950 بدأ العسكريون العرب يقفزون على السلطة، ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش ما يسميه خلدون النقيب ((..عصر هيمنة العسكر والدولة التسلطية ))([226]). حيث وقعت أكثر من ثلثي الدول العربية في قبضة الحكم العسكري الذي عمد إلى القضاء على الحريات الديمقراطية، والضمانات الدستورية، وأصبحت قائمة الممنوعات والمحضورات طويلة بما لا يعد ولا يحصى لتشمل كل ما من شأنه أن يكون أساسا لبناء مجتمع مدني عربي فاعل، والذي نظرت إليه النخب العسكرية الحاكمة كمنافس لها على مصادر الثروة والقوة في المجتمع. كما أن الدولة بكاملها أصبحت ملكا لهم أو أنهم سعوا لأمتلاكها عبر الهيمنة على مجمل النظام السياسي من خلال تعليق أو إلغاء الدستور، وفرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، واحتكار السلطات التشريعية في يد مجلس واحد يسيطر عليه زعيم واحد هو كل الزعامة والساعي لتكريس الدولة في ذاته. وهي أجواء لا تسمح للمجتمع المدني أن يزدهر. وأخضعت مؤسسات وأنشطة المجتمع المدني كافة للضبط والتحكم، وهُمش دوره إلى أضيق الحدود. وقد نتج عن ذلك محاولة كلا الطرفين (الدولة والمجتمع المدني) البحث عن منافذ جديدة ونكصا نحو التنظيمات القبلية والطائفية، حتى حولت تدريجيا الدولة ومؤسساتها إلى بؤرة للاقتتال بدل أن تكون ساحة للتنافس والصراع.

لقد حرصت الدولة في الوطن العربي على التحكم في النشاط الأهلي أو ما يعرف باسم الجماعات والتنظيمات التطوعية Voluntary Associations، مثل الجمعيات والروابط والإتحادات والنقابات والتعاونيات والأحزاب. ويلاحظ أنه كلما قويت المؤسسات الردعية للدولة القطرية، كلما ضيقت الخناق على هذه التنظيمات الطوعية، أما بمنع إنشائها أصلا، أو بتكبيلها بالقيود الرسمية التي تستنها البيروقراطية الحكومية، أو بالإشراف المباشر، حتى تصبح ذراعا للنظام الحاكم. وفي كل هذه الحالات كانت هذه المؤسسات التطوعية تفقد الجزء الأعظم من فعالياتها، سواء في القيام بوظائفها التي من أجلها أنشأت أو في حماية أعضائها ورعاية مصالحهم، أم في القيام بالرقابة والضبط المتبادل مع مؤسسات الدولة([227]). و (( كلما اشتد ساعد الدولة القطرية في الوطن العربي، كلما توسعت في وظائفها، وخلقت مؤسسات جديدة لهذه الوظائف من ناحية، وضيقت الخناق على مؤسسات المجتمع المدني، أو حولتها إلى أشكال بلا مضمون وفعالية حقيقيين من ناحية أخرى ))([228]).

لقد برز المجتمع ليس كموضوع للتحليل متجاوزا مفاهيما أدنى منه([229]). لكن كقاعدة للحركة الاجتماعية، وبالتالي لم تعد الدولة المسيِّر الوحيد للجسم الاجتماعي، وإنما أصبحت هناك حاجة للنظر إلى الدولة على أنها تعمل لصالح الجماهير في المقام الأول. إن العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في فترات سابقة لحقها تغيير عميق، فالتضامنات الاجتماعية أصبحت أكثر واقعية وانتشرت الثقافة الجمعوية في كثير من القطاعات، ومستويات الولاء ظلت طويلا في آسار التقليدية البحتة وتحولت في معظمها لعلاقات مواطنة ذات حدود واضحة بشأن الحقوق والواجبات، كما انتشرت ممارسات جديدة تتجاوز الدينامية التاريخية التي كانت سائدة في الحقبة السابقة أي التمردات الحقيقية وحملات القمع. وازداد الاهتمام بضرورة الوصول إلى تنظير جديد للعلاقات السياسية، وشكل الدولة، وإيديولوجيتها، وذلك في إطار بحث شامل أصبح يعم المستويات كافة عن مسار التحول الديمقراطي الحقيقي وتغيير شكل الحكم في الدول العربية بوجه عام([230]). وهو أمر يتوقع اضطراده بفعل التغيرات السياسية والاجتماعية والتقانية التي تترى على الوطن العربي.

ويقدم برهان غليون تحليلا مميزا لأزمة المجتمع المدني العربي الحديث، من خلال تأكيده على الاستثناء التاريخي الذي مرّ به المجتمع والدولة ومع نمو الرأسمالية وانتشار الاستعمار الذي أعقبها وإدخال أنماط الإنتاج والتفكير والاستهلاك والتبادل الجديدة، الرأسمالية وشبه الرأسمالية وتفرعاتها الكومبرادورية والطفيلية المختلفة. وكان من نتيجة تعميم هذا النمط الجديد من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، أي من المجتمع المدني، تدمير الدول التقليدية التي كانت قائمة في البلاد وانهيار النظام السياسي تماما. وسبب هذا الانهيار هو إخفاق هذه الدول، من منظور القيم التي كانت تحركها والوسائل التي كانت تملكها في ضبط هذا التيار التغييري المتواصل في بنية المجتمع المدني، وبروز القوى الجديدة الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعرف كيف تتعامل معها، مما أدى إلى تفاقم التناقضات الكبرى التي لم يكن لديها القدرة على السيطرة الفعلية عليها([231]). فاهتز المجتمع المدني اهتزازا شاملا في أقل من قرن وتغير من النقيض إلى النقيض([232]). لكن ذلك لا يعني أن المجتمع المدني العربي قد أصبح مجتمعا عصريا، كما لا يعني أيضا أن ما حصل هو نشوء بنية مزدوجة تتعايش فيها أنماط أساليب الإنتاج والتنظيم والتفكير القديمة والحديثة وتتصارع دون أن تؤثر واحدتها في الأخرى. (( إن ما حصل هو انهيار شامل لمنطق واشتغال النمط المدني القديم وإفساد عميق لآليات عمل واشتغال النمط المدني العصري، بنيان يختلف عن البنيان الذي عرفته المجتمعات الصناعية الغربية كما يختلف كليا عن البنيان التقليدي الذي عرفته مجتمعاتنا في الماضي ))([233]). يتصف هذا النمط الجديد للمجتمع المدني العربي المنبثق عن مرحلة التحول الحديثة في ظل الاستعمار بصفات هي: عدم الثبات والتقلب السريع وغياب المقومات الذاتية والاتساق الداخلي وانعدام فرص وآليات تحقيق التوازنات الكبرى، المادية منها التي تتوزع بين الإنتاج والاستهلاك والطلب والعرض، والمعنوية التي تعبر عنها الآمال والمطالب والحاجات المتباينة والمتعارضة لمختلف تجمعات السكان. يرى غليون أن المجتمع المدني يعاني من الارتهان الذي يعني إن البنيان المدني الراهن هو تجسيد لحالة الفصام التاريخي النابع من انعدام السيطرة على المصير والتحكم بالذات. هذا الفصام الذي يعيشه المجتمع المدني يعني انعدام التوازن الداخلي، وفقدان الوعي السليم والمطابق بالذات وبالواقع الموضوعي الخارجي معا، هو القاعدة التي يقوم عليها الانفصال التاريخي بين الدولة والمجتمع المدني نفسه([234]).

إذا فقد نشأت وتطورت علاقة مشوهة وغير صحيحة بين الدولة والمجتمع المدني في الوطن العربي، فقد أحكمت الدولة قبضتها على المجتمع المدني. وقد كان من الطبيعي أن تسعى النخب الليبرالية الأولى التي سيطرت على جهاز الدولة إلى استغلال تناقضات المجتمع المدني ونقاط ضعفه الشديدة من أجل تخليد هيمنتها والتجديد لنفسها في الحكم. وتحولت الدولة إلى وسيلة لتعميق الوحدة وصهر العناصر المتنافرة. وقد حاولت نخب الجيل الثاني التي ورثت الدولة بالانقلاب أو الثورة، إن تُطور الصراع ضد النخب الليبرالية خطابا متمحورا على بناء الأمة والقومية، وباسم هذا الخطاب تم التخلي كليا عن استقلال المجتمع المدني، بل إنكار حق هذا المجتمع في الوجود([235]). والنتيجة إن الدولة في الوطن العربي في محاولتها تسييس المجتمع المدني بشكل كامل قادته إلى الانهيار. ففي إطار تحويل أي ممارسة أو نشاط فردي أو جماعي، ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي، إلى نشاط ذي طبيعة سياسية، فان هذه العملية أدت إلى خلق الدولة الشمولية والسلطة المطلقة. وبالقضاء على قوانين العمل الاقتصادي، وقوانين التفاعل الثقافي والفكري، وقوانين التراتب والتواصل الاجتماعي، وإحلال بيروقراطية الدولة محل العناصر الفاعلة في كل ثنايا المجتمع (( عمَّ الموت في كل مكان ))، ووجدت الدولة نفسها في فراغ شامل. لقد أجهزت البيروقراطية على الحياة وعلى القوى الحية والمتصارعة للمجتمع المدني التي تغذيها، (( كما يجهز الجراد على الحقول الخضراء ويأتي على بكرة أبيها ))([236]).

على الرغم من أن الاستعمار لم يعارض في معظم الحالات تشكيل مؤسسات الدولة، بل أنه عمد إلى تدعيم بعضها والإضافة إلى قوتها، لكنه لم يسمح بنمو منظمات المجتمع المدني العربي كفضاء فكري متجانس نسبيا في مواجهته. فطوال الحقبة الاستعمارية لم يمتلك المجتمع المدني (إلا في حالات نادرة) أسباب القوة بما يجعل منه قائدا للكفاح ضد الاستعمار. وان يشارك كعضو فاعل في الحركة الوطنية فهو إذا يندرج في إطار الاستقطاب السائد بهدف التحرر الوطني لا بهدف الحرية المدنية. وخلال اللحظة الليبرالية تأسست ما يمكن اعتبارها مؤسسات جدية للمجتمع المدني العربي، واكتسبت مشروعيتها الاجتماعية من خلال نضالها ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال الوطني. لكنها لم تعبر عن حاجات سياسية واجتماعية حقيقية للتنظيم والعمل السياسي. وتفتقد المشاريع بعيدة المدى لبناء اجتماع متماسك وقائم على ثوابت راسخة في الواقع، الأمر الذي دفعها إلى أن تجعل من امتلاك السلطة أو التحالف مع السلطات مخرجها الوحيد. لذا بدأت تبتعد عن فضاء الاجتماع المدني بمقدار اقترابها من السلطة. وبعد اقل من عشرين عاما (حوالي نهاية الثلاثينات) بدأ عجز ((..الحكومات الوطنية )) واضحا، أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا([237]). وعقب إخفاق المحاولات الليبرالية العربية صارت ثورة التحرر والبناء لا تبدأ إلا من الأعلى، لتصب في نهاية الأمر عند نتيجة تكوّن الدولة القوية. وفي معظم التجارب العربية في الخمسينات والستينات كان وجود الجيش والحلول العسكرية مما يدعم أيديولوجيات الوجود المكثف للدولة والتي خضع لها نسيج المجتمع كله، في المجالات كافة. والنتيجة، أن تداخل الفعل الاجتماعي مع الفعل السياسي، ولم تعد ثمة حدود واضحة بين المجالين، وقد أدى هذا الوضع إلى نتيجتين أثرتا في المجتمع والدولة معا، فتدخل الدولة ورقابتها على جميع نشاطات الأفراد تقريبا لم يساهما في تنشيط حركة المجتمع المدني الذي لا يمكن أن يزدهر في ظل حكم شمولي يقيد الحريات ويحاصر الفكر والإبداع. على صعيد آخر، لم يعرف الوطن العربي– حتى الآن– نموذجا لدولة قانونية يخضع فيها الجميع لسيادة القانون وتستند إلى قيم الحكم الديمقراطي ومبادئه كأسلوب مقبول لقيادة الدولة والمجتمع. فمعظم الأقطار العربية إما تحكم عشائريا أو بنظام فردي أو بحكم حزبي واحد أو غالب يحوز السلطات التشريعية والتنفيذية، وفي ظل واجهات منتخبة انتخابات شكلية، ومن ثم فهذه الأنظمة تفتقد الشرعية([238]).

وعلى العلاقة بين الدولة القطرية بمؤسسات المجتمع المدني فان المتتبع يصل إلى استنتاج ملموس تؤكده وقائع ثابتة وكثيرة وهو أن الدولة القطرية عززت مواقعها ودورها وبناها القطرية على حساب المجتمع المدني الشمولي وبناه الوحدوية القومية. وبالتالي فالعلاقة عكسية أو تناقضية ما بين زيادة فاعلية الدولة القطرية وأدائها القطري بواسطة القمع والإرهاب، وما بين الأبنية الشمولية الوحدوية لمؤسسات المجتمع المدني على امتداد المشرق العربي. فقد تفسخ المجتمع المدني الموحد في المشرق بحدة، وتحول إلى مجتمعات مدنية قطرية تختزن من عناصر التجزئة والتفكك أكثر مما تختزن من عناصر التوحيد الوطني والانصهار القومي. وحولت الدولة القطرية المجتمع المدني الموحد في المشرق العربي إلى مجتمعات مدنية قطرية هشة ومفككة من الداخل، ومتناحرة في ما بينها عبر نزاعات لا تنقطع([239]). وبالمثل فان سيرورة المجتمع المدني في المغرب والجزائر وتونس وصلت إلى نتيجة واحدة تقريبا هي خنق المجتمع المدني طيلة عقود ثلاثة من قبل الدولة، فالاستحواذ على مقاليد الدولة هو التجربة المفصلية المؤشرة على الأسلوب الذي ستمارسه كل دولة في علاقتها مع مجتمعها المدني وفي الطلبات التي سيوجهها كل مجتمع مدني إلى دولته([240]). وربما يمكن تعميم الاستنتاج ليشمل عموم أقطار الوطن العربي.

لقد انتهت مؤسسات المجتمع المدني العربي إلى أن تكون محدودة الشرعية والكفاءة. والمؤسسات الرسمية الوسيطة كانت تربط ما بين الأفراد والدولة، حيث فقدت مؤسسات المجتمع المدني استقلالها، وجوهرها، ومشروعيتها، تدريجيا. وتحولت هذه المؤسسات الوسيطة إلى وسائل ضبط للشعب بواسطة الدولة، بدلا من أن تكون بمثابة وسائل لتعبئة الشعب، أو أن تعمل كمراكز مراجعة وضبط لسلطة الدولة. هذا التكوين الاجتماعي المجزأ للمجتمعات العربية ساهم في هدم مؤسسات المجتمع المدني من ناحية، بينما كان هو ذاته أحد نتائج توقفها عن دورها من ناحية ثانية. (( ودون المجتمع المدني يكون الفرد العربي مجرد (( شيء ))، وليس مواطنا في دولة، فالديمقراطية إذ تعني المشاركة في القرارات التي تؤثر في حياة الفرد ومصيره، يستحيل أن توجد دون مجتمع مدني ))([241])

إن دولة تتسم بكل الخصائص التي تحدثنا عنها سابقا، تسيطر على عموم النسيج الاجتماعي وتخضعه من خلال تحكم إداري كلي، يجري بموازاته منع أية محاولة من قوى خارجها لتجنيد المجتمع، فتمنع تشكل أبنية مستقلة للتعبئة العمودية والتي يمكنها أن تخرج عن نطاق مراقبة الدولة. تلك الحالة التي يعبر عنها بدولنة Statism المجتمع. تلك الخصائص لا يمكن اعتبارها نتاجا لقوة ذاتية في الدولة، بل العكس، فربما يكون مردها ضعف الدولة لهذا يصبح التدخل لإبداء صورة قوة غير حقيقية. الأمر الذي يجعل الأبنية المجتمعية ومنها منظمات المجتمع المدني، تتجنب الدولة، أو تسير خلفها، ويصبح المجتمع المدني (( مجرد زائدة تخرج عن الدولة )) والدولة هي من تمونه ماليا وتخطط له وظائفه. فلو أخذنا مثلا سمة الريعية في ظل الدولة القطرية نجد أن الدولة في أثناء ممارستها وظيفة التوزيع أو رصد التخصيصات، تضمن إعاقة مأسسة النظام السياسي وبروز مؤسسات منافسة من خلال تحويل الريع عنها إلى مجالات أخرى ترتضيها.

أما من الناحية الاقتصادية فان دولة تمارس من التدخل الاقتصادي ما تمارسه الدولة في الوطن العربي قد قلصت من إمكانية تبلور المجتمع المدني المستقل عن الدولة سياسيا وماليا وإداريا. فالنظام الاقتصادي الذي شيدته الدولة القطرية لم يكن يسمح بنمو فاعل وحقيقي لمؤسسات المجتمع المدني بعيدا عن الدولة التي كانت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الاقتصاد، بل في عملية بناء المجتمع المدني نفسه الذي تفترض المعطيات النظرية أن لا تتدخل الدولة في عملية نشوئه. وهنا نجد إن الدولة حاولت الالتفاف على المفهوم، بالتزامن مع سحب نفسها من النشاطات الاقتصادية لصالح شخصيات اقتصادية مرتبطة بقدر ما بالدولة سمح لها باستخدام مؤسسات الدولة لأغراضهم الخاصة. والنتيجة إن الدولة العربية (( ليست فقط مسخرة للأفراد أو الحكام ولمصالح النظام، بل أشد التصاقا بهؤلاء الحكام وتماهيا معهم، وأكثر تمثيلا لمصالح النظام السياسي والاقتصادي الاجتماعي الغالب عليها. أي إن الدولة العربية الحالية قد جرى إفراغها وتجويفها من القسط الأوفر من عناصر الاستغلال عن المجتمع وتدبير مؤسساتها وتحويل دورها الاقتصادي والاجتماعي إلى مجرد دور قمع وحماية للمصالح الأشد خبثا وتهافتا التي تحملها القوى المتحكمة فيها، وأقل ما يمكن قوله هنا إن الدولة العربية تحمل الطوائفية في صلب مؤسساتها وممارساتها وأعرافها، وبالتالي تشكل عاملا من عوامل التخريب للوحدة الوطنية، وإعادة إنتاج عوامل التفتت الاجتماعي والتجزئة الوطنية والقومية ))([242])

الخاتمة

إن الدولة في الوطن العربي تعاني من قصور في المفهوم والمضمون، فمفهوم الدولة تعترضه جملة من الإشكاليات تكسبه خصوصية، وتسمه بما يعانيه من قصور مضموني يجعل المفهوم بعيدا عن مفهوم قويم للدولة. من جهة أخرى فان تلك الإشكاليات وفرادة الولادة جعلت الدولة في الوطن العربي تتسم بجملة من الخصائص لكل منها أسبابه ومشكلاته وتنتج صورة للتشوه في فعل الدولة ودورها وما قد تقوم به. لذا فليس غريبا أن تعاني من أعراض واضحة لأزمة تلم بها وتؤثر على الاقتصاد والمجتمع المدني على وجه الخصوص. وإذا ما سلمنا بادعاء الدولة تحقيق التنمية ودخولها القوي مجالات الاقتصاد والمجتمع المدني إلى فرض سيطرة الدولة على كل منهما واخضاعهما بشكل تام بحيث لم يعد في كلا الساحتين الاقتصادية والاجتماعية إلا الدولة أو من تسمح له بتمثيلها، فإننا نجد إن كل منهما قد فقد استقلاليته وأصبحا مضمارا للتسلق نحو القمة بدلا من أن يكونا ميدانا للتنافس.

المصادر والمراجع

([1]) يعتقد ألفن توفلر أن السلطة هي تمظهر لأي علاقة إنسانية فهي جانب من أي علاقة تقوم بين البشر. انظر: ألفن توفلر، تحول السلطة: المعرفة والثروة والعنف في بداية القرن الواحد والعشرين، ترجمة: فتحي بن شنوان ونبيل عثمان، الدار الجماهيرية، مصراته، 1992، ص15

([2]) انظر: إبراهيم درويش، الدولة: نظريتها وتنظيمها (( دراسة فلسفية تحليلية ))، دار النهضة العربية، القاهرة، 1969، ص 168

([3]) H. Lasky , The State in The Theory and Practice ,George Allen and Union ,London, 1967,p. 22

([4]) J.P.Nettl,The State As a Conceptual Variable, World Politics, No.4,.July ,1968

([5]) Michal Banks and Martin Shaw [eds] , State and Society in International Relations , Harvester Whet sheaf , London , 1991 , pp. 22 – 23

([6]) من بين تلك الكتابات تبرز أعمال دايفيد هيلد D. Held  ، وثيدا سكوكوبول Theda Skokopol  والفريد استبيان A. Stepan  وبيري أندرسون Pery Anderson

(([7] ييل هـ. فيرجسون وريتشارد و. فانسياخ، من دولة ما قبل التاريخ إلى الدولة الحديثة، المنار، العدد (34)، تشرين الأول/ أكتوبر، 1987، ص 50

(([8] كثيرة هي العوامل التي أدت إلى نشوء الدولة وأبرزها: القرابة، والدين، القوة والغلبة، الأنشطة الاقتصادية، الوعي السياسي، حول هذه العوامل ودورها انظر: محمد علي محمد، أصول الاجتماع السياسي: السياسة والمجتمع في العالم الثالث، الجزء الثاني: القوة والدولة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989، ص 142-145

([9]) لأغراض التحليل نقبل بالتعريف الذي قدمه حسنين توفيق إبراهيم بأنه (( مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع. ويحدث ذلك بصورة دينامية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية، التي تنشأ باستقلالية عن الدولة )) انظر: حسنين توفيق إبراهيم، بناء المجتمع المدني: المؤشرات الكمية والكيفية، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، سعيد بنسعيد العلوي، [وآخرون]، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص

(([10] صادق الأسود، علم الاجتماع السياسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1973، ص 95-96

(([11] حول نشأة الدولة- القومية في المجتمعات الأوروبية أنظر :

Leonary Tivey [ ed.] , The National – state : The Formation of Modern Polities ,Martin Robertson , Oxford  ,1981 . Hugh S. Watson , Nations and States: An Inquiry into the Origins of Nations and the polities of Nationalism ,Methuen , London ,1977.

([12]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، محور المجتمع والدولة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988، ص 63

([13]) انظر: روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة: حسن الصعب، دار العلم للملايين، بيروت، 1966، ص 201

([14]) للإطلاع على وجهة نظر هيجل انظر:

هربرت ماركوز، العقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ط 2، ترجمة: فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979

([15]) نديم البيطار، من التجزئة إلى الوحدة: القوانين الأساسية لتجارب التاريخ الوحدوية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1980، ص23-24

(([16] ترتبط فكرة السيادة بعمل جان بودان (( الجمهورية )) المنشور عام 1576، وقد تلاقفها المفكرون والفلاسفة الاوروبيون أمثال جروتس Grotius  (1583-1645) وتوماس هوبز Thomas Hobbes  (1588-1679) وجون لوك (1632-1704) ومنتسيكيو (1689- 1755)، وجان جاك روسو Rousseau  (1712-1788) وهيجل، وادموند بيرك Admand Burke  (1730-1797)، وجيرمي بينثام، وجون ستيوارت ملJ.S. Mill  الذين حاولوا من خلال تأييد وجهة نظره في ما ذهبوا إليه، فأستخدمها الذين قالوا بقدسيتها وقدسية الدولة، أو الذين ناصروا الحكم المطلق والاستبداد الشخصي أو أنصار العقد الاجتماعي، كما أن بعض الكتاب ومنهم ديجيL . Dugit  وجورج سل قد رفضوا الفكرة وأنكروها. في تفصيل ذلك انظر:- إبراهيم درويش، المصدر السابق، ص ص 189-201

(*) المقصود بحالة الطبيعة عند الفلاسفة السياسيين الكلاسيك من أمثال توماس هوبز  وجان جاك روسو هي حالة الإنسان الأصلية في ما قبل اكتشافه المجتمع، وهي عند الأول حالة شقاء وبؤس وحرب متصلة يغيب عن ساحتها العرف والقانون. بينما يذهب روسو إلى القول بأن حالة الطبيعة هي صورة الإنسان الطيب والتي يمكن أن تتحول إلى نقيضها عندما تتمكن فيه ومنه رغبات المجتمع ومقتضياته وبخاصة في مجال حب التملك.

([17]) ورد في مبدر الويس، مداخلة، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 111

(([18] المصدر السابق نفسه

([19])  H. Lasky , op.cit,p. 28

([20]) محمد جواد رضا، صراع الدولة والقبيلة في الخليج العربي: أزمات التنمية وتنمية الأزمات، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص 17

([21]) يرى بعض الماركسيين إن ماركس لم يجد الوقت مطلقا للتحليل الخاص الذي كان في نيته القيام به عن الدور الاقتصادي للدولة البرجوازية. انظر:

ي. بيفسنر، رأسمالية الدولة الاحتكارية ونظرية العمل عن القيمة، ترجمة: فؤاد أيوب، دار دمشق، دمشق، 1984

([22]) انظر: فريدريك انجلز، اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، دار التقدم، موسكو، ( د.ت)

(([23] عبد الإله بلقزيز، مداخلة في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 87

([24]) نيكوس بولانتزاس، السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية، ترجمة: عادل غنيم، دار إبن خلدون، بيروت،1980

([25]) فلاديمير لينين، الدولة والثورة، دار التقدم، موسكو، (د.ت)

([26]) عبد الباقي الهرماسي، المجتمع المدني والدولة في الممارسة السياسية الغربية (من القرن التاسع عشر إلى اليوم: دراسة مقارنة) في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 98

(([27] المصدر السابق نفسه

([28]) لا يبدو من وجهة ونظرنا إن هناك الكثير مما يستحق التأمل في وجهات نظر ستالين وخروشوف حول الدولة فهما ظلا يشتران مقولات لينين نفسها دون أن يقدما تبريرا يدعم البناء الفلسفي الماركسي حول مقولة اختفاء الدولة.

(([29] زبيغنيو بريجنسكي، بين عصرين: أمريكا والعصر التكنتروني، ترجمة: محجوب عمر، دار الطليعة، بيروت، 1980، ص 171

([30]) بلغ عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عام 1948 (51) عضوا، أصبح بعد موجة التحرر في الخمسينات والستينات وبداية السبعينات (143) عضوا، وصل عدد الدول في المنظمة الأممية عام 1990 (159) عضوا، بينما وصل العدد إلى (185) عضوا عام 1997، جاءت معظم الزيادات بعد عام 1990 نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي وبعض بلدان أوروبا الشرقية. لتصل في أيلول/سبتمبر 2003 إلى (191) دولة.

([31]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص 72

([32]) احمد زايد، الدولة في العالم الثالث: الرؤية السوسيولوجية، دار الثقافة الجديدة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1985، ص 81

([33])  المصدر السابق نفسه

([34] ) المصدر السابق نفسه، ص 82

([35]) السيد زهرة، البناء الاجتماعي والدولة في البلدان المتخلفة: عرض لوجهتي نظر متعارضتين، في: قضايا فكرية: من الذي يحكم مصر، الكتاب الأول، يوليو/ تموز، 1985، دار الثقافة الجديدة، 1985، ص 261

([36]) تتساوق هذه الرؤية مع ما ذهب إليه علي كازنجيكل Ali Kazancigil  في أطروحته عن الدولة في تركيا

A.Kazancigil : Les Nouvelles dEtat en Turki , in : Peupples Me’ditervaneen’s , LETAT ETLA ME’DITERANEE No. 27 –28 , 1984, P.42.

(([37] صادق الأسود، المصدر السابق، ص 97

([38]) مصباح العريبي، تعقيب في: القطاع العام والقطاع الخاص في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، عباس النصراوي، [وآخرون]، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 42-43

(([39] حازم الببلاوي، تعقيب في: القطاع العام والقطاع الخاص في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، المصدر السابق، ص 299-301

(([40] روبرت ماكيفر، المصدر السابق، ص 394- 395

(([41] صادق الأسود، المصدر السابق، ص 97

(([42] المصدر السابق نفسه، ص 98

([43]) ميرفت بدوي، دور الدولة في قطاع السلع العامة والخدمات الاجتماعية، في: دور الدولة في البيئة الاقتصادية العربية الجديدة: وقائع الندوة المنعقدة في الكويت 4-5 آذار/ مارس 1997، تحرير: طاهر حمدي كنعان، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد العربي، بيروت، 1998، ص ص 153-154

([44]) انظر: خير الدين حسيب، [وآخرون]، مستقبل الأمة العربية: التحديات.. والخيارات، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي: التقرير النهائي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988، ص ص105-113

([45]) بقي نظام الملل لقرون طويلة أسلوب التنظيم الرسمي والتضامن لدى الجماعات الكبرى، وهو يقوم على إعطاء الزعماء المحليين جزءا من سلطة تسيير الأمور في مناطقهم داخل الدولة العثمانية. للمزيد من التفاصيل، انظر: جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار النهار للنشر، بيروت، 1979

([46]) حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص ص 123-124

([47]) يوسف الشويري، القومية العربية: الأمة والدولة في الوطن العربي (( نظرة تاريخية ))، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص 84

([48]) المصدر السابق نفسه، ص ص 85-86

([49]) أنظر: عبد الحميد براهيمي، المغرب العربي في مفترق طرق في ظل التحولات العالمية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص31

([50]) المصدر السابق نفسه، ص ص 35-46

(([51] المصدر السابق نفسه، ص53

([52]) المصدر السابق نفسه، ص ص 46–47

([53]) عبد القادر الزعل، المجتمع المدني والصراع من أجل الهيمنة الإيديولوجية في المغرب العربي، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 442

([54]) محمود إسماعيل، إشكاليات مفهوم الدولة في الإسلام بين النظرية والتطبيق، في: قضايا فكرية: من الذي يحكم مصر، الكتاب الأول، دار الثقافة الجديد، القاهرة، 1985، ص 48 .

([55]) انظر: محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، دار الشؤون الثقافية العامة (د.ت)، ص 244 .

([56]) يذهب جل الباحثين إلى اعتبار العصبية هي المحور الأساسي لأبحاث ابن خلدون، لكن الحقيقة إن العصبية لم تكن الغاية في ذاتها وإنما هي تجري إلى غاية معينة هي الملك، فالملك أو الدولة هو غاية البحث والعصبية وسيلة أو أداة للتفسير من جهة ثانية نجد إن البدو والحضر والعصبية والحضارة كلها ظواهر عمرانية مرتبطة بالدولة التي عدها صورة للعمران والشكل الحافظ لوجوده، وبالتالي المرتكز الأساسي للدراسات الخلدونية في العمران. فاحتلت الدولة لديه موقعا مهما مثل هاجسه الدائم إذ كان منهمكا في صياغة نظرية لشرح تلك الدولة وانهيارها ولانتقال المجتمعات من حالة إلى أخرى. للمزيد انظر: ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: حجر عاصي، بيروت، 1988، ص 96

([57]) المصدر السابق نفسه، ص 139

([58]) المصدر السابق نفسه، ص 153

([59]) هذه الأطوار هي: (1) طور الاستيلاء على الملك؛ (2) طور الانفراد بالملك؛ (3) طور الفراغ والدعة؛ (4) طور القنوع والمساومة؛ (5) طور الإسراف والتبذير. انظر: ابن خلدون، المصدر السابق، ص 119

([60]) محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، دار الشؤون الثقافية العامة (د.ت)، ص 328

([61]) المصدر السابق نفسه، ص 329

([62]) الوهابية حركة دينية أسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1787) وتبناها محمد بن سعود (؟- 1765) وهو زعيم قبلي، كحركة سياسية استندت إلى مبادئ متشددة ودعت إلى الوحدة المطلقة للخالق مقابل عبادة القديسين أو تبجيل الأولياء والصوفيين. وتمتعت الوهابية بقوة كبيرة حتى قمعها محمد علي باشا بين عامي 1811 و 1818 ولم تعاود الظهور حتى أوائل القرن العشرين ونجحت بقيادة آل سعود في عام 1932 في تأسيس المملكة العربية السعودية.

([63]) عبد الرحمن الكواكبي، الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي، تحقيق: محمد عمارة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970

([64]) تكمن أهمية فكر الكواكبي في أنه (( أول من نبه إلى أن تقويض الاستبداد وبناء الدولة الوطنية ليس ممكنا بمجرد إجراء إصلاحات (تنظيمات)، على نحو ما ذهب خير الدين التونسي إلى القول به، ولا بالثورة على النظم القائمة، كما تصور جمال الدين الأفغاني، ولا حتى بقيام حكم دستوري، كما قرر ذلك هو نفسه، بل إن ذلك التقويض يحصل فقط إن توفر الإدراك السياسي لدى (( الرأي العام ))، وليس لدى النخب فحسب )) انظر: عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص 57

([65]) برهان غليون، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 50

(([66] المصدر السابق نفسه، ص 52

(([67] المصدر السابق نفسه

([68]) عبد الإله بلقزيز، المصدر السابق، ص ص 19-23

([69]) إن المستعرض لفكر النهضة العربي وبخاصة عند الطهطاوي وعبده يمكنه أن يصل إلى هذه الملاحظة بسهولة ذلك أن الأول فسر ضرورة الدولة المركزية المصرية ودورها المحوري بالرجوع إلى مفهوم المجتمع النهري ليستنتج إن غياب تلك الدولة يعني إصابة أمور الوطن بالخراب. أما الثاني فقد اعتمد مقالة المستبد العادل التي لم تكن تعني في جوهرها إلا الدولة القوية.

([70]) يقدم فهمي جدعان مسحا للتيارات الفكرية التي نشطت عقب ثورة أتاتورك وطرحت أفكارها عن الدولة معتبرا من سقوط الخلافة في استنبول بمثابة حدث مركزي في التفكير الإسلامي المعاصر والذي يعتبر كتاب علي عبد الرازق (1888–1946) بمثابة الجذوة التي فجرت ذلك التراث الغني عن الدولة. انظر: فهمي جدعان، نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، في: الأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي، ج 1، غسان سلامة، [وآخرون]، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص 107

([71])  أنظر: علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ط2، مطبعة النصر، القاهرة، 1925، ص 35-36

([72]) للمزيد من التفاصيل انظر: فهمي جدعان، المصدر السابق، ص 107–137 .

([73]) للإطلاع على مسح شامل لنظريات الدولة في الفقه الشيعي أنظر: محسن كديور، نظريات الدولة في الفقه الشيعي، قضايا إسلامية (مؤسسة الرسول الأعظم: قم)، العدد (6)، 1998، ص ص 56-109

([74]) يعد المحقق علي الكركي من أبرز فقهاء الشيعة في القرن العاشر الهجري، كان من المؤيدين لنظريتي الشرعية الدستورية والنيابة العامة. استدعاه طهماسب عام 939 هـ لكي يعزز به شرعيته ونجح في أخذ إجازة الشيخ الكركي لممارسة الحكم وبذا نجح في تثبيت حكمه والحد من منافسة التيار السياسي القزلباشي. أما الكركي فقد حصل على لقب شيخ الإسلام، ويقال انه اغتيل بعد ذلك بمدة قصيرة.

([75]) هذا هو الرأي الشائع هنا، لكن هناك من يرى أن محمد بن مكي الجزيني ( توفي سنة 768 هـ ) هو أول من دعا إلى الفكرة من خلال استحداثه مفهوم (( نائب الإمام )) في كتابه الشهير (( اللمعة الدمشقية ))

([76]) أحمد النراقي، ولاية الفقيه، تصحيح وتعليق وتقديم: ياسين الموسوي، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1990

([77]) حول فكر النائيني أنظر: عبد الإله بلقزيز، المصدر السابق، ص 61-80 ؛ كما أن النائيني وضع مخططا تفصيليا لما ستكون عليه الدولة الدستورية الشورية الإسلامية يحدد فيها وظائف الدولة وكيفية إدارتها لشؤونها العامة وشروط ومهام المندوبين في مجلس نوابها المنتخب…الخ. انظر: عامر حسن فياض، المرجعية الحضارية للديمقراطية في العراق، المستقبل العربي، السنة (20)، العدد (223)، أيلول/ سبتمبر، 1997، ص 126

([78]) هبة الدين الحسيني الشهرستاني، الهيئة والإسلام، مطبعة الأديب، بغداد، 1909

([79]) محمد حسن كاشف الغطاء، الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية، دار المعرفة، [د.ت]

([80]) يبدو أننا هنا أمام خط إصلاحي متميز فإذا أضفنا إليه أعمال جمال الدين الأفغاني الذي غالبا ما يحسب على التيار الإصلاحي السني ويعتقد بتأثره بفكر الكواكبي نجد أننا أمام مدرسه إصلاحية تختلف في ما طرحته من أفكار وما عالجته من مشكلات وما رسمته من حلول مع احتفاظها بمواضيع مشتركة مع التيار الإصلاحي الذي عبر عنه الطهطاوي والتونسي وعبدة والكواكبي من قبيل نقد الاستبداد والدعوة إلى الإصلاح.

([81]) لا يخفى أثر الفقهاء العراقيين من الحوزة العلمية في النجف الاشرف في صياغة التطويرات المتعاقبة لنظرية الدولة ، ولعل أبرز من أثروا في ذلك السيد الشهيد محمد باقر الصدر (1935- 1980) الذي تضمنت أعماله نظرية متكاملة للدولة الإسلامية ودورها في الحياة الاقتصادية . للإطلاع على أفكاره أنظر: محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ج2، النجف الاشرف، (د.ت).وكذلك، محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، دار التعارف، بيروت، 1399.

([82]) انظر: روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية، (د.ن)، (د.ت).

([83]) عبد الإله بلقزيز، المصدر السابق، ص 14

([84]) للمزيد حول الكتابات العربية القومية التاريخية. انظر:

-السيد يسين، تحليل مضمون الفكر العربي: دراسة استطلاعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1980

([85]) إيليا حريق، نشؤ نظام الدولة في الوطن العربي، فيالأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي ، ج1، المصدر السابق، ص 28

([86]) بهجت قرني، وافدة متغربة لكنها باقية، فيالأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي ، ج1، المصدر السابق، ص 50

([87] ) أحمد زايد، المصدر السابق، ص 228 .

([88]) اعتمدنا في تلخيص أفكار العروي على المصادر التالية: سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص ص 91–93، علي إبراهيم، عرض كتاب مفهوم الدولة لعبد الله العروي، في: قضايا فكرية: من يحكم مصر، المصدر السابق، ص 244-247

([89]) سمير أمين، الأمة العربية: القومية وصراع الطبقات، ترجمة: كميل داغر، دار ابن رشد، بيروت، 1978، ص11

([90]) المصدر السابق نفسه، ص 15

([91]) انظر: المصدر السابق نفسه، ص 34–36 ؛ وكذلك: سمير أمين، التطور اللامتكافئ: دراسة في التشكيلات الرأسمالية المحيطية، ط3، ترجمة: برهان غليون، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1980، ص 32-42

([92]) سمير أمين، الأمة العربية: القومية وصراع الطبقات، المصدر السابق، ص 34

([93]) انظر: سمير أمين، التطور اللامتكافئ: دراسة في التشكيلات الرأسمالية المحيطية، المصدر السابق، ص 40-41

([94]) انظر: سمير أمين، الأمة العربية: القومية وصراع الطبقات، المصدر السابق، ص60–69

([95]) إيليا حريق، المصدر السابق، ص28

([96]) المصدر السابق نفسه، ص30

([97]) المصدر السابق نفسه، ص 29-40

([98]) المصدر السابق نفسه، ص 43

([99]) المصدر السابق نفسه، وأنظر أيضا:

Iliya Harik , The Origins of The Arab State System , in : Ghassan Salama’ [ ed.] , The Foundations of The Arab State , Groom Helm , London , 1987

([100]) علي الدين هلال، مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث، في: أزمة الديمقراطية في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 48

([101]) غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، ط 2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص 66

([102]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي: دراسة بنائية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص ص 62-69

([103]) المصدر السابق نفسه، ص ص 139- 144

([104]) المصدر السابق نفسه، ص ص 186-190

([105]) خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (( من منظور مختلف ))، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، محور المجتمع والدولة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987، ص 145-161

([106]) ورد في: سميح فرسون، البناء الطبقي والتغيير الاجتماعي في الوطن العربي في العقد القادم، في: العقد العربي القادم: المستقبلات البديلة، هشام شرابي (تحرير)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص 281

([107]) المصدر السابق نفسه، ص 282

([108]) المصدر السابق نفسه، ص ص 282–283

([109]) بمعنى Rupture

(([110] أنظر: ناجي علوش، الوطن العربي: الجغرافية الطبيعية والبشرية، سلسلة الثقافة القومية (3)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص ص 14–15

([111]) محمد جابر الأنصاري، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي، ط3، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 60

(([112] المصدر السابق نفسه، ص 38

([113]) عوني فرسخ، جدلية الوحدة والتجزئة تاريخيا وفي الواقع العربي المعاصر، المستقبل العربي، السنة (21)، العدد (236)، تشرين الأول/ أكتوبر، 1998، ص 41

(([114] محمد جواد رضا، المصدر السابق، ص 33

([115]) انظر: درويش المقدادي، تاريخ الأمة العربية، مطبعة المعارف، بغداد، 1939

([116]) محمد جابر الأنصاري، المصدر السابق، ص 39

(([117] المصدر السابق نفسه، ص 39

([118]) لعل أبرز ما يمكن الاستشهاد به في هذا المقام كتاب: سيد قطب (( العدالة الاجتماعية في الإسلام )) الذي يحكم فيه القرون الأربعة عشر من عمر الحكم في الإسلامي بأنها قرون خيانة وتنكر لمبادئ القرآن والستة

([119]) يوسف الشويري، المصدر السابق، ص 54

(([120] محمد جابر الأنصاري، المصدر السابق، ص 40

([121]) للإطلاع على تلك التجارب أنظر: محمد لبيب شقير، الوحدة الاقتصادية العربية: تجاربها وتوقعاتها، ج1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986

([122]) مسعود ضاهر، المجتمع المدني والدولة في المشرق العربي، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص ص 407– 408

([123]) عبد الحميد براهيمي، المصدر السابق، ص 52

(([124] المصدر السابق نفسه

([125]) ناصيف نصار، مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ: دراسة في مدلول الأمة في التراث العربي والإسلامي، دار الطليعة، بيروت، 1978

([126]) المصدر السابق نفسه، ص 79

(([127] المصدر السابق نفسه، ص 104

(([128] المصدر السابق نفسه، ص 108

(([129] المصدر السابق نفسه، ص 124

([130]) القرآن الكريم، سورة المؤمنون، الآية 52

([131]) عبد الكريم أل نجف، الأبعاد العالمية للنظرية السياسية الإسلامية، قضايا إسلامية، المصدر السابق، ص 123

([132]) برهان غليون، المصدر السابق، ص 98-99

(([133] المصدر السابق نفسه، ص99

(([134] يوسف الشويري، المصدر السابق، ص 47

([135]) برهان غليون، المصدر السابق، ص 100 ؛ وأيضا: أحمد شكر الصبيحي، مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، سلسلة أطروحات الدكتوراه (37)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 204

(([136] برهان غليون، المصدر السابق، ص 106

([137]) وجيه كوثراني، المجتمع المدني والدولة في التاريخ العربي، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 123

([138]) المصدر السابق نفسه، ص 124

([139]) خالد زيادة، تعقيب في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص ص 132-134

(([140] المصدر السابق نفسه، ص 136-137

([141]) تتناقض وجهات النظر حول المدى الذي أثرت فيه السيطرة العثمانية على الوطن العربي فقال البعض إنها كرست الوحدة في حين قال آخرون أنها كرست التجزئة فعلى خلفية قيامهم بتجزئة دولة المماليك إلى ولايات متمايزة: مصر وحلب ودمشق وطرابلس وصيدا والحجاز واليمن والصومال وسنجق القدس ومتصرفية جبل لبنان انتهت الوحدة الإدارية والسياسية التي حققت في قلب الوطن العربي في أغلب السنوات التي أعقبت فتح الفاطميين لمصر سنة 358 هـ وحين استكمل العثمانيون السيطرة على العراق قسموه إلى ولايات: بغداد والموصل والبصرة وشهرزور. وفي المغرب أقاموا ولايات: الجزائر وتونس وطرابلس. وبسبب ضعف الروابط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية ما بين الولايات العربية، تعمقت الخصوصيات الذاتية لكل منها وداخل الولاية الواحدة. وعندها بذرت بذور التجزئة حتى قبل مجيء الاستعمار الأوروبي. انظر: عوني فرسخ، المصدر السابق، ص ص 47-48

([142]) انظر: محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي (3)، ط4، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000،ص 141

([143]) يرى الجابري إن (( منطق القبيلة الذي عالج به الصحابة مسألة الخلافة كان أقرب ما يكون إلى اختيار الأمة إلى العمل برأي (( الأغلبية ))، الأغلبية لا بالمعنى الكمي الذي يعتمد عدد الأفراد أو الأصوات بل بالمعنى (( الكيفي )): إن وزن المهاجرين، كيفيا كان أقوى من وزن الأنصار، كما أن مقام أبي بكر في الدعوة المحمدية لم يكن يعلوه مقام أخر غير مقام النبي نفسه )) المصدر السابق نفسه، ص 142

([144]) محمود إسماعيل، إشكالية مفهوم الدولة في الإسلام بين النظرية والتطبيق، في: قضايا فكرية: من الذي يحكم مصر؟ الكتاب الأول، المصدر السابق، ص 45

([145]) المصدر السابق نفسه، ص ص 47- 48

([146]) المصدر السابق نفسه، ص 48

([147]) أحمد صادق أحمد، مفهوم الدولة في الفكر العربي الإسلامي، فيقضايا فكرية: من الذي يحكم مصر ؟ الكتاب الأول، المصدر السابق، ص 55

([148]) حسن مكي العاملي، بداية المعرفة: منهجية حديثة في علم الكلام، الدار الإسلامية، بيروت، 1993، ص 50-51

([149]) يعد الخلاف في مسألة الإمامة من أولى وأخطر المسائل التي نشب حولها الخلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية، وعلى ما نعتقد أن هذا الخلاف هو جوهر الخلاف بين المذاهب وعليه وحوله تشكلت فرق أخرى، وحتى زمن ظهور المذاهب في نهاية الحكم الأموي لم تكن على الساحة السياسية الإسلامية فرق كثيرة، إذ انحصر الخلاف بين الدولة ومن يؤدلج لها من مفكرين ممن يشكلون مذهب الدولة الرسمي وبين الشيعة الذين يقولون بإمامة علي إبن أبي طالب عليه السلام. ومع تشكل المذاهب، كالمعتزلة والمرجئة وأصحاب الحديث وأهل السنة والإجماع وظهور الفرق الفرعية منها بدا الخلاف واسعا وتباينت الفروق في القضايا المتعلقة بالإمامة أو الخلافة ووجوبها وشروطها وتعيينها.

([150]) عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، المصدر السابق، ص 23

([151]) محمد جابر الأنصاري، المصدر السابق، ص 24-25

([152]) محمد عابد الجابري، المصدر السابق، ص 359

([153]) محمد جابر الأنصاري، المصدر السابق، ص 25

([154]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص ص80-81

([155]) المصدر السابق نفسه، ص 81

([156])المصدر السابق نفسه، ص 78

([157]) عبد الله التركماني، مقاربة حول أزمة المشروع القومي العربي وآفاقه المستقبلية، المستقبل العربي، السنة (25)، العدد (281)، تموز/يوليو، 2002، ص ص 24- 25

([158]) ورد في المصدر السابق نفسه، ص 93

([159]) انظر: عبد الحميد براهيمي، المصدر السابق، ص ص 105– 109

([160]) بسام الطيبي، البناء الاقتصادي والاجتماعي للديمقراطية، في: أزمة الديمقراطية في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 83

(([161] غسان سلامة، مراجعة كتاب (( The Formation of Modern Lebanon  )) للكاتب Meir Zamir ، المستقبل العربي، العدد (80)، السنة (8)، تشرين الأول/ أكتوبر، 1985، ص 156

([162])  Donald Hawley , The Trucial States , George Allen and Unwin ,London , 1970.

([163])  Philip S. Khoury  and Joseph Kostiner [ ed.] , Tribes and State Formation in the Middle East ,University of California Press , Berkeley , 1990

([164]) يوسف الشويري، المصدر السابق، ص 80

([165]) أنظر: غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، المصدر السابق، ص 180

([166]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة، المصدر السابق، ص 187

([167]) المصدر السابق نفسه، ص105- 106

([168]) حول الأوضاع الاقتصادية في بلدان المغرب العربي خلال الحقبة الاستعمارية، أنظر: عبد الحميد براهيمي، المصدر السابق، ص 77– 99

([169]) انظر :                   Albert Hourani, A History of the Arab Peoples , The Belknap Press, New York ,1992

([170]) المصدر السابق نفسه، ص 292

(([171] المصدر السابق نفسه، ص 374

([172]) محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم، المجتمع الموريتاني: من القبيلة إلى الدولة، المستقبل العربي، السنة (22)، العدد (243)، أيار/ مايو1999، ص43

([173]) أحمد ولد الحسن، تعقيب (1)، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 470-471

([174]) محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم، المصدر السابق، ص ص 48- 49

([175]) المصدر السابق نفسه، ص 51

([176]) باسكال يونيفاس، إرادة العجز: نهاية الطموحات العالمية والاستراتيجية، ترجمة: صالح السنوسي، منشورات جامعة قان يونس، بنغازي، 1998، ص 103

([177]) محمد لبيب شقير، المصدر السابق، ص 270

([178]) إيليا حريق، نشوء نظام الدولة في الوطن العربي، المصدر السابق، ص ص 27–48

(([179] المصدر السابق نفسه، ص 43

([180])  ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 218

([181]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص 177

([182]) المصدر السابق نفسه، ص 179

([183]) محمد جابر الأنصاري، المصدر السابق، ص 186

([184]) أنظر: عبد الحميد براهيمي، المصدر السابق، ص 109

([185]) ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 222

([186]) أحمد شكر الصبيحي، المصدر السابق، ص 128

([187]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص 177

([188]) مسعود ضاهر، المصدر السابق، ص ص 361–362

([189]) يوسف الشويري، المصدر السابق، ص 206

([190]) انظر: خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة، المصدر السابق، وأيضا، غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، المصدر السابق، ص ص 179– 192

([191]) نصر محمد عارف، التنمية المستقلة من منظور المشروع الحضاري (2)، في: نحو مشروع حضاري نهضوي عربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظما مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 590

([192]) المصدر السابق نفسه، ص 591

([193]) المصدر السابق نفسه، ص 158- 159

([194]) المصدر السابق نفسه، 160

([195]) المصدر السابق نفسه، ص ص 159-160

([196]) المصدر السابق نفسه، ص ص 162-163

([197]) انظر: خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (( من منظور مختلف ))، المصدر السابق، وأيضا، محمد جواد رضا، المصدر السابق.

([198]) محمد السعيد إدريس، المصدر السابق، ص 198

([199]) المصدر السابق نفسه، ص 199

(([200] محمد جواد رضا، المصدر السابق، ص 24

([201]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة، المصدر السابق، ص 63

([202])  المصدر السابق نفسه، ص ص 201-202

([203])  المصدر السابق نفسه، ص 202

([204])  المصدر السابق نفسه، ص ص 202– 203. وأيضا :

James O’Connor , The Fiscal Crisis in The State , St. Martin’s , New York . 1973

([205]) غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، المصدر السابق، ص ص 192-195

([206]) المصدر السابق نفسه، ص ص 204- 205

([207]) المصدر السابق نفسه، ص 205

([208]) ذلك أن حجم اقتصادها صغير إذ بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق الجارية 8.452  مليار دولار عام 2000 . رغم أن عدد سكانها كبير نسبيا (حوالي 5 مليون نسمة)، لذا فان دخل الفرد يبلغ 1677 دولارا في العام نفسه .كما توصف الأردن بأنها احد أكثر الأقطار العربية ذات الموارد الطبيعية والمالية المحدودة. فمن بين المساحة الكلية للأردن البالغة 89342 كيلومتر مربع، فان إجمالي المساحة المزروعة منها تشكل 3.3 في المائة فقط ولا تتجاوز نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي 2 في المائة، كما يعاني الأردن من مشكلة في المياه. ويفتقر إلى أية عائدات مالية أو نفطية لمواجهة التزاماته السكانية الكبيرة والدفاعية المكلفة. البيانات مأخوذة من جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، [وآخرون]، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2002، صفحات متفرقة

([209]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة، المصدر السابق، ص 63

([210]) سميح فرسون، المصدر السابق، ص ص 286-287

([211]) عبد الحميد براهيمي، المصدر السابق، ص 104

([212]) غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، المصدر السابق، ص 22

([213]) المصدر السابق نفسه، ص ص 206– 207

([214]) عبد الله ساعف، المجتمع المدني في الفكر الحقوقي العربي، فيالمجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: وقائع الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص ص 229

([215]) المصدر السابق نفسه، ص 230

([216]) الطاهر لبيب، هل الديمقراطية مطلب اجتماعي ؟ علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: وقائع الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 357

([217]) حيدر إبراهيم علي، المجتمع المدني في مصر والسودان، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: وقائع الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 504

([218]) المصدر السابق نفسه، ص 503

([219]) مصطفى كامل السيد، مؤسسات المجتمع المدني على المستوى القومي، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: وقائع الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص648

([220]) ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 287

([221]) المصدر السابق نفسه

([222]) محمد جواد رضا، المصدر السابق، ص 26

([223]) بسام الطيبي، البناء الاقتصادي الاجتماعي للديمقراطية، في: أزمة الديمقراطية في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 79

([224]) أماني قنديل، الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني في العالم العربي، مركز دراسات التنمية السياسية والدولية، القاهرة، 1992

([225]) ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 292

([226]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة، المصدر السابق

([227]) سعد الدين إبراهيم، [وآخرون]، المصدر السابق، ص 184

([228]) المصدر السابق نفسه، ص ص 184– 185

([229]) الإشارة هنا بالمفاهيم الأدنى هو (( مفهوم المجتمع الأهلي )) الذي تراجع فلم يعد يضم الجمعيات الخيرية والنوادي والهيئات الطوعية الإنعاشية والتربوية غير الحكومية، فأضحى يرمز إلى المؤسسات البدائية، السابقة لظهور الجماعة المدنية، والمتمحورة حول العشيرة والعائلة والطريقة الصوفية وغيرها. وهو ما يقود إلى اعتبار المجتمع الأهلي حالة تراتبية خاصة لا تفصح عن حيوية قابلة للحياة في دولة معاصرة، في حين يصبح المجتمع المدني شبكة هائلة من العلاقات والنشاطات الفردية والجماعية، والتي تنطوي جميعها في إطار الحداثة نفسها. يوسف الشويري، المصدر السابق، ص 244

([230]) ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 220

([231]) برهان غليون، بناء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الداخلية والخارجية، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: وقائع الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص ص 739-740

([232]) المصدر السابق نفسه، ص 741

([233]) المصدر السابق نفسه، ص ص 741-742

([234]) المصدر السابق نفسه، ص742- 743

([235]) المصدر السابق نفسه، ص ص 743- 744

([236]) المصدر السابق نفسه، ص 744

([237]) انظر: أحمد شكر الصبيحي، المصدر السابق، ص 68- 69

([238]) ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، المصدر السابق، ص 218

([239]) مسعود ضاهر، المجتمع المدني والدولة في المشرق العربي، المصدر السابق، ص 409

([240]) عبد القادر زعل، مداخلة، في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، المصدر السابق، ص 455

([241]) سميح فرسون، المصدر السابق، ص 284

([242]) فواز طرابلسي، تعقيب، في: الوطن العربي ومشروعات التكامل البديلة: أعمال المؤتمر العلمي الثالث للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، محمد محمود الإمام (تحرير)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص105

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى