دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات سياسية

القرار الإسباني بضم سبتة ومليلية لمنطقة شينجن: الدوافع والتداعيات

مثّل خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس، في العشرين من أغسطس 2021، خطوة تحمل إشارات إيجابية لإعادة ضبط العلاقات الثنائية مع إسبانيا رغبةً في تهدئة الأوضاع المضطربة بين الجانبين منذ أن أقدمت إسبانيا على استضافة زعيم جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي”. ويأتي هذا الخطاب في ظل سياق ضاغط على الرباط تجلى فيما طرحته إسبانيا من توجهها نحو ضم كلٍّ من “سبتة” و”مليلية” إلى منطقة شينجن الأوروبية، في خطوة نحو إحداث توازن تجاه ورقة المهاجرين غير الشرعيين، كون أن خطوة ضم هذين الجيبين إلى تلك المنطقة الأوروبية ترتب خطوات نحو إلغاء النظام الخاص فيما يتعلق بالتنقلات والسفر، وكذلك تطبيق “ضوابط الحدود” على الحدود مع المغرب. ولعل التوجه الإسباني جاء مدفوعًا بفرض وضعية سياسية حول منطقتي “سبتة ومليلية” تحول دون أن تُصبح تلك المنطقة منفذًا للهجرة غير الشرعية وما يتبعها من أعمال إرهابية. وهذا التخوف لا يقتصر فقط على الصعيد الإسباني، بل امتد لباقي دول الاتحاد الأوروبي.

دوافع مُتشابكة

جاء رد الفعل الإسباني على التصعيد المغربي حاسمًا من خلال إعلان مدريد دراستها ضم مدينتي “سبتة” و”مليلية” إلى منطقة شينجن الأوروبية نتيجة عدم توافقهم حول إدارة بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك، ومحاولة كل طرف الحفاظ على مصالحه الوطنية على حساب الآخر، وهو ما حفّز حالة التصعيد بشكل تدريجي بين الجانبين على النحو التالي: 

سيطرة تاريخية: استطاعت إسبانيا أن تمارس سيادتها على مدينة “مليلية” منذ عام 1496، وعلى “سبتة” في عام 1580، التي تقع على بعد 20 كم من الناحية الجنوبية لإسبانيا. ومع انضمام إسبانيا في بداية التسعينيات القرن الماضي إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت المدينتان الواقعتان جغرافيًا في شمال غرب المغرب جزءًا من الوجود الأوروبي في إفريقيا، لذا تصر إسبانيا على كونهما جزءًا من أراضيها منذ أكثر من خمسة عقود، رافضةً أي تفاوض بشأنهما. وقد سبق أن منحتهما حكمًا ذاتيًا بموجب قرار البرلمان الإسباني الصادر في عام 1995.

أهمية جيواستراتيجية: تُعد المدينتان حلقة وصل للاتحاد الأوروبي مع دول الجوار الجنوبي في منطقة المتوسط، مما جعلهما محط أنظار الجميع لكونهما تمثلان أحد أهم الموانئ المطلة على الساحل الشمالي الإفريقي، علاوة على أنها موانئ نفطية، ومراكز للصيد والتجارة الدولية، ولعبور المسافرين والمهاجرين من دول المغرب إلى إسبانيا. كما يمنح موقعهما الجيواستراتيجي قدرات أمنية وعسكرية لإسبانيا تستطيع من خلالهما حماية حدودها ومصالحها.

دعم جبهة البوليساريو: فمنذ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على منطقة الصحراء الغربية المُتنازع عليها في العاشر من ديسمبر عام 2020، بدأت العلاقات الإسبانية المغربية تشهد حالة من التوتر تجلت في ترحيب إسبانيا بتطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل مقابل انتقاد الاعتراف الأمريكي، لأنها ترغب في تسوية القضية تحت المظلة الأممية، مع إعطاء فرصة لمواطني المنطقة في التعبير عن قضيتهم. كما أنها استضافت زعيم الجبهة “إبراهيم غالي” لتلقي العلاج في المستشفيات الإسبانية، وهو ما انتقدته المغرب، وأكدت أن دخوله مدريد عبر الجزائر جاء “بشكل احتيالي وبوثائق مزورة وهوية منتحلة”، داعيةً لإجراء تحقيق لمعرفة كيفية دخوله البلاد، فيما بررت إسبانيا ذلك بأنها قامت باستضافته لأسباب إنسانية.

تدفقات الهجرة عبر الحدود: كانت هذه الخطوة بمثابة بداية مرحلة جديدة من التصعيد مع الجارة الأوروبية المقابلة للحدود المغربية، فقد تهاونت السلطات المغربية في إحكام سيطرتها على الحدود في السابع عشر من شهر مايو 2021، مما أدى إلى تزايد موجات العبور بأعداد غير مسبوقة تجاوزت تسعة آلاف شخص إلى إسبانيا عبر مدينة “سبتة” دون أي إجراء قانوني. الأمر الذي اعتبرته مدريد رد فعل على استقبال “غالي”، ومحاولة من الرباط للتلويح بورقة الهجرة كآلية للضغط على إسبانيا يمكن المناورة بها، وهو تكرار للسيناريو التركي والبيلاروسي في التعاطي مع أزمة الهجرة غير الشرعية مع القوى الأوروبية لمواجهة العقوبات الأوروبية نتيجة تحركاتها الاستفزازية في محيطها الإقليمي، وإضرارها بالمصالح الأوروبية.

تضامن البرلمان الأوروبي: تم اقتراح مشروع قرار من قبل حزب “أسيودادانوس” (وهو حزب كتالوني يدعم الوحدة الإسبانية والاتحاد الأوروبي) في البرلمان الأوروبي في العاشر من يونيو يتنقد من خلاله المغرب، ويدعوها إلى إعادة النظر في تسوية هذه الأوضاع، ويؤكد على “رفض استخدام المغرب لمراقبة الحدود والهجرة، والقصر غير المصحوبين، كضغط سياسي ضد إسبانيا”، داعيًا البلدين للتعاون لإعادة الأطفال إلى أسرهم، فضلًا عن اعتبار “سبتة” تمثل حدودًا خارجية للاتحاد الأوروبي، وأن ضمان حمايتها وأمنها يهمان الاتحاد الأوروبي. وقد تم اعتماد ذلك بأغلبية 397 صوتًا مقابل 85 قاموا بالتصويت ضد القرار، فيما امتنع 196 عضوًا عن التصويت، وهو ما انتقده البرلمان المغربي.

وقد حمل القرار عددًا من الدلالات التي يأتي في مقدمتها أنه ذو بُعد سياسي غير مُلزم لباقي مؤسسات الاتحاد الأوروبي (الذي يتعامل مع مدينة سبتة على الصعيد السياسي والاقتصادي على أنها تابعة للإدارة الإسبانية)، علاوة على تضامن البرلمان الأوروبي مع الموقف الإسباني دون معاقبة المغرب أو التلويح بفرض عقوبات عليها، ولكنه حثها على التعاون لتسوية أزمة المهاجرين والقصر. فيما انتقل مستوى المواجهة من بين دولتين إلى دولة وتكتل تجمعهما شراكة في العديد من الملفات حتى يكون هناك ضغط مضاد على الرباط، كما أنه بإشارته لمدينة “سبتة” فإنه يرغب في إرسال رسالة تحذيرية إلى المغرب بأن إسبانيا تمتلك من أوراق الضغط على الرباط ما يعادل توازن القوى لصالحها.

ولم تتوقف تبعاته عند هذا الحد، بل أعلنت الخارجية الإسبانية في الخامس عشر من يونيو 2021، أن “الحكومة تدرس ضم جيبي سبتة ومليلية في شمال إفريقيا بشكل كامل إلى منطقة شينجن الأوروبية”، وهو ما سيترتب عليه تغير الوضع القائم للمدينتين وكيفية الدخول إليهما بعد أن كان بدون تأشيرة دخول يسمح للمغاربة بدخول المنطقة، وكان طلب التأشيرة فقط عند السفر إلى إسبانيا أو بقية منطقة شينجن. ووفقًا للوضع الجديد الذي تحاول الحكومة الإسبانية دراسته لتنفيذه فسوف يفرض على المغاربة الحصول على تأشيرة لدخول المدينتين.

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن حلف شمال الأطلسي لا يتضمن مدينتي “سبتة” و”مليلية” كجزء من الأراضي التي يدافع عنها، بالرغم من أن إسبانيا عضو فيه، وعليه فإذا تعرضت هذه المنطقة لأي هجوم فلن ينطبق عليها مبدأ الدفاع الجماعي، كما لا توجد خطة للناتو تشمل الدفاع عنهما في حالة تم استهدافهما من الرباط.

مساعٍ فرنسية للتهدئة

تُعتبر فرنسا إحدى دول الاتحاد الأوروبي المعنية في المقام الأول بالشمال الإفريقي، خاصة في ضوء معادلة الأمن ومواجهة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك في ضوء المصالح الاقتصادية داخل العمق الإفريقي، وفي ضوء التوترات الأخيرة بين كل من ألمانيا وإسبانيا مع المغرب، والتي برزت مؤشراتها في عدد من الإجراءات الدبلوماسية المتبادلة بين الرباط وتلك الدولتين، ولذا تدخلت فرنسا على خط الأزمة في محاولة لاختراق ذلك التوتر والعمل على تهدئة الأوضاع.

لذا سعت فرنسا إلى تهدئة الأزمة بين المغرب وإسبانيا دون اتخاذ موقف من طرف على حساب الآخر من خلال فتح قنوات للاتصال على المستوى الوزاري مع البلدين لحثهما على تهدئة الأوضاع؛ حيث تحدث وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان” في الثاني من يونيو 2021، مع نظيرته الإسبانية “أرانشا غونزاليس لايا”، و”ناصر بوريطة” وزير الشئون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، للتأكيد على أهمية تهدئة الأوضاع بين الجانبين، تجنبًا لتفاقم الأوضاع، وحفاظًا على استمرار التعاون بين المغرب والاتحاد الأوروبي لكون المغرب شريكًا أساسيًا للاتحاد الأوروبي في العديد من الملفات بما فيها الهجرة.

كما ثمنت فرنسا جهود الملك “محمد السادس” في تعاطيه مع أزمة المهاجرين غير المصحوبين بذويهم في الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وإسبانيا في بيان: “هذا الالتزام يؤكد إرادتنا المشتركة للتعامل في أقرب وقت ممكن مع هذه القضية الصعبة التي تجري فيها فرنسا والمغرب تبادلات منتظمة، سمحت باعتماد إجراء مشترك بشأن القُصر غير المصحوبين بذويهم”. في المقابل، تعهدت فرنسا بأنها على استعداد تام للتعاون والتنسيق للمساعدة في عودة القُصر إلى وطنهم.

وبالرغم من الجهود الفرنسية الساعية لخفض التوتر بين الجانبين، إلا أنها لم تؤتِ ثمارها المرجوة، فمن الواضح أن البلدين مستمران في التصعيد الذي تجسد في استثناء المغرب للموانئ الإسبانية من عملية “مرحبا 2021″، المُخصصة لعبور الجالية المغربية للعام الثاني، مُبررةً ذلك بأنه في سياق إجراءات احتواء أزمة الفيروس التاجي. وعليه، فإن المغاربة سيضطرون للجوء إلى ميناءي “جنوة” الإيطالي و”سيت” الفرنسي للعودة من خلالهما لكونهما منافذ عبور بحرية تم استخدامها في العام الماضي، وهو ما سيؤثر على العائدات الجمركية الإسبانية.

انعكاسات مُحتملة

يحمل التصعيد الإسباني الأخير العديد من الانعكاسات المحتملة التي قد تؤثر على ملفات إقليمية متعددة ومنها:

دعم مُتزايد لجبهة البوليساريو: تحقيقًا لاختراق موازٍ للتحرك المغربي فيما يتعلق بورقة المهاجرين غير الشرعيين، من المحتمل أن تؤدي تلك التجاذبات إلى مزيد من الدعم السياسي والدبلوماسي لجبهة البوليساريو فيما يتعلق بحق تقرير المصير ودعم القرارات الأممية ذات الصلة، وهو ما تترجمه وضعية ثبات الموقف الأوروبي تجاه هذا الملف، علاوة على التعاطي الأخير لإسبانيا مع أمين عام جبهة البوليساريو خلال رحلة العلاج التي تلقاها داخلها.

