دراسات استراتيجيةدراسات افريقيةدراسات سياسية

السعودية وأفريقيا: مقومات الشراكة ومكاسبها

Saudi Arabia and Africa: the elements of partnership and its benefits

يعرض هذا التقرير أحد اهم الموضوعات والمتمثل في “السعودية وأفريقيا: مقومات الشراكة ومكاسبها” التي تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر يناير 2021 م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة حول القضايا التالية:

  • الورقة الرئيسة: د. عبد الله ولد أباه (ضيف الملتقى)([1])
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. صدقة فاضل
  • التعقيب الثاني: د. عبد الرحمن الهدلق
  • إدارة الحوار: م. أسامة الكردي

 

  • الملخص التنفيذي:

أشار د. عبد الله ولد أباه في الورقة الرئيسة إلى أنه يمكن أن نُجمل مرتكزات الأمن الإستراتيجي السعودي في ثلاثة محاور، هي: مجال البحر الأحمر في امتداداته الواسعة على القرن الأفريقي وخليج عدن وإقليم وادي النيل، والمجال الخليجي بإطلالته على إيران والمحيط الهندي، والمجال الشرق أوسطي عبر البوابة الأردنية وارتباطاتها ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي. فالسعودية من هذا المنظور هي من “البلدان – المحاور”pivot state التي لا يمكن أن تؤمِّن مصالحها الحيوية وأمنها القومي في حدود مجالها الوطني الضيق؛ بل لا بد لها من بناء سياسات وإقامة تحالفات إقليمية ضمن منظومة إستراتيجية موسَّعة تحمي مصالحَها الحيوية. وفي هذا السياق، تبرز الأهمية الجيوسياسية لأفريقيا لارتباط أمن ومصالح السعودية الأساسية بثلاثة أقاليم حيوية متداخلة هي: البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، والمجال النيلي.

بينما أكَّد د. صدقة فاضل في التعقيب الأول أنه لا يمكن للسعودية، أن تؤمِّن مصالحها الحيوية، وتضمن بقاءَها وأمنها واستقرارها القومي، بشكل سليم، في حدود مجالها الوطني الضيق فقط؛ بل لا بد من اعتبار كامل المنطقة العربية، المسمَّاة دوليًّا بـ” الشرق الأوسط”، والتي تقع المملكة في قلبها.

في حين ذكر د. عبد الرحمن الهدلق في التعقيب الثاني أن السعودية أدركت في السنوات الأخيرة أهمية القارة الأفريقية، وما يجري فيها من صراعات ومهدِّدات لأمنها الإقليمي، ولم تعُد أدوارها ردود أفعال لما يجري هناك. ولذا، بدأت في العهد الحالي باتخاذ المبادرات المبنية على رؤية حديثة وإستراتيجية طموحة تُحقِّق لها وللدول الصديقة المزيدَ من المكاسب التي تخدم مصالحها، وتزيد من دورها الإقليمي الإيجابي والمؤثِّر.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • الأهمية الإستراتيجية للعلاقات السعودية الأفريقية.
  • العلاقات السعودية الأفريقية من منظور الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر والقرن الأفريقي.
  • جهود المملكة لتعزيز العلاقات السعودية الأفريقية وأوجه القصور القائمة.
  • الفرص المتاحة لدعم شراكة المملكة مع أفريقيا وآليات استثمارها.
  • القوة الناعمة ودورها في دعم العلاقات السعودية الأفريقية.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • العمل على تذليل الصعاب التي تواجه (مجلس الدول العربية والأفريقية المُطِلَّة على البحر الأحمر وخليج عدن) وأهمية ضم إثيوبيا إلى المجلس الجديد، وتمتين العلاقات مع الدول الأفريقية الواقعة على البحر كجسر نحو الامتداد السعودي إلى أفريقيا جنوب الصحراء.
  • إعداد إستراتيجية استباقية لتعميق الصلات بين المملكة والدول الأفريقية، وتنسيق المواقف السياسية والأمنية، وتنويع التعاون الاقتصادي، وتحييد المخاطر الإستراتيجية.

  • الورقة الرئيسة: د. عبد الله ولد أباه (ضيف الملتقى):

يمكن أن نُجمل مرتكزات الأمن الإستراتيجي السعودي في ثلاثة محاور، هي: مجال البحر الأحمر في امتداداته الواسعة على القرن الأفريقي وخليج عدن وإقليم وادي النيل، والمجال الخليجي بإطلالته على إيران والمحيط الهندي، والمجال الشرق أوسطي عبر البوابة الأردنية وارتباطاتها ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي.

فالسعودية من هذا المنظور هي من “البلدان – المحاور”pivot state التي لا يمكن أن تؤمِّن مصالحها الحيوية وأمنها القومي في حدود مجالها الوطني الضيق؛ بل لا بد لها من بناء سياسات وإقامة تحالفات إقليمية ضمن منظومة إستراتيجية موسَّعة تحمي مصالحَها الحيوية.
في هذا السياق، تبرز الأهمية الجيوسياسية لأفريقيا لارتباط أمن ومصالح السعودية الأساسية بثلاثة أقاليم حيوية متداخلة، هي: البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، والمجال النيلي.

وإذا كان مجال البحر الأحمر يتجاوز الإطار الأفريقي (لانتماء بلدين عربيين غير أفريقيين لهذا الفضاء هما اليمن والأردن) إلا أن مفاتيحه ومداخله الأساسية توجد في القرن الأفريقي الذي هو المنفذ الحيوي لأمن شبه الجزيرة العربية وغرب المملكة. كما أن هذا المجال مفتوح عبر البوابتين المصرية والسودانية على منظومة الدول المطِلَّة على النيل، التي تضمُّ عددًا من أهم بلدان شرق أفريقيا والبحيرات الكبرى.
ومن هنا، تتحدد مقومات الشراكة الإستراتيجية المطلوبة مع البلدان الأفريقية المنتمية لهذه الدوائر المتداخلة من خلال أربعة محددات أساسية، هي:

  • وضع قواعد ثابتة لضبط الشراكة السعودية مع البلدان المُطِلَّة على البحر الأحمر؛ بتعزيز وتفعيل ائتلاف الدول الثماني المُشاطِئة للبحر الأحمر، الذي كان مبادرة سعودية مهمة. ويقتضي هذا التفعيل دمج إثيوبيا في هذا الائتلاف باعتبارها – وإن كانت غير مطلة على البحر الأحمر – القلب المركزي لهذا الإقليم، وكل إقصاء لها سيؤدي إلى فشل المشروع.
  • توطيد الحضور العسكري والأمني السعودي في محاور التشابك الإستراتيجي بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، بما يعني تدعيم الدور السعودي في خليج عدن وباب المندب عن طريق الاستثمار الاقتصادي والحضور العسكري الدائم في جيبوتي وجزر المحيط الهندي في شرق أفريقيا.
  • العمل على إعادة تأهيل السودان اقتصاديًّا وإستراتيجيًّا لأداء دور الجسر الحيوي بين السعودية وبلدان وسط وشرق أفريقيا، وصولاً إلى الساحل الأفريقي باعتبار حدود السودان المفتوحة على خمس دول أفريقية غير عربية، وهي دول رئيسية ولها تأثير كبير في القارة.
  • انضمام السعودية ولو كمراقب للاتحاد الأفريقي باعتبار ارتباطاتها المحورية بأفريقيا، وباعتبار أهمية العنصر الأفريقي في تركيبتها البشرية (بصفة خاصة في الحجاز). إنَّ هذا الانضمام سيسمح للسعودية بأداء دورها الإستراتيجي الكامل من داخل المؤسسات الإقليمية الأفريقية والاستفادة من مكاسب السوق الأفريقية المشتركة في مرحلة اشتد صراع الاستقطاب الدولي على أفريقيا بين القوى الدولية القديمة والصاعدة (الولايات المتحدة وأوروبا والصين والهند وتركيا).

وبالإضافة إلى هذا المجال الحيوي في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، يمكن للمصالح السعودية الحيوية أن تمتدَّ إلى إقليمين محوريين في القارة، هما: الحزام النفطي الأفريقي، والساحل الأفريقي.
أما الحزام النفطي فيتشكَّل أساسًا من بلدان خليج غينيا جنوب غرب القارة، وأهم بلدانه هي نيجيريا والكاميرون والغابون وغينيا الاستوائية وساحل العاج والكونغو والكونغو الديمقراطية وأنغولا. يتعلق الأمر هنا بأهم الدول الأفريقية المُصدِّرة للنفط، وهي بلدان ذات موارد واسعة وإمكانات مالية ضخمة، ولا يزال عددٌ منها في طور البناء المؤسسي والتوسُّع التنموي، ويمكن أن تُوفِّر فرصًا مُربِحة لإستراتيجية الاستثمار السعودي في ديناميكيتها التوسعية الجديدة.

أما بلدان الساحل الأفريقي فهي عمومًا دول غرب أفريقيا المسلمة التي هي مجال حيوي ثقافي وحضاري وديني للمملكة، وهي اليوم إحدى الجبهات الرئيسية لمحاربة الإرهاب والتطرف الديني. يمكن للسعودية أن تمارس دورها الإستراتيجي القوي في هذه المنطقة الحيوية من خلال الشراكة مع بلدان المغرب العربي المتداخلة مع هذا المجال وبصفة خاصة موريتانيا وليبيا والجزائر والمغرب، مع دعم مجموعة دول الخمس الساحلية في إستراتيجياتها لمحاربة الإرهاب والراديكالية العنيفة.
يتعين التنبيه هنا أن الساحة الأفريقية تُشكِّل بالنسبة للسعودية وشركائها في محور الاعتدال العربي مسرحًا رئيسيًّا للصراع الإقليمي المحتدم مع إيران وتركيا.

أما إيران فقد عزَّزت اختراقها للبلدان الأفريقية من خلال ثلاث آليات أساسية، هي: سياسة التشييع المؤدلج عن طريق الجاليات اللبنانية ذات الحضور القديم الكثيف في كثير من البلدان الأفريقية، يبدو هذا الدور جليًّا في نيجيريا والسنغال وغينيا، والدعم العسكري للأنظمة من خلال صفقات السلاح السرية والتكوين المليشياتي غير المُعلَن (كينيا، أوغندا، جنوب السودان…)، والشراكة التجارية والنفطية (جنوب أفريقيا ونيجيريا وغينيا..). إنَّ أخطر التحديات المطروحة على المصالح السعودية في هذا المجال هو الحرص الواضح على تطويق المؤسسات الدينية السعودية ومحاصرتها ونَشْر الإسلام الثوري المؤدلج في البلدان الأفريقية المسلمة.

وبالنسبة لتركيا، فقد تحوَّلت في السنوات العشر الأخيرة إلى شريك أساسي للدول الأفريقية من خلال استثماراتها الاقتصادية والتجارية الواسعة مع الأغلبية المطلقة من الدول الأفريقية بالتركيز على الموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية، كما أنها عزَّزت حضورها الدبلوماسي في القارة (42 سفارة في العواصم الأفريقية و28 زيارة رسمية للرئيس أردوغان منذ وصوله للسلطة)، وأصبح لها أهم شبكة تعليمية أجنبية في أفريقيا، كما أن الإستراتيجية التركية نفذت إلى الحقل الديني من خلال رعاية تركيا لمؤسسة جديدة لعلماء أفريقيا.

ومن هنا، يتعيَّن على السعودية أن تعتمد إستراتيجية طموحة وفاعلة لمواجهة الاختراق التركي والإيراني لأفريقيا، الذي من أهم توجهاته محاصرة الدور السعودي في أفريقيا وتقويض القوة الناعمة السعودية في القارة.

  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. صدقة فاضل

لا يمكن للسعودية، أن تؤمِّن مصالحها الحيوية، وتضمن بقاءَها وأمنها واستقرارها القومي بشكل سليم في حدود مجالها الوطني الضيق فقط، بل لا بد من اعتبار كامل المنطقة العربية، المسمَّاة دوليًّا بـ” الشرق الأوسط” – والتي تقع المملكة في قلبها – مجالاً لصيقًا متكاملًا للأمن الوطني السعودي. ولذلك، لا بد من الاهتمام بهذه المنطقة وما يجري فيها. ويجب ألا يقتصر الأمر على القلق والاهتمام، بل لا بد من العمل واتخاذ الإجراءات الذكية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف الأمني الأساسي والضروري.

ومن ضمن الإجراءات التي يجب أن تُتخذ في هذا الشأن: بناء سياسات شراكات أمنية- سياسية راسخة مع الدول المجاورة، وإقامة تحالفات إستراتيجية إقليمية موسَّعة، تشمل كامل المنطقة، وخاصة المناطق المحيطة بأرض المملكة، وبصفة أخص كل من: مناطق البحر الأحمر، وأرض النيلين، والخليج العربي، وكامل منطقة القرن الأفريقي.

ولقد أدرك قادة المملكة هذه الحقيقة الجيوسياسية الصارخة، وأهمية التحرُّك الإستراتيجي المدروس والمتواصل (المستدام) لتحقيق هذه الغاية، والحفاظ على أمن المملكة، حتى خارج مجالها الوطني الضيق، وخاصة في المناطق الأربع المذكورة، ومنها القارة الأفريقية ككل، والجزء الشرقي الملاصق للمملكة بصفة أخص.

وانطلاقًا من هذا الإدراك الإستراتيجي، عملت المملكة على دعم علاقاتها بدول الجوار الأفريقية. وأنشأت وكالةً كبيرةً بوزارة الخارجية للشؤون الأفريقية، يرأسها وزير، وهو وزير دولة للشؤون الأفريقية. وبادرت المملكة بإقامة ائتلاف دول البحر الأحمر، الذي يشمل الدول الثماني المشاطئة لهذا البحر، وهي: المملكة، اليمن، الأردن، مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي، وأيضًا إثيوبيا (رغم أنها الآن دولة داخلية). إضافةً إلى عزم السعودية على الانضمام إلى “الاتحاد الأفريقي”، بصفة مراقب. فوجودها في هذا المحفل الدولي يؤكِّد اهتمامَها، ويقوي من موقفها نحو الأفارقة.

ورغم أن تركيز المملكة ينصبُّ على شرق أفريقيا، إلا أن ” كل” القارة الأفريقية يجب أن تهمَّ المملكة، أمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، باعتبار هذه القارة ملاصقةً للمملكة، وبها ثروات بكر، تجعل منها بيئةً خصبة للاستثمار، ومطمحًا لنفوذ القوى الكبرى. والتواجد (النفوذ) السعودي في أفريقيا يجب ألا يقتصر على خدمة ودعم المصالح السعودية في هذه القارة، بل ويركز أيضًا على الحيلولة دون امتداد وانتشار نفوذ منافسي السعودية الإقليميين والعالميين (إيران، إسرائيل، تركيا، الصين… إلخ) في هذه القارة، وبخاصة في الإقليم الحيوي للسعودية في شرق أفريقيا.

وكل ذلك يتطلب تطوير ودعم السياسة السعودية تجاه أفريقيا، والعمل الدؤوب لتوثيق العلاقات السعودية مع الدول الأفريقية، عبر كلِّ الوسائل السياسية المعتمدة، وفي مقدمتها: الدبلوماسية النشطة، والإعانات الاقتصادية، وإقامة المراكز الثقافية في المدن الأفريقية الكبرى، وغير ذلك.

  • التعقيب الثاني: د. عبد الرحمن الهدلق

توطئة:

رغم فتور الاهتمام السعودي بالعلاقات الأفريقية على مرِّ العقود الماضية ومروره بمراحل صعود وهبوط خاصة فترة الستينيات والتي شهدت صعودًا في تلك العلاقات في عهد الملك فيصل، حيث برز دور المملكة السياسي الإيجابي في أفريقيا من خلال زياراته المؤثرة والفعَّالة؛ إلا أن هذا التأثير السعودي القوي لم يستمر طويلًا، حيث لوحظ ثمة ضعف في مستوى الاهتمام السعودي بأفريقيا بسبب انشغال المملكة بقضايا إقليمية أخرى وانكفائها في تنمية مشاريعها الداخلية حتى استغلته دول إقليمية منافسة، بعضها يحمل توجُّهًا عدائيًّا للمملكة، إلا أن الوضع اختلف في عهد الملك سلمان، وبعد طرح رؤية ولي العهد 2030  حيث عاد الاهتمام “وبقوة” بالملف الأفريقي من جديد.

وقد صنَّف د. عبد الله ولد أباه في الورقة الرئيسة السعودية كدولة محورية  “pivot State”، وهي كذلك. والدول المحورية – كما يذكر Bremmer  – هي تلك الدول المؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي من خلال بناء علاقات وإقامة تحالفات لحماية مصالحها وزيادة قدرتها في التأثير على الآخرين دون الاعتماد المفرط على دول كبرى.

وحيث إنَّ العديد من الكُتَّاب والمفكرين السياسيين يعتبرون السعودية من الدول الصاعدة كدولة محورية بسبب تمتُّعها بموقع إستراتيجي يُمثِّل نقطة التقاء وحلقة اتصال بين ثلاث قارات) منها القارة الأفريقية (إضافةً إلى قُربها من أهم ثلاثة ممرات ومضائق مائية يعبر من خلالها الكثير من النفط والتجارة العالمية. علاوة على ذلك، تمتلك السعودية من المقومات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والدينية ما يؤهِّلها لأن تكون لاعبًا إقليميًّا مركزيًّا في السياسة الدولية. وحيث إنَّ الملف الأفريقي يقع ضمن هذا السياق، نظرًا لأهميته الإستراتيجية والحيوية والمستقبلية؛ فقد قامت السعودية في السنوات القليلة الماضية بتبنِّيه وتفعيله تحقيقًا لرؤية 2030، ولتحقيق الكثير من المصالح والمنافع للمملكة وللقارة السمراء على حدٍّ سواء.

أهمية أفريقيا:

رغم انتشار الفقر وتفشي الأمراض المعدية، إلا أن مستقبل أفريقيا مستقبل واعد ومُشرِق. وتُقدَّر صادرات النفط والمعادن -وفقًا للمصادر الاقتصادية – بـ 300 مليار دولار سنويًّا، حيث تمتلك أفريقيا 12 % من احتياطي النفط العالمي، و30 % من الفوسفات واليورانيوم، و80 % من البلاتين، و40 % من الماس، و25 % من الذهب، و27 ٪ من الكوبالت.

كما أن أفريقيا تتميَّز بخصوبة الأرض وتوفُّر المياه في مجملها، وتعتبر أحد أكبر المصادر العالمية في إنتاج اللحوم والثروة الحيوانية وأكبر المحتكرين لأسماك المياه العذبة.

إضافةً إلى أنها تحتاج إلى 100 مليار دولار سنويًّا كقيمة استثمارات في البنية التحتية، ويُتوقَّع أن يصل عائد الاستثمار الزراعي في أفريقيا عام 2030 إلى 880 مليار دولار.

إلى جانب الأهمية الاقتصادية، هناك الأهمية الجيوسياسية حيث تشترك المملكة بمشاطئة عدد من الدول الأفريقية التي تقع على البحر الأحمر الذي تبلغ أطوال سواحله 5500 كم، تُمثِّل سواحل المملكة ما يقارب 40٪ من أطواله. كما أن متوسط اتساعه نحو 300 كم، ويضمُّ مئات الجزر، منها 144 جزيرة سعودية. ويعتبر حلقةً إستراتيجية بين قارات ثلاث، حيث يربط البحر الأبيض المتوسط ببحر العرب جنوبًا من خلال مضيق باب المندب وقناة السويس، ويعتبر ممرًّا رئيسيًّا للتجارة العالمية والإقليمية.

الرؤية والطموح السعودي:

نظرًا للأهمية الاقتصادية والإستراتيجية لقارة أفريقيا المجاورة، فإن الاهتمام السعودي بها لم ينقطع بصورة نهائية على مرِّ العقود الماضية، إلا أن المملكة في عهد الملك سلمان أبدت اهتمامًا كبيرًا بالملف الأفريقي، واتخذت عدة خطوات عملية وفعَّالة ومهمة تتسق مع ما ورد في رؤية المملكة 2030 وطموحاتها الإستراتيجية، ومنها ما يلي:

  • صدور أمر ملكي بتعيين السفير أحمد قطان وزير دولة للشؤون الأفريقية.
  • إنشاء مجلس للدول المُطِلَّة على البحر الأحمر وخليج عدن، وتوقيع ميثاقه على الأراضي السعودية.
  • شهدت العلاقات السعودية-الأفريقية نشاطًا مهمًّا، تَمثَّل في زيارة ولي العهد السعودي لعدد من الدول الأفريقية وزيارة عدد من رؤساء دول أفريقيا للمملكة؛ وهو ما عزَّز من الشراكة الإستراتيجية مع عدد من الدول الأفريقية المهمة.
  • تكثيف الزيارات لكبار المسؤولين والوفود السعودية، حيث قام الوزير الجبير بـ (18) زيارة لأفريقيا خلال فترة قصيرة، قابل فيها عددًا من الرؤساء ورؤساء الوزراء الأفارقة، تناولت عددًا من الملفات المهمة.
  • قيام القيادة السعودية بتقريب وجهات النظر وحل الخلافات بين الدول الأفريقية.
  • التنسيق والتعاون الأمني الإقليمي وتبادل الخبرات، حيث قامت السعودية بعمل عدة مناورات عسكرية، منها ” تمرين البحر الأحمر 1″ في مدينة جدة شاركت فيه عدد من الدول الأفريقية.

محاور العلاقة السعودية الأفريقية:

الحقيقة أن الاهتمام بملف العلاقة السعودية الأفريقية واتخاذ عددٍ من الإجراءات بشأنه أفضى إلى رؤية واضحة وإستراتيجية طموحة تستند على عدد من المحاور أدت إلى مكاسب لكلا طرفي العلاقة. ومن أهم هذه المحاور ما يلي:

  • المحور الاقتصادي:

ذكرت الرؤية السعودية 2030 أن المملكة تهدف إلى أن تكون قوةً استثمارية رائدة على المستوى الدولي، حيث إنَّها محور يربط القارات الثلاث. وتأسيسًا على ذلك؛ اهتمت المملكة بتعزيز قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والتجارية من خلال توثيق علاقاتها التجارية وشراكاتها الاقتصادية مع الدول الأفريقية، وساهمت في الكثير من المشاريع الثنائية مع عدد من بلدان القارة الأفريقية، مثل تدشين محطة طاقة شمسية في جنوب أفريقيا بلغت قيمتها نحو 328 مليون دولار، وعبَّرت المملكة عن توجُّه رسمي لإقامة خطوط ملاحية مباشرة بين موانئ جيبوتي وجدة وجازان لدعم التبادل التجاري بين البلدين، وتعزيز وجود المنتجات السعودية في دول القرن الأفريقي. إضافةً إلى ذلك، ذكرت التقارير الاقتصادية أن المملكة تُخطِّط لبناء مصفاة نفطية ومصنع للبتروكيماويات في جنوب أفريقيا ضمن استثمارات تُقدَّر بعشرة مليارات دولار.

يُذكَر أن حجم التبادل التجاري بين السعودية ودول أفريقيا في2014  سجَّل نحو 18.2 مليار دولار، منها 14.9 مليار دولار صادرات سعودية، و303 مليارات دولار واردات المملكة، وتُواصل هذه الأرقام ارتفاعها خاصة مع زيادة استثمارات المملكة في دول أفريقيا.

  • المحور الدبلوماسي:

تهدف المملكة إلى تعزيز مكانتها ونفوذها في أفريقيا، ومواجهة التهديدات التي تؤثر سلبًا في الاستقرار في الجوار الإقليمي؛ ولذا قامت بالمساهمة في حلحلة الصراعات التي تحدث بين دول الجوار الإقليمي، ومنها حل الخلافات بين جيبوتي وإرتيريا، وكذلك لعبت دورًا مهمًّا في حلِّ الصراع الإثيوبي الإريتري.

ونظرًا لتزايد الأدوار السلبية لبعض القوى الإقليمية المنافسة، والتي تحمل سياسات عدائية للمملكة كإيران وتركيا وغيرهما؛ فقد شرعت المملكة في تكثيف مساعيها الدبلوماسية لخدمة مصالحها الإقليمية، ومواجهة هذه التهديدات من خلال افتتاح المزيد من السفارات السعودية في القارة الأفريقية حتى وصلت إلى (49) سفارة مقارنة بإيران (30) سفارة وبعثة دبلوماسية، وتركيا (42) سفارة، والتي حصلت على دور مراقب في الاتحاد الأفريقي عام 2005.

  • المحور العسكري والأمني:

تشهد القارة الأفريقية سباقًا محمومًا بين القوى الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها العسكري من خلال إنشاء القواعد العسكرية في أفريقيا، ومنها تركيا وإيران التي أنشأت لها قاعدة في إرتيريا وأبدت – إضافةً إلى تركيا- اهتمامًا كبيرًا بالمزيد من التواجد العسكري في دول القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر؛ مما دفع بالمملكة وبعض الدول الأفريقية إلى المساهمة في إنشاء مجلس للدول المُطِلَّة على البحر الأحمر وخليج عدن بهدف التعاون لتحقيق الاستقرار في المنطقة ومواجهة أي تهديدات عسكرية أو إرهابية لدول المنطقة.

إضافةً إلى ذلك، بادرت المملكة بإعادة تموضعها في المنطقة الإقليمية، وشكَّلت لجانًا عسكرية مشتركة مع عدد من الدول الصديقة ودعمها بالأسلحة للدفاع عن أي مهددات إقليمية، وأقامت بالشراكة مع بعض تلك الدول عددًا من المناورات العسكرية على الأراضي السعودية. كما وقَّعت مع عدد من الدول اتفاقيات لمواجهة الإرهاب والقرصنة في البحر الأحمر؛ وذلك تعزيزًا للأمن الإقليمي الذي تحاول زعزعته قوى إقليمية معروفة بخصومتها للمملكة.

وعلاوة على ذلك، شرعت السعودية في التعاون مع بعض الدول الأفريقية وعقد صفقات تسلُّح مع بعض الشركات المصنِّعة للأسلحة في جنوب أفريقيا، واستيراد التكنولوجيا العسكرية منها “دينيل” حصص في شركة لتوطين الصناعات العسكرية في المملكة.

  • المحور الإنساني والديني:

تمتلك المملكة قوةً ناعمةً جبَّارة من خلال إمكانياتها الاقتصادية والدينية، وتعتبر إحدى أكثر الدول تقديمًا للمساعدات الإنسانية والإنمائية، خاصة الساحة الأفريقية، فالسعودية تقدِّم الدعم الغذائي للاجئين والنازحين في عدد من الدول، مثل الصومال والسودان ودول الساحل الأفريقي؛ بهدف دعم الاستقرار هناك، حيث -على سبيل المثال- تبرعت عام 2017 بنحو 100 مليون دولار لمكافحة التنظيمات الإرهابية، ولدعم التنمية والاستقرار في دول الساحل الأفريقي.

كما يقوم مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية لتخفيف معاناة الشعوب الأفريقية المحتاجة في هذه الدول. إلى جانب ذلك، يُقدِّم الصندوق السعودي للتنمية القروضَ لإقامة المشاريع الإنمائية في عدد من الدول الأفريقية خاصة دول الساحل الأفريقي، حيث بلغت هذه القروض ما يتجاوز المليار دولار.

علاوة على هذه الجهود الإنسانية، تمتلك المملكة ذراعًا مهمةً يمكن استخدامها كإحدى أذرع قوتها الناعمة لكسب قلوب وعقول شعوب المنطقة عبر حضورها الديني كمرجع روحي للمسلمين، حيث تعتبر المملكة ومدنها المقدَّسة المتمثِّلة في الحرمين الشريفين قبلةً لقلوب المسلمين وأفئدتهم في أفريقيا؛ مما يُعزِّز مكانتها وتأثيرها الإقليمي هناك، خاصة أنها تقوم بجهود مهمة من خلال نشر الوعي الديني ومواجهة التطرف الذي تسهم في نشره بعض الجماعات الدينية المتشددة والقوى الإقليمية في المنطقة من خلال أذرعتها وميليشياتها الطائفية.

الخاتمة:

من الواضح أن السعودية أدركت في السنوات الأخيرة أهمية القارة الأفريقية، وما يجري فيها من صراعات ومهددات لأمنها الإقليمي، ولم تعُد أدوارها ردود أفعال لما يجري هناك. ولذا، بدأت في العهد الحالي باتخاذ المبادرات المبنية على رؤية حديثة وإستراتيجية طموحة تُحقِّق لها وللدول الصديقة المزيدَ من المكاسب التي تخدم مصالحها، وتزيد من دورها الإقليمي الإيجابي والمؤثر، لتصبح دولةً محورية وفاعلة لما يجري من أحداث وتطورات على الساحة الدولية بشكل عام، وفي الجوار الإقليمي بشكل خاص، ومنها القارة الأفريقية التي تربطنا بها قواسم مشتركة ومصالح متبادلة.

  • المداخلات حول القضية:
  • الأهمية الإستراتيجية للعلاقات السعودية الأفريقية:

أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن أفريقيا هي ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، وتأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا، حيث تبلغ مساحتها 30.2 مليون كيلو متر مربع (11.7 مليون ميل مربع)، وتتضمن هذه المساحة الجُزر المجاورة، وهي تغطي 6% من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتشغل 20.4% من إجمالي مساحة اليابسة، ويبلغ عدد سكان أفريقيا حوالي 1.2 مليار نسمة، وفقًا لتقديرات عام 2016، ويعيشون في 61 إقليمًا، كما تبلغ نسبتهم حوالي 14.8% من سكان العالم. إذًا، فهذه الدول تعَدُّ منجمًا سياسيًّا واقتصاديًّا، وحكومة المملكة – أعزَّها الله – استشعرت تلك المكانة الأفريقية منذ عقود من الزمن بما تمليها اعتبارات وحدة الدين واللغة والمصير والمصالح المشتركة.

وأكَّد د. عبد الله العساف على أننا في زمن أفضل ما يُطلق عليه هو زمن تحوُّل التحالفات السياسية وإعادة رسم خريطة الجغرافيا السياسية في كامل المنطقة؛ ولهذا أدركت السياسة السعودية أن الخارطة السياسية في العالم لا تسمح بوجود الدول (المنفردة)، وأن زمن التغريد منفردًا قد ولَّى إلى غير رجعة، “على الأقل في هذه الحِقبة من الزمن”، وإنما الحلُّ هو بالتكتلات السياسية الإقليمية والدولية؛ ولذا سعت الرياض لترتيب علاقاتها الخارجية من خلال النشاط الدبلوماسي النشط والزيارات التي قام بها خادم الحرمين الشريفين وولي العهد وولي ولي العهد خلال الفترة السابقة. كما أن الرياض أصبحت قبلةً لزيارات متواصلة لزعماء وسياسيين من مختلف أنحاء العالم، وإليها تتجه بوصلة السياسة في منطقتنا بغيةَ تأسيس تحالفات ثنائية وإقليمية تُمثِّل عهدًا جديدًا في السياسة الخارجية السعودية  من خلال تنويع علاقاتها مع مختلف دول العالم في جميع الاتجاهات، وتأكيدًا على عدم انحياز المملكة لدولة دون سواها، ورغبة في الانفتاح السياسي على الجميع، وأنها تقف على بُعد مسافة واحدة من جميع الفرقاء، وهو ما يُشكِّل تحوُّلًا جوهريًّا في السياسة السعودية، أفرزته الأحداث المختلفة في العالم وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص، بدءًا من الثورات العربية وتداعياتها السلبية على أمن واستقرار المنطقة، وظهور تنظيم داعش الإرهابي برعاية مخابرات عدد من الدول التي تسعى من خلاله لتحقيق أجندتها وأهدفها الخاصة، وقد أصبحت المملكة العربية السعودية مستهدفةً بالقسط الأكبر من جرائمه، والأحداث في سوريا واليمن وليبيا والعراق والتغوُّل الإيراني والتركي في المنطقة، ومحاولتهما تطويقها من عدة اتجاهات لتنفيذ مشاريعهما وتحقيق أحلامهما التوسعية والتدميرية.

كل هذه الأحداث أوجدت نشاطًا دبلوماسيًّا لا يهدأ، ليس من أجل سلامة المملكة وحدها؛ ولكن كما قال الملك سلمان في زيارته الأخيرة لواشنطن: “نحن لا نحتاج من أحدٍ شيئًا، نحن أقوياء بالله ثم بشعبنا، ولكننا نسعى لما فيه مصلحة أمتنا ومنطقتنا”. وقد بلورت هذه الأحداث رؤية سعودية جديدة وصلبة وواقعية، بالإضافة إلى كونها عملية في التعامل مع الأحداث المختلفة؛ فأصبح الحضور السعودي في المشهد السياسي يلفت إليه الأنظار، وقادرًا على تشكيل تحالفات سياسية وعسكرية ناجحة كعاصفة الحزم مثلاً، وفي الجانب السياسي القدرة على إصدار قرار أممي 2216 فيما يخص الشأن اليمني مع تحييد الصوتين الروسي والصيني.

وذكرت د. هناء المسلط أن مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأمريكية نشرت مقالاً عن السعودية وروابطها بالقارة الأفريقية، أشار إلى اهتمام المملكة بتعزيز وزيادة علاقاتها بالقارة في ظلِّ التغيرات العالمية الحالية (1).

  • العلاقات السعودية الأفريقية من منظور الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر والقرن الأفريقي:

في سياق متصل، تناول أ. سليمان العقيلي العلاقات السعودية الأفريقية من خلال الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث أشار إلى أنه لا شك في الأهمية الجيوسترايجية لمنطقة القرن الأفريقي؛ لكونها تشرف على البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب جنوبًا، وعبر قناة السويس ذات الأهمية الإستراتيجية شمالًا، وكلها ممرات مائية مهمة تتصل بمنابع النفط الخليجية والتي في مجملها تكوِّن ما يُسمَّى بـ (قوس الأزمة)، وقد تزايدت الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر بعد افتتاح قناة السويس في القرن 19، كما ارتفعت القيمة الإستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي بعد اكتشاف النفط في السودان، والذي أعطى للقوى الإقليمية ذريعةً للتواجد في هذه المنطقة والسيطرة عليها من أجل موارد الطاقة. وتعاظمت القوة الإستراتيجية لهذه المنطقة بعد إنشاء إثيوبيا لسد النهضة الذي تسبَّب في أزمة سياسية مع مصر والسودان؛ حيث الصراع على موارد المياه يطبع القرن الجديد.

وتعود أهمية البحر الأحمر ومضيق باب المندب لما قبل الإسلام عندما غزت الإمبراطورية الإثيوبية اليمن ونشرت المسيحية واصطدمت مع اليهودية هناك (قضية الأخدود)، ثم تواجهت مع الفرس الذين كانوا يميلون إلى الدفاع عن اليهود.

وقد أرسى المسلمون الأوائل – الذين لجؤوا إلى الحبشة بسبب حصار كفار مكة – ركائز علاقات الصداقة والسلم بين الجزيرة العربية ومملكة أكسوم الحبشية بفضل مَن قال عنه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) بأنه ملك لا يُظلم عنده أحدٌ (النجاشي) وفيما بعد جسد الصحابي الجليل بلال بن رباح البعد الأفريقي في الدعوة الإسلامية.

ومنذ ذلك الوقت قامت علاقات وأواصر المصاهرة بين الأحباش والقبائل العربية، وكانت قبيلة حرب السعودية أكثر قبائل الجزيرة زواجًا بالحبشيات. لسببين قرب الحبشة من مراعي القبيلة في سواحل الحجاز وسَحنة الجمال الأبونسي الذي كسا الفتيات الحبشيات. واتسمت العلائق بين الحجاز والحبشة بوطائد عائلية وإنسانية وثقافية، وانعكست الثقافة الأفريقية بتأثيراتها المتنوعة على الرقصات الشعبية في المناطق الغربية والجنوبية للمملكة، كما ظهرت البصمات الأفريقية في الطراز المعماري في عسير وجازان. وأصبحت الأعراق الأفريقية جزءًا أصيلًا من الديموغرافيا السعودية؛ لكن ذلك كله لم يُوظَّف بشكل جيد في السياسة.

تاريخيًّا، وفي القرن الخامس عشر غزا البرتغاليون البحر الأحمر للتضييق على امتدادات الإمبراطورية العثمانية، ثم قاموا بالاكتشافات الجغرافية لرأس الرجاء الصالح لضرب الممرات البحرية العربية الموصِّلة للتجارة مع الهند (الخليج والبحر الأحمر)، حتى جاءت الإمبراطورية البريطانية التي جعلت من عدن مقرًّا إستراتيجيًّا للإشراف على المضائق، وبسطت الحماية على مصر بشكل مباشر بعد افتتاح قناة السويس. فيما أهملت واشنطن – التي ورثت بريطانيا – هذه الرقعة الإستراتيجية عدا بدايات الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من السبعينيات، وكذا عند ظهور القراصنة الصوماليين في خليج عدن في الألفية الجديدة.

الدور العربي:

منذ السبعينيات والسعودية تحاول بلورة تعاون عربي إقليمي أمني / بيئي / سياسي للبحر الأحمر وباب المندب.  وقد تجلَّت في السبعينات أزهى صور التعاون العربي في إقليم البحر الأحمر؛ حيث أغلقت اليمن مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية في حرب أكتوبر 1973، ونشرت قواتها في جزرها لمواجهة أية أطماع إسرائيلية، وقد وضعت اليمن الجنوبي جزيرة بريم تحت القيادة المصرية بعد التنسيق مع السعودية.

وعُقِد في 1976 أول اجتماع عربي في جدة بين السعودية ومصر والسودان؛ لضمان أمن البحر الأحمر، ومنع امتداد الصراعات الدولية للإقليم. ودعت الجامعة العربية إثيوبيا للاشتراك مع الدول العربية في اجتماع حول أمن البحر الأحمر، لكن أديس أبابا لم تُجب الدعوة. وأثر تواجد إسرائيل في موانئ وجزر إريترية (كانت تحت السيطرة الإثيوبية وقتها)، حيث تبلور موقف عربي بدعم الثورة الإريترية ودعم تحرير إقليم أوغادين الصومالي.

لكن هذا التعاون العربي عُلِّق بعد زيارة السادات إلى إسرائيل عام 1977. وفي عهد مبارك، اتسمَّ التعاون السعودي المصري بالودية ولكن بشيء من الحذر إثر عودة القاهرة للصف العربي وتطلُّعها لدور ريادي.
وبمبادرة سعودية، وبعد عدة اجتماعات في القاهرة والرياض، أُعلِن في 6 يناير 2020 مجلس الدول المُطِلّة على البحر الأحمر وخليج عدن، وهو مكوَّن من 8 دول تطلُّ على البحر والخليج. وينتظر المجلس كي يتأسَّس مصادقة أربع دول من ثمانٍ على ميثاقه الذي تمَّ التوقيع عليه من وزراء الخارجية في الرياض، وينصُّ الميثاق على أن يكون مقرُّ المجلس في العاصمة السعودية. وأن يُعنَى بأمن المنطقة وبيئتها البحرية وتعاون الدول الأعضاء سياسيًّا واقتصاديًّا. وحتى الآن، لم تصادق على الميثاق سوى دولتين، هما السعودية وجيبوتي. وهذا التلكؤ يمكن تفسيره فيما يخصُّ بعض الدول (مثل السودان واليمن) بتعليق أعمال البرلمان، لكن لا تفسيرَ لمواقف الدول الأخرى سوى الاعتبارات السياسية.

وثمة قوى جديدة ظهرت على السطح في بيئة البحر الأحمر، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة التي تمركزت في موانئ اليمن (عدن والمكلا والمخا) وفي ميناء عصب الإرتيري. وميناء بربرة في الصومال لاند.
فقد حصلت دولة الإمارات على عقد إيجار لمدة 30 عامًا للاستخدام العسكري لميناء عصب العميق ذي الموقع الإستراتيجي، ومطار عصب المجاور مع مدرج بطول 3500 متر، يمكن لطائرات النقل الكبيرة من الهبوط عليه بما في ذلك طائرات “سي 17 جلوب ماستر” الضخمة.
ومنذ تاريخ توقيع الاتفاقية بين الطرفين، أصبح ميناء عصب شريانًا للنشاطات البحرية وقاعدةً جوية مهمة للإمارات في مضيق باب المندب.
ورغم أنه لا توجد دولة تعترف بأرض الصومال (صوماليلاند)، إلا أن للإمارات وجودًا ملموسًا في هذا الإقليم. ففي مارس عام 2018، أعلن موسى عبدي رئيس الإقليم أن الإمارات ستُدرِّب قوات أمن في المنطقة في إطار اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية إماراتية هناك. وأضاف أن القاعدة ستضمن تحقيق تنمية اقتصادية وأمنية في البلاد، وستكون وسيلةَ ردع للجماعات المتشددة في المنطقة.

وبدأت الإمارات في عام 2017 إنشاء قاعدة على موقع بمطار مدينة بربرة في الإقليم، وسُمِح لها بالبقاء فيها لمدة ثلاثين عامًا. وتقع بربرة على بُعد أقل من 300 كيلومتر إلى الجنوب من اليمن. هذه التطورات مع حرص السياسة الإماراتية على قيام دولة في الجنوب اليمني تضمن لها عقودًا بالسيطرة على موانئ عدن والمكلا وجزيرة سقطرى، يُنبئ بطموح إماراتي عريض لا يتفق مع القوة البحرية الإماراتية!

إسرائيل وإيران: 

في سياق متصل فيما يتعلق بالوضع الجيوسياسي الراهن للبحر الأحمر، تستعد قوتان لبسط تأثيرهما ونفوذهما على هذا الإقليم، هما إيران التي غرست أوتادها في اليمن بدعم محلي وإقليمي (مستتر)، وإسرائيل التي تستعد اليوم للتواجد في البحر الأحمر وخليج عدن بشعار عنوانه مقاومة إيران، فيما الدور العربي اقتصر على مجرد تغطية أحد الطرفين.  فإيران حرصت خلال الفترة الماضية على تلغيم البحر الأحمر والاعتداء على السفن التجارية المُبحرة، وضرب الموانئ المهمة (جدة وجازان) في رسالة واضحة للغرب بأنه سيكون لها كلمة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ومجمل قوس الأزمات من الخليج إلى الخليج ومن المضيق إلى المضيق.

وبقراءة التصريحات الإسرائيلية، فإن هناك رغبةً جامحة في تغطية عربية للوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر وخليج عدن تحت ذريعة مواجهة إيران.  ولا يُشَكُّ في أن الدوافع الإسرائيلية غير سليمة، فقد كانت تل أبيب سببًا في تعقيدات الموقف الأمني بالقرن الأفريقي؛ عندما حرَّضت إثيوبيا ضد مصر، وأوحت إلى الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي بعدم الانضمام إلى الجامعة العربية، وكل ذلك في ظلِّ اتفاقيات السلام مع مصر.  لذا، فإن المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في البحر الأحمر دافعها التمهيد لحوار بين تل أبيب وطهران حول الأمن المتبادل وتقاسم النفوذ بالمنطقة العربية.

يبقى التأكيد على أن تكون السياسة السعودية الإقليمية في البحر الأحمر وخليج عدن والقرن الأفريقي قائمةً على الأمن الذاتي المعتمد على تعاون الدول المتشاطئة، مع تحييد أي تدخل خارجي.

ومن هذا المنطلق، فإن الضغط من أجل ظهور مجلس الدول المُطِلَّة على البحر الأحمر وخليج عدن ينبغي أن يكون هدفًا ذا أولوية؛ من خلال التفاهم مع مصر والأردن للمصادقة على الميثاق في أقرب وقت، هذا إنْ لم يكن البلدان واقعين تحت تأثير الضغوط الخارجية. والأمر نفسه ينطبق على إرتيريا والصومال. وإذا ما نشأ المجلس، فإن من الجدير بالاهتمام وَضْع صيغة للتعاون الاقتصادي والاستثمارات المشتركة بين البلدان الأعضاء بما يغري على الالتزام بالتعاون الأمني.  كما أن من الأهمية بمكان ضم إثيوبيا إلى المجلس الجديد (رغم كونها بلدًا داخليًّا)، وربما أن ثمة معارضة مصرية لمثل هذا التوجه، لكنه قد يتلاشى مع الاتفاق على حلول بشأن سد النهضة. إنَّ أمن البحر الأحمر والسلامة الإقليمية للدول المُطِلَّة عليه هو أفضل جسر نحو الامتداد السعودي إلى أفريقيا جنوب الصحراء؛ لأن هذه المنطقة من أفريقيا هي الأكثر أهميةً إستراتيجية، والأكثر إثارةً للقلق الجيوسياسي. وهي بالتأكيد تستضيف مقرَّ الاتحاد الأفريقي، وتُمثِّل واحدًا من أكبر المخزونات المائية الأفريقية.
ووجود هذا الجزء من أفريقيا على خطوط الصدع الحضاري والسياسي مع المنطقة العربية يجعلها الأكثر إغراءً لتكون مناطَ التآمر على الأمن القومي العربي والأمن الإقليمي، وبالتالي تستحق عناءَ الاحتواء والاحتضان بكل التكاليف السياسية والاقتصادية.

  • جهود المملكة لتعزيز العلاقات السعودية الأفريقية، وأوجه القصور القائمة:

أشار م. أسامة كردي إلى أن المملكة تعمل على تنمية وتطوير علاقاتها الخارجية منذ توحيد المملكة قبل ٩٠ عامًا، ويمرُّ هذا العمل بمرحلة جديدة منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، وبمتابعة من ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان. وفي هذا الإطار، رأينا زيارات رسمية للمملكة على أعلى المستويات من العديد من مسؤولي الدول المختلفة، كما قام المسؤولون في المملكة بزيارات للعديد من دول العالم، وكان الهدف من هذه الزيارات توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية وغيرها من العلاقات المعروفة بين الدول. وبالتالي، فقد رأينا اهتمامًا بدول ليست تقليديًا ضمن اهتماماتنا مثل دول جنوب شرق آسيا ودول أواسط آسيا ودول أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى دول أفريقيا السوداء. ويتضح للمراقب ارتفاع درجة اهتمام العديد من الدول المتقدمة والنامية بعلاقاتها مع دول أفريقيا، منها أمريكا وبريطانيا وإيران وإسرائيل. وقد كانت أولى خطوات اهتمام المملكة بأفريقيا هي تعيين وزير دولة لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، ثم تكثيف التواصل مع دول أفريقيا متمثِّلًا في دعوات للعديد من رؤساء هذه الدول لزيارة المملكة والتباحث حول فرص ومجالات التعاون، ولا بد من التذكير بخطوة أخرى مهمة اتخذتها المملكة، وهي تنظيم عقد الدورة الخامسة للقمة العربية الأفريقية في الرياض في شهر مارس عام ٢٠٢٠. وكانت المملكة تُخطِّط لعقد قمة سعودية أفريقية هذا العام، ولكن يبدو أن فيروس كورونا قد تسبَّب في تأجيل هذه القمة.

وبدوره، أشار د. محمد الثقفي إلى أن غالبية دول قارة أفريقيا ضمن كيانات سياسية ترتبط معها المملكة بعدد من العلاقات، فمن حيث علاقة المملكة بالدول العربية في شمال أفريقيا فتُشكِّل معًا الأمن القومي العربي، وتترابط بعدد من العلاقات الدينية والعرقية والسياسية… إلخ، ومن حيث الدول الشاطئية فقد عملت المملكة في 2018 على التحالف العربي الأفريقي الذي يُعوَّل عليه كثيرًا في رسم علاقات إستراتيجية متعددة الأوجه. وفيما يتعلق بالمهددات التي تعيشها بعض الدول العربية وتحديدًا مصر والسودان جراء إنشاء سد النهضة، وبالرغم من أنها تحديات مباشرة لدول مستقلة غير أن المملكة تلعب دورًا في تخفيف هذه المخاطر، وليس أدلها من جهود المملكة من إسقاط السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

وذهب د. عبد العزيز الحرقان إلى أنه يوجد قصور شديد في الاستثمار في أفريقيا؛ لعدة أسباب، أهمها: جهل المستثمرين بقوانين وأنظمة الدول الأفريقية، وعدم سيادة القانون، وارتفاع درجة الفساد؛ فبالتالي ارتفاع درجة مخاطر الاستثمار. عالجت الصين ذلك بدخول صندوقها السيادي لتنفيذ مشاريع بعقود حكومية، وتمويل هذه المشاريع أيضًا من خلال قروض ميسرة، ثم يتعاقد الصندوق الصيني مع الشركات الصينية لتنفيذ المشاريع متحمِّلًا درجة المخاطرة الاقتصادية والتجارية؛ لأنه كيان ضخم المواد المالية والبشرية والفنية، وكذلك بسبب وجود الخبرة المتراكمة من تنفيذ مشاريع مماثلة، وأيضًا للثقل السياسي والاقتصادي للصندوق. ولعل صندوق الاستثمارات العامة أو كيان آخر قائم مثل هيئة دعم الصادرات أو صندوق جديد لدعم التجارة الخارجية يتولى ذلك. من ناحية أخرى، يوجد ملحق تجاري سعودي واحد فقط مُخصَّص لأفريقيا، وهو الملحق التجاري في مصر. وهذا المكتب يشمل بخدماته كلَّ دول أفريقيا. وهذا من الطبيعي ألا يكون قادرًا على تقديم خدماته لرجال الأعمال لكل الدول الأفريقية. فالمفروض تواجد ملاحق تجارية في الدول الأفريقية المهمة، لتعزيز التبادل التجاري بين الدول الأفريقية والسعودية (ملاحظة لبنان لديها ملحق تجاري!).

وأشار د. زياد الدريس إلى أن أفريقيا، التي همَّشها المشرق العربي، هي محطُّ أنظار العالم من الصين شرقًا إلى أمريكا غربًا، ومن روسيا شمالًا إلى الهند جنوبًا، وهي المنصة التنافسية الأولى للاستثمار الآن، وهي المسرح الأكبر لاستخدام القوة الناعمة من لدن الدول “المؤدلجة” خصوصًا. ونحن الآن أحوج مما مضى لتنشيط القوة السعودية الناعمة في أفريقيا، وليس بالضرورة بنفس السيناريو القديم، ولكن بأدوات تلائم العصر الجديد، ليس فقط عبر تفعيل الفرص الاستثمارية الثنائية؛ ولكن أيضًا عبر تنشيط الحضور الثقافي والتأثير الدبلوماسي والروحاني.

من جهتها، ركَّزت د. فوزية أبو خالد على جانب مهمل تمامًا للتفاعل السعودي الأفريقي، والذي تستثمر فيه منظمات وقوى عالمية غربية، بل وتنشط فيه دولة العدو “الإسرائيلي” ودولة العدو الثيولوجي الإيراني، وهو المعنيُّ بشؤون المرأة والطفولة. فنحن عادةً عندما يجري الحديث عن تفعيل علاقات مع مناطق أو دول تتجه الأبصار إنْ لم تقتصر على مسميات البنى السياسية الكبرى أو النخبوية وغالبًا بحصره في المجال الرسمي، بينما الدول الطامعة في خطب وِدِّ منطقة مثل أفريقيا والتفاعل التآزري معها لا يبدأ فقط من القمة ولا ينجح بها وحدها، بل من نخاع القاع. فعبر NGO النسائية خلقت “إسرائيل” شبكة مؤثرة من العلاقات بمجتمعات أفريقيا. بينما السعودية لا تستثمر غالبًا إلا في الجانب الذكوري والنخبوي في العلاقة، وإنْ تعدَّتها فإنها تأخذ جانبًا “خيريًّا” charity أكثر منه بناء علاقة تنوعية تعددية على أكثر من مستوى، وبإعطاء أهمية لبناء علاقات حقيقية وليست شكلية مع القوى الاجتماعية الفعالة، وبالطبع النساء والطفولة كما الشباب جزء من تلك القوى المهمة لبناء علاقة بيننا وبين المجتمع الأفريقي على سبيل المثال.

  • الفرص المتاحة لدعم شراكة المملكة مع أفريقيا وآليات استثمارها:

أشارت أ. مهلة أحمد ([2]) إلى أن تعزيز وتطوير التعاون الإستراتيجي السعودي باتجاه أفريقيا يحتاج إلى مراجعة سياساته، لتشمل أبعاد ومقومات الشراكة في مجال التنمية المستدامة، إضافةً إلى تعزيز التبادل التجاري وضرورة التوازن بين القارات، علمًا أن أفريقيا – كما تمَّت الإشارة سابقًا- هي القارة الثانية بعد آسيا من حيث التعداد السكاني والمساحة الجيوغرافية. أيضًا، فإن جميع القوى الاقتصادية في العالم تتنافس لاستغلال الموارد الطبيعية الأفريقية من خلال بناء الشراكات والعمل على دعم برامج تنموية في الدول الأفريقية، بغرض تحقيق المصالح المشتركة للجانبين.

ومن المعلوم أن العلاقات السعودية التقليدية مع الدول الأفريقية كانت ترتكز أساسًا على المجالات السياسية ودعمها لميزان المدفوعات التي تعودت الحكومات الأفريقية على الاستفادة منها وبدون علم الرأي العام أحيانًا، ودون أن تستفيد منها الشعوب الأفريقية بصفة واضحة أحيانًا كثيرة، مع أن هذه الشعوب في أمسِّ الحاجة، ليس فقط للمساعدات الإنسانية، بل تتطلع إلى الاستثمارات الضرورية لتحقيق التنمية الشاملة بأبعادها البشرية والاقتصادية والاجتماعية. كما تتطلع القوى الشبابية في أفريقيا إلى الاستفادة من القدرات والإمكانات السعودية في مجال العلوم والتكنولوجيا والتكوين المهني والذكاء الاصطناعي من خلال توفير منح التعليم العالي؛ الأمر الذي سيسهم في خلق أجيال أكثر ارتباطًا بمصالح السعودية في المستقبل.

لذا، يمكن للمملكة إعادة النظر في سياسات التعاون الدولي واستغلال مواردها المتعددة أحسن استغلال، والتي يرى البعض أن الدول الغربية والآسيوية هي الأكثر استفادةً منها حتى الآن؛ وذلك بهدف تطوير علاقاتها الإستراتيجية باتجاه العمق الأفريقي.

وفيما يتعلق بمراجعة السياسة الخارجية السعودية باتجاه أفريقيا، يرى بعض الخبراء الأفارقة أهميةَ العمل على إعادة بناء العلاقات السعودية الأفريقية في مجالات التنمية الشاملة الاحتوائية لتعود بالنفع المشترك للشعب السعودي والشعوب الأفريقية. وجدير بالتنبيه أن من أولويات هذا التعاون، الاستثمار في التنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى تصل إلى المجتمعات الأفريقية بصفة ملموسة، وخاصة في مجالات تمكين المرأة والأسر المحتاجة والاستثمار في الموارد البشرية والبنى التحتية، مثل بناء المستشفيات والمرافق العمومية والفنادق وتمويل المشاريع و/أو تقديم القروض الميسرة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ وذلك من خلال بناء شراكات بين القطاع الخاص السعودي والأفريقي. بالإضافة إلى الاهتمام باستخراج واستغلال الموارد الطبيعية بما فيها الطاقات المتجددة والمتوفرة، وكذلك استغلال موارد النفط والغاز والطاقة والذهب والنحاس والفسفور والحديد والمنتجات الزراعية والحيوانية.

وفي هذا المنحى، يمكن للسعودية النظر في إمكانية توسيع الرؤية 2030 لبسط أذرعها وأركانها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في أبعادها الإستراتيجية، لتشمل معظم الأقاليم الأفريقية المهتمة بتعزيز علاقاتها مع المملكة لأسباب سياسية وتاريخية ودينية وثقافية، علمًا أن الدول العظمى هي الأكثر استفادةً من القارة بشقيها الشمالي والجنوب – الصحراوي؛ لما تزخر به من موارد طبيعية. كما تتميز أفريقيا بأسواق استهلاكية كبيرة تمتصُّ معظم المنتجات الآسيوية من الصين والهند وكوريا الجنوبية. دون أن ننسى ما حققته تركيا من إنجازات استثمارية كبرى في مجال التبادل التجاري والتعليم وبناء المطارات والفنادق ومقرات السفارات الأجنبية؛ بالإضافة إلى اهتمام أمريكا وأوروبا بالمشاريع الكبرى في البنى التحتية والصناعية والزراعية. كما يمكن توسيع التعاون السعودي الأفريقي من خلال الاعتماد على شراكة ثلاثية الأبعاد، من شأنها توطيد (أولًا) علاقات السعودية السياسية مع الحكومات الأفريقية، و(ثانيًا) بناء شراكات جديدة لعلها تدعم إنشاء مشاريع بين القطاعين العمومي والخصوصي، ما يُسمَّى بـ PPP؛ أي (Public Private Partnership) في جميع المجالات، وأولها الاستثمار في المشاريع الزراعية والحيوانية. و(ثالثًا) يمكن للمراكز البحثية والجمعيات الأهلية الثقافية والاجتماعية السعودية أن تمدَّ يدَ العون والشراكة إلى جمعيات المجتمع المدني العاملة في المجالات الإنسانية والاجتماعية والثقافية.

ومن هذا المنطلق، قد ترى الحكومة السعودية أهميةَ توجيه شركات النقل الجوي السعودي لفكِّ العزلة عن أفريقيا عن طريق تنظيم رحلات جوية تجارية للخطوط السعودية إلى معظم العواصم الأفريقية؛ كما يمكنها فتح فروع للبنوك السعودية ولشركات قطاع الأعمال العاملة في جميع المجالات. بالإضافة إلى ضرورة تسهيل السياحة الدينية والثقافية، بما سيسهم في فتح آفاق التبادل التجاري والاستثمارات السعودية بغرض تعزيز المكاسب المشتركة بين المملكة وأفريقيا على جميع الأصعدة.

ويرى د. عبد الرحمن الهدلق أن أفريقيا سلة استثمارية واعدة تتنافس في استثمارها اقتصاديًّا عدد من الدول الأوروبية، إضافةً إلى الهند والصين وتركيا؛ ولكنها تعتبر استثمارات ذات مخاطر عالية في كثير من دولها بسبب عدم الاستقرار، وانتشار الفساد، وضعف التأهيل لمواردها البشرية، إضافةً إلى افتقادها إلى البنية التحتية المتطورة. والمحور الاقتصادي محور مهم للمملكة، وجدير بالمزيد من الاهتمام والبحث والتقصي من طرف المختصين؛ لأن المادة العلمية متوفرة بشأنه.

وذكر أ. محمد الدندني أنَّ من الضروري أن تعمل المملكة على تنمية علاقاتها وتحالفاتها في أفريقيا، ونسج تكتل أفريقي / عربي (مصر، السودان، الصومال) / سعودي، والمقصود هنا دول حوض البحر الأحمر؛ لقربها للمملكة ولوضع الأمر الأمني كأولوية، ولا يعني أبدًا عدم دعمه بالتعاون الاقتصادي والتجاري.

من جانبه، أكد د. عبد الإله الصالح على أهمية إيجاد آليات فاعلة تساعد على تعزيز تواجد المملكة في أفريقيا، والإفادة منها لخدمة المصالح الإستراتيجية، ومن ذلك:

  • خلق نموذج تجاري (أو أكثر)، يُمكن توظيف قناة للاستثمار في الدول الشقيقة الأفريقية.. يتم تصميم النموذج بحيث تتشارك الدولتان (أو قطاعهما الخاص مع ضمانات سيادية) في المخاطر والمكاسب (مع ميل لصالح الدولة الشقيقة في المكاسب.
  • إيجاد قناة خيرية أو لا ربحية لمشاركة الشباب السعودي المهني في أعمال منظمة تلامس حياة الشعوب الأفريقية.
  • إيجاد مؤسسة سعودية دولية يكون هدفها تطوير بحيرة مالي.

بينما يرى د. خالد بن دهيش إمكانية أن تعمل دول مجلس التعاون الخليجية مجتمعةً كقوة اقتصادية سياسية على تقوية العلاقة بين دولها ودول أفريقيا، لتُنافس القوى الأخرى الإيرانية والتركية والصينية والهندية بدلًا من تشتت الدور الذي تقوم به هذه الدول في كافة النواحي، كما يعمل الاتحاد الأوروبي نحو أفريقيا. فدول مجلس التعاون الخليجي لها مجلس أو تجمُّع مع الولايات المتحدة الأمريكية وكذا مع الاتحاد الأوروبي، يعقد اجتماعات سنوية تتوحد فيه وجهات النظر وتتقوى في مناقشاتها متحدةً.

وفي اعتقاد د. وفاء طيبة، فإن من أنجع المساعدات التي يمكن أن تُقدِّمها المملكة للقارة الأفريقية هي المساعدات التعليمية سواء الجامعية بالمنح الدراسية أو ببناء الجامعات هناك، وأيضًا دعم التعليم في المراحل قبل الجامعية، فهدفنا هو مساعدة أفريقيا على استثمار مواردها الطبيعية، وأهم الموارد: الإنسان. والإنسان الأفريقي طيب قوي الجسد والنفس، مثابر وطموح يريد أن يعمل لإخراج بلاده من فقرها، وما أجمل أن يكون للمملكة دورٌ فاعل في مساندتهم علميًّا في ذلك، وفي الوقت نفسه يكون للمملكة حظُّها من الاستثمار في تلك البلاد.

وفي تصوُّر د. حمد البريثن، فإن لدى أفريقيا إمكانيات كبيرة وثروات طبيعية، والمملكة لديها القُرب الجغرافي والثقافي، يجب تفعيل دور الغرف الصناعية والتجارية، كذلك يجبُ تعليم ثقافات الشعوب والدول، ومنها أفريقيا كجزء من علوم الإدارة والتجارة.

وركَّز أ. فهد عريشي على أحد مقومات الشراكة الإستراتيجية المطلوبة بين السعودية والدول الأفريقية، وهو المتعلق بكيفية استفادة السعودية لتعزيز دورها في أفريقيا من التواجد الصيني في أفريقيا وطريق الحرير الصيني الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل 3000 عام قبل الميلاد، وهو عبارة عن مجموعة من الطرق المترابطة التي تصل ما بين الصين وكل العالم، وكان أحد أهم هذه الطرق يمرُّ عبر بلاد ما بين النهرين ودمشق وبلاد الشام إلى مصر، ومن ثَمَّ إلى  أفريقيا، إلا أن هذا الطريق تعثَّر لعدة أسباب خلال العقود الماضية، ومن أهم العثرات التي واجهها هذا الطريق هو الاحتلال الإسرائيلي الذي قسَّم الدول العربية، واستحلَّ الموقع الذي يصل شرق الدول العربية بغربها وقارة آسيا بأفريقيا. وفي سبتمبر من عام 2013، أعلن الرئيس الصيني مبادرةً لإطلاق طريق الحرير الصيني الجديد، وفي إبريل من العام 2015  أطلق الإعلام الصيني المركزي لأول مرة خريطة طريق الحرير الجديد رسميًّا تحت عنوان “بناء الازدهار والرخاء على الحزام والطريق”، وهو عبارة عن ثلاثة طرق؛ أحدها هو الطريق البري الذي ينطلق من الصين مروراً بباكستان حتى يصل لدول الخليج، ومن ثَمَّ للوصول إلى مصر ودول شمال أفريقيا، يتعثَّر بعقبة إسرائيل فيضطر أن يُغيِّر اتجاهَه عبر بلاد الشام وأوروبا، ولتنفيذ هذا الطريق بادر الرئيس الصيني خلال زيارته لجمهورية مصر العربية الشقيقة في يناير من عام 2016، لتوقيع اتفاقية مع الرئيس السيسي على انضمام مصر لشبكة طريق الحرير الذي تعتزم الصين إنشاءَه بتكلفة 47 مليار دولار، والذي يبدأ من الصين ويمرُّ عبر تركستان وخراسان وكردستان وسوريا وأوروبا إلى مصر ودول شمال أفريقيا، مؤمِّلةً أن ترفع الصين حجم استثماراتها مع الدول العربية من 240 مليار دولار إلى 600 مليار دولار، وتستهدف رفع رصيدها من الاستثمار غير المالي إلى أكثر من 60 مليار دولار، والوصول بحجم تجارتها مع أفريقيا إلى 400  مليار دولار بحلول عام 2020.

لم يمضِ أكثر من ثلاثة أشهر على توقيع الصين ومصر على اتفاقية طريق الحرير الصيني الذي يصل إلى مصر عبر قارة أوروبا، حتى تفاجأت الصين بإعلان الملك سلمان والرئيس المصري السيسي بالنبأ السعيد المتمثِّل في إنشاء جسر الملك سلمان، ورغم التحديات الهندسية التي يواجهها كعقبة في طريقة تنفيذه، إلا أن إنجازه يعني أيضًا وبشكل مباشر لحكومة الصين أن طريق الحرير الصيني الذي وقَّعت مصر الاتفاقية عليه مع الصين سيختصر طريقَه بشكل كبير لم تحلم به الصين يومًا، وخاصة أن الصين لديها الخبرة الهندسية لبناء مثل هذا الجسر، هذا الجسر لن يصل السعودية بمصر وشرق بلاد العرب بغربها وحسب؛ بل سيصل آسيا بأفريقيا، ويختصر طريق الحرير الصيني الذي يستهدف مصر وشمال أفريقيا عبر أوروبا، ويلغي تأثير موقع إسرائيل التي قسَّمت بلاد العرب وأصبحت حجر عثرة في طرق التواصل العربي والآسيوي الأفريقي البري، ويفتح معبرًا جديدًا بحيث يمكن لحكومة الصين أن تبادر لتوقيع اتفاقيات جديدة مع كلٍّ من حكومتي المملكة العربية السعودية ومصر للسماح باستغلال جسر الملك سلمان كمعبر مهم لطريق الحرير الصيني الجديد، ودعمه من خلال استخدام هذا الجسر لتحقيق أهدافه التي رسمها. وأيضًا، يُعزِّز دور السعودية في أفريقيا لفتحه منفذًا مهمًّا نحو الصين ومنها. وجسر الملك سلمان الذي يربط السعودية بمصر  في حال تنفيذه، سيسمح بعبور السيارات والحافلات والشاحنات، وسيحوي سكة قطار لنقل البضائع، والمؤكَّد أن الصين لن تفلت هذه الفرصة العظيمة من يديها، وبمجرد إعلان الجسر الذي سيُوفِّر الوقت في نقل البضائع من أيام عديدة عبر البحر إلى 20 دقيقة فقط عبر قطار البضائع، يعني أن الصين عثرت على كنز ثمين وفرصة تاريخية لإحياء طريق الحرير، ويعني في الوقت ذاته ضربة لإستراتيجية موقع الاحتلال الإسرائيلي الذي كانت تستغله إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لعرقلة المصالح العربية الاقتصادية والسياسية.

والواقع أن إقامة جسر الملك سلمان كانت مزعجةً لبعض الدول (مثل، إيران وإسرائيل وتركيا)  التي تخشى توسُّع النفوذ السعودي، ويثير استياءها كلُّ ما من شأنه تقوية روابطها  واقتصادها  وتواصلها مع أفريقيا، وفي الوقت ذاته كان إعلان الجسر نبأً سعيدًا لبعض الدول وأهمها الصين التي تسعى بكل طاقتها وإمكانياتها وثقلها الصناعي والاقتصادي لإحياء طريق الحرير من جديد، وترى أن جسر الملك سلمان منفذٌ هام وإستراتيجي لتحقيق خططها في تنفيذ مشروعها التاريخي العملاق طريق الحرير الصيني، واستغلال هذه النقطة سيُعزِّز  من نفوذ السعودية في القارة الأفريقية.

واقترح أ. جمال ملائكة تشجيع الشركات الغذائية السعودية الكبيرة كشركة المراعي وشركة صافولا، وربما بالاشتراك مع صندوق الاستثمارات العامة، للاستثمار في “صناعات” غذائية ذات مواصفات عالية في دول أفريقيا.

في حين أكدت أ. فائزة العجروش على أن من سبل تعزيز العلاقات السعودية الأفريقية ما يلي:

  • عَقْد مشاورات سياسية دورية مع الدول المؤثرة سياسيًّا، مثل: جنوب أفريقيا، نيجيريا، السنغال بشكل دوري وبالتناوب بين المملكة والدولة المستهدفة؛ لتنسيق المواقف السياسية والأمنية وخصوصًا في القضايا التي تهمُّ المملكة.
  • تشكيل مجالس أعمال مشتركة من القطاعات الخاصة لدعم مشاريع الاستثمار والطاقة والبنية التحتية والسياحة والزراعة والبيئة والمياه، وتحفيز رجال الأعمال من الطرفين للدخول في شراكات اقتصادية وتجارية وفق المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة.
  • تكثيف التنسيق مع دول القارة في مجال دعم وتأييد الترشيحات الدولية المتبادلة بين المملكة وهذه الدول في المنظمات والهيئات الإقليمية الدولية.
  • إبرام اتفاقيات أو مذكرات تفاهم في مجال الأمن الغذائي مع الدول الزراعية منها، وبما يدعم الخزن الإستراتيجي الغذائي في المملكة.
  • توقيع اتفاقيات شراكات رياضية مع الدول المتقدمة منها، وخصوصًا في مجالات كرة القدم وألعاب القوى والمسابقات الرياضية الفردية.

واهتم د. عادل القصادي بإعداد إستراتيجية استباقية لتعميق الصلات بين المملكة والدول الأفريقية، وتنسيق المواقف السياسية والأمنية، وتنويع التعاون الاقتصادي وتحييد المخاطر الإستراتيجية، بجانب تفعيل دور الملحقيات الدينية والثقافية وتوسيع نطاق عملها ورفدها بالكفاءات، وتعزيز دور منظمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والمؤسسات الأهلية السعودية كشريك مجتمعي في تعظيم الأثر.

وأكدت أ. مها عقيل على الحاجة إلى:

  • تكثيف التنسيق والتشاور والتعاون عبر المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة في القضايا المشتركة، حيث نلاحظ الضغط الذي تمارسه الدول الغربية بسبب دعمها الاقتصادي للدول الأفريقية بل تحكُّمها فيه، لتصوِّت وتؤيد مواقفها في قضايا مختلفة سواء سياسية أو اجتماعية أو غيرها. وهنا أيضًا يبرز أهمية الشراكة الاقتصادية.
  • تكثيف التعاون عبر منظمة التعاون الإسلامي ومؤسساتها مثل البنك الإسلامي للتنمية والإيسيسكو وغيرها، ومعروف أن السعودية هي الداعم الأول لميزانيات المنظمة ومؤسساتها؛ لكن المطلوب أن تلعب السعودية دورًا أكبر في كيفية صرف هذه الميزانية عبر ممثِّليها في هذه المؤسسات.
  • تكثيف التعاون وتبادل الخبرات والفعاليات في المجال الثقافي والأدبي والفني، وكذلك في مجال قضايا المرأة والشؤون الاجتماعية.

بينما يرى د. مساعد المحيا أننا نحتاج فيما يتعلق بالشأن الأفريقي لتحديد طبيعة الأهداف التي نسعى لتحقيقها، هل نعمل لتكون أفريقيا سوقًا لمنتجاتنا النفطية وغيرها، أم نريد أن نحظى بمنتجاتها وفق شراكات اقتصادية وزراعية؟ أم نريد أن نقوم برسالتنا تجاه الكثير من المجتمعات الأفريقية وبخاصة في مجال البرامج الصحية والتعليمية والثقافية والدعوية؟ في ضوء هذه الأهداف، يمكن أن تُبنى الرؤية المستقبلية؛ إذ إن كثيرًا ما تتم أعمال تدعمها وترعاها المملكة عبر مؤسساتها الرسمية أو الخاصة، لكنها لا تُحقِّق الكثيرَ من التطلعات أو لا تتسق والأهداف العامة لطبيعة التعاون مع الدول الأفريقية، كما أن الملحوظ أن إستراتيجية التحالفات المؤقتة لم تعُد تجد نفعًا. لذا، تظل فكرة المصالح المشتركة هي الطريق الأبرز لبناء علاقات أكثر إستراتيجية؛ فالعلاقات تدور مع المصالح وجودًا وعدمًا.

  • القوة الناعمة ودورها في دعم العلاقات السعودية الأفريقية:

أشار د. عبد الرحمن الهدلق إلى أن الأمر في العلاقات الدولية لم يعُد قاصرًا على ما يُعرف بـ (دبلوماسية القوة)، والتي يُقصَد بها إجمالًا القوة العسكرية وأسلحتها الفتاكة والتي تعتبر الأكثر تأثيرًا وهيمنةً في العلاقات الدولية، بل برزت مؤخرًا وبأساليب حديثة ومعاصرة قوى أخرى، من أهمها القوة الناعمة.

وذكرت د. عائشة الأحمدي أن تجربة الصين في أفريقيا أقوى شاهد على نجاعة القوة الناعمة، فالصين بدأت في تنفيذ هذه السياسة من خلال المبادرات الإقليمية وتوسيع عدد معاهد كونفوشيوس كجسر للغة والتبادلات الثقافية بين الصين والبلدان الأفريقية.

ومن ناحية أخرى، أشارت أ. مهلة أحمد إلى أنه إذا كانت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي وذراعها الاقتصادية البنك الإسلامي للتنمية ومقرهما في جدة، هي الأكثر استفادةً من الدعم الإنساني المقدَّم من طرف المجموعة الدولية، فإن السعودية كانت ولا تزال في مقدمة دول العالم المانحة، وأكثرها سخاءً في مجال المساعدات الإنسانية.

وأكَّد د. محمد الثقفي على أن السعودية تتميَّز بعدد غير محدود من مجالات القوى الناعمة التي يتعيَّن استثمارها لتعزيز تواجدها الأفريقي؛ بالنظر لمكانتها في المحيطين العربي والإسلامي فضلًا عن مكانتها كقوة دولية مؤثرة ضمن مجموعة العشرين، ومن أبرزها ما يلي:

  • الاقتصاد: حيث تُسهم القوة الاقتصادية للدولة والأنشطة الاقتصادية المستثمرة خارجيًّا في خَلْق قوة ناعمة يمكن الاستفادة منها في تحقيق إستراتيجيات الأمن الوطني.
  • الدبلوماسية: ويُحقِّق ممارستها بمهنية احترافية عالية العديد من الإستراتيجيات في مجال السياسة الخارجية، ويدخل في ذلك الدبلوماسية الشعبية.
  • الإعلام: ويعَدُّ أحد أهم مقومات الأمن الوطني، لا سيما إذا استُخدم بحرفية ومهنية عالية.
  • استقبال وخدمة الحجَّاج والمعتمرين: وهي سمة مُشرِّفة للمملكة كدولة، ولقاداتها، وللمواطنين السعوديين، ولأهل مكة والمدينة على وجه الخصوص.
  • التراث الوطني: وتزخر المملكة العربية السعودية بالعديد من عناصر التراث، وقد بدأت المملكة كل عام وآخر في تسجيل العديد من تراثها عالميًّا، في المنظمات العالمية.
  • المهرجانات الوطنية: وترتبط بما قبلها، مثل الجنادرية، وسوق عكاظ.
  • الألعاب الرياضية: تُشكِّل الأنشطة الرياضية محليًّا وعالميًّا فرصةً ثمينةً جدًّا لخلق واستثمار قوة ناعمة إيجابية، غير مُكلِّفة، ويسهم اللاعبون بدور كبير في هذا المجال، ولا سيما إذا مارسوا سلوكيات تُعزِّز الهوية الوطنية المطلوب إيصالها للآخر.
  • القيم الاجتماعية النبيلة: خاصة التي يتحلى بها المواطن السعودي في الخارج، أو التي يلاحظها المقيمون والعابرون من الوافدين.
  • المِنَح الدراسية الوافدة، سواء في معاهد اللغة، أو برامج التعليم الجامعي.
  • البعثات الدراسية لأبناء المملكة في الخارج، مثل برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي.
  • برامج الإغاثة الإنسانية: التي يقوم بها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية.
  • التمثيليات والمسلسلات المعبرة، مثل: برنامج طاش ما طاش، والأفلام السينمائية التي يشارك بها المنتجون السعوديون في المسابقات العالمية، وتحقق مستويات متقدِّمة في التقييم.
  • معارض الكتب: ويعَدُّ معرض الرياض للكتاب علامةً فارقة في المعارض العربية، وكذلك دور النشر التي تشارك في المعارض الدولية والإقليمية.
  • النشر العلمي: ويعَدُّ مصدرًا لخلق ثقافة ناعمة وعميقة، ولا سيما إذا اختيرت الموضوعات بمهارة عالية، وشارك فيها مراكز دراسات أو مراكز فكرية أو باحثون محترفون، ونُشِرت في الدوريات العلمية ذات معامل تأثير عالٍ.
  • المؤتمرات: وقد باتت صناعة رائجة، وتتطلب مهاراتٍ عاليةً، وتعَدُّ مجالًا ذكيًّا لخلق قوة ناعمة بيُسر وسهولة.
  • المساعدات المالية: وتعَدُّ المملكة رائدةً في هذا المجال، إذ إنَّها تعطي دونما مِنَّة أو ابتزاز.
  • وسائل التواصل: وهي من أبرز أشكال القوة الناعمة، والخطورة أنها قد تُحدِث أثرًا سلبيًّا، وتهدم ما يُبنَى على مدى سنين، في خلق سمعة جيدة، وكسب تعاطف دول أو مجتمع.
  • التدين الوسطي: وهو سمة وأداة يسيرة لخلق قوة ناعمة مع الآخر، سواء في الدول الإسلامية، أو حتى في الدول الغربية.
  • التطوع: وقد أبرزت وسائل التواصل الرغبة الجامحة من الإيثار ومساعدة الآخرين دونما تمييز، ولا سيما في المجتمعات الأخرى التي تعرف عن المملكة معلومات مغلوطة أو محدودة.
  • السياحة للخارج: وتعَدُّ كذلك من أنماط خلق قوة ناعمة، سواء كانت فردية وبأشكالها العفوية، أو كانت منظَّمةً ومبرمجة مع آخرين أو عند آخرين.
  • استقبال السيَّاح: وهي ظواهر جديدة وذات أثر عظيم، وقد بدأت تبرز في كثير من مدن المملكة، وتتم بشكل عفوي، وتكون مثار تقدير السائح، وبنقلها عبر وسائل التواصل، ما يُضاعف من أثرها، ويُصحِّح بعضَ المفاهيم المغلوطة، أو يُعطي الآخرين صورةً جميلة عن المجتمع السعودي.
  • التميُّز في العمل خارجيًّا: أسهمت برامج الابتعاث الخارجي في تميُّز الكثير من السعوديين، واستُقطبوا للعمل في المجالات التي درسوا بها، وحقَّقوا تميزًا في الأداء، وتميُّزًا في حُسْن التعامل، وأسهموا فعليًّا في خلق دبلوماسية شعبية ومُشرِّفة لأنفسهم ولوطنهم.
  • العمليات الطبية النادرة: وتعَدُّ عمليات فصل التوائم علامةً فارقةً في التميُّز الطبي في هذا المجال؛ لكنها مع ذلك تُسهم في خلق قوة ناعمة بشكل غير مباشر، لسمعة المملكة لدى المستفيدين، ولدى أقاربهم؛ وبالتالي لدى الدول التي يعيشون فيها.

  • التوصيات:

 (أ) التوصيات المتعلقة بالبُعد السياسي:

  • العمل على تذليل الصعاب التي تواجه (مجلس الدول العربية والأفريقية المُطِلَّة على البحر الأحمر وخليج عدن)، وأهمية ضم إثيوبيا إلى المجلس الجديد، وتمتين العلاقات مع الدول الأفريقية الواقعة على البحر كجسر نحو الامتداد السعودي إلى أفريقيا جنوب الصحراء.
  • إعداد إستراتيجية استباقية لتعميق الصلات بين المملكة والدول الأفريقية، وتنسيق المواقف السياسية والأمنية، وتنويع التعاون الاقتصادي، وتحييد المخاطر الإستراتيجية.
  • العمل على انضمام المملكة كمراقب للاتحاد الأفريقي باعتبار ارتباطاتها المحورية بأفريقيا؛ وهو ما سيسمح للسعودية بأداء دورها الإستراتيجي الكامل من داخل المؤسسات الإقليمية الأفريقية السياسية والاقتصادية.
  • إعطاء الأولوية في تمتين العلاقات مع الدول الأفريقية الواقعة على البحر الأحمر، وخاصة إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي؛ لضمان سلامة الملاحة والحيلولة دون تواجد أعداء المملكة في هذه الدول.
  • عَقْد مشاورات وربما اتفاقيات سياسية دورية مع الدول المؤثرة سياسيًّا (مثل: جنوب أفريقيا، ونيجيريا، والسنغال) بشكل دوري وبالتناوب بين المملكة والدولة المستهدفة؛ لتنسيق المواقف السياسية والأمنية وخصوصًا في القضايا التي تهمُّ المملكة.
  • تصميم إستراتيجية خليجية للتعامل مع القارة الأفريقية كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي، وبما يُعزِّز مصالح دول مجلس التعاون.
  • يمكن توسيع التعاون السعودي الأفريقي من خلال الاعتماد على شراكة ثلاثية الأبعاد، من شأنها توطيد (أولًا) علاقات السعودية السياسية مع الحكومات الأفريقية، و(ثانيًا) بناء شراكات جديدة لعلها تدعم إنشاء مشاريع بين القطاعين العمومي والخصوصي ما يُسمَّى بـ PPP؛ أي (Public Private Partnership) في جميع المجالات، وأولها الاستثمار في المشاريع الزراعية والحيوانية. و(ثالثًا) يمكن للمراكز البحثية والجمعيات الأهلية الثقافية والاجتماعية السعودية أن تمدَّ يدَ العون والشراكة إلى جمعيات المجتمع المدني العاملة في المجالات الإنسانية والاجتماعية والثقافية.

(ب) التوصيات فيما يخصُّ البُعد الاقتصادي:

  • توجيه السعودية مزيدًا من الاهتمام بتعزيز قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والتجارية، من خلال توثيق علاقاتها التجارية وشراكاتها الاقتصادية مع الدول الأفريقية.
  • التوسُّع مستقبلًا في المشاريع الاقتصادية، والإفادة من الفُرص الاستثمارية الواعدة في بلدان القارة الأفريقية.
  • تفعيل وتحفيز مجالس الأعمال السعودية الأفريقية “الثنائية ومتعددة الأطراف، وتعزيز ارتباطها بالجهات المعنية في المملكة كهيئة التجارة الخارجية وهيئة الصادرات، وتفعيل دور الملحقيات التجارية بمنظومة عمل فعَّالة للمساهمة في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة ودعم الرؤى الإنمائية الوطنية للدول الأفريقية.
  • عَقْد شراكات إستراتيجية وتوأمة بين الجهات السعودية ونظيراتها الأفريقية، مع التركيز على المجالات المتعلقة بتنمية رأس المال البشري.
  • إنشاء مركز متخصِّص للدراسات الأفريقية في معهد الأمير سعود الفيصل؛ لتقديم التوصيات والإجراءات التنموية مع الشؤون الأفريقية (السياسية، والاقتصادية، والقوة الناعمة، والشراكات الإستراتيجية، والتنمية، ومحاربة الإرهاب، والثقافية).
  • إفادة السعودية لتعزيز علاقاتها الأفريقية من التواجد الصيني في أفريقيا؛ من خلال استثمار مشروع جسر الملك سلمان كمنفذ مهم وإستراتيجي لتنفيذ مشروع طريق الحرير الصيني، واستغلال هذه النقطة بما يسهم في توطيد نفوذ السعودية في القارة الأفريقية.
  • أهمية توجيه شركات النقل الجوي السعودي لفك العزلة عن أفريقيا، عن طريق تنظيم رحلات جوية تجارية للخطوط السعودية إلى معظم العواصم الأفريقية.

(ج) التوصيات فيما يخصُّ البُعد الدبلوماسي:

  • تكثيف المساعي الدبلوماسية لخدمة مصالح السعودية الإقليمية، ومواجهة التهديدات الناجمة عن تزايد أدوار بعض القوى الإقليمية والتي تحمل سياسات عدائية للمملكة كإيران وتركيا وغيرهما؛ وذلك بافتتاح المزيد من السفارات السعودية في القارة الأفريقية، مع تفعيل دورها بما يتناسب والمخاطر الراهنة.
  • ممارسة السعودية لأدوار فعلية في حلِّ الصراعات التي تحدث بين دول الجوار الإقليمي الأفريقي على غرار الدور السعودي في حلِّ الخلافات بين جيبوتي وإرتيريا، وكذلك في حلِّ الصراع الإثيوبي الإريتري، وأن يكون للمملكة دورٌ فاعل في حلِّ قضية سد النهضة.

(د) التوصيات فيما يخصُّ البُعد العسكري والأمني:

  • التنسيق مع الحكومات الأفريقية لمكافحة الإرهاب الدولي، وتقديم الخبرات السعودية لتلك الدول خاصة في مجال مكافحة التطرف بحكم خبرتها الطويلة والمتقدمة في هذا المجال.
  • التوسُّع في التعاون العسكري بين السعودية والدول الأفريقية، لا سيما فيما يتصل بتوطين الصناعات العسكرية في المملكة، واستيراد التكنولوجيا العسكرية، وغيرها من أوجه التعاون الممكنة.

(هـ) التوصيات ذات الصلة بالقوة الناعمة:

  • تطوير واعتماد إطار عمل شامل للتعاون العلمي والأكاديمي والبحثي بين الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في المملكة ونظيراتها في أفريقيا، مع التركيز على الاستثمار في المواهب العلمية واستمرارية التواصل معهم.
  • تشكيل مجموعات عمل بين المؤسسات الإنسانية والتنموية السعودية والمؤسسات المعنية في الدول الأفريقية، وبمشاركة القطاع الخاص والقطاع الأهلي من الطرفين؛ لوضع وتنفيذ إستراتيجية للتعاون الإنمائي المستدام وأطر مرنة للاستجابة الإنسانية في الأزمات.
  • تفعيل دور الملحقيات الثقافية وتوسيع نطاق عملها ورفدها بالكفاءات، وتعزيز دور منظمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والمؤسسات الأهلية السعودية كشريك مجتمعي في تعظيم الأثر.
  • وَضْع وتنفيذ إستراتيجية اتصالية موسَّعة وفعَّالة للتواصل مع البرلمانات والمجالس والكيانات والأعيان والشعوب الأفريقية على مختلف المستويات بوسائل الإعلام والتواصل.
  • التوسُّع في استضافة البارزين من الشعوب الأفريقية عبر برامج ضيوف الرحمن للحج والعمرة، وإعطاء فرصة لمؤسسات المجتمع المدني والدعوي والخيري للمساهمة في ذلك.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى