الدول الأجنبية لها مصالح حيوية في أوطاننا العربية ولا فائدة تجدى من التحالف معها للتغلب على الصراعات الداخلية

بقلم : أ. د  عمار بوحوش 

  • المركز الديمقراطي العربي

إنه لمن الواضح أن المواطن العربي لا يحتاج إلى رأي خبير في العلوم السياسية لكي يوضح له أن الصراعات الداخلية في الدول العربية تحظى بموافقة الدول الغربية التي تبيع لنا السلاح الفتاك لأن ما يهمها هو السلاح والحصول على أموال وثروات ونفوذ في جميع المناطق العربية، وليس حل النزاعات المعقدة التي فلتت القرارات الحاسمة فيها من يد المعنيين بها، وهم العرب. المشكلة الرئيسة في بلداننا العربية أن القرارات الفوقية لا تنبع من المتخصصين وأهل المعرفة ورجال العلم الذين يتعاملون بحكمة ورزانة مع القضايا الاستراتيجية التي تخص أوطاننا، وإنما تنبع القرارات الفوقية من الأوتوقراطيين وليس من حق أي مواطن أن يعترض على اختياراتهم السياسية التي تخضع لاعتبارات فردية وتوجيهات من قوى خارجية بناء على مصالح وتحالفات تخدم مصالح الدول الأجنبية التي يتم التعويل عليها لحسم النزاعات الداخلية لصالح الحكام الأقوياء في هذه المراحل الحاسمة.

اختلاف الأهداف باختلاف المصالح:

العبرة التي نستخلصها من كل ما سبق، أن ثقافتنا العربية هشة وأننا شغوفون بوجود قادة أوتوقراطيين يقررون بمفردهم ما هي مصلحة الدولة والمواطنين لأنهم أقوياء ومعارضة قراراتهم تعتبر غير لائقة وممكن اتهامهم بأنهم لا يتمتعون بالحس الوطني! المشكل هنا أننا لم نتعود على الاستعانة بالمؤسسات وبالخبراء الذين يتداولون في اتخاذ القرارات بعد مشاورات مكثفة. فقرار الزعيم، في ثقافتنا، هو الذي ينبغي التقيد به، والمناقشة لا ينبغي أن تكون شكلية ولا تخلق شكوكا في صحة أي قرار يتخذه الزعيم الأوتوقراطي، بينما نحن في علم السياسة نرى أن المصلحة العامة تقتضي مشاورة المعنيين بالموضوع والابتعاد عن اتخاذ القرارات التي تخدم المصالح الشخصية ولا تخدم بالضرورة المصلحة العامة. والكارثة الكبرى، هي أن القادة يخضعون للتأثير والضغوطات الأجنبية، لأنه، من الناحية الواقعية، نجد أن الأجانب يدخلون في مساومات مع القادة العرب على توفير الأمن والسلاح والغذاء لحكوماتهم مقابل مراعاة مصالحهم الخاصة بهم وتوفير الحماية إن أرادوا البقاء في السلطة والاستفادة من المزايا المالية. ولهذا، فإن قرارات القيادة الآتية من أعلى، قد تكون مضللة ولا تخدم في واقع الأمر المصلحة الوطنية وإنما تخدم المصالح الشخصية للحكام.

نكسات القرارات الخاطئة

إن المتتبع للسياسات المنتهجة من طرف بعض القادة العرب، سيلاحظ أن معظم القادة العرب أخطأوا في العديد من القرارات الفردية، وأن هذه القرارات عادت بالوبال على شعوبهم. وفي البداية، دعنا نبدأ بالرئيس العراقي صدام حسين الذي كان شبه مقتنع بأن الجنود الأمريكيين المسيحيين لن يدخلوا الأراضي السعودية الإسلامية ويحاربون الجيش العراقي، لكنه كان على خطأ لأن الملك السعودي سمح للجنود المسيحيين بدخول أراضي المملكة العربية السعودية وأرض الكويت وهاجموا بلاده وأطاحوا به. كما أنه كان يتوهم أنه في إمكانه محاربة الفرس وإيقاف المد الشيعي للثورة الإيرانية وذلك بتشجيع من الأمريكيين ودول الخليج، غير أن الأحداث أثبتت خطأ في قراراته، وأن الشيعة والأمريكيين هم الذين شنقوه في يوم عيد الفطر! ونفس الأخطاء وقع فيها الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي أقام الدنيا وأقعدها بقراراته المثيرة للجدل في سنة 1967، حيث اعتمد على جنرالات يتميزون بالولاء له ولنظامه، لكنهم ليسوا أكفاء، وكانوا يعبثون بالأمن المصري، وكانوا في سهرات مجنونة ليلة الهجوم على الطيران المصري وتحطيمه في بداية جوان 1967. كما أنه اتخذ قرارا خاطئا بوضع ثقته في الرئيس الأمريكي لندن جانسون الذي طمأنه بأن إسرائيل لن تبادر بشن هجوم فجائي على مصر. غير أن هذه الخديعة انطلت عليه، وانقض الجيش الإسرائيلي على مصر وحطمها بين عشية وضحاها! وفي سياق القرارات الفوقية الخاطئة، نلاحظ أن علي عبد الله صالح في اليمن، كان يدعي أن شعبه كان يحبه والجماهير تطلب منه البقاء في السلطة لخدمة شعبه، لكن هذا الشعب ثار عليه والتجأ للشارع للإطاحة به، ولذلك اعتمد على السعوديين للبقاء في الحكم، وسهل على الحوثيين الانفراد بالسلطة، وفي نهاية الأمر، تخلت عنه المملكة العربية السعودية وتم اغتياله من طرف الحوثيين الذين سيطروا على الجيش اليمني واستولوا على صنعاء في عهده. ومن عجيب الصدف أن القيادة السعودية في عام 2020م، قررت، وذلك بمشاركة دول متحالفة معها، أن تقضي على الأقلية الحوثية في اليمن، في مدة وجيزة لكن هذا القرار كان خاطئ، حيث أنه بعد 5 سنوات من الحرب في اليمن، لا زالت الحرب تستنزف ثروات المملكة العربية السعودية، والحوثيون أصبحوا قادرين على إرسال الطائرات بدور طيار والصواريخ العابرة للحدود إلى الأراضي السعودية إلى درجة أنها أصبحت تهدد المدن والمنشآت النفطية في المملكة العربية.

وفي دول المغرب العربي، نلاحظ أن العقيد معمر القذافي، قد جاء إلى الجزائر ذات يوم وألقى خطابا في المجلس الشعبي الوطني الذي تسيطر عليه جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد في الجزائر، وقال فيه: من تحزّب فهو خائن!! إنه لمن الواضح أن قرارات القذافي كانت فردية سواء في إضعاف الجيش الليبي وتعويضه بالميليشيات الموالية له، وظالمة في حق الإسلاميين الليبيين وقام بمنح ما يزيد عن 50 مليون أورو لحملة الرئيس الفرنسي الذي يرجع إليه الفضل في اغتياله في ليبيا سنة 2011 وذلك بدعم من قوات الحلف الأطلسي التي تركت ليبيا في فراغ سياسي إلى يومنا هذا. وإذا انتقلنا إلى تونس، يمكننا أن نلاحظ أن الرئيس بن علي قد تواطأ مع شخصيات تونسية قريبة من الرئيس بورقيبة وقام بانقلاب أبيض على رئيس الدولة التونسية في سنة 1987، وأكد في أول خطاب له ” لا ظلم بعد اليوم في تونس “. لكنه بعد 23 سنة من حكم تونس، ثبت بالأدلة والحقائق، أن معظم قراراته الفردية كانت ظالمة، فقد خرق كل القوانين التونسية وقام باضطهاد آلاف المعارضين لحكمه من إسلاميين ويساريين ونكل بهم، وانتهج سياسيات يغلب عليها التودد للدول الغربية حتى تغض الطرف عن سياساته الاستبدادية وخنق معارضيه ومحاربة التعددية الحزبية. كما تميزت فترة حكمه أيضا بفساد مالي وإداري، وأصبحت عائلته وعائلة زوجته رمزا للفساد في تونس. وفي يوم 17 ديسمبر 2010م اندلعت ثورة تونسية إثر إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده بسيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة الشرطة لعربة الفاكهة التي كان يرتزق منها. لقد فجرت وفاة البوعزيزي مخزون الغضب عند جموع التونسيين الرافضين لتردي أوضاع بلدهم، ولم تفلح عبارته المشهورة ” فهمتكو ” في احتواء المظاهرات والاحتجاجات. نفهم من هذا أن قرارات بن علي كانت فردية، ولم تتعاطف معه الدول الغربية لمنحه فرصة الاختباء بها يوم قرر الهروب إلى الخارج والعيش في المنفى.

وبالنسبة للجزائر في عهد الرئيس هواري بومدين، فقد أظهر هذا الزعيم براعة كبيرة في اتخاذ القرارات الصائبة التي لا ينكرها إلا جاحد، إذ تميزت فترة حكمه (1965-1978) بالاستقرار وفرض أسلوبه الخاص به وبطريقة حكمه، غير أن انفراده بالسلطة واتخاذ قرارات في سنة 1974 كانت غير صائبة آنذاك، ولا يمكن السكوت عنها. وهناك عدد كبير من الباحثين الذين يرون أن الرئيس هواري بومدين، رحمه الله، قد تعامل مع الملك الحسن الثاني، ملك المغرب الشقيق، في عام 1974 بطريقة لم يكن موفقا فيها، ونتج عن قراراته الفردية، التساهل مع الحسن الثاني الذي قام بالاستيلاء على أراضي الجزائريين المقيمين بالمغرب الأقصى، وخاصة أنهم سخروا أموالهم وثرواتهم وأراضيهم للثورة الجزائرية، مع العلم أن هناك قوانين تمنع اتخاذ أي قرار في الجزائر أو المغرب لمصادرة أملاك المواطنين المقيمين في الجزائر أو المغرب. لقد كان من المفروض ان يتخذ الرئيس هواري بومدين قرارا حاسما ويوقف الملك المغربي عند حده، ولا يسمح له بالاستيلاء على أراضي الجزائريين المقيمين بالمغرب ثم الاستيلاء على الصحراء الغربية التي عطلت وحدة المغرب العربي إلى يومنا هذا. إن قرارات الحسن الثاني التعسفية قد مكنته من كسب تأييد شعبه إثر مصادرة أراضي الجزائريين في المغرب وكذلك تنظيم المسيرة الخضراء لتوحيد المغاربة بدعوى المحافظة على السيادة المغربية على الأراضي التي كانت محتلة من طرف إسبانيا.

غياب ثقافة الاعتماد على الكفاءات المحلية:

بكل بساطة، نلاحظ أن معظم القادة في العالم وكبار المسؤولين في أية دولة، يلتجؤون إلى اتخاذ قرارات حاسمة في حالة مرضهم إلى كبار الأطباء الأخصائيين في بلدانهم أو في العالم لمعالجتهم ومساعداتهم للتغلب على المرض، لكن عندما تواجههم أزمات مالية وسياسية داخل بلدهم، إنهم لا يفكرون في استشارة الأخصائيين للاستعانة بهم والاعتماد عليهم لحل المشاكل العويصة التي تواجههم، بل يتخذون القرارات الارتجالية ويتوهمون أنهم يعرفون ويتخذون قرارات ظرفية، تساعدهم على البقاء في السلطة والتمتع بثروات البلاد. إن هذا التوجه يعكس فكرة جوهرية في موضوع اتخاذ القرارات الصائبة والقرارات الخاطئة التي تلحق الضرر بالمصالح الحيوية لأبناء الشعوب النامية. فالخبراء لا قيمة لهم في وطنهم وإهمالهم دفع بهم إلى البحث عن حياة أفضل في الدول المتقدمة. وفي هذا الصدد تحضرني في بعض القضايا الواقعية التي تجسد هذا التوجه في بلداننا العربية. ففي عام 1975 التقيت بالخبير الجزائري في راديو الأشعة الدكتور الياس زرهوني في مستشفى عيسات ايدير بالجزائر العاصمة ووجدته مستاء من العمل في مصلحة الراديولوجي لأنه لم يتمكن من الحصول على قطعة صغيرة لجهاز الراديو (fusible)، وبعد مدة قصيرة عرفت أنه هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث التحق بجامعة جونز هابكنز ثم صار رئيسا للمعهد الوطني الأمريكي للصحة الذي تبلغ ميزانيته 42 مليار دولار أمريكي في سنة 2019. في هذا اليوم من سنة 2020 وبعد أن نال سمعة دولية في مجال اختصاصه، قرأت في الصحافة الجزائرية اليوم أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد قام بتعيين البروفيسور إلياس زرهوني مستشارا خاصا للوكالة الوطنية للأمن الصحي، وهذه الخطوة جاءت متأخرة لأن عمره الآن 69، وكان من المفروض أن يعتمد عليه قادة بلاده منذ البداية ويساهم في تحسين المنظومة الصحية منذ تخرجه من جامعة الجزائر سنة 1975.

وهناك مسألة أخرى راسخة في ذهني وهي تتعلق بأستاذ عراقي متخصص في الفيزياء، متخرج من جامعة مرموقة هي M.I.T وقد عاد إلى بغداد بعد تخرجه وحصوله على الدكتورة وتقرر تعيينه رئيسا لجامعة بغداد (1959-1963). وعندما وقع انقلاب 1963، تم اعتقال الدكتور عبد الجبار عبد الله بدعوى الشك في انتمائه إلى جماعة عبد الكريم قاسم. لكن الشيء البارز في موضوع هذا العالم الفيزيائي، أن الذي صفعه وأهانه وجرده من ملابسه يوم إلقاء القبض عليه، هو أحد طلاب هذا الأستاذ الفاضل. وفي أكتوبر من عام 1963 تم إطلاق سراحه، وعاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكي يزاول التدريس في جامعتي كولارادو ثم جامعة نيويورك بمدينة ألباني (عاصمة الولاية)، إلى أن توفي سنة 1969م.

والعبرة من كل هذا، أن كثيرا من المسؤولين العرب دمروا العلم والعلماء والتعليم في أوطانهم واهتموا بإنشاء جيل مهوس بالغناء وكرة القدم والتهافت على الهروب إلى الخارج للبحث عن حياة أفضل.

بيع التكنولوجيا هي الوسيلة الفعالة لبسط النفود الأجنبي

إنه لمن الواضح في وقتنا الحالي أن كل شيء مبني على المصالح الاقتصادية لكل دولة، والسياسة ما هي إلا واجهة لتحقيق المنافع الحيوية لكل دولة. فالشعارات الزائفة للديمقراطية والسيادة الوطنية وحقوق الإنسان تستعمل في معظم الأحيان بطريقة انتقائية وبأسلوب التوائي لبلوغ الأهداف المسطرة في كل بلد. وليس هناك جدال بأن الدول المتقدمة تسعى لأن تبيع ما تنتجه مصانعها واليد العاملة المتوفرة بها بداخلها، وبذلك تخدم مصالحها الداخلية وترضي أصحاب الأموال الذين يستثمرون في داخل بلدانهم ويوفرون الوظائف لمواطنيهم. ولعل الشيء الغريب في هذا الوقت أن إنتاج الثروة والبضائع بدأ يتغير بسرعة فائقة بعد أن أثبت الصينيون تفوقهم في إنتاج التكنولوجيا والبضائع بأثمان زهيدة وأصبحت الشركات الرأسمالية الغربية تتسابق للاستثمار في الصين لأن هذه الأخيرة أصبحت مسيطرة على الأسواق العالمية.

ما يهمنا في هذا الموضوع ليس الصراع بين المؤسسات الاقتصادية العملاقة في الصين والمصالح الاقتصادية في الدول الغربية، وإنما ما يهمنا نحن هو توطين التكنولوجيا والصناعات التحويلية في الدول النامية. جوهر المشكل في موضوع التنمية بالدول الصغيرة التي تملك الثروات الباطنية في أراضيها، أنها غير قادرة على وضع تصورات وسياسات مدروسة من طرف الخبراء للخروج من الأزمات التي تتخبط فيها. إن الاهتمام كل الاهتمام في الدول النامية موجه إلى الصراعات بين النخب والأشخاص الأقوياء لتبوأ المناصب السياسية والاستعانة بالموالين والمناصرين للتغلب على خصومهم السياسيين الدين يسعون لحرمانهم من الوصول إلى كرسي القيادة. وبطبيعة الحال، إن من يعارض، يعتبر في نظر السلطة غير وطني، ويتهم بعرقلة قادة بلاده. أما جوهر الموضوع الذي هو الاعتماد على الخبراء المحليين والاستفادة من مهاراتهم وقدراتهم على تطوير وإنتاج الثروات الوطنية، فلا محل له من الإعراب في أرض الواقع. ولهذا، فإن أسلوب الإدارة بالأزمات لن يحل المشاكل التي تتخبط فيها الدول النامية. إن الروتين الحكومي وتراكم الموظفين في المكاتب بدون أن ينتجوا أي شيء، وخلق البطالة المقنعة في المؤسسات الحكومية لن يساهم في تحسين الأوضاع الاجتماعية لأن نتيجة هذه السياسات الارتجالية ستقودنا إلى الاعتماد على الدول المنتجة للتكنولوجيا وستبقى خزائن الدولة فارغة من العملة الصعبة وفي يوم من الأيام لن يكون في إمكاننا اقتناء المواد الغذائية من الخارج.

إنني أعترف بأنني ذهلت لتصريح رئيس الحكومة الجزائرية السابق أحمد أويحيى الذي أعلن أثناء محاكمته بأنه لو أتيحت له الفرصة لكي يعود إلى السلطة فإنه سيتخذ نفس القرارات وينتهج نفس الأسلوب في قيادة الحكومة، وهو الأسلوب الذي عاد عليه بالوبال ومصادرة أملاكه وثرواته من طرف العدالة الجزائرية. إنه سيقضي البقية من حياته في غياهب السجون، ومع ذلك فلا يعترف بأخطائه ولا يتأسف على قراراته الارتجالية التي نتج عنها فقدان ثقة أبناء شعبه في حكومته والإطاحة به وبرئيسه المعزول والمقيم في منطقة نائية بضواحي الجزائر العاصمة في تيبازة.([1])

وفي الحقيقة أن مشكل توظيف الإطارات الكفأة في الدول النامية والبحث عن عدالة اجتماعية، قد تجاوزه الزمن، حيث أن الدول المتقدمة أصبحت تستثمر في إنتاج آلات العمل التي ستحل محل العمال في الوظائف التقنية وبذلك تساهم في إغراق الأسواق بالبضائع الرخيصة. إن هذا التوجه يعني أن الدول النامية ستبقى تابعة للدول الغربية بسبب صعوبة إنتاج بضائع مصنوعة محليا، وبأيادي باهظة الثمن.

إن الذكاء الاصطناعي واستبدال العامل بالآلة واستخدام الروبوط، قد يتسبب في اختفاء الكثير من الوظائف التي تعودنا على الارتزاق منها. ولهذا فإنه لا مفر من تدريب العمال على اكتساب مهارات جديدة تساير روح العصر والوقت الذي نعيش فيه.

إننا نعيش في عهد الابتكارات والاختراعات والاقتصاد الحديث أصبح يقوم على أساس وجود تكنولوجيا حديثة، والعقود المؤقتة لإنجاز العمل عن بعد، وهذا يتطلب من قادة اليوم مسايرة روح العصر وتهيئة بيئة عمل جديدة، يتم فيها مسايرة التغيرات التي تحدث في المجتمعات المعاصرة.

نستخلص من ما تقدم، أن عقلية متخذ القرار في بلداننا النامية بعيدة عن أجندة الاستثمار في مجال التعليم والبحث العلمي وتركز بصفة خاصة على استيراد التكنولوجيا بدلا من بنائها وتوطينها داخليا. إن المشكل في جوهره، أن العديد من القادة في دولنا العربية يركزون بصفة خاصة على عملية إحراز انتصارات سياسية على خصومهم أكثر من ما يركزون على البحث عن تعيين إطارات كفأة ومتابعة عمليات التنمية ورصد الأموال الكافية لتحقيق التنمية المطلوبة. إذا نظرنا الآن إلى قضايا الحروب المدمرة في عدة دول عربية، فإننا سنلاحظ أن أموال الشعوب مسخرة لشراء الأسلحة ودفع الرشاوى لرجال الأعمال، أما التنمية البشرية ومتابعة المشاريع الاقتصادية فهي مؤجلة إلى وقت لاحق.

المطلوب الإبداع والإنتاج وتوطين التكنولوجيا

البحث العلمي والابتكار أو الإبداع يتطلب تمويلا سخيا من خزينة الدولة لأن نتائج البحث العلمي طويلة ومتواصلة ولا يتحقق فيها الربح المالي بسرعة، ولذلك فالدعم الحكومي المتواصل ضروري للوصول إلى نتائج ملموسة. إن الغاية من البحث العلمي لا تتمثل في صناعة وحيازة البضائع والتكنولوجيا وإنما تتمثل في تقديم الدعم وتمويل كل الأبحاث والتحسينات التكنولوجية في ميادين الإعلام والاقتصاد والتجارة الخارجية. إن الدول المتقدمة تقدم لمراكز الأبحاث التشجيع والحوافز للابتكارات العلمية مثل الإعفاءات الضريبية التي تستفيد منها قطاعات التطوير التكنولوجي، وتقديم المساعدات الحكومية في مجال تشجيع التصدير، وتدريب الكفاءات بقصد تحسين المستوى ومكافأة أصحاب المهارات العلمية.

ولعل الشيء الذي ينبغي الانتباه إليه في مجال توطين التكنولوجيا في كل بلد، هو تسابق الحكومات على براءة الاختراع في كل حقل، والتعرف على الاختراعات الجديدة التي تفيد كل حكومة وتساعدها على توين الصناعات أو تحسين مستوى الآلات والحصول على اختراعات جديدة مفيدة لكل مجتمع. ففي وقتنا الحاضر، نلاحظ تسابق حوالي 200 مخبر دولي لإنتاج لقاح جائحة كورونا، والدولة التي تنجح في إنتاج عقار يعالج هذا الوباء، ستبيع إنتاجها بالملايير وتحصل على فوائد جمة من هذا اللقاح ضد الوباء العالمي، وقد ظهرت هذه الحقيقة في يوم 12/08/2020 وهو اليوم الذي أعلن فيه رئيس فدرالية روسيا بوتين أن العلماء الروس توصلوا إلى إنتاج لقاح لمعالجة وباء كورونا فيروس، وأن الشعب الروسي سعيد جدا بهذا اللقاح وبجهود علمائه الذين اجتهدوا وتوصلوا إلى إنتاج هذا اللقاح الذي سيعود بالفائدة على الشعب الروسي.

ونستخلص من هذه النتائج الباهرة، أن التفوق التكنولوجي هو الركيزة الأساسية لتقدم الشعوب. فالدولة التي تنجح في توطين التكنولوجيا هي التي تنتج وتصدر منتوجاتها المتطورة إلى الدول التي اقتصر دورها على استيراد المنتوجات الضرورية لها من الخارج ودفع الأثمان الباهظة لاقتناء المواد الطبية أو التقنية من الخارج. وبعبارة أخرى، أن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها البلدان النامية في مجال التقدم العلمي هي قلة العناية بالموارد البشرية المحلية وعدم الاعتماد عليها أو تكليفها بتسيير مشاريع التنمية بفعالية وتحقيق النتائج الباهرة. إن الخطأ الموجود في الدول النامية هو انعدام الإرادة السياسية لدعم وتطوير القدرات الذاتية والالتجاء إلى شراء الآلات والمعدات والاعتماد على القدرات الإنتاجية القادمة من الخارج.

إن الحلول السهلة لاستيراد الأجهزة والأدوات والمعدات من الدول المتقدمة، أي شراء التكنولوجيا، لن تفيد الدول النامية لأن صرف العملة الصعبة، يخدم الإنتاج الخارجي، ويقزم الإنتاج المحلي. إن الحل الجذري يكمن في دعم ورعاية العلماء المحليين من خبراء وعلماء في البحث العلمي. وعليه، فإن تشجيع الابتكار والاختراع المحلي من طرف خزينة الدولة في كل بلد هي عملية ضرورية لنجاح أي اختراع أو ابتكار، لأن البحث العلمي هو عبارة عن عمليات تدريب وتكوين وتطبيق أسس المعرفة، وهذا ما يفتح الطريق لغزارة الإنتاج وسد الحاجيات الأساسية لكل أمة. إنه لمن الواضح أن العناية بالتدريب ورفع مستوى القدرات للموارد البشرية، هو الذي يحقق الأهداف المنشودة للتنمية. والشيء الذي لا جدال فيه أن من يملك زمام التكنولوجيا اليوم، يملك زمام النجاح غدا.

([1]الخبر، العدد الصادر يوم الثلاثاء 7 جويلية 2020.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button