تعزيز التعاون الجزائري الأوروبي: إن خطورة الأوضاع الحالية في خضم المشهد المغربي الأوروبي والتصدعات التي شهدتها الرباط مع كل من برلين ومدريد، مع ثبات موقف كلا الدولتين حيال قضية الصحراء الغربية، والتي تتوافق بصورة كلية مع النهج الجزائري؛ من المُحتمل أن يترتب عليها تعزيز سبل التعاون الأوروبي-الجزائري على حساب المغرب، نتيجة لدور الجزائر في مواجهة الإرهاب بالتعاون مع فرنسا في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك إمداد أوروبا بالغاز الطبيعي المستخرج من الجزائر، ومن ثم فهذا الانعكاس سوف يعزز من فرضية الاستقطاب.

اختلال معادلة الطاقة: أحد التداعيات المطروحة على هذا التجاذب الأوروبي المغربي وكذلك الجزائري المغربي يتمثل في التأثير على خطوط الغاز الناقلة للغاز الجزائري إلى أوروبا، وتحديدًا إسبانيا وإيطاليا، حيث إن الجزائر تمرر الغاز المسال لأوروبا عبر خمسة خطوط لتصدير الغاز، وما يعني في هذا الأمر هو خط غاز المغرب العربي وأوروبا الذي يمر عبر المغرب، وتم من خلال اتفاقية بدأت عام 1996 ولمدة 25 عامًا من حقل حاسي الرمل في الجزائر إلى إسبانيا والبرتغال عبر المغرب بسعة تصديرية نحو 390 مليار قدم مكعب سنويًا.

 ولعل المغرب ومن خلال الاستفادة التي يحظى بها عبر هذا الخط في توليد الطاقة الكهربائية بنسبة 17% من إجمالي إنتاج الكهرباء، علاوة على حصوله على حصة من الغاز تقدر بنحو (0.5 مليار متر مكعب) التي تغطي نحو 50% من احتياجات استهلاك البلاد؛ بادر بنيته الاستمرار في ذلك الاتفاق كما أوضحت ذلك “أمينة بنخضرة” المديرة العامة للمكتب الوطني للهيدروكربونات والمعادن في المغرب، وبالتالي فإن هناك تضررًا سوف يقع على المغرب أكبر من الجزائر التي تحظى (الأخيرة) بوجود أربعة خطوط أخرى لنقل الغاز أبرزها الخط البديل المعروف باسم “ميدغاز” الذي ينقل نحو 5.39 مليارات متر مكعب سنويًا من الغاز من الجزائر إلى إسبانيا مباشرة عبر البحر المتوسط، وهذا الطرح يُعزز من تنشيط الخطوط الأخرى بدعم أوروبي.

وبناءً عليه، هناك تحول تكتيكي في تلك المعادلة واستبدال المغرب بتونس في معادلة الطاقة، وقد برز ذلك في تدشين أنبوبي غاز يربطان الجزائر بإسبانيا يمران عبر الأراضي التونسية وهما “بيدرو دوان فاريل” و”ميدغاز” مما يطرح شراكة جزائرية تونسية أوروبية في خضم معادلة الطاقة. ختامًا؛ يُمثل توجه البرلمان الأوروبي لاعتماد قرار ضم جزيرتي “سبتة ومليلية” لمنطقة شينجن تبديلًا استراتيجيًا في وضعية تلك الجزيرتين بالنسبة للجانب الأوروبي، يفرض وضعًا سياسيًا نوعيًا لهما يواجه ورقة الضغط المغربي المتمثلة في الهجرة غير الشرعية. ولعل هذا القرار وفي ضوء الوضعية المعقدة في العلاقات المغربية الأوروبية، من الممكن أن يؤزم من مسار أي حلحلة لتلك الأزمة في المستقبل المنظور، ويُرتب بدوره تقاربًا جزائريًا أوروبيًا على حساب الشراكة الأوروبية المغربية، ويُفضي لحالة عزلة نسبية للرباط في ضوء تفاعلاتها الخارجية وتحديدًا في العمق الأوروبي.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى