أخبار ومعلومات

الزيارة التي رسّخت الأفكار الإصلاحية في الجزائر

بقلم لامية أورتيلان – جريدة الخبر

عادت “الخبر” في الذكرى لـ 118  لزيارة الشيخ محمد عبده للجزائر 1903 الى محتوى الزيارة، وحاولت رفقة باحثين ومختصين استقراء أسباب الزيارة وأهدافها ونتائجها بالعودة إلى مجرياتها في كل من الجزائر العاصمة وقسنطينة.

قال، الدكتور مولود عويمر، إن علماء الجزائر كانوا يقرؤون ما كان يكتبه العالم الأزهري الشهير، رفيق الإمام جمال الدين الأفغاني ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده في الصحف أو يطالعون ما تنقله الجرائد عنه من الأخبار والأعمال. وذكر عويمر في تصريح لـ”الخبر” أن كتابه “رسالة التوحيد” كان متداولا في الجزائر، يتدارسه العلماء في مجالسهم ويدرّسونه لطلبتهم ورواد حلقات دروسهم. كما أن للشيخ محمد عبده حسبه روافد عديدة ساعدته على معرفة ما يحدث في الجزائر في فترة الاحتلال الفرنسي، ذكر منها، تواصله مع الأمير عبد القادر وأبنائه، وزيارته الأولى إلى تونس في عام 1884، واتصاله بالصحافة الفرنسية ونخبتها خلال إقامته شهورا في باريس.

يعتقد، الدكتور عويمر، أن هذه العوامل هي التي دفعت الشيخ محمد عبده إلى زيارة الجزائر ليطلع بنفسه على أحوالها بعدما كان متابعا لأحداثها من بعيد ومدافعا عنها وناقدا الأفكار الاستعمارية التي طرحها المؤرخ ورجل السياسة الفرنسي المعروف غابريال هانوتو. وقال عويمر :”لا شك أن السلطة الاستعمارية سهلت الإجراءات الإدارية لهذه الزيارة من أجل تلميع صورتها عند الرأي العام الإسلامي باعتبار الإمام عبده من أشهر الشخصيات العلمية الإسلامية المؤثرة آنذاك. ومع ذلك راقبت كل خطواته وسجلت مصالحها الأمنية كل ما قام به من اتصالات ونشاطات منذ خطوته الأولى على ميناء الجزائر إلى أن غادر البلاد متوجها إلى تونس عبر قسنطينة”. 

تحدث عويمر عن مجريات زيارة الامام محمد عبده للجزائر، وصرح انه وصل إلى الجزائر عن طريق البحر في يوم 27 أوت 1903. وقد رافقه في رحلته البحرية العالم الجزائري الشيخ أبو القاسم الحفناوي الذي كان آنذاك عائدا من رحلة إلى فرنسا. و أوضح أن العالم الأزهري سكن في اليوم الأول في حي الميناء وأقام ليلة في فندق “أوازيس”. ولما سمع علماء مدينة الجزائر وأعيانها بالخبر قاموا بزيارته ودعوه للإقامة عند مصطفى الأكحل، فقبل الشيخ عبده الدعوة وانتقل للسكن في حي بلكور. وحسب عويمر فقد استغرقت زيارة الشيخ عبده لمدينة الجزائر 10 أيام “27 أوت -6 سبتمبر”. وتمثل نشاطه في الاتصال بعلماء الجزائر وأعيانها للتعرف على الحياة العلمية في هذه البلاد. و قال “استقبل منهم الشيخ عبد الحليم بن سماية، والشيخ محمد مصطفى بن الخوجة، الأستاذ عمر راسم، وعمر بوضربة والأخوين عمر وأحمد بريهمات وغيرهم. وزار بعض المعالم السياحية والمساجد المعروفة والتقى بعلمائها الرسميين من أمثال: المفتي محمد بوقندورة”.، كما اوضح بأنه لم يسجل له من النشاط العلمي إلا درسا ألقاه في مسجد الأكحل بحي بلكور بعيدا عن الأضواء، حتى لا يثير غضب سلطة الاحتلال التي كانت تراقب تحركاته وتسجل أقواله. وتمثل هذا الدرس حسبه في تفسير سورة العصر، وقد نشر مضمون هذا التفسير في كتيب تداوله الناس في المشرق والمغرب. وأشار الذين درسوا حياة الشيخ محمد عبده إلى أن سبب اختياره لهذه السورة كان لتناولها موضوع الصبر والخنوع، ومن ثَّم استنتجوا أنه ابتعد عن القضايا السياسية. وهذا حكم بعيد عن الحقيقة يقول عويمر، فقد تحدث الشيخ عبده أيضا في درسه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسؤولية الجماعية في التغيير وألح على دور العلماء في الجهر بالحق والدعوة إلى العمل والعلم من أجل الارتقاء بالمجتمعات العربية والإسلامية.  

كما سجل عويمر توقف الشيخ عبده في مدينة قسنطينة في طريقه إلى تونس، وأقام بها 3 أيام “6-9 سبتمبر”، وقد استقبله العالم المعروف الشيخ المولود بن الموهوب، ورافقه في زيارته لبعض أعيان المدينة وعلمائها وكذلك صحبه في التجوال في أرجائها والتعرف على بعض المعالم الأثرية والإطلاع على ذخائر المكتبات المحلية.

كان لهذه الزيارة رغم قصر مدتها يضيف الدكتور عويمر أصداء حسنة في القطر الجزائري، واستفاد العلماء الجزائريون من احتكاكهم بالشيخ عبده كما استفاد هو أيضا منهم، و قال “تأكدت أكثر  ضرورة ترسيخ الفكرة الإصلاحية في الجزائر. وتواصلت العلاقات بين الإمام عبده وعلماء الجزائر من خلال المراسلات والقراءات المتبادلة”. وذكر هنا أن الشيخ عبده أرسل رسالة إلى الشيخ عبد الحليم بن سماية بعد أيام من مغادرته الجزائر وأثنى كثيرا على علمه وحكمته وقوة شخصيته، كما نظم هذا الأخير حسبه قصيدة شعرية من 50 بيتا رثاء في الشيخ محمد عبده غداة وفاته.  كما نظم الشيخ محمد مصطفى بن الخوجة في نفس المناسبة الأليمة قصيدة رثائية تشمل 45 بيتا. 

كما شرح عويمر، أن الغاية من هذه الزيارة كانت اطلاع الشيخ محمد عبده بنفسه على أحوال الجزائر المستعمرة منذ عام 1830، والتعرف على علمائها، ودعوتهم إلى السير في ركب حركة التجديد والنهضة التي ظهرت في المشرق العربي .ولقد وجد الشيخ محمد عبده يضيف عويمر في الجزائر أنصارا لدعوته الإصلاحية، وأصبح عدد منهم يلقبون فيما بعد من طرف خصومهم وكذلك من قِبل الصحافة الاستعمارية بالعبدويين! ومن أشهر الردود على هذه “التهمة”: مقال للشيخ عبد الحميد بن باديس بعنوان: “وهابيون! عبداويون! ثم ماذا؟” كما اكتشف الشيخ محمد عبده علماء جزائريين سبقوا غيرهم في التجديد لبعض القضايا الكبرى مثل حقوق المرأة وإصلاح التعليم وتنظيم الاقتصاد والإدارة…، وملكوا الجرأة في الإصلاح قلما وجد لها نظيرا في المشرق العربي.

محمد عبده كان يحث على الابتعاد عن السياسة والتعرض للسلطات الاستعمارية

قال  الدكتور عاشور قمعون ان جواسيس الاستعمار من القاهرة والإسكندرية بعث إلى الوالي العام بالجزائر رسالتين عندما علموا بعزم الشيخ محمد عبده على زيارته للجزائر، أشاروا فيهما إلى أن هدف الشيخ من السفر إلى الجزائر، هو الخروج عن طاعة الحكومة، وأنه قادر على فعل ذلك.  كما تحدث قمعون للخبر عن مجريات هذه الزيارة الى الجزائر وقسنطينة وأوضح انه التقى بعدد من علماء الجزائر حيث  يستقبل يوم الأحد بإقامته زواره الذين قدموا عليه من كل حدب وصوب وبلغ عددهم ما يربو عن 450 زائرا جاؤوا سواء للمجاملة أو للنهل من فيوضات علمه الغزير لا سيما في الأمور الشرعية. وأوضح ان مصطفى بن الأكحل أقام على شرفه مأدبة عشاء حضرها عدد هائل من الأعيان والشخصيات الدينية من الجزائر وضواحيها مثل أحمد ولد القاضي، مفتي الحنفية، وبوركايب حمدان، وبوركايب أحمد، وبوضربة عمر، وبوضربة المحامي، وحاج موسى، وعلي موهوب، وغيرهم وحسبه  فقد زار محمد عبده رفقة عبد الحليم بن سماية المرصد الفلكي في بوزريعة، وأخذت لهما صور تذكارية. كما تشير أحد التقارير إلى الخلاف والجدل القائم بين الإمام محمد عبده وأحمد بن بريهمات الذي تواصلت تداعياته من خلال مأدبة أخرى أقامها الضابط المتقاعد قلاّتي، وهو صديق لبريهمات، ومن الأعيان أيضا. كما قام بزيارته مفتي القليعة الوانوغي بومزراق بن الحاج المقراني، ثم قام بزيارة خاطفة لقسنطينة ووجه حسبه نقدا لاذعا للطرق المبتدعة والجهل، وأظهر بعض الاستياء من التوجهات السياسية للشبان الجزائريين.

تحدث الدكتور قمعون عن الهدف من زيارة الشيخ عبده و قال ان هناك من يرى أن مجيئه  إلى الجزائر كان وراءه غرض سياسي يتمثل في إعادة تنظيم جماعة العروة الوثقى والجامعة الإسلامية التي كان جمال الدين الأفغاني قد أسسها عند مجيئه للجزائر. و قال “فالشيخ محمد عبده يذكر أن جمال الدين الأفغاني زار الجزائر، ورأى بعينه ما يلاقيه أهلها من ظلم الفرنسيين”. فيما ذكر قمعون من جهة أخرى أن تلميذه رشيد رضا فند ذلك بقوله : “لم يكن الغرض من زيارة الشيخ محمد عبده سياسيا، بل من أجل توجيه المسلمين إلى حقيقة دينهم، والطريقة المثلى إلى إحيائه وإحياء لغته”، مع البعد عن السياسة التي قيل فيها: ما دخلت السياسة في شيء إلا أفسدته. ويرى قمعون ان هذا الموقف الذي اتخذه الإمام في الجزائر، والنصائح التي أسداها إلى علمائها، والرسائل التي بعثها إلى بعضهم، تؤكد أن الرجل من دعاة الدين، يحث علماء الإسلام إلى الابتعاد عن الانشغال بأمور السياسة العليا والتعرض لسلطات الاحتلال، وأن يقتصر عملهم وهمهم على الإصلاح الديني بصرف النظر عن الوطن الذين يعيشون فيه، والسلطة المستعمرة التي تحكم هذه الأوطان.

و ذكر من بين النصائح التي أسداها الشيخ محمد عبده عند زيارته للجزائر انه حرض على الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة، والجد في الكسب وعمران البلاد بالطرق المشروعة الشريفة، مع الاقتصاد في المعيشة، ومسالمة الحكومة، وترك الاشتغال بالسياسة حتى ينالوا مرغوبهم من مساعدة الحكومة الفرنسية. وهذا الإعراض عن السياسة حسبه لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارا لهم من القوانين والمعاملات. “فإن لم تحقق رغبتهم بعد الالتجاء إليها، يكون لهم عذرهم إذا تمردوا عليها.” كما استشهد قمعون ببعض ما كتبه محمد عبده لبعض علماء الجزائر  منها ما ذكره في إحدى رسائله إلى الشيخ عبد الحليم بن سماية يقول له فيها : إني كنت على ثقة من كمال عقلك، ومعرفتك بما إليه حاجة المسلمين اليوم، فإني لا أجد مندوحة عن التصريح بالتحذير من النظر في سياسة الحكومة أو غيرها من الحكومات فيما لا مناجاة منه .

كما عاد قمعون إلى اثر هذه الزيارة على المجتمع الجزائري، وقال إنها ساهمت في انتعاش الحركة الفكرية الإسلامية في الجزائر. حيث عرفت الجزائر الحركة الإصلاحية في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20،  وتأكدت بصفة جلية حسبه بعد زيارة الشيخ محمد عبده عام 1903. -كما لقيت هذه الزيارة يضيف المتحدث نجاحا كبيرا في أوساط المثقفين، مما ساعدت في تعميق حركة الإصلاح بعودة بعض المثقفين من المشرق العربي، من بينهم الشيخ عبد الحميد بن باديس. -كما ازدادت هذه الأفكار انتشارا، وظهر ما يعرف بالحركة الإصلاحية التي لعبت دورا مهما في بعث الروح الوطنية، والمحافظة على الهوية الجزائرية بخلق أجيال من النخبة المثقفة الطلائعية التفكير.

  فيما فضل الدكتور مصطفى عبيد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة المسيلة الحديث عن أصل الحركة الإصلاحية بالجزائر وعلاقتها بالمشرق وبمجيء  الشيخ محمد عبده للجزائر، وقال ” لعل كثيرا من الدارسين قد ألفوا نسب منطلقات الحركة الإصلاحية الجزائرية إلى المشرق العربي، معتقدين أن الحركة الإصلاحية الجزائرية هي بنت طبيعية للحركة الإصلاحية بالمشرق، لا سيما من خلال أفكار الجامعة الإسلامية عموما ومحمد رشيد رضا… ويربطون سببها المباشر بزيارة محمد عبده إلى الجزائر سنة 1903.” إلا أن الأستاذ عبيد يعتقد أن الحركة الإصلاحية بالجزائر هي حركة جزائرية بحتة، تأثرت فقط كغيرها من الحركات والثقافات بالإنتاج العالمي سواء على مستوى الماديات أو الأفكار. وأوضح أن قائد الحركة الإصلاحية بالجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس كان يحمل فكرا جزائريا خالصا تشربّه من بيئته وثقافتها من الفتح الإسلامي مرورا بالإنتاج الثقافي بالجزائر لا سيما الديني منه سواء عبر الزوايا أو من خلال تراث الجزائر الثقافي عبر التاريخ. و اسند عبيد كلامه هذا إلى أن الشيخ ابن باديس قد ورث العلم والرؤية الإصلاحية عن علماء جزائريين تأثر بهم  ومنهم  شيخ الجماعة الشيخ عبد القادر المجاوي الذي وصفه ابن باديس بأنه العالم الذي له الفضل على جميع علماء الجزائر. 

 ذكر عبيد أن  علماء الإصلاح بالجزائر اهتموا بالتاريخ قدر اهتمامهم بالعلم الشرعي، فكانوا يرون التاريخ مفتاح بناء الأمم وركزوا عنه واعتبروه أهم أساليب بناء الإنسان الواعي. وذلك يختلف مع الطرح الذي كان ينادي به الشيخ محمد عبده رغم قيمته هو الآخر ودون أن ننقص منها شيئا. مؤكدا ان مشروع الإصلاح بالجزائر جاء نتيجة للظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر المستعمرة ولم يأت نتيجة تأثر مباشر بأفكار محمد عبده. وأضاف بأن مشروع محمد عبده كان مشروعا تربويا في المنطلق الأول، بينما كان مشروع الحركة الإصلاحية الجزائرية مشروعا أعمق من ذلك؛ إذ أنه كان مشروعا سياسيا حضاريا.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى