دراسات دينية

الذات في أدب محمد إقبال.. مفهومها ومعالم بنائها ودورها في النهوض الحضاري للأمة

حمزة محمد جامع (السوداني) – ملتقى الباحثين السياسيين العرب

كان التحدى الأساسي الذى واجه مسلمي شبه القارة الهندية – ما قبل التقسيم – هو تحدى العقيدة الهندوسية، أقدم ديانات الهند وأكبرها، التي ترى أن على الإنسان أن يفني ذاته في الوجود وينسحب من الحياة ويتخلى عن أي إرادة له ويتوقف عن أي دور فاعل فيها، متفرغا للتأمل الذى من شأنه أن يصل به إلى (النيرفانا) من خلال الفناء في الوجود.

في هذا المناخ الفكري، وفي ظل هذا التحدي المعرفي، نشأ محمد إقبال وحاول صياغة أطروحاته الإسلامية التجديدية، خاصة بعد ما لاحظه من تسرب بعض التقاليد والأعراف الفكرية والروحانية الهندوسية إلي بعض المفكرين والقادة الدينيين والفرق الإسلامية في بلاده تحت مسميات مختلفة، وهو الأمر الذى وصل إلي ذروته مع ظهور الترجمة السياسية لهذا الفكر متمثلة في الحركة القاديانية التي زعمت أنها تقدم تأويلاً في إطار الإسلام، خاصة دعوتها لتعطيل الجهاد ضد الإستعمار الإنجليزي، وهو الأمر الذي كشف مدى عمق العلاقة بين فلسفة (اللافعل) الهندوسية، وبين مبدأ التوقف عن الفعل/الجهاد ضد الاستعمار. وتكاد هذه الإشكالية أن تكون جوهر التطور والإبداع الفكري الإصلاحي والتجديدي لإقبال، وهكذا تشابك التحدي السياسي بالتحدي الفكري فكانت الاستجابة العبقرية لإقبال.

اولاً: مفهوم الذات لغة، وتحديد مفهومها ومنابعها عند إقبال:

تعنى الذات وفق المعاجم العربية: النفس، والشخص. وأما معناها في اللغة الفارسية بمعنى القريب، وهو ضد الغريب، وأما الأردية، فهى تحمل معنيين: معنى إيجابياً، ومعنى سلبياً، فالمعنى السلبي: هو الأثرة، والفخر، والأنانية، بينما معناه الايجابي يتضمن تعرف الإنسان على نفسه، وتقويتها والاستقلال بأمرها، وإخراج ما أُودع فيها من إمكانيات. ويمكن أن يعبر عن هذه الكلمة نظر إلى مواضع استعمالها المختلفة بالاعتزاز بالنفس، وعلو الهمة، والاعتماد على الذات، واحترام الذات، والثقة بالذات، والحفاظ على الذات، بل تأكيد الذات حينما يكون ذالك ضرورة لمصالح الحياة، والقدرة على التمسك بقضية الحق، والعدالة والواجب وما ذالك من صفات الطموح، والتطلع، والتوجه إلى معالي الأمور، والتجافي عن الفتور، والعجز، والميل إلى سفاسف الأمور.

وأما مفهومها في أدب إقبال فإنه يقصد معناها الإيجابي بمعنى العناية بالذات يقول إقبال في مقدمة ديوانه: الأسرار والرموز: وينبغى أن يعلم القراء أن لفظ “خودى” لا يستعمل في هذه المنظومة بمعنى الأثرة، كما تستعمل في اللغة غالبا، إنما معناها الإحساس بالنفس، أو تعيين الذات.

وقد استعنل إقبال لتفهيم مفهوم الذات تعبير: الوحدة الوجدانية، أو نقطة وضاءة للشعور، ويعنى بذلك أن الذات وحدة، تجتمع فيها عناصر الرقي، والتطور، وعوامل الفشل، والإخفاق معاً، فهى تتكون من الكثرة، ولكن هذه الكثرة تقف عند نقطة الوحدة، وتلك نقطة هي الأنا. ولكن الأنا أشعرها بنفسي، ولا يشعرها غيري، لأنه لا يمكن إدراكها بالحواس الخمس، فوصف تلك الوحدة بالوجدانية، أي أنها تدرك بالوجدان والشعور ويزيد إقبال الامر وضوحا عندما قال: وحقيقتي بتمامها في منزع تدبيري، فأنت لا تستطيع أن تدركني بوصفي شيئاً في مكان أو مجموعة من تجارب في نظام زماني، بل يجب أن تفسرني، وأن تفهمني، وأن تقدرني في أحكامي، وفي منازعي الإرادية، وفي أهدافي وآمالي.

وليس من المعقول تعقيد هذه الفكرة، والتفلسف فيها كما يقول عبد الغني: الذات شئ عادى، وليست نظرية فلسفية يمكن أن نشرحها بمعرفة الذات، ومعرفة حدودها، وعرفان النفس، وتزكيتها وتقويتها، وبناء الشخصية، وتربية الجوهر الذاتي، وتشكيل السلوك.

منابع هذه الفكرة: 

لا شك أن الفلاسفة وعلماء النفس اهتموا اهتماماً كبيراً بمفهوم الذات، ولذلك.. عندما تمت ترجمة كتاب إقبال (أسرار خودي) إلى الإنجليزية، زعم بعض المفكرين الغرب أن هذه الفكرة قد سبق إليها ديكارت، ونيتشه، وهيجل، وشوبنهور، وغيرهم من الفلاسفة الألمان، وثارت شكوك من هنا وهناك في أصالة هذه الفكرة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى ثلاث بيئات فكرية: هندية وعربية وغربية.

أما وجهة النظر الهندية: فهناك من يرى أن محمد إقبال قد تأثر بنتشه، وأخذ من أفكاره، لكنه لم يأخذ منه شيئاً إلا بعد أن صبغه بصبغته، وأشار إلى وجهة النظر هذه خليفة عبد الحكيم صاحب كتاب: “فكر إقبال بالأردية، ورأى أن كثيراً من الناس أخطأوا في فهم فكرة الإنسان الكامل عند إقبال، حين شبهوا هذه الفكرة بفكرة الرجل الخارق عند نتشه”.

وأما وجهة النظر العربية: فهناك من يرى أن محمد إقبال أخذ من نتشيه بعض المبادئ التي تخص على القوة والإنسان القوي، وبدلاً من الإنسان الأعلى عند نيتشه، تكلم إقبال عن الإنسان الكامل، وأشار إلى وجهة النظر هذه على حسون.

وأما وجهة النظر الغربية: فهناك من يرى تشابها وتأثراً بين نظريتي إقبال ونيتشه، وأنهما تلتقيان في تعظيم القوة والدعوة إليها، وأشار إلى وجهة النظر هذه البريطني دكسن.

أما وجهة نظر إقبال نفسه؛ فقد نفي بشدة أن يكون قد أخذ من نيتشه، أو تأثر به، وعد من يقول بهذا الرأي أنه لا يعرف الحقيقة، وهذا نص كلامه: “كل من حاول إثبات استفادتي من نيتشه فهو لا يعرف الحقيقة، إن نظريتي في الإنسان الكامل قد أبديتها وكتبت فيها قبل أن أعرف نيتشه بسنين طويلة، وقد سبق أن نشرت مقالا في هذا الصدد منذ فترة طويلة، ثم ألحقته في رسالي للدكتوراه عن تطور ما وراء الطبيعة في إيران عام ۱۹۰۸م.”

ومن أقوى الأدلة على ذلك، أن إقبال لا يكثر الاستشهاد بقوله، حتى قال زكي الميلاد: “وحين طالعت كتاب “ما وراء الطبيعة في إيران” وجدت أن إقبال لم يأت فيه على ذكر نيتشه قط، مع كثرة الأسماء التي جاء على ذكرها، وقاربت سنين اسم ينتمون إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة، وأكثرهم من الألمان. وكان إقبال يعترف بفضل نيتشه في العلم، وبأنه فيلسوف كبير، ونافذ البصيرة، ووضعه تحت عنوان: “الحكيم نيتشه”. ولكنه نقده بعدم معرفته التوحيد، والقلب، والعشق، فكأن هذا هو الفرق البين بين فكره وفكر نيتشه.

المنبع الحقيقي لهذه الفكرة هو القرآن والتصوف الإسلامي:

مما لا ريب فيه عندي أن إقبال استقى فكرته عن الذات من القرآن الكريم، فهو يذكر في محاضرة ألقاها عن الذات الإنسانية أن القرآن الكريم، ويؤكد شخصية الإنسان وفرديته، فهناك ثلاثة أمور واضحة على القرآن الكريم: –

ا/ أن الإنسان مصطفي من الله، تعالى قال الله تعالى (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ).

ب/ الإنسان خليفة في الأرض قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ في ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً).

ج/ الإنسان أمين على شخصيته حرة، أخذ تبعتها على عاتقه، قال تعالي (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا).

لذلك، حينما سئل إقبال عن مصدر فكرته أجاب: إنه تأمل أية من كتاب الله سبحانه وتعالى:( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم).

فتكشفت له حقيقة مهمة، وهي أن على كل مسلم أن يعمل على تقوية ذاته، ومن هنا اتخذ من هذه الآية الكريمة أساسا لفلسفته عن الذات، يقول في ديوانه “زیور العجم”:

فما قولي (أنا) وهي الضياء        وفي (إنا) عرضنا ما نشاء

إضافة إلى ذلك، استفاد إقبال في تبني هذه الفكرة من التصوف الإسلامي، ونهل بخاصة من مورود الشعر عن جلال الدين الرومي، والمتصفح لأسرار خودي يرى أثر “مثنوي” الرومي واضحا فيه. ويذكر إقبال في مقدمة هذا الكتاب أن الرومي هو الذي أيقظه، وشبهه، ودعاه أن يسلك هذا السبيل، وينشر في الناس أفكاره، ويبلغهم رسالته، وهو يعترف للرومي بالإمامة في كثير من أشعاره، ولما نظم إقبال.

جعل الرومي بمثابة ملهمه، ويقول: “إن القطب الرومي المرشد، وصاحب الضمير الصافي هو أمير قافلة العشق السكران، علا مقامه الشمس والقمر، يجعل من نهر المجرة حبلاً لخيمته لقد استقر نور القرآن في صميم صدره، فغدا جام جمشيد خجلاَ أمام مرآته، أنى لموج يقيم منزله في لجة بحره، أنا ذاك الذي أوتي السكرة بعد السكرة من صهبائه.

كما يعترف بفضل غيره من عظماء الصوفية فيقول: إنني أعلن أن فلسفة أسرار خودي برمتها مأخوذة من مشاهدات، وأفكار المتصوفة، وحكماء الإسلام …. إنني لم أقدم الأفكار الجديدة في لباس قديم، ولكني أوضحت الحقائق القديمة في الأفكار الجديدة.

تشخيص إقبال لواقع الأمة:

إن فلسفة الذات (الذاتية) التي صاغها إقبال نستشفها من خلال قراءة أعماله، وسيرة حياته، والظروف التي عاشها، مما يجعلنا ندرك أن هناك عوامل خارجية وعوامل داخلية ساهمت في صياغة فلسفته هذه، أو قل لأسباب متعددة شخص بها حال الأمة وواقعها وصياغة فلسفته.

كان إقبال وثيق الصلة بالأمة الإسلامية، الأمة التي ينتمى إلي هويتها وثقافتها وتاريخها، ويتحسس آلامها وآمالها، وظل يتطلع الذي تستعيد فيه هذه الأمة مدنيتها ومجدها وازدهارها الحضاري وشعره ونثره ينبضان بهذه الروح ويتألفان بها.

ولهذا فإنه لم يهتم بواقع الأمة في الهند فقط، بل كان شديد الاهتمام بسياسة الغرب الاستعمارية في الهند بخاصة والعالم الاسلامية بعامة، وتآمر الغرب على الخلافة العثمانية حتى سقطت، وازدياد حملات المستشرقين على العالم الإسلامي، وازدياد حركات التشكيك في الدين، والتغريب والتبشير، وتعمد إذلال المسلمين عن طريق إضعافهم اقتصاديا بالاستدانة، وتصريح ساسة أوروبا ومفكريها بعدائهم للإسلام وعملهم على تقسيم أقطاره وتقطيع أوصاله … وتفاقم الخطر الصهوني ولا سيما بعد وعد بلفور.

ومن أهم ما أنشد من قصائد شخص فيها ما يعانيه العالم الاسلامي من أمراض، نجد قصيدة (شكوي وجواب شكوى) أو كما سماه العلامة الهند أبو حسن الندوي (العتاب والشكوى) الواردة في ديوان صلصة الجرس

ففي قصيدة شكوى يشكو إلي رسول الله أحوال المسلمين، وما أصاب حياتهم من تدهور، ومكانتهم من ضعف واضحملال يقول إقبال :

قد هبت الأصنام من بعد البلى            واستيقظت من قبل نفخ الصور

والكعبة العليا توارى أهلها               فكأنهم موتى لغير نشور

وقوافل الصحراء ضل حداتها          وغدت منازلا ظلال قبور

أنا ما حسدت الكافرين وقد غدوا      في أنعم ومواكب وقصور

فهو يصف رجوع الجاهلية من جديد وغياب الإسلام عن قيادة حياة المسلمين، وتخلف المسلمون عن قيادة ركب الحضارة الانسانية وتقدم غيرهم لقيادتها، وتحصيل سبل التحضر والقوة والتمكين، ويصرخ متسائلاً لماذا ترك المسلمون مكانتهم بعد أن سادوا، ولماذا تركوا هداية الناس بعد أن هجروا مكانتهم:

كيف انطوت أيامهم وهم الأولى        نشروا الهدى وعلوا الفرقد

هجروا الديار فأين أزمع ركبهم         من يهتدى للقوم أو من يقتدي

أما في قصيدة (جواب الشكوى) فبين فيها أنه سمع صوتا سماوياً تخيله يجبيه عن شكواه ويبين له أصل الداء، وهو أن المسلمين تركوا العمل وقصروا في أداء واجبهم، وأهملوا دينهم، ولم يتقنوا أمور الدنيا، فأصابهم الخزي والهوان: –

أتشكوا أن ترى الأقوام فازوا             بمجد لا يراه النائمونا

مشوا بهدى أوائلكم وجدوا              وضيعتم تراث الأولينا

كما أنه اشتكى إهمال الأمة لرسالتها الإسلامية التي جعلت منها أمة حية قوية في يوم ما، ويقظة الروح الجاهلية في نفوس أبنائها من جديد، فقال: –

تراث محمد قد أهملوه           فعاشوا في الخلائق مهملينا

تولى هادمو الأصنام قدما       فعاد لها أولئك يصنعونا

أباهم كان إبراهيم لكن          أرى أمثال آزر في البنينا

وشكى ضياع الإيمان والدين والوفاء، وشيوع الظلم وفساد الأخلاق، فقال: –

لقد ذهب الوفاء فلا وفاء               وكيف ينال عهدي الظالمينا

إذا الإيمان ضاع فلا أمان             ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين           فقد جعل الفناء لها قرينا

وشكى التفرق بعد أن كانوا أمة واحدة، فأصبحوا أمما متفرقة، فراح يحذرهم من التفرق، يقول إقبال :

وفي التوحيد للهمم اتحاد       ولن تبنوا العلا متفرقينا

تساندت الكواكب فاستقرت     ولولا الجاذبية ما بقينا

وشكى ترك الجهاد في سبيل الله، والخوف من الموت والوهن الذي عشعش في النفوس، فلم يبق في الأمة حياة فكان ما كان من قهرنا وذلنا تجاه الأعداء: –

جهاد المؤمين لهم حياة            ألا إن الحياة هى الجهاد

عقائدهم سواعد ناطقات           وبالأعمال يثبت الاعتقاد

وخوف الموت للأحياء قبر          وخوف الله للأحرار زاد

وهذه وغيرها من مظاهر المرض التي شخصها إقبال في الأمة، جعلته يتجه إلى صياغة مشروعه الإصلاحي في بعث الأمة من جديد، والعودة إلى ذاتها وبنا “ذاتيتها” عن طريق الفلسفة الذاتية التي ذكرناها من قبل، والتي يقوم النقد والتمحيص للمورث الفكري وللواقع الفكري للأمة وللحضارة الغربية ركناً ركيناً في هذه الفلسفة وهذا هو المشروع الإصلاحي.

ـــــ    تأكيد الذات الإنسانية (خودى)

يرى محمد إقبال أن أمم الشرق أميل إلى أن تعتبر الذات أو “الأنا” في الإنسان من خداع الخيال، وأنها تعد الخلاص من هذا الغل نجاة، وأنهم انتهوا إلى هذه النتيجة: أن حياة الــ “أنا” المتسلسلة، وهى أصل المصائب والشرور، منشؤها العمل، وأن حالة النفس الإنسانية نتيجة محتومة لأعمالها، وأنه لا سبيل إلى الخلاص من شرك الأنا إلا بترك العمل أو الفعل!!

وفي المقابل، وعلى العكس مما تذهب إليه الهندوسية، يرى إقبال أن الحياة أمر فردي وأعلى أشكاله هو الذات (أنا أو خودى) وبها يصير الفرد مركز حياة مستقلا قائماً بذاته، ولكنه لما يبلغ مرتبة الفرد الكامل أو الإنسان الكامل، وتنقص فرديته على قدر بعده عن الخالق، والإنسان الكامل هو الأقرب إلى الله دون أن يفنى وجوده في المطلق كما تقول فلسفة الهندوس، بل هو على العكس يمثل الخالق في نفسه ويخلفه على الارض.

ويؤكد إقبال أن الاسلام يرى الــ ((أنا)) هى مخلوق ينال الخلود بالعمل، وأن لذة الحياة مرتبطة باستقلال ((أنا)) وبإثباتها وإحكامها وتوسيع مجال فعلها في الحياة، وهو ما يمهد لفهم حقيقة الحياة بعد الموت حيث هناك مسئولية ومحاسبة على الفعل الإنساني المسئول في الحياة.

وبينما لا يتحقق هدف الوصول والتسامي عند أصحاب وحدة الوجود إلا بفناء الذات الفردية في الوجود الكلي، فإن هدف المسلم إثبات ذاته لا نفيها، وذلك من خلال تمثل القيم الربانية وترجمتها في الحياة الواقعية، كما أن هذا التحقيق للذات الفردية في الإسلام لا يكون إلا في سياق الجماعة وفي خضم مواجهة الحياة ومشكلاتها، ويرى إقبال أن حالة السكر (في اصطلاح الصوفية وأهل وحدة الوجود) تتنافي مع الإسلام وقوانين الحاية وأن حالة الصحو وهي الإسلام توافق قوانين الحياة.

لم يكن إقبال فيلسوفا فحسب، بل كان أيضا مصلحاً و مربياً. ودعوته إلى الإصلاح الفكري والاجتماعي ركز فيها على بناء الذات، التي تعد من الدعوات التي لا يمكن أن يتجاهلها المسلمون بأي حال من الأحوال، فقد لاحظ إقبال رفض الإسلام من اعتبر قرابة الدم أساس الوحدة الإنسانية، يقول: “إن الإسلام يرفض اعتبار قرابة الدم أساسا للوحدة الإنسانية؛ لأن قرابة الدم عنده أصلها مادي مرتبط بالأرض، فالعلاقة بين الأفراد وبين الذات والمجتمع أساس الوحدة الإنسانية”.

وينوه إقبال بإنشاء مجتمع فاضل وذلك بسمو الإنسان، فالأمة تنشأ من اجتماع الأفراد، فقيمة الفرد في أمته، وقيمة الأمة في أفرادها؛ ينمو الفرد في الجماعة.

وتنمو الجماعة عن طريق الأفراد، يقول:

هو بالأمة قلب طامح        وهو بالأمة سعي رابح

روحه من قومه، والبدن      سره من قومه والعلن

وبناء على ذلك، يريد إقبال تعريف المسلمين بأنفسهم وبأهدافهم الذاتية، ويبصرهم بحقيقة الإسلام وعظمه، وملئ قلوب الشباب بحب القرآن والسنة، ومشاركتهم في صناعة الفرد وصناعة المجتمع، فهو يؤمن إيمانا راسخا بدور الدين وأثره الفعال في حياة الفرد والجماعة في المجتمعات الإسلامية، يقول: “إن الدين في أعلى صوره ليس أحكامة جامدة ولا كهنوتية ولا أذكاراً ولا يتيسر إلا بالدين تهيئة الانسان كل العبء الثقيل الذي يحمله…، غرضه دفع المسلمين للعمل والحركة لإثبات ذواتهم ومعالجة ما آلت إليه أوضاعهم، يقول: “فالدين استطاع دوما أن ينهض بالأفراد ويغير الجماعات ويحولها من حالة إلى أخرى….”.

يشير إقبال بهذا إلى أن الفرد لا تكتمل حياته إلا في ظل الجماعة، ونشر التوازن بين أفراد المجتمع الواحد، ونشر الحرية والمساواة بين بني آدم. ونجده يقيم مقارنة بين فلسفة الغرب وفلسفة الشرق؛ إذ يرى أن فلسفة الغرب التي أعرضت عن كل نشاط روحي قد انحازت كلية إلى العقل، أما فلسفة الشرق؛ فيرى إقبال أنها على العكس من ذلك، لها طبيعة روحية، وإن كانت بحاجة إلى النزعة العقلية لاكتساب التوازن أيضا.

أراد إقبال فضح سر الحضارة الغربية وما يفتقد إليه العالم الحديث، وهو البعد الروحي الذي منبعه الدين، الذي يكسب الإنسان قوة ويبني مستقبله ويحدد مصيره، وأن شروط المجتمع الفاضل متصلة بعلاقات تبادلية بين أطرافه، بحيث لا مكان فيه للتقوقع والانعزال والاغتراب والانطواء على الذات.

آمن إقبال بأن أساس الالتزام الإسلامي هو المحبة القلبية الوالهة، لا المعرفة الذهنية الباردة. فالحب أعمق أثرا من العلم، والقلب أقوى سلطانا من العقل، وما يحتاجه المسلم للوصول إلى مقام “عز العبودية لله” أكثر بكثير من مجرد المعرفة الذهنية بالإسلام، أو الإلمام التاريخي بأيام المسلمين. إنه يحتاج إلى تمثل تعاليم الإسلام بقلبه، حقائق من لحم ودم، لا قوالب ذهنية مجردة. لم يكن إقبال في يوم من الأيام حياديا بين العقل والقلب، بل مال إلى جانب القلب دائما. وقد عبر عن ذلك واصفا تجربته الشخصية في الحياة، فقال:

مضى إقبال هَوْنًـا في

دروب الفكر واجتازا

فلما جاء درب الحـبِّ

مال القلـب وانحــازا

وفي مقارنة بديعة بين القلب باعتباره مستودع الأسرار والحقائق، والعقل باعتباره الدليل إلى سطحها الخارجي، يقول إقبال إن ما يحتاجه المسلم اليوم هو “دواء البصيرة” الذي يحرر من “داء البصر”، وأن القلب المؤمن المفعم بحب الله ورسوله هو مصدر الهداية ومنبع الرشد:

دواء البصيرة هـذا الـدواءْ

رجاؤك في كشف داء البصرْ

وما العقل إلا جدال العلـومْ

وحرب الظنون ورجم النظرْ

مصيرك أعظم من وقـفـة

وأول معنـاه ذوق السـفــرْ

وسر اللآلئ خُلْد البـريـقْ

وإلا فمعدنــها من حجــــــرْ

وما هي جدوى دم في العروقْ

إذا كان يطفـئ نار الفكرْ؟

اعتراف كبار المفكرين بجهود إقبال في مجال النهوض الحضاري:

نرى كبار العلماء والمفكرين اعترفوا بفضل إقبال في التجديد، والإصلاح، والدعوة إلى النهوض الحضاري بإبراز فكرة الذات في المسلمين، ونفخ روحها فيهم. ذكر أنور الجندي عشر خصائص الشعر إقبال، منها: “أنه حمل لواء الدعوة إلى إخراج المسلمين من التبعية للجبرية الصوفية، والتواكل، والخمول، وفهم الحياة فهما قريبة من مفهوم الرهبانية، واعتزال الحياة، فدعاهم إلى اقتحام الحياة و العمل، كان لإقبال ولا يزال أثر بعيد في الأدب الإسلامي كله، وما تزال أفكاره، ورؤاه تعطي، وتوحي، و تلهم على مدى العصور في القارة الإسلامية كلها، وليست القارة الهندية وحدها.”

ويقول محمد کامل موسي: “لم يكن إقبال ابن باكستان وحدها، ولا خادم الشرق وحده، ولا الحاني على العرب وحدهم، لم يكن كذلك شاعر الإسلام، بل كان من أولئك الآحاد الذين وهبوا أنفسهم لنفع بني آدم، وخدمة الإنسانية. كان رائدا من خير رواد الإصلاح في العصر الحديث”.

يقول أحمد حسن الزيات: “فهم إقبال الإسلام على حقيقته التي أنزلها الله، وعلى طريقته التي سنها الرسول، وعلى سياسته التي نفذها الصحابة، فهمه على أنه سعادة الحياتين بالإيمان الخالص، وعمارة الدارين بالعمل الصالح، وقوة المشرقين بالوحدة الشاملة. فدعا في “أسرار خودي” إلى تقوية الذات في الفرد بالتقوى والحب، وفي “صليل الجرس” إلى يقظة الوعي في المجتمع بالثورة، والجهاد، وفي “رسالة المشرق” إلى توثيق الأخوة الإسلامية في الشرق بالوحدة، والتعاون.

ومن ثم فيأبى إقبال إلا أن يختتم كتابه “تجديد الفكر الديني” بأبيات شعرية من قصيدته “جاوید نامه”؛ إذ أكد بأسلوب شاعري على أهمية صقل الذات، وتهذیب السلوك، وارتباطهما بالتجديد، يقول:

ما أجل أن يصقل الإنسان ذاته!

وأن يختبر رونقها في سطوع الشمس

فاستأنف تهذيب إطارك القديم

وأقم کیانا جديد

مثل هذا الكيان هو الكيان الحق

وإلا فذاتك لا تزيد على أن تكون حلقة من دخان

المراجع والمصادر: 

1: تأكيد الذات الإنسانية في الرؤية الإسلامية عند محمد إقبال : فؤاد السعيد

2: إقبال يحاور فريدريك نتشه في حضور زاردشت : زكى الميلادي

3: المدخل النقدي لإعادة الفكر الإسلامي عند العلامة محمد إقبال : بدرانمسعود بن لحسن

4: أفق الخطاب النقدي ومنطلقاته المعرفية والفكرية والفلسفية في مشروع إقبال الحضاري

5: محمد إقبال فيلسوف الذاتية: حسن حنفي

6: تجيد فكر الديني : محمد إقبال

7: ديوان أسرار والرموز : محمد إقبال

8: فلسفة إقبال الشاعر والفيلسوف البكستاني: حسون على

9: إقبال نحو سيرة صوفية: خالد محمد عبده

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى